BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringlengths
5
45
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringlengths
53
13.9k
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/4/
الذوق الفطري والبحث العلمي
إنه لا مناص للكائنات العضوية — إذ تكون على المستوى البيولوجي — من الاستجابة للظروف القائمة حولها بأساليب من شأنها أن تُعدِّل تلك الظروف كما تعدل العلاقات التي تصلها بها تعديلًا يُعيد الملاءمة المتبادلة التي يقتضيها الاحتفاظ بوظائف الحياة؛ وإن هذه المشكلة نفسها لَتشمل الكائنات البشرية كذلك؛ لولا أن الصعاب التي يتصدى لها الإنسان في هذا السبيل، تختلف عن مثيلاتها عند سائر الكائنات العضوية، لا من حيث مضموناتها فحسب، بل إنها لَتختلف عنها كذلك في كونها قابلة للعرض على نحو يُبرز إشكالها، بحيث يمكن لعملية البحث أن تدخل عاملًا من عوامل حلها، وهو اختلاف يرجع إلى تأثير الظروف الثقافية التي تُحيط بالإنسان؛ وذلك لأن الظروف الطبيعية المادية يصيبها التعديل في المحيط الثقافي، لِما تكتنف تلك الظروف الطبيعية من خيوط العادات والتقاليد والأعمال والاهتمامات والأهداف، فيترتب على ذلك كله تحول في طرائق الاستجابة، لأن هذه الطرائق تستفيد من الدلالات التي يُضيفها الإنسان إلى الأشياء، ومن «المعاني» التي تُزوِّده بها اللغة؛ فمن الواضح أن الصخور باعتبارها مصادر معدنية تعني للجماعة التي تعلمت أن تستخلص الحديد، أكثر مما تعنيه لجماعة من الأغنام والنمور، أو لجماعة تشتغل بالزراعة أو الرعي. وكذلك من شأن معاني الرموز المتصل بعضها ببعض، وهي الرموز التي تكون اللغة لجماعة ما، أن تستحدث نمطًا جديدًا من وقفات الإنسان — كما أوضحنا ذلك في الفصل السابق — ومِن ثَم تستحدث نمطًا جديدًا من طرائق الاستجابة؛ وسأُطلق على البيئة التي تكتنف بني الإنسان بصورة «مباشرة» اسم بيئة الذوق الفطري، أو «العالم»، كما سأُطلق على البحوث التي تؤدي خلق الملاءمة المطلوبة في السلوك، اسم بحوث الذوق الفطري. وإن المشكلات التي تنشأ في أمثال هذه المواقف التي يتفاعل فيها الإنسان مع بيئته — كما سأُبيِّن فيما بعد — ليمكن ردها إلى مشكلات خاصة باستخدام الأشياء وأنواع النشاط وضروب الإنتاج — مادية وفكرية — ثم بالاستمتاع بجميع هذه الأمور، التي يشتمل عليها العالم الذي يعيش فيه الأفراد؛ فأمثال هذه البحوث — بناءً على ذلك — تُخالف تلك التي تستهدف تحصيل المعرفة؛ نعم إن تحصيل المعرفة بأشياء معينة داخل بالضرورة في بحوث الذوق المشترك، لكنه يحدث ونحن في سبيلنا إلى فض مشكلة خاصة بالانتفاع أو بالاستمتاع، ولا يحدث باعتباره غاية في ذاته كما هي الحال في البحث العلمي؛ لأنه في البحث العلمي لا يكون أفراد الإنسان جزءًا «مباشرًا» من أجزاء البيئة «المباشرة»، وهي حقيقة تحمل معها أساس التفرقة بين ما هو نظري وما هو عملي. إن استخدامنا لكلمتَيْ «ذوق فطري» هو جزاف إلى حد ما من وجهة النظر اللغوية؛ لكنه لا شك في وجود ضروب المواقف التي أشرنا إليها، وفي نوع البحوث التي تعالج المشاكل والصعاب التي تنشأ بسبب تلك المواقف؛ لأنها هي المشاكل والصعاب التي ما تنفك تظهر في مسلك الحياة وفي ترتيبنا لسلوكنا اليومي؛ وهي كذلك نفس المشاكل والصعاب التي لا تني عن الظهور أثناء نمو النشء؛ إذ يتعلمون كيف يشقون طريقهم في البيئتين الطبيعية والاجتماعية التي يعيشون فيها؛ وهي تحدث ثم تعاود الحدوث في مناشط الحياة عند الكبار جميعًا، سواء فيهم من كان زارعًا ومن كان صانعًا، وسواء أكان رجلًا من أرباب المهن، أم مشرِّعًا للقوانين أم ذا عمل في الإدارة؛ وسواء أكان مواطنًا، أم زوجًا، أم زوجة أم والدًا؛ هذه كلها مواقف لا بد — من مجرد ظواهرها — أن تتميز من البحوث التي هي بحوث علمية غير مختلف على صفتها هذه، أي أن تتميز من البحوث التي تستهدف حقائق ثبت صدقها ﮐ «القوانين» والنظريات. وفي هذا الشرح نرى في وضوح كذلك مضمونًا فكريًّا داخلًا في معنى العبارة؛ فقوله «ذوق جيد» معناه — في اللغة الجارية — «حكم» سليم؛ وما سلامة الحكيم إلا قدرة على تمييز العوامل التي تكون على صلة وذات أهمية في دلالتها بالنسبة إلى مواقف معينة؛ أو هي القدرة على البصر النافذ، أو القدرة — كما يقول المثل السائر — على تمييز الصقر من مالك الحزين، وحجر الطباشير من قطعة الجبن؛ ثم استغلال هذا التمييز في تقرير ما نفعله وما نتركه، وذلك كله «في أمور الحياة الجارية»؛ فما قد أطلقنا عليه في مستهل هذا الفصل طريقة البحث الذي يعالج مواقف الانتفاع والاستمتاع، إن هو إلا التعبير الصوري الذي نعبر به عما يذكره المعجم في تعريفه للذوق الفطري. وهنالك بين المعنيين السالفين فرق حقيقي، غير أن هنالك كذلك قسطًا معلومًا من الاتفاق بينهما عند الجماعة المعينة من الناس؛ فكلاهما معنيٌّ بمسلك الحياة في علاقته بالبيئة القائمة: أما أحدهما فيختص بالحكم على دلالة الأشياء والحوادث بما له صلة بما ينبغي فعله، وأما الآخر فيختص بالأفكار التي نستخدمها في توجيه وتسويغ مناشطنا وأحكامنا؛ فالتحريمات في قبيلة بدائية إنما تكون أول ما تكون طرائق معتادة في القيام بألوان النشاط، وهي طرائق من الفعل نعدها نحن أقرب إلى الخطأ منها إلى الصواب؛ لكن مجموعة المعاني المقدسة في اللغة التي تحمل التقاليد الموروثة في طيها، تجعل لها السلطان في الأمور العملية الخالصة، كأكل الطعام، والتصرف على نحو مُرْضٍ في حضرة شيوخ القبيلة وأعضاء الأسرة، حتى ليكون لها القول الفصل في ضبط العلاقات بين الذكور والإناث، والعلاقات القائمة بين مختلف ذوي القربى على تفاوتهم في درجة القرابة؛ ولقد تكون هذه التصورات والاعتقادات بالقياس إلينا غاية في البعد عما تتطلبه الحياة العملية، لكنها عند أولئك الذين يعتقدون فيها أمور أبلغ أهمية من الناحية العملية من طرائق السلوك الخاصة التي تُتبع في معالجة الأشياء الجزئية، لأنها هي التي تضع المعايير التي يحكم الناس على أساسها في طرائق سلوكهم الخاص، وهي المرجع الذي يرجعون إليه في أفعالهم؛ ومع ذلك فربما كان في مستطاعنا اليوم — مع ما قد عرفناه عن الاختلافات الشاسعة التي تفرق بين الثقافات المختلفة — أن نجد أصولًا مشتركة في أوجه النشاط وفي المعاني، نجدها في «الذوق الفطري وفي وجدان البشرية» خصوصًا في الأمور التي تمس أساس التماسك الاجتماعي. وعلى أي حال فقد يرتد الفرق بين المعنيين — دون افتيات على حقائق الأمور — إلى الفرق بين تلك الجوانب والأوجه من المواقف العملية الخاصة التي تكون منا موضع الفحص والبحث والنظر، من حيث علاقتها بما يجوز أو ما يجب أداؤه في زمان ومكان معينَين، وبين القواعد والمبادئ التي نأخذ بها مأخذ التسليم في الوصول إلى كل ما نصل إليه من نتائج، ومن كل ما نعده سلوكًا صحيحًا من الناحية الاجتماعية؛ وهكذا يكون المعنيان كلاهما مختصَّيْن — أحدهما بطريقة مباشرة والآخر بطريقة غير مباشرة — «شئون الحياة الجارية» بالمعنى الواسع لكلمة حياة. ولست أحسب أن تعميم البحوث والنتائج التي من هذا القبيل، بحيث تنضوي كلها تحت عنوان «النفع والمتعة»، يحتاج إلى استطراد طويل لتأييده؛ إذ النفع والمتعة هما الوسيلتان اللتان يرتبط بهما الإنسان ارتباطًا مباشرًا بالعالم المحيط به؛ فما أمور الطعام والمأوى والوقاية والدفاع … إلخ، إلا أمور للنفع الذي يستغل مواد البيئة، والذي يتخير الوقفات اللازمة من الوجهة العملية إزاء سائر أعضاء الجماعة التي ينتمي إليها الإنسان المنتفع، وإزاء سائر الجماعات الأخرى مأخوذة في مجموعاتها؛ ثم يعود هذا الجانب النفعي نفسه فيصبح سبيلًا إلى المتعة أو إلى بلوغ ثمرة منشودة؛ حتى الأشياء التي تجاوز حدود المنفعة المباشرة مجاوزة بعيدة المدى، كالنجوم وأسلافنا الموتى، فإنما نتخذ منها أشياء ذوات نفع سحري، ثم نجعلها وسيلة متعة في شعائرنا وأساطيرنا؛ فإذا نحن أدخلنا في اعتبارنا تلك الأفكار السلبية المرتبطة بالمنفعة، وأعني فكرة الاستغناء عن الانتفاع أو إساءة الانتفاع، وفكرة التسامح وفكرة المعاناة، جاز لنا أن نقول ونحن بمنجاة من الخطأ بأن مشكلات النفع والمتعة تستنفد كل مجال البحث القائم على الذوق الفطري. وتتصل هذه الحقيقة صلة مباشرة بعناية الذوق الفطري بالجانب الكيفي من الأشياء؛ وذلك لأن إمكان الانتفاع بالأشياء والحوادث، وملاءمة تلك الأشياء والحوادث، إنما تتقرر عن طريق إدراكنا لصفاتها الكيفية؛ فنستطيع — مثلًا — أن نميز الطعام المناسب من الطعام غير المناسب أو السامِّ أو ما هو منه موضع التحريم؛ فكون الشعور بالمتعة أو بالألم أمرًا يتعلق كله بالكيف، ويُعنى بالمواقف من حيث صفاتها الكيفية المتغلغلة فيها، لأوضح جدًّا من أن يستحق الذكر؛ هذا إلى أن العمليات وردود الأفعال التي تدور حول الانتفاع بالمواقف أو التمتع بها، إنما يتميز بعضها عن بعض بصفتها الكيفية؛ فدبغ الجلود عملية تختلف من الناحية الكيفية عن ضفر السلال أو تشكيل الصلصال في جرار؛ والشعائر التي نؤديها في حالة الموت تختلف كيفًا عن الشعائر الملائمة لمناسبات الولادة والزواج؛ والأساليب التي نعامل بها من يصغروننا ومن يكبروننا ومن هم متساوون معنا، تختلف كيفًا في طرائق التحية وطرائق التناول. وما علينا إلا أن نلحظ الفوارق البعيدة — من حيث المضمونات وأساليب البحث — التي يختلف بها الذوق الفطري في طرائق الحياة من مرحلة تسودها البداوة إلى مرحلة ثانية تسودها الزراعة، ثم إلى ثالثة تسودها الصناعة؛ فكثير مما كان الناس يقبلونه قبول التسليم، باعتباره من إملاء الذوق الفطري، قد أصابه النسيان، أو قد تعرض للهجوم العنيف؛ على حين تظل تصورات أخرى واعتقادات أخرى قديمة، تظل موضع القبول النظري، يرتبط بها الناس بأقوى الروابط العاطفية، لما يكون لها في أنفسهم من احترام، مع أنها لا تحتفظ من لمستها لأمور الحياة الجارية إلا برابطة واهية وتطبيق محدود؛ مثال ذلك ما كان عند القبائل البدائية من أفكار وأعمال توشك أن تتغلغل في كل شأن من شئون الحياة اليومية، ثم تقادم عليها العهد فأُحيلت إلى مجال تعتزل فيه، كمجال الدين أو مجال القيم الجمالية. فما قد كان لعصر مضى من شئون العمل، قد يصبح لعصر آخر مجالًا للهو والتسلية؛ حتى النظريات العلمية والتأويلات العلمية تظل خاضعة لتصورات لم تعد هي الحاسمة في الطرائق الفعلية التي نتناول بها بحوثنا؛ وسنبين في الفصول الآتية الأثر الخاص الذي يتركه «الذوق الفطري» بما يتعرض له من تغير، في صياغتنا للصور المنطقية؛ وحسبنا هنا أن نوجه الأنظار إلى نقطة سنتناولها فيما بعد بالدراسة المفصلة، وهي: أن كون المنطق الأرسطي قد لاءم جماعة معينة كانت تعيش في العصر الذي صِيغ فيه ذلك المنطق، من حيث ثقافتها وذوقها الفطري، هو نفسه الذي يجعل ذلك المنطق غير صالح لأن نعده الصيغة المنطقية التي تصور، لا أقول العلم في العصر الثقافي الراهن، بل إنها لا تصور حتى الذوق الفطري في هذا العصر. وأعود الآن إلى قولنا عن بحوث الذوق الفطري إنها معنية بالجانب الكيفي من الأشياء والأفعال، لأبين أثر ذلك في التفرقة بين تلك البحوث (بحوث الذوق الفطري) من جهة والبحوث العلمية من جهة أخرى؛ وما هذه التفرقة من حيث الأساس إلا ما قد أشرنا إليه في الفصل السابق، وأعني بها: التفرقة بين الدلالات (التي تكون للأشياء) والمعاني (التي تكون للأفكار ورموز اللغة) — تلك الدلالات والمعاني التي تتقرر على أساس تطبيق مباشر إلى حد كبير على كائنات الوجود الفعلي — وبينها إذ تتقرر على أساس ما يكون في أجزائها الداخلية نفسها من علاقات نسقية تجعلها ملتئمة ومسايرة بعضها بعضًا. وكل ما نضيفه الآن إلى ما قلناه في هذا الصدد، هو أننا ها هنا نعنى ﺑ «التطبيق على كائنات الوجود الفعلي» الذي ذكرناه في الحالة الأولى، تطبيقًا على ما في البيئة من وسائل النفع ووسائل المتعة من جانبها الكيفي؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن تاريخ العلم والحالة الراهنة للعلم ليدلان معًا على أن الهدف الذي تستهدفه الصلة المتسقة بين حقائق الواقع من ناحية وتصوراتنا الذهنية عنها من ناحية أخرى، إنما يتوقف على حذف الجانب الكيفي باعتباره كيفًا، وتحويله إلى صياغة لا أثر فيها للكيف. إن مسألة العلاقة بين مجال الذوق الفطري ومجال العلم، قد اتخذت — لسوء الحظ — شكل المقابلة بين ما هو كيفي من ناحية وما هو ليس بكيفي من ناحية أخرى، وهذا الأخير إنما هو إلى حد كبير — لا إلى كل حد — الجانب الكمي وكذلك كثيرًا ما وُضع الفرق بين هاتين الناحيتين في صياغة تجعله فرقًا بين المادة المدرَكة بالحواس من جهة، والنسق الذي نبنيه من جهة أخرى في أذهاننا من كيانات عقلية؛ ولقد كان الأمر بوضعه هذا هو الموضوع الرئيسي — خلال القرون الحديثة — للبحث في المعرفة وفيما وراء الطبيعة؛ لكن وجهة النظر التي تسود بحثنا في هذا الكتاب، لا تجعل المشكلة مشكلة معرفية (إلا بمقدار ما ندل بهذه الكلمة على ما هو منطقي) كما أنها لا تجعلها كذلك مشكلة ميتافيزيقية أو متصلة بحقيقة الوجود؛ وفي قولنا عن المشكلة إنها منطقية فنحن إنما نؤكد أن المسألة المطروحة للبحث هي مسألة العلاقة القائمة بين ضروب المشكلات المختلفة بعضها مع بعض؛ إذ إن الاختلاف في نوع المشكلة يتطلب اختلافًا في موضع اهتمامنا من البحث الذي نجريه؛ وهذا هو ما يجعل موضوعات الذوق الفطري وموضوعات البحث العلمي تختلف فيما يلائم كلًّا منهما من صور منطقية؛ فالمسألة إذا ما سقناها في عبارة مختصرة من هذه الوجهة للنظر، هي مسألة العلاقة القائمة بين الحالات المعينة التي يكون فيها انتفاع خاص أو متعة خاصة وبين النتائج العلمية؛ وليست هي العلاقة بين موضوعين يختلفان مجالًا، سواء كان هذا الاختلاف ذا طبيعة تتصل بالمعرفة أم تتصل بحقيقة الوجود. ونسبق هنا إلى ذكر النتيجة التي سننتهي إليها فيما بعد، ليهتدي بها القارئ في متابعته لخطوات البحث التالية: (١) إن موضوع الدراسة العلمية وإجراءات البحث العلمي تنشأ عن الذوق الفطري بما له من مشكلات وطرائق مباشرة، أعني أنها تنشأ عن المواقف العملية التي يكون لنا فيها نفع أو متعة، (٢) على أن العلم بموضوعه ومنهجه يؤثر في مشكلات الذوق الفطري وطرائقه على نحو يؤدي إلى درجة كبيرة من تهذيب وتوسيع وتحرير ما للذوق الفطري من مضمونات وعوامل؛ وأما فصلنا ومعارضتنا بين موضوع العلم وموضوع الذوق الفطري — إذا ما جعلناهما فصلًا ومعارضة حاسمَيْن — فمن شأنه أن يُوَلِّد المشكلات التي يدور حولها النزاع في نظرية المعرفة وفي الميتافيزيقا، مما نراه حتى اليوم عائقًا عن طريق الفلسفة؛ على حين أننا إذا نظرنا إلى موضوع العلم من ناحية كونه متصلًا بموضوع الذوق الفطري اتصالًا عضويًّا وظيفيًّا، زالت تلك المشكلات؛ فموضوع العلم حلقة وسطى في سلسلة حلقات، وليس هو بالنهائي الكامل في ذاته. وأبدأ البحث بعرض وشرح لما لكلمة «موقف» من قوة إشارية؛ وربما كان أقرب الوسائل لعرض مضمونها أن نلجأ إلى وصف مبدئي سلبي، فنقول إن ما نشير إليه بكلمة «موقف» ليس شيئًا مفردًا، ولا حادثة مفردة، بل ولا مجموعة من الأشياء والحوادث: لأنه يستحيل علينا أن نتصل أو أن نقضي بأحكام على أشياء وحوادث وهي بمعزل، بل نفعل ذلك دائمًا حين تكون الأشياء والحوادث عندنا داخلة في كل سياقي، وهذا الكل السياقي هو ما نسميه «موقفًا»، ولقد أسلفت ذكر المدى الذي بلغته الفلسفة الحديثة في اهتمامها بمسألة الوجود وكيف تتقرر على أساس الإدراك الحسي من جهة والإدراك العقلي من جهة أخرى. وإن ما يصاحب مناقشة هذه المسألة من ضروب الخلط والغلط لَيتصل اتصالًا مباشرًا بالفرق بين الشيء (وهو قائم وحده) وبين الموقف (الذي يدخل ذلك الشيء في سياقه)؛ وقد انصرف علم النفس بكثير من عنايته إلى «عملية» الإدراك الحسي ومشكلتها، فوصف الشيء المدرك بالحس وصفًا يتفق مع غايته؛ إذ وصفه على أساس ما قد انتهى إليه تحليل تلك العملية من نتائج. ومهما يكن هنالك من مشروعية في توحيدنا للعملية ونتائجها بالقياس إلى الغرض الخاص الذي يستهدفه علم النفس ببحثه فإنني لا أريد الوقوف عند هذه النقطة، وهي أن مثل هذا التوحيد مثار للشك الشديد حين نُعمِّمه لنجعله أساسًا نبني عليه مناقشتنا وآراءنا النظرية في الفلسفة؛ وإنما ذكرت هذه النقطة لكي أَلفت الأنظار إلى أن معالجة علم النفس للشيء وهو قائم بمفرده، أو للحادثة وهي مفردة، بأن يجعله أو يجعلها موضوع تحليله، إنما يرجع إلى طبيعة الحالة نفسها التي يتعرض ذلك العلم لبحثها؛ أما من حيث خبراتنا الفعلية، فيستحيل أن نقع فيها على مثل هذا الشيء المفرد أو هذه الحادثة المفردة؛ بل يكون الشيء المعين أو الحادثة المعينة دائمًا جزءًا واحدًا أو وجهًا واحدًا أو جانبًا واحدًا من عالم يُحيط بنا ويقع لنا في خبراتنا، أي من موقف؛ فإذا رأينا شيئًا مفردًا قد برز بروزًا واضحًا، فما ذاك إلا بسبب موضعه الذي قد يجعله مركزيًّا وهامًّا — في لحظة معينة — لِلبَتِّ في مشكلة معينة من مشكلات النفع أو المتعة، مما تعرضه لنا البيئة بمجموعة عناصرها؛ فهنالك دائمًا مجال تحدث فيه ملاحظتنا لهذا الشيء أو الحادثة، أو لذلك؛ وملاحظتنا للشيء المفرد أو الحادثة المفردة على هذا النحو، إنما تتم بغية الكشف عن حقيقة المجال بالقياس إلى ما ينبغي عمله لنرد به ردًّا فعالًا ملائمًا، إذ نحن في سبيل سيرنا خلال شوط سلوكي نسلكه وما علينا إلا الرجوع إلى الإدراك الحسي عند الحيوان، إدراكًا يحدث بوساطة أعضاء الحس، لكي نتبين أن عزل الشيء المدرَك عن مجرى السلوك الحيوي لا يكون عبثًا فحسب، بل يكون كذلك حائلًا يعوق ذلك السلوك، إعاقة قد تؤدي إلى الموت في حالات كثيرة. وتتبع ذلك نتيجة أخرى، وتلك أننا حين نَعزل فعل الإدراك الحسي وموضوعه، عن مكان حدوثهما وعن الوظيفة التي تؤديانه في تسديد السير بمجرى النشاط الناجح وتوجيهه تسديدًا وتوجيهًا يخدمان جانب النفع وجانب المتعة، فإننا بذلك ننظر إليهما كما لو كانا عمليتَيْن «إدراكيتَيْن» لا أكثر، أعني أن الشيء المدرَك: برتقالة أو صخرة أو قطعة من الذهب أو كائنًا ما كان ذلك الشيء، يُؤخذ على أنه موضوع للمعرفة في ذاتها؛ نعم إنه لكذلك حقًّا ما دمنا نلاحظه وهو متميز مما عداه، لكنه مع ذلك لا يكون موضوعًا للمعرفة باعتبار هذه المعرفة نهائية ومكتفية بذاتها؛ بل إنا لَنلحظه، أي «نعرفه» بمقدار ما تهدينا تلك الملاحظة في توجيه السلوك توجيهًا يمكننا من التمتع بالموقف الذي وجدنا ذلك الشيء فيه تمتعًا ملائمًا، أو توجيهًا يمكننا من استخدام جانب من ظروف الموقف استخدامًا يُنتج لنا المتعة أو يُزيل عنا الألم؛ ولا تنشأ لدينا الفكرة بانقسام المعرفة قسمين، وانقسام موضوع المعرفة نوعين يتعارضان بحيث لا تجد الفلسفة بُدًّا من اختيار ما يكون منهما «حقيقيًّا» أو أن تلتمس سبيلًا للتوفيق بينهما إذا كان كلاهما «حقيقيًّا»، أقول إن هذه الفكرة لا تنشأ لدينا إلا إذا عددنا الشيء الذي تنعقد عليه الملاحظة موضوعًا للمعرفة وهو منفرد؛ أما إذا رأينا أن الذوق الفطري في بحثه لا يحاول معرفة الشيء المعين أو الحادثة المعينة في ذاتهما، بل يعرفه أو يعرفها ليقرر دلالتها بالنسبة إلى الطريقة التي لا بد للإنسان من معالجة الموقف كله على أساسها، فعندئذٍ لا ينشأ ذلك التعارض أو التضادُّ بين الجانبين؛ فالشيء أو الحادثة التي تكون موضع النظر إنما تدرَك باعتبارها جزءًا من عالم محيط، لا باعتبارها حقيقة في ذاتها وبذاتها، فهي تدرك إدراكًا صحيحًا (أو سليمًا) إذا اتُّخذت — وحين تُتخذ — مفتاحًا وهاديًا في دنيا النفع والمتعة؛ فنحن إذ نحيا ونعمل نكون على صلة بالبيئة القائمة، لا بأشياء قائمة فرادى، على الرغم من أن الشيء المفرد قد يكون ذا دلالة قاطعة في رسم الطريقة التي نستجيب بها للبيئة في مجموعها. ونعود إلى موضوعنا الأساسي فنلاحظ أن الموقف يكون كلًّا بفضل ما يكون له من صفة غالبة غلبة مباشرة؛ حتى إذا ما وصفناه من جانبه النفسي، كان لزامًا علينا أن نقول عنه إن الموقف — باعتباره كلًّا من حيث الكيف — إنما يُدرَك بحسٍّ مباشر أو يُشعَر به شعورًا مباشرًا؛ ومع ذلك فعبارة كهذه ليس لها قيمة إلا إذا أخذناها من جانبها السلبي، فجعلناها تعني أن الموقف — بصفة كونه موقفًا — ليس مما يدخل في سياق الحديث؛ وقولنا عنه إنه يُدرَك بالشعور، هو قول غاية في التضليل لو فُهم منه أن الموقف هو هو نفسه شعور أو انفعال أو غير ذلك من الحالات العقلية؛ إذ الأمر على خلاف ذلك تمامًا، فالشعور والإحساس والانفعال إنما تُعرف خصائصها وتُوصف عن طريق موقف كيفيٍّ بمجموعه، يَمثُل مثولًا مباشرًا. هذا إلى أن ما يغلب عليه الجانب الكيفيُّ لا يقتصر على كون مقوماته مربوطًا بعضها ببعض في كل واحد، بل يجاوز ذلك إلى صفة أخرى وهي أن يكون فريدًا، بمعنى أن الطابع الكيفي يجعل من كل موقف موقفًا فردًا، يستحيل تجزئته كما يستحيل تكراره؛ فإذا كانت هنالك بين مقوماته فوارق وعلاقات، فهي إنما تكون داخل الموقف؛ وهي التي يمكن لها أن تعود إلى الحدوث مرة بعد مرة، وأن يتكرر وقوعها في مواقف مختلفة؛ ومجرى التفكير إذا لم يكن منضبطًا بالإشارة إلى موقف بذاته، فهو ليس من التفكير في شيء، بل يكون خليطًا بغير معنًى؛ كما أن الخليط من الحروف «الدشت» في المطبعة لا يكون نمطًا خاصًّا من حرف معين، دع عنك أن يكون جملة؛ فاكتمال الخبرة في مجال موحد هو الشرط الذي لا بد من توافره لكي يكتمل الفكر في مجال موحد كذلك؛ فإذا لم تكن هنالك تلك الخبرة الموحدة لتكون بمثابة الزمام الضابط، لم تعد أمامنا سبيل لنقرر عن أي فارق يميز شيئًا من شيء، أو أي علاقة تربط شيئًا بشيء، ماذا عسى أن تكون صلته بموضوع تفكيرنا ولا ماذا تكون قيمته أو التئامه مع غيره؛ على أن مجال الخبرة في توحده إن كان يحيط بجمال التفكير في توحده وينظمه، إلا أنه لا يظهر قط في عالم التفكير هذا بصفته المشخصة له. ولربما اعترض معترض هنا بأن ما أسلفنا ذكره فيما مضى يتناقض مع هذا القول الأخير، محتجًّا بأننا ها هنا إنما نفكر عن مجال الخبرة الموحدة وعن المواقف الموحدة تفكيرًا يصبهما معًا داخل نطاق رموز اللغة؛ وإنه لاعتراض، إذا ما أنعمنا فيه النظر، وجدناه معينًا لنا على إبراز جانب هامٍّ؛ فمن الحقائق المألوفة لنا أن مجال التفكير في توحده لا يكون حدًّا من حدود نفسه ولا عنصرًا من عناصر نفسه؛ لكنَّ مجالًا معينًا للفكر قد يكون حدًّا من الحدود الداخلة في مجال فكري آخر؛ وهذا المبدأ نفسه يصدق أيضًا على مجالات الخبرة. وبعبارة أخرى، كان يكون من التناقض أن أحاول البرهنة على وجود المجالات الخبرية بوساطة الفكر وحده، لكنه ليس من التناقض أن أستعين بالتفكير على أن «أطلب» من القارئ أن يكوِّن لنفسه موقفًا مما يُستطاع استيعابه بالخبرة المباشرة، ومما يكون دليلًا على أن قيام موقف ما على صورة تجعله مجالًا خبريًّا موحدًا، هو شرط لكل تفكير؛ إذ هو الذي يُحيط بالتفكير وينظمه. ولعل أقرب طريق لفهم معنى الكيفية بالمعنى الذي يجعلها تتغلغل خلال العناصر كلها والعلاقات كلها التي تشترك أو يمكن لها أن تشترك في إقامة حالة فكرية، بحيث تصبح باشتراكها هذا كيانًا واحدًا فريدًا، أقول إن أقرب طريق لفهم الكيفية بهذا المعنى هو أن نستشهد بطريقة استخدامها في علم الجمال؛ إذ يُقال عن لوحة فنية إنها ذات كيف خاص، أو يُقال عن لوحة معينة إنها تنطبع بكيفية تقربها من فن «تتيان» أو «رمبرانت»؛ وليس من سبيل إلى الشك بأن الكلمة باستعمالها هذا لا تشير في اللوحة المقصودة إلى خط معين أو لون معين أو جزء معين؛ بل تشير إلى شيء له أثره وله طابعه في كل ما تحتوي عليه الصورة من مقومات وما بينها من علاقات، فليس هو بالشيء الذي يمكن التعبير عنه بكلمات، لأنه شيء لا مندوحة عن أخذه أخذًا. نعم إن لغة التفكير قد تشير إلى الخصائص والخطوط والعلاقات التي هي وسيلة إخراج الكيفية المتغلغلة في الصورة والموحدة لها، لكن إذا انفصل هذا التفكير عن أخذ الخبرة المباشرة في مجموعها، فعندئذٍ يكون ما لدينا هو موضوع إدراكي لا موضوع جمالي؛ ولم أذكر هذه الخبرة الجمالية — بمعناها المحدد — إلا على سبيل لفت الأنظار إلى ما نعنيه بقولنا مواقف ومجالات خبرية؛ وإن قوة هذا المثل التوضيحي التي أردناها له لَتضيع إذا ظُن أن الخبرة الجمالية في حد ذاتها هي كل ما هنالك من مجال ومن دلالة لكلمة «موقف»؛ فكما أسلفنا القول، هنالك دائمًا موقف كيفي يَصبغ بكيفيته سواه، قائم في كل خبرة بطانة لها وضابطًا؛ ولسبب شبيه بهذا قد ذكرنا منذ حين أن الإشارة إلى الصفات الثالثة لا توضح الأمر توضيحًا كاملًا، لأن أمثال هذه الصفات الثالثة — كالتي تدل عليها كلمات «محزن» و«نشوان» … إلخ — صفات عامة، على حين أن صفة الحزن وصفة النشوة كما تصف موقفًا قائمًا بالفعل، ليست عامة، بل هي فريدة، والتعبير عنها بكلمات ضرب من المحال. وأسوق مثلًا موضحًا آخر من زاوية أخرى للنظر، فمما يوشك أن يعرفه كل إنسان أنه في إمكاننا أن نمضي في مشاهداتنا التي نكوِّم بها أكداسًا من حقائق، بغير أن يأخذنا في ذلك ملل، ومع ذلك لا نجد تلك «الحقائق» التي شاهدناها مؤدية بنا إلى شيء؛ وفي إمكاننا — من جهة أخرى — أن نُقيم على المشاهدة من الضوابط التي تضبط سيرها بما ننشئه مقدمًا لأنفسنا من إطار تصوري ثابت، ما يجعلنا نُغضي إغضاءً تامًّا عن نفس الأشياء التي كان من شأنها أن تكون هي الفاصلة بحق في المشكلة التي نكون إزاءها وفي طريقة حلها؛ فترانا في مثل هذه الحالة نُقحم كل شيء على الإطار النظري الذي كنا قد أعددناه في تصورنا قبل البدء في البحث نفسه؛ والطريقة — بل الطريقة الوحيدة التي تجنبنا هذين الشرَّين — هي حساسيتنا للصفة الكيفية التي تميز الموقف باعتباره كلًّا واحدًا؛ وبعبارة نسوقها في اللغة الجارية نقول إن المشكلة ينبغي أن تقع لنا في شعورنا قبل أن نأخذ في وصفها بالألفاظ، فإذا ما لقفنا الصفة الكيفية الفريدة للموقف لقفًا مباشرًا، كان لنا بذلك مرجع ينظم لنا اختيارنا للحقائق التي نشاهدها، ووزنها، وترتيبها في تصورنا. ها نحن أولاء قد بلغنا بالحديث نقطة يمكن عندها أن نتعرض صراحة للمسألة الرئيسية، مسألة العلاقة بين ما للذوق الفطري من مادة ومنهج، وما للعلم من موضوعات الدراسة ومنهج البحث: فأولًا يبدأ العلم سيره — بالضرورة — من عالم الذوق الفطري بما يشتمل عليه من نفع ومن لذائذ وآلام متعينة، إذ يبدأ بما في ذلك العالم من أشياء وطرائق سير وأدوات، وكلها مطبوع بطابع كيفي؛ فإذا كانت النظرية العلمية الخاصة بالألوان والضوء غاية في التجريد وفي الدقائق العلمية الخاصة، إلا أنها عن الألوان والضوء كما يدخلان في شئون حياتنا اليومية؛ ففي مستوى الذوق الفطري لا يكون الضوء والألوان موضع خبرة ولا موضوع بحث باعتبارهما شيئين قائمين بمعزل، بل ولا باعتبارهما صفتين تصفان الأشياء منظورًا إليها وهي على انفراد؛ إنما نخبرهما ونزن قدرهما ونحكم عليهما بالقياس إلى مكانهما فيما تؤديه الجماعة من أعمال وفنون (بما في ذلك فنون الطقوس الاجتماعية والفنون الجميلة على حد سواء)، فالضوء عامل سائد في مجرى الحياة اليومية، تبدأ به اليقظة من النوم ثم يسود خلال ما يقوم به الإنسان من شتى ضروب العمل؛ ولهذا ترى الفروق التي تتفاوت بها آماد ضوء الشمس وضوء القمر متغلغلة في العادات عند كل قبيلة تقريبًا؛ وكذلك يتخذ الناس من الألوان علامات لما يستطيعون أداءه وكيف يؤدونه إذ هم في موقف معين، مثال ذلك حين يحكمون على جو الغد، وحين يختارون الثياب المناسبة لمختلف المناسبات، وحين يصبغون ويصنعون الحصير والسلال والجرار. وهلم جرًّا في هذه الأمثلة المختلفة التي هي أوضح جدًّا من أن نمضي في عدَّها، وأبعث إلى الملل لو عددناها؛ ولهذه الأشياء كلها دور تؤديه إما في مجال النشاط العملي وما يتصل به من قرارات، أو في مجال المتعة فيما يقيمه الناس من احتفالات ورقص وأعياد وما شاكل ذلك؛ وما يصدق على الضوء واللون يصدق كذلك على سائر الأشياء والحوادث والصفات التي تدخل في شئون الحياة اليومية التي يعالجها الإنسان بذوقه الفطري. وكان قياس زوايا الميل وزوايا الانحراف شيئًا عمليًّا قابل به الإنسان حاجة عملية، ولا بد للمثال الذي نوضح به هذا — من الوجهة التاريخية — أن يشوبه التخمين إلى حد ما، ومع ذلك فليس من شك في أن شيئًا من هذا القبيل بصفة عامة هو الذي أحدث الانتقال من المرحلة التي نسميها مرحلة الذوق الفطري إلى مرحلة ما نسميه علمًا؛ وربما ازداد الأمر وضوحًا إذا ضربنا المثل بالحاجات العملية في مجال الطب إبَّان محاولته شفاء المرضى ومعالجة الجروح، وعلاقة ذلك بما قد حصلناه من معرفة عن وظائف الأعضاء والتشريح؛ في المراحل الأولى من تاريخ الفكر النظري عند اليونان، كان الفن — أو الصناعة — والعلم كلمتين مترادفتين. وكان اليونان أقل خضوعًا للسيطرة السياسية التي كانت لرجال الكهنوت والحكم المطلق، من الشعوب التي أسلفنا ذكرها، مما يسوغ إلى حد كبير ما يُقال عن اليونان من أنهم هم الذين حرروا الفكر والمعرفة من السلطان الخارجي؛ غير أنهم — من ناحية أخرى لها أهمية جوهرية — جمَّدوا التقسيم المذكور بالنسبة لما قد جاء بعدهم من مراحل التاريخ الفكري، على الرغم من أنهم غيروا اتجاه ذلك التقسيم وطريقة تأويله؛ فكان العلم والفلسفة (وكانا لا يزالان شيئًا واحدًا) هما قوام الصورة العليا من صورتَي المعرفة والنشاط، وكانت تلك الصورة وحدها هي الصورة «العقلية» عندهم، وهي وحدها التي استحقت أن تُسمَّى بكلمة معرفة أو بكلمة نشاط حين يُوصف هذا النشاط بأنه نشاط «خالص» لأنه هو النشاط الذي تحرر من ضرورات الجانب العملي؛ وأما المعرفة المعتمدة على خبرة فقد اقتصرت على الصانع والتاجر، وعُد نشاطهما «عمليًّا» لأنه كان معنيًّا بإشباع الحاجات والرغبات، وقد نظروا إلى معظم هذه الحاجات والرغبات، في نشاط التاجر مثلًا، فعدُّوه دنيًّا وغير جدير بالاحترام على كل حال. ولم يكن مفروضًا في المواطن الحر أن يشغل نفسه بأيٍّ من هذه المشاغل، بل أن يُكرس نفسه للسياسة وللدفاع عن دولة المدينة؛ وعلى الرغم من أن العالم الفيلسوف كان مضطرًّا بحكم الضرورات الجسدية أن يُنفق بعض وقته وفكره في إشباع حاجاته، إلا أنه باعتباره عالمًا فيلسوفًا كان يشغل نفسه بإعمال عقله في الأشياء العقلية، ليبلغ عن هذا الطريق غاية ما يمكن بلوغه من الحرية الكاملة والمتعة المثلى؛ وحَوَّلت الصياغة الفلسفية ما كان هنالك من تفرقة حادَّة في المجال الاجتماعي بين العمال والمحرومين من حق المواطنة الذين كانوا في منزلة العبيد، وبين أعضاء طبقة الفراغ الذين عُدُّوا مواطنين أحرارًا، أقول إن الصياغة الفلسفية قد حَوَّلت هذه التفرقة إلى تفرقة بين العمل والنظر، أو بين الخبرة والعقل؛ وانتهى الأمر إلى تصور المعرفة والنشاط اللذَيْن يُوصفان بأنهما علميان فلسفيان بالمعنى الدقيق؛ على أنهما يُجاوزان حدود الأمور الاجتماعية كما يجاوزان حدود الأمور التجريبية؛ ثم ربط الناس بين القائمين بمثل هذه المعرفة وهذا النشاط وبين ما هو إلهيٌّ وعزلوهم عن بقية مواطنيهم. لقد شغلت نفسي بما قد يبدو استطرادًا تاريخيًّا، لا بغية أن أَعرض معلومات تاريخية، بل لكي أُشير إلى أصل التفرقة بين المعرفة والعمل التجريبيَّيْن من ناحية، والمعرفة والنشاط الخالص العقليَّيْن من ناحية أخرى، أو بين المعرفة والعمل اللذَيْن لا اعتراض على كون الحياة الاجتماعية هي التي أنشأتهما إنشاءً وحددت لهما الأهداف، وبين البصيرة والنشاط اللذَيْن ظُنَّ أنهما لا يتصلان البتة بما هو اجتماعي أو عملي؛ فالأصل الذي نشأت عنه هذه التفرقة نفسها هو في حد ذاته وليد المحيط الثقافي الاجتماعي؛ وإلى هذا الحد قد بلغت سخرية الأوضاع؛ فعلى الرغم من أن عقول المفكرين اليونان كانت حرة نسبيًّا، وعلى الرغم من أن إنتاجهم في نَواحٍ معينة كان جسيمًا، فقد حدث بعد أن لم تعد ثقافة اليونان شيئًا حيًّا، ونُقلت ثمارهم إلى ثقافات أخرى، أن أصبح تراثهم عقبة كأداة تعوق تقدم الخبرة وتقدم العلم، باستثناء واحد هو الرياضة؛ بل في مجال الرياضة نفسه، قد أقعد التراث اليوناني العلوم الرياضية أمدًا طويلًا؛ إذ جعلها تابعة للصياغة الهندسية بمعناها المحدود. نعم إنه لا شك في أن ما قد حدث بعد ذلك من إحياء للعلم بمعناه الصحيح، قد استمد حافزه ووحيه من ثمرات الفكر اليوناني، إلا أن ما أعاد الحياة إلى تلك الثمرات، كان هو اتصالها وتفاعلها مع نفس الأشياء التي تقع في مجال الخبرة المعتادة والأدوات ذات النفع في الفنون العملية، وهي الأشياء التي ظن الفكر اليوناني القديم أنها مفسدة للعلم في نقائه؛ وذلك أن هذا الإحياء إنما تم بالعودة إلى الظروف والعوامل التي أسلفنا ذكرها في مواضع سابقة وهي: المواد والعمليات والأدوات التي تتميز بطابع كيفي خاص؛ فظاهرات الحرارة والضوء والكهرباء قد أصبحت أمورًا تُوضع أمام خبرة الإنسان، يخبرها في ظروف يرسم لها ضوابطها، بعد أن كانت أمورًا يتولاها بالصياغة العقلية عن طريق ذهنه الخالص؛ وأخذ البحث العلمي العدسة والبوصلة وأدوات أخرى كثيرة كما أخذ عمليات كثيرة، أخذ هذه وتلك من الفنون العملية، وحوَّرها بحيث أصبحت صالحة لحاجاته؛ ولم نَعد نزدري تلك العمليات العادية التي لبثت أمدًا طويلًا أمرًا مألوفًا في مجال الفنون الصناعية، كالإضعاف والتقوية، والجمع والتشتيت والإذابة والتبخير، والترسيب والنقع، والتسخين والتبريد وغير ذلك؛ بل تناولنا هذه العمليات لنستغلها في الكشف عن حقائق الطبيعة، بدل أن نقصر استخدامها على صناعة الأشياء في مجال النفع والمتعة وحده. وطرأ تجديد هائل على أجهزتنا الرمزية بنوع خاص؛ إذ أصابها التهذيب والتوسيع معًا؛ فمن جهة؛ أقمناها ووصلنا بعضها ببعض — على أساس قابليتها للاستعمال التطبيقي قابلية أظهرتها الإجراءات العملية — ثم ربطنا بينها وبين الوجود الفعلي؛ ومن جهة أخرى، حررناها من ضرورة الصلة في مجال التطبيق المباشر بما يَمَسُّ شئون النفع والمتعة؛ فنتج عن ذلك أن تطلبت المشكلات المادية التي نشأت في غضون تحصيلنا للمعرفة الخبرية بالطبيعة، تطلبت واستحدثت وسائل رمزية جديدة للتسجيل وطريقة التناول؛ فالهندسة التحليلية والحساب التحليلي قد أصبحا صورتين أوليتين للاستجابة العقلية حين وجدنا أن الكمية والتغير والحركة ليست من قبيل الأعراض اللامعقولة، بل هي المفاتيح التي يمكن أن نحل بها أسرار الوجود الطبيعي؛ وليست اللغة إلا واحدة من وسائلنا الرمزية؛ وهي وإن تكن وسيلة قديمة ومألوفة وذات طابع كيفي، إلا أن أدق وأشمل اللغات الرياضية لا تكاد تعدل — من حيث هي نتاج عظيم — تلك الآية التي خلقتها الشعوب البدائية حين خلقت الكلام المفهوم؛ وها نحن أولاء قد أدركنا آخر الأمر أن التصورات العقلية التي نصوغها ونطورها خلال تفكيرنا الذهني، إنما نلتمس لها مصداقها في إمكان تطبيقها على مادة الوجود الفعلي ذات الكيف المعين؛ ولم نعد نحكم «بصدق» تلك التصورات لمجرد كونها مقومات لمجرى التفكير العقلي وهو بمعزل عن العالم الواقع، بل أصبحنا نحكم بسدادها بمقدار ما نجد فيها من قدرة على تنظيم المواد الكيفية التي يعالجها الإنسان بذوقه الفطري وبمقدار قدرتها على إقامة الضوابط على سير تلك المواد؛ فأكثر التصورات العقلية اتصافًا بالعقل إنما هي تلك التصورات التي نبنيها في أذهاننا بحيث تكون معلومة الصلة بواقع الأشياء، فتدلنا بأقصى درجات الدقة على الطريقة التي نستخدمها بها في جانب التطبيق؛ وهكذا نرى عند كل خطوة من خطوات السير في إجراء البحث العملي، انهيار الفاصل القديم الذي كان يُباعد بين الخبرة والعقل، أو بين الجانب النظري وجانب الأداء الفعلي. وكان نتيجة ذلك أن طرأ تغير انقلابي على الذوق الفطري من حيث مضموناته وتقنياته؛ فقد لاحظنا فيما سبق أن الذوق الفطري ليس عاملًا ثابتًا، غير أن أشد ما قد تعرض له تغيرات انقلابية كان هو ذلك التغير الذي أحدثه تسلل النتائج والمناهج العلمية إلى كيانه ودخولها مقومًا من مقوماته؛ فحتى الإجراءات العملية والمواد المتعلقة بظروف الحياة البيئية الأولية، كالطعام والثياب والمأوى والانتقال، حتى هذه الأشياء وأمثالها قد أصابها تحول جسيم؛ ويُضاف إلى ذلك أن قد نشأت حاجات لم يسبقها نظير، كما نشأت قوًى جديدة لتُشبع تلك الحاجات الطارئة؛ وكان الأثر الذي ترتب عليه دخول العلم في كيان الذوق الفطري ودنياه، وأوجه النشاط التي تعالج ذلك الأثر في محيط العلاقات الإنسانية أقول إن ذلك الأثر كان في جسامته يُعادل الأثر الذي ترتب على دخول العلم إلى عالم الذوق الفطري من حيث علاقة الإنسان بالطبيعة المادية؛ وحسبنا أن نذكر التغيرات والمشكلات الاجتماعية التي نشأت عما استُحدث من الوسائل الفنية في إنتاج السلع والخدمات وتوزيعها، وذلك لأن تلك الوسائل الفنية إن هي إلا ثمرة مباشرة للعلم الجديد؛ ولو رَوَيْنا بالتفصيل تلك السبل التي أثر بها العلم في عالم الذوق الفطري، بالقياس إلى علاقات الناس شخصًا بشخص وجماعةً بجماعة وشعبًا بشعب، إذن لَرَوَيْنا قصة التغير الاجتماعي خلال القرون القليلة الماضية؛ فتطبيقات العلم في قلب قوى الإنتاج والتوزيع والمواصلات وظروفها، قد غيرت — بالضرورة — إلى حد بعيد من الظروف التي يعيش الناس في ظلها ويعملون متصلًا بعضهم ببعض، سواء كانت تلك الظروف ظروف تبادل وصلات ودية، أم كانت ظروف تضادٍّ وقتال. ولسنا بذلك نزعم أن تسلل النتائج والإجراءات العلمية إلى الذوق الفطري من حيث وقفاته ومعتقداته وإلى الطرائق العقلية التي يصطنعها فيما نسلم اليوم بأنه من أمور الذوق الفطري، قد كمل اليوم أو التأمت جوانبه؛ بل الأمر على عكس ذلك؛ إذ إن أثر العلم في الذوق الفطري من حيث مضمونه وطرائقه قد كان أثرًا مفكك الأوصال بالقياس إلى أعظم أمورنا خطرًا؛ لكن هذا التأثير المفكك ولو أنه حقيقة اجتماعية لا منطقية، غير أنه هو العلة الرئيسية التي تفسر لنا لماذا يبدو لنا أمرًا يسيرًا و«طبيعيًّا» أن نَفصل فصلًا حادًّا بين بحث الذوق الفطري ومنطقه من ناحية والبحث العلمي ومنطقه من ناحية أخرى. والعلم يبسط موضوعاته في مجموعات رمزية تختلف اختلافًا أصيلًا عن المجموعات الرمزية التي يَألفها الذوق الفطري؛ أو قل إن العلم يبسط موضوعاته بما يصح أن نقول عنه إنه لغة مختلفة؛ وفوق ذلك أن للعلم مادة موغلة في دقتها الفنية لم تدخل بعد في مجال الذوق الفطري، حتى ولا على سبيل التطبيق الفني في شئون حياتنا «المادية»؛ هذا إلى أن العلم قد كان ضئيل الأثر كذلك في قطاع هو أهم قطاع بالقياس إلى الذوق الفطري، وأَعني به قطاع الأفكار والمعتقدات الخلقية والسياسية والاقتصادية، وطرائق تكوينها وإثباتها؛ فما تزال الأفكار وطرائق البحث في مجال العلاقات الإنسانية في نفس الحالة التي كانت عليها معتقدات الذوق الفطري وطرائقه بالقياس إلى الطبيعة المادية قبل نشأة العلم التجريبي؛ وإن هذه الاعتبارات لَتحدد لنا معنى قولنا إن الفرق القائم اليوم بين الذوق الفطري والعلم هو فرق اجتماعي أكثر منه فرقًا منطقيًّا؛ ولو أطلقنا كلمة «لغة» بحيث لا تقتصر على معناها الصوري، بل لتشمل مضمون اللغة من حيث معانيها ذوات الفحوى، لقلنا إن الفرق المذكور هو فرق بين لغتَيْن. إن مسائل العلم لَتتطلب مجموعة من المعطيات ونسقًا من المعاني والرموز لها من التنوع ما يستحيل معه أن نقول عنه إنه «ذوق فطري منظم»؛ ولكنه أداة يمكن استخدامها لتنظيم الذوق الفطري في معالجته لموضوعه ولمشكلاته، وإن يكن هذا الإمكان بعيدًا عن التحقق الفعلي؛ ومع ذلك فقد بات العلم أداة قوية في هذا التنظيم بالنسبة للتقنيات التي تمس استخدام الإنسان لمواد الطبيعة المادية في إنتاجه؛ أما فيما يختص بأمور المتعة، أي بأمور استهلاك السلع، فأثره ما يزال ضئيلًا؛ وهو يوشك ألا يمس مجال الأخلاق ومسائل الرقابة الاجتماعية، ولا تزال المعتقدات والأفكار والعادات والنظم التي سبقت في نشأتها هذا العصر العلمي مسيطرة على ذلك المجال وهذه المسائل؛ فإذا ضممنا هذه الحقيقة إلى لغة العلم الموغلة في صورتها الاصطلاحية وفي بعدها عن اللغة المألوفة رأينا لماذا نشأ لدينا الشعور ونشأت الفكرة بوجود فجوة مقطوعة الصلة بين طرفيها، ثم احتفظنا بما قد نشأ من شعور وفكرة، فما تزال المسالك الواصلة بين الذوق الفطري والعلم إلى يومنا هذا طرقًا للسير في اتجاه واحد إلى حد كبير؛ فالعلم يبدأ سيره من الذوق الفطري أما الطريق الراجع من العلم إلى الذوق الفطري فملتوٍ ومسدود بما يعترضه من الظروف الاجتماعية. فالصلة المتبادلة بين الذوق الفطري والعلم ضئيلة بالنسبة إلى الأشياء ذات الأهمية العظمى؛ أضف إلى ذلك أن ما قد سبق عصر العلم من معتقدات في الأخلاق والسياسة إنما يضرب بجذور عميقة في التقاليد والعادات والنظم، بحيث ترانا نخشى لمسة المنهج العلمي، كأنما هذا المنهج أمر شديد الخطر على أعز وأعمق ما للإنسانية من اهتمامات وقيم، وإنك لَترى في مجال الصياغة الفلسفية مدارس فكرية قوية الأثر، كرست نفسها للمحافظة على مجال القيم والأفكار والمثل العليا، كأنما هي أشياء منفصلة انفصالًا تامًّا عن أي إمكان لتطبيق المناهج العلمية؛ وفي تسويغ هذه المدارس لضرورة هذا الانقسام، تراها تلجأ إلى تصورات فلسفية قديمة عن ضرورة الفصل بين العقل والخبرة، بين النظر والعمل، بين مناشط الإنسان العليا ومناشطه الدنيا. وأما عن النقطة الثانية، الخاصة بما قد يبدو من فرق أساسي بين الذوق الفطري والعلم، نعزوه إلى كون الذوق الفطري في صميمه غائيًّا من حيث أفكاره ومناهجه التي تحدد طريق سيره، على حين أن العلم يتعمَّد إغفال هذه الغائية؛ فلا بد لنا أن نلاحظ أنه على الرغم من هذا الفرق النظري، فقد استطاع العلم الطبيعي — من حيث الواقع العملي — أن يحرر وأن يوسع توسيعًا كبيرًا من مدى الغايات التي تنفسح آفاقها أمام الذوق الفطري، كما استطاع أن يزيد زيادة كبيرة في مدى وفي قوة الوسائل الممكنة لتحقيق تلك الغايات؛ فلقد كان الظن عند الفكر القديم هو أن الطبيعة هي التي تحدد الغايات، وأن الانحراف عن تلك الغايات التي سبق تحديدها وفرضها بحكم طبائع الأشياء نفسها، ضرب من المحال؛ حتى لقد ظُن أن محاولة الإنسان أن يخلق لنفسه غايات من تصميمه هو، هي السبيل التي لا بد أن تنتهي بسالكها إلى الخلط والفوضى؛ ولا يزال هذا التصور قائمًا في مجال الأخلاق، بل قد يكون هو التصور السائد، لكنه قد نُبذ نبذًا تامًّا فيما يختص بالشئون «المادية»؛ فها هنا تجد اختراع الأدوات الجديدة والوسائل الجديدة كفيلًا بخلق غايات جديدة، ذلك لأنها تخلق نتائج جديدة من شأنها أن تحفز الناس إلى تكوين أهداف جديدة. إن معنى «الغايات» الذي يجعلها نهايات محددة — وهو المعنى الفلسفي الذي كانت الكلمة تُفهم به أصلًا — كاد الآن يَنمحى؛ فبدل أن نقول إن العلم يحذف الغايات ويحذف البحوث التي ترسم لها الاعتبارات الغائية طريق سيرها، نرى — على عكس ذلك — أن العلم قد حرر ووسع — إلى درجة عظيمة — من النشاط والفكر في الأمور المستهدفة لغايات؛ ولسنا بهذا نعرض رأيًا خاصًّا، بل إنا لَنذكر حقائق واقعة هي أوضح من أن يتناولها الإنكار؛ وإن هذا نفسه ليصدق كذلك بالنسبة إلى الصفات الكيفية التي يُعنى بها الذوق الفطري عناية ليس في مستطاعه التخلي عنها؛ فكثيرة جدًّا هي تلك الصفات الكيفية الجديدة التي ظهرت في عالم الوجود الفعلي بسبب تطبيقات العلم الطبيعي؛ أضف إلى ذلك ما هو أهم منه، وهو أن قدرتنا على خلق الصفات الكيفية التي نريدها لأنفسنا في خبراتنا كلما أردناها، قد زادت زيادة تُوشك أن يتعذر حصرها؛ وإني لَأَطلب إليك — على سبيل ضرب مثل واحد — أن تنظر إلى قدراتنا بالنسبة إلى الصفات الكيفية التي يمكن أن نستخرجها من الضوء والكهرباء. لقد عرضنا هذا الذي عرضناه تحقيقًا لغرضين؛ فمن جهة، نرى المشكلة الرئيسية في حضارتنا قد تكونت نتيجة لكون الذوق الفطري من حيث مضمونه ومن حيث «دنياه» وطرائقه، شبيهًا بأسرة انشق أفرادها بعضهم على بعض؛ فجزء من كيانه — وهو أكثر أجزائه جوهرية — هو أنه يتألف من معانٍ وأساليب بحث تكون لسيره بمثابة الزمام الضابط، مع أنها قد نشأت قبل نشأة العلم التجريبي وما قد انتهى إليه من نتائج وما اصطنع من مناهج؛ وجزء آخر من كيانه هو أنه يتصف الآن بما يتصف به بسبب تطبيق العلم؛ وإن هذا الانشقاق لَيطبع كل وجه من حياتنا الحديثة وكل ناحية من نواحيها: الديني منها، والاقتصادي، والسياسي، والقضائي، بل والفني أيضًا. وإنه لَيشهد على قيام هذا الانشقاق أولئك الذين يهاجمون «الحديث» ويذهبون إلى أن المخرج الوحيد من فوضى حضارتنا هو العودة إلى المعتقدات الفكرية وإلى المناهج التي كانت موضع ثقة في العصور السوالف؛ كما يشهد عليه المجددون و«الثائرون» سواءً بسواء؛ وبين هاتين الجماعتين تقف كثرة الناس في اضطراب وقلق؛ ولهذا السبب نفسه ترانا هنا نؤكد أن المشكلة الأساسية في ثقافتنا الحاضرة وما يتصل بها من طرائق العيش، هي أن نوجد التكامل حيث يقوم الانقسام؛ ويستحيل أن تحل هذه المشكلة بغير طريقة منطقية موحَّدة نتخذها فيما تتناوله وفيما نُجريه؛ وتحقيقنا لهذه الطريقة الموحدة معناه أن نعترف بالوحدة الأساسية الكائنة في بناء البحث، سواء أكان بحثًا في مجال الذوق الفطري أم في مجال العلم، وأن ننظر إلى اختلافهما على أنه اختلاف ناشئ عن اختلاف المسائل التي يُعنى بها كل منهما في مجاله عناية مباشرة، وليس هو ناشئًا من أن لكل منهما منطقًا خاصًّا به؛ ولسنا بذلك نزعم أن بلوغنا منطقًا موحدًا، متمثلًا في نظرية تصل المنطق بوسائل البحث، سيزيل الانشقاق عن معتقداتنا ومناهجنا، لكن الذي نؤكده هو أن ذلك الانشقاق لن يزول بغيره. ومن جهة أخرى فإن مسألة التوحيد هذه إنْ هي إلا إحدى مسائل النظرية المنطقية نفسها، وإذا أخذنا بها فمن أجل تلك النظرية المنطقية أيضًا؛ فصنوف المنطق السائدة في عصرنا الحاضر لا تدعي لنفسها أنها — بأكثر ما تقوله — تتصل بوسائل البحث؛ فأصحابها — بصفة عامة — يُطالبوننا بأن نختار لأنفسنا أحد منطقين: فإما المنطق التقليدي الذي صِيغ في عصر سابق بزمن طويل لنشأة العلم، وليس ذلك فحسب، بل إنه كذلك قد صِيغ حين كان العلم في مضمونه وفي طرائقه يتعارض تعارضًا أساسيًّا مع العلم الحاضر في مضمونه وطرائقه، وإما أن نختار «المنطق الرمزي» الجديد الذي هو خالص في صورية رمزيته، والذي يعترف بالعلوم الرياضية وحدها، وحتى في مجال الرياضة تراه لا يهتم بمناهج العلوم الرياضية اهتمامه بصياغة نتائجها صياغة لغوية؛ وإنك لَتراهم لا يكتفون بمجرد فصلهم بين منطق العلم من جهة والذوق الفطري من جهة أخرى بل إنهم لَيُؤْثِرون أن يفصلوا بين حديثهم عن المنطق وبين المنهج العلمي، كأنما هما أمران مختلفان يستقل أحدهما عن الآخر؛ وفي «تخليص» المنطق على هذا النحو من كل شوائب الخبرة قد جعلوه من الصورية بحيث لا ينطبق إلا على نفسه. وسنتناول في الفصل التالي بصورة صريحة المنطقَ التقليدي كما أخذناه عن أرسطو، ابتغاء أن نبين: (١) أن الظروف العلمية التي صِيغ في ظلها تختلف — بالضرورة — عن الظروف العلمية التي تُحيط بالمعرفة كما هي اليوم، اختلافًا أدى إلى تحويله من الصورة التي كان عليها أول ما كان، وهي أن يكون منطقًا للمعرفة، إلى صورة يكون بها أمرًا صوريًّا بحتًا، (٢) وأن الضرورة الآن تقتضي إيجاد نظرية منطقية مبنية على نتائج العلم وطرائقه؛ وإن هذه النتائج والطرائق لَتبلغ من اختلافها عن نتائج العلم القديم وطرائقه حدًّا يجعل الحاجة لا تقتصر على مجرد مراجعة المنطق القديم وتوسيعه هنا وهناك، بل تتطلب وجهة النظر وطريقة في التناول مختلفتين من حيث الجذور، نأخذ بهما في نظرنا إلى مادة المنطق من أولها إلى آخرها.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/5/
الإصلاح المطلوب في المنطق
قليلون هم اليوم الذين يرددون قول «كانت» عن المنطق: «إنه منذ أرسطو لم يجد ما يُحفِّزه إلى الرجوع خطوة واحدة … ولم يكن في مستطاعه أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام، حتى إنه — كما تدل الظواهر كلها — لَيُمكن اعتباره تامًّا وكاملًا؛ ومع ذلك فما يزال هذا المنطق محوطًا بالتقدير العظيم؛ فمنه يتكون الأساس في معظم المؤلفات المنطقية التي تُدرَّس في المدارس، بعد إضافة فصول إليه عن «المنطق الاستقرائي»، أُضيفت — فيما يبدو — نتيجة لشعور بالحاجة إلى شيء من العناية بما يُظَن أنه مناهج العلم الحديث.» وعلى ذلك فلست بحاجة إلى طلب المعذرة على مناقشتي للمنطق الأرسطي في علاقته بنظرية المنطق التي أبسطها في هذا الكتاب؛ وذلك لأن المنطق الأرسطي يدخل بصفة جوهرية في نظريات المنطق السائدة بيننا اليوم، بحيث يصبح النظر في أمره نظرًا في عالم المنطق المعاصر، ولا يقتصر أمره على مجرد قيمته التاريخية وحدها؛ وإذن فمن المسائل التي تتطلب منا النظر السريع مسألة كفاية المنطق التقليدي ليكون أداة للبحث فيما هو قائم بين أيدينا من مشكلات الذوق الفطري ومشكلات العلم معًا، ولهذا رأيت أن أَعرض في هذا الفصل عرضًا نقديًّا المعالم الرئيسية في المنطق الأرسطي مما يتصل (١) بظروف العلم والثقافة التي أمدته بأسسه وبمادته المهمة، (٢) ومقابلتها بظروف الثقافة والعلم التي تقوم بيننا اليوم. أما النقطة الأولى فتتضمن محاولة أبين بها الطريقة المباشرة المنظمة التي اتخذها المنطق القديم ليكون مرآة تعكس على العصر الذي صِيغ فيه ذلك المنطق، وأما النقطة الثانية فتختص بالتغير الانقلابي الذي طرأ على العلم منذ ذلك الحين، باعتباره أساسًا لتغير أساسي يقابله في المنطق. ومقتضى هذه الفقرة فيما يبدو — وبخاصة إذا مددناها بحيث تشمل مؤلفات أرسطو المنطقية الأخرى بالإضافة إلى «الطوبيقا» — هو أن في مستطاعنا أن نغير تغييرًا أساسيًا في مسائل البحث وموضوعاته (كأن نبدِّل بالماهيات الثابتة وصورها الضرورية الجوهرية ارتباطات في الظواهر المتغيرة) دون أن نغير من الصور المنطقية إلا قليلًا؛ وهذا الزعم المتضمن (في الفقرة السالفة) إنما هو طابع يميز كثيرًا من التأليف المنطقي السائد بيننا اليوم؛ لكننا سنضع فرضًا آخر مضادًّا لهذا الفرض، لنجعله أساسًا لنا في نظرنا إلى المنطق الأرسطي في علاقته بالعلم والثقافة اليونانيين إبَّان القرن الرابع قبل الميلاد؛ وكلما ازدادت كفاية ذلك المنطق لعصره، قَلَّت صلاحيته لأن يكون إطارًا نبني عليه النظرية المنطقية التي نعرضها ها هنا. كانت الثقافة اليونانية خصبة في إنتاجها الفني خصوبة غير مألوفة؛ كما امتازت كذلك بمشاهداتها المنوعة الدقيقة للظواهر الطبيعية، وبتعميماتها الشاملة التي صاغت فيها تلك المشاهدات؛ إذ دُرِسَ الطب والموسيقى والفلك والأرصاد الجوية واللغة والنظم السياسية بوسائل الدراسة القائمة عندئذ، دراسة أكثر تحررًا من السلطة الخارجية مما كانت الحال في الحضارة السابقة عليها؛ أضف إلى ذلك أن النتائج الخاصة التي انتهى إليها الدارسون في هذه الميادين المنوعة، قد دُمجت كلها في تلك النظرة الواحدة الشاملة التي أصبحت منذ ذلك الحين — جريًا على سنة اليونان — تحمل اسم الفلسفة؛ ومما هو جدير بذكر خاص، أنه لما لم يكن قد ظهر بعد ذلك التقسيم الحادُّ الذي ظهر فيما بعد، والذي يفصل بين «الذات» و«الموضوع»، فقد كان علم النفس مرتبطًا بعلم الحياة (البيولوجيا) الذي ارتبط بدوره بعلم الفيزياء؛ على حين كانت الأخلاق والسياسة أجزاء من نظريتهم في «الطبيعة»؛ أي إنهم تصوروا الإنسان في علاقته بالطبيعة، ولم يتصوروه باعتباره كائنًا قائمًا بمعزل عنها؛ ولم تكن الدراسات الأخلاقية والسياسية تنفصل عندهم بفواصل حادة عن دراسة الكون في جملته؛ وكذلك عُدت الرياضة علمًا يتصل بالوجود الفعلي. وترتبط هذه الحقيقة الأساسية ارتباطًا وثيقًا بالمنطق الأرسطي؛ فمن الناحية السلبية لم يكن هذا المنطق صوريًّا بالمعنى الذي يجعل الصور مستقلة عن مادة الوجود الفعلي؛ نعم قد كان ذلك المنطق صوريًّا، لكن الصور إنما كانت هي صور الوجود القائم، إلى الحد الذي كان ذلك الوجود معلومًا، معلومًا لا بمجرد كونه واقعًا على الحواس، أو جاريًا مع حالات التفكير في تعاقبها، أو موضوعًا للتخمين والظن. إن ما هو موجود وجودًا حقيقيًّا لا يطرأ عليه التحول؛ ولهذا كان التغير برهانًا على نقص في كمال «الوجود»؛ أو هو برهان على ما أسماه اليونان أحيانًا — إبرازًا لجانب النقص في عنصريته — باللاوجود؛ فجاءت الدرجات المتفاوتة في الإدراك الفكري مقابلة — ومعها صورها المنطقية في هذه المقابلة — درجةً درجةً للترتيب المدرج الذي رتبت به الذوات في تفاوتها من حيث درجاتها الكيفية في سلم «الوجود». والقضايا التي يسمونها كبرى وصغرى هي ما تبين على التوالي «الموضوعات» الشاملة والموضوعات المشمولة، على حين يكون «الحد الأوسط» هو النسبة أو هو الحقيقة الثابتة (اللوغوس) أو هو العلة العقلية أو المبدأ الذي على أساسه تتحدد الأبعاد والأطراف، ولهذا فهو أساس التداخل أو التخارج؛ فلا غناء عنه في التدليل، لا لأن ﻟ «الفكر» خصيصة معينة تميزه، بل لأن في الطبيعة روابط هي جزء من كيانها، وهي روابط تربط «الموضوعات» بعضها ببعض وتمنع اختلاطها؛ ولما كان الحد الأوسط يمثل مبدأ التداخل والخارج في الطبيعة، فهو يعبر عن كلي أو عن كل؛ ولو كان يمثل ما هو جزئي (أي ما هو مكسور وغير كامل) لما صلح أن يكون هو الأساس أو هو المسوغ العقلي للنتيجة التي إن هي إلا بيان في مجال المعرفة لما هو كائن في «الطبيعة» من حالات التداخل والتخارج. وما هو داخل في غيره أو خارج عن غيره لا بد بالضرورة أن يكون نوعًا بأسره، لأن الأشياء المفردة، كالفرد الواحد من الناس، أو القطعة الواحدة من الصخر، أو الجماعة الواحدة من الجماعات إنما تظهر في الوجود ثم تختفي، فهي إذن جزئية وليست هي بالكاملة؛ أما النوع الذي يكون الفرد الواحد أحد أجزائه فهو أزلي؛ فالإنسانية نوع، وباعتبارها نوعًا ذا ماهيَّة فهي لا تبدأ وجودها عند لحظة معينة، كلا ولا هي تفنى بميلاد أو موت سقراط وألقبيادس وزينوفون وغيرهم من سائر الأفراد؛ والنوع ذو الماهيَّة يكون بالضرورة حاضرًا في كل جزئية واحدة، أي في كل جزء داخلٍ فيه، فيجعله هو ما هو، سواء أكان الكائن الجزئي إنسانًا أم حصانًا أم بلوطة أم صخرة؛ فالذي ينتمي إلى النوع بالضرورة وبحكم كيانه الداخلي، هو طبيعة ذلك النوع أو هو جوهره؛ والتعريف هو الصورة التي يتمثلها الجوهر باعتباره موضوعًا لمعرفة؛ فليس هو أمرًا لفظيًّا بل ليس هو عملية أو ثمرة ﻟ «الفكر» نطمئن لها، إنما التعريف هو إمساكنا — بالإدراك العقلي — لذلك الذي يحدد (أو يعين حدود) الجوهر كما هو كائن في الوجود القائم؛ إذ هو يفصله عن كل ما عداه ويمسك بطابعه الأزلي الذي يحتفظ بذاتيته أبدًا. أضف إلى ذلك أن الأنواع تُكوِّن تسلسلًا مدرجًا؛ فثمة «أنواع مدرَكة بالحس» تمثلها هذه الصفات الكيفية: رطب ويابس، حار وبارد، ثقيل وخفيف؛ وهنا يبلغ جانب التغير — أي الجانب الفيزيقي — حده الأقصى؛ وهذه الصفات الكيفية عابرة دائمًا ونازعة دائمًا إلى التحول إلى أضدادها؛ ومع ذلك فبينما تتغير الصفات الكيفية في حالاتها الوجودية الجزئية، تكون أنواعها ثابتة؛ ولهذا يمكن قيام أدنى أنواع الإدراك في المعرفة — وهو الإدراك الحسي — بالنسبة لها؛ بل إن الحس نفسه إذا ما أدرك صفة كيفية، كأحمر وصلب فلا بد له من إدخالها في نوعها الذي يحتويها، أعني أنه لا بد له أن يصنفها؛ على أن هنالك في الطرف الآخر أنواعًا خالصة تخلو من المادة ومن التغير، وتكون الأشياء التي تجسد طبيعتها الجوهرية ثابتة لا تنحرف في نشاطها وحركاتها. والمثل النموذجي لذلك عند أرسطو هو النجوم في ثباتها، كل منها يجري في فلكه الأزلي لا يتحول عنه؛ وبين هذين النمطين من الأنواع تجيء الأنواع الأخرى كافة، أنواع الظواهر والأشياء في الكون؛ ولو أردنا ذكرها تفصيلًا، لبسطنا علم الفيزيقا وعلم الكون عند أرسطو؛ لكن حسبنا هنا أن نقول إن كل نوع له في ترتيب «الطبيعة» مكانه الثابت، ومِن ثَم كان لكل نوع منزلته الثابتة في درجات المعرفة العلمية أي البرهانية، تحددها له درجته النسبية في مدى خضوعه للتحول؛ وهذه الخاصة الأخيرة إنما تعين مدى اشتراك «المادة» في كيان النوع، لأن المادة هي مبدأ القلقلة والتحول؛ وأما الأنواع العليا فتتميز باطِّراد حركتها تجاه نهاية محددة أي كاملة. ومما هو جدير بالذكر أن مناشط الكائنات الحية تتميز بدرجة كبيرة من الاطِّراد في معاودة الحدوث؛ ومعنى ذلك أنها تتميز بدرجة كبيرة من الحركة التلقائية؛ وجهدها في هذه الحركة التلقائية إنما يُعينها على مقاومة التغير الذي تتطلبه الظروف الخارجية؛ فلها من هذه المقاومة أكثر جدًّا مما للصفات الكيفية المدرَكة بالحس (التي تخضع للتغير من الأشياء المحيطة بها كافة)، بل أكثر جدًّا كذلك مما يكون لظواهر مثل الجو وسائر الأشياء الجوامد؛ وهذه الخاصة التي تميز الكائنات الحية، أعني حركتها الذاتية ونموها الذاتي، لها أهمية خاصة؛ إذ إن ثمة تسلسلًا كيفيًّا تندرج فيه تلك الكائنات الحية؛ ففي الطرف الأدنى والأسفل تجد أنواع النبات بما لها من «وظائف النمو» التي تتألف من امتصاص الطعام وتمثيله؛ وأما مختلف أنواع الحياة الحيوانية، فتتميز بتلك الوظائف النباتية نفسها مضافًا إليها طاقتها على الحركة الذاتية. والإنسان في ذروة السُّلَّم؛ إذ هو يحتفظ بوظائف النمو وبالوظائف الحيوانية معًا؛ فيحتفظ بالإحساس ورغبات البدن والحركة؛ لكن الإنسان كلما دنا من الدرجة العقلية في حد ذاتها، التي هي درجة خالصة بمعنى أنها متحررة من الحاجة ومن الإحساس والإدراك الحسي، ازدادت طاقته في الحركة الذاتية اقترابًا من الكمال؛ فما العمل إلا نشاط الحركة الذاتية خالصًا، فلا يعتمد قط ولا يتصل قط بأي شيء عداه؛ ومثل هذا النشاط الذاتي الخالص هو تعريف الله، وكلما اقتربت منه الكائنات الفانية، تخلصت من فنائها. ومن هذا العرض تَبرز أمامنا نقط رئيسية معينة في المنطق الأرسطي؛ فأولًا ليست الصور المعترَف بها صورية، لأنها ليست مستقلة عن ذوات الكائنات التي تكون موضوع المعرفة؛ بل هي — على خلاف ذلك — صور تلك الذوات نفسها بمقدار ما تتبدى في مجال المعرفة؛ وثانيًا تتألف المعرفة — في صورها المنطقية — من التعريف والتصنيف، بحيث لا يتبقى منها شيء؛ وليست عملية التعريف ولا عملية التصنيف لغوية ولا نفسية ولا هي معينة على التفكير النظري؛ فالتعريف هو إدراك الماهيَّة التي بها تكون الأشياء هي ما هي في الوجود الواقع؛ والتصنيف مختص بما هو كائن — في الوجود القائم — بين الأنواع الطبيعية من دخول بعضها في بعض وخروج بعضها عن بعض؛ فالتعريف وتصنيف الكائنات هما من الصور الضرورية للمعرفة لأنهما يعبران عن صور ضرورية ﻟ «الوجود». وثالثًا ليس هنالك مكان لأي منطق للكشف والاختراع: فقد كانوا يرون الكشف داخلًا في مجال التعلم، وما التعلم إلا أن يظفر المتعلم بما هو معلوم بالفعل قبل ذلك، كالتلميذ حين يحدث له أن يعرف ما قد كان معروفًا قبل ذلك عند المعلم في الكتاب الذي يعرض مادة الموضوع؛ وكان التعلم ينتمي إلى المجال الأسفل الذي هو مجال التغير، وككل ضروب التغير الأخرى، لا يتمخض عن شيء ولا يعني شيئًا إلا بالقدر الذي يدخل به في حدود المعرفة الثابتة — وتلك الحدود — في حالة التعلم (الذي هو الصورة الوحيدة للكشف) هي إدراكنا للنوع الذي يكون متمثلًا في أفراده الجزئية التي تقع في مجال الإدراك الحسي من جهة، وإدراكنا العقلي لجوهر ما يحدد الطبيعة الكاملة لنوعٍ ما باعتباره كلًّا واحدًا من جهة أخرى؛ أي إن التعلم لا يزيد على كونه يربط هاتين الصورتين من صور المعرفة، اللتَيْن سبقتا إلى علمنا، إحداهما بالأخرى وهكذا لم يكن لاختراع الجديد مكان؛ فلم يكن له من المعنى سوى وقوع الإنسان على شيء كان موجودًا بالفعل. وهذه الملاحظات تفسر لنا السهولة التي أصبحت بها نظرية منطقية كانت في دلالتها الأصلية متصلة اتصالًا وثيقًا بالوجود القائم أو بالوجود الفعلي، منطقًا صوريًّا صِرفًا حين هتك التقدم العلمي الأساس الذي كان قوامه جواهرَ وأنواعًا، والذي انبنى عليه المنطق في أولى مراحله؛ فلم يكن في هذا المنطق الأول مكان لعمليات التفكير النظري أو التفكير الذي ينتقل به المفكر من حلقة إلى حلقة تليها، اللهم إلا أن يكون ذلك التفكير من قبيل العمليات التي تحدث في ذات الإنسان فتنقلها من طور إلى طور (كالذي يمكن أن نسميه الآن تطورًا نفسيًّا، مع أنه أقرب إلى أن يكون تربويًّا) والتي بوساطتها يبلغ الإنسان الفرد مرحلة الإدراك المباشر للماهيات والعلاقات التي تصل الأنواع تداخلًا وتخارجًا؛ وكذلك كان لاحتفاظنا بصور التقليد الأرسطي مع حذف المضمون الذي كانت تلك الصور صورًا له، نتيجة أخرى، وهي أن حذف البحث (بالمعنى الذي يجعله موصولًا بالكائنات الفعلية) من مجال المنطق بمعناه المقبول (مع أن البحث ما هو إلا التفكير النظري حين يثمر نتيجة فعلية)؛ إن القياس الاستنباطي في المنطق الأصلي لم يكن قط صورة للاستدلال والتدليل، بل كان إدراكًا مباشرًا، أو رؤية مباشرة لعلاقات التداخل والتخارج التي ترتبط بها الكائنات الحقيقية في «الطبيعة» من حيث يُعد كل كائن منها كلًّا واحدًا. كانت المعرفة كلها — بمعناها التام الكامل — في الإطار القديم إدراكًا عقليًّا مباشرًا، أو قل إنها كانت إمساكًا مباشرًا بالحقيقة أو رؤية مباشرة لها؛ وكان التفكير النظري والبحث من حيث طبيعَتَاهما كالمحاولة التي قد يُضطر الفرد إلى القيام بها لكي يظفر برؤية أفضل لشيء موجود بالفعل؛ وهي محاولة شبيهة بالقيام برحلة إلى متحف ابتغاء النظرة الفاحصة للأشياء المعروضة فيه؛ ذلك لأن الصورة والنوع إن هما إلا نظرات لكائنات كل منها هو بمثابة الكل الذي لا يتجزأ؛ ولما كان الإنسان عاجزًا بطبيعته الفانية، كان لزامًا عليه أن يقوم ببحوث في تفكيره النظري، غير أن هذه البحوث لم تكن ذات أهمية منطقية نابعة من كيانها حتى إذا ما بلغ الإنسان معرفة، كانت تلك المعرفة بمثابة إمساكه بشيء أو حيازته لشيء؛ وهما إمساك وحيازة لهما طبيعة ما يُسمَّى في النظرية الحديثة «حدسًا»، لولا أنهما لم يكن فيهما شيء من غموض «الحدس» كما تُفهم هذه الكلمة اليوم. وأنتقل الآن إلى الفرق الأساسي بين تصور اليونان ﻟ «الطبيعة» كما يعبر عنه أرسطو في فلسفته عن الكون وعن الوجود وفي المنطق والتصور الحديث كما قد حددته الثورة العلمية؛ وأوضح جوانب الخلاف هو الجانب الخاص بما قد طرأ على تصور الكيفي والكمي في علاقة أحدهما بالآخر، مع اختلاف شامل في وجهة النظر؛ فليس الأمر مقصورًا على أن فلسفة الكون القديمة والعلم القديم كانا يتألفان على أساس الصفات الكيفية، بادئة بالعناصر الكيفية الأربعة: التراب والهواء والنار والماء (وهذه بدورها تتألف من تركيبات من الأضداد الآتية: رطب ويابس، بارد وحار، ثقيل وخفيف)، بل إن كافة التحديدات الكمية كانت تُرد إلى حالة الأحداث العارضة، بحيث لم يكن لإدراك الإنسان لها أية قيمة علمية؛ وإني لَأستخدم كلمة «العرض» هنا بمعناها الاصطلاحي بطبيعة الحال، وهي بهذا المعنى لا تتضمن انعدام السببية بالنسبة إلى حدوث الأشياء بمقدار كمي معين دون آخر؛ لكنها تعني أن السبب في هذه الحالة يكون خارجيًّا بالنسبة إلى الشيء ذي المقدار الكمي المعين، بحيث لا يمكن اعتباره في المعرفة أساسًا أو علة عقلية لوجود ذلك الشيء في كميته تلك. وثمة اختلاف آخر وثيق الصلة بالاختلاف السابق، نراه في كون الصفة الكيفية التي كان يتسم بها موضوع المعرفة في تصور اليونان ﻟ «الطبيعة» قد أدت إلى افتراضهم لمبدأ التنوع افتراضًا أَمْلَتْه طبيعة الموقف، على حين يفترض العلم الحديث مبدأً آخرَ، هو مبدأ التجانس، محاوِلًا بذلك أن يحل التجانس محل الكثرة الكيفية؛ وهو اختلاف توضحه الموازنة بين النظرية القائمة اليوم عن العناصر «الكيموية» وبين العناصر الكيفية الأربعة (هي خمسة لو أضفنا العنصر الأثيري الذي تتألف منه النجوم الثابثة)؛ غير أن أوضح مثل يبين لنا الاختلاف، هو تصورهم لأنواع كيفية مختلفة من الحركة، وهو تصور سيطر على العلم حتى القرن السادس عشر تقريبًا؛ فبدل أن يُنظر إلى الحركة على أنها تغير مَقيس يطرأ على الوضع المكاني، ويشغل فترة مَقيسة من الزمن، عُدت الحركات الدائرية، وإلى أمام ووراء، وإلى أعلى وأسفل، حركات تختلف كيفًا بحيث لا يدخل نوع منها في نوع آخر؛ وميزوا العناصر ذوات الطبائع المختلفة بأن جعلوها تحتل أمكنة تتفاوت قيمةً حسب منزلها من سلم الأنواع، وكانت لهذه الأنواع المتفاوتة غايات مختلفة كذلك توجه سيرها؛ فالتراب يهبط أو يسقط بحكم طبيعته وطبيعة مكانه الملائم، والنار والضوء يتحركان إلى أعلى للسبب نفسه؛ وفي طبائع الأشياء نفسها صفة الخفة كما أن فيها صفة الثقل، وهكذا قل في «جواهر» الضروب الأخرى من ضروب الحركة. وبسبب المبدأ الغنائي القائل بأن كل تغير يمكن معرفته يتجه نحو نهاية محددة تضع له ختام سيره، كان الظن أن الحركة كلها تتجه بطبيعتها نحو أن تبلغ حالة من السكون؛ وهي فكرة سيطرت على العلم حتى عصر جاليليو تقريبًا، فانظر على سبيل الموازنة إلى مكان الحركة المتجانسة من العلم الحديث، وهو تجانس لا تتميز أجزاؤه باتجاهات الزوايا وبقوة الدفع والسرعة، وكلها أشياء يمكن قياسها؛ ولا يمكن أن نغض النظر عن اختلاف كهذا على أساس أنه اختلاف في تفصيلات موضوع البحث ولا شأن له بالمنطق؛ لأن الحركة الكيفية التي ترتد بالشيء إلى سابق وضعه من تلقاء نفسها كامنة في صميم تصور القدماء للعقل وموضوعاته؛ إذ كان الاختلاف الكيفيُّ الذي يفرق بين هذه الحركة المذكورة وسائر أنواع الحركة هو المعيار الذي تقاس به صور المعرفة من حيث درجاتها، فضلًا عن أن الأمر هنا يدخل فيه ما قد طرأ من اختلاف على عناية العلم بالقياس الكمي وبالمقادير الكمية. واختلاف ثالث وثيق الصلة بالاختلافين السابقين، نراه في عناية العلم الحديث بإقامة العلاقات، على أن المنطق القديم كان قائمًا على أساس نظرية عن الطبيعة تنظر إلى العلاقات كافة — فيما عدا علاقة تداخل الأنواع وتخارجها (التي لم ينظروا إليها على أنها علاقة) — نظرة تجعلها عرضية، بنفس المعنى الذي كانت الكمية تُعد به عرضية؛ فلأن يكون شيء متعلقًا بشيء، معناه من وجهة النظر الأرسطية أن يكون معتمدًا على شيء خارج عنه، غير أن هذا الاعتماد لم يُعَمَّم ولم يُنظر إليه على أنه من الموضوع العلمي في صميم بنائه؛ بل إن هذا الاعتماد — على خلاف ذلك — قد وُضع بحيث يكون على تضادٍّ حادٍّ مع استقلال الشيء بكيانه، واكتفائه بذاته، وفاعليته الذاتية، وهي أمور لا تكون إلا ﻟ «الذوات» (أي العناصر) التي تصلح وحدها أن تكون موضوعات للمعرفة العلمية البرهانية؛ فكون الشيء هنا الآن، وفي موضع آخر في لحظة أخرى. قد حُذف من اعتبارهم إلى الأبد، على أنه العلامة المميزة للمادة الدنية، على حين أن مثل هذا التغير هو الذي يقيم مسائل البحث العلمي عند العلم الحديث. ونذكر كذلك اختلافًا آخر نراه في المركز الرئيسي الذي كانت تحتله الغايات والفلسفة الغائية في المنطق الأرسطي؛ فلئن اختفى هذا العامل الغائي من منطقه بعد تحويله إلى مجرد منطق صوري فحسب، فذلك لا ينفي أن الغائية كانت أساسية في المنطق القديم إلى الحد الذي يُمكِّننا من القول بأنه ما دامت تلك الغائية قد اختفت فقد اختفى كذلك باختفائها المسوغ لبقاء المنطق الأرسطي، الذي لم يبقَ منه إلا قوقعة فارغة، أو صور بغير مادة موضوعاتها؛ وفي اختتامي لهذه المرحلة من مناقشتي للأمر، سأشير إلى الأساس الذي تنطوي عليه تلك الاختلافات كلها التي ذكرناها، وأعني به الانقلاب الذي طرأ على العلم في وقفته إزاء التغير؛ ونستطيع أن نحدد تاريخًا ملائمًا نؤرخ به اكتمال هذه الدورة الانقلابية التي طرأت على الوقفة العلمية، وذلك التاريخ هو ظهور مؤلف دارون «أصل الأنواع»؛ فعنوان الكتاب وحده كافٍ للدلالة على ثورة في العلم لأن فكرة الأنواع البيولوجية قد كانت قبل ذلك مظهرًا واضحًا للزعم الذي يزعم أن ثمة استحالة تامة على التغير؛ نعم كانت هذه الفكرة قد زالت قبل دارون من كل موضوع علمي إلا علم النبات وعلم الحيوان، لكن هذين العلمين قد لبثا الحصن الذي تحصن به المنطق القديم في مجال الموضوعات العلمية. ويمكن تلخيص الموضوع كله بالإشارة إلى الفرق بين فكرتين عن «الطبيعة» نراهما داخلتين على التوالي في العلم القديم والعلم الحديث؛ فقد كانت «الطبيعة» في العلم اليوناني كلًّا كيفيًّا محددًا ومغلقًا؛ فلأن نعرف كائنًا خاصًّا كان معناه أن نعرف ذلك الكائن باعتباره كلًّا موضوعًا في مكانه الملائم من ذلك الكل الشامل شمولًا لا يفلت منه شيء، وأعني به «الطبيعة»؛ وليس صوابًا أن يُقال إن العلم القديم قد حاول استنباط المعرفة الخاصة بالكلات الداخلية من تصوره للكل النهائي الكامل؛ فهذه الفكرة عن العلم اليوناني بأنه كان استنباطيًّا بهذا المعنى، هي سوء فهم عميق؛ لأن قوام المعرفة — على أساس الفكرة اليونانية — هو وضع كل نوع نسبي، الذي هو في ذاته كل واحد، بعد تحديده وتعريفه بجوهره، وضعًا يصل العلاقة بينه وبين سائر الأنواع في «الطبيعة» من حيث هي كل أخير؛ وهذه الضرورة التي تقتضي إحالة شتى الأنواع الخاصة وشتى ضروب المعرفة الخاصة إلى «الطبيعة» من حيث هي كل مغلق، تفسر لنا استحالة قيام الفواصل الحادة — بناءً على التصور القديم — بين العلم والفلسفة؛ أما موضوع دراسة العلم الطبيعي الحديث فقوامه التغيرات تُصاغ في صيغ تبين ما بينها من تقابلات؛ وليست تقتصر هذه الحقيقة على كونها تضع التغير في موقف يختلف اختلافًا عميقًا عن موقفه الأول، بل إنها لَتؤثر كذلك أثرًا عميقًا في فكرتنا عن «الطبيعة». وإن صياغة التقابلات في ارتباطها بعضها ببعض لَتزداد اتساعًا في المدى شيئًا فشيئًا؛ لكننا لا نجد اليوم عالِمًا تحدثه نفسه بأن يصوغ صيغة واحدة تشمل كل شيء في الكون من حيث هو كل واحد؛ فهذه مهمة تولتها عن العلماء بعض المدارس الفلسفية؛ ذلك أن تغير الفكرة عن «الطبيعة» تلخصه الفكرة القائلة بأننا اليوم نتصور الكون مفتوحًا وفي سير، على حين تصورته اليونان القديمة محدودًا بحدود، بالمعنى الذي يجعله شيئًا اكتمل، وتم وكمل؛ وكان اللانهائي في العلم اليوناني هو ما ليست تحده الحدود، ولا يمكن معرفة هذا اللامحدود من حيث هو كذلك. وإنه لخطأ لا يَترك للصواب مكانًا أن يُعد هذا الذي أسلفته نقدًا للمنطق الأرسطي في صياغته الأصلية التي كانت تربطه بالثقافة اليونانية؛ فإذا نظرنا إليه من حيث هو وثيقة تاريخية ألفيناه جديرًا بما قد لقيه من إعجاب؛ فمن حيث هو خطة فكرية شاملة نافذة كاملة، ترسم طريق السير في كل حركة فكرية وهي بمعزل عن الإجراءات العملية التي يخرج إليها ذلك التفكير إذا خرج إلى حيز العمل، أقول إنه من حيث هو كذلك فهو فوق كل ثناء؛ وإنما الذي قد أسلفته هو نقد موجه إلى ذلك المجهود الذي يبذله من يحاولون الإبقاء على هذا المنطق، بعد مراجعات هنا وإضافات هناك، على اعتبار منهم أنه كافٍ أو أنه يتصل إطلاقًا بعلم اليوم؛ فكما قد أسلفت القول، كلما ازداد ذلك المنطق في تمامه وكماله بالنسبة للثقافة القديمة التي سادت العصر الذي صِيغ فيه، كان أقل ملاءمة للمعرفة بظروفها الحاضرة وبما تقتضيه من شروط؛ فالمصدر الأساسي الذي يصدر عنه ما نراه اليوم قائمًا في النظرية المنطقية من خلط، هو محاولة الإبقاء على الصور المنطقية الأرسطية بعد أن نبذت أسسها الوجودية التي كانت قائمة عليها؛ فتلك هي العلة التي ينتهي إليها كل تعليل لكوننا نعالج، الصور المنطقية على أنها مجرد أمور صورية. غير أن هذا الإعجاب — كما أشرت من قبل — بالطريقة الشاملة التي أدى بها المنطق القديم مهمته، حتى من وجهة نظر النسيج الثقافي المعاصر له، لا بد أن نتحفظ فيه بعض الشيء، بأن نُلم بالطريقة التي قام عليها بناء تلك الثقافة على أساس فكرة الأنواع، لأننا عندئذٍ سنتبين أن صياغته لم تكن صياغة كاملة حتى بالقياس إلى الوسائل الممكنة في زمانه ومكانه؛ فمؤلفو المنطق القديم لم يكونوا على علم بأن العُدَد إنما تكون ضربًا من اللغة التي ترتبط بأشياء الطبيعة ارتباطًا هو أكثر إفحامًا من ارتباط الكلمات بتلك الأشياء؛ كما لم يكونوا على علم بأن سياق الإجراءات العملية يمدنا بنموذج لإطار المعرفة المنظمة هو أكثر إلزامًا لنا مما تمدنا به اللغة منطوقة ومكتوبة؛ فقد نهضت المعرفة العلمية بمعناها الصحيح، حين تبني البحث ما كان قد سبق وجوده بين أيدي العمال المنتجين من أدوات وسلية وإجراءات عملية، لم يكن يأبه لها أحد من قبل، أقول إن البحث قد تبناها ليجعلها جزءًا من إجرائه ووسيلة لتحقيق أغراضه؛ فكان هذا التبني هو الطابع الأصيل الذي يميز منهج العلم في بحثه التجريبي؛ ولئن كانت الرياضة بدورها العظيم الذي تؤديه في سير العلم، دليلًا على أن التفكير وهو بمعزل عن العمل لا يزال قائمًا بمهمة أساسية، إلا أنه في محيط المعرفة التي تتصل بالوجود الفعلي، قد أصبح دور الرياضة ذاك تابعًا لغيره ولم تعد له السيادة على غيره؛ وهكذا نرى أن الخلط الذي يكتنف النظرية المنطقية اليوم، هو نتيجة طبيعية لمحاولات الإبقاء على صور النظرية المنطقية القديمة، بعد أن طرأ تغير أصيل على منهج البحث الذي هو وسيلتنا إلى اكتساب المعرفة وإلى اختبار معتقداتنا؛ وسنسوق الأمثلة على هذا الخلط آنًا بعد آن خلال الفصول القادمة؛ لكن لا بأس في أن نسوق الآن مثلًا واحدًا نوضح به ما نقول: وهو مثل نتناول به أمرًا بالغ الأهمية من الناحية المنطقية، ألا وهو طبيعة الكلي. إن المعنى الذي يعزوه المنطق القديم للقضايا الكلية والقضايا الجزئية متسق ولا يشوبه الغموض؛ فالقضايا الكلية إنما تدور حول الكائنات (الجواهر) التي هي كلات وجودية كاملة الكيان بذواتها في «الطبيعة» وبحكم تلك الطبيعة، وأما القضايا الجزئية فتدور حول الأشياء التي هي بطبيعتها غير كاملة تتناول جانبًا وتهمل جانبًا، لأنها أشياء معرضة للتغير؛ وكانت الأنواع هي تلك الكلات العنصرية التي تبتعث فاعلية نفسها بنفسها، وتنظم فاعليتها بنفسها، على حين تعتمد الأشياء الناقصة على سواها؛ كان ما يُعد كلًّا هو النوع المتحدد في الطبيعة، وهو السلف الذي خلف لنا ما نراه اليوم في النظرية المنطقية الحاضرة وأعني هذا الشيء الغريب الذي يسمونه «فئة» منطقية؛ وأما الأشياء الناقصة — لأنها غير كاملة — في الطبيعة فلا يمكن التحدث عنها إلا في تكثرها، لأنها هي نفسها مفككة الأوصال. ومع ذلك فالمنطق الأرسطي لو أُخذ بروحه بدل أن يُؤخذ بحرفيته، لوجدناه ذا دلالة هادية — من حيث أصوله وفروعه معًا — لما ينبغي أداؤه في المنطق في الموقف الراهن؛ فمن حيث الأصول نحن بحاجة إلى منطق يؤدي للعلم الحاضر والثقافة الحاضرة ما أداه أرسطو لعلم عصره وثقافته؛ ومن حيث الفروع نجد منطق أرسطو ذا دلالة هادية للمنطق الحاضر، في أنه شمل ببناء واحد موحد مضمونات الذوق الفطري والعلم — السائدين في عصره — في آنٍ واحد؛ وإن يكن أرسطو قد اتبع في ذلك التوحيد طريقة لا يجوز اتباعها اليوم؛ إذ لم يعد يجوز لنا اليوم أن نأخذ مضمونات وإجراءات الذوق الفطري والعلم باعتبارها أشياء محتومة بحكم طبيعة الأمور نفسها، وأن نعد أن تلك المضمونات والإجراءات في حالة الذوق الفطري لا تختلف عنها في حالة العلم إلا من حيث المرتبة والمنزلة الكيفيتان، التي تكون لهما في سلم كيفي ثابت؛ لأن ذلك التحديد الذي فرضه النظام الأرسطي على مضمونات الذوق الفطري من جهة والعالم من جهة أخرى، وعلى صورهما المنطقية، قد جبَّ إمكان ارتداد العلم إلى مجال الذوق الفطري، كما جبَّ إمكان أن تظل مواد الذوق الفطري ومناشطه مصدرًا لا ينقضي، تنبثق منه مشكلات وتصورات علمية جديدة؛ ذلك أن العلم لم يكن يستطيع فيما مضى سوى أن يقبل ما يقدمه وما يؤيده الذوق الفطري، ليصوغه صياغة تصله بالكائنات الثابتة التي هي قوام المعرفة العقلية العليا؛ فحاجتنا اليوم هي حاجة إلى منطق موحد يشمل بنظرته حركة الانتقال في الاتجاهين معًا بين الذوق الفطري والعلم. كانت ثقافة الذوق الفطري التي صِيغت قديمًا من طراز عالٍ؛ ففيما يختص بالمواطنين الأحرار — وأعني أولئك الذين شاركوا في الثقافة مشاركة حرة — كان الذي يسود تلك الثقافة ومقولات الانسجام الجمالي والفني، من معيار ونسبة وسلامة تخطيط واكتمال بناء؛ هذا إلى أن الأفكار الرئيسية في مجال العلم الفلسفي لم تكن إلا ترجمة — إلى المصطلح الفلسفي — للأفكار التي تسود الذوق الفطري في كل العصور: (١) فمقولة الجوهر هي انعكاس للفكرة القائلة بأن الأشياء قائمة في العالم على صورة ثابتة، وهي فكرة ليست مألوفة فحسب، بل هي كذلك أساسية في معتقدات الذوق الفطري كافة التي لم يصبها شيء من التغير نتيجة اتصالها بالعلم الحديث؛ وهذه هي الأشياء التي تدل عليها الأسماء الشائعة في استعمالنا اللغوي المألوف، (٢) ومقولة الأنواع الثابتة تقابل اعتقاد الذوق الفطري في الأنواع الطبيعية، التي يشتمل بعضها على بعضها الآخر، كما يستبعد بعضها بعضها الآخر؛ وهذه الأنواع الطبيعية عند الذوق الفطري لا تُجيز الانتقال من نوع إلى نوع، كما أنها لا تُجيز تداخل الأنواع؛ وإن الذوق الفطري العادي لَينظر إلى الأمر من وجهة نظره فإذا الدليل عنده على قيام الأنواع الطبيعية الثابتة وعلى قيام الأشياء ذوات الجوهر دليل قاطع؛ (٣) وما للذوق الفطري في كل ثقافة من أفكار ومعتقدات وأحكام، إنما يضبط سيرها أفكار غائية، أي غايات؛ وإذا استخدمنا لغة العصر الحديث قلنا إن سيرها تضبطه أفكارنا عن القيم؛ (٤) ينظر الذوق الفطري إلى عالم الأشياء وإلى العلاقات الاجتماعية على أسس لو نظمناها بالتفكير النظري، لأصبحت هي مذهب السلم المدرج من الرتب، أو هو التسلسل الذي تتفاوت درجاته؛ وما تمييزاتنا بين السافل والعالي، والدني والسني، والوضيع والشريف، وما يشبه ذلك من أضداد كيفية بين القيم، إلا مضمون معظم معتقدات ذوقنا الفطري التي لم تتحول بعد بتأثير العلم؛ إذ يُخَيَّل إلينا أنها مضمونة الصدق، لما نراه رؤية نحسب أن لا شك في وضوحها من طرائق بناء الأشياء التي نراها في الطبيعة وفي المجتمع الإنساني على حد سواء. وعندما أقول إن العلم الفلسفي — الذي كانت النظرية المنطقية جزءًا منه لا يتجزأ عنه — قد نظم هذه وأشباهها من معتقدات الذوق الفطري وأفكاره، فلست أعني أن العلم الفلسفي لم يكن إلا مرآة تعكس معتقدات الذوق الفطري وأفكاره فحسب، لأن فكرة قيام التفكير النظري بعملية التنظيم في ذاتها تنفي مثل هذا الرأي؛ فليس الأمر يقتصر على أن ما هو متضمن في الذوق الفطري تضمنًا لم يدركه الذوق الفطري نفسه قد أصبح صريحًا، بل يُضاف إلى ذلك ما قد طرأ على إطار المدركات من توسيع بعيد المدى بفضل إعمال الفكر في موضوعات لم يكن للذوق الفطري صلة بها؛ وفوق ذلك كله فإن حقيقة قيام الفكر بعملية التنظيم نفسها تتضمن ترتيبًا منظمًا لا عهد للذوق الفطري به؛ فمثلًا لم يكن الذوق الفطري ليستسيغ الفكرة القائلة بأن العالِم الفيلسوف هو أعلى منزلة بالقياس إلى ما يتناوله من موضوعات وما يقوم به من أوجه النشاط، من القائد العسكري ومن رجل السياسة؛ ولا كان ليستسيغ أن سعادة العالِم الفيلسوف من طبيعة إلهية بالقياس إلى السعادة المتاحة لغيره؛ ورغم ذلك فقد كانت هنالك أشياء مما تتضمنه الثقافة الآثينية، إذا ما رُتب بعضها مع بعض ترتيبًا منظمًا، اتخذت صورة هذه النتيجة. فها نحن أولاء قد عدنا إلى نفس النتائج التي انتهينا إليها في الفصل السابق؛ وهي أن موضوع العلم الحديث ومناهجه لا تتصل صلة القربى المباشرة بموضوع الذوق الفطري ومناهجه، كما كانت هذه قائمة حين تمت صياغة العلم والمنطق القديمين؛ فلم يعد العالم اليوم تنظيمًا لمعانٍ وطرائق سلوك تتمثل في معاني اللغة الجارية وفي تكويناتها الجميلة؛ ومع ذلك فنتائج العلم وتقنياته قد حوَّرت الذوق الفطري تحويرًا كبيرًا، بالقياس إلى علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقة الإنسان بالإنسان؛ فكما أننا لا نستطيع اليوم أن نفترض بأن نتائج العلم وتقنياته إن هي إلا التنظيم العقلي للمعاني وطرائق السلوك كما تتبدى في اللغة الجارية، فكذلك ليس في مستطاعنا الظن بأن الأولى لا ترتد بأثرها على الذوق الفطري فتغير منه. ومع ذلك فقد كان تأثير العلم في الظروف الفعلية التي يعيش الناس في ظلها ويعملون ويستمتعون ويتألمون، أكبر جدًّا من تأثيره (بغض النظر عن وسائله الفنية المادية) في عاداتهم التي اعتادوها في اعتناق معتقداتهم وفي القيام ببحوثهم وإن هذا لَيَصدق بصفة خاصة على مجالات النفع والمتعة التي لها في أنفسنا أعظم المكانة: مجالات الدين والأخلاق والقضاء والاقتصاد والسياسة؛ فإذا كنا نطالب بإصلاح المنطق، فنحن إنما نطالب بنظرية موحدة للبحث، نستطيع بفضلها أن نجعل الطريقة المعتمدة في البحث التجريبي الإجرائي التي هي طريقة البحث العلمي، نجعلها في متناول أيدينا؛ إذ نحن بصدد تنظيم مناهجنا المعتادة التي نستخدمها كلما تناولنا موضوعًا مما يقع في ميدان الذوق الفطري؛ وطريقة البحث التي نريدها في هذا الميدان هي طريقة تنتهي بنا إلى نتائج، وتؤدي بنا إلى تكوين اعتقادات واختبار صدقها؛ وسنجعل هذا الأسلوب المشترك في البحث (المشترك بين العلم وموضوعات الذوق الفطري) وحقيقة طبيعته موضوع المناقشة في الفصل الآتي.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/6/
أسلوب البحث
في الفصل الأول عرضنا الفكرة الرئيسية لهذا الكتاب، وهي أن الصور المنطقية لا تنشأ بالنسبة للموضوع الذي ندرسه، إلا بعد أن يخضع هذا الموضوع لبحث نملك وسائل ضبطه؛ وكذلك عرضنا في ذلك الفصل بعض ما تتضمنه هذه الفكرة بالنسبة لطبيعة النظرية المنطقية؛ وفي الفصلين الثاني والثالث بسطنا الأسس — التي لا يَعتمد بعضها على بعض — من بيولوجية وثقافية مما يسوغ لنا أن نذهب إلى أن المنطق نظرية تقوم دراستها على موضوع مستند إلى الخبرة وإلى الطبيعة؛ وفي الفصل الرابع فصَّلنا الحديث في موضوعنا من جانبه الذي يتصل بالعلاقات القائمة بين منطق الذوق الفطري والعلم، ثم ناقشنا في الخامس المنطق الأرسطي من حيث هو صياغة منظمة لِلُغة الحياة اليونانية، حين نأخذ هذه اللغة من الناحية التي تجعلها تعبيرًا عن معاني الثقافية اليونانية وعن الدلالة التي نعزوها إلى الوجود الطبيعي في مختلف صوره؛ وقد كان رأينا خلال هذه الفصول كلها، هو أن البحث له هيكل مشترك أو نمط مشترك، رغم اختلاف الموضوعات التي تناولها، وما ترتب على هذا الاختلاف من اختلاف آخر في الوسائل التقنية التي استخدمها؛ كما ذهبنا كذلك إلى أن هذا الهيكل المشترك يصدق على الذوق الفطري وعلى العلم على حد سواء، على الرغم من أن الجوانب التي يُوليها كل منهما باهتمامه تختلف اختلافًا بعيدًا في أحد الوجهين عنه في الآخر، بسبب ما بين طبيعة المشكلات التي يتعرض لها كل منهما من تباين؛ وها نحن أولاء نتناول بالنظر ذلك النمط المشترك. وإن قولنا عن الخصائص الصورية إنها تنشأ للموضوع الذي نكون بصدد دراسته بفضل خضوع ذلك الموضوع لضروب معينة من الإجراء العملي، أقول إن قولنا هذا أمر مألوف لنا في ميادين معينة، وإن لم تكن الفكرة المقابلة لهذه الحقيقة مألوفة في المنطق؛ وإنا لنسوق مثلَيْن واضحَيْن نستمدهما من الفن ومن القانون؛ ففي الموسيقى والرقص والتصوير والنحت والأدب وسائر الفنون الجميلة، نرى موضوعات خبرتنا اليومية تتحول من حيث صورتها بتطوير الصور التي يتولد عنها نتائج معينة لطرق الأداء وطرق الصناعة في مواد الفن الجميل؛ وكذلك نرى أن المواد الخام التي تصوغها القوانين القضائية في المعاملات التي يصادفها الناس أفرادًا وجماعات في أوجه نشاطهم اليومي، وهي معاملات يدخل فيها الناس بغض النظر عن القانون؛ حتى إذا ما تناول التشريع نواحي خاصة وجوانب خاصة من هذه المعاملات بالصياغة القانونية، نشأت عندئذٍ أفكار بعينها مثل المخالفة والجريمة والجنحة والعقود وما إلى ذلك؛ لكن هذه الأفكار الصورية إنما تنشأ عن المعاملات الجارية، ولا تفرض عليها من مصدر أعلى، ولا من أي مصدر خارجي قبلي؛ غير أنها إذا ما شُكِّلت أصبحت أدوات للتشكيل، لأنها تنظم الطرائق الصحيحة. التي يجري الناس على غرارها في أوجه نشاطهم، تلك الأوجه التي كانت في الأصل مصدرًا لها. كل هذه الأفكار القضائية الصورية إجرائية في طبيعتها؛ إذ إنها تصوغ وتحدد طرائق الإجراء العملي من جانب أولئك الذين يدخلون في معاملات يشترك فيها عدد من الناس أو من الجماعات باعتبارهم «أطرافًا»؛ كما أنها تصوغ وتحدد طرائق الإجراء العملي التي يؤديها أولئك الذين لهم الحق التشريعي في أن يقرروا إذا كانت الصور المتفق عليها قد عُمل بها أو لم يُعمل، مُضافًا إلى ذلك النتائج الفعلية التي تترتب على التقصير في مراعاة تلك الصور؛ على أن هذه الصور القضائية المشار إليها ليست ثابتة ولا أزلية؛ فهي تتغير — ولو أنها تتغير ببطء عادة — مع التغيرات التي تطرأ على المعاملات الجارية التي يتعامل الأفراد والجماعات على أساسها، وكذلك مع التغيرات التي تطرأ على النتائج المتولدة عن تلك المعاملات؛ فمهما قيل عن الفكرة القائلة بأن الصور المنطقية إنما تتعلق بمواد من الوجود الفعلي تعلقًا يجيء نتيجة الرقابة الضابطة التي نفرضها على عمليات البحث لكي تؤدي أغراضها المقصودة منها، أقول إنه مهما قيل عن هذه الفكرة من أنها افتراضية، فهي فكرة تصف شيئًا ما كائنًا في عالم الوجود الفعلي؛ فها هي ذي بعض المجالات (كمجال القضاء) تنهض برهانًا على أن نشأة الصور ونموها يأتيان نتيجة للإجراء العملي؛ فلسنا نختلقها اختلاقًا جزافًا بالنسبة للصور المنطقية. وليس وجود البحوث موضعًا لشك؛ فهي متغلغلة في كل ميادين الحياة، وفي كل وجه من وجوه الميدان الواحد من تلك الميادين؛ كما ينفك الناس في حياتهم اليومية يختبرون الأشياء؛ وهم يُقلِّبون الأشياء في أذهانهم تقليبًا؛ ويستدلون ويُصدرون أحكامهم بصورة «طبيعية» كما يحصدون ويبذرون البذور ويُنتجون السلع ويتبادلونها؛ وعملية البحث من حيث هي ضرب من السلوك، يمكن أن نتناولها بالدراسة الموضوعية كما نتناول هذه الضروب الأخرى من السلوك. ولما كانت عملية البحث ونتائجها تدخل في تدبيرنا أمور الحياة كافة بطريقة حاسمة وذات صلة وثيقة بما تتصل به، كانت دراستنا لأمور الحياة هذه تستلزم — لكي تكون دراسة وافية — أن نلحظ كيف تتأثر بطرائق البحث ووسائله التي تكون في متناول أيدينا؛ وعلى هذا فحتى لو غضضنا النظر عن نظريتنا الخاصة التي نعرضها هنا عن الصور المنطقية، فإن دراسة عملية البحث من حيث هي مجموعة من وقائع موضوعية، أمر بالغ الأهمية، من الناحية العملية ومن الناحية الفكرية على حدٍّ سواء؛ فمادة هذه الوقائع تمد نظرية الصور المنطقية بمادة للدراسة لا تقتصر على كونها موضوعية وكفى، بل هي موضوعية على نحو يمكن المنطق من اجتناب الأخطاء الثلاثة التي كانت أهم ما يميز تاريخه. فبفضل عنايته بموضوع يمكن مشاهدته في الخارج، بحيث نتخذه مرجعًا نحتكم إليه في تجربة النتائج النظرية التي نصل إليها وفي اختبارها، يمكننا أن نتخلص من اعتماده على الحالات والعمليات الذاتية و«العقلية». ونستطيع أن نتبين الصور في طبيعتها وفي وجودها الفعلي المتميزين؛ وبهذا لا يجد المنطق نفسه ملزمًا — كما وجد المنطق «التجريبي» — على صورته التي عرفناها في تاريخه — نفسه مضطرًّا — إلى أن يرد الصور المنطقية إلى مجرد نسخ من المواد التجريبية التي سبقت بوجودها وجود تلك الصور؛ فكما يمكن للصور الفنية وللصور القضائية أن تستقل وحدها بأن تكون موضعًا للمناقشة وللنمو، فكذلك تكون الحال مع الصور المنطقية، على الرغم من أن «الاستقلال» في هذه الحالة سيكون وسطًا بين طرفين، لا مرحلة ختامية كاملة لكن شأنها هو شأن تلك الضروب الأخرى من الصور، من حيث نشأتها أصلًا عن مجال الخبرة، وأنها إذا ما تم تكوينها عادت فأحدثت طرائق جديدة نتناول بها مادة الخبرة السابقة في معالجتنا العملية لها، وهي طرائق تحور نفس المادة التي عنها نشأت. وتتحرر النظرية المنطقية من الكائنات الغيبية والمفارقة و«الحدسية». ومتى درسنا مناهج البحث ونتائجه من حيث هي حقائق موضوعية، تغير تأويلنا للفارق الذي طالما أقاموه بين ملاحظة وتسجيل الطرائق التي يفكر بها الناس فعلًا، واشتراط الطرائق التي يجب عليهم أن يفكروا بها، أقول إن تأويلنا لهذا الفارق سيتغير عندئذٍ بحيث يصبح جد مختلف عن التأويل المأخوذ به؛ عادة إذ التأويل المعتاد يقوم على أساس التفرقة بين ما هو نفسي وما هو منطقي واعتبار ما هو منطقي مؤلَّفًا من «معايير» جاءتنا من مصدر ما بعيد كل البعد ومستقل كل الاستقلال عن «الخبرة». فمن المعلوم للناس جميعًا أن ثمة اليوم أساليب شائعة في زراعة الأرض، هي نفسها التي كانت تستخدم في الماضي بصفة عامة، وأن هذه الأساليب إذا ما قُورنت في نتائجها بالأساليب التي استحدثتها الطرق العملية التي قد تم بالفعل استخدامها واختبارها، أقول إن تلك الأساليب الأولى إذا ما قُورنت بهذه الأخيرة، جاءت المقارنة في غير جانبها إلى درجة بعيدة؛ فإذا ما جاء خبير ينبئ مزارعًا أنه ينبغي له أن يفعل كذا وكيت، لم يكن بذلك مقيمًا أمام المزارع مثلًا أعلى هبط إليه به من السماء؛ بل إنه بذلك يزيده علمًا بالطرائق التي جُربت وبرهنت على نجاحها في حصولها على نتائجها؛ وعلى نحو شبيه بهذا نستطيع أن نوازن بين صنوف مختلفة من عمليات البحث المستخدمة بالفعل أو التي كانت مستخدمة، نوازنها من حيث ما نبذله فيها من جهد وما نجده فيها من كفاية في وصولنا إلى نتائج مقبولة؛ فنحن نعلم أن بعض مناهج البحث أفضل من سواها، تمامًا كما نعلم أن بعض أساليب الجراحة أو الزراعة أو رصف الطرق أو الملاحة أو غيرها أفضل من سواها، ولا يلزم عن ذلك في أية حالة من الحالات المذكورة أن تكون الطريقة «الأفضل» بالغة حد الكمال الأمثل؛ أو أن تكون هي الطريقة التي تقنن طريق السير، أو هي الطريقة «المعيارية» لاتساقها مع هذه الصورة المطلقة أو تلك؛ بل إن الطرائق المفضلة مفضلة لأنها هي التي دلت الخبرة حتى الوقت الحاضر على أنها الطرائق الممكنة لتحقيق نتائج معينة؛ ووضع هذه الطرائق في صورة مجردة يمدنا بمعيار (نسبي) أو معدل نحتذيه في مشروعاتنا التالية. فالتماسنا نموذجًا للبحث لا يكون — بناءً على ما ذكرناه — أمرًا يضرب في الظلام أو يخبط بغير ضابط؛ بل إننا لَنملك زمامه بالمراجعة ووسائل الضبط مهتدين في ذلك بمعرفتنا لأنواع البحث التي نجحت والتي لم تنجح، فنقارن بين مختلف المناهج — كما أسلفنا القول — مقارنة تنتهي بنا إلى نتائج مقبولة عند العقل، أي نتائج معقولة؛ لأننا عن طريق الموازنة والمقابلة نستوثق كيف ولماذا أمدتنا وسائل وأدوات معينة بنتائج جائزة القبول، بينما لم تمدنا وسائل وأدوات أخرى ولم تكن لتستطيع أن تمدنا، ونقصد بعدم الاستطاعة هنا أن في طبائعها ما يستوجب مفارقة بين الوسائل المستخدمة من جهة والنتائج المدركة من جهة أخرى. فالموقف الأصلي اللامتعين لا يقتصر على مجرد كونه «مفتوحًا» للبحث، بل يضيف إلى ذلك أنه مفتوح بالمعنى الذي يجعل مقوماته لا يرتبط بعضها ببعض؛ وأما الموقف المتعين — من جهة أخرى — من حيث هو نتيجة انتهى إليها البحث، فهو مغلق، وربما جاز لنا وصفه بأنه موقف مكتمل التكوين، أو بأنه «عالم من خبرة»؛ ولفظتا «منضبط أو موجه» الواردتان في الصيغة المذكورة تشيران إلى كون البحث يُعد ناجحًا في أية حالة معينة بالدرجة التي تكون بها الإجراءات العملية الداخلة فيه قد اختتمت سيرها فعلًا باستحداث موقف فعلي موحد قائم في الوجود الخارجي على أننا خلال سيرنا في الخطوات الوسطى بين طرفَي البداية والختام، أي في الخطوات التي يتم بها تحويل الموقف اللامتعين وانتقاله من حال إلى حال، نستخدم بين وسائلنا خطوات فكرية نستعين فيها باستعمالنا للرموز؛ وبعبارة نستخدم فيها المصطلح المنطقي السائد، نقول إن القضايا، أي الحدود وما يربطها من علاقات، إنما تشترك في الأمر اشتراكًا تُوجبه طبيعته. إن لفظتَيْ بحث وتساؤل مترادفتان إلى حد ما؛ ذلك أننا نقوم بالبحث حين نسأل، وكذلك نقوم بالبحث حين نلتمس أي شيء يمدنا بجواب عن سؤال سألناه؛ وعلى ذلك فمن طبيعة الموقف اللامتعين ذاتها، أعني الموقف الذي يستثير فينا القيام ببحث، أن تكون موضعًا لتساؤل؛ أو بعبارة نستخدم فيها الوجود بالفعل بدل الوجود بالقوة، نقول إن من طبيعة الموقف اللامتعين أن يكون مبهمًا مقلقلًا مزعزعًا؛ على أن الصفة المميزة للعنصر الذي يتخلل مواد الموقف كلها، والذي يربطها معًا في موقف واحد، ليست هي صفة الإبهام عامة وبغير تحديد، بل هي صفة من التشكك الفريد الذي يجعل الموقف هو ما هو على وجه التحديد والتفريد؛ وهذه الصفة الفريدة هي التي تستثير القيام بالبحث المعين الذي نقوم به، وهي نفسها كذلك التي تكون عامل الضبط الذي يضبط سير إجراءاته الخاصة به، وإلا كان أحد إجراءات البحث مساويًا لأي إجراء سواه في احتمال الوقوع وفي احتمال أن يكون ذا أثر منتج. فما لم يتميز الموقف بمميز فريد حتى في حالة عدم تعينه، سادت الأمر حالة من الفوضى الشاملة، واتخذت استجابتنا له عندئذٍ صورة سلوكية عمياء متخبطة؛ ولو عبرنا عن ذلك بعبارة تصف حالة الشخص المستجيب، قلنا إننا عندئذٍ «نفقد صوابنا»؛ ونستطيع أن نصف المواقف اللامتعينة وصفًا يميزها بكلمات عدة، فنقول عنها إنها مضطربة، مزعزعة، غامضة، مختلطة، مليئة بالاتجاهات المتضاربة، منبهمة، وما إلى ذلك. وكل حالة من حالات هذا التفاعل هي عملية تمتد على فترة من الزمن، وليست هي بالحادث الواحد يقع كما لو كان قطاعًا عرضيًّا يتم في لحظة واحدة من لحظات الزمن؛ فإذا كان الموقف الذي يحدث فيه هذا التفاعل غير متعين فما ذلك إلا من حيث ما يترتب على التفاعل من نتائج؛ فإذا قلنا عن الموقف إنه مختلط علينا أمره، كان معنى ذلك أن نتائج التفاعل بيننا وبينه لا يمكن التنبؤ بها قبل وقوعها؛ ونقول عنه إنه غامض حين يحتمل مجرى حوادثه وقوع نتائج لا يمكن تصورها تصورًا واضحًا؛ ونقول عنه إنه ذو عناصر متضاربة حين يتجه إلى استثارة استجابات لا يتسق بعضها مع بعض، فحتى لو كانت ظروف الوجود الخارجي متعينة تعينًا مطلقًا في ذاتها وبذاتها، فهي لامتعينة من حيث دلالتها، أعني أنها لامتعينة من حيث تسييرها وتوجيهها لما يكون عليه تفاعلها مع الكائن العضوي؛ وذلك لأن استجابات الكائن العضوي التي تشترك في إحداث الحالة التي تنشأ في لحظة تالية من الزمن، نتيجة «مترتبة» على ما قد حدث من تفاعل، أقول إن تلك الاستجابات هي كذلك فعلية الوجود كالظروف البيئية سواء بسواء. فوضع المشكلة المباشر — إذن — إنما يتصل بنوع الاستجابات التي يُنتظر للكائن العضوي أن يستجيب بها؛ إنه يتصل بالتفاعل الذي ينشأ بين استجابات الكائن العضوي والظروف البيئية في سيرها نحو نتيجة تترتب على ذلك التفاعل في الوجود الفعلي؛ فلسنا نقول جديدًا إذ نقول إن الأشياء في أي موقف مضطرب ستنتهي إلى هذه الحالة أو تلك مما يختلف باختلاف الفعل الذي نؤديه؛ فلن يظفر المزارع بالغلة ما لم يضطلع بالزرع والحرث؛ والقائد يكسب الموقعة الحربية أو يخسرها بناءً على الطريقة التي يسلكها إزاءها وهكذا؛ فلا الغلة ولا الحرث، ولا نتيجة المعركة ولا طريقة تسييرها حوادث «عقلية»؛ وإنما يصبح تفاعل الكائن العضوي بحثًا إذا ما تنبأ ذلك الكائن بما عساه أن يحدث في الوجود الفعلي من نتائج؛ أي إنه لا يصبح بحثًا إلا إذا فحص الظروف البيئية من حيث إمكاناتها، ثم اختار أوجه النشاط التي يستجيب بها لتلك الظروف، ورتبها ترتيبًا من شأنه أن يحقق بالفعل بعض تلك الإمكانات دون غيرها، بحيث ينشأ عنها في النهاية موقف في الوجود الخارجي، وهكذا يكون حل الموقف اللامتعين أفعالًا تؤدَّى وإجراءات تُجرَى؛ فإذا وُجِّه البحث توجيهًا موفقًا، كانت نتيجته النهائية ذلك الموقف الموحد الذي ذكرناه. بيد أن وصفنا لموقفٍ ما بأنه مشكل، لا يسير بالبحث شوطًا بعيدًا، فما ذلك الوصف إلا خطوة أولى في خلق مشكلة للبحث؛ إذ إن المشكلة ليست من قبيل المهمة التي تؤدَّى، يفرضها من يؤديها فرضًا على نفسه، أو يفرضها عليه آخرون، كالمسألة الحسابية في واجبات التلميذ المدرسية؛ بل المشكلة هنا إنما تمثل ذلك التحول الناقص الذي يُحدثه البحث في موقف مشكل بحيث يُصيِّره موقفًا متعينًا؛ وإنه لمن الأقوال الشائعة ذوات الدلالة ما يُقال من أن المشكلة إذا ما أُحسن عرضها فقد حُلت إلى نصفها؛ ففي اللحظة التي ينكشف لنا فيها ماذا تكون المشكلة أو المشكلات التي يقدمها موقف مشكل بغية أن تُوضع موضع البحث، نكون عندئذٍ قد قطعنا في البحث شوطًا ليس بالقصير؛ ولو أخطأنا المشكلة التي ينطوي عليها الموقف المشكل، عملنا على أن يجيء البحث التالي غير ذي علاقة بما نحن بصدد بحثه، أو عملنا على أن يضل البحث سواء السبيل؛ فنحن بغير مشكلة إنما نكون بمثابة من يخبط في الظلام خبط الأعمى؛ وعلى الطريقة التي نتصور بها المشكلة يتوقف ما نأخذ به من مقترحات معينة وما لا نأخذ، وأي المعطيات نختار وأيها ننبذ؛ فطريقة تصورنا للمشكلة هي المعيار الذي نحكم به إن كان الفرض الذي نفرضه ومدركاتنا العقلية التي نكونها متصلة بحل المشكلة القائمة أو غير متصلة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإننا إذا أقمنا مشكلة لا تمت بصلة بموقف فعلي، فإنما نبدأ سيرنا في عمل ميت، وليس يقلل من مواته هذا أن نراه «عملًا نشيطًا»؛ فما المشكلات التي تدور حول نفسها إلا مجرد تعلات نتعلل بها لنبدو كأنما نحن إزاء نشاط عقلي، إن كان يشبه في ظاهره النشاط العلمي، فهو لا يشبهه في حقيقة فحواه. إن العبارة التي نصف بها موقفًا مشكِلًا وصفًا يصوره على هيئة مشكلة، لا يكون لها معنًى إلا إذا كانت المشكلة المصورة بها — بحكم حدود العبارة نفسها — تشير إلى حل ممكن؛ فكما أن المشكلة إذا ما أُحسن عرضها، كانت بسبب هذا العرض الحسن نفسه في طريقها إلى الحل، فكذلك تحديدنا لمشكلة حقيقية هو نفسه بحث في طريق السير؛ وحيثما تلمع في ذهن الباحث مشكلة وحلها المحتمل، يكون قد حدث لهذا الباحث بالفعل قبل ذلك أن اكتسب معرفة كثيرة وتم له هضمها؛ فإذا زعمنا — قبل الأوان المناسب — أن المشكلة التي مثلت أمام الذهن محددة وواضحة، أدى ذلك الزعم بالبحث التالي لها أن يسير على درب خاطئ؛ ومن ثَم ينشأ لدينا هذا السؤال: كيف نحكم ضبط المشكلة الحقيقية عند تكوُّنها إحكامًا يكفل للأبحاث التالية أن تسير نحو حل لها؟ وأولى خطوات الإجابة عن هذا السؤال هي أن نعلم بأن الموقف إن كان غير متعين على الإطلاق، كان مُحالًا علينا أن نحوله إلى مشكلة ذات مقومات محددة المعالم؛ وإذن فالخطوة الأولى هي أن نستخرج من الموقف القائم تلك المقومات التي تكون مقررة الأوضاع من حيث هي مقومات؛ فمثلًا لو دق صوت ينذر بشبوب النار في قاعة مزدحمة، كان هنالك عندئذٍ أشياء كثيرة غير متعينة مما يتصل بأنواع النشاط التي يجوز أن تنتج نتيجة مناسبة للموقف؛ فقد يجوز أن يؤدي الأمر بأحد الحاضرين إلى النجاة، كما يجوز له أن يُداس ويحترق؛ ومع ذلك فللنار ما يميزها من الخصائص المعروفة؛ فهي — مثلًا — معلومة المكان، والمماشي وأبواب الخروج معلومة الأوضاع؛ وما دامت هذه الأشياء مقررة أو محددة بالقياس إلى الوجود الخارجي، كانت الخطوة الأولى بعدئذٍ في إقامة مشكلة هي أن نضع تلك الأشياء في إطار المشاهدة وضعًا معلومًا؛ وسيكون إلى جانبها عوامل أخرى هي من المقومات المشاهدة أيضًا، على رغم أنها ليست كالسابقة من حيث ثباتها الزمني والمكاني؛ مثال ذلك سلوك وحركات سائر الأفراد الحاضرين؛ وكل هذه الظروف المشاهدة مأخوذة معًا تكوُّن «وقائع الحالة»؛ وهي تكوُّن عناصر المشكلة لأنها هي الظروف التي لا بد أن نحسب حسابها أو أن نأخذها بعين الاعتبار في أي حل يطوف ببالنا مما يتصل بالمشكلة القائمة. إن الفكرة بادئ ذي بدء تكون توقعًا لشيء يجوز حدوثه، أي إنها تشير إلى أمر ممكن؛ فحين يُقال — وهو أحيانًا يُقال — بأن العلم هو تنبؤ، يكون التوقع الذي هو قوام كل فكرة من حيث هي فكرة، مبنيًّا على مجموعة من مشاهدات موجهة، وعلى طرائق في تأويل تلك المشاهدات مما يكون منظمًا في أفكارنا؛ ولما كان البحث تحديدًا لمشكلة ولحلها الممكن، تحديدًا يسير قدمًا، كانت الأفكار متفاوتة الدرجة وفقًا للمرحلة التي نكون قد بلغناها من مراحل البحث؛ فهي أول الأمر تكون غامضة، فيما عدا الأمور المألوفة لنا إلفًا شديدًا؛ إذ هي أول أمرها تعرض لنا على صورة إيحاءات، فترى هذه الإيحاءات تثب أمام الذهن وثوبًا، أو هي تلمع في الذهن، أو تعبر عبورًا، وهي في هذه المرحلة قد تصبح حوافز لنا أن نوجه نشاطنا في ضرب معلوم من السلوك، لكنها مع ذلك لا تكون لها عندئذٍ صفة منطقية؛ فلئن كانت كل فكرة تنشأ أولًا على صورة الإيحاء، فليس كل إيحاء فكرة، إنما يصبح الإيحاء فكرة حين يُفحص بالقياس إلى صلاحيته في الأداء العملي، أعني حين يُفحص من حيث هو وسيلة لفض موقف قائم. ويتخذ هذا الفحص صورة التدليل، الذي بفضله نستطيع أن نقدر قوة المعنى وقيمته، المعنى الذي بات ماثلًا أمام أذهاننا، نقدر قوته وقيمته بالقياس إلى كفايته الأدائية، أكثر مما كنا نستطيع ذلك عند بداية سيرنا؛ على أن الاختبار النهائي الذي يدلنا على أن للمعنى هذه الخصائص المذكورة، إنما يكون حين يقوم المعنى فعلًا بأداء مهمته، أعني حين نُدخله في عالم الإجراء العملي لينشئ لنا — معتمدًا على المشاهدات — وقائع أخرى لم تكن قد شُوهدت من قبل، وهو بعدئذٍ يقوم بتنظيم هذه الوقائع الجديدة مع سواها في كل واحد متسق الأجزاء. ولما كانت الإيحاءات والأفكار التي تعرض لنا، تتعلق بما ليس ماثلًا أمامنا في الوجود الخارجي؛ كان لا بد للمعاني المتضمنة فيهما أن تُوضع في رموز؛ فبغير رمز لا تكون ثمة فكرة؛ والمعنى الذي لا يجد قط الجسم الذي يستقر فيه، لا يمكن الإبقاء عليه أو استخدامه؛ وما دام الكائن من كائنات الوجود الخارجي (الذي يكون كائنًا بالفعل) هو الذي يُتخذ دعامة وأداة لمعنًى ما، فيصبح بهذا رمزًا، بدل أن يقتصر على كونه — في هذا السياق — مجرد كائن قائم في الوجود الطبيعي، فإن المعاني أو الأفكار المجسدة في الكائنات (باعتبار هذه الكائنات رموزًا لها) يمكن أن تكون موضع نظر موضوعي وتطور؛ وإذن فليس قولنا «ينظر إلى فكرة ما» مجرد مجاز. وقد لقيت «الإيحاءات» من النظرية المنطقية قليلًا من الاعتبار؛ مع أنها على الرغم من كونها حقًّا حين لا تزيد على عبورها في الذهن عبورًا، نتيجة لقيام الكيان العضوي بوظائفه النفسية الجسدية، لا تكون عندئذٍ منطقية، إلا أنها مع ذلك هي الشروط التي لا بد من توفرها، وفي المادة الأولية في الوقت نفسه، لقيام الأفكار المنطقية؛ غير أن نظرية التجريبية التقليدية قد ردتها — كما أشرنا إلى ذلك من قبل — إلى نسخ عقلية للأشياء المادية. وزعمت أنها — في حد ذاتها — هي نفسها الأفكار؛ وبهذا أنكرت الوظيفة التي تؤديها الأفكار في توجيه المشاهدة وفي التثبت من الوقائع المتصلة بما نكون بصدده؛ وأما المدرسة العقلية فقد رأت — من جهة أخرى — رؤية واضحة أن «الوقائع» وهي بعيدة عن الأفكار تافهة؛ وأن تلك الوقائع لا تستمد أهميتها ودلالتها إلا حين تكون على صلة بالأفكار، ولكن المدرسة العقلية مع ذلك قد فاتها أن تتنبه لما لهذه الأفكار من طبيعة إجرائية وظيفية؛ ومِن ثَم جعلت الأفكار مساوية للبناء النهائي الذي هو قوام «الواقع في حقيقته القائمة»؛ ولقد كانت عبارة «كانت» التي يقول فيها عن الأفكار والواقع حين ينفصل أحد الجانبين عن الآخر إن «الإدراكات الحسية عندئذٍ تكون عمياء والإدراكات العقلية تكون فارغة» دالة على نظرة منطقية عميقة ونافذة؛ ولكن هذه النظرة النافذة — مع ذلك — قد شُوِّهت من أساسها حين ظن أن مضمونات الإدراك الحسي، ومضمونات الإدراك العقلي قد جاءتا أصلًا من مصدرين مختلفين، ولذلك فقد احتاجتا إلى فعل ثالث — هو فعل الفهم التركيبي — ليضمهما معًا. وحقيقة الواقع المنطقي هي أن المواد الحسية والمواد العقلية قد نشأتا مرتبطتين معًا ارتباطًا وظيفيًّا، على نحو يجعل الأولى تحدد المشكلة وتصفها، بينما تقدم الثانية طريقة ممكنة لحلها؛ فكلتاهما تحديد يطرأ على البحث ويفرضه البحث، عندما يتناول هذا البحث الموقف المشكل الأصلي، الذي كان من شأن صفته الكيفية المتغلغلة في كيانه كله أن تضبط نشأتهما وفحواهما؛ وكلتاهما تُقاس في النهاية بقدرتهما على العمل معًا بحيث تنتهيان إلى موقف موحد حل إشكاله؛ فإذا نظرنا إليهما من حيث هما أمران متميزان أحدهما عن الآخر، فما ذاك إلا لنجعلهما تمثلان تقسيمًا في الاختصاص من الناحية المنطقية. ويمكن تقدير النقطة التي أشرنا إليها تقديرًا لا يحتاج إلى إنعام النظر، إذا نظرنا إليها من حيث علاقتها بالتدليل العلمي؛ فلا نكاد نلمح بالذهن فرضًا علميًّا ونأخذ به، حتى نتناوله بالتطوير من حيث صلته بالمدركات العقلية الأخرى، إلى أن يتخذ صورة تمكنه من الإيحاء لنا بتجربة، ومن توجيهنا في القيام بتلك التجربة، التي من شأنها أن تكشف لنا الغطاء عن الظروف الدقيقة التي يكون لها أقصى ما يمكن من القوة في الجسم إن كان لنا أن نقبل ذلك الفرض العلمي أو أن نرفضه؛ أو ربما دلتنا التجربة على التحويرات التي لا بد من إدخالها على الفرض العلمي لكي يصبح ممكن التطبيق، أعني لكي يصبح مناسبًا لتأويل وتنظيم وقائع الحالة التي نكون بصددها؛ وقد يحدث في مواقف كثيرة مألوفة أن يكون المعنى الذي نعزوه للموقف لكونه أشد المعاني صلة به، قد تحدد بسبب ما قد طرأ من تحويرات على التجارب التي أجريت في حالات سابقة، حتى ليصبح ذلك المعنى قريبًا من الذهن قربًا يتيح لنا أن نعزوه إلى الموقف الخاص به بمجرد حدوثه؛ أما الفكرة أو الإيحاء الذي لا يتطور على أساس مجموعات المعاني التي ينتمي إليها، فهو لا يؤدي — بطريق غير مباشر، إن لم يكن بطريق مباشر — إلا إلى استجابتنا له في سلوك ظاهر؛ ولما كانت هذه الاستجابة تنهي عملية البحث، لم يكن هنالك عندئذٍ من بحث وافٍ في المعنى الذي نستخدمه إذ نقرر أمرنا بالقياس إلى الموقف الذي نكون إزاءه، ولهذا فإن النتيجة — من هذه الناحية — تكون قائمة على غير أساس منطقي. لقد أسلفنا القول بأن وقائع الحالة المشاهدة، والمضمونات الفكرية التي تتخذ صورة أفكار، هما جانبان يتصل أحدهما بالآخر، من حيث هما — على التوالي — توضيح للمشكلة المتضمنة في تلك الحالة، واقتراح بحل ممكن لها؛ ولذلك فهما قسمان وظيفيان في أداء البحث لعمله؛ أما الوقائع المشاهدة بما تقوم به من تحديد للمشكلة ووصفها، فهي كائنة في الوجود الخارجي؛ وأما مادة المضمون الفكري فليست بذات وجود فعلي في الخارج؛ فكيف إذن يتاح لهما أن يتعاونا على فض موقف قائم في الوجود الفعلي؛ إنه لسؤال لا جواب له ما لم نعترف بأن الوقائع المشاهدة والأفكار الماثلة في الذهن كليهما إجرائي؛ فالأفكار إجرائية بكونها تشترط وتوجه ما عسانا أن نقوم به من إجراء مشاهدات أخرى؛ فهي إذن بمثابة مقترحات وخطط تَرسم لنا طرائق الفعل في الظروف القائمة لعلها تُلقي لنا الضوء على وقائع جديدة، ثم تُعيننا بعدئذٍ على ربط الوقائع المختارة كلها في كل واحد ملتئم. ثم ماذا نعني بقولنا عن الوقائع إنها إجرائية؟ نعني — من الناحية السلبية — أنها ليست مكتفية بذاتها ولا هي كاملة في ذاتها؛ بل إنها لتُختار وتُوصف — كما رأينا — ابتغاء غرض مقصود، ألا وهو وضع المشكلة المتضمنة على نحو يجعل مادتها تدل على معنًى له علاقة بفض الإشكال القائم من جهة، ويُعين على اختبار قيمته وسلامته من جهة أخرى؛ ففي البحث ذي الخطة المدبرة، تُختار الوقائع وتُرتب لغرض صريح، وهو أن تُؤدَّى هذه المهمة؛ فليست هي مجرد نتائج تنجم من إجراءات المشاهدة التي نجريها بوساطة أعضاء الحس في أجسامنا، وما يساعدها من أدوات صناعية؛ بل هي وقائع بصفاتها الخاصة وبأنواعها الخاصة التي قُصد بها أن ترتبط إحداها بالأخرى ارتباطات معينة نتطلبها بغية الوصول إلى نهاية معينة؛ ولذلك ترانا نُسقط منها ما نجده غير مرتبط بغيره من تحقيق في تلك النهاية المقصودة، لنلتمس سواها مما يعين على ذلك؛ وما دامت الوقائع ذات عمل تؤديه، فهي بالضرورة إجرائية؛ وعملها هو أن تنهض أمامنا شواهد، وصفتها هذه من حيث هي شواهد إنما تتقرر لها على أساس قدرتها على تكوين كلٍّ منظم يستجيب للإجراءات التي تُمليها الأفكار التي تستحدثها وتؤيدها تلك الوقائع؛ فلو كانت «وقائع الحالة» نهائية وكاملة في ذاتها، لو كانت بغير قوة إجرائية خاصة في فض الموقف المشكل، لما استطعنا أن نتخذها شاهدًا على شيء. وتظهر القوة الإجرائية للوقائع حين نعلم أن ليس لواقعة قوة الشاهد وهي بمفردها؛ إذ الوقائع لا تكون شواهد واختبارات لفكرة ما، إلا بمقدار ما هي قادرة على أن تنتظم بعضها مع بعض؛ ولا يتم بينها هذا التنظيم إلا من حيث هي متفاعلة بعضها ببعض؛ فحين يكون الموقف المشكل من طراز يتطلب بحوثًا واسعة من أجل فضه، تتدخل في الأمر سلسلة من تفاعلات؛ فطائفة من الوقائع المشاهدة تشير إلى فكرة تمثل حلًّا ممكنًا؛ فتعود هذه الفكرة بدورها إلى استحداث مشاهدات أخرى، فيرتبط بعض الوقائع التي شوهدت هذه المرة بوقائع سبقت مشاهدتها من قبل، ارتباطًا يمكِّنها من استبعاد أشياء مشاهدة أخرى من حيث إمكان اتخاذها شواهد؛ وهذا التنظيم الجديد للوقائع قد يوحي بفكرة معدلة (أي بفرض علمي) تستحدث مشاهدات جديدة، لها من النتائج ما يعود بدوره فيقرر تنظيمًا جديدًا للوقائع؛ وهكذا دَوالَيْك حتى يصبح التنظيم القائم موحدًا وكاملًا في آنٍ معًا؛ وفي غضون هذا السير المتسلسل، تتعرض الأفكار التي تمثل حلولًا ممكنة للاختبار، أي إنها تتعرض ﻟ «البرهان». وفي الوقت نفسه تكون تنظيمات الوقائع التي تمثل لنا على توالي المشاهدات التجريبية التي تبتعثها الأفكار وتوجهها، بمثابة وقائع تحت الاختبار؛ فهي مؤقتة؛ لأنها وإن تكن «وقائع» إذا شوهدت بأعضاء الحس السليمة وبأدوات المشاهدة الملائمة، إلا أنها لا تكون على هذا الأساس نفسه هي وقائع الحالة فهي تخضع للاختبار أو ﻟ «البرهان» من ناحية وظيفتها من حيث هي شواهد، كما تختبر الأفكار (أي الفروض العلمية) من ناحية قدرتها على القيام بوظيفتها في فض الموقف، سواء بسواء؛ وهكذا نعزو للأفكار وللوقائع معًا قوة إجرائية، معتمدين في ذلك عمليًّا على الدرجة التي تكونان بها مرتبطتين بالتجربة التي نجريها فقولنا عنهما إنهما «إجرائيان» ليس إلا اعترافًا نظريًّا منا بالعناصر المتضمنة حين يستوفي البحث الشروط المفروضة عليه بحكم ضرورات التجربة. وأعود في هذه المناسبة إلى ما قد أسلفت قوله عن ضرورة الرموز في البحث؛ فواضح من ظاهر الأمر أن الطريقة الممكنة لحل مشكلة ما لا بد أن تتخذ صورة رمزية، ما دام ذلك الحل لم يزل في حدود الإمكان وليس هو بالشيء القائم فعلًا في الوجود الخارجي؛ ولما كانت الوقائع المشاهدة — من جهة أخرى — حاضرة في الوجود الفعلي، فقد يبدو أن الإشارة إليها لا تتطلب رموزًا، غير أنها إذا لم تُصوَّر وإذا لم تُعالَج في رموز، فقدت طابعها المؤقت، وبفقدها لهذا الطابع أصبحت أمورًا مقررة ثابتة على حالة بعينها، وهذا معناه أن البحث ينتهي إلى خاتمة لا يسير بعدها، فالسير في البحث يقتضي أن ننظر إلى الوقائع على أنها تمثل شيئًا ما لا على أنها هي نفسها أمور ماثلة لذاتها؛ ووسيلتنا إلى جعلها ممثلة لغيرها هي صياغتها في قضايا — أعني صياغتها في رموز؛ وما لم نمثلها على هذا النحو الرمزي، عادت فانسابت في مجموعة الموقف الكيفي. لقد سرنا بالمناقشة إلى هذا الحد مقتصرين على النظرة العامة التي لا تفرق بين الذوق الفطري والبحث العلمي؛ وها نحن أولاء قد بلغنا حدًّا ينبغي عنده أن نوجه انتباهًا مقصودًا إلى النمط الذي يشترك فيه هذان الضربان من البحث فلقد أسلفنا القول في فصول سابقة بأن الفرق بينهما قائم في اختلافهما في الموضوعات التي يتناولها كل منهما، لا في الصور والعلاقات المنطقية الأساسية؛ وبأن الفرق بين موضوعات كل منهما إنما يرجع إلى الفرق بين المشكلات المتضمنة في تلك الموضوعات، وقلنا أخيرًا بأن هذا الفرق يخلق فرقًا آخر في الغايات أو في النتائج الموضوعية التي يُعنى كل منهما بتحقيقها؛ فلأن مشكلات الذوق الفطري وبحوثه تتصل بحالات التفاعل التي تدخل فيها الكائنات الحية لكونها متصلة بالظروف المحيطة، ابتغاء أن تظفر بأشياء نفعها ومتعتها، كانت الرموز المستخدمة في هذه الحالة هي الرموز التي تقررت بحكم الثقافة القائمة بين أفراد الجماعة؛ وإن هذه الرموز لتكوِّن نسقًا، لكن النسق هذا عملي أكثر منه عقليًّا، فتراه يتألف من التقاليد وأنواع العمل والتقنيات والاهتمامات والنظم القائمة عند الجماعة؛ وترى المعاني التي تنتظمها مبثوثة في اللغة المألوفة الجارية كل يوم في تفاهم أعضاء الجماعة بعضهم مع بعض؛ وهذه المعاني المتضمنة في نسق اللغة المألوفة هي التي تقرر ماذا يجوز وماذا لا يجوز لأفراد الجماعة أن يعملوه إزاء الأشياء المادية وإزاء أنفسهم بعضهم مع بعض؛ فهي التي تنظم ماذا يمكن استعماله والاستمتاع به، وكيف ينبغي لهذا الاستعمال وهذا الاستمتاع أن يحدثا. ولأن أنساق الرموز والمعاني المتضمنة في هذا كله مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بمناشط الحياة كما هي قائمة في ظل الثقافة السائدة، ومرتبطة كذلك بعضها مع بعض بفضل ارتباطها ذلك بمناشط الحياة، فإن المعاني الخاصة التي يحدث لها أن تكون ماثلة، تكون ذات صلة إشارية بالظروف البيئية الخاصة المحددة التي تعيش الجماعة في ظلها؛ أي إنه لا يدخل في أنساق المعاني إلا تلك الأشياء — من بين أشياء البيئة — التي تقضي العادات والتقاليد بأن تكون مرتبطة بحياة الجماعة ومؤثرة فيها؛ وإذن فلا محل عند هذه الجماعة لما يُسمَّى اهتمامًا عقليًّا خالصًا من شوائب المصالح الشخصية، لا من حيث الأمور المادية ولا من حيث الأمور الاجتماعية؛ وذلك لأنه — حتى قيام العلم — لم تكن هنالك مشكلات عند الذوق الفطري تتطلب مثل ذلك البحث المجرد؛ ولم يكن لهذا التجرد عن الأهواء الشخصية وجود — من الناحية العملية — إلا في اشتراط الجماعة أن تكون مصالحها واهتماماتها فوق الحاجات والمصالح الخاصة بالأفراد؛ وفيما عدا أوجه النشاط والاهتمامات والمصالح التي تخص الجماعة، لم يكن هنالك تجرد عقلي؛ وبعبارة أخرى لم يكن هنالك علم قائم لذاته، على الرغم مما كان ثمة من معلومات وتقنيات — كما أسلفنا القول — يستخدمها الناس لأغراض البحث العلمي، ومنها خرج هذا البحث العلمي فيما بعد واستمد نشأته. لما كانت المناقشة قد تناولت نقاطًا عدة، فيجدر بي أن ألخص النتائج التي انتهيت إليها عن تلك النقاط، في عبارة موجزة تصف تكوين النمط المشترك في عملية البحث (يعني المشترك بين الذوق الفطري من جهة والبحث العلمي من جهة أخرى)؛ فالبحث هو التحويل الموجَّه أو المنضبط لموقف غير متعين بحيث يصبح موقفًا متعينًا موحدًا، ويتم هذا التحويل بوساطة إجراءات عملية تقع في نوعين بينهما تقابل من حيث الوظيفة التي يؤديها كل منهما؛ أما أولهما فإجراءات تتناول موضوع البحث حين يكون فكريًّا أو تصوريًّا؛ ومثل هذا الموضوع يمثل عندئذٍ الطرائق والأهداف الممكنة لفض الموقف المراد فضه؛ فهو يتصور حل المشكلة القائمة سلفًا، على أنه يتميز من الوهم بكونه، أو إلى الحد الذي يستطيع به أن يصبح إجرائيًّا، بأن يستحث ويوجه مشاهدات جديدة، نحصل بها على مادة واقعية جديدة؛ وأما النوع الثاني من الإجراءات العملية فقوامه أوجه النشاط التي تتضمن أدوات البحث وأعضاء المشاهدة؛ ولما كانت هذه الإجراءات جزءًا من الوجود الخارجي، كان من شأنها أن تعدل الموقف الوجودي الذي كان قائمًا أول الأمر، وأن تبرز الظروف التي كانت من قبل غامضة، وأن ترد إلى خلف الصورة جوانب أخرى عند البداية بارزة؛ وهذا الجهد الذي ينصرف إلى إبراز ما نبرزه، واختيار ما نختاره ثم ترتيب المادة المختارة، هذا الجهد يقوم على أساس، وينضبط بمعيار، هما أن نخط حول المشكلة حدودها على نحو يمدنا بمادة وجودية نختبر بها صحة الأفكار التي تصور لنا ضروب الحل الممكنة؛ ولا غناء لنا عن الرموز وعن الحدود التي تُعرِّف وعن القضايا، لكي يتسنى لنا أن نحتفظ — ثم نحمل معنا في سيرنا إلى الأمام — بالموضوعات الفكرية والموضوعات ذوات الوجود الواقعي كلتيهما، لكي تؤديا وظيفتيهما الصحيحتين، ألا وهي ضبط زمام البحث، وإلا لسبق إلينا الظن بأن المشكلة قد بلغت ختامها، فيقف سير البحث. ولتحويل الموقف من حالة إلى أخرى تحويلًا هو قوام البحث، وجهٌ له أهمية أساسية لأنه جوهري في معالجتنا للحكم وما يؤديه من وظائف؛ وذلك أن ذلك التحول في الموقف ذو وجود فعلي، ومن ثَم فهو يشغل فترة من زمن؛ فالموقف في حالته المقلقلة السابقة على الإدراك، لا تستقر قوائمه إلا بتعديل يطرأ على مقوماته؛ ومن شأن التجارب التي نجريها أن تغير من الظروف القائمة، أما التدليل العقلي من حيث هو كذلك، فيمكن أن يمدنا بالوسائل التي نحدث بها التغير في الظروف، لكنه وحده لا يستطيع أن يحدث ذلك التغير؛ فلا سبيل إلى إحداث الترتيب المعدل للظروف البيئية، ذلك الترتيب الذي يقتضيه خلق موقف مستقر موحد، إلا بأداء إجراءات عملية في الوجود الخارجي، توجهها فكرة تكون قد بلغت حد الختام في سيرها الاستنباطي؛ ولما كان هذا المبدأ نفسه يصْدق كذلك على المعاني التي يتناولها العلم بالتهذيب، كان خلقنا وإعادة ترتيبنا للظروف المادية خلقًا وإعادة يتمان بما نجريه من تجارب في مجال العلم الطبيعي، شاهدًا جديدًا على أن للبحث نمطًا واحدًا؛ وإذن فكون البحث يتسم بالخاصة الزمنية، معناه يختلف اختلافًا تامًّا عن كون عملية البحث تستغرق فترة من الزمن؛ إذ إن معنى العبارة الأولى هو أن المادة الموضوعية للبحث تخضع للتغير خلال الزمن. لو لم تكن المعرفة متصلة بالبحث من حيث هو حاصلٌ للإجراءات العملية التي كونته، لما كان ثمة فوارق تقتضي الأسماء الخاصة التي تميزها، ولكانت المادة إما معلومة لنا أو مجهولة وموضع خطأ في تقديرنا، وكان هذا ليكون كل ما نستطيع أن نقوله عنها؛ وعندئذٍ لم يكن مضمون قضية معينة ليحتمل إلا إحدى قيمتين، فإما أن تكون القضية «صادقة» أو «كاذبة» صدقًا أو كذبًا يتسم بأنه الحكم الذي لا حكم بعده ولا يتسع الأمر لغيره؛ أما والمعرفة متصلة بالبحث من حيث هي حاصله الذي يجوز لنا أن نقرره، وأما والبحث عملية تسير شوطًا ما ولها خاصة الزمن، فالمادة المبحوثة تكشف لنا من الخصائص المتميزة بعضها عن بعض ما يتطلب أسماءً متميزة تسميها؛ إذ المادة وهي موضوعة تحت البحث، تختلف في مضمونها المنطقي عنها وهي نتيجة البحث؛ وسنطلق عليها وهي في حالتها الأولى ومتصفة بالخاصة الأولى، الاسم العام مادة الموضوع؛ لكننا حين نجد من الضروري أن نشير إلى مادة الموضوع إذ تكون جزءًا من سياق الملاحظة أو سياق التفكير، سنستخدم كلمة مضمون، وكلما كانت الإشارة إليها من حيث كونها تمثل شيئًا ما، جعلنا حديثنا عن مضمون القضايا. وسنخصص كلمة موضوعات لمادة الموضوع من حيث هي نتيجة نتجت ورُتبت في صورة مستقرة بوساطة البحث؛ فالموضوعات — من ناحية توقعنا — هي النهايات التي يستهدفها البحث؛ والغموض الظاهري الذي ينشأ عن استخدامنا لكلمة «موضوعات» بهذا المعنى (إذ الكلمة تُستعمل عادة لتدل على الأشياء التي تعرض للملاحظة أو للفكر) إن هو إلا غموض في الظاهر فقط؛ لأن الأشياء لا تكون موضوعات بالنسبة لنا إلا إذا كانت قد تقرر لها من قبل أن تكون نتائج أبحاث؛ فإذا ما استعملناها للمُضِيِّ في بحوث جديدة خاصة بمواقف مشكلة جديدة، كانت لنا تلك النتائج بالقياس إلى علمنا موضوعات بسبب ما قد سلف من بحوث أجازت قبولها؛ وإذن فهي في الموقف الجديد وسائل للوصول إلى معرفة بشيء آخر؛ فهي بالمعنى الدقيق جزء من مضمونات البحث كما قد عرفنا كلمة مضمون فيما سبق؛ لكننا إذ ننظر إليها بعد تمام البحث (أي من حيث هي نتائج حصلناها من قرار لبحث سابق) فهي عندئذٍ تكون موضوعات.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/7/
تكوين الحكم
نستطيع على أساس الأفكار التي بسطناها في الفصل السابق أن نفهم الحكم على أنه النتيجة المقررة التي يتمخض عنها البحث؛ فالحكم شيء يختص بالموضوعات الختامية التي تتولد من البحث، حين ننظر إلى هذه الموضوعات باعتبارها مرحلة الختام؛ وبهذا المعنى يكون الحكم شيئًا متميزًا من القضايا؛ إذ مضمون هذه الأخيرة إنما يقع في مراحل وسطى، وهو يمثل شيئًا سواه، ويكون محمولًا على رموز، على حين يكون للحكم — من حيث هو أمر قد تم تكوينه — فحوى وجودي مباشر؛ ولئن كان الحديث الجاري يستخدم كلمتَيْ إثبات وإقرار على سبيل الترادف، إلا أن بينهما اختلافًا — ولا بد لهذا الاختلاف أن يُرد إلى أصول لغوية — بين الخاصة المنطقية التي تكون لمواد الموضوعات إذ هي مراحل وسطى تتخذ وسائل لما يُراد لها أن تنتهي إليه، وبين مادة الموضوع التي أُعدت لتكون مرحلة الختام؛ وسأستخدم كلمة إقرار لأدل بها على الخاصة المنطقية الأخيرة، وكلمة إثبات لأسمي بها الخاصة المنطقية الأولى؛ فحتى من وجهة نظر الحديث السائر، نلمس في كلمة إقرار صفة الإلحاح التي يعوزها مفهوم كلمة «إثبات»؛ فإن جاز لنا عادة أن نستبدل عبارة «إنه من المأخوذ به» أو «إنه يُقال» بعبارة «إنه من الثابت» إلا أن الأمر الهامَّ هنا ليس هو الألفاظ، بل هو الخصائص المنطقية التي تميز مواد الموضوعات في حالاتها المختلفة. فحدوث المحاكمة مساوٍ لحدوث الموقف المشكل الذي يتطلب حلًّا يستقر به؛ فترى ترددًا ونزاعًا حول ما ينبغي عمله، بسبب تعارض المختلفين في دلالة أشياء معينة قد حدثت، حتى إن اتفق هؤلاء المتعارضون على طبيعة الأشياء التي وقعت — وهو اتفاق لا يتم دائمًا بطبيعة الحال؛ وقرار القضاء هو قرار لإشكال، لأنه يقرر أمرًا عن ظروف الوجود الخارجي من حيث تأثيرها في مجرى المناشط المقبلة — وهذا هو نفسه جوهر ما يكون لأي موقف واقعي من دلالة. وهذا القرار أو الحكم هو نتيجة بحث وُجِّه في طريق سيره خلال شهادة الشهود؛ ومثل هذا البحث إنما يمثل لنا النمط الذي وصفناه في الفصل السابق؛ فمن جهة، تُقدَّم القضايا الخاصة بوصف الوقائع المتضمنة، ويشهد الشهود بما قد سمعوا ورأوا، وتُقدَّم مدونات مكتوبة … إلخ؛ وعندئذٍ تكون مادة الموضوع مما يمكن تناوله بالمشاهدة المباشرة، فيكون لها بذلك صلة بالوجود الفعلي؛ وعندما يتقدم كل طرف من أطراف النزاع بمادته التي يستشهد بها، يكون مراده بهذه المادة أن تشير إلى قرار معين فضًّا للموقف الذي لم يزل غير متعين؛ وإنما يكون لهذا القرار فعله إذ كان من شأنه أن يعيد تكوين الموجودات الخارجية على صورة معينة؛ ومن جهة أخرى، تشترك في الأمر قضايا خاصة بمادة الموضوع كما يتصورها الفكر؛ فيرجع إلى أحكام القانون لتحديد ما للوقائع المقدمة على أنها شواهد، من وجاهة (أي من صلة بالأمر) ومن قيمة؛ وها هنا تكون دلالة مادة الوقائع مرهونة بأحكام النظام القضائي القائم؛ أي إن هذه الدلالة لا تلحق الوقائع في ذاتها مستقلةً عن البناء الفكري الذي يفسرها؛ ومع ذلك فالموقف المشكل بما له من خصائص هو الذي يقضي أيَّ الأحكام من النظام القضائي نختار؛ وهذه الأحكام تختلف في القضايا المدنية عنها في القضايا الجنائية؛ فتختلف في حالة انتهاك لحرمة أرض عنها في حالة نقض العقود؛ ولقد نسقنا أفكارنا فيما مضى بحيث أدرجناها تحت رءوس مألوفة تلخص لنا أنواع المبادئ الشارحة التي دلت الخبرة الماضية على أنها تصلح لمختلف الحالات التي تنشأ عادة؛ وإذا كان التفكير القضائي من مثل نظري أعلى ينشده، فذاك هو قيام مجموعة من علاقات وإجراءات تمثل أقصى ما يمكن تحقيقه من تقابل بين الوقائع والمعاني القضائية التي تخلع على تلك الوقائع دلالتها؛ أي إنه ينشد أن يجيء إقراره للنتائج نابعًا من الوقائع في ظل النظام الاجتماعي القائم. ويلزم من هذا أن تحديدنا لفرد من الأفراد هو كذلك أمر وسلي، نستخدمه في تحديدنا لموقف ما يكون بدوره غير كامل ولا مكتفٍ بذاته؛ وإذن فتحديدنا لفرد ما هو وسيلتنا لتمييز موقف معين بالقياس إلى مشكلة مطروحة للبحث؛ وإذا ما كنا أثناء سيرنا في البحث إزاء مرحلة من مراحله، كان تحديدنا لفرد ما يمثل عند تلك المرحلة المعينة شاهدًا مرجحًا، أو حاسمًا، أو ذا دلالة تعين على التفرقة عندما يشكل علينا الأمر؛ فالصانع أثناء سيره في عمله، وفي كل لحظة من لحظات ذلك السير، يلحظ أوجهًا معينة وجوانب معينة مما يكون للموقف الذي يشتمل على مناشطه؛ إذ هو يلحظ شيئًا ما أو حادثة ما دون غيرها، حين يراها حاسمة في المرحلة التي يكون قد بلغها من مراحل سيره بالنسبة إلى الموقف بأكمله، بحيث يكون في ذلك ما يقطع بما عسى أن يكون في المرحلة التالية؛ وأما نهايات المراحل التي يمكنه الإشارة إليها بأداة الإشارة هذا، وذلك، والتي ينصب عليها بحثه ونشاطه انصبابًا مباشرًا، فهي لا تنفك تتبدل؛ فكلما فضَّ وجهًا من وجوه المشكلة خلقه له سيره في العمل، قام وجه آخر على صورة شيء جديد أو حادثة جديدة؛ فلو لم تكن الحلقات المتتابعة منطوية تحت موقف شامل، له من الطابع الكيفي ما يتغلغل في تلك الحلقات كلها، ويمسكها معًا، لكان نشاط العامل في صناعته قفزات وانتقالات تخلو من المعنى؛ وعلى هذا النحو نفسه يمكن وصف المشاهدات المتتابعة التي نشاهد بها الأشياء والحوادث المفردة إبَّان قيامنا بالبحث العلمي؛ فالشيء الفرد هو ذلك الذي يدور حوله البحث في موقف فريد، في ظل ظروف خاصة من شأنها — في كل لحظة معينة — أن تحدد المشكلة بالقياس إلى الظروف التي ستكون موضع النظر في الخطوة التالية. ولهذه النقطة التي ذكرناها الآن معنًى منطقي؛ إذ هي تُزيل ازدواج المعنى الذي يكتنف كلمة «مُعطًى» كما تستخدم في مؤلفات المنطق اليوم؛ فما يكون «مُعطًى» بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة هو المجال بأكمله، أي هو الموقف؛ أما المعطى بالمعنى الذي يجعل الكلمة تنصرف إلى فرد — شيئًا كان ذلك الفرد أو صفة — فهو ذلك الوجه الخاص أو الجانب الخاص أو المقوم الخاص من الموقف القائم في عالم الوجود الخارجي، الذي نختاره لنحدد به ونميز ملامحه المشكلة بالنسبة إلى البحث الذي نحن بصدد القيام به في تلك اللحظة المعينة وذلك المكان المعين؛ إذن فبالمعنى الدقيق هو مأخوذ لا مُعطًى، وهذه الحقيقة تقرر لنا الخاصة المنطقية التي تتسم بها المعطيات؛ فهذه المعطيات ليست بمعزل عن سواها، ولا هي كاملة أو مكتفية بذاتها؛ فلأن يكون الشيء مُعطًى من المعطيات معناه أن يكون ذا وظيفة خاصة يؤديها في تسيير مادة البحث، إذ يتجسد فيه ربط المشكلة على نحوٍ يشير إلى حل ممكن لها، كما يعين على تهيئة الشاهد الذي نختبر به الحل كما قد تصورناه تصورًا فرضيًّا؛ وسنتناول بالتفصيل مذهبنا هذا حين نناقش فيما يلي «الفكر» أي البحث. فافرض أن «هذا» في حالة معينة، يتصف بكونه «النصب الذي يخلد ذكرى وشنطن»؛ ففعل الإشارة في هذه الحالة لا يعين على وجه التحديد مفردًا واحدًا يُشار إليه ﺑ «هذا» دون غيره، إذ يكون كل شيء واقع في اتجاه الإشارة مشارًا إليه؛ وثانيًا، فحتى لو فرضنا أن فعل الإشارة قد تصادف أن يرسو — إن جاز هذا التعبير — على كائن واحد مفرد دون غيره، فهو إنما يشير عندئذٍ إلى مجموعة من الصفات المحسة؛ وليس في هذه الصفات — إذا نحن عزلناها عما يضبطها — من حيث تفسيرها — من جملة الموقف الذي يشملها مع غيرها — أقول إنه ليس في هذه الصفات وحدها ما يبرر وصفنا إياها بأنها «النصب الذي يخلد ذكرى وشنطن»، بل ليس فيها ما يسوغ وصفنا إياها بأنها نصب تذكاري إطلاقًا؛ وأقصى ما يمكن أن يُقال عندئذٍ هو أن الصفات المشاهدة نتيجةً لفعل الإشارة هي هي الصفات التي نشاهدها؛ فتمييزنا لشيء من أشياء الوجود الخارجي، أو تحديدنا له بأنه كذا وكذا، إنما يقع صميمه في أنه يمدنا بأساس نستطيع بناءً عليه أن نخلع على الشيء صفات مما لا يكون موضع المشاهدة ساعة إدراكه بالحس وفي المكان الذي ندركه فيه؛ فوصف الشيء بصفة ما يكون جزافًا كل الجزاف، وغير قائم على أساس، إذا ما عزلناه عن موقف شامل هو الذي يحدد لنا العلاقة القائمة بين مادة مشاهدتنا التي يتألف منها الشيء المفرد المشاهد، والذي نشير إليه باسم الإشارة «هذا»، وبين المحمول الذي يتعلق به ويميزه؛ فلا بد أن يكون هنالك مسألة (أعني مشكلة) معينة معلومة ينتمي إليها الجانبان كلاهما: الموضوع الذي هو كلمة «هذا» والمحمول الذي هو — في المثل المذكور — «النصُبُ التذكاري لوشنطن»؛ والمشكلة هنا أو المسألة إنما تنشأ عن موقف ما في جملته، وهذا الموقف هو الذي يضبط سيرها، وإلا لكانت القضايا التي نصوغها بغير هدف معلوم. فكل قضية تظهر فيها كلمة «هذا» قد كوَّنها حكمٌ تقديري حددنا به طبيعة «هذا» لكي نستعين بهذا التحديد على إيجاد أسس نستشهد بها على نسبتنا إلى الشيء ما قد نسبناه إليه من صفات المحمول؛ وهذه الحقيقة لا تتسق مع جعلنا «هذا» مقتصرة في معناها على مجرد كونها هذا؛ لكن ليس ثمة من تعارض بين أن يكون الشيء هو ما هو في واقعية وجوده، وبين تقديرنا بأنه هو الأساس الشاهدي المطلوب لتسويغ حملنا صفة معينة عليه؛ وإذا أردنا عبارة إيجابية تعبر عن المعنى السابق نفسه، قلنا إن الإجراءات العملية التي تعين شيئًا نشير إليه بقولنا «هذا» لتجعله موضوعًا، هي دائمًا إجراءات تفرز وتحصر شيئًا ما من بين أشياء كثيرة تقع معه في مجال واحد؛ وهذا الذي تفرزه تلك الإجراءات عن غيره، ثم ما تحذفه من سائر الأشياء، إنما يستمد أصوله من تقديرنا نحن لما عسى أن يكون للأشياء من دلالة محتملة تجعلها شواهد. والإجابة عن هذا السؤال متضمنة فيما قد أسلفنا قوله؛ فالموضوع ذو وجود فعلي حين يكون كائنًا فردًا يُشار إليه ﺑ «هذا» أو حين يكون مجموعة من أفراد؛ غير أن هناك شروطًا للبحث لا بد أن تُستوفى في أي شيء يُتخذ موضوعًا (١) فلا بد أن يحدد وأن يصف مشكلة ما، تحديدًا ووصفًا يشيران إلى حل ممكن لها (٢)؛ ولا بد أن يكون بحيث تجيء المعطيات الجديدة التي نستجلبها بإجراءات المشاهدة التي يوجهنا فيها المحمولُ الذي نحمله على الموضوع بصفة وقتية (ويمثل المحمول في هذه الحالة حلًّا ممكنًا) متحدة مع مادة الموضوع اتحادًا يكوِّن منهما كلًّا متسقًا؛ وإنما يكون هذا الكل المتسق شيئًا عنصريًّا بالمعنى المنطقي لهذه العبارة، أو أن يكون في طريقه إلى أن يكون شيئًا من هذا القبيل؛ لأن مثل هذا الاتحاد للعناصر المتميزة مرتبطًا بعضها ببعض، هو الذي يتيح لنا أن نصب فعلنا عليها، أو أن يتخذها فعلنا أداة له من حيث هو كل واحد؛ ومثل هذا الاتحاد أيضًا يقبل أن تدخل فيه صفاتٌ محمولةٌ أخرى، حتى يصبح — في ذاته — وحدة قوامها متميزات متصل بعضها ببعض، أي إنه يصبح «خصائص». خذ — مثلًا — هذه القضية الأولية: «هذا حلو» فكلمة «هذا» — كما بينا — تحدد عملية فرزية حاجزة، تؤدي غرضًا معلومًا، داخل موقف مشكل كيفي شامل؛ وما ذلك الغرض المعلوم إلا النتيجة الختامية التي تتمثل في فض الموقف القائم، والتي — من أجل تحقيقها — تقوم كلمة «هذا» بوظيفة خاصة في هذا السبيل؛ فإذا كان المحمول «حلو» توقعًا للحالة التي يفض فيها الموقف، فمعناه عندئذٍ هو أن «هذا» سيكون من شأنه أن يحلي شيئًا ما، إذا ما قمنا بالإجراء الذي لا بد لنا من القيام به لكي نستحدث نتائج محسوسة معينة؛ أو قد يسجل لنا هذه النتيجة التي وصلنا إليها عن طريق قيامنا بذلك الإجراء، وهذه النتيجة هي التي نعبر عنها بقولنا: «هذا قد أحلى بالفعل شيئًا ما»؛ فإذا ما تم لنا هذا الإجراء، كان لنا أن نصف هذا بأنه حلو على وجه التحديد؛ ولا تظهر هذه الحقيقة في قضية (وإن يكن يجوز لقضية أن تقررها ابتغاء تسجيلها أو نقل معلوماتها إلى الآخرين في عملية التفاهم) أقول إن هذه الحقيقة لا تظهر لا في قضية ولا في رموز، بل تظهر في حالة وجودية فعلية نَخْبُرُها خبرة مباشرة؛ ومنذ تلك اللحظة يصبح «هذا» شيئًا ما حلوًا؛ وصفة كونه حلوًا لا تقف بمفردها، بل هي ترتبط ارتباطًا مؤكدًا بغيرها من الصفات المشاهدة؛ ومن حيث هي قائمة على هذا النحو مع غيرها، تراها تدخل بعدئذٍ في مواقف أخرى، تضيف فيها إلى نفسها صفات أخرى، كأن يصبح الشيء أو العنصر حلوًا وأبيض وجزيئاته على شكل الحب وأجرش إلى حد ما، أو قلْ إنه يصبح سكرًا. وعلى ذلك ﻓ «العنصر» يمثل تحديدًا منطقيًّا لا تحديدًا وجوديًّا؛ فالسكر — مثلًا — عنصر، لأننا خلال تكويننا لعدة أحكام جزئية نستمدها من إجراءات أديناها وكانت لها نتائج فعلية، قد وجدنا أن عددًا منوعًا من الصفات قد اجتمع بعضه مع بعض بحيث كوَّن شيئًا يمكن استخدامه والاستمتاع به من حيث هو كل موحد؛ فصفته العنصرية لا شأن لها قط بكونه ذا طبيعة يدوم بقاؤها، ودع عنك أن يكون ذا طبيعة لا يطرأ عليها التحول؛ فالشيء هنا — السكر — قد يختفي بالذوبان، وعندئذٍ يكتسب صفة أخرى، فنقول عنه إنه قابل للذوبان؛ وربما تحول كيانه في تفاعل كيموي بحيث لا يعود سكرًا كما كان؛ فتصبح قابليته لمثل هذا التحول صفة أو خاصة إضافية لأي شيء نسميه سكرًا، فالشرط، الشرط الوحيد الذي لا بد من استيفائه لكي تكون هنالك عنصرية، هو أن صفات معينة يتعلق بعضها ببعض تعلقًا يجعلها علامات نركن إليها في الحكم بأن نتائج معينة ستنشأ إذا ما حدثت تفاعلات معينة؛ وهذا هو ما نعنيه حين نقول إن العنصرية في الشيء تحديد منطقي له، وليست هي بالتحديد الوجودي الأولي. فالعنصرية صورة تضاف إلى الوجود الخارجي، كما قد كان بادئ ذي بدء، وذلك حين يسلك هذا الوجود على نحو وظيفي خاص، باعتباره نتيجة نجمت عن إجراءات البحث؛ ولسنا بذلك نصادر بفرض وهو أن صفات معينة تلتئم في الوجود الفعلي دائمًا بعضها مع بعض؛ وإنما الفرض الذي نصادر به هو أن تلك الصفات تلتئم معًا من حيث هي علامات موثوق بها في الشهادة بما نتوقع حدوثه؛ فالخصائص المجتمعية معًا بحيث تحدد وتعين مقعدًا وقطعة من حجر الجرانيت وشهابًا، ليست مجموعات من الصفات نلقاها في الوجود الخارجي على صور تميز أنواعها؛ بل هي صفات معينة تتكون منها — في ارتباطها المنظم بعضها مع بعض — علامات صادقة لما عساه أن يحدث بالتبعية إذا ما أجريت إجراءات معينة؛ وبعبارة أخرى فالشيء من الأشياء هو مجموعة صفات نأخذها على أنها إمكانات لنتائج فعلية محددة؛ فالبارود هو شيء ينفجر إذا توافرت ظروف معينة؛ والماء من حيث هو شيء عنصري، مجموعة صفات مرتبطة من شأنها أن تطفئ الظمأ، وهكذا؛ وكلما ازداد عدد التفاعلات، والإجراءات، والنتائج، ازداد تكوين الشيء العنصري المعين تركبًا؛ فالتقدم التقني قد أكسب الطين والحديد إمكانات جديدة؛ إذ إن قطعة الحديد اليوم تتخذ علامة لأشياء كثيرة لم تكن علامة لها ذات يوم؛ ولما وجد أن لب الخشب يمكن استخدامه في صناعة الورق إذا جرت على مادته إجراءات يدخل فيها في ظروف تفاعلية جديدة، تغيرت بالتالي دلالة أنواع معينة من الخشب من حيث هي أشياء؛ لكنها لم تصبح بذلك أشياء عنصرية جديدة كل الجدة، لأن الإمكانات القديمة من حيث النتائج المترتبة عليها لا تزال قائمة؛ غير أنها كذلك لم تعد هي المادة العنصرية القديمة كما كانت؛ ولقد نشأت لدينا عادة الافتراض بأن تلك المادة هي هي دائمًا على مدى الزمن، نتيجة لتشخيصنا للخاصة المنطقية التي تجعل من الشيء علامة أو تجعله ذا دلالة، فقد شخصنا هذه الخاصة المنطقية وجعلناها شيئًا داخلًا في تكوين الخشب؛ إلا أن كون الشيء عنصرًا هو الذي يعين لنا أنه ذو وظيفة يؤديها. إننا كثيرًا ما نتحدث عن العناصر الكيموية؛ وها هنا لا يكون العنصر الكيموي متمثلًا فيما نحصيه عنه من الصفات من حيث هي صفات، بل يتمثل في صيغة تحمل إشارة مركزة لأنواع النتائج المختلفة التي يُنتظر لها أن تنتج؛ فالخصائص المدركة بالحس لسكر المائدة وسكر الرصاص متشابهة تشابهًا شديدًا، لكن الإنسان بذوقه الفطري نفسه يعلم كيف يميزهما «عنصرين» مختلفين، تمييزًا يهتدي إليه ببعض النتائج المختلفة التي تترتب على استعمالهما استعمالًا عمليًّا؛ وفي وصف العنصر الكيموي لكل منهما وصفًا علميًّا، ترانا نغفل من خصائصهما حتى تلك الصفات المدركة بالحس المشتركة بينهما؛ ونصوغ لكل منهما صيغة مختلفة عن الأخرى، بحيث نستطيع من كل من الصيغتين أن نتوقع سلفًا من الاختلافات بين النوعين ما لم ندركه بالحس فيهما أول الأمر؛ والماء عند الذوق الفطري هو ذلك الذي يمكن وضعه في القدور، ويمكن استخدامه في التنظيف، وعلى سطحه تطفو أشياء كثيرة وهلم جرًّا، أما الماء عند الكيميا فهو «يد ا» — وهذا وصف للماء على أساس مجموعة التفاعلات الممكنة والنتائج المعينة الخاصة؛ فبعض الصفات يمثل بالفعل أمام الحس، لكن تلك الصفات من حيث هي ماثلة للحس لا تكوِّن الشيء؛ بل هي — عند الذوق الفطري وعند العلم على السواء — تكوِّن الشيء بفضل النتائج التي تكون تلك الصفات القائمة فعلًا — قلت أو كثرت — علامة على حدوثها، والتي تكون تلك الصفات القائمة أيضًا شروط حدوثها على شرط أن تخلق إجراءات «معينة» ضروبًا من التفاعلات لم تكن قائمة في الشيء أول أمره كما أدركناه بالحس ساعة حدوثه ومكان حدوثه. لقد سبقنا إلى ذكر المعنى المنطقي للمحمول عند مناقشة الموضوع المنطقي، لما هنالك بين الموضوع والمحمول من ارتباط دقيق بين مضمونيهما في الوجود الخارجي وفي الوجود الفكري على السواء؛ فالمعاني التي تعرض لنا على أنها حلول ممكنة لمشكلة ما، والتي تستخدم عندئذٍ لتوجيه إجراءات جديدة في مجال المشاهدة التجريبية، هي التي تكون مضمون المحمول في الأحكام؛ فهذا المضمون يتصل بمضمون الواقع — وأعني به الموضوع — كما يتصل الممكن بالفعلي؛ مثال ذلك في المثل التوضيحي الذي عرضناه فيما سبق، عندما قدرْنا ﻟ «هذا» (أي الشيء المعين المشار إليه باسم الإشارة في قولنا هذا حلو) قبل تذوقه أن يكون حلوًا، كنا بذلك نتوقع سلفًا نتيجة معينة، ترتبط على نحو محدد بالموقف في مجموعه؛ لكننا — مع ذلك — لو سارعنا على الفور إلى تقرير العبارة القائلة: «هذا حلو» كان تقريرنا هذا سابقًا لأوانه وغير قائم على أساس سليم؛ لأن التوقع إنما تنحصر وظيفته المنطقية في رسم وتوجيه الإجراء الذي علينا أن نؤديه في مجال المشاهدة التجريبية؛ فإذا جاءت نتائج هذه المشاهدة متآزرة مع الحقائق التي سبق التحقق من صدقها، تآزرًا من شأنه أن يقيم موقفًا بأكمله موحدًا، فعندئذٍ يبلغ البحث مرحلة ختامه؛ لكن الخطر الذي نتعرض له دائمًا في هذا الصدد، هو أن نتسرع بقبول المضمون الذي يحتوي عليه معنى المحمول، ما دمنا نراه جديرًا بالقبول وبالرضا؛ فعندئذٍ ترانا نقبله دون أن نمحصه بإجراءات عملية نجريها عليه؛ مع أن خاصته المنطقية لا تتوافر له إلا إذا أخذناه على حقيقته من حيث هو محمول — وحقيقته تلك هي أنه طريقة للحل وليس هو نفسه حلًّا؛ وكذلك ثمة خطر آخر، وهو أننا حتى إذا قمنا بالإجراءات المحققة المحمول، فقد نغفل تمحيص نتائج تلك الإجراءات تمحيصًا نستوثق به من أن ظروف الوجود الخارجي قد التأمت فعلًا على نحو يوحدها؛ فهذان التقصيران هما مصدر ما نقع فيه عادة من أقوال نقررها متسرعين وقبل التثبت منها، ومن ثَم تكون أقوالًا غير مرتكزة على أساس سليم. فالمضمونات الفكرية و«العقلية» هي فروض يعوزها التحقيق؛ حتى إذا ما اكتملت صورها أصبحت نظريات؛ ومن حيث هي نظريات، يجوز تجريدها، بل إنها لتجرد عادةً من تطبيقها على هذا الموقف أو ذاك من المواقف الوجودية المباشرة؛ لكنها على هذا الأساس نفسه تكون وسائل — في نطاق فسيح غير مقيد بحدود — للتطبيق الإجرائي، بحيث لا تطبق فعلًا إلا إذا عرضت لنا ظروف خاصة تقتضي ذلك؛ ولقد ذهب التقليد المنطق «التجريبي» إلى التطرف من الناحية الأخرى، مقاومةً منه لذلك الوضع «الأسمى» الذي كانت المادة العقلية توضع فيه بحكم طبيعتها نفسها، واعترافًا منه بضرورة الخبرة الآتية من المشاهدات لتضمن لنا شيئًا في الوجود الخارجي نرجع إليه؛ فأنكر (المنطق التجريبي) تلك الضرورة المنطقية المنسوبة إلى المعاني والنظريات المدركة بالعقل، وردها جميعًا إلى مجرد وسائل عملية مواتية؛ وظنت التجريبية التقليدية أنها بهذا إنما تلتزم النموذج الذي أقامه البحث العلمي، ولكنها في حقيقة الأمر كانت تشغل نفسها بإفساد صورة البحث العلمي، بأن أخضعت هذه الصورة إلى نتائج نظرية نفسية ذاتية قبلها من قبلها بغير تمحيص. إن عرضنا السابق للموضوع وللمحمول ليتضمن الفحوى المنطقي لعملية ربطهما الواحد بالآخر؛ فليس هذا الربط عنصرًا منفصلًا مستقلًّا، كلا ولا هو بالعنصر الذي يؤثر في المحمول وحده، لاصقًا إياه بموضوع مفرد يعرض لنا في الوجود الخارجي باعتباره كائنًا مستقلًّا عن محموله، سواء أكان ذلك الموضوع شيئًا أم صفة أم معطًى حسيًّا؛ بل الرابطة بين الموضوع والمحمول هي تعبير عن الفعل الذي ننشط به في إلحاق المحمول بموضوعه، كما أنه تعبير كذلك عن الفعل أو الإجراء الذي نجريه عند «وضعنا» للموضوع، أعني أنه الفعل الذي ننشط به في إقامتنا للموضوع؛ وإذن فالرابطة اسم نطلقه على مركب من إجراءات بفضلها (أ) تختار وتقيد موجودات بعينها لتحدد لنا حدود مشكلة ما، ولتهيئ لنا مادة اختيارية نقيمها شواهد لنا، وبفضلها كذلك (ب) تُستخدم معانٍ وأفكار وفروض معينة مما يُدرَك بالعقل، باعتبارها هي المحمولات التي تعين خصائص الموضوع؛ أي إن الرابطة اسم نطلقه على العلاقة الدالية بين الموضوع والمحمول في صلتهما الواحد بالآخر؛ فالإجراءات التي تعبر عنها الرابطة هي إجراءات تميز بين الموضوع والمحمول، وتصلهما معًا في آنٍ واحد. إن الحكم ليتطلب — كما قد رأينا — إجراءات من جانبي المشاهدة الخارجية والأفكار الداخلية في آنٍ معًا؛ وإنه ليستحيل أن تنضبط عملية البحث، إذا لم تكن تلك الإجراءات في كل من جانبيها قائمة قيامًا يرتبط ارتباطًا صريحًا بإجراءات الجانب الآخر؛ ومن اليسير أن نرى ماذا عسى أن يحدث إذا كانت المشاهدة الخارجية لتوجه نحو مادة لا علاقة لها البتة بما في أذهاننا من أفكار وفروض، وأن نرى ماذا يحدث إذا كانت هذه الأفكار والفروض التي في أذهاننا قد انسابت في طريق تستقل به، بحيث لا يربطها رابط بالمادة المحصلة بالمشاهدة الخارجية؛ نعم إنه أثناء عملية التدليل العقلي، وبخاصة في البحث العلمي، كثيرًا ما تقع فترة غير قصيرة تنمو خلالها مادة الفكر نموًا تستقل به وحدها، تاركة مادة المشاهدة الخارجية في حالة انتظار مؤقت؛ لكن على الرغم من ذلك، فإن الهدف بأكمله — خلال البحث الذي نمسك بضوابطه — لهذا النمو (الذي يطرأ على الفكر الداخلي) والذي يبدو كأنما هو مستقل وحده، الهدف كله من هذا هو أن نحصل على ذلك المعنى المعين أو البناء الفكري المعين، الذي يكون أفضل المعاني ملاءمة لاستحداث وتوجيه إجراءات المشاهدة الخارجية التي من شأنها — دون غيرها — أن تنتج تلك الوقائع الوجودية — وحدها دون غيرها — التي نتطلبها لحل المشكلة القائمة. إننا نبلغ الحكم النهائي خلال خطوات من الأحكام الجزئية نجتازها، وهي الأحكام التي أطلقنا عليها اسم تقديرات أو ترجيحات؛ فليس الحكم شيئًا يتم حدوثه بأجمعه دفعة واحدة؛ ويكفي أن نذكر أنه مظهر يصاحب البحث، لنعلم أنه يستحيل أن يكون وليد لحظة واحدة، ثم يكون في الوقت نفسه بحثًا؛ فما لم نبلغ مرحلة ينفض فيها الموقف انفضاضًا نهائيًّا (وذلك هو نتيجة الحكم الأخير أو القرار الأخير) فستظل مضمونات الموضوع والمحمول في جملتها متخذة لصورة مؤقتة يكون فيها الطرفان منفصلين ومتصلين في آنٍ واحد؛ ولو كانت مضمونات الموضوع والمحمول أمورًا نهائية لا مؤقتة، لكان قولنا بوجود انفصال بين الطرفين واتصال بينهما في آنٍ واحد، قولًا يعبر عن حالة من التضاد الذي لا يمكن الجمع بين طرفيه؛ ولكن لما كان الموضوع والمحمول يتسمان بعمل يؤديانه وإجراء يجريانه، لم يكن بينهما من التعارض أكثر مما يكون في طريق أي نشاط منتج مركب العناصر — صناعيًّا كان ذلك النشاط أو اجتماعيًّا — إذ إنه في كل نشاط منتج ومركب العناصر، ترى العمل منقسمًا بين القائمين به، ولكنه مع ذلك انقسام يربط الأجزاء بعضها ببعض ربطًا أدائيًّا؛ وذلك لأن تلك الأجزاء قد أنشئت لتتعاون معًا على إنتاج نتيجة مشتركة موحدة؛ ولو كان أحد المشروعات المركبة العناصر، التي يسودها تقسيم للعمل على نطاق واسع، ليوقف قبل أن يبلغ ختامه في وقته المناسب؛ ثم لو كانت أوجه النشاط المختلفة بما لكل منها من حاصل خاص، لتؤخذ في اللحظة التي أوقف فيها المشروع قبل تمامه، على أنها هي المرحلة التي تفسر لنا تفسيرًا كاملًا لما هو جارٍ؛ لو كان كل هذا ليحدث، فربما كانت النتيجة التي نستنتجها هي أنه ليس بين تلك الأجزاء المختلفة من تناقض نابع من طبائعها؛ لكننا كنا سنجد عندئذٍ ما يسوغ لنا القول بأن تلك الأجزاء تخلو من الرابطة التي تجمعها، ومن النظام الواحد الذي ينتظمها معًا؛ ونتيجة مناقشتي هذه هي أن أبين ألا مناص لنا من الاعتراف بأن الحكم — مثله في ذلك مثل البحث — أمر يتأثر في طبيعته بمر الزمن؛ فهو حقيقة زمنية لا بالمعنى الخارجي الذي يجعل فعل تكوين الحكم يمتد على فترة من الزمن، بل بالمعنى الذي يجعل مادة موضوعه تتعرض للتحول في كيانها خلال سيرها إلى تحقيق المرحلة الأخيرة من مراحلها، وهي المرحلة التي يتم فيها الحل والتوحيد على صورة معينة؛ وإنها لمرحلة هي الهدف الأخير الذي يتحكم في سير الحكم إبَّان تكوينه. فالرابطة في حكم ما — حين لا تكون مجرد حد له دلالة العلاقة الصورية وحدها — تعبر، بناءً على ما أسلفناه، عن التحول الحقيقي الذي يطرأ على مادة الموضوع في موقف غير متعين تحوُّلًا يجعل ذلك الموقف متعينًا؛ وهكذا نرى الرابطة أبعد ما تكون عن كونها عنصرًا يمكن عزله وحده، حتى ليمكن النظر إليها على أنها هي التي تحرك مضمون الموضوع والمحمول مجتمعين إلى العمل، إذ تحركهما معًا إلى أداء وظيفتيهما، الواحد منهما بالنسبة للآخر؛ والأمر هنا شأنه شأن ما يحدث في المشروعات المركبة العناصر حين توضع للمشروع عادة خطةٌ على الورق تبين تقسيم الأعمال، فليست الخطة نفسها هي التقسيم الفعلي للعمل، بل إن هذا التقسيم إنما يكون في التوزيع الفعلي بين العوامل الفاعلة لما يعمله كل عامل منها في تعاونه مع العامل الآخر؛ فعندئذٍ يكون التوزيع كما يكون التعاون مدبرين على أساس هدف مقصود أو نتيجة يتم حدوثها في عالم الأشياء. ويجوز للخطة أن تعرض وأن تشرح في قضايا؛ وربما كان عرضها في هذه القضايا وسيلة لنقدها ووسيلة لإعادة ترتيب طريقة التقسيم؛ أما التقسيم الفعلي فلا بد أن يكون مجاله مجال التنفيذ العملي؛ فكما ذكرنا الآن توًّا، يجوز للخطة أن توضع في صورة رموز، ثم يجوز لهذه الصورة الرمزية لطريقة تقسيم العمل أن تكون وسيلة ضرورية تؤدي إلى مرحلة التنفيذ الفعلي؛ لكن تلك الصورة الرمزية لا تكون تقسيمًا يؤدي فعلًا من أعمال موزعة بين فاعليها، أكثر مما يكون التصميم على الورق الأزرق منزلًا تُؤدَّى في إقامته عملية البناء فعلًا، ولا أكثر من أن تكون خريطة السير في الرحلة هي الرحلة نفسها؛ فالتصميمات المعمارية على ورقها الأزرق، والخرائط هي قضايا، وهي تمثل لنا ماذا ينبغي أن يتوافر في القضية لتكون قضية بمعناها الصحيح؛ أضف إلى ذلك أن الخريطة لا تقتصر في أداء مهمتها من حيث توجيهها لطريق السير في الرحلات، إذ هي لم توضع موضع التنفيذ في كل حين؛ فكذلك قلْ في القضايا العامة إنها لا تقصر في مهمتها من حيث هي وسيلة لبناء الأحكام، ما دامت إجراءاتها لا تُؤدَّى دائمًا في صورة عمل حقيقي يعمل لإعادة تنظيم الأشياء في عالم الوجود الخارجي. نعم إن القضية لا بد أن تحددها مهمتها الأدائية التي تؤديها، شأنها في ذلك شأن الخريطة، أو شأن أية عدة مادية أو أي عضو من أعضاء البدن؛ هذا إلى أننا في حالة القضية نستفيد بما يكون لدينا مقدمًا من خطط فكرية نصممها ونعدها مهيأة للعمل، قبل أن ندخل في الموقف العملي الذي نستخدمها فيه، كما نستفيد بما يكون لدينا من عدد نستعد بها بدل أن نلفقها تلفيقًا كلما نشأت الحاجة إلى استعمالها؛ وكذلك كما هي الحال في المشروع المركب العناصر في أي ميدان، إذ يتطلب هذا المشروع أن نعد مواده كما زيد أدوات تنفيذه، فكذلك الحال بالنسبة إلى القضايا التي تصف ارتباطات مواد الوجود الخارجي بعضها ببعض — وهي ارتباطات تنتهي آخر الأمر إلى روابط فعلية في المكان والزمان — إذ نجد قيامنا بالبحث الذي من شأنه أن يحدث أثرًا فعليًّا يتطلب تلك القضايا؛ ولئن كنا في بداية البحث نحقق هذه الغاية معتمدين على الأشياء والحوادث كما هي واقعة وحادثة في الوجود الخارجي، نعتمد عليها من حيث هي نتائج فرعية ثانوية، أو من حيث هي رصيد تخلف لنا من البحوث الماضية، إلا أن تلك الأشياء والحوادث آخر الأمر إنما تنظم تنظيمًا مدبرًا بالبحث النقدي الذي نقصد به إلى خلق أشياء نتخذها وسائل فعالة ومفيدة كلما مست بنا حاجة إليها — وهذا هو الفصل الذي يميز الأشياء التي يتناولها الذوق الفطري من الأشياء التي يتناولها البحث العلمي؛ وهكذا نرى القضايا الخاصة بفحوى موضوعاتها، أي الخاصة بما هو قائم فعلًا في الوجود الخارجي من خصائص يرتبط بعضها ببعض ارتباطًا مكانيًّا وزمانيًّا، نرى هذه القضايا تتعرض في حد ذاتها للتحول والنمو، كما تتعرض لهما القضايا الخاصة بالمعاني وما بينها من علاقات سواء بسواء؛ وسنطلق على الأولى اسم الوسائل المادية وعلى الثانية اسم الوسائل الإجرائية، غير ناسين أن النوعين كليهما إجرائيان، ما داما وسيلتين لتحديد الموقف النهائي ولتحديد الحكم. فالشكل المستوي جنس بالقياس إلى المثلث؛ والمثلث جنس بالقياس إلى المثلث المتساوي الساقين والمثلث المختلف الأضلاع والمثلث المتساوي الأضلاع؛ لكن حتى هذه الأخيرة لم تكن إلا تمييزات للأنواع الموجودة فعلًا في الطبيعة؛ ففي صياغتنا للتعريف، أو في هدايتنا للمتعلم كيف يلم بالجوهر الذي يقوم بالتعريف، أو في تمكين الإنسان لنفسه من معاودة الإلمام بذلك الجوهر، نبدأ بالجنس القريب، ثم نعقب على ذلك بذكر الفصل الذي يميز نوعًا من أنواع الجنس، من سائر الأنواع جميعًا التي تقع تحت ذلك الجنس؛ ومن ثَم فالفصل الذي نميز به الجنس «شكل مستوٍ» — في حالة الشكل المثلث — هو أن له ثلاثة أضلاع؛ وعلى هذا فالجنس هو «المادة» المنطقية التي منها نصوغ التعريف، إذ الجنس من التعريف هو كالوجود بالقوة بالنسبة إلى الوجود بالفعل في مادة الوجود. أما الخاصة فليست جزءًا من الجوهر، وإن تكن تنبثق منه بالضرورة؛ ولهذا جاز لنا أن نحملها على موضوع على سبيل التعميم والضرورة، كما نحمل عليه الجوهر المعرف سواءً بسواء؛ فليس جزءًا من جوهر الإنسان أن يكون نحويًّا، لكن العلم بالنحو خاصة تنبثق بالضرورة من جوهر الإنسان من حيث هو عاقل؛ وللنظريات التي تلزم عن التعريفات والبديهيات في هندسة إقليدس منزلة منطقية شبيهة بتلك؛ لكن هنالك من الأشياء ما لا يمكن حملها على موضوعاتها إلا بالعرض — وذلك حين تكون لا هي جزء من الجوهر ولا هي لازمة عنه، وكذلك لا تكون من طبيعة الجنس ولا من طبيعة الفصل؛ ومن هذا القبيل كل المتغيرات التي لا يمكن تسويرها بحدود ثابتة؛ فعندئذٍ لا تكون تلك المحمولات موصولة بموضوعاتها إلا بعلاقات عارضة؛ فيجوز لنا — مثلًا — أن نثبت أن «معظم ذوي العيون الزرقاء شقر» وأن «النهار أثناء الصيف حار عادةً أو على وجه الإجمال» وهكذا؛ لكن الموضوع هنا لا يرتبط برابطة ضرورية بمحموله؛ فكل ما في الأمر أنه قد حدث لهما أن يقعا على هذا النحو — ولسنا نعني بذلك أن ليس هنالك سبب لحدوثهما على هذا النحو دون غيره، بل نعني أن السبب نفسه في هذه الحالة هو تغيرٌ آخر، تربطه علاقة عارضة بما هو دائمٌ وعام وضروريٌّ؛ فليس ثمة من علة عقلية تفسر حدوث الأعراض على النحو الذي تحدث عليه، بالمعنى المقصود من مثل هذه العلة في البناء الأرسطي. كانت هذه النظرية في صور المحمول نافذة وشاملة في الظروف العلمية التي صِيغت تلك النظرية في ظلها؛ لكنها لا تستقيم مع العلم الحديث، إذا نظرنا إليها على ضوء ما لهذا العلم من جانبي النظر والعمل؛ وسأسوق لهذا مثلًا واحدًا أوضح به؛ فالأشياء التي قد يبدو عليها أنها تشذ عن القانون أو عن المبدأ العام، وهي «الأعراض» بالمعنى القديم هي الآن الغذاء الذي يغتذي به البحث العلمي؛ ولهذه الأشياء أساسها و«علتها العقلية» فيما يحيط بحدوثها من ظروف يرتبط بعضها ببعض؛ وليس يقتصر الأمر على أن القضايا العامة ممكنة بالنسبة إلى هذه الروابط، بل إن كل قضية وجودية عامة، أو كل قانون وجودي عام هو من هذه الروابط؛ أما بالنسبة إلى كافة المعاني الأخرى التي نضيفها إلى كلمة «الأعراض»، فإن ما هو «عرضيٌّ» هو ذلك الذي لا صلة هناك تربطه بالموقف القائم، والذي لا بد — بناءً على ذلك — أن يحذف لعدم قيامه عندئذٍ بمهمة الشاهد في المشكلة التي تكون بين أيدينا؛ لأنه إذا لم يحذف، فالأرجح أن يسير بنا في طريق خاطئ؛ واختصارًا فليس في الإمكان تحديد المحمولات الممكنة ولا تحديد السبل التي يمكن حملها بها، تحديدًا نقيمه مقدمًا ونقدمه جاهزًا؛ فكل محمول هو من قبيل الفكر والتصور العقلي، ولا بد له أن يتخذ صورته تلك بحيث يوجه الإجراءات العملية التي من شأن نتائجها أن تلقي الضوء على المشكلة التي نكون بصدد حلها؛ وأن تضيف لنا شواهد جديدة نهتدي بها في ذلك الحل؛ ففيما عدا الحدود التي تقيمها طبيعة المشكلة الماثلة لنا، ليس هناك أية قواعد على الإطلاق تحدد لنا ماذا يجوز أو ماذا يجب أن نحمله على الموضوع من صفات؛ فإذا كانت المؤلفات المنطقية في يومنا الحاضر، لا تزال ماضية في حديثها عن الجواهر والخواص والأعراض، على أساس أنها تختلف — بحكم طبائعها — بعضها عن بعض، فهي بذلك إنما تعيد ذكر فوارق كان لها فيما مضى معنًى وجودي، لكنها قد خلت الآن من ذلك المعنى؛ فكل شيء نعده «جوهريًّا» إذا لم يكن منه بد في بحث نجريه، وكل شيء نعده «عرضيًّا» إذا أمكن الاستغناء عنه.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/8/
المعرفة المباشرة
إن ما قد قدمناه من آراء في مناقشتنا لنموذج البحث ولبناء الحكم، لتقتضي هذه النتيجة؛ وهي أن كل المعرفة من حيث هي قرارات تنبني على أسس تسوغها، تتضمن معرفة غير مباشرة؛ وأعني بالمعرفة غير المباشرة في هذا السياق أن كل قرار مما يجوز قبوله يتضمن عملًا استدلاليًّا؛ فوجهة النظر التي ندافع عنها ها هنا تناقض الاعتقاد بأن ثمة ما يمكن تسميته بالمعرفة المباشرة؛ وأن مثل هذه المعرفة المباشرة شرط أول لا بد من توافره لكي تصبح المعرفة الاستدلالية ممكنة؛ ولما كان هذا المذهب الأخير واسع الانتشار في يومنا هذا، ثم لما كان للنتيجة المنطقية التي تترتب عليه أهمية في ذاتها، رأينا أن نخصص هذا الفصل لمناقشة فكرة المعرفة المباشرة. تتفق المدارس المنطقية — على تعارضها بعضها بعضًا، كما تتعارض المدرسة العقلية مع المدرسة التجريبية — تتفق هذه المدارس على قبول المذهب القائل بالمعرفة المباشرة؛ وهي إذ تختلف حول هذه النقطة فإنما ينحصر اختلافها في الأشياء التي يمكن إدراكها بهذه المعرفة المباشرة، وفي وسائل الإدراك بها؛ فالمدارس العقلية تذهب إلى أن الأشياء التي تدرك بالمعرفة المباشرة هي المبادئ الأولية ذات الطابع التعميمي، كما تذهب المدارس العقلية أيضًا إلى أن العقل هو أداة مثل هذا الإدراك المباشر؛ وأما المدارس التجريبية فمن رأيها أن الإدراك بالحس هو أداة المعرفة، وأن الأشياء التي يمكن إدراكها إدراكًا مباشرًا هي الصفات الحسية، أو هي المعطيات الحسية كما تسمى اليوم عادة؛ وهنالك من النظريات المنطقية ما يذهب إلى أن كلا نوعَي المعرفة المباشرة المذكورين قائمان، وأن المعرفة غير المباشرة والمعرفة الاستدلالية إنما تنتجان عن ازدواجهما، وهو ازدواج يربط الحقائق العقلية الأولية القبلية بالمادة التجريبية. وما كان مذهب المعرفة المباشرة ليتسع انتشاره على هذا النحو، ما لم تكن توحي به مسوغات وجيهة مقبولة، وشواهدُ ظاهرةٌ يمكن بسطها لتأييده؛ وسأسوق فيما يلي مناقشة نقدية للمذهب، بأن أبين كيف يمكن تأويل تلك المسوغات من وجهة النظر التي أخذناها بالفعل في هذا الكتاب. عملية البحث فيها اتصال؛ أي إن النتائج التي ننتهي إليها في بحث ما، تصبح وسائل — مادية أو إجرائية — للاستمرار في بحوث أخرى؛ ونحن في هذه البحوث الأخرى إنما نأخذ ونستغل نتائج البحوث السابقة دون أن نعيد إخضاعها إلى تمحيص جديد؛ نعم إنه إذا خلا تفكيرنا النظري من التحليل النقدي، كان الأغلب أن تجيء نتيجته الأخيرة ركامًا من أخطاء؛ لكن ضرورة هذا التحليل النقدي لأفكارنا السابقة لا تعني أن ليس هناك أشياء في الفكر وأشياء في الخبرة الحسية، قد لقيت خلال السير في الأبحاث المختلفة ما يثبت أركانها ويؤيد صدقها، بحيث يصبح تبديدًا لوقتنا ولجهدنا حين نتصدى لبحوث مقبلة أن نعيد تمحيص تلك الأشياء قبل قبولها واستعمالها؛ وسرعان ما يختلط علينا هذا الاستعمال المباشر للأشياء المعلومة لنا نتيجةً لاستدلالات مسابقة، أقول إنه سرعان ما يختلط علينا الأمر فنعد ذلك الاستعمال المباشر معرفة مباشرة. لقد ذكرنا في الفصل السابق أن الحكم الذي ننتهي إليه آخر الشوط، يتكون بعد سلسلة من الأحكام الجزئية التي تتوسط بين بداية البحث ونهايته، ولقد أطلقنا على هذه الأحكام الوسطى اسم تقديرات أو ترجيحات؛ وإنا لنضع — في قضايا — مضمون هذه الأحكام الوسطى، التي تشمل أمور الواقع كما تشمل التكوينات الفكرية على السواء؛ ثم تكتسب هذه القضايا استقلالًا نسبيًّا في أي بحث يتسع نطاقه (اتساعًا ينشأ عن طبيعة المشكلة التي يتناولها البحث)؛ فعلى الرغم من أنها في نهاية الأمر وسائل نستعين بها على تعيين الحكم النهائي، إلا أنها تؤخذ مؤقتًا على أنها غايات تستوقف انتباهنا لذاتها؛ كما تكون العُدَد في عمليات الإنتاج والبناء الماديين — كما رأينا — أشياء ظاهرة الاستقلال بنفسها، كاملة في ذاتها ومكتفية بذاتها؛ لأن الوظيفة التي تؤديها، والنتائج المرتقبة من قيامها بتلك الوظيفة، تصبحان مندمجتين أتم اندماج في تكوينها المباشر؛ ولا نكاد ننسى أنها وسائل، وأن قيمتها إنما تتحدد بما تحدثه من نتائج من حيث هي وسائل إجرائية لاستحداث تلك النتائج، أقول إننا لا نكاد ننسى ذلك عنها حتى تبدو لنا وكأنما هي موضوعات تدرك بالمعرفة المباشرة، بدل أن ننظر إليها على أنها وسائل لبلوغ المعرفة. فبينما نرى أن استخدامنا استخدامًا مباشرًا للأشياء التي تقررت أثناء محاولتنا لفض مواقف مشكلة سابقة — سواء أكانت تلك الأشياء وقائع خارجية أم أفكارًا داخلية — أقول إنه بينما نرى أن استخدامنا لهذه الأشياء أمر ذو قيمة عملية لا غناء عنها في تسييرنا للبحوث المستقبلة، فليست هذه الأشياء مع ذلك منزهة عند ورودها في البحوث الجديدة عن الحاجة إلى إعادة التمحيص وإعادة التكوين؛ فكونها قد حققت المطالب التي فرضت عليها في بحوث سابقة، ليس برهانًا منطقيًّا على أنها — في الصورة الجديدة التي ظهرت فيها بعدئذٍ — أدوات ووسائل لتحقيق ما يتطلبه الموقف المشكل الجديد؛ بل الأمر على نقيض ذلك، فمن أكثر مصادر الخطأ شيوعًا زعمنا قبل الأوان المناسب بأن موقفًا جديدًا له من أوجه الشبه القريب بمواقف سابقة ما يسوغ أخذ نتائج تلك المواقف السابقة أخذًا مباشرًا إذ نحن إزاء الموقف الجديد؛ فتاريخ البحث العلمي نفسه يدل كم تكرر هذا الخطأ، وكم طال الأمد الذي لم يتنبه أحد خلاله لهذا الخطأ فيكشف عنه؛ فشرطٌ من الشروط التي لا بد من توافرها في البحث المنضبط، هو أن يكون الباحث على أهبة الاستعداد واليقظة فيخضع نتائج البحوث السابقة، مهما تكن متانة الأساس الذي قامت عليه، لإعادة تمحيصها بالقياس إلى مدى انطباقها على المشكلات الجديدة؛ نعم إن ثمة فرضًا مزعومًا يؤيدها، لكن الفرض المزعوم لا يكفي ضمانًا. واعتبارات شبيهة في مجموعتها بما قد أسلفناه، تنطبق على مضمونات القضايا التي نقبلها ونستخدمها؛ فيجوز أن تكون هذه القضايا قد ثبتت صحتها ثبوتًا كاملًا في معالجتنا لبعض المشكلات، ولكنها مع ذلك لا تكون هي الوسيلة المناسبة لمعالجة مشكلات أخرى لها ما للمشكلات الأولى من قسمات في ظاهر الأمر؛ ولنا في هذا الصدد أن نذكر ما قد اقتضاه الأمر من مراجعات لقضايا الميكانيكا القديمة، حين أردنا تطبيقها على أجسام شديدة السرعة بالغة الصغر؛ ولبثت بديهيات الهندسة الإقليدية وتعريفاتها قرونًا، وهي تعد مبادئ أولية مطلقة يمكن قبولها بغير تردد؛ مع أن انشغال من اشتغلوا بعدئذٍ بمجموعة جديدة من المشكلات، قد أظهر أن تلك البديهيات والتعريفات يتداخل بعضها في بعض من جهة، وقاصرة — من جهة أخرى — عن أن تكون أسُسًا منطقية لهندسة تنصب في صورة التعميم؛ واتضح في جلاء من نتيجة هذا كله أن تلك البديهيات والتعريفات الإقليدية، بدل أن تكون حقائق «واضحة بذاتها» تعرف معرفة مباشرة، فهي في حقيقة أمرها مصادرات صُدر بها البحث من أجل النتائج التي تلزم عنها؛ والواقع هو أن الاعتقاد بأنها صادقة بطبيعتها الداخلية نفسها، قد عاق تقدم الرياضة لأنه حال دون حرية الباحث في افتراض ما شاء من مصادرات؛ وبهذا التحول الذي طرأ على تصور البديهيات الرياضية من حيث حاجتها المميزة، قد اندك حصن من الحصون الرئيسية التي كانت تتحصن فيها المعرفة المباشرة للمبادئ الشاملة. وإذن فإنكارنا لوجود المعرفة المباشرة لا يقتضي إنكارنا لحقائق معينة يزعمها أصحاب مذهب المعرفة المباشرة تأييدًا لمذهبهم؛ إنما الذي نضعه موضع الشك هو تفسير هذه الحقائق تفسيرًا منطقيًّا، وعندما عرضنا ملاحظاتنا التي أرسينا بها مضمونات الحكم، سواء كانت تلك المضمونات من وقائع الخارج أو من أفكار الذهن، أقول إننا عندما أرسينا هذه المضمونات من حيث هي أمور مرهونة بوقتها ومن حيث هي إجرائية عملية، كنا بذلك نمهد الطريق تمهيدًا إيجابيًّا لإنكار هذا اللون المعين من تفسير تلك الحقائق التي يفسرها أصحابها بأنها معرفة مباشرة، وهو التفسير الذي نضعه الآن أمامنا لنناقشه مناقشة نقدية؛ فمن المعروف الشائع أن الفرض العلمي لا يتحتم أن يكون صادقًا لكي يكون شديد النفع في تسييرنا للبحث؛ ولو أنعمنا النظر في التقدم التاريخي لأي علم، وجدنا الحقيقة نفسها تصْدقُ كذلك على «وقائع العالم الخارجي»، أعني أنها تصدق على ما كان قد اتخذ في الماضي أدلة شاهدة؛ فقد كانت تلك الوقائع نافعة من حيث هي شواهد، لا لأنها كانت صادقة أو كاذبة، بل لأنها حين اتخذت وسائل مؤقتة عاملة على دفع البحث إلى الأمام في طريق سيره: كانت عندئذٍ مؤدية إلى كشفنا عن وقائع أخرى تبين أنها ألصق بموضوع البحث وأهم؛ وكما أنه عسير أن تجد مثلًا واحدًا لفرض علمي ظهر آخر الأمر أنه فرض صحيح، دون أن يطرأ عليه تغير عما كان عليه أول تقديمه، فكذلك من العسير في أي مشروع علمي هام أن تجد قضية عن أمور الواقع، قد ظلت بغير تغيير خلال شوط البحث كله، من حيث مضمونها ودلالتها؛ ومع ذلك كله فتلك القضايا عن الفروض العلمية وعن الروابط التي جمعت بين أمور الواقع، قد حققت لنا غاية لم يكن لنا عنها بد، وذلك بسبب طبيعتها الإجرائية من حيث هي وسائل؛ وكذلك يدلنا تاريخ العلم على أننا كلما أخذنا الفروض العلمية على أنها صادقة صدقًا لن يأتيه بعد ذلك باطل، ومن ثَم فهي لن تتعرض لريبة مرتاب، أصبحت تلك الفروض نفسها عوائق تحول دون تقدم البحث العلمي، وتركت العلم مغلولًا بآراء أظهرت الأيام بعدئذٍ أنها فاسدة. وإن هذه الملاحظات التي عرضتها لتخلصنا من حجة جدلية استخدمها أصحابها منذ عهد أرسطو، وما زالت مستخدمة إلى يومنا هذا؛ فهم يقولون إنه لا بد للاستدلال أن يرتكز على شيء معلوم يبدأ منه، ومعنى ذلك أنه إذا لم تكن هناك مقدمات صادقة نتخذ منها سندًا يرتكز عليه الاستدلال، كان محالًا علينا أن نصل إلى نتائج صادقة، مهما استوفينا للاستدلال وللسير التدليلي ما يقتضيانه؛ ومن ثَم كانت الطريقة الوحيدة التي نتجنب بها الوقوع في التسلسل الذي لا ينتهي عند حد، هي — في رأيهم — وجود حقائق نعرفها معرفة مباشرة (ونبدأ منها السير)؛ فحتى لو كانت هذه الحجة مستحيلة على الرد من الناحية الجدلية، لكان لنا رغم ذلك أن نواجهها بالوقائع العنيدة التي تبين كيف أمكن لنتائج صحيحة أن تتولد باطراد من «مقدمات» غير صحيحة؛ ومع ذلك فالرد الجدلي بسيط؛ إذ يكفي أن تكون بين أيدينا مادة على سبيل الفرض (نقدمها مشروطة بنتائجها) يكون من شأنها أن توجه البحث في مسالك تنكشف لنا فيها مادة جديدة — من حيث الواقع الخارجي ومن حيث الأفكار الذهنية على السواء — نراها ألصق صلة بموضوعنا، وأرجح شاهدًا وأثبت صدقًا وأخصب ثمرة، مما كانت الوقائع والأفكار التي جعلناها نقطة ابتداء في سيرنا؛ وما هذا القول إلا قول نعيد به ما ذكرناه عن الصفة الإجرائية الأدائية التي قلنا إنها تظل تصف مضمونات الحكم حتى نصل إلى مرحلة تنفيذ الحكم الأخير. غير أن النقطة الهامة بالنسبة إلى الغاية التي نستهدفها من هذا الحديث الذي نحن الآن بصدده، هي أنه إما أن تحدث استجابة مباشرة صريحة (نرد بها على ما أدركناه) كأن أستعمل الآلة الكاتبة أو أن أتناول الكتاب (وفي هاتين الحالتين لا يكون الموقف إدراكيًّا) أو أن يكون الشيء الملحوظ بطريقة مباشرة جزءًا من عملية بحث موجهة إلى تحصيلنا لمعرفة بالمعنى الذي يجعلها قرارات نجيز قبولها؛ وفي هذه الحالة الأخيرة، لا يكون إدراكنا العقلي المباشر ضمانًا منطقيًّا بأن الشيء أو الحادثة التي أدركناها بالعقل إدراكًا مباشرًا، هي بالقياس إلى «وقائع الحال» ما قد ظنناه بها حكمًا بالظواهر؛ أي إنه لا يكون ثمة ما يجيز لنا أن نزعم لها بأنها من الشواهد التي يركن إليها في الأخذ بالقرار النهائي الذي نخلص إليه؛ إذ قد تكون غير ذات صلة — كلها أو بعضها — بالمشكلة التي نحن بصددها، أو قد تكون تافهة الدلالة بالقياس إلى تلك المشكلة؛ فكونها مألوفة لنا يجوز أن يكون هو نفسه ما يعوقنا، إذ ترانا عندئذٍ نميل إلى تحميلها نفس الدلالات التي كانت لها في الحالات القديمة، في الوقت الذي نكون فيه أحوج إلى البحث عن معطيات توحي لنا بما يوجهنا وجهة لم نألفها من قبل؛ وبعبارة أخرى، فإن إدراكنا العقلي لشيء أو حادثة ليس هو نفسه المعرفة بمعناها المنطقي المطلوب، أكثر مما نقول عن الفهم المباشر أو التصور الذهني لمعنى ما إنه هو تلك المعرفة؛ ومن هذه الملاحظات العامة التي ذكرتها، أنتقل إلى تمحيص طائفة من النظريات في المعرفة المباشرة، كان لها تأثيرها التاريخي. فإذا سأل سائل إن كان ثمة حالات من الشعور «تُعَرِّف» نفسها بنفسها بالضرورة، لمجرد كونها حالات من الشعور، أجاب مل بأن هذه مسألة «ميتافيزيقية»؛ وواقع الأمر هو أن الاعتقاد في وجود تلك الحالات كان جزءًا من تقليد نفسي إقليمي، ولم يعد اليوم هذا التقليد قائمًا بصفة عامة؛ على أننا مع ذلك نستطيع مناقشة موقفه إزاء معرفة الجزئيات معرفة «مباشرة»، دون الإشارة إلى أي زعم خاص عن القوام الذي يؤلف طبيعة تلك الجزئيات؛ فلو غضضنا النظر عن كل إشارة للإحساسات ولحالات الشعور، بات واضحًا أن أمثلته قاصرة قصورًا شديدًا عن أن تمثل لما يزعم لها أنها أمثلة له. خذ عبارة «كنت مغضبًا بالأمس»؛ فمعنى ضمير المتكلم هنا — أي قوله «أنا» — بعيد عن أن يكون مُعطًى مباشرًا، بعدًا جعله موضوع نزاع في الرأي أمدًا طويلًا؛ ودع عنك أن تكون معرفتنا ﻟ «الأمس» مباشرة، إذ لا شك أن أحدًا لا يرى «الأمس» رؤية حاضرة؛ وتمييزنا ﻟ «الغضب» من سائر الحالات الانفعالية إنما هو علم كسبناه في كثير من البطء على مر التطور البشري؛ وقل هذا نفسه — من حيث المبدأ — عن عبارة «أنا جائع اليوم»؛ فيجوز لك أن تشعر بالجوع حين لا تكون جائعًا، لأن «الشعور» يمكن استحداثه استحداثًا مصطنعًا دون أن يكون الكيان العضوي في حالة الحاجة إلى طعام؛ وقد يكون تمييزنا بين هاتين الحالتين مشكلة عسيرة الحل؛ وإذا كانت كلمة «اليوم» تعني شيئًا أكثر من اللحظة الحاضرة، كانت تتضمن تكوينًا عقليًّا على كثير من دقة التفصيلات في طريقة بنائه؛ وإنك لتستطيع أن تعثر عند مل على أي عدد شئت من الفقرات، لتستدل بها على أن حالة مباشرة معينة لا يمكن وصفها بأنها حالة جوع إلا إذا جاوزنا الحالة نفسها لنقارن بينها وبين غيرها من أشباهها، مقارنة استدلالية؛ نعم إن أحدًا لا ينكر أن الذوق الفطري يدرك إدراكًا مباشرًا حادثات معينة بحيث يدرك أن لها دلالة هي الغضب أو الجوع أو أمس، أو اليوم؛ لكن «الوضوح الذاتي» الذي يتولد عن الإلف — رغم أنه ذو أهمية عملية — يختلف جد الاختلاف عن الوضوح الذاتي في الإدراك، وكثيرًا ما أدى إلى تضليل الذوق الفطري حتى في الأمور العملية نفسها؛ فنحن إذن مضطرون إلى انتزاع نتيجة، يمكننا تدعيمها بتحليل أوفى تفصيلًا، نحن مضطرون إلى انتزاع نتيجة هي أن مذهب مل بأجمعه، الخاص بالمعرفة المباشرة، هو نفسه استدلال من نظرية نفسية هي أيضًا بدورها قد جاءتنا استدلالًا؛ فهي من حيث مغزاها المنطقي الصرف إنما ترتكز على قبولنا — قبولًا لا تمحيص فيه — للفكرة القديمة القائلة بأنه يستحيل إقامة «البرهان» على قضية، ما لم تكن تلك القضية لازمة عن «حقائق» معلومة بالفعل. إن شرح لُك للمعرفة المباشرة هام، لا لتأثيره التاريخي فحسب، أعني كون نظريته الأصلية الموضوعية في الإحساسات والأفكار كانت هي المصدر لما قد طرأ على تلك الإحساسات والأفكار من تحول فيما بعد، بحيث أصبحت حالات من الشعور، بل إنه هام كذلك لأن لُك قد أدرك إدراكًا واضحًا ما يترتب على نظريته تلك من نتيجة خاصة بالمعرفة، وهي نتيجة أصابها في تطوراتها المستقبلة ما غشاها بالغموض والالتواء؛ فهو يعتقد — من جهة — بأن كل معرفة لنا بالوجود المادي مرتكزة على الإحساس، لكنه يشير — من جهة أخرى — إلى كون الإحساسات (وهي عنده حالات بدنية) تحول بيننا وبين معرفتنا للأشياء كما هي في الطبيعة، حيلولة تجعل المعرفة العلمية بتلك الأشياء أمرًا محالًا؛ فأولًا معظم الكيفيات الحسية لا تنتمي إلى الأشياء الطبيعية، إذ إن هذه الأشياء لا تتصف إلا بالصفات الأولية وحدها، وهي: الشكل، والحجم، والصلابة، والحركة؛ وثانيًا حتى هذه الصفات الأولية نفسها، على النحو الذي تقع به في خبراتنا، لا تمكننا من تحصيل المعرفة ﺑ «التكوين الحقيقي» الذي يكون للأشياء. قد كان يمكن لهذه النتيجة السلبية سلبًا تامًّا، التي وصل إليها «لُك»، وهي نتيجة تلزم حتمًا عن اعتبار المعطيات الحسية نفسها موضوعات للمعرفة، أقول إنه كان يمكن لهذه النتيجة أن تجيء نذيرًا لأصحاب النظريات المستقبلة، حتى لا يعزوا مضمونًا إدراكيًّا إلى المعطيات الحسية في حد ذاتها، كان يمكن أن تجيء لهم نذيرًا يستحثهم على تمحيص كل مقدمة من شأنها أن تؤدي إلى نتيجة تجعل معرفتنا بالأشياء كما هي في الطبيعة أمرًا محالًا؛ لأنه إذا كانت المعطيات الحسية أو غيرها من المعطيات، تعد نهائية وقائمة بذاتها (أي في عزلة وحدها من حيث هي موضوعات للمعرفة)، إذن لما كان في حدود المستطاع أن ننسب إليها محمولات ذوات صلة بالوجود الخارجي الموضوعي، بحيث يكون لدينا ما يسوغ ذلك. لو أن هذه الطريقة في تأويل الصفات الحسية قد جُعلت أساسًا، لأمكن أن تظهر لنا الصفات على أنها ليست في ذاتها موضوعات للمعرفة الإدراكية، بل على أنها تكتسب وظيفتها الإدراكية حين نستخدمها في مواقف معينة، تكون فيها الصفات علامات تدل على شيء سواها؛ ذلك أن الصفات هي الوسيلة الوحيدة التي نملكها لتمييز الأشياء والحوادث بعضها من بعض؛ وفائدتها من حيث هي كذلك لا تنقطع؛ ولا ضرر في الأمور العملية من توحيدنا للوظيفة التي تؤديها الصفة بالصفة نفسها، فنعدهما موجودًا واحدًا؛ كما أنه لا ضرر من أن نعد شيئًا ما مجرافًا، لأن الاستعمال العملي للشيء، والنتائج التي تترتب على ذلك الاستعمال جانبان مندمجان في وجوده؛ هذا من الوجهة العملية، أما من الوجهة النظرية فإن عجزنا عن تمييز وجود الشيء عن وظيفته، قد كان مصدرًا لخلط مذهبي لم ينقطع. قد رأينا أن التفسير الذي عرضه مل معيب بنقصين خطيرين؛ فقد عد الصفات حالات من الشعور، وظن أن أشياء مركبة مثل اليوم، وأمس، وغضب، معطيات أولية بسيطة، فجاءت النظرية الحديثة وتخلصت من هذين الخطأين؛ فأصبحت الصفات كائنات في الخارج الموضوعي (لا في مجرى الشعور الداخلي كما ظن مل) وعدت معطيات حسية؛ وأما مضمونات القضايا التي تؤخذ على أنها تجيء إلينا مباشرة من الوجود الخارجي، فتعالج الآن على أنها مركبات يمكن ردها إلى معطيات لها من البساطة ما لا يمكن رده بعد ذلك إلى ما هو أبسط؛ وإدراكنا العقلي لهذه الصفات البسيطة المباشرة، هو الذي يؤلف القضايا «الذرية» بينما تعد القضايا المشتملة على معامل استدلالي «مركبة»؛ فقضايا من قبيل «هذا أحمر، وصلب، وحلو» … إلخ تكون ذرية؛ وبناءً على النظرية التي نبسطها، تعتبر كلمة هذا في مثل هذه القضايا الذرية خلوًا من كل المميزات الوصفية؛ لأنه لو كانت هذا أكثر من مجرد أداة إشارية عارية، لأصبحت مركبة، ومن ثَم — بناءً على هذه النظرية — أصبحت شيئًا لا نعطاه عطاءً مباشرًا، ففي قولنا «هذا الشريط أحمر» لا يكون مدلول كلمة شريط مما يُعطى بالمعنى الذي نُعطى به «هذا» و«أحمر»؛ ومن المؤلفين من يدخل في نطاق القضايا الذرية قضايا مثل «هذا قبل ذاك» باعتبارها علاقة بسيطة غير قابلة للتحليل، ومعطاة لنا عطاءً مباشرًا. ولقد نقدنا فيما أسلفناه الفكرة القائلة بأن هنالك أداة إشارية محضًا، هي كلمة «هذا»، بحيث تخلو خلوًّا تامًّا من أي مضمون وصفي، فكل حالة نستخدم فيها كلمة هذا — بناءً على النظرية المنطقية الذرية — استخدامًا يجعلها موضوعًا لقضية، لا بد لها من الوجهة المنطقية (وإن لم تكن كذلك من حيث الكيف) أن تتطابق تطابقًا ذاتيًّا مع أي حالة من قبيلها؛ فكل حالة من هذه الحالات إنما تتحدد بمجرد الفعل الإشاري الذي نشير به إلى ما نشير إليه، وكل فعل إشاري — باعتراف أصحاب النظرية أنفسهم — لا يشتمل على شيء يميزه من سائر الأفعال الإشارية الأخرى؛ فيلزم عن هذا أن ليس ثمة من أساس أو مبرر لحملنا صفة ما دون صفة أخرى على أداة الإشارة؛ ولا تخف المسألة إذا قيل إن المعطى الأولي الذي لا يرتد إلى ما هو أبسط منه، هو «هذا الأحمر» (لا «هذا» وحدها)؛ لأنه حتى في هذه الحالة لا يكون لدينا قضية، بل كل ما لدينا عندئذٍ هو «موضوع» عارٍ لا يصلح أن يكون موضوعًا لأي محمول؛ وكما هو الأمر في الحالة الأولى، لا أساس هناك إطلاقًا يسوغ لنا أن نحمل على الموضوع أي محمول متعين. ولا سبيل إلى الإنكار — فيما أظن — بأن جواز قبولنا لجملة تقرر بأن صفة محاضرة معطاة هي أحمر، يتطلب في حقيقة الأمر سلسلة من إجراءات تجريبية مما يقتضي تقنيات معينة؛ فالتحديد العلمي يختلف عن قرار يقرره الذوق الفطري عن وجود صفة خاصة، في كون التحديد العلمي يستخدم مثل تلك التقنيات، فمثلًا تحديدنا للأحمر تحديدًا علميًّا قائمًا على أساس محكم، يقتضي من التقنيات ما يثبت لنا وجود عدد معين من الذبذبات في كل وحدة زمنية؛ وبعبارة أخرى، لست أحسب أن أصحاب النظرية الذرية يذهبون إلى أن الصفة الذرية، أولية بالمعنى النفسي، بل هي أولية بالمعنى المنطقي الذي يجعل أية قضية وجودية ترتكز آخر الأمر على تحديد صفة بسيطة من أي نوع؛ لكن لما كان البحث في معظم الحالات لا يسير بالفعل كل هذا الشوط، لزم أن نسلم بأن المشاهدة التجريبية — من الوجهة النظرية — لا بد لها أن تمضي حتى تعين صفة ما غير قابلة للتحليل إلى ما هو أبسط منها، لكي يتسنى لنا قبول قضية وجودية قبولًا كاملًا، لكننا كلما ازددنا لهذه الحقيقة تبينًا، ازداد الأمر وضوحًا بأن مثل هذا التحديد لا يكون كاملًا ونهائيًّا في ذاته، بل هو وسيلة لفض مشكلة قائمة؛ فهو عامل في إقامة ما يمكن أن نتخذه وأن نستخدمه شاهدًا يركن إليه، فانظر — مثلًا — كيف نجشم أنفسنا أشق الصعاب في تحليل الطيف الشمسي لننتهي إلى قضية مكينة الأساس، مؤداها أن الصفة اللونية الفلانية ماثلة أمامنا. إنه على الرغم من أن المضي في مناقشة المبادئ المنطقية المتضمنة في النظرية التي نحن بصددها، سيقتضي بعض التكرار لما قد سبق أن ذكرناه، إلا أن أهمية الموضوع الأساسية تبرر هذا التكرار، خصوصًا إذا علمنا أننا سننظر إلى الموضوع من وجهة نظر غير التي نظرنا إليه منها، فلقد كانت العادة في الفلسفة حينًا من الزمن (١) أن تنظر إلى عالم الذوق الفطري في تباينه مع مجال الأشياء العلمية، على اعتبار أن الخاصة المميزة للأول هي أنه يدرك بالحس بالمعنى الدقيق هذه العبارة؛ (٢) وأن تعد الإدراك الحسي ضربًا من ضروب المعرفة الإدراكية؛ (٣) وأن تجعل — بناءً على ذلك — لما يدرك بالحس، شيئًا كان أو صفة، طابعًا وقوة إدراكيين؛ لكن هذه المزاعم كلها ليست مما يجوز قبوله؛ (أ) فعالم الذوق الفطري يشمل حقًّا أشياء مدركة بالحس، لكن هذه الأشياء لا تفهم إلا في سياق من بيئة، والبيئة قوامها تفاعل بين الأشياء وكائن حي؛ وهي قبل كل شيء المجال الذي تتم فيه الأفعال والنتائج، التي نؤديها ونخضع لها في عمليات التفاعل؛ ولا تصبح أجزاءُ البيئة وجوانبها موضوعات للمعرفة إلا بصفة ثانوية فمقوماتها هي أولًا أشياء نستخدمها ونستمتع بها أو نتألم لا أشياء للمعرفة، (ب) وأما عن الإدراك الحسي، فالبيئة تكوِّن مجالًا فسيحًا، زمانًا ومكانًا؛ ولا يحدث إلا آنًا بعد آن أن توجه الأفعال المنعكسة في سلوك الكائن العضوي إبَّان حياته نحو مثيرات مفردة بمعزل عن سياق البيئة؛ ذلك أن صيانة الحي لحياته أمر موصول الحلقات، يتضمن أعضاء وعادات اكتسبها في ماضيه، ولا بد له أن يكيف أعماله التي يؤديها بحيث تلائم الظروف المستقبلة وإلا لحقه الموت وشيكًا؛ وإذن فالمادة التي يتجه إليها السلوك مباشرة إن هي إلا بؤرة مركزية في مجال بيئي بأسره؛ ولا بد لنوع السلوك الذي يسلكه الحي — لكي يكون سلوكًا متكيفًا ومستجيبًا لما يحيط به — أن يختلف باختلاف المجال الذي قلنا إن بؤرته المركزية شيء يتجه إليه السلوك اتجاهًا مباشرًا. فيلزم عن ذلك أننا إذ ندرك أشياء أو صفات إدراكًا نصفه بأنه معرفة، فإنما ننظر إليها حينئذٍ بالنسبة إلى ضرورات المجال الحسي الذي حدثت فيه؛ فعندئذٍ تصبح أشياء في مجال المشاهدة، بحيث يكون تعريف المشاهدة تعريفًا دقيقًا هو أنها التحديد الذي يختار هذا ويستبعد ذلك، حتى يقع على الشيء المعين أو الصفة المعينة داخل مجال بيئي بأسره؛ والعادة أن «نفهم» المجال البيئيَّ في مجموعه، أي أن نأخذه مأخذ التسليم، لأنه قائم هنالك بمثابة الشرط اللازم لأدائنا فعلًا ما من شأنه أن ينصرف إلى جزء من البيئة دون جزء آخر؛ ولقد صِيغت النظرية النفسية الخاصة بالإدراك الحسي على أساس ما يحدث هذه الحالات الخاصة التي نتجت عن عملية الفرز، وأعني الحالات التي فيها نشاهد وندرك بالحس شيئًا ما بمفرده أو صفة ما بمفردها، كأن نرى برتقالة أو أن نرى بقعة صفراء؛ وليس يقتضيني الأمر هنا أن أتناول بالنقد هذه الطريقة في النظر إلى المسألة، لكي أعرض ما يحدث في حالة المشاهدة ذاتها، وما يدخل في هذه الحالة من مسألة نفسية: لكن إذا تحولت نتائج هذه النظرة إلى نظرية منطقية، بأن يجعل أصحابُ هذه النظرية تلك النتائج أساسًا يقيمون عليه نظريتهم الخاصة بالمعطيات الحسية من حيث خصائصها، وآثارها المنطقية، فعندئذٍ يتمخض الأمر عن تشويه شامل؛ لأن الأشياء المفردة أو الصفات المفردة تؤخذ عندئذٍ وهي في حالة انفرادها لتكون هي المعطيات. وإنا لنعترف بوجود الفرق بين المعرفتين وأهميته؛ لكن ذلك بعيد جدًّا عن أن يكون تأييدًا للنظرية المنطقية التي تقول بالمعرفة المباشرة؛ إذ إن المباشرة المتضمنة في تلك المعرفة إن هي إلا العلاقة الوثيقة بينها وبين الانفعال والقدرة على العمل؛ فأولًا ليست المعرفة بالاتصال المباشر معرفة أولية بل هي مكتسبة، ولذلك فهي تتوقف على خبرات سابقة دخلت فيها معرفة غير مباشرة؛ وثانيًا (وهذه نقطة أهم من الأولى لما نحن بصدده الآن) ليست المعرفة بالاتصال المباشر في كثير من حالاتها معرفة بالمعنى الذي يجعلها قرارات يجوز لنا قبولها؛ نعم إنها تمكننا من أن نتوقع ما عساه يحدث في المجال العملي، وهي توقعات ربما تحققت بالفعل في أغلب الأحيان؛ غير أن الإلف الذي يكتنف معرفتنا بالاتصال المباشر، كثيرًا ما يعمينا عن أشياء غاية في الأهمية من حيث هي مؤدية بنا إلى النتائج التي وصلنا إليها؛ فإلفنا لعادات معينة في الكلام لا ينجينا من الوقوع في الخطأ ومن الزلل، بل قد يكون مصدرًا للخطأ والزلل؛ وإذن فمن الناحية المنطقية لا بد للمعرفة المباشرة أن تخضع للمراجعة والبحث النقديين، بل إنها عادةً تدعو إليهما. (٢) وحالات التعرف — ولنا أن نقول إن التعرف يتم لصاحبه فورًا — مسوغ تجريبي آخر يؤيدون به النظرية التي نتناولها الآن بالتمحيص؛ وما قلناه في نقطة المعرفة بالاتصال المباشر، نقوله هو نفسه عن التعرُّف؛ بل الحق أن التعرف يمكن اعتباره حالة خاصة من حالات المعرفة المباشرة، تبلورُ هذه المعرفة في حدها الأدنى؛ فترانا نتعرف أشخاصًا لم يكن لنا بهم إلا صلة طفيفة؛ ونتعرف كلمات في لغة أجنبية دون أن تكون لنا صلة بهذه اللغة تمكننا من التحدث بها أو قراءتها؛ هذا إلى أن تعرف الأشياء هو كالمعرفة المباشرة في أنه (أ) حصيلة خبرات اقتضت شكًّا وبحثًا، (ب) وعلى الرغم من أهميته العملية العظيمة، فليس هو في غناء عن ضرورة قيامنا ببحوث تحدد لنا مدى صواب حالة معينة من حالات التعرُّف، ومدى صلتها بالمشكلة التي نكون إزاء حلها؛ فليس التعرُّف تعرفًا بالمعنى الذي يجعله تكرارًا لمعرفة سابقة، بل هو أقرب إلى أن يكون اعترافًا بشيء معين أو بحادثة معينة من حيث هي ذات مكانة معينة في موقف قائم. إن المذهب القائل بأن «الإدراك العقلي البسيط» كيان مكتمل في ذاته، كثيرًا ما يصطحب بمغالطة، إذ تراهم يظنون أنه ما دام فعل الإدراك العقلي بسيطًا ومفردًا، فلا بد بناءً على ذلك أن يكون الشيء المدرك على هذا النحو بسيطًا كذلك ومفردًا؛ بيد أن المشاهد المركبة العناصر قد تدرك أيضًا إدراكًا عقلًا بسيطًا، مثال ذلك حين يعود الإنسان إلى مشهد طفولته؛ هذا إلى أن الأشياء البسيطة نسبيًّا، ليست تعتمد أهميتها على تكوينها البسيط في ذاته، بل إنها هامة بسبب ما تتيح لها بساطة تكوينها أن تؤدي ما تؤديه حين تؤدي دور الشواهد المرجحة لحل دون آخر، مثال ذلك ما تؤديه بصمات الأصابع في تحديدها لأشخاص بذواتهم؛ وشبيه بذلك أن نتعرف شخصًا مألوفًا لنا بصوته وحده دون أن نضطر إلى رؤيته بكل جسده؛ وهكذا ترى قدرتنا على اتخاذ ما هو بسيط نسبيًّا وسيلة لتحديد ذاتيات الأشياء، توفر لنا وقتًا وجهدًا. فحقائق كهذه تُوحي بالمهمة الخاصة التي تؤديها البسائط أو العناصر البسيطة في مجرى البحث؛ فكلما ازداد بناء الشيء تركيبًا ازداد عدد ما يمكن استدلاله من نتائج تلزم عن وجوده، لأن مقوماته المختلفة تشير في اتجاهات مختلفة؛ وكذلك كلما قلَّ الشيء المعين أو الحادثة المعينة تركيبًا في بنائها، ازداد كذلك هذا البناء تقيدًا، ومن ثَم ازداد الشيء أو الحادثة تعينًا في قدرتها على الإشارة الدالَّة؛ وفي تاريخ العلم شواهد كثيرة تدل على أن تحليل الأشياء إلى عناصرها البسيطة هو من أفعل الوسائل لصيانة البحث الاستدلالي ولتوسيعه في آنٍ معًا؛ وليس لدينا دليل يشهد بأن أمثال هذه العناصر البسيطة موجودة بذواتها في الطبيعة، ولكن إذا كان من الحمق أن نعارض عملية التحليل وما تؤدي إليه من إبراز تلك العناصر، فذلك الحمق نفسه الذي نصف به تلك المعارضة، دليل كذلك على أن فكرة «البسيط» و«العنصر» فكرة أدائية، وأننا إذا ما خلعنا على البسائط والعناصر صفة وجودية مستقلة، سواء أكان ذلك في الفيزياء أم علم النفس أم التشريح أم السياسة، لم يكن ذلك منا إلا مثالًا جديدًا لاكتفائنا بما هو في حقيقته وسيلة لسواه. إنه ينبغي لسلسلة القضايا التي منها تتألف حلقات الحديث المرتب أن تجيء بحيث تكون معاني الحدود الواردة فيها من الوضوح والتحديد بالقدر المستطاع؛ غير أن استيفاء هذا الشرط لا يضمن صدق انطباقها على مشكلة بعينها؛ ومن ثَم كان الفهم — مثل الإدراك العقلي للأشياء الخارجية — بغير نهاية يقف عندها؛ فمحال على قضية تروي العلاقة القائمة بين المعاني — مهما تبلغ هذه القضية من التحديد ومن الكفاية — أن تقوم وحدها منطقيًّا، كلا ولا سبيل إلى زوال عجزها هذا عن القيام وحدها، إذا نحن ضممناها مع غيرها من القضايا التي من نفس نوعها، على الرغم من أن ضمها إلى غيرها قد ينتهي بنا إلى وضع المعاني على هيئة تجعلها صالحة للتطبيق. ومزعوم للقضية التي سقناها مثالًا للصورة أنها «عامة تعميمًا مطلقًا، أي إنها تصدق على الأشياء والخصائص كافة، وإنها واضحة بذاتها وضوحًا تامًّا» ثم هي فوق ذلك قبلية «فما دامت لا تذكر أي شيء بذاته، بل لا تذكر أية صفة بذاتها أو أية علاقة بذاتها، فهي إذن مستقلة أتم استقلال عما يحدث في العالم الموجود من وقائع عرضية؛ ولذلك فمعرفتها ممكنة — من الوجهة النظرية — بغير أية خبرة لنا بالأشياء الجزئية المعينة أو بما لهذه الأشياء من صفات وعلاقات»؛ وهذه النتيجة إنما تلزم عن حقيقة منطقية ومفروضة، هي أن «الحقائق العقلية العامة لا يمكن استدلالها من حقائق عقلية خاصة فقط، بل لا بد لها — إذا أردنا معرفتها — إما أن تكون واضحة بذاتها، أو أن تكون مستنتجة من مقدمات تكون إحداها على الأقل حقيقة عقلية عامة؛ ولما كانت الشواهد التجريبية كلها حقائق جزئية، لزم كذلك أنه إذا كان ثمة من معرفة لدينا بحقائق عقلية عامة إطلاقًا، فلا بد أن يكون هنالك جانب من معرفتنا بالحقائق العقلية العامة بحيث يكون مستقلًّا عن الشواهد التجريبية، أي إنه لا يكون معتمدًا على معطيات حسية». والجوانب التي تتصل بالمشكلة المذكورة اتصالًا مباشرًا، هي — أولًا — أن ما هو «واضح بذاته» في القضية المنطقية العامة التي أسلفناها، هو معناها؛ وقولنا عنها إنها واضحة بذاتها معناه أن من يتدبرها في منظومة المعاني التي هي أحد أعضائها، سيدرك معناها في علاقتها بسائر معاني المنظومة — تمامًا كما يفهم معنى قضية تجريبية مثل قولنا «ذلك الشريط أزرق»؛ وأما ما يكون لتلك القضية من قوة ووظيفة منطقيتين، ثم ما يكون لها من تأويل نفسرها به، فأمر يظل بحاجة إلى النظر، تمامًا كما يظل صدق القضية التجريبية بحاجة إلى النظر، حتى بعد أن يتم لنا إدراك معناها. ثانيًا، إن التأويل النظري الذي نفسر به دلالة المعنى الذي قد أدركناه إدراكًا مباشرًا، أمر بعيد عن أن يكون واضحًا بذاته؛ فهنالك — مثلًا — بديل آخر (غير أن يكون للمعنى المدرك في رءوسنا إدراكًا مباشرًا دلالة يشير إليها) هو الذي يسوقه «بيرس» من الوجهة النظرية، وأعني به قوله بأن جميع القضايا المعبرة عن الصور والعلاقات المنطقية، هي مبادئ هادية وليست بمقدمات؛ فهي من هذه الوجهة النظر، صياغات صورية نصوغ بها الإجراءات العملية، أي إنها صياغات صورية بمثابة (أ) فروض نفرضها عن الإجراءات العملية التي يجوز لنا أداؤها في كل البحوث التي من شأنها أن توصِّلنا إلى نتائج جائزة القبول، و(ب) فروض تأيُّد صدقها بغير استثناء في شتى الحالات التي قد أدت بنا فعلًا إلى قرارات مدعمة: على حين أن (ج) تقصيرنا في مراعاة الشروط المتضمنة فيها، قد أدى بنا — كما دلت على ذلك خبرتنا الفعلية فيما قمنا به من بحوث ذات نتائج معلومة — إلى نتائج غير مدعمة. إنهم لا يدَّعون أن هذه القضية التي نقولها عن القضايا المنطقية هي «واضحة بذاتها» من حيث صدقها، بل يدَّعون أن لها معنًى مفهومًا، يمكننا إدراكه إدراكًا مباشرًا من حيث هو معنًى، وأن هذا المعنى من شأنه — إذا ما استخدمناه أو طبقناه على مسائل النظرية المنطقية — أن يوضح تلك المسائل ويحلها؛ هذا إلى أن الفكرة القائلة بأن «الخبرة» يمكن ردُّها إلى قضايا ذرية نتلقاها تلقيًا مباشرًا ويكون لها صدق واضح بذاته، أقول إن هذه الفكرة — من جهة أخرى — تحمل في ثناياها ضروبًا من الإشكال والخلط؛ فالقضايا العامة عن الصور المنطقية هي دالات قضايا، فتكون بذاتها — من حيث هي دالات قضايا — لا هي صادقة ولا هي كاذبة؛ إنما هي تقرر أساليب من الإجراء العملي في أدائنا لعملية البحث، وهي أساليب نفرض فيها مبدئيًّا أنها ممكنة التطبيق وأنها مطلوبة لأي بحث منضبط؛ فشأنها شأن البديهيات الرياضية، من حيث إن معناها أو قوتها يتقرر ويقاس صدقه بما يترتب على استخدامها العملي من نتائج. وإلى هنا تنتهي مناقشتنا فيما يختص بالمعرفة المباشرة بوصفها مذهبًا نعني به عناية مباشرة؛ لكن يجوز لنا أن نضيف أشياء أخرى من ناحية الجانب غير المباشر (الاستدلالي) الذي يطبع كافة ضروب المعرفة، نضيفها لنتقي بها سوء الفهم: (أ) إننا لا نقول بأن التأويلات التي نستدلها تستند في اختبار صدقها وفي إثباتها والتحقق من نتائجها (أو عدم التحقق من ذلك) على الأشياء الجزئية من حيث هي أشياء جزئية في ذاتها؛ بل الأمر على نقيض ذلك، إذ إن معيارنا في ذلك كله هو قابلية الفكرة المستدلة أن ترتب وأن تنظم الأشياء الجزئية في كل ملتئم؛ (ب) ولا نقول بأن الاستدلال وحده يستنفد العمليات المنطقية كلها، وهو وحده الذي يحدد الصور المنطقية كلها؛ بل الأمر على نقيض ذلك أيضًا، إذ إن البرهان — بمعنى اختبار صدق النتائج — عملية لا تقل عن الاستدلال نفسه أهمية. أضف إلى ذلك أن الاستدلال — حتى من حيث علاقته باختبار الصدق — ليس من الناحية المنطقية مكتملًا بذاته ولا هو نهاية المطاف، فصميم النظرية كلها التي نبسطها في هذا الكتاب هو أن فض الموقف اللامتعين هو الذي يكون خاتمة المطاف، بالمعنى الذي يجعل «الخاتمة» خاتمة تقع منا في مدى البصر، وبالمعنى الذي يجعل «الخاتمة» خاتمة بالمعنى القريب؛ فبناء على هذه النظرة يكون الاستدلال تابعًا رغم كونه ضرورة لا غناء عنها؛ وليس هو — كما نراه مثلًا في منطق جون ستيوارت مل — مانعًا جامعًا، أي إنه شرط ضروري، ولكنه وحده لا يكفي لوصولنا إلى قرارات جائزة القبول.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/9/
أحكام التجربة العملية: التقويم
قد خصصنا الفصل السابق لتأكيد ضرورة الخطوات الاستدلالية في المعرفة من حيث هي قرارات جائزة القبول؛ وليست هذه الضرورة بقائمة وحدها بمعزل عن سواها، بل هي جانب هام من جوانب نظرية البحث والحكم التي توليناها بالعرض والبسط؛ وإنما خصصنا لها عناية في عرضها مستقلة عن سواها، بسبب ما قد جرى به التقليد وما لا يزال يجري بيننا اليوم من مذهب في الحقائق العقلية الواضحة بذاتها والقضايا التي تتخذ من نفسها أساسًا عقليًّا ترتكز عليه؛ لكنْ هنالك جانبٌ آخر في نظريتنا الأساسية، وهو جانب يساوي الجانب السابق (بل ربما زاد عليه) في معارضته للنظرية المنطقية السائدة، ولذلك فهو أيضًا بحاجة إلى تناول صريح؛ وذلك أننا — على خلاف النظرية السائدة — نأخذ في هذا الكتاب برأي مؤداه أن البحث من شأنه أن يحدث تحولًا في الوجود الخارجي. كما يحدث إعادةً لتكوين المادة التي يتناولها؛ لأن نتيجة التحول الناشئ حين يكون قائمًا على أساس من معقول، هي تحويلُ موقف مشكل غير متعين، ليصبح موقفًا متعينًا حُل إشكاله. وإن إبرازنا هذا لجانب التحول الذي يصيب خصائص المادة الوجودية كما كانت قبل البحث، وإبرازنا لفكرة أن الحكم هو هذا التحوُّل كما ننتهي إليه بعد البحث، ليباينُ النظرية التقليدية مباينة حادة؛ فهذه النظرية التقليدية تذهب إلى أن ما عساه أن يحدث من تغيرات في البحث بما في ذلك أكثر البحوث انضباطًا، إنما ينحصر في الشخص العارف من حيث حالاته وعملياته الداخلية — وأعني به الشخص الذي يمسك بزمام البحث — ولذلك جاز أن تسمى تلك التغيرات «ذاتية» بحق، سواء أكانت ذاتيتها تلك عقلية أم نفسية؛ كما جاز أن تسمى بأي اسم آخر شبيه بهذا؛ فهي تغيرات لا تقوم على أي أساس موضوعي، ومن ثَم أعوزتها القوة المنطقية وأعوزها المعنى؛ وأما وجهة نظرنا في هذا الكتاب فعلى خلاف ذلك، إذ نرى أن ما عند الباحث نفسه من اعتقادات وحالات عقلية لا يجوز أن يتغير تغيرًا مشروعًا إلا بمقدار ما تُؤدى الإجراءات العملية التي تمس الوجود الخارجي، والتي تضرب بجذورها آخر الأمر في مجال النشاط العضوي، إلى تحوير المادة الموضوعية وتغيير صفاتها؛ وإلا لما اقتصر أمر التغيرات «العقلية» على مجرد كونها عقلية (كما تريد لها النظرية التقليدية) بل تصبح تعسفية وفي طريقها إلى أن تكون خيالات وأوهامًا. إن النظرية التقليدية بصورتَيها التجريبية والعقلية لتذهب إلى أن كافة القضايا إنما تقرر أو تصرِّح بما قد كان من قبلُ قائمًا في الوجود المادي أو في الوجود العقلي؛ وإنها لتذهب كذلك إلى أن هذه المهمة التقريرية للقضايا أمر مكتمل في ذاته يبلغ بالمطاف إلى ختامه؛ وعلى خلاف ذلك وجهة نظرنا في هذا الكتاب، إذ نذهب إلى أن القضايا التقريرية — سواء أكانت تقرر لنا عن وقائع في الخارج أم عن تصورات ذهنية (كالمبادئ والقوانين) إن هي إلا مراحل وسطى في سبيل السير، أو هي أدوات وسلية (أدوات مادية وإجرائية على التوالي) من شأنها أن تحدث لنا ما عسانا أن نستهدفه عن كثب (وكذلك ما نستهدفه في نهاية الأمر) من تحول مقصود نريد له أن يطرأ على مادة الموضوع الذي نبحثه؛ فذلك التحول هو الهدف القريب (والبعيد) من كل القضايا التقريرية إثباتًا كانت أو نفيًا؛ وليلاحظ القارئ أن ما ننكره هنا ليس هو حدوث القضايا التقديرية الخالصة، كلا، بل إننا — على عكس ذلك — نؤكد تأكيدًا صريحًا — كما سنبين ذلك تفصيلًا فيما بعد — وجود أمثال تلك القضايا، إذ هي التي تبسط العلاقات القائمة بين حقائق الواقع الخارجي من جهة، وبين أجزاء مادة الموضوع كما هي كائنة في تصورنا العقلي من جهة أخرى؛ وأعود فأقول إن موضع الإشكال هنا ليس هو وجود تلك القضايا، بل هو جانبها الأدائي وطريقة تأويلها. ولنا أن نضع وجهة النظر المذكورة في العبارة الآتية: إن كل بحث موجه وكل حالة ننشئ فيها قرارًا مدعمًا، لا بد بالضرورة أن يكون مشتملًا على جانب عملي؛ أي على نشاط ننشط به في أداء شيء ما أو صنع شيء ما، من شأنه أن يعيد تشكيل المادة الوجودية السابقة لقيام البحث، والتي تقيم للبحث مشكلته (التي يتناولها بالحل)؛ وسنبين كيف أن هذه الوجهة من النظر ليست مزعومة على سبيل الجزاف، بل هي وجهة تمثل ما يحدث حقًّا (أو ما هو إشكال حقيقي) في بعض الحالات على الأقل، أقول إننا سنبين ذلك بأن نستعرض بالنظر بعض صور البحث في مجال الذوق الفطري، وهي صور البحث الذي يقصد إلى تحديد ما ينبغي فعله في بعض الأزمات العملية. وليست البحوث التي من هذا القبيل بالشواذ ولا هي بالقليلة الوقوع، إذ الكثرة العظمى من بحوث الذوق الفطري وأحكامه هي من القبيل المذكور؛ وما نتدبره من شئون حياتنا اليومية هو مسائل خاصة — إلى أبعد حد — بما عسانا صانعيه أو فاعليه؛ وكل صناعة وكل مهنة لا تنفك تواجهها مشكلات متكررة من هذا القبيل؛ فلأنْ نضع وجود هذه المشكلات موضع شك مساوٍ لإنكارنا اشتراك الذكاء بأي عنصر من عناصره في المجال العلمي بأية صورة من صوره؛ أو هو مساوٍ لقولنا بأن كل ما نتخذه من قرارات في الشئون العملية هو نتائج اعتسافية للنزوة والطيش والعادة العمياء والجزاف؛ فالزارع والميكانيكي والرسام والموسيقى والكاتب والطبيب ورجل القانون والتاجر ومدير الصناعة ورجل الإدارة وصاحب الحكم، كل واحد من هؤلاء لا مندوحة له في كل لحظة عن البحث فيما هو خيرٌ له أن يؤديه في الخطوة التالية من عمله؛ وقراره الذي يصل إليه في ذلك، إنما يصل إليه بجمعه ثم باستعراضه للشواهد التي يزن قيمتها ويقرر صلتها بموضوعه، اللهم إلا إذا كان قراره ذاك قد جاءه عن خبط أعمى وضرب جزاف؛ كلا، بل إنه بعد جمعه واستعراضه للشواهد كما ذكرنا، تراه يأخذ في رسم خطط العمل واختبارها من حيث قابليتها لأن تكون فروضًا علمية، أعني قابليتها لأن تكون أفكارًا. إن المواقف التي تستثير منا التدبر الذي ينتهي إلى قرار، لهي بحكم وصفها هذا مواقف غير متعينة بالقياس إلى ما يجوز أو ما ينبغي عمله؛ فهي مواقف تتطلب وجوب عمل ما لا بد من أدائه، أما ما هو هذا العمل الذي علينا أن نؤديه فذلك هو نفسه موضع الإشكال؛ وعندئذٍ تكون المشكلة العاجلة هي كيف نتناول الموقف غير المتعين؛ غير أننا لو وقفنا إزاء المشكلة وقفة لا تجاوز كونها مشكلة تتطلب حلًّا سريعًا، كانت وقفتنا تلك حالة انفعالية من شأنها أن تعطل، بل كثيرًا ما تبطل وصولنا إلى قرار حكيم إزاءها؛ أما الجانب العقلي من الأمر فهو أن نبحث عن نوع الفعل الذي يقتضيه الموقف لكي يطرأ عليه من تغير الوضع ما يرضينا؛ وإني لأكرر القول بأن هذا السؤال لا يمكن الجواب عنه إلا بما نجريه من مشاهدات، وبما نجمعه من حقائق، وما نقوم به من استدلال، وهذه كلها أمور توجهها أفكارٌ لدينا، على أن مادة هذه الأفكار نفسها إنما تمحص بما نؤديه من مقارنة ومن تنظيم في المجال الفكري. إنني لم أذكر رجل العلوم في قائمة الأشخاص الذين قلت عنهم إنهم لا بد لهم من الدخول في عملية بحث حتى يتسنى لهم الوصول إلى أحكام خاصة بأمورهم العملية؛ لكن قليلًا من التفكير كفيل أن يدلنا بأن رجل العلوم مضطر كغيره إلى اتخاذ القرارات عما ينبغي له أن يتناول من البحوث وعن الطريقة التي لا بد له أن يجري بها تلك الأبحاث، وتلك مسألة تقتضيه أن يقرر ماذا عساه أن يجري من مشاهدات وأن يؤدي من تجارب، وأي الخطوط يتبع في تدليلاته العقلية وفي عملياته الرياضية؛ أضف إلى ذلك أن أمثال هذه الأسئلة لا يمكن فضها بجواب واحد يصْدق إلى الأبد؛ بل إن الباحث العلمي مضطر أن يحكم لنفسه في غير انقطاع ماذا يكون أفضل ما يؤديه في الخطوة التالية لكي ينتهي إلى نتيجة مؤسسة على قوائم مكينة، مهما تبلغ تلك النتيجة من التجريد ومن الإمعان في الجانب النظري؛ وبعبارة أخرى فالسير في طريق البحث العلمي — سواء كان ذلك البحث طبيعيًّا أو رياضيًّا — هو ضرب من الأداء العملي؛ ورجل العلم وهو قائم بعمله إن هو إلا صاحب عمل يؤديه قبل كل شيء، فهو لا ينفك مشغولًا بالوصول إلى أحكام عملية، أي باتخاذ قرارات عما ينبغي له أن يؤديه، وعن أي الوسائل يستخدم لأدائه. وواضح أن النتائج التي نصل إليها بتدبرنا لماذا عسى أن يكون أفضل لنا أن نؤديه، ليست هي بعينها النتيجة الختامية التي من أجلها كنا قد اضطلعنا بالبحوث التي عنينا بالسير فيها؛ وذلك لأن النتيجة الختامية هي موقف جديد فضت فيه الصعاب والمشاكل التي كانت باعثة على تدبر الأمر بادئ ذي بدء؛ أي إنها موقف لا تظهر فيه تلك الصعاب والمشاكل؛ ومثل هذه النهاية الموضوعية لا يمكن الوصول إليها إذا ما اقتصرنا على الضرب في مجال الحالات العقلية وحدها؛ بل إنها لنهاية يستحيل خلقها إلا بما نحدثه من تغيرات في الوجود الخارجي؛ فالسؤال الذي نطرحه لنتدبره هو ماذا عسانا أن نصنع لكي نحدث هذه التغيرات، التي هي وسيلتنا إلى إعادة ترتيب الأشياء في الوجود الفعلي على النحو المطلوب: وإذن فلا بد لما ينشأ من بحوث ومن قرارات أثناء أدائنا الأفعال التي نريد بها إحداث التغيرات، أن تكون وسلية وأن تكون كذلك حلقات وسطى في طريق السير؛ ولما كان ما ينبغي لنا أن نؤديه مرهونًا بالظروف القائمة في الموقف الذي نحن إزاءه، اقتضى ذلك وجود قضية تقرر أو تفصح عما هو قائم، فتنص على أن «الظروف القائمة فعلًا هي كذا وكذا»؛ وعندئذٍ تصبح هذه الظروف أساسًا لاستدلالنا قضية تقريرية أخرى نقول بها إن الفعل الفلاني هو في تقديرنا خير ما يمكن أداؤه لاستحداث النتيجة المرجوة في ظل الظروف الواقعية التي ثبت قيامها؛ وإذن فالقضايا التقريرية التي تنص على حالة الواقع، هي التي تبرز لنا العقبات التي تقف في سبيلنا ولا بد من التغلب عليها، والوسائل التي يمكننا توجيهها توجيهًا يوصلنا إلى الهدف المنشود؛ وهكذا تكون القضايا التقريرية مقررة للإمكانات، ما يعين منها وما يعرقل، فهي بمثابة الأدوات الوسلية؛ وثمة ارتباط أدائي بين القضايا التي تبسط الطريقة التي لا بد أن نتناول بها الظروف القائمة، والقضايا التي تفصح عن أو التي تصف تلك الظروف؛ وأما القضايا التي ترسم لنا خطة السير فليست تحمل إلينا شيئًا من مواد الواقع، أي إنها لا تنقل إلينا شيئًا عن مواد الوجود الخارجي، بل إنها لتتخذ الصورة العامة الآتية: «إننا إذا ما سرنا في الطريق الفلاني في ظل الظروف القائمة، فالنتيجة المحتملة هي كذا وكذا»؛ وصياغة هذه الفروض التي نرسم بها خطة العمل، تتضمن — من الناحية المنطقية — تدليلًا عقليًّا، أي إنها تتضمن سلسلة من قضايا تقريرية تنص على العلاقات الكائنة بين تصوراتنا العقلية؛ إذ يندر أن تكون الفكرة التي تعرض لنا بادئ ذي بدء عن إجراء السير، مما يمكن أن نطبقه في مجال التنفيذ العملي تطبيقًا مباشرًا؛ بل لا بد من تهذيبها أولًا، وهذا التهذيب هو قوام التفكير العقلي الذي يتخذ في البحث العلمي عادةً صورة الحساب الرياضي. وقبل أن أسوق أمثلة توضح ما قد أسلفته، سألخص الشكل الصوريَّ لما هو من الناحية المنطقية متضمن في كل موقف من مواقف التدبر والوصول إلى قرار مؤسس في الأمور العملية؛ فهناك في الوجود الخارجي موقف يتسم (أ) بكون مقوماته تتغير تغيرًا من شأنه أن يتمخض — على أي حال — عن اختلاف ما في صورته المستقبلة، (ب) وبأن ذلك الذي سينشأ في المستقبل هو نفسه الذي يتوقف إلى حد ما على دخول ظروف وجودية أخرى تتفاعل مع الظروف التي كانت قائمة بالفعل، (ج) وبأن ذلك الذي جاءت الظروف الجديدة لتحدثه يتوقف على نوع المناشط التي نضطلع بأدائها، (د) إلا أن هذه المناشط نفسها تتأثر بتوجيه البحث لطريق المشاهدة والاستدلال والتدليل. والمثل الذي سأسوقه لأوضح به هذه الشروط الأربعة مثل شخص — حالة كونه مريضًا — أخذ يتدبر خير سبيل يسلكها بغية تحقيق الشفاء؛ (١) فهنالك تغيرات بدنية حادثة بالفعل، سيكون لها على أي حال نتيجة ما في الوجود الفعلي؛ (٢) ومن الممكن إدخال ظروف جديدة تصبح عوامل في تقرير النتيجة، وعندئذٍ تكون المسألة المطروحة للتدبر هي هل يدخل هذه الظروف الجديدة؟ وإذا أدخلها فأي الظروف يدخل وكيف يدخلها؟ (٣) ثم يقتنع المريض عن تدبر بأنه لا بد من عرض نفسه على طبيب؛ فالقضية التي يتقرر بها هذا الوضع هي بمثابة النتيجة التي ينتهي إليها المتدبر بأن ما يترتب على زيارة الطبيب مفروض فيه أن يخلق العوامل المتفاعلة التي من شأنها أن تنتج النتيجة المطلوبة (٤) ومن هنا يتاح للقضية عند تنفيذها تنفيذًا عمليًّا أن تخلق الظروف التي تتدخل في سير الحالة، والتي تتفاعل مع الظروف السابق قيامها، بحيث تغير من مجراها تغييرًا يكون له أثره في النتيجة؛ وهي نتيجة تكون عندئذٍ مختلفة عما كانت لتكون عليه لو لم يتدخل البحث والحكم في مجرى الأمور، حتى على فرض أن شفاء المريض لم يتحقق. فحيثما يكون تدبرٌ بمعناه الصحيح، فلا بد أن يكون ثمة أكثر من طريق واحد للسلوك عند كل مرحلة تقريبًا من مراحل السير؛ ففي كل خطوة تنشأ مشكلات ذوات وجهين، لكل وجه منهما شيء يُقال أو شيء يثبت على سبيل التجريب؛ ولربما فكرنا في خبرتنا الماضية فوجدناها دالة على أنه من الخير في أغلب الحالات المرضية «أن ندع الطبيعة تجري مجراها»، ولكن مريضنا مع ذلك يتساءل إزاء حالته القائمة: هل تكون هي الأخرى من ذاك القبيل؟ وكذلك ربما دخل في الأمر موضوع النفقات المالية؛ كما يجوز كذلك أن يدخل في الأمر سؤال عما إذا كان الطبيب الكفء في متناول النداء، أو من ذا يكون الطبيب الذي يستشار؛ وقد يدخل في الأمر مواعيد المريض التي ارتبط بها عن الأيام أو الأسابيع القليلة المقبلة، وأثر نصيحة الطبيب من حيث تمكينها للمريض من الوفاء بتلك المواعيد … إلخ إلخ. أمور واقعية كهذه هي التي نمحصها ونصوغها في قضايا؛ وكل حالة من حالات الواقع مصوَّرة في قضية، توحي بما يكون بديلًا لها في مجرى العمل، ولا بد لإيحائها هذا من أن يُصاغ (في قضية) إذا كان البحث الذي نحن بصدده بحثًا بالمعنى الصحيح؛ وبعدئذٍ نأخذ في بسط الصياغة التي صغناها، أي القضية، تأخذ في بسطها بسطًا يوضح النتائج التي تترتب على الأخذ بها؛ وإنه لبسط يجري في سلسلة من القضايا التي قوامها هو: إذا … إذن … فإذا ما قرر المريض (في المثل المذكور) آخر الأمر أن يستشير الطبيب الفلاني، كانت القضية الناتجة ممثلة في حقيقة الأمر استدلالًا بأن هذه الصورة من صور الإجراء فيها أكبر احتمال بأنها هي الصورة التي من شأنها أن تدخل تلك العوامل التي إذا ما تفاعلت مع الظروف القائمة أنتجت الموقف المرغوب في قيامه في المستقبل قيامًا فعليًّا: فهو استدلال بأن ذلك الإجراء المذكور سيوجه العوامل القائمة بالفعل توجيهًا لم تكن لتتجهه لو تركت وحدها. وليست مضمونات القضايا التي نصوغها عن أمور الواقع وعن طرق العمل الممكنة (بما في ذلك الطريق المختارة) محددةً لذاتها بذاتها، كلا ولا هي مكتفية بذاتها؛ بل تحدد بالقياس إلى نتيجة مستقبلة مقصودة، ولذلك فهي وسلية وتقع في مراحل الطريق الوسطى؛ فهي ليست صادقة في ذاتها وبذاتها، لأن صدقها يتوقف على النتائج الناجمة عن سلوكنا الذي نسلكه بمقتضاها، فإلى الحد الذي تكون به هذه النتائج ناجمة فعلًا عن إجراءاتنا العملية، تكون القضايا بمثابة ما يملي خطة الفعل، وليست هي بالزوائد العارضة، فافرض مثلًا أن القضية التي نقولها عن أمر واقع هي قولي: «إنني مريض مرضًا خطيرًا»؛ فهذه القضية — في سياق ما ذكرناه — إنما تخلو من الهدف إذا نحن أخذناها على أنها مرحلة الختام وعلى أنها مكتملة بذاتها؛ ذلك لأن قوتها المنطقية تتألف من العلاقة الكامنة التي تربط بينها وبين موقف مستقبل؛ وكذلك القضية التقريرية «ينبغي أن أستشير طبيبًا أو أنني سأستشير طبيبًا» هي الأخرى أدائية في طبيعتها: فهي تصوغ الإجراء الممكن الذي إذا ما أجريناه، ساعد على إحداث موقف مستقبل في الوجود الفعلي، يختلف في خصائصه وفي دلالته عن الموقف الذي كان يقوم إذا نحن لم نقم بالفعل المذكور؛ وستجد أن هذه الاعتبارات نفسها تصْدقُ أيضًا على القضايا التقريرية التي يقولها الطبيب الفاحص عن الوقائع التي تحدد موضع المرض وتصفه من جهة، وعن خطة الفعل التي يقررها لمعالجة المرض من جهة أخرى. هذا التحليل — لو صادف قبولًا — يحمل معه اعترافًا بأن القضايا التقريرية (وهي بدورها نتائج لأحكام قضينا بها على سبيل الترجيح المؤقت) عوامل تدخل بصورة فعالة في المقومات الفعلية التي منها تتألف المادة الوجودية في موضوع حكمنا الختامي؛ وقد لا تكون مادة الموضوع كما انتهينا إليها هي نفسها المادة التي كنا نأمل بلوغها ونرمي إلى تحقيقها؛ إلا أنها على أية حال مختلفة نوعًا ما عما كانت لتكون عليه إذا نحن لم نجرِ ما قد أجريناه من فعل مرتكز على القضايا الوسلية التي توسطت مراحل الطريق؛ ولو أخذنا بالتفسير الشائع للقضايا التقريرية لوجدنا أنه من التناقض الصريح أن نقول عن تلك القضايا إنها تدخل في التكوين النهائي الذي يجيء عليه الموقف نفسه الذي قيلت تلك القضايا «عنه»؛ لكن مصدر التناقض هنا هو النظرية الشائعة وليس هو القضايا نفسها؛ إذ ينشأ التناقض عن تجاهلنا لما للقضايا التي نصوغها من قوة إجرائية وسلية. ولو عرضنا المثل المذكور في مناقشتنا السابقة، لو عرضناه على أساس النظرية التقليدية لجاء العرض قريبًا مما يلي؛ القضيتان القائلة أولاهما «إنني مريض» وأخراهما «إذا ما أصاب المرضُ إنسانًا، وجب أن يستشير طبيبًا» كانتا تؤخذان على أنهما — على التوالي — قضية صغرى وقضية كبرى في قياس تلزم عنه بالضرورة نتيجة تقول «يجب أن أستشير طبيبًا»؛ وهذا التفسير إنما يرتكز على استغلال ما هنالك من غموض؛ فربما كان القياس السالف لا يزيد على كونه أداءً لغويًّا لحكم بمعناه الصحيح كنا بالفعل قد انتهينا إليه، وفي هذه الحالة يتأيد التحليل الوارد في قضايا القياس، لأن المقدمة الصغرى والمقدمة الكبرى عندئذٍ تقرران قرارات كنا قد وصلنا إليها في بحث أجريناه لنعلم به ماذا تكون عليه وقائع الحال لكي يتسنى لنا أن نوجهها الوجهة التي نريد؛ لكننا إذا فهمنا التفسير السابق على حرفيته كان مؤداه أن لم يكن هنالك بحث ولا حكم؛ إذ لا يعني هذا التفسير إلا أن المريض في المثل الذي نحن بصدده، كلما توهم أنه مريض قصد بغير تردد إلى طبيب بحكم عادة تعودها؛ كأنما ليس هنالك جانب من الشك أو التردد، وليس هنالك بحثٌ ولا تكوينٌ لقضايا؛ وكأنما كل ما هنالك مثيرٌ مباشر يستجيب له المريض المذكور وفق عادة تكونت لديه فيما مضى؛ وكأنما القياس المزعوم ليس إلا رواية لفظية فرضت من الخارج، لتقصَّ عما قد حدث من فعل لم تدخل فيه صور منطقية على الإطلاق. إن هذا الموقف دلالته لأنه موقف يُبرز عن طريق التباين المواقف التي يتم فيها حكم بالمعنى الصحيح؛ فقد تكون لدى إنسان عادة مطردة في استشارة الأطباء لعلة في بناء شخصيته، فهو بهذا لا يمارس حكمًا، أو قد يكون به ميل إلى استشارة الأطباء كلما اشتدت به عوارض المرض، ولكنه في هذه الحالة الخاصة شاكٌّ فيما إذا كان مرضه الراهن يقتضي تلك الاستشارة حقًّا؛ وها هنا تراه يأخذ في التفكير؛ فضلًا عن أنه من حيث الواقع كما يقع لا يقرر لنفسه أن يستشير طبيبًا كائنًا من كان هذا الطبيب، بل هو يقرر استشارة طبيب بعينه، وربما اقتضاه الأمر أن يبحث من ذا يكون الطبيب الذي يستشير؛ وقد تكون لديه المبررات التي تميل به إلى تفضيل الركون إلى المصادفة تأتيه بالشفاء بغير طبيب مراعاة لحالته المالية، وهكذا؛ وإذن فالرأي الذي يرد قضية السلوك العملي إلى ائتلاف صوري بين قضيتين إحداهما جزئية والأخرى كلية، لا يَصْدقُ إلا على التحليلات اللغوية التي نقرر بها ما قد حدث من قبل، وإما أن يكون هذا الذي حدث هو فعل أديناه مدفوعين إليه بعادة دون أن يدخل في الأمر حكمٌ، أو أن يكون حكمًا تمت مراحله؛ فإذا كان تدبرنا للأمر وتقديراتنا تدبرًا وتقديرات نصوغهما في قضايا، يتدخلان بالفعل في وصولنا للقرار الذي يقرره القائل حين يقول: «سأستشير طبيبًا» فعندئذٍ يكون حكمنا على الأمور العملية عاملًا في تحديدنا النهائي الذي نحدد به مادة الوجود الخارجي، وهي نفسها المادة التي نصدر عنها أحكامنا التقديرية التي أصدرناها بادئ ذي بدء. ولست أحسب المثل الواحد الذي ضربناه كافيًا لفض المسألة التي نطرحها الآن للبحث، لكونها مسألة أوسع نطاقًا من ذلك المثل الخاص؛ ولهذه المسألة من الخطر ما يدعوني إلى المضي في مناقشتها خلال مجموعة من الأمثلة. فهنالك حالات يكون من شأن الأحكام الخاصة بالأمور العملية فيها أن تقرر ما ينبغي فعله في الخطوة التالية «مباشرة» بحيث يتسنى لنا أن نخلق موقفًا وجوديًّا معينًا يجيء نتيجة لنوع النشاط الذي نؤديه بمقتضى الحكم الذي اتخذناه؛ فقد يلحظ أحد الناس — مثلًا — سيارة مندفعة لتنقض عليه، وربما انحرف عن مسارها انحرافًا لم يسبقه تفكير؛ فلا يكون في هذه الحالة حكمٌ ولا تكون قضيةٌ؛ لكن الموقف قد يكون من شأنه أن يستثير الروية؛ وفي هذه الحالة لا بد للمرء من مشاهدة الظروف القائمة (وذلك هو تحديد المشكلة) ومن رسم خطة للفعل يقلل بها الحالة الطارئة (وذلك هو حل المشكلة)؛ ومثلٌ آخر أشد من ذلك توضيحًا هو مثلُ القرارات التي يتخذها الحَكَمُ خلال شوط اللعب؛ إذ لا بد له من تكوين قضايا عن الوقائع المشاهدة وعن القاعدة التي يمكن تطبيقها تفسيرًا لتلك الوقائع؛ فلئن كان تقديره للوقائع وللقاعدة التي يمكن تطبيقها موضعًا لاختلاف الآراء، إلا أن الحكم القاطع الذي يقرره إذ يحكم بأن الحالة «صواب» أو بأن الكرة قد «خرجت» عن الحدود الجائزة، يدخل عاملًا فعالًا في مجرى الحوادث التي ستقع بعدئذٍ في الوجود الفعلي؛ فهذه الحقيقة تدلنا على أن فعل الفاعل ووضعه — فعل من يجري في لعبة المضرب والكرة الأمريكية مثلًا ووضعه — ليسا هما ما ينصب عليه الحكم؛ بل إن موضوع الحكم هو مجموعة الموقف الذي حدث فيه الفعل؛ وما القضايا التي نقولها عما قد فعله الضارب بالمضرب أو ما قد فعله الجاري؛ والقضايا التي نقولها عن القاعدة (أو الفكرة) التي يمكن تطبيقها على فعل هذا أو ذاك، أقول إن هذه القضايا ليست سوى حلقات وسطى، فهي وسلية وليست هي بالخاتمة التي نقف عندها ولا هي بالمكتملة الكيان في ذاتها. إن هذين المثلين المذكورين ليوضحان ما نعنيه بعبارة «وسائل إجرائية» التي ننعت بها محمول الحكم؛ فمادة هذا المحمول تصور لنا غاية قريبة يستهدفها الفاعل بفعله، أي إنها تقدير سابق لما ستكون عليه النتائج في الوجود الخارجي؛ التي هي غاية بمعنى الختام والنهاية التي يتحقق بها المقصود؛ فالغاية القريبة التي يقصد إليها من يرى سيارة قادمة تجاهه، هي أن يلجأ إلى مكان آمن، وليست هي النجاة في ذاتها؛ وأما هذه الأخيرة (أو ضدها) فهي غايته بالمعنى الذي يجعل الغاية ختامًا؛ ويتخذ التقدير السابق أو الغاية القريبة صورة إجراء يُؤدَّى، اللهم إلا إن كانا من قبيل الوهم العقيم؛ وهكذا قل في القضية التي يقضي بها الحَكَم في لعبة الكرة بأن الكرة قد «خرجت» عن الحدود الجائزة أو أنها «بمنجاة من الخطأ»، أقول إن هذه القضية بالنسبة إلى اللاعب أمر إجرائي لأنها تقرر ماذا عسى أن يَهمَّ اللاعب بفعله، وكيف يكون مجرى اللعب بعدئذٍ؛ فلو كانت الغاية الوجودية بالمعنى الذي تكون به حاصلًا نهائيًّا أو ختامًا، لو كانت تلك الغاية الوجودية حدًّا في قضية، لكان معنى هذا الحد دالًّا على أن تلك الغاية قد اكتمل تحقيقها؛ ولا تكون الغاية سليمة من مناقضة نفسها بنفسها إلا إذا وردت على صورة تجعلها توجيهًا لما يمكن أداؤه بحيث يأتي هذا الأداء وسيلة تنتهي آخر الأمر بتحقيق الخاتمة المقصودة. فليس المحمول إدراكًا «لما هو واقع» أو إعلان عن شيء كائن بالفعل في الوجود الخارجي؛ بل هو تقدير نقيمه على أساس مشاهدتنا للوقائع الموجودة فعلًا، باعتبارها ظروفًا يحتمل أن تتمخض عن نتائج ممكنة الحدوث، أي إنه تقدير لفعل في مستطاعنا أن نؤديه؛ وهكذا الحال بالنسبة إلى المتسابق في سباق حين ترتسم له فكرة الهدف، أو إلى قاذف الرمح حين يفكر في هدفه، فعندئذٍ تكون فكرة الهدف هذه عائقًا لا معينًا، ما لم تحول لصاحبها نقطة الختام من حيث هي كائن قائم في الوجود الخارجي، تحويلًا يجعلها وسائل مؤدية، أو قل وسائل إجرائية؛ فالعدَّاء يستخدم فكرة الهدف وسيلةً ينظم بها سرعة خطاه وما إلى ذلك في المراحل المتتابعة من شوطه، وقاذف الرمح يستخدم فكرة الهدف فيما له علاقة بمشاهداته عن اتجاه الريح وقوتها وما إلى ذلك، بحيث يهتدي بذلك في تسديد رميته أو توجيهها؛ وإن هذا الفرق بين معنى كلمة غاية: معناها حين تعني غاية قريبة، ومعناها حين تعني نهاية تكون بمثابة الخاتمة والاكتمال في الوجود الفعلي، أقول إن هذا الفرق بين المعنيين لبرهان حاسم على أن الخاتمة في عملية البحث ليست مجرد شيء ندركه بالحس بين الكائنات القائمة في الخارج ثم نعلن عن وجوده، بل إنها شيء نقرره من حيث هو طريقة لما نؤديه من إجراء؛ والخلط بين معنيي كلمة «غاية» هو المصدر الذي عنه نشأت الفكرة القائلة بأن الحكم في أمور التجربة العملية إما أن يكون إخباريًّا صرفًا، أو أن يكون أمرًا مقتصرًا على الجانب العملي اقتصارًا يجرده من صفته المنطقية. وكذلك التقديرات الخلقية حالةٌ يمكن الاستشهاد بها فيما نحن بصدده فالزعم الشائع — بل ربما كان هو الزعم الذي يصادف أكثر القبول — هو أن ثمة أشياء هي غايات في ذواتها، وأن هذه الغايات إنما ترتب في سلم متدرج من الأقل إلى الأكثر من حيث قربها من القمة العليا، وأنها تتفاوت في تسييرها لسلوكنا حسب منازلها في ذلك التدرج؛ فيلزم عن هذه النظرة أن نقول عن «الحكم» الخلقي إنه لا يتألف إلا من إدراكنا المباشر لما هو غاية في ذاته بالقياس إلى منزلته الصحيحة في إطار القيم الثابتة؛ وإن أصحاب هذا الرأي ليزعمون بأن صاحب الفعل الخلقي لو غض النظر عن الغايات الثابتة موضوعةً في تدرجها هذا، لما بقي أمامه سوى أن يتبع أهواءه العابرة؛ أما وجهة نظرنا في هذا الكتاب فتقتضي أن ننظر إلى الغايات من حيث هي نهايات ختامية قائمة بالفعل، أو قل من حيث هي تحقيقات لما نسعى إلى تحقيقه، أقول إن وجهة نظرنا تقتضي أن ننظر إلى الغايات نظرة تجعلها في الحكم الذي ترد فيه بمثابة الخطة التي ترسم لنا طرائق السلوك الإجرائي الذي من شأنه أن يفض موقفًا مشكوكًا في أمره يستثير فينا ويتطلب منا أن نقضي فيه بحكم ما؛ فالغايات من حيث هي غايات قريبة إنما تدل على خطط لطرائق الفعل، أو قل إنها تدل على أغراض؛ فمهمة البحث هي أن نقرر طريقة الإجراء الذي من شأنه أن يزيل الحيرة التي يجد فيها الفاعل نفسه متورطًا فيها، وإنما يتقرر ذلك الإجراء على أساس المشاهدات التي تحدد ماذا عسى أن تكون عناصر ذلك الموقف المحير. إن الرأي القائل بأن الحكم الخلقي لا يعدو أن يكون إدراكًا ثم إعلانًا عن غاية في ذاتها كانت قد تحددت قبل إدراكنا لها وإعلاننا عنها، لهو رأي في الحقيقة ينكر أن تكون بنا حاجة إلى أحكام خلقية بمعناها الصحيح، كما ينكر أن يكون لمثل هذه الأحكام وجود على الإطلاق؛ لأنه بناء على هذا الرأي لا يكون ثمة موقف مشكل، ولا يكون هنالك إلا شخص تنتابه حالة ذاتية من التشكك الخلقي، أو من الجهل؛ فمهمته في تلك الحالة ليست هي أن يحكم على موقف موضوعي حكمًا يبين له أي طريق من الفعل ينبغي له أن يسير فيه لكي يتسنى له أن يحول ذلك الموقف إلى موقف آخر يحكم عليه من الناحية الخلقية أنه صواب ومُرضٍ، بل مهمته عندئذٍ لا تعدو أن تكون إلمامه العقلي بغاية في ذاتها كانت قد تحددت قبل ذاك؛ نعم إن ما قد خبرناه فيما مضى من خبرات يصبح بغير شك وسائل مادية تعيننا على الوصول إلى حكم فيما عسانا أن نصنعه الآن، لكنها وسائل ليست هي بالغايات الثابتة؛ فهي مادة ينبغي لنا أن نستعرضها وأن نقدرها بالقياس إلى ما قد نهتدي به في الفعل المطلوب إزاء الموقف القائم. إن وجهة النظر التي تأخذ بأن الحكم الخلقي إنما ينصب على موقف موضوعي مشكوك في أمره، وبأن الغايات القريبة إنما تُصاغ في سياق الحكم وبوساطة الحكم صياغة تجعلها طرائق لإجراءات تزيل الإشكال القائم، لهي وجهة من النظر تتسق مع حقيقة كون الغايات القريبة التي هي منارات هادية من حيث هي طرائق فعل — وذلك بسبب معاودة المواقف المتشابهة إلى الحدوث — إنما تقام ويكون لها علينا أحقية ظاهرة بأن نتخذ منها نموذجًا تحتذيه في المواقف الجديدة؛ غير أن هذه القضايا النموذجية «الجاهزة» لا تكون نهايات نقف عندها؛ فعلى الرغم من أنها وسائل بالغة القيمة، إلا أنها ما زالت وسائل نمحص بها الموقف القائم، ونقدر ما يتطلبه منا من طرائق الفعل؛ فقد يؤدي، بل كثيرًا ما يؤدي إمكان تطبيقها على الموقف الجديد، وصلتها وقيمتها بالنسبة إلى هذا الموقف الجديد، إلى إعادة تقويمها وإعادة صياغتها. هذه الفقرة السابقة تتضمن نقطة سبق لنا أن ناقشناها، وهي الصفة المزدوجة للحكم، من حيث هو تقدير أو تقويم مؤقت، ثم من حيث هو ختامي أو نهائي؛ وواضح أن ما يقوله «بوزانكت» ينطبق على الحكم في وجهه الثاني؛ وهو إذ يحذف من معنى الحكم كل التقديرات والتقويمات الابتدائية التي نقدر بها الوقائع والأفكار من حيث قوتها وصلتها بما نحن بصدد بحثه، فهو ينتهي إلى النتيجة التي انتهى إليها، وهي أن البحث ليس صورة من صور الحكم، وعلى ذلك فمن حيث هو بحث لا يدخل في مجال المنطق؛ ولهذه الوجهة من النظر دلالة حاسمة لما يلزم عنها من نتائج بعيدة الأثر. إنه ليس من شك في أننا إذا ما عددنا العمل الذي يقوم به العلم فعلًا، عملًا يصح تسميته بالبحث، فلسنا بذلك نعتدي على الروح العلمية في شيء؛ كما أنه ليس من شك كذلك في أن وجهة النظر التي تحذف العلم من ميدان المنطق ومجاله، اللهم إلا باعتباره مجموعة من قضايا نقبلها بغض النظر عن طرائق البحث التي أدت إليها، هي وجهة من النظر لا يجوز أن نتقبلها بكثير من الرضا؛ فاللغة الجارية تستخدم عبارة «موضوع التساؤل» مرادفة لمادة الموضوع الذي يدور حوله البحث؛ فالعلم والذوق الفطري كلاهما يجعل من الأصوب أن نقول عن السؤال (بمعنى ما يوضع موضع التساؤل أو إمكان التساؤل) إنه هو موضوع «الفكر» الذي لا موضوع للفكر سواه؛ فذلك أدنى إلى الصواب من أن نقول مع «السيد بوزانكت» بأن «السؤال لا يمكن أن يكون موضوعًا للفكر». فالقول بأن السؤال هو مطالبة لشخص ما أن يؤدي فعلًا ما، قول لو نظرنا إليه على انفراد وجدناه متفقًا تمام الاتفاق مع مذهب هذا الكتاب؛ فالحكم — من حيث هو تقديرٌ — يجوز دخوله حتى في تكوين الأسئلة التي نوجهها إلى شخص آخر؛ إذ السؤال الذي ينبغي توجيهه إلى المسئول هو على وجه الدقة شيء بعيد عن أن يكون أمرًا واضحًا بذاته؛ ومع ذلك فالقول بأن السؤال بحكم طبيعته نفسها شيء نوجهه إلى شخص آخر، إنما هو قول يتجاهل حقيقة أساسية وهي أن الأسئلة توجه إلى موضوعات الوجود الخارجي؛ فالبحث العلمي يمكن اعتباره التماسًا ﻟ «معلومات» لكن الطبيعة لا تناولنا المعلومات المطلوبة معدة جاهزة، فالأمر يقتضينا حكمًا نقرر به أي الأسئلة يجب أن نلقيها على الطبيعة لتجيب عنها، ما دام الأمر أمر صياغة لأفضل طرق الملاحظة وإجراء التجارب والتعليل العقلي. وتضع العبارة الأخيرة مناقشتنا وجهًا لوجه مع المشكلة الخاصة بعلاقة البحث بأحكام التجربة العملية؛ وذلك لأن تحديدنا للأسئلة التي نلقيها وللطريقة التي نلقيها بها، هو أمر يشتمل على إصدارنا لأحكام نقرر بها ماذا ينبغي لنا أن نصنع لكي نظفر بالمادة الضرورية والكافية — سواء أكانت من مادة الواقع أم من مادة الفكر — لفض الموقف المضطرب؛ وما عليك إلا أن تتذكر إجراءات المحامي أو الطبيب في أية حالة معروضة، لتدرك كيف أن مشكلته من أساسها إنما هي مشكلة صياغته للأسئلة الصحيحة، ومعيار «الصحة» هذا هو قدرة السؤال على استخراج المادة التي تتصل بما يكون الباحث بصدده، والتي تكون فعالة الأثر في فض الموقف الذي كان قد استدعى القيام بالبحث. فللقضايا الشرطية المنفصلة علاقة تربطها بالحكم في الأمور العملية، وذلك لأن تدبرنا لأمور السياسة التي يجري عليها سلوكنا، يقتضي: (أ) أن نتصور الاحتمالات الممكنة وأن نمعن فيها النظر الفاحص، (ب) وأن تكون تلك الاحتمالات الممكنة كلها مما يتيح لنا أن نقارنها بعضها ببعض مقارنة ميسورة؛ مثال ذلك رجل وقعتْ له ملكية مبلغ جسيم من المال، فيأخذ في الروية متدبرًا ماذا عساه صانعًا به؛ لكن رويته تلك لا تنتهي به إلى نتيجة ما لم تتخذ صورة تنشئ بها الطرائق الممكنة كلها لاستخدام الأموال التي هي رهينة بتصرف مالكها؛ أيودعها مصارف الادخار ليستفيد بربحها؟ أيستغلها في سندات أو في أسهم، أم يشتري بها عقارًا؟ أم هل ينفقها في رحلات، أم في شراء كتب أو أجهزة … إلخ؟ وهكذا ترى الموقف المشكل قد أصبح محددًا نسبيًّا بتحليله إلى بدائل الاحتمالات الممكنة، كل بديل منها يتمثل في قضية شرطية منفصلة تجيء واحدة من مجموعة تضمها مع شتى مثيلاتها. وواضح في هذا المثل أن كل قضية قد تكونت لتكون وسيلة نحدد بها ماذا عسانا أن نصنع، وأن التحديد الذي يَنْتُجُ لنا من ذلك وسيلة نقيم بها في الوجود الفعلي موقفًا معينًا ننتهي إليه؛ وإنك لترى الخبراء في كل ميدان خاص سرعان ما يرسمون مجموعة البدائل الممكنة، فتكون هذه البدائل بالنسبة إلى الحالات الجديدة مادة معدةً، على نحو ما تكون لدى الصانع مجموعة العدد المتصلة بميدان صناعته؛ ففي هذه الحالات ينصرف الحكم إلى مسألة اختيار ما يصلح من مجموعة البدائل الممكن استخدامها، أكثر مما ينصرف إلى تكوين القضايا الشرطية المنفصلة؛ ومع ذلك فهذه القضايا المنفصلة تظل بمثابة الأدوات؛ فإذا ما جمدنا هذه الأدوات بحيث نجعلها شيئًا نهائيًّا ومكتملًا، وضعنا بذلك قيودًا على المراحل المستقبلة من البحث، لأننا عندئذٍ نخضع النتيجة المنتظرة لفكرة سبق تكوينها، نزعم لها أنها فوق متناول السؤال والتمحيص. وحسبنا في هذا الموضع أن نشير إشارة عابرة إلى العلاقة التي تربط القضايا الشرطية المتصلة بالقضايا الشرطية المنفصلة؛ وذلك أن معنى كل بديل من بدائل ضروب الفعل الممكنة، يتألف من النتائج التي تنجم عن اصطناعنا لذلك البديل في طريق سلوكنا؛ ويتم تطوير هذا المعنى خلال خطوات من التدليل العقلي تتخذ الصورة الآتية: «إذا اتبعنا في سلوكنا هذا البديل المعين من ضروب الفعل، إذن فينتظر للنتائج الفلانية والفلانية أن تنشأ عنه» وبمقارنة هذه النتائج المنتزعة بالنتائج التي تلزم عن قضايا أخرى شرطية متصلة، يتهيأ لنا الأساس الذي يتيح لنا مبدئيًّا أن نرفض ما نرفضه وأن نقبل ما نقبله؛ ولئن كنا في مجال التجربة العملية لا نمضي في العادة شوطًا بعيدًا في تتبع القضايا الشرطية المتصلة التي تتخذ صورة «إذا … إذن …» إلا أننا من حيث الحكم الختامي الجائز قبوله عما ينبغي لنا أن نفعله، لا بد لنا أن نستوعب البدائل الممكنة كافة بقضايا شرطية منفصلة، ولا بد كذلك أن نستوفي النتائج كلها التي تلزم عن كل قضية منفصلة من مجموعة القضايا التي نستوعب بها الممكنات جميعًا، متخذين من كل قضية منها فرضًا نرتب عليه نتائجه. التقويم؛ لكلمة «قيمة» من ازدواج المعنى — سواء استعملت اسمًا أو استعمل فعلها يقوِّم — ما قد استدعى التنويه إليه في مناسبات كثيرة؛ فالفعل في أحد معانيه، يعني «يستمتع»، والمتعة الناتجة تسمى على سبيل المجاز قيمة؛ وليس ثمة تفكير ولا بحث في الحالات التي يتم فيها استمتاعٌ ما دامت هذه الحالات تحدث حدوثًا تلقائيًّا؛ غير أن واقعة الاستمتاع ذاتها يمكن تسجيلها ونقلها إلى الآخرين عن طريق اللغة؛ ومن ثَم يتخذ التعبير اللغوي المتكونُ نتيجةً لذلك التسجيل، الصورة الخارجية لقضية، لكن ما لم تنشأ عن ذلك مسألة، فسيظل الأمر تفاهمًا اجتماعيًّا أكثر مما يصبح قضية؛ إذ هو لا يصبح قضية إلا إذا تولد عن ذلك التفاهم بوساطة العبارة اللغوية عامل نستخدمه في فض موقف جديد؛ فإذا ما أثير سؤال عما إذا كان الموضوع الراهن جديرًا بالاستمتاع، أعني إذا ما أثير سؤال عما إذا كان هنالك مسوغات كافية تدعو إلى التمتع بما هو كائن، نشأ عندئذٍ موقف مشكل يقتضي بحثًا وحكمًا؛ ففي ظروف كهذه، يكون تقويمنا للشيء معناه أن نزنه ونقدر أهميته؛ فلأن نقوِّم الشيء بقيمته عمليةٌ عقليةٌ ما في ذلك ريب؛ لأننا مضطرون إلى التماس المبررات والأسس على هذا النحو أو ذاك، ثم إلى صياغتها في صورة تبرزها. أما أن هنالك من المواقف ما ينشأ خاصًّا بأشخاص كانوا منا ذات يوم موضع حب وإعجاب، وخاصًّا بأشياء كنا ذات يوم نغدق عليها تقديرنا (وهذا شيء يختلف عن أن يكون منا موضع تقويم لقدرها) فأمر لا نزاع فيه، كما أنه أمر له دلالته فيما نحن الآن بصدد الحديث عنه؛ وذلك لأن قيام هذه المواقف دليل على أننا لا نقوِّم إلا حيث تكون قيمة الشيء موضعًا لإشكال؛ وأعني بقيمة الشيء هذا ما يمكن أن يكون مدار استمتاعنا؛ فالقضايا في هذه الحالة تكون جد مختلفة في صفتها المنطقية عن الجمل الشبيهة بها لفظًا والتي لا تعدو أن تسجل وأن تنقل إلى الآخرين ما قد سجلته من أن متعة معينة أو إعجابًا معينًا أو تقديرًا معينًا قد وقع فعلًا في لحظة ماضية؛ نعم إن «القضايا» من هذا النوع الثاني تسجل ما قد حدث؛ ولكنها إذا كانت ذات صفة منطقية إطلاقًا، فذلك لا يكون إلا حين تتخذ تلك القضايا موضوع بحث نسير به بغية الوصول إلى قرار فيما إذا كان هنالك ما يسوغها عندما جعلناها مدار استمتاعنا أو ما إذا كان هنالك ما يسوغها الآن في موقفها الراهن؛ فهل ينبغي لنا الآن أن نتخذ إزاءها هذا الموقف نفسه؛ وإذا فعلنا، أفلا يجوز أن نندم على ذلك فيما بعد؟ وأمثال هذه الأسئلة تنشأ على درجات فسيحة من التفاوت، وفي حالات شديدة التباين؛ فمن حالات يتناول فيها الطاعم لونًا من الطعام يعرف من خبرته الماضية أنه مما يجدر أن يستمتع به فورًا، إلى حالات تنهض فيها معضلات خلقية خطيرة؛ ولا سبيل إلى الإجابة عن الأسئلة، أي إلى إزالة الشكوك التي تكتنف الأمور القائمة، إلا باستعراض النتائج الفعلية التي يجوز لها أن تقع إذا ما اضطلعنا بتقدير أو بإعجاب أو باستمتاع؛ لأن مواقفنا من الأمور وتقديرنا لها … إلخ، هي مواقف فاعلة؛ أعني أنها طرائق سلوك تترتب عليها النتائج؛ وليس من سبيل إلى توقع النتائج قبل حدوثها توقعًا قائمًا على أساس، إلا بالنظر إليها من حيث هي نتائج تتولد عن ظروف فعالة التأثير؛ وما استمتاعنا بشيء ما إلا واحد من تلك الظروف الفعالة، فهو لا يولد النتائج — كما هي الحال في تناول الطعام للطاعم الذي يستمتع به في غير تردد — إلا بعد تفاعل مع غيره من ظروف الوجود الخارجي؛ وإذن فلا بد لهذه الظروف الأخرى من أن توضع موضع النظر وهي على انفراد؛ ولا سبيل إلى تقدير نتائجها المحتملة إلا على أساس ما قد حدث في حالات شبيهة بها مما وقع في الماضي، إما في الخبرة الشخصية الماضية لصاحب الشأن، أو في الخبرة المدوَّنة مما قد وقع لسواه؛ وليست تدل الظروف القائمة من ظاهرها المجرد وحده على ماذا عسى أن يتولد عنها من نتائج، فلزام علينا أن نتقصى ما في الأمر من علاقات، والأغلب أن نتقصى من ذلك علاقة السبب بمسببه؛ وبعدئذٍ نصوغ تلك العلاقات في صورة قضايا مجردة شاملة ننشئها بالفكر، أو نصوغها في صورة قواعد ومبادئ وقوانين؛ لكن تدخل في الأمر دائمًا مسألة إمكان انطباق تلك القواعد والمبادئ التي حصَّلناها (مهما يكن تحقيقنا لها في الماضي) على الموقف الخاص الذي نكون بصدده؛ ولا مفر لنا من اختيار بعضها دون بعضها الآخر؛ وإذن فلكي نحصل على حكم أخير قائم على أساس، فلا بد لنا كذلك من تقويم أو تقدير تلك المبادئ. وعلى ذلك فالقضية القيمية لا تقتصر على مجرد الإخبار، سواء أكان المخبر عنه أمور الواقع الخارجي أم أفكارًا تدور في أذهاننا؛ فلقد تكون الوقائع الخارجية مما لا يتعلق به شك؛ كأن أقول لنفسي إنني قد تمتعت يقينًا بهذا الشيء فيما مضى، وسأجد فيه متعة مباشرة الآن؛ وكذلك قد تكون المبادئ العامة مما يجوز قبوله معيارًا نحكم على غراره؛ لكن لا الوقائع الخارجية ولا القواعد المتخذة معايير للحكم — كما نجدهما في موقف راهن — حاسمة بالضرورة في تقويمنا لما نحن بصدده؛ وإنما هي — على التوالي — وسائل مادية ووسائل إجرائية؛ وصلتها بالموقف الراهن، وأهميتها بالنسبة له، هما نفس الأمر الذي لا بد من أن نقضي فيه بحكم عن طريق بحث نؤديه، قبل أن يكون لنا تقدير قيميٌّ نقيمه على أساس سليم. وواضح أن أمثال هذه الأحكام القيمية هي من قبيل الأحكام التي نصدرها على الشئون العملية؛ أو إن شئت عبارة أدق، فقل إن أحكامنا كافة في الشئون العملية تقويمات، لأنها تهتم بتقرير ما ينبغي فعله على أساس النتائج المقدر لها أن تنجم عن الظروف القائمة، لأن هذه الظروف — ما دامت من عناصر الوجود الفعلي — سيكون لها أثر فعَّال على أي حال؛ وكلما زدنا من تأكيد الحقيقة عن الاستمتاع المباشر وعن ميلنا وإعجابنا … إلخ، بأنها حالات هي في ذاتها بحكم طبيعتها انفعالية نزوعية، ازداد الأمر وضوحًا بأنها ضروب من الفعل (أو ضروب من التفاعل)؛ ومن ثَم فالقرار الذي نقرره عما إذا كان الأجدر بنا أن نضطلع أو أن ننغمس في حالة من تلك الحالات، عندما نكون إزاء موقف معين، هو حكم نصدره في أمر عملي، أي نصدره عما ينبغي لنا أن نفعله. وعلى أهمية النقطة المذكورة بالنسبة إلى النظرية المنطقية، فهناك نقطة أخرى أكثر منها أهمية، وهي أن هذه الأحكام التقويمية (كما أشرنا إشارة واضحة في مناقشتنا السالفة لموضوع الحكم) تدخل في تكوين الأحكام النهائية جميعًا؛ فليس هنالك من بحث يخلو من أحكام منصبة على أمور عملية؛ فالباحث العلميُّ مضطر أن يواصل تقديره لقيمة المعلومات التي جمعها هو نفسه من مشاهداته ومن النتائج التي وصل إليها الآخرون؛ فلزام عليه أن يقدر أثرها على ما عساه أن يتناول من مشكلات، وما عساه أن يجريه من ضروب الملاحظة والتجارب والحساب؛ فهو إن يكن «يعرف» — بمعنى أنه يتصور بفهمه — مجموعات من الأفكار العقلية، بما في ذلك القوانين، إلا أنه لا بد أن يزن صلتها وأهميتها من حيث هي أمور تمس البحث الخاص الذي يضطلع به؛ ولا يبعد أن يكون أعظم مصادر العبث النسبي — أو على الأقل العقم — الذي يتسم به ذلك الجزء من المؤلفات المنطقية، الذي يتناول المنهج العلمي، هو تقصيره في ربط المادة التي يبسطها بالإجراءات العملية التي كانت هي مراحل الوصول إليها، وتقصيره كذلك في ربط تلك المادة التي يبسطها بالإجراءات العملية المستقبلة التي من شأن تلك المادة أن توحي بها وتشير إليها وتفيد في توجيهها. التقدير؛ لقد أبرزنا حقيقة كون الحكم القيمي ليس هو نفسه العبارة التي نقرر بها أن الشخص الفلاني يستثير منا الإعجاب والحب، أو أن الحادثة الفلانية أو الشيء الفلاني كان أو ما يزال موضع استمتاعنا؛ ذلك لأن أمثال هذه «القضايا» لا تتصف بالصدق إلا بالمعنى الخلقي لهذه الصفة، أعني أن الصدق عندئذٍ يكون هو الصدق الذي يضاد الكذب المتعمد؛ ومع ذلك فيجوز لأمثال هذه القضايا أن تصبح مقومات لحكم قيمي، أي تصبح مقومات لتقويمنا شيئًا ما؛ وهي إنما تكتسب هذه الصفة حين تُستخدم وسائل مادية نحدد بها ما إذا كان شخص معين أو فعل معين يحتم علينا أن نعجب به، أو ما إذا كان شيء معين لا بد لنا من الاستمتاع به؛ فعندما نستبدل بعبارة «أحب هذه الصورة» قضية تقول «هذه الصورة جميلة» عندئذٍ ينتقل الأمر إلى الصورة من حيث هي شيء؛ ولكي تكون هذه القضية الأخيرة صحيحة، لا بد أن تقوم على أساس خصائص يمكن أن نراها وأن نحققها في الصورة من حيث هي شيء؛ فالقضية تعتمد — من جهة — على تمييزنا لخصائص يمكن مشاهدتها، ومن جهة أخرى على معانٍ ذهنية يتألف منها — حين نجعلها صريحة — تعريف الجمال؛ ولا تعارض بين هذه الجمل التي نقرر بها ما نقرره عن الصورة وبين وجود خبرة جمالية مباشرة ليست تُصاغ في أحكام، حتى لينبغي للحكم الجمالي — إذا أردنا له أن يكون حكمًا بمعناه الصحيح — أن يستمد جذوره من مثل هذه الخبرة الجمالية المباشرة؛ غير أن الخبرة المباشرة لا يعبر عنها بالعبارة التي نقول بها «إني أحبها»؛ إذ التعبير الطبيعي عنها هو أقرب إلى أن يكون متمثلًا في وقفة المشاهد إزاءها، أو في صيحة إعجاب ينطق بها. ولملاحظاتنا الأخيرة تأثيرها في موضوع التقدير؛ إذ إن قوام التقدير ليس هو مجرد المتعة وحدها، بل المتعة من حيث هي ذروة تنتهي إليها عمليات واستجابات سابقة عليها؛ وهذه الحالات والعمليات السابقة إنما تتضمن ملاحظة يصاحبها التفكير العقلي، في طبيعتها شيء من التحليل ومن التركيب، من تمييز العلاقات بعضها من بعض، ومن تركيب هذه العلاقات في بناء واحد يضمها؛ فالتقدير بمعناه الصحيح، إنما ينصب على موضوع يمثل شيئًا؛ غير أنه لا يمثل شيئًا يقع خارج موضوع التقدير، بل الشيء الذي هو موضوع التقدير يمثل ذلك الذي كان مؤديًا إليه، من حيث هو خاتمة بلغنا عندها ذروة السير أو حققنا بها الغاية المقصودة؛ وهكذا يختلف التقدير اختلافًا جوهريًّا عن حالات الاستمتاع العابرة، التي تجيء كيفما اتفق. ونحن نشير إلى الأشياء التي هي خاتمة السير بكلمات مثل القمة والذروة ونهاية الصعود؛ فكل شيء أو حادثة تجيز لنا أن نسميها بأسماء كهذه، إنما يكون في طبيعتها الداخلية ما يشير إلى ما قد سبقها من خطوات؛ فالكلمات المذكورة دالة على أن ما قد سبق الخاتمة، لم تكن أسبقيته مجرد أسبقية في الترتيب الزمني، بل إن السابق قد سبق باعتباره خطوات من شأنها أن تؤدي إلى نتيجة تتولد عنها، وهذه النتيجة هي القمة؛ فحيثما نشأت حالة من التقدير، كانت هناك الخاصية الصعودية الناتجة عن رابطة داخلية بين الموضوع المقدَّر وظروفه العابرة؛ وليس نقيض هذه الحالة هو عدم الحب أو عدم التمتع، بل هو عدم التقدير، أعني أنه هو استخفاف النتيجة أو الحاصل بالقياس إلى الظروف والجهود التي كانت النتيجة نتيجته أو الحاصل حصيلته؛ فقد يتناول إنسان شربة ماء تناولًا يوشك أن يكون آليًّا لكي يطفئ ظمأه؛ لكنه إن كان مرتحلًا في أرض يباب، ثم كوَّن لنفسه فكرة أين عساه أن يجد الماء، حتى إذا ما بلغ المكان المعين أطفأ ظمأه، فإن خبرته عندئذٍ تكون لها الخاصية الصعودية، فهو عندئذٍ يقدر الماء تقديرًا لا يقدره به عندما لا يحتاج منه الأمر إلا أن يدير صنبورًا وفي يده كوب يضعه في مجرى الماء الذي يتدفق من الصنبور؛ فخبرته لها صفة كونها تمثل شيئًا ما، وذلك أنها خاتمة السير أو ذروة الصعود. فلفظتا جمال ورشاقة تدلان دلالة واضحة على أن ثمة في هذه الحالة تقديرًا؛ فقليل من التحليل لهذه الفقرة المذكورة يبين أن النظرية رشيقة وذات جمال، لأن مادتها تمثل ترتيبًا متناغمًا بلغ ذروته، وأعني به ترتيبًا لمختلف الحقائق الخارجية والأفكار العقلية؛ فنشاطنا العقلي، الذي هو العلم، له جوانبه التقديرية بمعناها الصحيح، شأنه في ذلك شأن الفنون الجميلة سواءً بسواء؛ وتنشأ هذه الجوانب كلما بلغ البحث خاتمة تحقق ما كانت تبتغيه أوجه النشاط والظروف التي انتهت إليها؛ وبغير هذه الجوانب التقديرية — التي تبلغ حد الغزارة أحيانًا — لا يتاح لأي باحث أن يحس في خبرته علامة تنبئه بأن بحثه قد بلغ ختامه. وتشخيص شعورنا على هذا النحو قد كان له أثره في الصور الثلاث التي هي أوسع الصور التقديرية تعميمًا، فأنتج مدركات «الخير» و«الحق» و«الجمال»، جاعلًا إياها مطلقات وجودية؛ مع أن الأساس الحقيقي لهذه المطلقات هو تقديرنا لغايات متعينة جاءت بمثابة الذُّرَى التي ينتهي عندها الصعود؛ ففي خبراتنا العقلية والجمالية والخلقية، يحدث أن يتحقق الاكتمال الموضوعي لحالات معينة من ظروف وجودية كانت خليطًا أول الأمر، أقول إن ذلك الاكتمال الموضوعي يتحقق على صورة من استقامة الاتساق تخلع على الموقف الختامي شيئًا من البهاء؛ فعندئذٍ يصدر عنا حكم بأن «هذا حق، وجميل، وخير» في شيء من التحمس؛ وأخيرًا تقام التعميمات على أساس عدد من أمثال هذه الحالات الفردية التي يتحقق لنا فيها ما نبتغيه؛ فيصبح كون الأمر حقًّا أو جميلًا أو خيرًا، كأنما هو في نظرنا صفة مشتركة لشتى الموضوعات على الرغم مما بين هذه الموضوعات من اختلافات جسيمة في مقوماتها الحقيقية؛ مع أن هذه الصفات لا تعني شيئًا سوى دلالتها على أن موضوعات معينة تتميز تميزًا واضحًا بكونها اكتمالات بلغت بها ذروة الطريق ضروبٌ معينة من مواقف كانت لا متعينة بادئ ذي بدء، ولقد بلغت تلك المواقف اكتمالها ذاك بفضل إجراءات ملائمة أجريت عليها؛ وبعبارة أخرى، فكلماته «الخير» و«الحق» و«الجمال» أسماء مجردة نسمي بها خصائص تختص بها أنواع ثلاثةٌ من غايات كنا قد بلغناها بالفعل وكانت لنا بمثابة القمم التي ينتهي عندها طريق الصعود. أما النظرية القديمة فقد حولت الغايات التي حققناها بالفعل إلى غايات في ذاتها؛ وذلك بتجاهلها للظروف والإجراءات العينية، التي كانت هي وسيلتنا إلى تحقيق ما قد حققناه؛ إذ عزلت الخصائص التي كانت تميز مواد البحث بسبب كونها قد انتهت إلى حلول ناجحة لمسائل عرضت لنا فيما قمنا به من بحث عقلي، ومن تكوين فني، ومن سلوك خلقي، عزلتْ هذه الخصائص عن ظروفها التي أكسبتها منزلتها ودلالتها؛ وما دامت قد عزلت على هذا النحو، كان من الضروري أن تتجسد في كيانات مستقلة؛ فظن بها وهي في حالة انعزالها ذاك عن الوسائل التي كانت سبلنا إلى بلوغ ما بلغناه من نتائج، ظن بها أنها مثلٌ عليا أو معايير مفروضة من الخارج على نفس إجراءات البحث ونفس الخلق الفني والجهد الخلقي، التي لم تكن تلك المثل والمعايير في حقيقة الأمر إلا تعميمات استخلصت منها؛ وإن مثل هذا التجسيد ليحدث دائمًا كلما جعلنا من الغايات العينية بما لها من طبيعة الخواتم التي نختم بها طرق السير، «غايات في ذاتها». نعم إن أفكارنا العامة المجردة عن الحق والجمال والخير لها قيمة حقيقية في البحث العلمي والخلق الفني والسلوك الخلقي؛ إذ إن لها — كما للمثل العليا الحقيقية كافة — قوة تهدينا وتقيم لنا الحدود؛ إلا أنها لكي تؤدي وظيفتها الحقيقية، لا بد لنا أن ننظر إليها على أنها مذكرات تذكرنا بالظروف والإجراءات العينية التي ينبغي لنا أن نستوفيها في الحالات التي ترد في حياتنا الفعلية؛ ونحن إذ نستخدمها من حيث هي أدوات معممة، فإننا نجد معانيها متمثلة في انتفاعنا بها فيما يستجد من حالات، لكنها في الوقت نفسه تزداد وضوحًا بهذا الانتفاع كما تتعرض للتحوير بفضله؛ مثال ذلك ما قد طرأ من تغير على المعنى المجرد لكلمة الحق، أي المعنى المجرد لكون الشيء حقًّا، وهو تغير جاء نتيجة تطور مناهج البحث التجريبي. وختامًا فإننا سنعود إلى الحديث عن المفارقة التي تبدو كأنما هي ملازمة لفكرة الأحكام العملية، والتي قدمناها فيما سلف؛ لكن بغض النظر عن هذه المفارقة، فليس هنالك إلا بديلان اثنان في مسألة الصفة العقلية التي ننعت بها عملية التروِّي؛ فإما أن نعترف بأن القضايا التحسسية التي نصوغها ونحن في مراحل السير الوسطى، حين نكون بصدد الروِّية في أي السبل نختار، أقول إما أن نعترف بأن تلك القضايا ذات تأثير حاسم على نفس مادة الموضوع الذي تكونت تلك القضايا عنه، وإلا فلا مناص من أن نسلب عنها كل صفة عقلية وكل أثر عقلي؛ فإذا نحن أخذنا بالتفسير الأول قامت المفارقة الظاهرية التي أشرنا إليها؛ وفضلًا عن ذلك فإن هذه الفكرة لا توصف بالمفارقة إلا إذا نظرنا إليها من وجهة نظر معدة مقدمًا نتصور بها طبيعة القضايا، وأعني بها وجهة النظر التي تجعل القضايا إخبارية فقط، وتجعلها في حالتها الإخبارية هذه كيانات كاملة التكوين ونهايات يقف عندها السير؛ لكن المسألة تتخذ شكلًا جد مختلف لو أننا اعترفنا — ولو على سبيل الفرض — بأن ذلك الذي تخبر به القضايا، إنْ هو إلا حاجتنا إلى أداء عمليات معينة، تقتضيها الحكمة، لتكون لنا وسيلة تنتهي بنا إلى موضوع ختامي يمكننا أن نثبته مرتكزين في ذلك على أساس سليم؛ فعلى هذا الأساس تصبح الفكرة القائلة بأن القضايا عوامل في تشكيل مادة الموضوع ذاتها التي جاءت تلك القضايا لتتحدث عنها، أقول إن هذه الفكرة تصبح هي الفكرة التي نتوقعها، بدل أن نعدَّها فكرة تشتمل على مفارقة. وربما ازداد الأمر وضوحًا إذا لاحظنا في هذا الصدد أن كلمة «عن» (في قولنا عن قضية ما إنها عن كذا وكذا) يكتنفها شيء من الغموض؛ فمن جهة يُقال عن قضية إنها عن شيء ما لا يظهر في القضية باعتباره حدًّا من حدودها؛ ومن جهة أخرى يُقال عن القضية إنها عن أحد حدودها، وهو عادةً الحد الذي يكون من الجملة موضوعها النحوي، أعني الجملة التي جاءت لتعبر عما نحن بصدده من إثبات أو نفي؛ مثال ذلك رجل يبحث في موضوع يتصل بمسألة خاصة بالعلاقات الخارجية يحيط بها الغموض، فبحثه على وجه الجملة يكون عن ذلك الموقف الغامض؛ لكنه وهو في غضون البحث، تراه ينشئ قضايا عن حالات الواقع وعن أحكام القانون الدولي، فتكون هذه الوقائع والأحكام هي المقومات الصريحة التي منها تتألف قضاياه؛ غير أن هذه القضايا هي قضايا عن (أي إنها تشير إلى) موضوعات ليست بذاتها مقومًا من مقومات أي من تلك القضايا؛ فهدفها وقوتها عندئذٍ يقعان في ذلك الموضوع الذي قيلت هي عنه، أي إنهما يقعان في الموقف الذي جاءت تلك القضايا لتعمل على فضه؛ وهو موقف لا يظهر حدًّا في أية قضية منها. والنتيجة التي نخلص إليها هي أن التقويمات من حيث هي أحكام نصدرها عن الأمور العملية، ليست نوعًا خاصًّا من الحكم بمعنى أن تكون أحكامًا نقابل بها أنواعًا أخرى من الحكم؛ بل هي جانب يدخل في طبيعة الحكم ذاته؛ غير أنه في بعض الحالات، قد تكون المشكلة المباشرة منصبة رأسًا على تقويم الأشياء الكائنة في الوجود الخارجي من حيث هي وسائل، موجبة أو سالبة (أي مُعينة أو عائقة)، ومن ثَم تكون منصبة رأسًا على تقويم الأهمية النسبية للنتائج المحتملة التي تعرض نفسها باعتبارها غايات قريبة، فعندئذٍ يكون للجانب التقويمي الأولوية على سواه؛ وفي هذه الحالة تكون ثمة أحكام مما يجوز — بمعنى نسبي — أن تسمى أحكامًا قيمية تمييزًا لها من موضوعات الأحكام الأخرى التي يكون فيها الجانب القيمي ثانويًّا؛ بيد أنه لما كان اختيارنا لكائنات من الوجود الخارجي نتخذ منها موضوعات لأحكامنا، واختيارنا لأفكار معينة نتخذ منها ما يحتمل أن يكون محمولات لتلك الموضوعات (أي ما يحتمل أن يكون غايات قريبة) أقول إنه لما كان اختيارنا لهذه وتلك أمرًا يشترك بالضرورة في كل حكم، كانت عملية التقويم جزءًا من طبيعة الحكم من حيث هو حكم؛ وكلما ازداد الموقف الذي نحن إزاءه إشكالًا، وكلما ازداد البحث الذي لا بد لنا من الاشتغال به دقةً وشمولًا، ازداد الجانب التقويمي بروزًا؛ وكون الحكم التقويمي هو من قبيل الأحكام التي تُقال عن الأمور العملية، أمر معترف به ضمنًا في البحث العلمي، وذلك في ضرورة إجراء التجارب لتعيين المعطيات (التي نجعلها موضوعات لأبحاثنا) والانتفاع بالأفكار والمدركات العقلية — بما في ذلك المبادئ والقوانين — لنتخذ منها فروضًا تهدينا سواء السبيل؛ فهذا الفصل — من حيث الجوهر — ليس إلا مطالبة منا بأن تُصاغ النظرية المنطقية صياغة تساير ما هو حادث بالفعل في الأعمال العلمية، ونحن لا نجد في هذه الأعمال العلمية من الاتجاهات القائمة على أساس سليم، إلا ما كان مرتكزًا على إجراءات عملية نجريها ونؤديها.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/10/
الإثبات والنفي
إن النظرية التقليدية عن القضايا الموجبة والسالبة لتباين ما يحدث في سيرنا بعملية البحث؛ وهو تباينٌ يدعونا إلى تمحيص الأمر؛ ففي البحث العلمي ترانا نلتفت إلى الحالات الشاذة وكل ما يبدو عليه الشذوذ، التفاتًا لا نتهاون فيه؛ فتقنيات البحث تهتم بما تحذفه حذفًا يكون له أثره في النتيجة، اهتمامًا لا يقل عن اهتمامنا بما تلحظه بين الظواهر من أوجه الاتفاق؛ فمهما بلغت قسمات الظواهر التي نتناولها بالبحث من اتفاق التشابه، فذلك وحده لا يكفي للوصول إلى نتيجة مؤكدة؛ إذ لا بد لمواضع الشبه أن تؤمَّنَ عند كل خطوة بملاحظة أوجه الاختلاف؛ وإننا في إجرائنا للتجارب لنتعمد خلق تغيرات في الظروف، بغية إبراز الجوانب السالبة التي من شأنها أن تختبر صدق النتائج التي هي موضع قبول عام؛ فلو أن النظرية المنطقية اهتدت في تفسيرها للقضايا الموجبة والقضايا السالبة بما يحدث فعلًا في سيرنا بعملية البحث، لظهر في جلاء أن (١) هذه القضايا أدائية في فضها للموقف المشكل، (٢) وأنها متآلفة أو متجاوبة بعضها مع بعض في وظيفتها الأدائية. غير أن النظرية التقليدية تجعل القضايا حقائق معدة نتلقاها كما هي، ومن ثَم فهي تنظر إليها على أنها قائمة بذاتها كاملة في ذاتها؛ فهي هنالك قائمةٌ كما هي قائمة، وما علينا إلا أن نلحظها لنصف ما عساها أن تبديه لنا من خصائص؛ وهذه الطريقة في معالجة القضايا إنما تقرب من أفهامنا إذا ما نظرنا إليها مقترنة بتفرعها عن المنطق الأرسطي وصلته بالحقيقة الكونية، إذ إنها طريقة ترتد في نهاية الأمر إلى هذا المنطق؛ فالأنواع في هذا المنطق هي الكيانات الكيفية، أو هي الأفراد الحقيقية التي ننتهي إليها بالتحليل؛ وبعض هذه الأنواع متنافٍ مع بعضها الآخر بحكم طبيعته أي بحكم جوهره الذي يكمن في صميمه؛ وعلى ذلك كانت القضية السالبة هي إخراجٌ إلى عالم الإدراك الفعلي لإحدى الصور الأساسية من صور الحقيقة الكونية؛ ولما كانت الأنواع ترتب كذلك ترتيبًا متدرجًا، كان إثباتنا لدخول نوع ما في نوع آخر أشمل منه، هو الآخر إبرازٌ لصورة من صور الحقيقة الكونية في حالة من حالات الإدراك الفعلي. وجاء تطور العلم الحديث فأبطل تلك المدركات التي تجعل الأنواع ثابتة، تحددها ماهيات ثابتة، وهي المدركات التي قام على أساسها المنطق الأرسطي؛ فكان لهذا الإبطال أثره — إذن — على المدركات القديمة الخاصة بالكلي والجزئي، أو بما هو كل وما هو جزء، وعلى الإطار الذي يبين علاقتهما الواحد بالآخر؛ غير أن المنطق الحديث — مع ذلك — قد حاول أن يحتفظ بذلك الإطار على شريطة أن يكون مفهومًا بأنه إطار صوري صِرف، خلو من كل مضمون وجودي؛ فكانت النتيجة التي لا مفر منها هي هذه الطريقة الآلية التي يتصور بها المنطق التقليدي والمنطقُ الصوري الحديثُ كلاهما القضايا الموجبة والقضايا السالبة وما بينها من علاقات؛ فقد فقدت هذه القضايا أساسها الوجودي دون أن تكسب مقابل ذلك علاقة أدائية تربطها بطريقة السير في البحث. إننا لا نزال نحتفظ بالتسمية القديمة، وأعني بها كيف القضايا، بالنسبة إلى القضايا الموجبة والقضايا السالبة؛ لكن هذه التسمية توشك ألا تزيد على مجرد بطاقة نضعها على مسماها وضعًا آليًّا؛ فإذا نظرنا إلى الأمر من زاوية العلاقة الأدائية التي تصل الإثبات والنفي بالعملية التي نحدد بها مواقف لم تكن مقررة المعالم ولا متعينة الحدود، فعندئذٍ نرى في الإثبات والنفي وسيلتين نستعين بهما على تغيير الكيف الذي كان يتسم به الموقف وهو في حالة عدم تعينه؛ وهما إنما يؤديان إلى هذه الغاية بما يقومان به من تقرير ما ينبغي لنا أن نختاره وما ينبغي أن نحذفه؛ فالقضايا الموجبة تصور ما يكون من اتفاق بين الموضوعات المختلفة من حيث هي أدوات نستشهد بها؛ فهي حين تتفق، فإنما تتفق في تأييدها — أو في افتراضنا بأنها تؤيد — بعضها بعضًا تأييدًا تتجمع شواهده في الإشارة إلى اتجاه بعينه، على الرغم من أن تلك الموضوعات — كما هي قائمة في الوجود الخارجي — قد وقعت في أزمنة مختلفة وفي أماكن مختلفة؛ وأما القضايا السالبة فهي — من جهة أخرى — تصور الموضوعات التي لا بد من استبعادها لكونها لا تتصل بالمهمة التي تقوم بها مادة الموضوع من حيث هي شاهد يُهتدى به في حل مشكلة قائمة؛ فكون حقائق خارجة معينة أو أفكارًا معينة تُستبعد من البحث، معناه آخر الأمر أن الموقف الأصلي غير المتعين لا يمكن تحويله، أي لا يمكن تغيير كيفه بحيث يصبح موقفًا متعينًا، إلا عن طريق استبعادنا لبعض مقوماته استبعادًا فعليًّا تجريبيًّا عمليًّا؛ وأما إثباتنا لحقائق خارجية معينة أو لأفكار معينة فمعناه أننا نختارها في عملياتنا الإجرائية لكي يظاهر بعضها بعضًا في إيجاد موقف موحَّد؛ فإذا كانت هذه الأقوال تبدو غريبة على الأسماع لتباينها مع التفسير التقليدي لمعنى الإثبات والنفي، فما على المتعجب إلا أن يفكر فيما يحدث فعلًا في سير البحث العلمي، لكي يتبين أنها أقوال قائمة على أساس مكين، وأن لها معنًى قويمًا. وإنه لمحال علينا أن نعرف المقارنة إلا تعريفًا إجرائيًّا؛ فهي اسم نطلقه على كافة الإجراءات العملية التي بها تتحدد المتشابهات والمختلفات في مجرى الشواهد؛ وهي اسم نطلقه على أي إجراء عملي وكل إجراء عملي به يتقرر أن المعطيات المزعومة أو المؤقتة هي في الحقيقة معطيات تمس المشكلة التي أثارها موقف معين لم يكن محدد المعالم؛ وبه كذلك يتقرر لبعض الوقائع الخارجية أنها تكوِّن «وقائع الحالة» والتي بين أيدينا، ولبعض الوقائع الأخرى أنها ليست كذلك؛ فمحال علينا أن ننشئ تعريفًا للمقارنة مستقلًّا عن الإجراءات التي نجريها، ثم بعدئذٍ نستخلص من ذلك التعريف ما يلزم من الإجراءات لكي نعين لأوجه الشبه ولأوجه الاختلاف ما يكون لها من قوة الشاهد؛ فكلمة المقارنة كلمة تغطي شتى خيوط الإجراءات العملية التي نفرز بها بعض الكائنات لنجعله حقائق أولية تخص موضوع بحثنا، وبعض الكائنات الأخرى لنستبعده لكونه لا شأن له بالحالة التي نحن بصددها، بل لكونه عائقًا في سبيل العمل المطلوب من أجل تغيير الكيف الذي يتسم به الموقف الوجودي القائم. لقد قابلنا في المناقشة السالفة بين نظرية في الإثبات والنفي قائمة على أساس ما يجري فعلًا في البحث العلمي في وقتنا الحاضر، وبين المذهب الأرسطي وما أعقبه بعدئذٍ من صياغة صورية لمذهبه، وهي صياغة أفرغت ذلك المذهب من مضمونه كله؛ وسننتقل الآن إلى النظر في العلاقة التي تربط وجهة نظرنا بالنظرية العامة في الحكم؛ فالمواقف إذ تكون لا متعينة، إنما تتسم بالفوضى والغموض والتضارب؛ وإذن فهي عندئذٍ تكون بحاجة إلى توضيح؛ ذلك أن الموقف حين لا يكون مستقرًّا، يحتاج إلى توضيح لأننا لو تركناه كما هو، لم يعطنا هداية ولا مفتاحًا للطريقة التي يمكننا بها أن نزيل عنه الإشكال؛ فلا ندري إزاءه أي سبيل نتبع، فترانا عندئذٍ نتحسس ونتخبط؛ ولا يكون أمامنا طريق للنجاة من هذه الحالة المضطربة إلا بأن نتلفت إلى مواقف أخرى، باحثين فيها عن هداية نهتدي بها، وما نستعيره من تلك المواقف الأخرى يكسبنا وقفة جديدة نستعين بها، في توجيه إجراءاتنا في عمليات المشاهدة، وهي الإجراءات التي نؤديها في مجال الذوق الفطري بوساطة أعضاء الحس والحركة؛ ومن شأن هذه الإجراءات أن تبرز بعض جوانب الموقف الذي نحن بصدده؛ وما الوقفة الجديدة التي نكسبها — إذا ما عبرنا عنها صراحة — إلا فكرة أو معنًى عقلي. إن العمليات نفسها التي تختار ظروفًا بعينها لتجعل منها مفاتيح يحتمل أن تؤدي إلى حل المشكلة التي نحن بصدد حلها، تستبعد في الوقت نفسه ظروفًا وخصائص أخرى يشتمل عليها الموقف القائم في مجموعته؛ فالاختيار يتضمن الحذف، والحذف هو النفي في مرحلته الأولية؛ على أن الموقف غير المتعين من طبيعته عادةً أن يثير ضروبًا متضادة من الاستجابة؛ وها هنا تتعارض وقفاتنا وعاداتنا التي اعتدنا أن نعالج بها المواقف؛ ومثل هذا التعارض هو مما تقتضيه المواقف حين تكون مهوشة العناصر مسدودة المنافذ؛ غير أن هذا التعارض أحيانًا قد يكون هو الغالب بحيث تصبح المشكلة الرئيسية هي رد العناصر المتعارضة إلى وحدة ذات دلالة، أكثر مما تصبح مشكلة توضيح الغامض؛ ففي هذه الحالة ترى بعض المقومات وقد برزت بروزًا واضحًا، ولكنها تشير إلى اتجاهات متعارضة؛ فلكي نحل المشكلة عندئذٍ، لا بد لنا من اللجوء إلى مواقف أخرى مما قد وقع لنا في خبراتنا؛ فقد توحي هذه المواقف بإضافات نضيفها أو حذف نحذفه، إضافةً وحذفًا من شأنهما أن يُوحِّدا المواد التي استثارت فينا أول الأمر استجابات متعارضة. إن العملية التي نحذف بها مواد غير متصلة بالمشكلة، بل تعوق طريق حلها، لتصاحبُ جنبًا إلى جنب عمليةً نزيد بها قوة الدلالة بالنسبة إلى مواد أخرى؛ وعلى ذلك فالنفي هو الجانب الذي نحصر به مجال النظر عندما نقوم بعملية الاختيار التي لا بد منها في كل حالة نقرر فيها عن مادة معينة إنها مما يعنينا فيما نحن بصدده من بحث؛ وما نختاره يكون بمثابة ما هو إيجابي مؤقتًا؛ وهذا الجانب الإيجابي منه يكون بادئ الأمر هو نفسه أخذنا واستخدامنا للمادة لكي نختبر صلاحيتها؛ لكن ضبط هذا الأخذ وهذا الاستخدام يتطلب أن تكون المادة قد صِيغت على صورة معينة؛ ولهذا كانت القضايا (التي هي هذه الصياغة الصورية للمادة) تختلف عن القرار الختامي الذي ننتهي آخر الأمر إلى إثباته، والذي هو الحكم؛ ويفسر اعتمادُنا على هداية المواقف الأخرى في عملية الحذف والاختيار اهتمام النظرية التقليدية بالعوامل «المشتركة» وبالاتفاق (بين الظواهر)؛ على أن المقارنة هي في الوقت نفسه مباينةٌ نعبر عنها بحذفنا واستبعادنا لتلك العناصر والصفات التي نراها في الموقف الذي نحن إزاءه، والتي دلت المواقف الأخرى على أنها غير ذات شأن به. إنه ليُقال أحيانًا إن الإثبات والنفي لا يمكن جعلهما متضايفين أحدهما مع الآخر، لأننا لو جعلنا كل إثبات يقتضي نفيًا وكل نفي يقتضي إثباتًا لنشأ تسلسل لا ينتهي؛ وإن مثل هذا التسلسل اللانهائي لينشأ حقًّا لو كان كل منهما يجيء عقب الآخر، لكن حقيقة الأمر هي أنهما يتآزران في الحدوث تآزرًا بمعناه الدقيق؛ فليس يقتصر الأمر على أن تكون كل عملية نحدد بها شيئًا عبارةً عن نفي لغيره من الأشياء، بل كذلك كل نفي هو عبارةٌ عن تحديد (أي إننا حين ننفي شيئًا نقرر في الوقت نفسه وجود شيء آخر)، فالعلاقة بين الإثبات والنفي ليست هي علاقة التعاقب، إلا إذا قلنا إن ثمة تعاقبًا بين تناول الحيوان لطعامه ونبذه لمواد أخرى على أنها لا تصلح طعامًا؛ لكنه لا تعاقبَ بين الأفعال التي تقوم في نفس الوقت الواحد بقبول أشياء لاستعمالها وباستبعاد ما عداها. ومهما يكن من أمر، فمجرد النفي يذكرنا بما لا تستريح إليه النفس من منازعات الأطفال حين يأخذ المتنازعان في ترديد قولهما: «إنه كذلك، إنه ليس كذلك»؛ والنقطة الهامة في هذا الصدد هي أن وجهة النظر التي نناقشها الآن إنما تلزم عن فرض أوَّلي يزعم به أصحابه بأن كل القضايا التي تنبئ عن الواقع، كاملةٌ ونهائية لأنها تعلن عن حالات في الوجود الخارجي كانت قائمة قبل صياغة القضايا التي تنبئ عنها؛ ولهذا فالرأي الذي ينكر أن يكون للقضايا السالبة صفة منطقية، يؤيد عن طريق غير مباشر موقفنا الذي نأخذ فيه بأنها وسلية وأدائية؛ إذ الكائنات القائمة في الوجود الفعلي، والمعاني القائمة في الذهن، لا يُشار إليهما — سواء في حالة الإثبات أو في حالة النفي — لمجرد الذكر بأنها كائنات قائمة، بل يُشار إليهما من ناحية العمل الذي يؤديانه في تبديل كيفية الموقف الذي كان أول الأمر موقفًا غير متعين؛ لأن تبديل الكيفية هذا لا يمكن استحداثه بالفعل (في حالة النفي) إلا بحذف المواد التي تقف حائلًا يعوق سيرنا، وحذف المقترحات التي لا تؤدي بنا إلى نتيجة؛ فإذا نحن استبعدنا القضايا السالبة من مجال المنطق، كان لزامًا علينا أن نستبعد عملية المقارنة كذلك. واختصارًا فليس النفي هو مجرد الحذف أو مجرد غض النظر عن اعتبارات معينة، في مجال الواقع أو في مجال الفكر؛ بل حقيقة الأمر هي أن بعض حقائق الواقع وبعض المعاني في الذهن لا بد من استبعادها استبعادًا مقصودًا لأنها حوائل تعوق نهوضنا بفض موقف غير متعين؛ نعم إن الفكرة القائلة بأن النفي مرتبط بالتغير، أي إنه مرتبط بصيرورة الشيء إلى ما ليس هو، أو إلى شيء يختلف عما كان، هي فكرة قديمة قدم أفلاطون على الأقل؛ لكن التغير أو التحول أو صيرورة الشيء إلى ما ليس هو، له عند أفلاطون منزلة مباشرة من منازل الحقيقة الكونية؛ إذ هو علامة على أن الشيء المتغير ناقص في طبيعته الوجودية، أي يعوزه ما يجعله «كيانًا» كامل الكينونة؛ ولهذا كانت القضية السالبة التي تعبر عن التغير، هي في مجال المعرفة ما يقابل في الحقيقة الكونية كون أحد أنواع الوجود الخارجي دني المنزلة بالقياس إلى سواه؛ وأما في العلم الحديث فما يكون في التغير من ارتباطات وتقابلات هو الهدف الرئيسي لتحديد الظاهرة المراد تحديدها؛ ولم يعد يجوز أن ننظر إلى علاقة القضية السالبة بالتغير والتحول على أنها دالة على نقص في كيان الكائن؛ بل الأمر على خلاف ذلك، إذ القضية السالبة من حيث هي كذلك، هي الصياغة التي نصوغ بها تغيرًا ما يُراد إحداثه في الظروف القائمة فعلًا بعمليات إجرائية هي التي تعبر عنها القضية السالبة؛ فالقضية السالبة دالة على أن إجراء تجريبيًّا معينًا لا بد من القيام به، لكي تتغير الظروف به تغيرًا من شأنه أن يجعل لنتائج ذلك الإجراء دلالة شاهدية كانت تعوز الظروف على صورتها التي كانت بها بادئ ذي بدء. وللقضية الموجبة أيضًا علاقة وثيقة بالتغير؛ فخذ مثلًا القضية «هذا أحمر» تجدها في ظاهرها إثباتًا خالصًا، إذ هي لا تحمل معها أي إيحاء بنفي أو بحذف؛ غير أن مجرد وجود بقعة حمراء لا يكفي مسوغًا لإثبات «أنها حمراء» ولكي يقوم هذا الإثبات على أساس سليم، لا بد من استبعاد سائر الاحتمالات الممكنة؛ إذ ليس ثمة ضرورة منطقية تحتم أن تكون هذه البقعة حمراء، فقد كان يجوز لها أن تكون لونًا آخر منذ لحظة، وربما أصبحت لونًا آخر بعد لحظة؛ وإذن فالقضية «تركيبية» بالمعنى الكانطي لهذه الكلمة، أي إنها لا تنبني على مجرد تحليل هذه تحليلًا عقليًّا؛ بل تعتمد صحة قرارنا بأن «هذا أحمر» على: (١) استعراض شتى احتمالات اللون الممكنة استعراضًا يستوعبها كلها في قضايا منفصلة، (٢) وبحذفنا للممكنات كافة بحيث لا نستبقي إلا واحدًا هو الذي نثبته، فإن هذا الحذف يترتب على (٣) سلسلة من قضايا شرطية متصلة، صورتها كالآتي: «إذا كان اللون أزرق، نتج كذا وكذا» … إلخ، لنقارنها بالقضية القائلة: «إذا كان اللون أحمر، إذن لنتج كذا وكذا من النتائج المغايرة والمختلفة عن نتائج الألوان الأخرى»؛ ولست أعني بطبيعة الحال أن مثل هذه العملية الدقيقة في تحديدنا للأشياء هو ما يحدث في حياتنا الجارية غالبًا؛ لكن الذي أعنيه هو أننا إذا أردنا صحة منطقية كاملة، كان المطلوب هو قضية شبيهة بما يأتي: «إن الظواهر المشاهدة لا تكون كما هي عليه إلا إذا كان هذا اللون أحمر» وقولنا «إلا» في هذه القضية يتوقف على سلسلة من حذوف نعبر عنها بقضايا سالبة؛ فكلما تطلبنا تحديدًا علميًّا لخاصة لون ما حلًّا لمسألة علمية، سار البحث في اتجاه كالذي أسلفناه من استعراض الحالات الممكنة كافة استعراضًا يستوعبها جميعًا في قضايا منفصلة، وبعدئذٍ نأخذ في حذف منظم نستبعد به كل الاحتمالات الممكنة ما عدا واحدًا هو الذي نجد له أساسًا إيجابيًّا يسوغه. وأحسب أن علاقة هذا التحديد بإحداث التغير إحداثًا مقصودًا أمرٌ غاية في الوضوح؛ إذ لا بد من أداء سلسلة من الإجراءات التجريبية نجريها بمادة الوجود الخارجي وعليها، أعني المادة التي نشير إليها باسم الإشارة هذا؛ ومن شأن التغيرات التي تجيء نتيجة لقيامنا بتلك الإجراءات التجريبية، أن تهيئ لنا الأسس التي نعتمد عليها في إنكارنا لأن يكون الكائن المشار إليه أزرق أو أصفر أو أرجوانيًّا أو أخضر … إلخ، وفي إثباتنا أنه أحمر؛ فإذا رأى القارئ نفسه أميل إلى الشك فيما نقوله، خصوصًا إذا أقام شكه هذا على أساس أن القضية التي نحن الآن بصددها (قضية «هذا أحمر») إذا لم تكن «واضحة بذاتها» فليست هي على الأقل مما يستدعي كل هذه الخطوات الاستدلالية التي زعمناها، أقول إنه إذا أحس القارئ شكًّا في هذا، فليذكر أن اللون من الناحية العلمية لا يتقرر إلا على أساس إجراءات توحد بين الألوان وبين نسب معينة من الذبذبة، وتجعل الأحمر نسبة عددية واحدة من هذه النسب تقتصر عليه دون سواه؛ وبعبارة أخرى، فإن القضية «هذا أحمر» معناها منطقيًّا هو أن تغيرًا خاصًّا معينًا قد حدث، أو يُنتظر له أن يحدث إذا ما أُجريت إجراءات عملية معينة؛ وفي الحالة الثانية يكون المعنى المنطقي للقضية هو: «هنا سيصبح أحمر، أو سيصبغ شيئًا آخر باللون الأحمر» ذلك على فرض قيام شروط بعينها؛ أما إذا فهمنا معنى القضية على أنه «قد كان هذا أحمر لفترة طويلة من الزمن» كان الأمر يتطلب سلسلة استدلالية أطول مما تطلب بمعناها السابق، لكي يتسنى لنا قبول نتيجة تشتمل فيما تشتمل عليه صفة مضافة، هي صفة الامتداد الزمني؛ وإذا فهمناها على أنها تعني: «إن هذا أحمر بحكم طبيعته أو بحكم الضرورة» لم تعد بنا حاجة إلى الإشارة إلى التغير، لكن هذه هي الحالة الوحيدة التي لا تكون فيها القضية المذكورة عن التغير. وأعود بعد ذكر هذه الملاحظات العامة إلى الصور الخاصة التي تصور العلاقات التي تصل القضايا الموجبة بالقضايا السالبة، وهي العلاقات التي أسميناها بالتضاد وبالدخول تحت التضاد وبالتناقض، فيلزم عما قلناه (١) أن هذه العلاقات لا بد أن تُفهم من ناحية المهمة الأدائية التي تقوم بها في عملية البحث، (٢) وأن تُفهم كذلك على أنها متضايفة مكمل بعضها بعضًا، بمعنى أن التحديد الذي تدل عليه إحداها يستتبع التحديد الذي تدل عليه الأخرى، وألا تفهم على أنها مجموعات مستقلة من القضايا تصادف لها أن يرتبط بعضها ببعض بالعلاقات المذكورة (والأغلب أن يُفهم مربع التقابل المعروف بهذا المعنى الأخير؛ ما دام قصورنا عن ربط القضايا المتضادة … إلخ بعملية البحث من شأنه أن يقيم لنا إطارًا آليًّا صِرفًا من قضايا، كل منها مستقل من الناحية المنطقية عن سواه). فالتضاد أو التقابل المنطقي يكون بين القضايا الموجبة والقضايا السالبة حين تكون هذه وتلك قضايا كلية؛ وعلاقة التضاد معناها أن إحدى القضيتين فقط تكون صادقة، مع جواز أن تكذب القضيتان معًا؛ فالعلاقة بين هاتين القضيتين: «كل الفقريات المائية ذوات دم بارد» و«لا واحدة من الفقريات المائية من ذوات الدم البارد» هي مثل يوضح علاقة التضاد؛ فالتضاد بين القضايا يقيم الحدود التي لا بد للتغيرات المعينة أن تحدث في إطارها؛ وأما القضيتان المتضادتان ذاتهما فهما غير متعينتين، أي إنهما لو أخذتا على أنهما حالتان ختاميتان وكاملتان، لا على أنهما تعبران عن مرحلة معينة ضرورية من مراحل البحث الموجه أثناء سيره، لكانتا معيبتين منطقيًّا؛ وهذا العيب المنطقي ظاهر من جواز أن تكون القضيتان المتضادتان كاذبتين معًا؛ فالقضيتان المتضادتان إن هما إلا مرحلة نبدأ عندها إقامة مجموعة القضايا المنفصلة التي تستوعب كافة الاحتمالات الممكنة التي يتطلبها تحديدنا لحالات الإثبات والنفي جميعًا، كما قد رأينا؛ فالقضيتان المتضادتان ليستا في ذاتهما تكوِّنان ما نريده من حالات الاحتمال الممكنة، لأنهما (كما هو واضح من المثل الذي ضربناه لتونا) لا تدلان على شتى البدائل الممكنة؛ فلا تدلان مثلًا على الحالة التي يكون فيها «بعض الفقريات المائية من ذوات الدم البارد وبعضها الآخر ليس كذلك»؛ بل هما تقيمان لنا النهايتين الختاميتين اللتين تتفاوت بين طرفيهما درجات البدائل الوسطى، فهما تفيدان في تسوير مجال البحث، فتوجهان بهذا التسوير ما عسانا أن نجريه من إجراءات تالية في مجالَي المشاهدة الخارجية والأفكار الداخلية؛ فلئن كانت القضيتان التقليديتان الموجبة الكلية والسالبة الكلية تمثلان الطرفين اللذَين لا بد أن تقع البدائل الممكنة في حددوهما، فهما لا تؤديان أكثر من ذلك بدليل أنهما قد تكونان كاذبتين معًا؛ فمن حيث هما متضادتان فهما لا تمثلان النتائج التي ننتهي إليها، بل تمثلان النتائج التي تخرج لنا من استعراضنا المبدئي لمجموعة المجال الذي هو مثار الإشكال؛ ونحن إنما نقوم بهذا الاستعراض لنحدد محيط المجال الذي لا بد أن تقع في حدوده شتى التحديات المستقبلة؛ فعملية التحسس التي نرود بها حدود مجال البحث، تصل إلى غايتها القصوى عندما يصبح في مستطاعنا أن نصف الحدود الخارجية التي يتحتم علينا أن نبحث عن حل لمشكلتنا داخل محيطها. وفي النظرية المنطقية كثيرًا ما يشتد في القضايا المتضادة جمودها الذي ينجم عنه ما تتصف به تلك القضايا في الظاهر من كونها نهايات في ذاتها، باستخدامنا رموزًا لا يكون لها معنًى أو مضمون خاص بها؛ ومن قبيل هذه الرموز أن نقول «أ» و«ليس أ» فيستحيل أن يكون لهذه الأضداد الخالصة قوة إرشادية، ذلك لأنه لو كانت «الفضيلة» — مثلًا — هي التي نرمز إليها بالرمز «أ» فعندئذٍ يكون الرمز «ليس أ» مشتملًا لا على الرذيلة وحدها، بل مشتملًا كذلك على المثلثات وسباقات الخيل، والسمفونيات وحالات الاعتدال الشمسي؛ ولقد عرفت بصفة عامة منذ عصر أرسطو هذه الناحية العابثة من كون «السالب يحتوي على ما لا نهاية له من أشياء» لكن ما لم يعرف على هذه الصورة العامة هو: (١) أن قصورنا عن إدراك ما للقضية التي تضاد قضية أخرى من مهمة أدائية تقوم بها في هداية السير خلال المراحل التي تتوسط بين الضدين، إنما يميل بتلك القضية نحو أن تكون لانهائية المضمون، (٢) وأن صياغة الضدين (كقولنا «أ» و«ليس أ») صياغة صورية بحتة تضعهما في إطار إما – أو، من شأنه أن يحذف الإشارة إلى مجال البحث، ومن ثَم فلو وصفنا العبارة الإيجابية بأية صفة معينة، ترتب على ذلك أن تصبح العبارة السالبة غير متعينة على الإطلاق؛ ومع ذلك كله فوضعنا للضدين في صورة شرطية، إذا نظرنا إليه على أنه وسيلة لإقامة الحدود التي تقع داخل نطاقها ما هنالك من بدائل محتملة، كل منها قائم على حدة في صورة محددة، أقول إن وضعنا للضدين على هذا النحو إجراء منطقي تمهيدي لا مندوحة عنه. القضايا الداخلة تحت التضاد، والتي تكون فيها المقابلة بين قضية صورتها «بعض كذا هو …» و«بعض كذا ليس …» قد تصدقان معًا، على أن إحداهما لا بد أن تكون صادقة، وذلك حين تكونان متعينتي الموضوع؛ فالقضيتان القائلة إحداهما «بعض الفقريات المائية من ذوات الدم البارد» والقائلة أخراهما «بعضها ليس كذلك» داخلتان تحت التضاد، والمعلوم الآن أن كلتيهما صادقة؛ وعندما نقول عبارة «والمعلوم الآن» فإنما نشير بها إلى الجملة التي أوردناها في العبارة السالفة إذ قلنا «وذلك حين تكونان متعينتي الموضوع»؛ وبعبارة أخرى فإن العلاقة المنطقية الصورية المتضمنة في هذه الحالة، هي صورة من المضمونات الوجودية وقد حددتها المشاهدة؛ غير أنها — شأنها شأن سائر الصور — يمكن تجريدها، علمًا بأن الصورة المجردة لا تكون ذات معنًى منطقي إلا بمقدار ما يكون انطباقها على المضمونات المادية ممكنًا؛ فإذا كان موضع نظرنا هو الصورة الخالصة، جاز أن تكون القضيتان المذكورتان كاذبتين معًا؛ إذ لو أننا غضضنا النظر عن المادة الوجودية كما قد حددتها المشاهدة، كان من الجائز أن تكون القضية الصادقة هي القائلة «لا واحدة من الفقريات المائية من ذوات الدم»؛ ولم نقل عن القضيتين إنهما داخلتان تحت التضاد إلا لأننا قد وثقنا بالفعل بحقيقة اقتران سمتين، هما أن للفقريات المائية عمودًا فقريًّا وأن لها دمًا. إنه وإن تكن القضيتان الداخلتان تحت التضاد أكثر تعيُّنًا من القضيتين المتضادتين، إلا أنهما ما تزالان غير متعينتين إذا قُورنتا بالحكم النهائي؛ وذلك لأن القضايا الكاملة في تعينها، بالنسبة إلى الموضوع الذي نحن الآن بصدده لا بد أن تكون: «كل الفقريات المائية التي تتسم – بكذا وكذا من السمات (كأن يكون من صفاتها مثلًا أنها تلد الصغار أحياءً وتتنفس بالرئات) هي من ذوات الدم الحار» و«كل الفقريات المائية التي تتسم بكذا وكذا من السمات المختلفة عن السمات المذكورة هي من ذوات الدم البارد»؛ فإذا كانت هاتان القضيتان نهائيتين وكاملتين، كانت القضيتان الداخلتان تحت التضاد — من حيث هما صورتان منطقيتان — أقل إحكامًا حتى من المتضادتين على قلة إحكام هاتين؛ ومع ذلك فهما في واقع الأمر تسجلان نتائج المشاهدة تسجيلًا من شأنه أن يمدنا بحقائق الواقع التي تضع الحدود لمشكلة بعينها؛ فالقضيتان الداخلتان تحت التضاد المذكورتان، كانتا تمثلان حالة على الحيوان في زمن معين كان الكشف فيه عن نوعين من الفقريات المائية، متميزين باختلافات في نوع الدم، قد أثار مشكلة معينة الحدود، وأعني بها مشكلة استكشاف الظروف التي يكون فيها بعض الفقريات المائية من نوع معين، وبعضها الآخر من نوع آخر؛ وإنما أثار الكشف عن نوعَي الفقريات المائية تلك المشكلة، بسبب مصادرة مادية، وهي المصادرة التي نفرض بها أن الدم يلعب دورًا له من الأهمية في حياة الحيوان ما يجعل أي اختلاف في نوعه مرتبطًا — على سبيل الترجيح الشديد — بخصائص هامة أخرى؛ وهكذا نرى القضايا التي سورها «بعض» — موجبة كانت أو سالبة — تمثل النتائج التي نحصل عليها من البحث وهو في مرحلة تجريبية ناقصة نسبيًّا، ونقصد بكلمة «تجريبية» هنا تلك العبارات الصادقة التي نقرر بها نتائج مشاهدة شاهدناها فعلًا، دون أن ننفذ ببصيرتنا إلى الظروف التي ترتكز عليها تلك السمات التي شاهدناها واعتمادنا في نتائجنا الصادقة الخاصة بأمور الوجود الخارجي على مشاهدة الواقع، دليل على أن أمثال هذه القضايا، مع كونها ليست نهائية، تمثل مرحلة معينة من مراحل سيرنا في البحث، وتؤدي مهمة لا غناء عنها في تسيير البحث إلى نتيجته. وما يزال البحث في موضوع الضوء في وقتنا الحاضر عند هذه المرحلة؛ فهناك من الأسس ما يسوغ لنا أن نقول بأن «الضوء في بعض نواحيه ظاهرة إشعاعية، وفي بعض نواحيه الأخرى ليس كذلك، إذ هو في هذه النواحي الأخيرة جسيمات»؛ فإذا سلمنا بكفاية المشاهدات التي ترتكز عليها هاتان القضيتان، لم يكن في مستطاع أحد أن ينكر بأنهما تدلان على تقدم علمي؛ غير أنه — من جهة أخرى — لن ينازع إلا القليلون بأن البحث العلمي لا يمكن أن يقتنع بهاتين القضيتين فيعدهما نهائيتين؛ إذ هما تقيمان مشكلة معينة يتناولها البحث بعدئذٍ، وتلك المشكلة هي: في أي الظروف يكون الضوء موجيًّا وفي أيها يكون متقطعًا في جسيمات؟ وينقلنا الحديث عن الدخول تحت التضاد إلى فكرة تداخل القضايا؛ فإذا ما تعين لنا بأن كل الفقريات المائية المتميزة بمجموعة معينة من السمات المقترنة هي من ذوات الدم الحار، كانت القضية التي يسمونها بالداخلة في القضية المذكورة، التي تقرر بأن بعض هذه الحيوانات الفقرية هي من ذوات الدم الحار، لا تقول شيئًا؛ فالإشارة إلى القضية الكلية قد يفيد أحيانًا إذ يذكِّر من قد يكون مصابًا بالنسيان مؤقتًا، لكن تلك الإشارة إلى القضية الكلية خلو من أية قوة منطقية؛ فافرض أن البحث في إحدى مراحله لم ينتهِ إلا إلى أنه في حالة إصابة سفينة ما بحادثة حطمتها، قد أنقذ بعض المسافرين وغرق الآخرون؛ ثم افرض أن بحثًا آخر قد عين لنا على سبيل الحصر أسماء من أنقذوا بأجمعهم، كما عين لنا الغرقى جميعًا؛ ففي هذه الحالة الأخيرة يكون من السخف أن نرجع إلى الصورة التي تحصر القول في نطاق ضيق بقولها «بعض»، في الوقت الذي يكون فيه بين أيدينا قائمة بجميع أفراد كل من الفريقين؛ فعندئذٍ لا بد لاسم أي شخص معين أن يظهر في إحدى القائمتين؛ بحيث إذا أردنا العلم بحالة شخص معين، لم يكن أمامنا أكثر من احتمال واحد. هدف رئيسي واحد هو الذي نستهدفه بالتحليل الذي أسلفناه، وذلك هو أن نشير — من جهة — إلى أننا إذا ما نظرنا إلى القضايا الموجبة والقضايا السالبة على أنها نهائية وكاملة (ولا بد أن ننظر إليهما هذه النظرة ما دمنا نتجاهل الصلة الإجرائية التي تربطهما بتقدم السير في عملية البحث) فإن هاتَين الصورتَين من القضايا تصبحان آليتين جزافيتين؛ وأن نشير — من الجهة الأخرى — إلى أننا إذا أخذنا القضايا الموجبة والقضايا السالبة من حيث هي أدوات لها قوة الأداء، وجدنا أن علاقات التضاد والدخول تحت التضاد والتداخل إنما هي علاقات تميز المراحل التي يتقدم البحث خلالها متجهًا نحو حكم ختامي جائز القبول؛ وإن هذه الاعتبارات لتبلغ غايتها — إن صح لنا هذا التعبير — في حالة القضايا المتناقضة؛ وهي القضايا التي إذا ما صح فيها نقيض كان النقيض الآخر كاذبًا؛ وإذا كذب فيها نقيض كان النقيض الآخر صادقًا؛ وعلاقة التناقض هذه هي التي نرمز لها في مربع التقابل التقليدي بالوترين في المربع، فوتر منهما يمتد من الموجبة الكلية إلى السالبة الجزئية (وسور الجزئية هو كلمة «بعض» التي يكون معناها واحدًا أو أكثر)؛ والوتر الآخر يمتد من السالبة الكلية إلى الموجبة الجزئية؛ ومن الناحية الصورية ليس من شك على الإطلاق في أن القضية «كل الناس بيض» ينقضها أن نشاهد شخصًا واحدًا غير أبيض؛ وكذلك القضية «لا إنسان أحمر» قد انتفت في اللحظة التي شوهد فيها أول هندي من هنود أمريكا الشمالية. غير أن النقطة المنطقية الجوهرية هنا هي أن القضية الكلية (موجبة أو سالبة) لا تنتفي بالقضية التي سورها «بعض» من غير تحديد، بل تنتفي بقضية موضوعها فرد محدد؛ فكلمة «بعض» من الناحية المنطقية إما أن تكون فائضة من المطلوب أو أن تكون أقل من المطلوب؛ فهي فائضة إذا كان قد أتيح لنا أن نقع على الفرد المحدد (وهو في الواقع أمر غير يسير)؛ وهي أقل من المطلوب إذا فهمت كلمة «بعض» بمعناها المنطقي الدقيق، وهو أن تكون هذه الكلمة دالة على إمكان، الإمكان الذي يتخذ صورة «قد يكون» أو «ربما»؛ فكون قضية معينة موجبة جزئية أو سالبة جزئية قد تكون كاذبة، كافٍ بذاته أن يبرهن على أنها لا يمكن أن تنقض قضية كلية مختلفة معها في الكيف، بأي معنًى منطقي دقيق للتناقض؛ فالقضية «بعض الناس ليس أبيض» تدل على جواز أن يكون هناك شيء غير أبيض لكنه ليس كائنًا بشريًّا، أو جواز أن يكون هنالك كائن بشري لكنه ليس أبيض؛ وإنه لمن المألوف أن يحذرنا المحذرون من التعميمات الغامضة، وهو بغير شك تحذير ذو صلة وثيقة بهذه النقطة؛ فكلمة «بعض» إذا كانت غير متعينة بالقياس إلى أفراد، تصبح من قبيل التعميم الغامض؛ أما إذا كانت متعينة الأفراد، لزم عن ذلك أن تتخذ إحدى صورتين: فإما أن تكون «الأفراد المعينة الفلانية تنتمي إلى نوع معين» وهذه صورة تنفي القضية الكلية القائلة «كل الأفراد تنتمي إلى نوع آخر»، وإما أن تكون على صورة أكثر تحديدًا، إذ تكون «كل الأفراد المتسمة بسمات معينة تنتمي إلى نوع معين»؛ وعلى أي الحالتين فليست كلمة «بعض» بمعناها غير المحدد هي التي تنقض قضية كلية موجبة أو قضية كلية سالبة. إن القضية التي تحدثنا عن عدد من الأفراد (وهي التي سورها بعض) بأن تلك الأفراد هي كذا وكذا، هي — كما أسلفنا — قضية تثير إشكالًا؛ فهي كافية لنفي قضية كلية مختلفة معها في الكيف، لكن النفي يظل بهذا غير كامل وغير محدد، فهي وحدها لا تؤيد صدق قضية كلية؛ ولا تجيز لنا قبول القضية الكلية المناقضة لها إلا إذا استوفت شرطين منطقيين، هما: (١) ذكر على سبيل التحديد لمجموعة من القضايا المنفصلة التي تشتمل على البدائل المحتملة اشتمالًا يستوعب كافة الممكنات بقدر المستطاع. (٢) ذكر على سبيل التحديد للسمات المختلفة المميزة التي تتخذه شواهد على نوع ما دون غيره؛ فقد نكشف في مرحلة معينة من مراحل البحث العلمي استثناءً لحكم عام كنا قد قبلناه من قبل؛ فإذا تأيد لنا بالبحث الدقيق صدق المثال الفرد الذي ألفيناه يشذ عن ذلك الحكم العام، لم يعد شك في نفي الحكم العام على صورته السابقة؛ لكنه يستحيل على باحث علمي أن يطوف بباله لحظة واحدة أن هذا النفي للحكم السابق مساوٍ لتأييد قضية كلية صادقة؛ بل إن سؤالًا ينشأ على الفور عما عسى أن تكون الظروف الدقيقة التي تقتضي حدوث الحالة الاستثنائية السالبة؛ حتى إذا ما تعينت لنا هذه الظروف، كان لنا بذلك تعميم آخر، هو: «كل الحالات المتسمة بسمات معينة هي كذا وكذا»؛ واختصارًا فإن استكشافنا لأفراد أو لفرد واحد ينفي حكمًا عامًّا ليس هو إلا الوسيلة الممهدة الشارطة لطريق السير في بحوث جديدة؛ فليست القضية المعبرة عن ذلك الاستثناء نهائية ولا كاملة، إذ المهمة التي تؤديها هي أن تكون لنا بمثابة المناسبة المواتية أو الحافز الذي يحفزنا إلى بحوث أخرى نبتغي بها أن نحدد كيف ولماذا حدث الاستثناء الذي حدث؛ فإذا ما انتهينا من هذه البحوث إلى نهاية مرضية، توافرت لنا عندئذٍ — وعندئذٍ فقط — قضية ختامية تتخذ صورة قضية كلية جديدة. فليس هنالك حالة واحدة من حالات البحث الموجه يكون فيها النفي مجرد النفي لحكم عام بمثابة الختام الذي نقف عنده؛ ولو جعلناه ختامًا على هذا النحو لما أدى ذلك إلا لنبذنا تعميمًا سابقًا، بحيث يكون هذا النبذ هو نهاية الأمر، أما ما يحدث في الواقع فهو أننا نتناول التعميم السابق بالتعديل والمراجعة على ضوء المثل المناقض الذي استكشفناه؛ فبعض الحقائق المعينة التي انكشفت لنا باستخدامنا لنظرية أينشتين في النسبية نقضت قانون الجاذبية كما صاغه نيوتن؛ فلو كان لتلك الحالات النافية الصفة المنطقية التي نسبها إليها المنطق الصوري التقليدي، لأدى ذلك إما إلى أن نعلن خطأ الصياغة النيوتنية، وبذلك ينتهي الأمر عند هذا الحد، وإما إلى أن نعلن بأن الوقائع المشاهدة باطلة ومستحيلة الحدوث لأنها تناقض القضية الكلية؛ وحتى في الحالات التي يتبين فيها أن الاستثناء ظاهري لا حقيقي، فلا يؤدي ذلك إلى توكيد صحة التعميم السابق توكيدًا مجردًا، بل إن ذلك التعميم ليكتسب لمحة جديدة من المعنى، تنشأ عن قابليته للانطباق على الحالات غير المألوفة التي يبدو عليها أنها حالات نافية له؛ وهذا هو المعنى الذي نقصد إليه بقولنا «إن الاستثناء يؤيد القاعدة». وهكذا يكون في المنطق الخاص بعلاقة التناقض بين القضايا، برهان يتوج بقية البراهين الدالة على الجانب الأدائي الإجرائي الذي يتسم به مضمون القضايا الموجبة والقضايا السالبة؛ فليس في عملية البحث ما هو أهم من استحداث القضايا المناقضة؛ إذ إنه ما دام أحد النقيضين لا بد أن يكون صادقًا إذا كذب الآخر، فالنقيضان متعينان على نحو لا يتوافر للضدين أو للداخلين تحت التضاد؛ غير أنه لو كانت النظرية التقليدية قائمة على أساس سليم، لتحتم على عملية البحث أن تقف عند نفي النقيض لنقيضه، ولما كان هنالك أساس يسوغ لنا أن نقول أي النقيضين صادق وأيهما كاذب؛ فأولئك الذين يؤثرون الركون إلى «شهادة الحواس» سيذهبون عندئذٍ إلى أن التعميم المنقوض قد ثبت بطلانه، وأما أولئك الذين لا يثقون في الحس ويكبرون من شأن «العقل» فسيميلون إلى عكس النتيجة، وسيقولون بأن الجزئيات الفردية ليست «في حقيقة الأمر» كما تبدو في ظواهرها؛ فاستحداث الحالات المتناقضة في الطريقة الفعلية التي يسير عليها البحث العلمي، إنما يستمد أهميته من حيث هو وسيلة تقطع بصحة أحد النقيضين وببطلان النقيض الآخر، يستمد أهميته من كونه لا يأخذ بالقواعد التي تشترطها أية نظرية تجعل ذكر النقيضين أمرًا ختاميًّا وكاملًا؛ إذ إن استحداث حالة النفي الناقضة — إبَّان السير في عملية البحث — إن هو إلا خطوة في سبيل إقامة بحث يتجه نحو الحكم الختامي؛ وآخر ما ننتهي إليه في حقيقة الأمر، هو أن نراجع الحكم العام الذي كنا قد وصلنا إليه في الأبحاث السابقة، بحيث يصبح ذلك الحكم العام، بعد ما أدخل عليه من تعديل، صالحًا بالقياس إلى الشواهد القديمة التي كانت قد أيدته فيما سبق، وصالحًا في الوقت نفسه بالقياس إلى الشواهد الجديدة التي جاءت مناقضة للأحكام العامة السابقة. فالفكرة الأرسطية الأصلية عن الإثبات والنفي على أقل تقدير، كانت تقابل ما كان مفروضًا فيه أنه الطبيعة الوجودية للأشياء التي ما جاءت القضايا الموجبة والقضايا السالبة إلا لتصدق عليها؛ وأما الفكرة الأدائية التي نبسطها في هذا الكتاب، فتنكر أن تكون للقضايا الموجبة والقضايا السالبة علاقة واحد بواحد مع الأشياء كما هي قائمة في الوقع؛ وهي فكرة تكسب تلك القضايا قوة إجرائية وسلية تصلح بها أن تكون وسائل لتحويل موقف فعلي تكتنفه الريبة والاضطراب، إلى موقف تعينت حدوده وانفض إشكاله؛ فالنظرية الحديثة التي استخلصها أصحابها — كما أسلفنا القول — من محاولتهم استبقاء الصور بعد تفريغها من مضمونها المادي الوجودي، تقوم على غير أساس، ولا تؤدي إلى شيء؛ فهي ليست صورية إلا بالمعنى الذي يجعلها فارغة وآلية، فلا هي تصور الوجود كما قد عرفناه بالفعل، ولا هي تدفع عملية البحث دفعًا ينتهي بها إلى ما يمكن أو ما ينبغي معرفته، وإذن فهي زائدة دودية أخذت صورة المنطق. ولما كانت المسألة الميتافيزيقية الخاصة ﺑ «الواحد»؛ و«الكثير» قد أثرت في مختلف العصور تأثيرًا بالغًا في النظرية المنطقية، فقد يكون من المناسب — ونحن نختم هذا الفصل — أن نقول كلمات قليلة عن ذلك الموضوع من ناحية تأثيره على النظرية المنطقية؛ فالوحدة أو ما يطلق عليه اسم «الواحد» هو القسيم القائم في الوجود الفعلي. والذي يقابل حاصل العمليات الإجرائية التي من شأنها أن تخلق ما يمكن قبوله من وحدات ذاتية، بفضل ما تستخدمه من اتفاق بين مضمونات مختلفة، توحد بينها في قيامها شاهدًا تستشهد به، على أن النفي — من جهة أخرى — هو الذي يخلق الفوارق المميزة ويحدث أوجه التباين، التي إذا ما جسدناها كان لنا ما نسميه «بالكثير»؛ وعلى ذلك فالمسألة إذا نظر إليها من الناحية المنطقية، أصبحت مسألة إجراءات نجريها لنوحد ما هو متفرق أو نفرق ما هو موحد؛ ولهذه الإجراءات بطبيعة الحال أساس وأصل في الوجود الفعلي، وذلك أن عملية التكامل (التي توحد المتفرقات) وعملية التمييز (التي تفرق ما هو موحد) هما عمليتان بيولوجيتان تستبقان الإجراءات المنطقية التي أشرنا إليها توًّا؛ والعمليتان البيولوجيتان ذاتهما كانت قد مهدت لهما واستبقتهما عمليات فيزيائية قوامها الاتصال والانفصال؛ فالمشكلات التي تستعصي على الحل، والتي قد أدت إلى البناءات الميتافيزيقية التأملية عن «الواحد» و«الكثير» إنما تنشأ من خلقنا لكيانات — نشير إليها بأسماء نسميها — نجسد بها عمليات وإجراءات، لو كنا لنرمز إليها بالرمز المناسب، لرمزنا إليها بأفعال مبنية للمعلوم وبأحوال كيفية تصف تلك الأفعال.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/11/
قضايا الحكم وما تؤديه في الحكم
موضوع كم القضايا — في المنطق التقليدي الصوري — يتبع موضوع الكيف؛ فالنظرية التقليدية التي تتناول القضايا من حيث الكيف والكم كلاهما، تذهب إلى أن القضايا يمكن تأويلها على أساس الماصدق والمفهوم معًا؛ أما في حالة الماصدق فالقضية تقضي بما يكون بين فئات المسميات من علاقة، وأما في حالة المفهوم فهي تقرر بأن أعضاء فئة معينة قد ثبت أنها متميزة بصفة معينة ومن ناحية الكم تكون القضية حين تفهم من جهة الماصدق دالة إما على أن فئة ما — من حيث هي فئة — محتواة في فئة أخرى، وأنها في هذا الاحتواء كلية في كمها، وإما على أن جزءًا غير متعين منها محتوى على هذه الصورة، فهي بذلك تكون جزئية في «كمها»؛ أما إذا فهمت القضية من ناحية مفهومها، فهي عندئذٍ تقرر إما أن أي عضو من أعضاء الفئة له «صفة» معينة، وإما أن جزءًا غير متعين من الفئة هو الذي يتصف بصفة معينة؛ وعلى هذا فالقضية «الكلية» القائلة بأن «كل إنسان فانٍ» معناها يكون إما أن فئة الناس محتواة في فئة الفانين، باعتبار الفئة الأولى فرعًا عن الفئة الثانية، وإما أن أي إنسان كائنًا ما كان يتصف بصفة الفناء؛ ومهما يكن من أمر، فالكم — كما يسمونه — يتعين — بناءً على هذه النظرية — بالصورتين اللتين تدل على إحداهما كلمة كل (وكذلك كلمة لا أحد، وليس أي واحد) وتدل على الأخرى كلمة بعض (وكذلك ليس بعض)؛ وهي تفرقة إذا ضممناها إلى تفرقة الإثبات والنفي، أنتجت لنا الصور الأربع من القضايا: الموجبة الكلية والسالبة الكلية، والموجبة الجزئية، والسالبة الجزئية؛ وعلى هذا فأيسر نظرة تدلنا على أن التفرقة أو الصورة المسماة بالكم، هي في حقيقة الأمر تفرقة بين الفئة المتعينة الحدود، والجزء من الفئة الذي يكون غير متعين. إن فكرة الكم المتضمنة في هذه النظرية، والتي تبلغ من الضيق أقصى حدوده، تكاد لا تحتاج منا إلى توضيح؛ وأعني بالضيق هنا ضيقًا بالقياس إلى قضايا الذوق الفطري وقضايا العلم، التي تحمل لفظًا يدل على الكم، أما في قضايا الذوق الفطري فترى «أسوارًا كمية» مثل كلمتي قليل وكثير فيما يعد وكلمتي أكثر وأقل، وكلمتي قليل وكثير فيما لا يعد، وكلمتي كبير وصغير، على حين أن كلمة «بعض» يندر ظهورها إلا في مرحلة أولية، كما يحدث — مثلًا — في جمل كهذه «بعض السائلين الإحسان أمناء»؛ أضف إلى ذلك أنه حتى قضايا الذوق الفطري الدالة على كم تعبر عن نتائج التقدير القياسي، كما ترى في قوائم الموازين والمقاييس المستعملة في التجارة والصناعة الآلية والصناعات اليدوية، فيُقال: «فنجان واحد يسع نصف رطل: والثوب يكلف خمسة وعشرين ريالًا، وقطعة الأرض مساحتها فدان، وهكذا» أما في مجال العلم فليس هنالك قضية علمية واحدة، مما نسجل به المشاهدة والتجربة من حيث خطوات سيرهما ونتائجهما، تعد كاملة إلا إذا صِيغت خطوات السير والنتائج في صورة عددية. فالتباين بين قضايا كهذه وبين القضايا التي يقول عنها المنطق الصوري إنها متميزة بعلامة الكم، يبلغ من الجسامة حدًّا يتطلب التفسير؛ وهذا التفسير المطلوب نلقاه — من جهة — في كون القضايا الدالة على تمييزات وعلاقات كمية — سواء أكان ذلك في مجال الذوق الفطري أم في مجال العلم — هي دائمًا وسائل لغايات موضوعية، وليست هي في ذاتها بالمراحل الختامية؛ ونلقاه — من جهة ثانية — في كون التفرقة التي كانت هامة وضرورية في منطق العلم الأرسطي، هي الآن مقطوعة الصلة بمضمون العلم قطيعة تجعلها — إذا ما أبقينا عليها — صورية خالصة، وفارغة، وغير ذات صلة بما هو موضوع النظر، سواء نظرنا بعين أرسطو أو بعين الذوق الفطري أو بعين العلم؛ أما أن الصورية الحديثة بعيدة كل البعد عن فكرة أرسطو، فظاهر في كون الكم من وجهة نظره أمرًا عرضيًّا لا جوهريًّا؛ ومن ثَم كان الكم عنده هو الأساس المنطقي للتفرقة بين القضايا الكلية والقضايا الجزئية، لأن الكم كان هو المميز الفاصل الذي يميز الجزئي من الكلي في «الطبيعة»؛ فعند أرسطو كانت كلمة كل معناها تمام كيان الشيء، أي إنها تشير إلى ما هو كامل كمالًا كيفيًّا؛ ولهذا كانت كل قضية تُقال عما هو تام الكيان قضية ضرورية؛ فلم تكن كلمة كل في دلالتها المنطقية دالة لا على جمع من الأفراد ولا على ما هو عام مجرد تعميم؛ ومن هنا كانت — إذا أردنا الدقة — خارجة عن نطاق مقولة الكم؛ لأن القضايا الدالة على جمع من أفراد، يمكن تحليلها إلى عدد من الأفراد، ولذلك فهي تعد قضية جزئية، مهما يتسع نطاق الأفراد التي شملناها بالعد. القضية العامة التي تقتصر على مجرد التعميم، هي قضية تقر بأن الأشياء هي كذا وكذا بصفة عامة، أو هي كذا وكذا عادة، أو على وجه الجملة، لا باعتبار هذه الأشياء تكون كلًّا واحدًا؛ ولهذا فالقضايا العامة تقع هي الأخرى في مقولة واحدة مع القضايا الجزئية فالضرورة والتمام من جهة، والعرضية وعدم التمام من جهة أخرى، هما صورتا القضايا المنطقيتان النابعتان من طبيعة القضايا، والصورة الأولى تبينها كلمة كل، والصورة الثانية تبينها كلمة بعض؛ وهاتان الصورتان المنطقيتان كانتا تؤخذان على أنهما قسيمتان تقابلان نوعي الخصائص في حقيقة الوجود؛ وذلك لأن بعض ضروب «الوجود» تكون ذات كينونة مطلقة، أي يكون لها «وجود» بالمعنى الكامل لهذه الكلمة؛ فهي قائمة في الوجود الفعلي دائمًا دون أن يطرأ عليها تغير أو يشوبها ظل من تحول؛ وعن هذه الموجودات تُقال القضايا الكلية؛ ولكن هنالك أشياء أخرى تتغير، فهي موجودة وغير موجودة؛ إذ هي تدخل في عالم «الوجود» ثم تزول عنه، وعن هذه الأشياء لا يمكن أن تقام القضايا إلا في صورة جزئية؛ أي إنها تُقال عنها حالة كونها متفرقة؛ إذ إن هذه الأشياء بحكم طبيعتها مفرقة ومقطوع بعضها عن بعض؛ فلو سلمنا بهذا الإطار الكوني والوجودي، لما وجدنا ما هو أدنى إلى الصواب ولا ما هو أدنى إلى الشمول من التفرقة الأرسطية بين كل وبعض من حيث هما صورتان أوليان للقضايا. وليس في مثل هذا الإطار مكان خاص لقياس الكم وتحديد المقدار أو الدرجة؛ فكلمتا أكثر أو أقل كانتا علامة لا مندوحة للناس عنها، يميزون بها بعض الأشياء؛ فإذا عرفوا عن هذه الأشياء هذه الصفة التقريبية، عرفوا كل ما يريدون معرفته عنها؛ فلئن كان قياس الكم مما قد يساعد أوجه النشاط العملي الذي يتناول المواد المتغيرة، إلا أنه يستحيل أن يؤدي في أية حالة من الحالات إلى معرفة برهانية، ولا حاجة بنا أن نطيل الوقوف هنا عند الموقف الراهن الذي يختلف عما قد ذكرنا أشد اختلاف، وأعني به الموقف الذي نراه قائمًا في إطار العلم كما نعرفه اليوم؛ فالموضوع العلمي هو قبل كل شيء ارتباط بين تغيرات يقابل بعضها بعضًا في صورة دالة رياضية؛ ولا سبيل إلى القول إن كان مثل هذا الارتباط قائمًا أو معدومًا، إلا بعمليات نقيس بها المقادير الكمية، بحيث تنتهي بنا إلى نتائج نضعها في صورة عددية؛ ومن ثَم كانت القضايا الجزئية من حيث هي كذلك، في سياق العلم الحديث، عبارة عن تحديدات لمادة المشكلة التي هي موضوع البحث، يُراد بها المضي في البحث خطوات أخرى؛ فتلك القضايا الجزئية ليست ختامية، لأنها لا تشير إلى آخر ما يمكن ﻟ «الفكر» أن يبلغه بالنسبة إلى الأشياء التي هي بطبيعتها جزئية وغير كاملة؛ فالقضايا الجزئية هي مرحلة البداية في عملية البحث؛ وعلى ذلك فاحتفاظنا بالقضايا الجزئية التي نميزها بكلمة تدل عليها وهي كلمة بعض، أقول إن احتفاظنا بهذه القضايا الجزئية على أنها نوع من القضايا متميز مما عداه، هو مثل آخر لتجميدنا لمبدأ كان له ذات يوم دلالته بالقياس إلى حقيقة الوجود، وكان له ما يبرره تبريرًا علميًّا بالنسبة إلى عصره؛ فمهمة النظرية المنطقية هي أن تعيد نظرية القضايا الدالة على كم، تعيدها بحيث تصبح على صلة بعملية البحث كما هي اليوم قائمة فعلًا. وإنما تبدأ (النظرية المنطقية في أداء مهمتها تلك) حين نتنبه إلى أن الرابطة التي تصل التحديد الكمي بعملية الإثبات والنفي، ليست رابطة آلية تمس الأمر من ظاهره، بل هي عضوية تنبع من طبيعته؛ فلا «الكيف» ولا «الكم» يمكنه القيام بمعزل عن المقارنة والمقابلة؛ فإذا ما كانت لدينا هذه المقارنة وهذه المقابلة، فعندئذٍ نحدد القضايا بما يميزها من كيف وكم؛ ولئن كان السير في المناقشة وحده هو الذي يقتضينا أن نتناول الكيف وحده أو الكم وحده؛ إلا أن هذا الفصل بينهما لا يقصد به إلا تيسير للحديث لا أكثر ولا أقل؛ وليس لهذا الفصل ما يقابله في مادة الموضوع المبحوث، التي هي أساس المقارنة ونتيجتها وليس بنا حاجة أن نعيد هنا ما قد أسلفناه عن الرابطة التي تصل عملية الحذف بعملية المقارنة؛ وأما ما يهمنا في هذا السياق فهو أن كل مقارنة هي من قبيل قياس للكم؛ إذ من الواضح أن المقارنة تتضمن اختيارًا لهذا ونبذًا لذاك، لأنه محال علينا أن نقارن الأشياء والحوادث في جملتها؛ والدلالة الإيجابية لهذه الحقيقة هي أننا لكي نقارن موضوعات البحث بعضها ببعض، فلا بد لهذه الموضوعات أن تنحل إلى «أجزاء»، أي تنحل إلى مقومات يمكن معالجتها من حيث هي منتمية إلى نوع بذاته، أي من حيث هي متجانسة؛ فلأن تقارن معناه أن تزاوج، وما تزاوج بينه من الأشياء إنما يصبح بهذه المزاوجة نفسها قابلًا للقياس الكمي قياسًا من شأنه أن يعين على المضي في بعض الإجراءات التي تعتزم إجراءها. والعقبة الوحيدة التي تحول دون الاعتراف بهذه الموازاة القائمة بين المقارنة والقياس الكمي، هي كون النتائج المترتبة على كثير من عمليات القياس الكمي تُصاغ في لغة الكيف، ولا تُصاغ في لغة الأعداد؛ فهنالك أولًا وقبل كل شيء ازدواج في المعنى يتناول الأساس في فكرة الكل والجزء؛ فهي بأحد معنييها فكرة كيفية لا دخل للكم فيها؛ وذلك حين نفهم من كون الشيء كلًّا أنه كامل وتام التكوين، أي أن يكون ذا كيفية مصمتة من أوله إلى آخره؛ فإذا ما ذكرت الأجزاء بالقياس إلى مثل هذا الكل، لم تدل هذه الكلمة على أن شيئًا يمكن فصله أو تحريكه من بناء ذلك الكل؛ وأكثر الأمثلة إلفًا لنا في هذا النوع من «الأجزاء» هو المثل الذي يذكر أعضاء الجسم الحي في بنائه العضوي؛ فإن أزيلت هذه الأعضاء عن جسمها، لم تعد الأعضاء التي كانت قبل، من حيث كانت «الأجزاء» حية من كائن عضوي حي، ولم يعد هذا الكائن العضوي الحي كلًّا كاملًا؛ ومع ذلك فلا حاجة بنا إلى أن نلجأ إلى ما يسمونه بالعلاقات العضوية التماسًا لأمثلة توضح الجانب الكيفي من علاقة الكل بأجزائه؛ ففيما قد أسميناه موقفًا، هنالك صفة كيفية مباشرة تسود كل شيء يدخل في بناء ذلك الموقف؛ فلو كان الموقف الذي نخبره هو موقف من يضل طريقه في غابة، كانت الصفة الكيفية التي هي هذا الضلال عن الطريق متغلغلة ومؤثرة في كل تفصيلة من التفصيلات التي نشاهدها ونفكر فيها؛ فعندئذٍ تكون «الأجزاء» أجزاءً بجانبها الكيفي وحده. وكلمة «كل» ما تزال تستخدم كثيرًا فيما يتصل بالكلَّات الموحدة توحيدًا كيفيًّا، فنقول مثلًا: «ما كل حياة تُعاش» و«كل بدن هو كالكلأ الذي يكون اليوم يانعًا ثم يُلقى به غدًا في النار» و«قد انتهى الآن كل شيء»؛ و«لقد خمدت النار كلها» و«كل الضيوف المدعوين قد وصلوا» حين نقول هذه الجملة الأخيرة بمعنى أن الجمع قد كمل؛ لا بمعنى يُراد به تعداد الضيوف واحدًا واحدًا؛ لكن المعنى الكمي من علاقة الكل بأجزائه — من جهة أخرى — هو إما أن يشير إلى مجموعة منوعة، أو أن يشير إلى تجمع لوحدات متجانسة بحيث يكون الكل الذي نحن بصدده مما يتحدد مقداره أو عدده بعدِّ الوحدات التي تكوِّنه؛ وبين هذين الطرفين: الطرف الذي يكون الكل فيه كيفيًّا خالصًا، والطرف الذي يكون الكل فيه كميًّا خالصًا، تقع حالات وسطى تقترن فيها المقارنة بالقياس الكمي؛ ومن هذا القبيل قضايا الذوق الفطري التي نميزها بقولنا أكثر عددًا وأقل عددًا، أو تميزها بما يسمونه درجة المقارنة، كقولنا أحر وأبرد، أطول وأقصر، كثير العدد وقليل العدد، كثير المقدار وقليل المقدار … إلخ؛ فهذه القضايا تمثل قياسات للكم، لكنها قياسات لم تبلغ أن تكون تحديدًا عدديًّا، فهذه الحالات الوسطى هي التي تعمل على غموض العلاقة التي تصل عملية المقارنة بعملية القياس الكمي. لكن القاعدة القائلة بأنه من قضيتين جزئيتين لا يمكن استدلال شيء، هي من جهة أخرى تحذير لنا بأن المادة التي بين أيدينا عندئذٍ هي أضيق من أن تجيز لنا استدلالًا على أساس سليم؛ فهذه القاعدة في حقيقة الأمر نص يدل على ضرورة إضافة ما يسد النقص؛ والأغلاط الناشئة عن كون الموضوع أوسع مما ينبغي أو أقل مما ينبغي، في الأمثلة التي ترد في الكتب المنطقية المألوفة في معاهد الدراسة، أقول إن هذه الأغلاط كما توضحها تلك الأمثلة يمكن رؤيتها في غير عسر، لأنها تمس مادة تم إعدادها أو تم تشكيلها؛ أما في عملية البحث كما تجري فعلًا، فجانب كبير من مهمة الباحث هو أن يقرر هذه النقطة بالذات، وهي ماذا ينبغي حذفه من مادة الموضوع المبحوث، وماذا تنبغي إضافته، وكيف يتم ذلك الحذف أو هذه الإضافة؛ فمثلًا قد اقتضى الأمر قرنين من الزمان قبل أن يتسنى لنا الكشف عن الإسراف في السعة الذي تتسم به أفكار نيوتن عن المكان والزمان؛ واقتضى الأمر زمنًا أطول من هذا بكثير ليتسنى للبحث أن يكشف عن الضيق الذي تتسم به الفكرة القديمة عن الذرات والجسيمات، وهي الفكرة التي لم يجدها العلم صالحة لأغراضه؛ فالطريقة الوحيدة لتعديل مادة البحث التي تكون غير متعينة بسبب ما فيها من تداخل أقسامها بعضها في بعض، وما فيها من نقص لا يكفي ما هو مطلوب منها، أقول إن الطريقة الوحيدة لتعديل مادة البحث هذه هي تقديرها من حيث الكم تقديرًا يتحقق بعمليات القياس الكمي. والقياس الكمي — كما أسلفنا القول — يتخذ بادئ الأمر صورة كيفية، فالقضايا التي تميزها كلمات مثل: كثير، وقليل، وصغير العدد، وكبير العدد، وكمية كبيرة، ونادر، ووفير، وصغير الحجم، وكبير الحجم، وعالٍ، ومنخفض … إلخ إلخ، تعبر عن قياس كمي على قدر طاقتها؛ لكن ليس ثمة شيء يكون كثيرًا أو يكون قليلًا … إلخ، على سبيل الإطلاق، أو بحكم طبيعته؛ فضلًا عن أن هذه التحديدات لا تتضمن مقارنة فحسب، بل هي كذلك تتضمن علاقة الوسيلة بالنتيجة المترتبة عليها؛ فنقول عن الشيء إنه أكثر مما ينبغي أو أقل مما ينبغي بالقياس إلى غاية معينة، لا في ذاته، فنقول مثلًا: «كنت أود أن أشتري تلك السلعة لكن ليس لديَّ من المال ما يكفي»، و«بعض الناس في هذا البلد عندهم من المال أكثر مما تتطلبه مصالحهم أو مصالح البلد»؛ وفي مثل هذه الحالات تجيء بداية تكوين قائمة الموازنة على صورة قضايا داخلة تحت التضاد، مثل: «بعض المال في متناول اليد وبعضه ليس في متناولها» و«كل إنسان بحاجة إلى بعض المال، لكن أحدًا لا يحتاج أكثر من مقدار معلوم (غير متعين على سبيل التحديد)» فقضايا كهذه فيها علامات تحدد كمها على سبيل التقريب، لكن المقادير الكمية المشار إليها في هذه الحالات ما تزال كيفية في الأغلب؛ ثم يصبح القياس الكمي أو المقارنة أمرًا محددًا إذا ما لجأنا إلى عد الوحدات وجمع ما عددناه منها؛ وعندئذٍ يكون لدينا «كل من أجزاء» بالمعاني الكمية الدقيقة لهذه الكلمات؛ «فكثير» تصبح كم هو في مقدار كثرته؛ و«عديد» تصبح كم هو مبلغ عدده. ومع ذلك فلا يجوز لنا أن نستنتج بأن القياس الكيفي في جميع حالاته يبلغ من النقص حدًّا بحيث يحتاج — إذا ما أردنا أن نجعل منه تحديدًا وافيًا — إلى أن يتحول إلى قياس عددي؛ مثال ذلك مصور، إذ هو قائم برسم صورة يرسمها، قد يقرر بأن الأحمر في جزء معين من الصورة ليس كافيًا لكي تعطي الصورة الأثر الجمالي المطلوب؛ فعندئذٍ يحدد كم من الأحمر ينبغي له أن يضيف، صادرًا في ذلك التحديد عن «حدس» ومحاولة؛ فلا يكف عن الإضافة إلا عندما يظفر بما يسعى إلى تحقيقه من كلٍّ موحد توحيدًا كيفيًّا؛ وهو يقدر أو يقوِّم الكمية المطلوبة على أساس صافي الناتج الكيفي، لا بأن يزن اللون يميزان يشير بمؤشره إلى أعداد؛ أما إن كانت الحالة خاصة بإنتاج صناعي اقتصادي منظم، فتقدير المقادير عندئذٍ لا بد له أن يتخذ صورة التحديد العددي؛ فالقياس الكيفي في معظم الأحكام النهائية في مجالي الأخلاق والجمال يحقق الغاية المراد بلوغها؛ والإصرار على القياس العددي، حين لا يكون هذا القياس مطلوبًا بصفة أصيلة للنتيجة التي يُراد إنتاجها، هو علامة احترام لشعائر الإجراء العملي على حساب مادة المضمون. وحين يجتمع القياس الكيفي والعددي معًا، يتحتم حذف شيء وإضافة شيء وبهذا المعنى يعمل القياس الذي يتم بحدود كيفية مثل أكثر وأقل وكافٍ … إلخ، على الاقتراب من العلاقة الكمية التي تكون بين الجزء والكل؛ وعندئذٍ يكون الفرق بين حالتي القياس الكيفي والقياس الكمي اختلافًا في طريقة القياس ومعياره، لا اختلافًا بين حضور القياس في إحدى الحالتين وغيابه في الحالة الأخرى؛ والذي يحدد معيار القياس وطريقة أدائه هو طبيعة الغاية التي تسعى عملية القياس إلى بلوغها؛ فالإصرار على القياس العددي حين تكون الغاية التي تتعلق بها القضية الكمية بعلاقة الوسيلة ونتيجتها، غاية كيفية، أقول إن الإصرار على هذا يكون عندئذٍ سخيفًا سخف من يقنع بقياس كيفي (وهو عندئذٍ ضرب من التحسين) في حالة تكون فيها الغايات المرجوة مختلفة عن الغاية المذكورة. في حالة المصور، تكون الغاية المنشودة هي الصورة من حيث هي كل كيفي؛ وإذن فالإكثار من هذا اللون والإقلال من ذلك، أمر يمكن قياسه بالملاحظة الكيفية المباشرة؛ فالإكثار من الأحمر هنا لا يقتصر أثره على الجزء المكاني من أجزاء الصورة، الذي يضاف فيه هذا الأحمر، بل إنه ليؤثر في الصورة باعتبارها كلًّا؛ إذ إن هذه الإضافة ستغير من سائر الأصباغ ودرجات اللون تغييرًا كيفيًّا؛ أما في حالة الوصفة الطبية — من جهة أخرى — فالمبالغة في مقدار أحد العناصر الداخلة في تركيب الدواء قد تصيِّر الدواء سُمًّا، والتقتير عما ينبغي في ذلك العنصر من الدواء قد يصيره كأن لم يكن من الناحية الطبية؛ وعلى ذلك فها هنا يكون القياس العددي أمرًا تقتضيه الغاية المراد بلوغها؛ فطبيعة المشكلة القائمة هي التي تقرر آخر الأمر أي نوع من أنواع المقارنة والقياس الكمي هو المطلوب لكي يحقق لنا حلًّا محددًا لتلك المشكلة؛ بيد أن هنالك من الأشخاص من يتحسر حين يرى العالم في سبيله إلى تحويل شتى المواد إلى حدود عددية؛ وحسرتهم هذه أساسها ظنهم بأن ذلك التحويل من شأنه أن يمحو القيم التي هي كيفية؛ وإلى جانب هؤلاء الأشخاص آخرون يصرون على وجوب تحويل الموضوعات جميعًا إلى حدود عددية؛ وكلا الفريقين مخطئ خطأ منطقيًّا هو هو بعينه من كلتا الحالتين؛ إذ إن الفريقين كليهما لا يدركان المعنى المنطقي لعملية القياس الكمي؛ وهي عملية تحددها الرابطة الوسلية التي تربط القضايا الكمية بالنتيجة الموضوعية المنشودة؛ فكلا الفريقين ينظر إلى القضايا على أنها نهائية وكاملة، على حين أنها — في حقيقة الأمر — خطوات وسطى في طريق السير، وأدوات وسلية لبلوغ الغاية. وواضح أن أحد أوجه الاختلاف الهامة بين الذوق الفطري من ناحية والعلم من ناحية أخرى، ينشأ من ميل الأول نحو أن يكون قانعًا بالقياس الذي يغلب عليه الجانب الكيفي؛ وذلك لأننا في أغراضنا العملية يكفينا من القائل أن يصف ازدحامًا بأنه ضخم، أو أن يصف غرفة بأنها تزداد دفئًا أو تزداد برودةً، أو أن يصف النهار بأنه يزداد إشراقًا أو يزداد جهامة … إلخ، على حين ترانا نتطلب مقارنات عددية إذا ما كان الأمر أمر تقنيات أو مشروعات تجارية وصناعية، أو علم، فهذه كلها أمور لا تفي بمقتضياتها إلا المقارنات العددية؛ فالقائمون على شباك التذاكر في مسرح مثلًا يريدون أن يعرفوا على وجه الدقة مدى ضخامة «الازدحام» أو مدى ضآلته في رواد المسرح؛ وربة الدار الدقيقة تريد مقياسًا للحرارة لكي تحافظ على اختلافات درجات الحرارة داخل نطاق معين الحدود؛ والباحث في المعمل لا بد له أن يقيس قياسًا عدديًّا كم على وجه الدقة من كل عنصر، وكم من كل صورة من صور الطاقة، يدخل في استحداث الظاهرة التي هو بصدد درسها؛ ومع ذلك فكافة الحالات — سواء منها ما كان في مجال الذوق الفطري أو في المجال التقني أو في مجال الأعمال الصناعية والتجارية أو في مجال العلم — تكشف كشفًا صريحًا — عند تمحيصها — عن علاقة الوسيلة بغايتها؛ وهي بهذا الكشف تبين كيف أن قضايا الكم بطبيعتها تجيء خطوات وسطى في طريق السير، وكيف تكون بمثابة الوسائل المؤدية إلى حل محدد الموقف كان ليظل بغيرها موقفًا غير متعين. إنه كثيرًا ما يُقال إن فكرة الكم مرتكزة على إهمال تام للكيف؛ وعلى هذا الأساس يدَّعي بعضهم — وبخاصة المناطقة الذين ينتمون إلى المدرسة المثالية — بأن فكرة الكم تنسحب من العالم «الحقيقي» إلى الحد الذي يجعلها ممثلة لدرجة دنيا من درجات «الفكر»؛ لكن هذه النظرة تقوم على قصور في تبين الصفة الإجرائية التي تتميز بها القضايا المتحدثة عن الحكم، سواء أكان ذلك في نطاق الماصدق أم في نطاق المفهوم؛ على أن فكرة إهمال الكيف تتعرض كذلك لسوء فهم جوهري؛ لأننا إذا أردنا عبارة تقرر الأمر تقريرًا صحيحًا، قلنا إن القضايا المتحدثة عن المقادير الكمية إنما تقوم على أساس من الكيف ينطوي عليه الموقف انطواءً يجعل الكيف متغلغلًا في شتى أجزائه؛ وأن تلك القضايا الكمية إن غضت النظر عن شيء، فذلك هو الاختلافات الكائنة داخل هذه الكيفية الأساسية؛ أي إنها تغض النظر عن تلك الكيفيات — وتلك الكيفيات وحدها — التي تكون داخل الكيفية الأساسية، ولا تكون ذات صلة بموضوع البحث، من حيث هي وسائل تسير بالباحث نحو النتائج المراد تأييدها؛ فلو حاول شخص — مثلًا — أن يصوغ قضية عن عدد الأغنام التي يملكها، أو عن مساحة المرعى الذي تطعم فيه تلك الأغنام، فهو يغض النظر عن الاختلافات الكيفية التي تميز أفراد الغنم بعضها مع بعض، ويغض النظر كذلك عن الاختلافات الكيفية بين الأجزاء المختلفة من الحقل الذي ترعى الأغنام فيه؛ لكنه لا بد أن يلاحظ الكيفية التي تجعل الأشياء غنمًا، وإلا أدخل في حسابه — مثلًا — الكلاب والأحجار؛ وكذلك لا بد له أن يلاحظ الكيفية التي تجعل المرعى من النوع الذي هو منه؛ والمغزى المنطقي من هذه النقطة التي لا يجهلها أحد، هو أنها تشير بصفة عامة إلى (١) تأثر قضايا الكم بتوجيه الكيفية التي يكون عليها الموقف الذي هو مثار المشكلة المبحوثة، ثم هي تشير بصفة خاصة إلى (٢) أهمية النهايات القصوى وما لهذه النهايات من طبيعة منطقية. ومع ذلك ففي كل مثل من الأمثلة المذكورة جانب متضمن دالٌّ على اكتمال الكل، ومن ثَم فهو دالٌّ كذلك على نهاية قصوى موضوعية ونابعة من طبيعة الأمر نفسه؛ فليست القضايا جمعية بالمعنى الذي يجعلها مجرد تجمعات لوحدات تحصى واحدة واحدة؛ فالرف مليء بكتب من نوع ما؛ وزمرة الضيوف قد كملت؛ لكن لكلمة كل في بعض القضايا الأخرى معنى ثالثًا أيضًا، وهو معنى يرد القضايا المشتملة على كلمة كل التي هي بهذا المعنى الثالث، إلى مقولة الصورة الجزئية على الرغم من وجود كلمة «كل» في سياقها؛ من ذلك قولنا: «كل حبات الفول في هذا الكيس، التي تم حتى الآن فحصها بيضاء»؛ «لا واحد ممن دخلوا البهو حتى الآن من معارفي»؛ «يبلغ مجموع الطوابع في هذه المجموعة ٨٧٤»؛ ففي هذه الأمثلة وما يشبهها، لا يضع استقصاؤنا للأفراد نهاية قصوى، بل ولا هو يشير بما يدل على أن العد قد بلغ نهاية قصوى؛ وليس هنالك ما يوحي بأن ثمة شيئًا ذا كيان مكتمل قد وضعت له الحدود التي تستوعبه؛ فمن وجهة النظر المنطقية لا تختلف القضية الأولى عن القضية القائلة: «بعض حبات الفول في هذا الكيس بيضاء، وربما كانت كلها بيضاء» وهنا تكون درجة الاحتمال متوقفة على عدد الحبات التي بحثت منسوبًا إلى مجموع ما في الكيس من حبات الفول، وهذا المجموع هو الذي يضع نهاية كيفية قصوى؛ وينشأ الخلط حين نستند إلى إطلاقنا لكلمة جمعي على أمثال هذه القضايا، في تشبيهها — في النظرية المنطقية — بالمجموعات التي تصل إلى نهاية قصوى، أو التي تُوضع لها نهاية قصوى؛ فقولنا إن فرقة الجيش تتألف من كذا سرية، وإن كل سرية تتألف من كذا جنديٍّ، هو قضية جمعية بمعنى يختلف كل الاختلاف عن قضية نقولها عن عدد الكتب في مكتبة، أو عن عدد الطوابع في «مجموعة»؛ تمامًا كما تختلف صورة القضية القائلة «هذه الغرفة تحتوى على كذا قدمًا مكعبة» عن صورة القضية القائلة «هذه الكومة الرملية تحتوى على كذا حبة من الرمل»؛ وسنشير فيما بعد إلى هذا الفرق بينهما بأن تسمى الأولى وحدها بكلمة جمعي، بينما نطلق على الثانية اسم قضية تجمعية. ولهذه التفرقة التي أشرنا إليها أثرها المباشر على وضع القضايا التي ترد فيها كلمة بعض صراحة؛ ولنا أن نعود إلى المثل التوضيحي الذي سقناه في الفصل السابق عن أشخاص على سفينة تحطمت، ولكننا الآن سنصب اهتمامنا لا على الإثبات، بل على بعض «الأشخاص قد أنقذوا» وبعض «الأشخاص قد هلكوا»؛ فمن الواضح أن القضية الموجبة «بعض الأشخاص قد أنقذوا» والقضية السالبة «بعض الأشخاص لم ينقذوا» ليستا متعينتين؛ وعدم التعين هذا يظهر جليًّا إذا فرضنا أن شخصًا ما له صديق بين ركاب السفينة، جاء يسأل عما قد أصاب صديقه؛ فهاتان القضيتان المذكورتان تشيران إلى تجمعات غير متعينة، وتظلان كذلك حتى يتم تعين الأفراد، ثم يجمع هؤلاء الأفراد في قضية تبلغ في التحديد نهاية موضوعية قصوى، فإذا فرغنا من أداء الإجراءات المطلوبة، كان لنا بعدئذٍ مجموعة (محددة الأفراد)، وهي شيء يختلف عن تجمع (لم تتعين أفراده)؛ وتلك المجموعة يعبر عنها بهذه القضية: «كل الأشخاص المذكورين فيما يلي (ثم تذكر الأسماء على وجه التحديد) قد أنقذوا، وكل الأشخاص الآتية أسماؤهم قد هلكوا» فها هنا تجد تحديدًا كيفيًّا مزدوجًا، فهنالك النهاية الكيفية القصوى الدالة على اكتمال المجموعة اكتمالًا أنتجه ذكر مجموع عدد الأشخاص على السفينة، ثم وصفهم إما بأنهم هلكوا أو أنقذوا. إلى هنا قد فرغنا من بيان المعنى الذي تكون به كلمة «كل» علامة على قضية كمية، مفرقين بين مثل هذه القضية الكمية (١) وبين مجرد التجمعات (وهذه في عدم تعينها لا تختلف منطقيًّا عن القضايا التي ترد فيها كلمة «بعض») و(٢) بين كلمة «كل» التي ترد في القضايا اللاوجودية (كقولنا «مجموع الزوايا في كافة المثلثات مساوٍ لزوايا قائمة») و(٣) بين كلمة «كل» التي ترد في قضايا كهذه «كل الناس فانون» حيث تصدق كل على كل فرد بغير استثناء من أفراد نوع معين، على الرغم من استحالة عدِّ هؤلاء الأفراد واحدًا واحدًا؛ فكون كلمة «كل» لها هذه المعاني الأربعة، تحذير لنا بألا نستعمل الكلمات استعمالًا يجعل منها مفاتيح نتبين بها الصورة المنطقية، بغض النظر عن سياقها في عملية البحث. وأنتقل الآن إلى موضوع القياس الكمي الذي يتم بعدِّ الأفراد؛ فالمجموعة المقيسة هي نفسها ذلك النوع من المجموعات التي قلنا عنها توًّا إن لها صفة الاكتمال، بالمقارنة مع التجمع الذي نقتصر فيه على مجرد عد ما يكون فيه من أفراد؛ في حالة التجمع، لا تفرض مادة الموضوع نهايات قصوى يقف عندها العدد، وبالتالي فهي تقصر دون أن ترسم كلًّا مكتملًا؛ وأما المجموعات المقيسة فتتضمن (١) نهايات قصوى تبين أين نبدأ وأين ننتهي، (٢) شيئًا ما متعينًا يتخذ وحده للعد. (٣) تجميعًا — يطرد في الزيادة — لهذه الوحدات حتى نبلغ نهاية الختام؛ وإن كلمة تجميع كما استعملناها هنا تتضمن شيئًا يختلف عن التجمع الذي نجده في مجموعة عددية يقتصر أمرها على مجرد كونها متعددة الأفراد؛ فنحن إذ نقيس وعاءً معدًا للسوائل، من حيث سعته بالوحدات المكعبة، فإن توالي إضافة الوحدات بعضها إلى بعض يكون تجميعًا لأنه يتجه اتجاهًا مطردًا نحو نهاية قصوى على حين أنه حتى لو استطعنا أن نعد قطرات الماء المحتوى في الوعاء، كان آخر ما يمكننا أن نحصل عليه هو مجرد تجمع، كما لو كانت المصادفة هي التي جعلت في الوعاء العدد الفلاني من القطرات — لا أقل ولا أكثر. إن إضافة الوحدات بعضها إلى بعض في القضايا الجمعية بمعناها الصحيح، ليدل على أن أمثال هذه القضايا تعتمد على مبدأ ما في الترتيب أو التنظيم، وهو مبدأ متفرع عن علاقة متضمنة في تلك القضايا، هي علاقة الوسائل بنتائجها؛ فافرض — مثلًا — أن هنالك عددًا من الأشخاص على سفينة تحطمت فعددهم محدد، ولديهم في السفينة مقدار محدد من الطعام والماء والمسافة التي تفصلهم عن البر معلومة كذلك على وجه التقريب؛ لكن مدة إقامتهم في السفينة والمسافة التي بينهم وبين سفينة أخرى يمكن أن تقوم بإنقاذهم وظروف الجو … إلخ ستظل أمورًا غير متعينة، إذ هي متوقفة على الطوارئ التي لا يمكن حسابها على وجه الدقة؛ فإذا ما قيس مقدار الطعام والماء، لم يكن ذلك لمجرد عد الوحدات الموجودة منهما، بل ليكون التقدير الكمي وسيلة لتقسيم الأنصبة، أي وسيلة لتوزيعهما؛ ولو كان هنالك مخزن من الطعام والماء في متناول الأيدي، بحيث يكفي أكثر مما يقتضيه أبعد تقدير للموعد الذي يمكن أن يتم فيه الإنقاذ، لما كان هنالك وجه للقياس الكمي؛ فلك أن تقول عن «جنة عدن» إن التبذير والتقتير كليهما مستحيل الحدوث؛ وكذلك في أي موقف شبيه بهذا، لا تفيدنا قضايا الكم شيئًا؛ أما في حالات الزيادة والنقص، حيث تتحدد الزيادة والنقص بالنسبة إلى غاية يُراد بلوغها باعتبارها نهاية قصوى، فعندئذٍ لا مناص من توزيع الأنصبة إذا أردنا لسلوكنا أن ينبني على أساس معقول، فتوزيع الأنصبة، أو قسمة الشيء على وحداته، تتضمن مبدأً للتوزيع، وهذا المبدأ هو الذي يضبط ما يتفرع عنه من عملية العدِّ؛ فلو أردنا أن نبلغ الغاية المنشودة فلا بد أن يكون هنالك ما يكفي لذلك، وألا يكون هنالك إلا هذا المقدار الكافي مسايرة لما يقتضيه الاقتصاد وما تقتضيه كفاية الأداء. ولقد أخذنا أمثلتنا التوضيحية من مجال الذوق الفطري، أي مجال المواقف التي يُراد بها النفع والمتعة؛ وفي هذا المجال يتبين في أجلى وضوح كيف يمسك الجانب الكيفي بالزمام، حتى ليرجح لقضايا الذوق الفطري الدالة على كم أن تكون — كما أشرنا من قبل — هي نفسها شبيهة بالقضايا الكيفية؛ ثم جاء الانتقال من هذه الحالة — على الأرجح — سيرًا بطيئًا على مر العصور، لأنه انتقال اقتضته ضرورات التقنية والتبادل والعلم؛ فكلمة قليل العدد (في الإنجليزية) — مثلًا — مشتقة من أصل لغوي معناه فقير؛ وكلمة كثير العدد (في الإنجليزية) (وكذلك وفير بالعربية) مشتقة من أصل معناه وفرة أو امتلاءً؛ فلئن كان العلم الطبيعي معتمدًا على القياس الكمي بوساطة وحدات عددية متجانسة، فمن الحق كذلك أن يُقال عن هذا العلم بأن العدَّ فيه مقصود به القياس الكمي، وأن هذا القياس إنما توجهه المشكلة التي يضع لها إحدى نهايتيها القصويين موقف كيفي معين، ويضع لها نهايتها القصوى الثانية ذلك الموقف نفسه حين ينفض إشكاله انفضاضًا يكون هو النتيجة الموضوعية المنشودة؛ أما العد لمجرد العد، والقياس لمجرد القياس، فعملان صبيانيان (أي إنهما ينمان على عدم النضج) في محاكاتهما لإجراءات المنهج العلمي. والوحدات المتجانسة المطلوبة للقياس الكمي حين يتحدد تحددًا عدديًّا، تتعين أول ما تتعين في حالة الأجسام الممتدة في المكان؛ فالشيء الذي يشغل مسافة أو امتدادًا يمكن قسمته في غير عسر إلى مسافات فرعية أو إلى امتدادات فرعية ذوات أبعاد متساوية على وجه التقريب؛ وعَدُّ هذه المسافات الصغرى باعتبارها وحدات، يقيس لنا مدى الجسم الأكبر؛ وأغلب الظن أن امتداد الكف، وامتداد الخطوة في السير، كانا أول ما نشأ من هذه الوحدات؛ وكذلك من المستطاع لقطعة من الخيط أن تثنى نصفين، ثم يثنى النصف نصفين، ثم تعقد فيها العقد عند المواضع التي نريد؛ وباستخدامنا لخيط انعقدت فيه العقد على مسافات متساوية تقريبًا، يمكن أن نحز علامات في عصا، ثم نضع العصا إلى جوار شيء نريد قياسه، فقياس طول الشيء بعدِّ العلامات المحزوزة في العصا الموضوعة إلى جواره، ما دامت العصا والشيء كلاهما يتحدان في الأطراف أو في النهايات؛ وهكذا تتحول الكلمتان اللتان هما كيفيتان نسبيًّا، وأعني بهما كلمتَيْ طويل وقصير تحولًا يسير بهما نحو الدقة فتصبحان طولًا مقداره كذا وقصرًا مقداره كذا؛ ومع ذلك فحتى نشأة الهندسة لم تكن قد حُلَّت مشكلة تحويل العلاقة الكيفية إلى علاقة كمية تحويلًا كاملًا، بل لم يكن يُنظر إلى المشكلة على أنها كذلك؛ فظل تساوي المسافات على الخيط أو على العصا — رغم ذلك — مرهونًا بالتقدير الكيفي، إذ كان متوقفًا على عمليات «الحس والحركة» المباشرة. وقياس الأشياء المنفصلة هو الحالة التي تبدو في ظاهرها أنها أقرب الحالات إلى الظن بأنها ليست من حالات القياس الكمي، وأنها مجرد عد للوحدات؛ مثال ذلك أن نعد المقاعد في الغرفة، أو أن يعد الراعي أغنام قطيعه، أو أن يعد شخص ما عدد أوراق النقد وقطع العملة التي في كيس نقوده؛ لكنه إذا لم تكن هنالك غاية مرجوة من العد (وفي هذه الحالة لا يكون ثمة قياس ولا وزن) كان مثل هذا العد شبيهًا بعد الأطفال — بعد أن يتعلموا عملية العد — حين يعدون لمجرد المتعة التي يجدونها في ذلك، بل إنه حتى في هذه الحالة يكون هنالك هدف يضع النهاية القصوى، كأن يروا إن كان في مستطاعهم أن يعدوا إلى المليون؛ والراعي يعد أغنامه ليرى إن كان قطيعه «كله هناك»، وليعلم إن كان في طريقه إلى الزيادة أو إلى النقص، وهكذا؛ والمتعقب لرصيده من المال إنما يفعل ذلك لأن له غاية يريد تحقيقها بذلك المال، وهكذا؛ وما هو أهم من ذلك أن مجرد الانفصال المادي بين الوحدات لا يصلح أساسًا للعد في الحالات المذكورة، على شرط أن نفهم من كلمة «مجرد» هنا غض النظر عن النتيجة المراد استحداثها؛ فليس ما يسمونه بالذاتية العددية شيئًا يقدم إلى البحث جاهزًا، بل هو أمر يتقرر في البحث؛ فالكتاب الواحد يكون هو الوحدة لمشكلة ما ولغرض معين، على حين تكون الصفحة هي الوحدة لمشكلة أخرى ولغرض آخر، بل ربما كانت الكلمة الواحدة أو الحرف الواحد هو الوحدة التي نتوسل بها إلى غاية أخرى، وهكذا قد تكون المكتبة الواحدة، أي المجموعة كلها من الكتب، هي الوحدة التي نقول إن لها «ذاتية عددية»؛ فالمواد التي ترد في القضايا على أنها ذاتيات (عددية) إنما تتحدد — كسائر الذاتيات — من أجل الاستخدام الإجرائي، وبفعل ذلك الاستخدام الإجرائي أثناء قيامنا بحل مشكلة معينة. ويتفرع عن ذلك ضرب من القياس الكمي تزيد أهميته آخر الأمر على أهمية الأصل نفسه الذي تفرع عنه، وهو ضرب يتناول ما يحدث من زيادة أو نقص في التغيرات ذات الطبيعة المتصلة في الوجود الخارجي — وذلك هو نوع الكمية التي نسميها كمية غزارية لنفرق بينها وبين الكمية الامتدادية — فكون الجسم يزداد برودة أو يزداد حرارة، وكونه يتحرك بسرعة تزداد أو تقل (وبصفة عامة كونه يتجه نحو الكيف المضاد) هو من قبيل المقارنات التي تعبر عن قياسات كيفية غامضة يمكن إقامتها على أساس المشاهدات المعتادة؛ أما مشكلة تحويل هذه التقديرات الكيفية إلى صورة محددة، أعني إلى صورة عددية، فهي مشكلة تقتضي التغلب على صعاب لا وجود لها في حالة المقادير الامتدادية؛ وذلك لأن التغير المتصل في صفة كيفية معينة أمر لا يقبل الانقسام إلى وحدات متجانسة؛ إذ إنه بحكم الوصف نفسه ما تنفك الصفة الكيفية عن تحولها المستمر إلى حالات تباين الحالة التي كانت عليها؛ ومن وجهة نظر العلم اليوناني من حيث مضمونه، بما كانت له من نظرة الازدراء إلى التغير، كل ما يلزمنا إزاء التغير هو أن نصنف أنواع التغير الكيفي المختلفة التي تحدث، فنصنفها أنواعًا كهذه: انتقال من الحار إلى البارد، ومن الرطب إلى اليابس، ومن اللين إلى الصلب، ومن أعلى إلى أسفل، أو العكس؛ وهكذا كان العلم القديم يكفيه أن تقول إن كل كيفيات الإدراك الحسي تتغير بين نهايات قصوى متضادة، فالبارد — والبارد وحده — هو الذي يصير حارًّا، وهكذا؛ فلم تكن هنالك حاجة إلى القياس الكمي، وإذن فلم تكن هنالك حاجة إلى الوحدات التي بها نقيس. ولسنا نجد فكرة التسلسل لا في علم اليونان ولا في منطقهم؛ فلم تظهر هذه الفكرة إلا عندما تبين أن التغير يمكن تحويله إلى حركة، تحويلًا يحقق لنا ما نبتغيه من إقامة مقارنات موجهة؛ وبتحويل التغير إلى حركة، ألفيناه قابلًا للقياس الكمي بوحدات متجانسة من المكان ومن الزمان؛ وعندئذٍ أصبحت نظرية ميكانيكا الأجرام السماوية — لفترة من الزمن — هي النموذج لشتى الأوصاف العلمية والتفسيرات العلمية؛ وكانت المشكلة المبسوطة للبحث هي كيف نترجم التغير الكيفي المتصل، الذي لم يكن يسع القياسات الكيفية إزاءه إلا أن تعالجه بلغة الدرجة الغزارية (فتقول مثلًا أكثر وأقل، وعلى الأقل وعلى الأكثر)، كيف نترجم ذلك التغير الكيفي المتصل إلى ما تعد وحداته من الامتداد، واتجاه الحركة، وسرعة الحركة وعجلة السرعة، مع ربط هذا كله بما يعد من وحدات الزمن. وهكذا تكون المزاوجة أو المطابقة على وجه من وجوهها، هي العملية الأساسية في كافة القضايا التي يرد فيها تحديد للكم حين يشير هذا التحديد إلى شيء في الوجود الخارجي؛ وهذه الحقيقة توضح لنا المعنى الذي يكون به العدد والمقدار الكمي دالَّيْن على علاقات؛ وإن تكن العلاقة المتضمنة هذا علاقة مركبة، فمثلًا أفرض أن عصًا قد قسمت اثنتي عشرة مسافة متساوية؛ فعندئذٍ يمكن القول بأن العصا مساوية في طولها لهذه المسافات الاثنتي عشرة، وأن كل مسافة منها طولها يساوي جزءًا من اثني عشر جزءًا من طول العصا بأسرها؛ لكننا لو وقفنا بالأمر عند هذا الحد لما كان ثمة قياس، إذ لا يقتصر أمر القضايا على كونها دائرية، بل هي كذلك غير دالة على شيء؛ ولا تصبح العصا وأقسامها الفرعية أداة للقياس إلا حين نحاذي بينها وبين أشياء أخرى على نحو يجعل العصا ويجعل أجزاءها متزاوجة مع اختلافات الأبعاد في هذه الأشياء الأخرى؛ فما لم نستخدم المسطرة لنقيس بها أشياء أخرى، فقدت طبيعتها من حيث هي أداة القياس، وأصبحت مجرد شريط من الخشب تصادف له أن يكون محزوزًا أو مخططًا على نحو معين فيه شيء من غرابة؛ وحتى لو حاذينا بين مسطرة ومسطرة أخرى، أو بين ياردة وياردة أخرى، فلن يكون هنالك قياس، بل كل ما هنالك عندئذٍ هو مراجعة الدقة من حيث القدرة القياسية في إحدى وحدتي القياس، أو في كلتيهما معًا. والزعم الشائع في مجال الأخلاق هو أن أخلاقية الأفعال المعينة لا يمكن تقريرها ما لم يكن هنالك معيار مطلق تقاس إليه تلك الأفعال؛ وهكذا تراهم يجسدون الحق والجميل بطريقة متشابهة في الحالتين؛ لكن حقيقة الأمر هي أننا نقيم معايير للعدالة والحق والخاصة الجمالية … إلخ، نقيم تلك المعايير لكي يتسنى لنا أن نقارن مقارنة معقولة بين مختلف الأشياء والحوادث بعضها مع بعض، مقارنة من شأنها أن توجه أوجه نشاطنا التي نتناول بها أشياءنا وأمورنا كما تقع لنا في تعينها، تمامًا كما نقيم قضيبًا بلاتينيًّا ليكون مقياسًا معياريًّا تُقاس إليه الأطوال؛ فالمعيار خاضع للتعديل وللمراجعة في إحدى الحالتين خضوعه لهما في الحالة الأخرى سواءً بسواء، وإنما نخضعه للتعديل والمراجعة على أساس النتائج التي تترتب على تطبيقه تطبيقًا عمليًّا؛ ولو اعتقدنا في سر يكمن في طبيعة المعيار فيجعله معيارًا مطلقًا، كنا كالشعوب البدائية وهي تعتقد في السحر؛ فأفضلية فكرة ما عن العدالة على فكرة أخرى، هي في منزلة واحدة مع أفضلية النظام العشري على مجموعة الموازين والمقاييس التي كانت قد وضعت جزافًا أو بما يشبه الجزاف، والتي زالت ليحل محلها النظام العشري في إجراءات البحث العلمي؛ أقول إن الأفضلية في الحالتين هي من منزلة واحدة وإن لم تكن متشابهة الكيف في الحالتين. إن الياردة والميل، والأوقية والرطل، واللتر والجالون، كلها أفكار ذهنية تنخرط في نفس السلك العام الذي تنخرط فيه الأفكار الذهنية في مجال الذوق الفطري، والتي يتصل بعضها ببعض — كما قد رأينا — على أسس اجتماعية تاريخية؛ إذ هي وسائل لتيسير وتنفيذ شتى ضروب المعاملات الاجتماعية الخاصة بالنفع والمتعة؛ وأما نظام المقاييس العشرية فهو أقرب إلى أن يكون نوعًا من أنساق الرموز ومعانيها، إذ هو نسق نصوغه على أساس العلاقة المتبادلة بين تلك المقاييس بعضها ببعض، كما نصوغه كذلك على أساس السهولة في تحويل بعضها إلى بعض؛ وإذن فالقضايا التي تنشأ لنا نتيجة لتطبيق تلك المقاييس تطبيقًا عمليًّا، هي قضايا وسلية أيضًا، ولو أنها وسائل تفضي بنا إلى غاية تختلف (عن الغاية التي تحققها وسائل التعامل في مجال الذوق الفطري)، وهذه الغاية في الحالة الثانية، هي أنها تيسر لنا عملية البحث؛ وما الأفكار العقلية والمبادئ التي نستعين بها على قياس أو تقويم السلوك الخلفي والعلاقات الخلقية إلا أمور تندرج تحت النوع المذكور نفسه — إذا نظرنا إليها من الناحية المنطقية — ولا بد لنا من تناولها على هذا الأساس إذ نتناولها في شئون حياتنا الاجتماعية العملية. وجدير بنا في هذا الموضع أن نذكر، على سبيل التمهيد لما سنعود إلى ذكره، على الأقل بأنه بناءً على المبدأ الذي شرحناه، لا يكون المكان والزمان في العلم هما ما نقيسه، بل يكونان هما النتائج التي ننتهي إليها من قياسنا للأشياء والحوادث قياسًا نجريه ابتغاء الوصول إلى تحديد موضوعي لمواقف كانت في بداية الأمر موضع إشكال؛ ولهذه الحقيقة — في سياق هذه المناقشة التي نقدمها — أثر محدد المعالم على العلاقة بين المقدار المنفصل والمقدار المتصل، كما نراهما في القضايا التي تشير إلى حالات الوجود الفعلي؛ ذلك أن وحدة القياس — إذ ننظر إليها من حيث هي وحدة للقياس — هي مقدار منفصل، ولكنها في داخل نفسها مقدار متصل، سواء أكانت ملليمترًا أم كيلومترًا؛ فما يعد مقدارًا منفصلًا في إحدى العمليات الأدائية، يستخدم هو نفسه مقدارًا متصلًا في حل مشكلة أخرى، والعكس صحيح؛ وهذا المبدأ نفسه يصدق أيضًا على القضايا التي تنبئ عن اللحظات الزمنية (وهي مقدار منفصل) والقضايا التي تنبئ عن الامتدادات الزمنية (وهي مقدار متصل)؛ فحتى لو كان هنالك في الوجود الخارجي نبضات من التغير ينفصل بعضها عن بعض، ولا تقبل التجزئة، أقول إنه حتى لو كان هنالك من وحدات التغير ما تكون الواحدة منها كلًّا واحدًا يستحيل تجزئته، فرغم ذلك (١) لا بد لأمثال هذه النبضات من اتجاه إذا أردنا أن نستخدمها في تحديدنا للتغير باعتباره أمرًا متصلًا، و(٢) لا تكون هذه النبضات وحدات للقياس الزمني إلا إذا عددناها واستخدمناها وسائل للمقارنة وللقياس؛ فالاتجاه ضروري، لأنه هو الذي يحدث تداخل الوحدات على النحو الذي يميز كل تغير من التغيرات التي تقع لنا في المشاهدة، والتي نأخذها في جملتها؛ فمثل هذا التغير لا يمكن حدوثه بمجرد وضعنا لنبضات التغير المنفصلة وضعًا يجاور بين الواحدة والأخرى. فلو كان لهذه النبضات الموحدة وجود، فهي كيفية، شأنها في ذلك شأن القضيب البلاتيني الذي أشرنا إليه؛ وهي لا تصبح وحدات كمية إلا إذا استُخدمت على نحو أدائي يربط — في إطار موحد — تغيرات لو تركت وشأنها لظلت مفككة ومتباينة؛ فلئن كان تنظيم الزمن في خط مستقيم يمتد إلى غير نهاية في اتجاه معين، أمرًا يفيدنا في بعض أغراضنا، إلا أن الامتداد الزمني على صورته التي يدخل بها في أية قضية وجودية (أي قضية غير رياضية) له من الكثافة ما يحدثه تداخل التغيرات المتتابعة، وما يحدثه أيضًا كون التغير في إحدى حالاته الخاصة إنما يقتضي — في تحديده — إشارة إلى التغيرات التي تحدث معًا في آن واحد؛ فقولك — مثلًا — إن حكمًا معينًا قد امتد أمده من ١٨٠٠ إلى ١٨٣٠، كان يكون بغير معنًى إذا لم يكن للفترة المذكورة من مضمون سوى هذا الحكم. ولقد يحسن بنا أن نشير إشارة صريحة إلى الإجراءات الفعلية التي تتضمنها عملية المقارنة والقياسات الكمية؛ فهي في المزاوجة التي يتميز بها الذوق الفطري، تتخذ الصورة الواضحة، التي هي صورة العد وصورة محاذاة أداة القياس بالشيء المقيس، مضافة إلى ما نقوم به عندئذٍ من مجاورة وحدة القياس بالشيء المقيس أو وضعها عليه؛ وحين تتم المزاوجة بوساطة أسماء الأعداد، فلا بد لهذه الأسماء — ولو أنها لا تزيد على كونها رموزًا — أن تَخرج نطقًا أو أن تُرقم علامات، إذا أُريدَ للعدِّ أن يتم حدوثه؛ فالعد هو إجراء عملي يقع في الوجود الخارجي، كما هي الحال سواءً بسواء في الصفير أو الغناء؛ فإن تكن العمليات الحسابية في العمل العلمي قد تستمر في سيرها داخل الرأس فلا فرق بين ذلك وبين أن تكتب على الورق، أما الرموز من حيث هي رموز فحسب فلا يكون لها تأثير ظاهر في الوجود المادي؛ فإذا أردنا للعملية الحسابية أن يتم حدوثها، فلا بد لنا من تناولها تناولًا وجوديًّا؛ فإن رأيت العرف قد جرى على حذف أعمال العد والحساب التي تتخذ صورة وجودية، من المجال الذي يُعنى به المنطق، فما ذلك إلا مثل آخر لذلك الإهمال المنظم الذي يهملون به سائر العمليات الإجرائية، والذي هو طابع مميز للمنطق الصوري؛ وهو إهمال مرده ذلك المذهب الذي يجعل من القضايا مجرد عبارات تفصح أو تعلن عن حالات وجودية في الخارج أو حالات عقلية في الداخل سبق قيامها قيام تلك القضايا. وأخيرًا فإن التوجيه الكيفي الذي يوجه القضايا الوجودية الخاصة بالعدد وبالكم لذو صلة بالفرق الكائن بين الواحدية والوحدة؛ فالكل الكيفي وحده هو الذي نقول عنه إنه موحد أو أنه واحد؛ فهو باللغة التي استخدمناها قبل ذلك في هذا الفصل، مؤلف من أعضاء، لكنه ليس تجمعًا من أجزاء ولا هو مجموعة من أجزاء؛ فإذا ما حدث في الكل الكيفي تضارب داخلي، كان لكليته الشاملة لأجزائه أثرها في تغيير كيفية ذلك التضارب، تمامًا كما تكتسب الحرب الأهلية صفتها التي تجعلها حربًا أهلية من كونها تمزقًا طرأ على وفي داخل الواحدية التي كانت تضم أمة أو شعبًا؛ ولا يمكن فض هذا التضارب الحادث، وخلق موقف موحد كيفي جديد، إلا بالخروج من نطاق الموقف الذي كان قائمًا من قبل، خروجًا يمكننا من حذف بعض عناصره وإدخال عناصر أخرى جديدة ومن ثَم كانت ضرورة «المقارنة والمباينة» التي ما هي — كما رأينا — إلا اسم نطلقه على الإجراءات العملية التي يتم بها هذا الحذف وهذه الإضافة؛ والزمام الذي نضبط به تلك الإجراءات التي نجريها هو ما يكون لدينا من غرض نقصد إليه، ألا وهو خلق موقف جديد موحد؛ والقضايا هي الوسائل التي نتوسل بها إلى تنفيذ ما نقصد إلى تنفيذه؛ وإنما تكون هذه الوسائل مقتصدًا فيها وفعالة الأثر (كما هي الحال في بلوغنا أية نتيجة نريد بلوغها) بمقدار ما تتخذ عملية المقارنة صورة القياس الكمي والوزن؛ إذ بغير النتائج التي نحصل عليها من هذه العمليات الإجرائية، تكون الوسائل التي نستخدمها إما دون ما يكفي لتحقيق الغاية التي أردنا تحقيقها، أو مجاوزة للمقدار المطلوب مجاوزة تخلق موقفًا ربما يكون أعقد إشكالًا وأشد تضاربًا من الموقف الأصلي الذي ما استخدمت تلك الوسائل التي استخدمناها إلا لتوحيده؛ نعم إن الكلَّات الكيفية من حيث هي كذلك ليست مما يخضع للقياس الكمي، لا لشيء إلا لكونها فريدة في كيفها، إلا أنها هي الأطراف أو هي «النهايات» التي تصبح القضايا وسائل للسير منها وإليها؛ ولكونها أطرافًا على هذا النحو، كانت لنا بمثابة المعايير التي نقيس بها مدى الأهمية والقوة اللتين تكونان لقضايا القياس، سواء منها ما كان كميًّا وما كان كيفيًّا.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/12/
الحكم من حيث هو تحديد مكاني زماني
(١) وأبدأ بالنظر في ذلك الوجه من أوجه تطور الحكم، الذي تغلب عليه الاعتبارات الزمانية؛ وأبسط صورة تظهر فيها هذه الاعتبارات الزمانية، نراها في القضايا التي نقولها عن مادة وجودية راهنة لكنها في طريق التغير، إذ نعبر عنها باللغة عن طريق الأفعال المبنية للمعلوم الدالة على اللحظة الحاضرة؛ ومن أمثلة ذلك مشاهدات كهذه: «الشمس طالعة؛ وهي تزداد إشراقًا؛ الغرفة تزداد برودة؛ إنه يزداد اقترابًا؛ الساعة تدق؛ النار في طريق الخمود … إلخ»؛ وفي قضية مثل هذه: «كان هنا منذ بضع دقائق، لكنه قد ذهب» ترى موضوع الحديث من نفس النوع السالف، لكن الكلمات: «كان» و«منذ» و«قد ذهب» تجعل الإشارة إلى الزمن الماضي أمرًا صريحًا، بعد أن كانت الإشارة إلى الماضي في الجمل السابقة أمرًا مضمرًا يفهم من سياق الحديث وها هنا لا بد لنا من ملاحظة أن كل قضية وجودية تحمل في صلبها إشارة تنتقص من صفتها الحضورية بكونها تشير إلى الماضي وإلى المستقبل معًا، إذ هي تشير إلى ما قد كانت عليه الحال وإلى ما ستصير الحال إليه؛ وبغير هذا الحد من إطلاق الصفة الحضورية على ما هو كائن الآن، يفوتنا أن نميز التغير بالطابع الذي يميزه؛ إذ لو كان الأمر مجرد سيال من التغير لما أمكن ملاحظته ولا تقويمه ولا تقديره؛ لكن الحالة من حالات التغير تتميز بالوجهة التي تسير نحوها — إذ هو تغير من شيء ما إلى شيء ما؛ ففي قولنا: «الشمس طالعة» إشارة إلى أنها كانت تحت الأفق، لكنها الآن تتحرك صاعدة فوق الأفق شيئًا فشيئًا؛ وكذلك القضايا التي من قبيل قولنا «إن الشيء الفلاني حلو أو أحمر» تقرر (كما ذكرنا من قبل) إما أن شيئًا ما في طريقه إلى أن يصير أو أنه قد صار بالفعل ذا كيف مختلف، أو أن ذلك الشيء له القدرة على أن يغير شيئًا آخر — أن يجعله أحمر أو حلوًا. ولهذه النقطة التي أثرناها الآن توًّا أهمية أساسية بالنسبة إلى النظرية الخاصة بوجه الحكم الزماني والتاريخي، وهو وجه قد لا يكون ظاهرًا للوهلة الأولى؛ وذلك لأنها تدل على أن الموضوع الموحد في كل قضية زمانية هو دائري، أو هو دورة أو ما يدل على هذا المعنى من الألفاظ؛ فلأن تحكم معناه أن تصيِّر الأمر الذي تصب عليه الحكم أمرًا متعينًا، ثم لأن تجعل الأمر متعينًا معناه أن ترتبه وتنظمه، وأن تروي عنه في صورة معينة؛ والترتيب الزمني إنما ينشأ خلال إيقاعات تتضمن فترات متكررة وفواصل وحدودًا؛ وكلها أمور يدخل بعضها في بعض؛ إذ البدايات المطلقة والنهايات والخواتيم المطلقة أسطورة من الأساطير؛ فكل بداية وكل نهاية لا تكون إلا تحديدًا لطرفي دورة أو دائرة من التغير الكيفي وليس لتحديد الزمن — باليوم أو بالدقيقة أو باللحظة — من معنًى إلا أن يكون تعيينًا لطرف تبدأ عنده دورة التغير أو تنتهي. ولما كان كل تغير — حين يوضع تحت البحث — حلقة أو دورة من حوادث تتحدد بدايتها ونهايتها بالموقف اللامتعين الذي يُراد له أن يفض (ومن ثَم فالبداية والنهاية ليستا مطلقتين) أقول إنه لما كان كل تغير هو هكذا، أمكن لكل تغير معين أن يروى بلغة نستخدم فيها صنوفًا لا نهاية لها من حوادث صغرى داخلة في ذلك التغير، كأن نذكر أحداثًا عارضة وحكايات ووقائع؛ فلمعة البرق عند الرجل من عامة الناس توشك أن تكون واقعة معزولة حدثت في لمحة من الزمن؛ أما وصفها العلمي فرواية تروي تاريخًا طويلًا، لم تكن لمعة البرق إلا إحدى حوادثه؛ وكلما ازدادت المعرفة العلمية نموًا، ازدادت القصة طولًا؛ وكذلك الجبل الذي يراه الرجل من عامة الناس رمزًا قائمًا يدل على الثبات، يراه الجيولوجي مسرحًا لتمثيلية فيها ولادة ونمو وتدهور وموت آخر الشوط؛ فما لم نضع نصب أعيننا الفرق بين التغير الوجودي بوصفه تغيرًا في الوجود لا أكثر، وبينه بوصفه موضوعًا نصب عليه الحكم، لبثت طبيعة الحادثة من الحوادث لغزًا غير مفهوم؛ فكلمة حادثة إنما هي حد من حدود الحكم، وليست هي شيئًا كائنًا في الوجود الخارجي بمعزل عن الحكم؛ فنشأة وتطور سلسلة جبال الأبلاش حادثة كما أن خلخلة حصاة معينة وانزلاقها على حافة معينة من سفح معين حادثة؛ وقد ينشأ الموقف الذي تكون فيه قصة من هذا النوع الثاني أهم بكثير في الحكم من تاريخ لديمومة طويلة الأمد؛ كما هي الحال — مثلًا — عندما تكون الحصاة المنزلقة «سببًا» لالتواء العقب؛ على حين أننا في القصة التي نروي بها دورة التآكل في حياة الجبل، لا نكاد نذكر انزلاق الحصاة إطلاقًا على أنه إحدى الحوادث؛ لأنه عندئذٍ لن يكون إلا نموذجًا غير ملحوظ في ذاته، ولكنه يُساق مثالًا لنوع من الوقائع لا تكون له دلالة إلا إذا أخذناه في جملته؛ فالمعنى الدقيق للحادثة هو الشيء الذي يطرأ أو الذي ينجم، أو صافي الناتج الذي يلفت النظر، أو هو الحدوث؛ فالحادثة تتضمن فكرة غائية، وهي لا تصلح للوصف وللرواية إلا إذا جعلنا لها بداية تحدد طرفها ثم فترة وسطى ثم ختامًا. ويمكن بسهولة بحث القضايا التي تدخل فيها الروابط الزمنية دخولًا صريحًا عند تكويننا للحكم، تحت رءوسٍ ثلاثة: (١) القضايا التي تتناول ماضي قائلها شخصيًّا (٢) والقضايا التي تُقال عن حوادث خاصة لا تدخل مباشرة في مجال الخبرة الشخصية عند قائلها، (٣) والروايات التاريخية التي تتتابع فيها الأحداث. كثيرًا ما يتخلص الباحثون من هذه الأحكام بأن يَعزوها مباشرة إلى ملكة يقولون عنها إنها ملكة الذاكرة؛ وقوام هذا الإجراء هو أنهم يُطلقون اسمًا على حقيقة كون الأحكام التي يُصدرها صاحبها على ماضيه وتاريخه أمرًا ممكنًا وواقعًا بالفعل، ثم تراهم بعدئذٍ يعاملون هذه الحقيقة كما لو كانت قوة سببية؛ فإثباتي بأني فعلت شيئًا معينًا بالأمس، أو أنني كنت مريضًا في الشهر الماضي معناه أني قد أنشأت في تقديري تتابعًا زمنيًّا؛ وهذا لا يختلف عن أي عملية أعيد بها بناء الحوادث التاريخية، إلا في كون مادته تقع داخل سيرة حياتي؛ فلو كان إثباتي ذلك قائمًا على أساس سليم، وجب أن يكون نتيجة «استدلالية»، ومن ثَم فهو يرتكز على بينات عمادها مشاهدات؛ وهو ككل حاصل استدلالي آخر معرض للخطأ حتى وإن تكن مادته متصلة بشيء تم أداؤه أو تمت معاناته منذ خمس دقائق؛ فبينما يكون مضمون القضية في العادة — إذا ما بسط ذلك المضمون في عبارة لغوية صريحة — عملة جزئية، أو شيئًا ما عاناه صاحبه في لحظة معينة من لحظات الماضي، إلا أن حقيقة الأمر من الناحية المنطقية هي أن ذلك المضمون شوط من حوادث، أحد طرفيه هو الحالة الراهنة، وطرفه الآخر حادثة حدثت في اللحظة الزمنية المعينة في الماضي. وهكذا ترى الحالة التي نحن الآن بصددها، مثلًا يوضح المبدأ القائل بأن كل قضية زمنية تتناول دورة أو فترة ما؛ خذ قضية كهذه: «ذهبت إلى يونكرز بالأمس» أو أية جملة أخرى تُقال عن فعلة جزئية؛ فهي في ظاهرها تشير إلى حدث قائم بمفرده؛ غير أن ضمير المتكلم في هذه الجملة لا يكون ذا معنًى إلا إذا كان متكلم اليوم هو نفسه الذي كان بالأمس والذي كان خلال الأيام السابقة قبل الأمس؛ أضف إلى ذلك أن الفعلة الجزئية المذكورة في الجملة لها خلفية وواجهة، ولو لم تكن مشتبكة في مجرى الوجود المستمر، الذي منه نشأت وإليه تضيف؛ أعني أنها لو كانت معزولة وحدها عزلًا تامًّا، ومغلقة على نفسها، لما كان تعييننا لتاريخ معين ولا إشارتنا بضمير المتكلم ذا معنًى أيسر المعنى. إن بضعة من الأمور الراهنة في اللحظة الحاضرة هي التي تكون دائمًا المناسبة التي نستعين بها على إعادة بناء الحادثة الماضية؛ ولو أخذت هذه المناسبة على إطلاقها لما كان لها عند المنطق منزلة؛ لكنها باستخدامها لجهاز عضوي (وهو جهاز له الصفة العامة التي تلحقه بما يطرأ على البدن من تكييف، وهو ما نسميه بالعادة) تستدعي أو «توحي» بشيء ما ليس حاضرًا؛ غير أن هذا الشيء الموحى به إذا أخذ على إطلاقه أعوزته الصفة المنطقية هو الآخر؛ إذ قد يكون وليد نزوة أو حصنًا في الهواء؛ وعلى أية حال، فإذا قبلت الشيء الموحى به قبولًا مباشرًا، دون بحث واختبار، إذا قبلته باعتباره يصور شيئًا ما في تاريخي الماضي، فقد يتخذ هذا القبول صورة قضية إذ أجريه في ثوب خارجي من عبارة لغوية، لكن هذه القضية لن تمس صفته المنطقية؛ ذلك لأن إثبات ما قد أثبته غير قائم على أساس سليم، وهذه حقيقة يأخذها فريق فيعلون من شأنها ويجعلونها فضيلة، بأن يرجعوا الأمر إلى إدراكٍ حدسي عند «ملكة» الذاكرة، لكن هذا الفريق إنما يأخذ — في حقيقة الأمر — نتاج عمل الجهاز النفسي الفسيولوجي، ويعدونه ضربًا من ضروب المعرفة؛ فلكي تكون فكرة الحادثة الماضية ماثلة في قضية لها خاصة منطقية، لا مناص من أن نتناول بالنقد الدقيق فكرة الحادثة الماضية التي أوحى بها جهاز التداعي؛ فأسأل: أحقًّا قد فعلت كذا، وفعلته على النحو الفلاني؟ أم أنني اقتصرت على التفكير في فعله؟ أم كان الأمر مجرد شيء سمعته فترك في نفسي انطباعًا ناصع الوضوح؟ أو ربما يكون شيئًا أتمنى الآن أن لو كنت قد فعلته؟ وحتى أولئك الذين يذهبون إلى أن بعض «أفكار الذاكرة» أو «الصور الذهنية» — على الأقل — تسوق معها إشارة تكون جزءًا منها وتدل على أن شيئًا ما يقابل تلك الأفكار أو الصور الذهنية، قد حدث بالفعل في مجرى الخبرة الماضية التي مرت بصاحب تلك الذاكرة، أقول إنه حتى أولئك لا يبلغون بمذهبهم ذاك مبلغ أن يقولوا بأن الفكرة أو الصورة الذهنية تسوق معها تاريخ حدوثها على وجه الدقة؛ فما دام (١) المكان الزمني لأية حادثة (أعني تاريخ حدوثها) في حدث متتابع اللحظات، إنما تتشابك خيوطه مع سائر خيوط الحالة التي يستعيدها المتذكر من حالات ماضية، كائنة ما كانت تلك الحالة المتذكرة، وما دام (٢) مثل هذا المكان الزمني أي تاريخ الحدوث ليس جزءًا أصيلًا من طبيعة الشيء الموحى به (أعني أنه ما دامت الحادثة الماضية الموحى بها لا تحمل تاريخ حدوثها مطبوعًا عليها) إذن فمضمون الشيء الذي نستعيده بالذاكرة هو بغير شك نتيجة استدلالية، أي إنها مرهونة بحكم ينصب عليها؛ وصحة هذه النتيجة تتوقف على المادة التي استخدمناها بينات تشهد على صحتها، شأنها في ذلك شأن أي استدلال نجريه عن حادثة تقع كلها خارج نطاق الماضي الشخصي لمن يقوم بذلك الاستدلال. هذا فضلًا عن أن تحديد تاريخ الحدوث ليس مطلقًا؛ إذ هو يعتمد على ربط حادثة معينة بغيرها من الحوادث التي سبقتها والتي لحقتها على نحو يجعلها — إذا أخذت في مجموعتها — تكون سلسلة زمنية أو تاريخًا؛ فإذا قلت «كنت في داري الساعة الخامسة أمس» كنت في الواقع أنشئ مجرًى من الحوادث متتابع اللحظات، ليكون موضوع اعتقاد قائم على أساس سليم: فكلمة «أمس» لا دلالة لها إلا من حيث ارتباطها باليوم، وباليوم السابق على الأمس، وبسلسلة الأيام المقبلة غدًا؛ وعبارة «الساعة الخامسة» لا دلالة لها إلا من حيث ارتباطها بالساعة الرابعة وبالساعة السادسة، وهكذا؛ فالمشكلة التي يعرضها أمامنا الموقف الممتد على فترة من الزمن، والذي ينصب عليه التحديد تضبط لنا التاريخ الزمني الذي يجعل لها دلالة حاسمة؛ ولو كانت الوقائع معزولة ومستقلة بوجودها كما يبدو عليها في الجملة التي تُقال عنها، حين تنفصل هذه الجملة عن سياقها، لما كان لهذه الجملة معنًى أكثر مما تعنيه إذا ما نطق بها ببغاء؛ ولو كانت آلة حاكية هي التي نطقت بالجملة، لتحدد معناها بسياقها، كأن يحدده — مثلًا — سياق القصة أو سياق الإخراج التمثيلي الذي وردت فيه؛ فالسياق هنا — كما هي الحال في أمور أخرى كثيرة — مختفٍ عن الصورة اللغوية لا لشيء إلا لأننا نأخذه مأخذ التسليم. ولو حدث أن كان هذا الذي يثبته المتذكر معتمدًا على ذاكرته، موضع شك عند شخص آخر، أو عند صاحب الذاكرة نفسه، لكانت وسيلة تأييده هي الإفصاح عما كان مضمرًا من التتابع الزمني في مجرى السياق، كأن يقول عندئذٍ: «في الساعة الرابعة والنصف كنت أغادر مكتبي، وإن وصولي إلى الدار ليستغرق نحو نصف ساعة كاملة، وقد عدت رأسًا من مكتبي إلى داري، وأذكر أني نظرت إلى الساعة عند دخولي، ثم تناولت صحيفة المساء وجعلت أقرأ، وحينئذٍ دخل فلان» وهكذا؛ وعلى الرغم من أن إعادة ترتيب الحوادث على هذا التتابع قد تكون كافية بالنسبة إلى معظم أغراضنا العملية؛ إلا أنها لا تكفي من الناحية المنطقية؛ لأن هذه الحوادث الأخرى هي كذلك أمور تذكرناها، فهي بدورها تتطلب هذا الضرب بعينه من ضروب التأييد كالذي تطلبه حكم الذاكرة الذي بدأنا به، وها هنا تأتي الإشارة إلى الإثبات الموضوعي لتلعب دورها في الشهادة؛ ولقد يكون اتساق الرواية التي نرويها عن حدث ما، زعمنا له الحدوث، مع روايات أخرى رويت عن حوادث معينة أخرى مزعوم لها الحدوث قبل ذلك الحدث وبعده، أقول إن هذا الاتساق قد يكون شاهدًا طيبًا في حدود نطاقه الذي يتسع له؛ لكنه معيب بالعيوب التي تؤثر في شتى الحالات التي يقتصر أمرها على مجرد اتساق أجزائها بعضها مع بعض؛ فكثيرًا ما ينشئ المرضى بالأوهام روايات عن الماضي تدعو إلى العجب في اتساق أجزائها، حتى ليقتضي الأمر حتمًا في الحالات الهامة، كالحالات التي تعرض — مثلًا — في محاكم القضاء، بينة خارجية من وثائق ومشاهدات مباشرة شاهدها أشخاص آخرون وهكذا؛ وحيثما نجد ما يسوغ الريبة في تواطؤ أو في قيام صالح مشترك يدعو أصحابه إلى خلق اعتقاد في وضع وهمي للأمور، فعندئذٍ لا يكفينا من الوجهة المنطقية إلا دليل أمعن في البعد عن مجرد الاتساق الداخلي، وإنما يكون الدليل أمعن في البعد من مجرد الاتساق الداخلي إذا استقل بذاته عن أي عنصر شخصي، ولو أننا بالطبع مضطرون في حالات كثيرة أن نتصرف وفق بينة تقصر قصورًا شديدًا عن توافر الحسم المنطقي التام. وبعبارة أخرى فإن أحكامًا كالتي نقولها عن الشئون الوجودية كافة، إنما تقوم على الاحتمال لا على «اليقين»؛ ومن ثَم كانت أفعالنا التي نؤديها نتيجة لقبولنا لتلك الأحكام، ليست من الناحية المنطقية أفعالًا تترتب على ما قد حدث في الماضي حدوثًا حقيقيًّا، أي إنها ليست مجرد لواحق عملية تلحق بأحكام كملت صياغتها؛ بل هي إجراءات عملية من شأنها أن تزودنا بشاهد جديد يثبت أو يضعف أو يعدل على نحو ما، الرأي الذي كنا قد قبلناه قبولًا مؤقتًا تقديرًا منا أن يكون هو الرأي الصواب؛ فافرض أنني شككت فيما إذا كنت قد وضعت في البريد خطابًا معينًا بعد الفراغ من كتابته، فها هنا تراني أزعم مؤقتًا بأني قد وضعته في البريد فعلًا، وأؤدي ما يؤديه المنتظر للرد الذي يستدعيه ذلك الخطاب، وتجيء النتيجة عاملًا على القطع بصواب زعمي؛ فإما أن يصلني الرد أو لا يصلني؛ أو ربما تراني أخشى بقوة ألا أكون قد وضعت الخطاب في البريد وعندئذٍ أؤدي الإجراء العملي الذي أبحث به في كل الأمكنة التي يحتمل أن أكون قد تركت الخطاب فيها؛ وإذا لم أجده فسأظل على غير رغبة في الجزم بفكرة أني قد وضعته في البريد؛ فأكتب خطابًا آخر مستفسرًا، لأستيقن من إرسالي للخطاب الأول أو عدم إرسالي له؛ وإن هذه الأمثلة الموضحة لتدل على أن ما نبنيه من تسلسل تاريخي مستمر متتابع من حلقات كيفية الطابع، ليس مقصورًا على الماضي؛ فالحوادث التي ستحدث في المستقبل ترتبط بالحوادث التي حدثت بالفعل، وبالحوادث التي هي الآن في سبيل الحدوث، ترتبط بهذه وتلك بروابط تجعلها وإياها تيارًا متصلًا على نحو يتيح لنا أن نتخذ منها أدلة نستشهد بها عند اختبارنا لمدى صدق ما نتذكره عن الماضي، وما نقدر له الصواب تقديرًا مؤقتًا، مما يتصل بما أديناه وبما قد حدث لنا في الماضي. وإن انفصامًا ملحوظًا يقع في اتصال مجرى التتابع في الحوادث المستقبلة أو القادمة مع الحوادث التي نظنها قد وقعت لنا في الماضي، ليكفي — على وجه العموم — لكي نعتقد بأن ما قد ظنناه صوابًا هو باطل إن لم يكن وليد الخيال؛ ومن ناحية أخرى، فإن كثرة تكرار التأييد الذي تؤيد به الحوادث المقبلة أحكامنا الزمنية التي أنشأناها من تذكر الماضي، ليزودنا بثقة عملية في إمكان الركون إليها بصفة عامة، ولما كانت عملية البحث عملية متصلة، كانت النتائج التي ننتهي إليها بمنهجنا هي الأساس الذي يبرر لنا أن نركن إلى المعطيات الأولية ونعدها كافية حتى لو لم تكن في ذاتها كافية كفاية مادية؛ إذ إن هذه الثقة (ثقتنا في صدق السالف على أساس صدق ما قد نتج عنه) تجعلنا نعتاد التصرف على فرض أن المعطيات الأولية كانت دقيقة دون أن نخضعها لاختبارات منطقية خاصة؛ وحتى الحالات التي إذا ما نظر إليها نظرة سطحية خلقت اعتقادًا بأن تذكر المتذكر لماضية ليس من قبيل الأحكام المستدلة، بل هو من قبيل «المعرفة المباشرة أو الحدسية»؛ أقول إنه حتى هذه الحالات هي بذاتها الحالات التي إذا فحصت عن كثب، تبين «أنها أمثلة من بنائنا لتتابعات من الحوادث وقعت على أمد فسيح من الزمن»؛ وعلى وجه الجملة فإن ركوننا إلى ما نعيد إقامته من خبرتنا الشخصية الماضية، ليجد ما يؤيده مرة بعد مرة في مجرى الحوادث المقبلة، حتى لنرى أنفسنا قد اعتمدنا عليه دون إخضاعه لاختبارات خاصة؛ فلسنا نلجأ إلى مثل هذه الاختبارات الخاصة إلا في حالات الشك الشديد. وربما بدا أننا قد أنفقنا وقتًا طويلًا في مناقشة نقطة هي في ظاهرها غاية في الوضوح، أو هي نقطة إن لم تكن واضحة فهي على كل حال ليست بذات أهمية كبيرة؛ لكن الأمر ليس كذلك في حقيقته، لأن القول بأن كل قضية زمنية هي قضية تروي رواية، معناه أن القضية إنما قيلت عن مجرى من الحوادث المتتابعة، لا عن حادث معزول وحده في لحظة مطلقة من الزمن؛ وإن هذه الفكرة لتبلغ من الأهمية الجوهرية حدًّا يضطرنا أن نستيقن من صوابها بحيث لا يأتيها بعد ذلك شك معقول؛ وأبسط الأمثلة لذلك هو مثل التذكر؛ وما دامت قد سادت اليوم فكرة استعيرت من مذهب سيكولوجي لم يمحص، بأن التذكر حالة نعيد فيها إقامة الماضي إعادة «مباشرة»، فهي إذن فكرة ذات دلالة منطقية خطيرة. إننا لا نفتأ نصوغ أحكامًا تعيد بناء المشاهد الماضية التي تقع بأكملها خارج نطاق الخبرة الشخصية، حتى ليستحيل علينا أن ندخلها تحت نظرية المعرفة المباشرة أو المعرفة الواضحة بذاتها؛ فقد نجد إنسانًا ميتًا في ظروف لا يبدو من ظاهرها أنها تزودنا بالدليل الشاهد على زمن موته والطريقة التي مات بها؛ ومع ذلك فهنالك من الظروف ما يمكن مشاهدته، وها هنا نلجأ إلى فحص تحليلي نستخدم فيه ما يمكن استخدامه من أدوات ومن طرائق فنية؛ وعندئذٍ نحصل على معطيات حاضرة نجعلها أساسًا لاستدلال ما قد حدث في الماضي؛ فيزودنا الفحص الطبي بمعلومات نستدل منها زمن وقوع الموت على نحو التقريب كما نستدل منها شيئًا عن ظروفه المباشرة؛ كأن يُقال مثلًا إن الموت قد حدث منذ ثماني ساعات برصاصة أُطلقت من مسدس ذي عيار معين … إلخ، وهي نتائج لا تزودنا بها المعطيات في حد ذاتها لو قصرنا أنفسنا عليها وحدها، بل هي نتائج ننتزعها بعملية استدلالية، فتكون بمثابة تأويل للوقائع كما قد شهدناها مشاهدة مباشرة؛ والتأويل بدوره مستمد من أفكار ذهنية كنا قد حصلناها من الخبرة السابقة؛ وإنما تكون هذه الأفكار الذهنية مستوفية لما يقتضيه المنطق بالدرجة التي نكون قد حللنا بها خبراتنا الماضية تحليلًا نقديًّا؛ وذلك فضلًا عن أن القضايا التي نصوغ بها النتائج التي استدللناها، هي بغير شك مراحل وسطى (خلال السير في البحث) وليست هي بالمرحلة الختامية. وترانا نقول إن المعطيات تُقضى باستبعاد فكرة الانتحار أو إمكان حدوثه؛ وهي وإن تكن توحي بوقوع اغتيال، إلا أنها لا تدل على ذلك؛ فربما كان الرجل قد أصيب بالرصاصة عرضًا أو وهو في حالة الدفاع عن نفسه أثناء عراك نشب؛ ثم نأخذ في البحث بوسائل أخرى عن شواهد تدل على سرقة، وعن أشخاص ممن يكون لديهم الدافع الذي يحفزهم على القتل، وعن شهود ممن قد يكونون سمعوا صوت انطلاق الرصاصة أو رأوا العراك الذي نشب، وغير ذلك؛ وحين تتبين شخصية القتيل، يقوم بحث عن حركاته قبل موته؛ وهل كان يحمل معه نقودًا؛ ومَن أعداؤه؛ وأي تهديدات وجِّهت إليه، وما إلى ذلك؛ ولما كنت الآن لا أقصد إلى كتابة قصة بوليسية، فحسبي أن أشير إلى أن البينات تتألف (١) من وقائع هي الآن موضع مشاهدة ممكنة، وأن هذه الوقائع توصف في قضايا تشير إلى وقائع أخرى لازمتها في زمن الحدوث، و(٢) من معلومات نستمدها مما نتذكره من مشاهدات لنا سابقة؛ فإذا ما تجمعت لدينا هذه القضايا أصبحت المشكلة هي أن ننسجها معًا في نتيجة مدعمة، بأن الرجل الذي نحن بصدده قد لقيَ الموت على يدَيْ شخص آخر في لحظة معينة من الزمن، وفي ظروف من شأنها أن تخرط الفعلة فيما يعده القانون جريمة قتل من الدرجة الأولى (إذ مهما يكن لدينا من كثرة التفصيلات من المعطيات المادية، فهي تكون مشكلة من هذا الطراز المنطقي العام) وحل مشكلة كهذه محال إلا على أسس مسلَّمة مفروضة، وهي أن الموضوع المطروح للبحث يتألف من شوط زمني من حوادث متتابعة، وإلا على أساس شرط وهو أن المادة التي تحت أيدينا توفي بما تقتضيه المسلَّمة المذكورة؛ فمن جهة، تنشأ لدينا قضايا عن أشياء ممكنة المشاهدة الآن؛ مثال ذلك أن ليس هنالك أساس قانوني لاتهام أحد إلا إذا وجد جسم الجريمة؛ ومن جهة أخرى، تنشأ لدينا قضايا عن حوادث حدثت في الماضي؛ لكن لا هذه المجموعة من قضايا الماضي ولا تلك المجموعة من قضايا الحاضر المشاهد، تكون لها قوتها في البحث ما لم نستطع التدليل المعقول على قيام استمرار في الزمن بين ما يقابل هاتين المجموعتين من مواد الواقع؛ إذ ليس ما يستهدفه التحديد المنطقي إلا مجرى الحوادث الذي منه يتألف هذا التاريخ وليست القضايا التي نجمعها عن وقائع ماضية وعن وقائع يمكن مشاهدتها الآن، إلا وسائل نستعين بها على صياغة هذا الحكم الذي يروي عن تتابع الحوادث كيف تتابعت زمنًا؛ أما هذه القضايا في ذاتها فلا تزيد على كونها فقرات منفصلة عددها كذا؛ وليست هي بالكاملة ولا بالختامية؛ أضف إلى ذلك أن التاريخ الذي نكون بصدد تحديده يمتد إلى المستقبل، إذ يتوقف حدوث شيء ما في المستقبل على ضبط واتهام شخص معين يكون هو الذي اقترف جريمة القتل، كإعدامه أو سجنه. خذ حالة رجل تقدم بعد مضي فترة معينة من الزمن، على أنه صاحب الحق القانوني في عقار تركه شخص مات، ولكن العقار كان قد أُعطي لشخص ثالث باعتباره وارثه؛ وسنفرض هنا أن مقتضى هذه الحالة هو أنه إذا كان المدعي هو كما يدعي لنفسه أن يكون، لم يكن هنالك من شك في جانب القانون بأنه هو الذي يستحق العقار؛ وباختصار فالمشكلة هي مشكلة إثبات للشخصية؛ وإذن فالمطلوب هو قضية نقول فيها إن المدعي هو فلان أو ليس هو فلانًا — زيد مثلًا — أقول إن المطلوب هو قضية كهذه تفض موضوع النزاع، لكن هذه القضية لا تمثل الهدف الذي هو حسم الختام؛ بل هي مرحلة وسطى ووسيلة تفضي بنا إلى حكم عن التصرف النهائي الذي نتصرف به في العقار على أن القضية التي تثبت شخصية المدعي، لا تكون أداة نتوسل بها إلا إذا أقامت لنا اتصالًا تاريخيًّا، أو دلت على امتناع هذا الاتصال التاريخي بين الفرد المعلوم الذي قدمت قضايا معينة عن ماضيه، وبين الفرد الذي نكون عنه قضايا نقيمها على أساس مشاهدات قائمة الآن؛ فها هنا — كما هي الحال في المثل الذي أسلفناه — لا بد لنا من تكوين طائفة من قضايا عن وقائع راهنة، وأخرى عن حوادث ماضية؛ ولكن لا هذه المجموعة من القضايا ولا تلك تنهض برهانًا على شيء، كلا ولا اجتماعهما معًا ينهض برهانًا على شيء، حتى تسد الفجوة بينهما قضايا تصل مضموناتهما معًا في سلسلة زمنية متصلة الحلقات؛ أضف إلى ذلك أن الأمر يدخل فيه أيضًا نتيجة ستنشأ في المستقبل، وهي التصرف الأخير في العقار؛ وهذه النتيجة هي كذلك متصلة مع القضايا السابقة صلة زمنية، ما دامت هي الحلقة التي تتم بها سلسلة الحوادث؛ ولو أخذنا هذه النتيجة بمعزل عن سواها، لما كانت أحق بأن تكون هدف التحديد من مادة الحوادث الماضية أو مادة المعطيات المشاهدة في اللحظة الراهنة؛ كالبنية الجسدية للمدعي، ومظهره، وعلاماته المميزة له منذ ولادته، وغير ذلك. وما يصدق على المثلين اللذَيْن ذكرناهما لتوِّنا، يصدق على جميع الأحكام التي تنصب على الحوادث في خصائصها الزمنية؛ فليس ثمة ما يصح أن نقول عنه إنه حكم على حادثة ماضية، أو على حادثة تحدث الآن، أو على حادثة ستحدث في المستقبل، إذا أُخذت هذه الحادثة وهي بمعزل عن سواها؛ وإنما نشأت الفكرة القائلة بوجود أمثال هذه الأحكام، من نظرنا إلى القضايا التي هي وسيلة مادية لا غناء عنها للوصول إلى موقف تم تحديده، كما لو كانت تلك القضايا كاملة في ذاتها. إن النتائج التي بلغناها حتى الآن بما اتضح لها من أهمية من الناحية المنطقية بمعناها الخاص، لتزداد أهميتها تلك وضوحًا حين نتناول موضوع الأحكام التاريخية بالمعنى المألوف لكلمة تاريخ؛ ففي هذه الحالة الأخيرة لا تعود بنا حاجة إلى طول الوقوف عند نقطة الاتصال الزمني الذي يتسم به موضوع الحكم، كما كان بنا مثل هذه الحاجة حين تعرضنا للموضوعات التي فرغنا من بحثها؛ ذلك لأن أحدًا لا يجادل في أن التاريخ تاريخ؛ فالمسألة المنطقية المتضمنة تتخذ الآن صورة أكثر انحصارًا في نطاقها؛ فإذا سلمنا بالاستمرار الزمني، فماذا تكون العلاقة بين القضايا التي تُقال عن التتابع الذي امتد أمده على فترة طويلة من الماضي، والقضايا التي تُقال عن الحاضر وعن المستقبل؟ أيمكن للمجرى التاريخي المتضمن في القضايا التي تُقال عن الماضي والتي نسلم جميعًا لها بأنها قضايا تاريخية، أن تتخذ مكانها في الماضي، أم أنها تمد أطرافها حتى تشمل الحاضر والمستقبل؟ نعم إن من واجب المؤرخ بالطبع أن يلتمس حلولًا لمشكلات كثيرة فنية ومنهجية، إلا أن المشكلة المنطقية الرئيسية التي تدخل في قيام حكم مدعم يتناول موضوعًا تاريخيًّا، هي — في رأيي — المشكلة التي فرغنا توًّا من بسطها، وهي: ما الشروط التي لا بد لنا من استيفائها لكي تنشأ لدينا قضايا مدعمة عن حوادث الماضي في مجرى تتابعها؟ ولسنا بهذا السؤال نسأل إن كان في مقدورنا أن نصدر أحكامًا عن الحوادث البعيدة، بحيث تجيء تلك الأحكام مسندة إسنادًا كاملًا، كلا ولا هو سؤال عما إذا كان «يمكن للتاريخ أن يكون علمًا»؛ بل السؤال هو: على أي الأسس تكون بعض أحكامنا عن مجرى من حوادث الماضي أحق بالقبول من أحكام أخرى؟ فمن الحقائق الواضحة أن الشواهد التي تُساق برهانًا على القضايا التاريخية كافة يتحتم وجودها في اللحظة التي تُقال فيها تلك القضايا، وأن تكون مشاهدتها ممكنة عندئذٍ؛ وما شواهد التاريخ إلا أشياء كالمدونات والوثائق؛ والأساطير والقصص التي تنتقل سمعًا؛ والقبور والكتابات المحفورة؛ والأوعية والمدليات والخواتم؛ وأدوات النفع وأدوات الزينة؛ والمواثيق والإجازات الدراسية والمخطوطات والآثار والمباني وآيات الفن؛ والتكوينات الجغرافية الطبيعية القائمة وهكذا إلى ما ليس له حد؛ فحيث لا يكون الماضي قد خلف أثرًا أو بقية من أي نوع مما يمتد به البقاء إلى الحاضر، فمحال لتاريخه أن يروى؛ فالقضايا التي تُقال عن أشياء يمكن مشاهدتها عند إنشاء تلك القضايا، هي المرجع الأخير الذي نستدل منه حوادث الماضي؛ فعلى الرغم من صدق هذا القول صدقًا واضحًا، فلا بد من ذكره؛ لأنه إن كان المشتغلون بمصادر التاريخ الأولية يسلِّمون بهذا القول تسليمهم بأمور الواقع المألوف، فقرَّاء المؤلَّفات التي يكتبها المؤرخون على أساس ما قد وقع لهم من المصادر الأولية، يغلب عليهم الوقوع في خداع البصر، فلا يرون المشهد على حقيقته؛ فهم يرون أمامهم نتائج البحث الاستدلالي مُعَدَّة في صورتها الأخيرة؛ ولو كان لكاتب التاريخ خيال الأديب المسرحي، بدا الماضي أمام القارئ كأنما هو حاضر مشهود؛ ويُخَيَّل إليه أن المناظر الموصوفة والحكايات المروية إنما تجيء إليه عن مصدرها مباشرة، وليست هي بالبناءات التي بنيت استدلالًا؛ فالقارئ يأخذ النتائج كما يقدمها له المؤرخ وكأنها آتية إليه مباشرة، تقريبًا كما يفعل إزاء قصة محكمة البناء وهو يقرؤها. إن النظرية المنطقية معنية بالعلاقة القائمة بين الشواهد التي نجعلها أساسًا، والاستدلالات التي ننتزعها من الشواهد فتكون هي النتائج، وهي معنية كذلك بالطرائق التي تجعل هذه النتائج مدعمة بمقوماتها؛ فليس ثمة قضية وجودية — بالنسبة إلى النظرية المنطقية — لا تؤدي عملها إما (١) باعتبارها مادة يستعان بها على تحديد موضع المشكلة وتعيين أطرافها؛ أو (٢) باعتبارها أداة تشير إلى استدلال ما يجوز استخراجه بحيث تكون له درجة معلومة من الاحتمال؛ أو (٣) باعتبارها معينة لنا على وزن قيمة ما بين أيدينا من معطيات من حيث هي شواهد؛ أو (٤) باعتبارها تؤيد وتختبر نتيجة ما قبلناها على سبيل الافتراض؛ فلا بد لنا في كل خطوة — تمامًا كما هي الحال أثناء توجيهنا لأي بحث نجريه على ظروف طبيعية قائمة — من البحث عن حقائق تمس موضوعنا؛ ولا بد لنا من تكوين المعايير التي نختار على أساسها ما نختاره وننبذ ما ننبذه؛ فنجعل من تلك المعايير مبادئ عقلية نهتدي بها في تقدير ما للحقائق المعروضة أمامنا من وزن وقوة؛ وكذلك لا بد لنا من القيام بإجراءات عملية نرتب بها وننظم الحقائق التي تعتمد على ما لدينا من أفكار عقلية منسقة؛ فمن أجل هذه الأمور كلها نرى كتابة التاريخ مثلًا من أمثلة الحكم، من حيث يكون الحكم حلًّا — عن طريق البحث — لموقف مشكل. فالمهمة الأولى في البحث التاريخي — كما هي الحال في أي بحث آخر — هي المشاهدات الموجهة سطحًا وغورًا — أعني جمع المعلومات الأولية، ثم تأييدها بحيث تصبح موثوقًا بصدقها؛ والتأريخ الحديث معروف بما يتطلبه من عناء يكابده في هذه الأمور، وفي تطوير التقنيات الخاصة التي يستخدمها في جمع المعلومات الأولية ومراجعتها، من حيث الوثوق بصدقها ومن حيث قيمتها النسبية؛ فقد ارتقت علوم كعلم قراءة الكتابات المحفورة، وعلم قراءة الكتابات القديمة، وعلم المسكوكات القديمة، وعلم البناءات اللغوية، وعلم تنظيم المراجع، ارتقت هذه العلوم حتى بلغت من التطور حدًّا جد بعيد، باعتبارها تقنيات تساعد على أداء التأريخ لمهمته؛ ونتائج هذه الإجراءات المساعدة تراها مقررة في قضايا وجودية تُقال عن الحقائق التي تأيدت في ظروف خضعت لأقصى ما يمكن من ضبط التوجيه؛ ولا غناء عن هذه القضايا، كما أنه لا غناء في البحث الطبيعي عن القضايا الناتجة عن المشاهدة الموجهة؛ لكنها في ذاتها ليست قضايا تاريخية ختامية؛ بل لو أردنا دقة في التعبير قلنا إنها — وهي قائمة وحدها — ليست قضايا تاريخية على الإطلاق؛ إذ هي قضايا عما هو الآن موجود؛ لكنها تاريخية في مهمتها التي تؤديها، ما دامت تستخدم معطيات مادية لنقيم عليها بناءات استدلالية؛ فهي كسائر ضروب المعطيات، تختار وتوزن بالقياس إلى قدرتها على الوفاء بما هو مطلوب من كل ما يؤدي مهمة الشواهد. وينتج عن هذا أنها نسبية تختلف باختلاف المشكلة المطروحة؛ ولو نظرنا إليها بمعزل عن مشكلة ما، كانت كمواد البناء من طوب وحجر وخشب يجمعها من يعتزم بناء منزل قبل أن تكون لديه خطة مرسومة لبنائه؛ فهو يحسب ويجمع المواد آملًا أن تتبين له فائدة بعض هذه المواد بعدئذٍ — وهو لا يدري بعد أيها يكون نافعًا — حين يتم له رسم الخطة؛ هذا إلى أنه بسبب علاقة القضايا التي تُقال عن الوقائع المشاهدة بمشكلة ما — قائمة بالفعل أو بالقوة — كانت هذه القضايا تتقابل تقابلًا دقيقًا مع المبادئ العقلية التي بوساطتها يتم ترتيب القضايا وتأويلها؛ فالأفكار والمعاني — باعتبارها فروضًا — ضرورية لبناء النتائج التاريخية، ضرورتها لأي بحث طبيعي من شأنه أن يؤدي إلى نتيجة محددة؛ فإذا كانت الأحكام التاريخية قد تأخرت في تكوينها عن الأحكام الطبيعية فذلك لا يرجع فقط إلى كون الأحكام التاريخية أكثر تعقدًا وأقل وفرة في معطياتها، بل يرجع ذلك أيضًا — إلى حد كبير — إلى كون المؤرخين لم ينموا عادة بسط البناءات العقلية المنظمة — بسطها لأنفسهم وإلى الناس عامة — التي يستخدمونها في تنظيم معطياتهم إلى الحد الذي يقرب من الدرجة التي تعرض بها الأبحاث الطبيعية إطارها العقلي؛ فكثيرًا ما يهمل ذكر ذلك الإطار العقلي (في حالة الأبحاث التاريخية) ليظل فرضًا سابقًا مضمرًا. ويكفي أقل تفكير لبيان أن المعاني العقلية التي تُستخدم في كتابة التاريخ هي المعاني المتصلة بالفترة التي يكتب فيها ما يكتب من تاريخ؛ فليس هنالك (لدى كاتب التاريخ) مادة يتخذ منها مبادئه وفروضه التي تهديه، فيما عدا المادة المتصلة بلحظته الحاضرة؛ ولكن لما كانت الثقافة تتغير، فالتصورات العقلية السائدة في ثقافة ما تتغير كذلك؛ فتنشأ بالضرورة وجهات جديدة للنظر وللتقدير ولتنظيم المعلومات الأولية؛ وعندئذٍ تُعاد كتابة التاريخ من جديد، فالمادة التي أُغفلت فيما مضى، تعرض الآن نفسها في صورة معطيات لأن التصورات العقلية الجديدة تثير مشكلات جديدة تتطلب الحل، فيلزمها مادة من الواقع جديدة، يُراد لها أن تُصاغ في جمل تصفها كما يراد لها أن تختبر، ففي لحظة معينة من الزمن تعتلي تصورات عقلية معينة مكان الرفعة في ثقافة عصر معين، حتى ليبدو أن استخدامنا إياها في بناء حوادث الماضي، هو أمر تسوغه «الوقائع» التي وجدناها في ماضٍ لم يكن من خلقنا؛ ونظرة كهذه إنما تضع العربة أمام الحصان؛ فالتبرير — إن حصلنا عليه — يبدأ من التحقيق الذي ينصب على الأفكار العقلية المستخدمة في الوقت الحاضر؛ كما نجد — مثلًا — مسوغ قبولنا للبناءات العقلية المستخدمة في إعادة بناء ما قد حدث في العصور الجيولوجية السابقة على ظهور الإنسان، بل على ظهور الحياة نفسها فوق الأرض نجد مبرر قبولنا لتلك البناءات العقلية فيما قد ثبت صدقه من قوانين العمليات الطبيعية الكيموية كما هي قائمة اليوم؛ مثال ذلك إقامتنا للعصور الحجرية القديمة فالحجرية الحديثة فالبرونزية، التي تقع فيها «الأزمنة السابقة على التاريخ» بما يندرج تحت تلك العصور من أقسام فرعية، إنما ترتكز على عالمنا بالعلاقة القائمة بين التحسينات التقنية من جهة وتغيرات الثقافة من جهة أخرى وعلمنا بهذه العلاقة إنما حصلناه وحققناه على أساس الظروف المحيطة بنا في عصرنا؛ فمثلًا لما كانت الاختلافات في درجة تهذيب الاتصال في الآلات الحجرية، لا تحمل معها تواريخها التي تعين أزمنة وقوعها واحدة بعد الأخرى، لا تحمل معها تلك التواريخ محفورة عليها، كان من الواضح أن اتخاذنا لتلك الاختلافات علامات تدل على مستويات متتابعة من الثقافة، هو من قبيل الاستدلال الذي ننتزعه من تصورات عقلية تؤيدها — إذا كان يؤيدها شيء على الإطلاق — وقائع قائمة بيننا الآن؛ فنحن بحاجة إلى جهاز نظري كبير، لكي يتسنى لنا به أن نربط معطيات منوعة بعضها ببعض، معطيات مثل ما قد أبقى عليه الدهر من قواقع، والآلات المصنوعة، وبقايا الرماد، والعظام والعُدَد ورسوم الكهوف، والتوزيعات الجغرافية، والمادة التي نحصلها من دراستنا لما لا يزال قائمًا بيننا من شعوب «بدائية»؛ فبغير هذه الارتباطات البعيدة الأطراف يستحيل المضي في إعادة بناء صورة عن أزمنة «ما قبل التاريخ». وتبيننا لما قد طرأ من تغير على حالات المجتمع ونظمه، هو شرط لا بد من توافره أولًا قبل أن ينشأ لنا حكم تاريخي؛ والأرجح جدًّا أن يكون تبين ذلك التغير قد جاءنا بخطًى بطيئة؛ فلنا أن نفترض بأن رؤية التغير قد كانت محصورة في الأزمنة الأولى على الطوارئ الكبرى التي لم تكن لتغيب عن البصر، كحركات الهجرة الجماعية وإصابات الطاعون، والانتصارات الحربية العظيمة، وما إلى ذلك، وطالما لبث الفرض قائمًا عن هذه التغيرات بأنها لم تكن سوى روايات كل منها قائم بذاته، لم يكن في وسعنا أن نقول إن التاريخ قد بدأ في الظهور؛ وإنما ظهر التاريخ حين أخذت تلك التغيرات يوصل بعضها ببعض لتكون أشواطًا متصلة أو دورات أو قصصًا لها بداياتها ونهاياتها؛ فالحكايات الصغيرة التي تنبئ عما قد حدث، هي مادة للتاريخ، لكنك لا تستطيع أن تقول عنها إنها هي نفسها التاريخ؛ فلما كانت فكرة التاريخ تتضمن استمرارًا متزايد الكثافة للحركة التي تسير في اتجاه معلوم نحو نتائج مقررة، كان المبدأ العقلي الأساسي الذي يضبط لنا تحديد مادة الموضوع تحديدًا يجعلها موضوعًا تاريخيًّا، هو مبدأ اتجاه الحركة؛ فلا يمكن كتابة التاريخ جملة؛ بل لا بد من انتقاء خيوط من التغير، ثم تنظم المادة المختارة تنظيمًا فيه تتابع، وفق اتجاه التغير الذي يميز خيط الحوادث الذي اخترناه؛ فالتاريخ تاريخ شعوب وتاريخ أسرات حاكمة؛ وهو تاريخ سياسي وكنسي واقتصادي؛ هو تاريخ للفن وللعلم والدين وللفلسفة؛ فحتى إذا ما نسجنا من هذه الخيوط نسيجًا واحدًا، ابتغاء أن ننشئ منها صورة شاملة تستوعب حركة نقول عنها إنها كاملة، فلا بد للخيوط المتفرقة أن يُعزل كل منها على حدة أولًا، لنتتبع كلًّا منها في مجراه. ومن قبولنا لفكرة أن نتائج التاريخ المحددة التي جاءت عن طريق الاستدلال، إنما تتوقف على ما يسبق ذلك من اختيارنا لاتجاه ما، تتجه إليه الحركة، أقول إن من قبولنا لهذه الفكرة يلزم لزومًا مباشرًا أمر ذو أهمية منطقية أساسية؛ وهو أن كل بناء تاريخي هو بالضرورة قائم على اختيار شيء دون شيء؛ وإذا كان محالًا علينا أن نعيد الماضي بأسره، وأن نعيش ذلك الماضي مرة أخرى؛ فقد يظن أن هذا المبدأ هو أوضح من أن يستحق أن يوصف بأنه هام؛ ولكنه مع ذلك هام لأن الاعتراف به يضطرنا إلى توجيه انتباهنا إلى كون كل شيء في كتابة التاريخ يعتمد على المبدأ الذي يتخذ لتوجيه عملية الاختيار فهذا المبدأ هو الذي يقرر القيمة التي ننسبها إلى الحوادث الماضية؛ فماذا نقبل من تلك الحوادث وماذا نحذف؟ وكذلك هو الذي يقرر كيف يجب للوقائع المختارة أن تنظم وأن ترتب؛ هذا فضلًا عن أننا إذا اعترفنا بأن عملية الاختيار أولية وأساسية، اضطررنا إلى قبول النتيجة التي تلزم عن ذلك الاعتراف، وهي أن التاريخ كله مكتوب — بالضرورة — من زاوية اللحظة الحاضرة؛ وأنه لا يكون تاريخًا للحاضر فحسب، بل يكون كذلك تاريخًا لما نحكم عليه في عصرنا الحاضر بأنه هام، وليس لنا من ذلك مفر. ويعمل الاختيار بطرق ثلاث؛ فأول اختيار في الترتيب الزمني، يقوم به أهل الماضي الذين نكتب الآن تاريخهم؛ وهم يقومون به خلال نفس العصر الذي كانوا يعيشون فيه؛ فقد كتب هيرودوت — كما يقول — «حتى لا تنسى على مر الزمن الأشياء التي تم أداؤها» ولكن ما الذي حدد له اختياره للأشياء التي لا يجوز أن تنسى؟ حدد له ذلك إلى حد ضئيل — ولا شك — ميوله وأذواقه الخاصة؛ فمثل هذه العوامل لا يمكن استبعادها بأية حال؛ ولكن لو كانت هذه العوامل هي المعول الوحيد أو المعول الرئيسي، لانحدر تاريخه نفسه إلى النسيان بعد قليل؛ إنما المعول الحاسم هو ما كان هامًّا في أنظار الشعب الأثيني، الذين كتب لهم ما قد كتب، بصفة مباشرة؛ المعول هو الأشياء التي عدها ذلك الشعب جديرة بالتخليد مما قد اشتملت عليه حياتهم وأعمالهم؛ فقد كان لهم هم أنفسهم تقديراتهم الخاصة لما يكون ذا قيمة، وكانت هذه التقديرات تعمل على أساس الاختيار؛ فالأساطير التي تناقلوها، والأشياء التي فاتهم أن يعيدوا روايتها وآثارهم ومعابدهم، وغير ذلك من المباني العامة؛ وعملاتهم؛ وشواهد قبورهم؛ واحتفالاتهم وشعائرهم، هي أمثلة من التقويمات التي كانت أداة للاختيار، والتي قرروها لأنفسهم بأنفسهم؛ والذاكرة أداة للاختيار؛ والذكريات التي هي ذكريات شعبية وباقية على الزمن، لا الفردية العابرة، هي المادة الأولية التي يعمل في حدودها المؤرخون الذين هم على وعي وعلى قصد فيما يعملون؛ ويقوم التراث الشعبي وأدوات العيش والآثار الباقية على الزمن، تقوم هذه الأشياء عند الشعوب الأكثر تخلفًا من سواها، بنفس المهمة، ومهمة التقدير الذاتي الذي تقرره الشعوب الحية لنفسها في أوجه نشاطها وأوجه إنتاجها؛ أقول إن تلك الأشياء عند الشعوب المتخلفة تؤدي هذه المهمة، رغم كوارث الدهر التي تحيق بها حينًا بعد حين. ثم يجيء المؤرخ فيضيف مبدأً آخر للاختيار، إذ يختار لنفسه أن يكتب تاريخ أسرة حاكمة، أو تاريخ عراك ناشب لبث أمدًا طويلًا، أو عن نشأة ونمو علم أو فن أو دين أو الوسائل التقنية المستخدمة في الإنتاج؛ وهو إذ يؤدي هذا الذي يؤديه، تراه يقدم عمله بمسلَّمة يفترض بها وجود سيرة أو شوط زمني أو دورة من دورات التغير؛ فالاختيار هنا هو مصادرة منطقية بمعناها الحقيقي الذي يتوافر للمسلَّمات التي يعترف لها بهذه الصفة في قضايا الرياضة؛ فمن هذا الاختيار تلزم تقديرات نجعلها أساس الانتقاء بالنسبة إلى (١) المادة التي تكون تحت تصرف المؤرخ من حيث قيمتها النسبية وصلتها بموضوع بحثه، و(٢) الطريقة التي ترتب بها أجزاء المادة بعضها مع بعض؛ فلم تحدث قط حادثة يصح أن يُقال عنها إنها مجرد قيام أسرة حاكمة، أو مجرد حادثة علمية، أو مجرد حادثة تقنية؛ إذ لا تكاد الحادثة تتخذ مكانها باعتبارها حدثًا من تاريخ معين، حتى يكون إصدار الحكم عليها قد انتزعها من مجموعة السياق الذي كانت هذه الحادثة جزءًا منه، ثم وضعها في مكانها من سياق جديد؛ على أن يتحدد هذا السياق وهذا المكان منه، خلال عملية البحث، فليسا هما بالخصيصتين اللتين تصفان الموجودات الأصلية بحكم طبائعها؛ فقد لا تجد مكانًا آخر يظهر فيه عمل الحكم في تمييزه للأشياء وفي خلقه للمركبات، ظهورًا ملحوظًا بالقدر الذي تلحظه به في استثارة المؤرخ لحوادث الماضي وإعادة بنائها؛ ولن تجد مكانًا آخر يسهل عليك فيه أن تجد حالة أوضح تمثيلًا للمبدأ القائل بأن الصور الجديدة تتجمع حول المادة الوجودية عندما تخضع هذه المادة للبحث، وبسبب خضوعها ذاك، أقول إنك لن تجد مكانًا يسهل عليك فيه أن تجد حالة كهذه، سهولته في إنشاء التاريخ. ويتضح هذا الذي قلناه وضوحًا جليًّا في الحقيقة المعروفة المألوفة، وأعني بها ازدواج المعنى الذي نجعله لكلمة تاريخ؛ فالتاريخ هو ما قد حدث في الماضي وهو أيضًا العملية الذهنية التي تعيد بناء تلك الحوادث في لحظة من الزمن تالية لحدوثها؛ وأما الفكرة التي تقول بأن البحث التاريخي إن هو إلا إعادة عرض الحوادث التي حدثت ذات يوم «كما قد حدثت فعلًا» ففكرة بلغت من السذاجة حدًّا غير معقول؛ فقد تكون ناموسًا منهجيًّا له قيمته، إذا فهمناها على أنها تحذير لنا كي نجتنب الميل مع الهوى، وأن نجاهد في سبيل الحصول على أكبر قدر ممكن من الموضوعية والنزاهة، ثم إذا فهمناها على أنها دعوة تحفزنا إلى الحذر والتشكك عندما نتعرض لتحديد الصدق التاريخي للمادة المعروضة علينا باعتبارها مما يمكن أن يصبح هو معطياتنا الأولية؛ أما إذا أخذنا الفكرة بأي معنًى آخر، كانت لغوًا لا يفيد؛ وذلك لأن البحث التاريخي عملية (١) فيها اختيار وترتيب، و(٢) توجهها المسائل والمعاني العقلية التي تسود الثقافة القائمة في العصر الذي يكتب فيه ذلك البحث التاريخي؛ نعم إنه ليحق لنا بغير شك أن نقول إن شيئًا معينًا قد حدث على نحو معين في لحظة معينة من الماضي، ما دمنا قد حصلنا على المعطيات الكافية، وتناولناها بالنقد؛ لكن عبارة: «قد حدث الشيء الفلاني فعلًا بهذه الطريقة» لا تكون لها منزلتها ولا يكون لها مغزاها إلا داخل الإطار، الذي تجعله الكتابة التاريخية حدودها ومسرحها، فالعبارة لا ترسم الشروط المنطقية للقضايا التاريخية، وهي فوق ذلك لا تحدد انطباق هذه القضايا على الحوادث عند حدوثها أول مرة، بحيث تكون تلك القضايا وهذه الحوادث شيئًا واحدًا؛ فالحوادث الأصلية في وقوعها الفعلي الذي حدث، ليست أصليتها إلا في أسبقيتها وفي كونها معروضة للاختيار وللتنظيم على أساس ما هو قائم الآن من مشكلات ومفاهيم. ومبدأ آخر له أهميته، وهو أن كتابة التاريخ هي نفسها حادثة تاريخية؛ فهي شيء يحدث، ويكون لحدوثه نتائج في الوجود الفعلي؛ فكما عملت الأساطير والآثار والمدونات الموروثة التي كانت لأثينا — مثلًا — على تحوير مجرى الحياة الأثينية فيما بعد، فكذلك قل عن البحث التاريخي وإنشاء التاريخ إنهما عاملان في توجيه سير التاريخ؛ فالشعور بالقومية الذي احتد في عصرنا الراهن — مثلًا — لا يمكن تفسيره دون أن نحسب حسابًا للكتابة التاريخية؛ فالفكرة الماركسية عن الدور الذي قامت به في الماضي قوى الإنتاج من حيث تحديدها لعلاقات الملكية، وعن الدور الذي قام به نزاع الطبقات في الحياة الاجتماعية، أقول إن هذه الفكرة الماركسية قد عملت هي نفسها — خلال أوجه النشاط التي خلقتها — على حث قوى الإنتاج على أن تكون عاملًا في تحديد العلاقات الاجتماعية المستقبلة؛ كما عملت كذلك على ازدياد ما لتنازع الطبقات من مغزًى؛ فكون التاريخ — من حيث هو بحث يظهر في صورة إعادة بناء الماضي — هو نفسه جزء مما يحدث تاريخيًّا، عامل هام في أن تكون كلمة «تاريخ» مزدوجة المعنى؛ وأخيرًا فإن القضايا التاريخية هي المجال الذي تظهر فيه — أوضح ما تكون — الدلالة المنطقية لاهتمامنا الذي أبرزنا به مسألة الاتصال الزمني الذي يصل الماضي بالحاضر والمستقبل بحيث يجعلها تيارًا واحدًا، وذلك عندما تناولنا بالحديث القسمين الأولين من هذا الفصل. إن مناقشتنا — بأسرها — للتحديدات التاريخية، قد كشفت لنا عن قصور وسطحية في الفكرة القائلة بأنه ما دام الماضي هو بغير شك ما تنصب عليه تلك التحديدات مباشرة، فالماضي — إذن — هو وحده موضوع التاريخ الذي يستوعبه بأكمله؛ فهنالك من الكتب ما يعالج تاريخ إسرائيل وتاريخ روما وتاريخ أوروبا في العصور الوسطى، وهكذا وهكذا، ومنها أيضًا ما يعالج الأمم والنظم الاجتماعية، والأوضاع الاجتماعية التي كانت قائمة فيما مضى؛ فلو أننا استقينا فكرتنا المنطقية عن التاريخ مما هو محتوًى بين أغلفة هذه الكتب، لانتهينا إلى نتيجة هي أن التاريخ ينصب على الماضي وحده دون سواه؛ لكن الماضي بالضرورة المنطقية هو ماضٍ لحاضر، كما أن الحاضر ماضٍ لما هو مقبل وإن يكن لا يزال قائمًا الآن؛ ففكرة اتصال التاريخ تستلزم هذه النتيجة بالضرورة؛ وذلك لأن التغيرات لا تصبح تاريخًا، ولا تكتسب دلالة زمنية — ونحن هنا نعيد ما قد أسلفنا ذكره — إلا إذا فهمناها على ضوء اتجاه يسير من شيء ما إلى شيء ما؛ نعم إنه يكفي لأغراض هذا البحث المعين أو ذلك أن يعين موضع «من» و«إلى» المذكورين عند أي لحظة من الزمن وأي مكان نختارهما اختيارًا على أساس معقول، إلا أنه من الجلي أن هذا التعيين (لطرف البداية وطرف النهاية مكانًا وزمانًا) أمر نسبي يختلف باختلاف غرض البحث والمشكلة المبحوثة، وليس هو شيئًا متأصلًا في طبيعة الحوادث السائرة في مجراها؛ فحالة الأمور كما هي قائمة الآن هي بوجه من الوجوه الحد الراهن الذي نجعله طرف النهاية؛ لكنه هو نفسه طرف يتحرك بغير انقطاع؛ فإذا جعلناه موضوعًا تاريخيًّا كان شيئًا مما قد ينظر إليه مؤرخ المستقبل نظرته إلى طرف البداية الذي يبدأ عنده مجرى الزمن المتصل. إن ما هو الآن ماضٍ، كان ذات يوم هو الحاضر الحي؛ كما أن ما هو الآن حاضر حي، هو في طريقه فعلًا إلى أن يصير ماضيًا بالنسبة إلى حاضر آخر، فلا قيام لتاريخ إلا على أساس الحركة التي تتجه نحو نتيجة معينة، أي نحو شيء نعده وليد ما قد حدث، سواء كان ذلك الشيء هو «نشأة وسقوط الإمبراطورية الرومانية» أو «استرقاق الزنوج في الولايات المتحدة» أو «المسألة البولندية» أو «الثورة الصناعية» أو «ملكية الأراضي الزراعية»؛ فاختيارنا لما يكون نتيجة ختامية، أو لما يكون نهاية نختم بها سير البحث، هو الذي يحدد لنا اختيار المادة وتنظيمها، مع توجيهنا للأمر — طبعًا — توجيهًا نقديًّا ملائمًا نمحص به صدق الشواهد؛ غير أن اختيار الغاية أو النتيجة الختامية هو علامة على اهتمام شخصي معين، وهذا الاهتمام إنما يمتد بأطرافه إلى المستقبل؛ وهذه علامة تدل على أن النتيجة ليست أمرًا ختاميًّا، وأن الخاتمة التي نتحدث عنها ليست هي النهاية من حيث الوجود الفعلي؛ فأهمية المسائل الاجتماعية التي تتطور في يومنا هذا بسبب قوى الإنتاج الصناعي والتوزيع، قد أصبحت مصدرًا لاهتمام جديد بالتاريخ من وجهة نظر اقتصادية؛ وأما حين تبدو المسائل الجارية وكأنما هي سياسية في أغلبها، فعندئذٍ تكون الكلمة العليا للجانب السياسي من جوانب التاريخ؛ وسرعان ما يجد من يشتد به اهتمامه بالتغيرات المناخية، الفرصة مواتية ليكتب التاريخ من زاوية الأثر الذي أحدثته التغيرات الكبرى التي وقعت على مساحات واسعة في توزيع المطر مثلًا. وإذن فهناك للسير طريق مزدوج؛ فمن جهة، تضع التغيرات الحادثة في الوقت الحاضر، والتي بحدوثها هذا تلفت المشكلات الاجتماعية لفتة جديدة، تضع هذه التغيرات ما قد كان لحوادث الماضي من دلالة في ضوء جديد؛ إذ تخلق أمورًا جديدة لتكتب قصة الماضي كتابة جديدة من هذه الزاوية الجديدة؛ ومن جهة أخرى؛ فما دام حكمنا على دلالة الحوادث الماضية سيتغير، فإننا بذلك نكسب أدوات جديدة نستعين بها على تقدير قوة الظروف الحاضرة من حيث هي مبعث لممكنات المستقبل؛ فالفهم البصير للتاريخ الماضي هو — إلى حد ما — رافعة نحرك بها الحاضر بحيث يتجه نحو مستقبل ذي صورة معينة؛ فليس الحاضر التاريخي مقصورًا على إعادة توزيع لعناصر الماضي بما نجريه عليها من تباديل وتوافيق؛ فالناس لا هم منصرفون إلى نقل الظروف التي ورثوها نقلًا آليًّا يغير من وضعها الزمني فحسب، ولا هم منصرفون إلى مجرد إعداد أنفسهم لما عساه أن ينشأ في المستقبل؛ بل إن لهم من مشكلاتهم الحاضرة ما يتطلب الحل، كما أن عليهم أن يقوموا بتكييف أنفسهم بما تقتضيه شئونهم الراهنة؛ فلئن كانوا يواجهون المستقبل، فإنما يواجهونه من أجل الحاضر لا من أجل المستقبل نفسه؛ وهم إذ يستعملون ما قد هبط إليهم من تراث عن الماضي، مضطرون إلى تعديله بحيث يصلح لسد حاجاتهم الحاضرة؛ وهذه العملية من شأنها أن تخلق حاضرًا جديدًا يطَّرد فيه سير العملية نفسها؛ ولما كان مُحالًا على التاريخ أن يفر من سير الحوادث نفسه، فلا بد له دائمًا من أن تُعاد كتابته؛ لأنه كلما ظهر حاضر جديد، أصبح الماضي ماضيًا بالنسبة لحاضر يختلف عن الحاضر الجديد؛ وهكذا نرى الحكم الذي يقع مكان الاهتمام فيه على الجانب التاريخي أو الجانب الزمني من جوانب العملية التي نراجع بها تحديدنا للمواقف اللامتعينة، نرى هذا الحكم شاهدًا أخيرًا على أن الحكم ليس مجرد تصوير لما قد كان موجودًا بالفعل، بل هو في حد ذاته تغيير للكيفية التي يكون عليها الوجود الفعلي؛ ولا حاجة بنا إلى ذكر الحقيقة القائلة بأن تغيير الكيف في الوجود الفعلي آنًا بعد آنٍ، هو نفسه أمر يخضع لما لا بد أن يخضع له كل بحث وطيد من شروط. (٢) لقد انصرفنا بانتباهنا فيما أسلفناه إلى قضايا الرواية التي نسوق بها الحكم الوجودي، تاركين القضايا الوصفية، غير أن الأشياء التي تحدث إنما تقع في مكان بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، فإذا كان المؤرخ — من حيث هو قاصٌّ لرواية — إنما يعني قبل كل شيء بالحوادث المتتابعة من ناحية تتابعها، إلا أنه على وعي تام بأن الحوادث لا تحدث في الزمن فحسب، بل هي تقع في مكان ما، وأن الظروف القائمة في ذلك «المكان المعين» إنما يعاصر بعضها بعضًا، كما أنها تعاصر أشياء تقع في أمكنة أخرى؛ فالمواضع والأمكنة والمواقع كلها نسبية بعضها إلى بعض، وهي تتعاصر بعضها مع بعض؛ فإن كان الزمن المجرد من حيث هو كائن رياضي، يمكن تصوره ذا بعد يتجه في خط واحد، إلا أن الحوادث لا تحدث في حالة التجريد، ولهذا فخط التتابع التاريخي يتألف من عدة أبعاد؛ ولو فرضنا أن حادثًا واحدًا هو الذي حدث في عام ١٤٩٢م — مثلًا — لما كان عام ١٤٩٢م لحظة من التقويم التاريخي، بل كان ليكون فكرة رياضية، أو مجرد عدد بحت؛ فكون التاريخ لا يمكن كتابته بمعزل عن الجغرافيا، ولا الرواية يمكن أن تسير بغير وصف، ليس ناشئًا عن مجرد اختيار يختاره المؤرخون على هواهم، ولا ناشئًا عن الرغبة في تلوين الحوادث وصبغها صبغة أدبية. ومن الناحية الأخرى لا تتوافر للوصف دلالته وهو بمعزل عن الرواية؛ ففي كتابة سيرة لحياة، قد نستطيع أن نرسم صورة بالكلمات أو بإعادة لوحة لصاحب السيرة أو صورة فوتوغرافية له، لكن هذه الصورة تظل بغير معنًى ما لم تقترن بعبارة دالة على عمر الشخص، أو بتقدير لعمره، سواء أجاء ذلك في صراحة أم جاء استدلالًا من الوصف اللفظي أو الوصف التصويري؛ والوصف يتألف دائمًا من خصائص متعاصرة ارتبط بعضها ببعض على نحو يضم شيئًا ما أو حادثة ما في إطار أو في نطاق واحد، بحيث يتميز الشيء الموصوف بذاتية تجعله الكائن الفرد الذي هو ما هو؛ والأجزاء التي يتكون منها الوصف هي علامات استشهاد، بمعنى أنه مهما يكن من أمر المهمة التي يؤديها الوصف من الناحية الأدبية أو الجمالية، فمهمته المنطقية الوحيدة هي تمكيننا من تحديد ذاتيته تحديدًا يساعدنا على الحكم بما يكون لهذه القضية أو تلك من صلة بالموضوع الذي نكون بصدده؛ فقد يُقال عن شخص ما إنه يطابق وصفًا معينًا؛ وقد وجد أن ترتيبًا معينًا لخطوط منحنية تتجاور على بصمة الإصبع هو أنجح وسيلة لتمييز شخصية صاحبها؛ ووصفنا لشكل هندسي هو أن نمر على خطوطه الخارجية، لا من أجل غاية جمالية، بل لنبين ذلك الارتباط الذي يصل سماته بعضها ببعض ربطًا يمكننا من تحديد ذاتيته تحديدًا أكيدًا؛ ويكون الوصف العلمي وافيًا من الجهة المنطقية، بالدرجة التي يكون بها مؤلفًا من مجموعة سمات متعاصرة من شأنها أن تميز ذاتية الشيء الموصوف تمييزًا يجعل أي شيء له تلك السمات ويجعل الأشياء وحدها التي لها تلك السمات، منتمية إلى النوع الفلاني؛ فقولك عن شيء إن له الوصف الفلاني معناه أنه يندرج في النوع الفلاني؛ وقد كان الوصف الصحيح في البناء العلمي عند أرسطو، كما رأينا، هو كذلك بالضرورة التعريف النهائي الصحيح للشيء الموصوف؛ وأما في العلم الحديث فالوصف الصحيح لشيء ما هو على وجه الدقة وسيلة تمييز ذاتيته، غير أن التمييزات لذاتيات الأشياء أمر نسبي يختلف باختلاف المشكلة التي نكون بصدد حلها؛ فالذاتية المحددة قد تكون مادية أو نفسية أو خلقية، حسب الضرورة التي يقتضيها ما نحن بحاجة إليه من محمولات يجوز لنا حملها على الموضوع الخاص الذي نتناوله بالنظر عندئذٍ؛ وكل محمول — كما رأينا — هو عبارة عن تغيير في الكيف، أو هو وسيلة إجرائية من شأنها أن تخلق تغييرًا في الكيف، ولذا فالمحمول يتضمن حدوث تغير، ولو وضعنا هذا التغير في عبارة، لجاءت هذه العبارة زمنية روائية. وعلى ذلك فالعبارات الوصفية هي قضايا وجودية نتوسل بها إلى حكم نصدره، لكنها ليست في ذاتها نهائية ولا كاملة، أي إنها ليست هي الحكم نفسه؛ فالصفة الواحدة قد تفيد من حيث هي علامة نشخص بها حقيقة الموقف، كما تكون صفة الاصفرار في إحدى حالاتها المعينة، وهي الحالة التي نراها في لهب النار، علامة تنبئ بوجود مادة الصوديوم؛ لكن سمة واحدة لا تكون إلا بداية للوصف، أي إنها وصف ناقص؛ وهكذا تكون عبارة «الرجل ذو القناع الحديدي» جزءًا من وصف، لكنها ليست في ذاتها وصفًا كاملًا؛ وإنما تصبح وصفًا حين ترتبط ببقية السمات التي تقوم إلى جانبها في وقت واحد؛ ويصدق الشيء نفسه على عبارة «مؤلف خطابات يونيوس»؛ وعبارة «الرجل الذي اخترع أول عجلة» وكثير غير ذلك من العبارات؛ فإذا أردنا للرجل ذي القناع الحديدي أن تتعين ذاتيته (أي أن يتكون عنه وصف كامل) فعندئذٍ يدخل فورًا في تتابع روائي؛ وإذا ما أكملنا الوصف الجزئي في هذه العبارة: «مؤلف قصص ويفرلي» بأن ربطناه بغيره من خصائص سير وولتر سكت، فعندئذٍ يصبح في مستطاعنا فورًا أن ننشئ عددًا كبيرًا من القضايا التاريخية عن مؤلف قصص ويفرلي؛ وأما إذا لم يكن «لسير وولتر سكت» من الخصائص المعروفة غير كونه مؤلف قصص ويفرلي، لما كان هنالك روابط في الوجود الفعلي تربط هذه الصفة بغيرها مما هو قائم معها، ولما ازددنا عنه علمًا بعد ذكر هذه الصفة عما كنا قبل ذكرها؛ فجملة «سير وولتر سكت هو مؤلف قصص ويفرلي» ليست قضية كاملة إلا لأن عددًا من السمات الأخرى يمكن نسبتها إليه بالإضافة إلى كونه مؤلف تلك القصص، كأن نعلم أنه رجل ولد في زمن معين، ويعيش في مكان معين، وكتب قصائد من الشعر، وله جماعة معلومة من الأصدقاء، ويتصف بالصفات الفلانية؛ والقضية — من وجهة نظر أخرى — تربط سيرة رجل معين بحركة الأدب النامية في بلده، وهذه بدورها قضية تاريخية. فافرض أن سائلًا قد سأل: «ما ذلك؟» فكلمة «ذلك» هنا هي بغير شك غير متعينة إلى حد كبير، وإلا لما سأل السائل عن ماذا عساه أن يكون؛ غير أنه لا بد أن يكون فيها حد أدنى من التحديد الوصفي، وإلا لما عرف السائل ولا عرف المسئول أي شيء يعنيه السؤال؛ إذ قد يكون السؤال عندئذٍ عن أي شيء من مجموعة كبيرة منوعة من الأشياء التي تقع في موقع البصر على امتداد الذراع والسبابة اللتين تؤديان فعل الإشارة؛ فذلك الذي يُشار إليه قد يكون — في واقع الأمر — شيئًا معتمًا، أو شيئًا تحرك فجأة، أو غير ذلك من الصفات التي تصفه من بعض نواحيه؛ لكن السؤال يدل على أن الصفتين معتم وتحرك فجأة لا تبلغان من قوتهما الوصفية حدًّا يكفي لتعيين الشيء تعيينًا يساعدنا في المشكلة التي نحن إزاءها؛ فالوصف في هذه الحالة ناقص لهذا السبب؛ ولكنه وصف — مع ذلك — لا تعوزه جميع الصفات المبرزة لذاتية الشيء والمميزة له من سواه؛ لأنه لو كانت هذه هي الحالة لكان معناه امتناع الأساس الذي يمكننا من المضي في الوصف؛ فراكب السفينة في عرض البحر إذ يقول لزميله: «هنالك جزيرة جبلية»، فيجيبه هذا الزميل بقوله: «كلا، بل هي سحابة» قد يكون الزميلان منصرفين بحديثهما إلى شيئين مختلفين ما لم يكن هنالك صفة وصفية ما تحدد ذاتية الشيء الذي يُشار إليه بكلمة «هنالك» وبكلمة «هي»؛ أي إن اشتراكهما في مدلول الإشارة يستلزم على الأقل حدًّا أدنى من الوصف؛ فلو كان لديهما هذا الحد الأدنى، كان اختلافهما هل تكون الصفة المميزة للشيء هي أنه «جزيرة» أو «سحابة» حافزًا مباشرًا يحفزهما إلى المضي في مشاهدات أخرى يحللان بها ذلك «الشيء» المجهول تحليلًا يكشفان به — إذا أمكن — من السمات ما يبرر اختيار أحد الوصفين دون الآخر؛ فالنظرية التي نوجه إليها النقد تخلط بين الوصف الناقص الذي تحمله معها كلمة «هذا» (وهو وصف ناقص لكنه يكون أساسًا لعمليات جديدة من مشاهدة، ابتغاء التأكد من تجاور سمات معينة تجاورًا يبرر تمييزنا للشيء الموصوف على أنه فرد من نوع معين)، وبين أن يخلو اسم الإشارة خلوًّا تامًّا من كل تمييز وصفي. وسنتناول بالحديث فيما بعد القضايا التي يكون موضوعها فردًا باعتبار ذلك الفرد عضوًا في نوع معين؛ لكننا في هذا الموضع من سياق المناقشة، نسترعي انتباه القارئ — في الواقع — إلى المعنى المزدوج لكلمتي برهان ودليل؛ فالبرهان إما أن يكون برهانًا عقليًّا، أي برهانًا ينتقل فيه الحديث في خطواته المتتابعة انتقالًا يستلزم دقة صارمة في استخراج الخطوة التالية من الخطوة السابقة؛ أو أن يكون برهانًا إشاريًّا؛ ففي حالة اختلاف الرأي هل يكون ذلك المرئي جزيرة أو سحابة، تنشأ أول الأمر فكرة عن مجموعة السمات المقترنة في كل من الحالتين، وهذا الاقتران في مجموعة السمات هو الذي يحدد إلى أي نوع ينتمي الشيء المشار إليه؛ ثم تجيء بعدئذٍ عمليات المشاهدة التي تقرر إلى أي المجموعتين الوصفيتين ينتمي الشيء المشار إليه؛ فإذا تبين أن «هذا» لا يتسم بالسمات التي تصف لتميز مفهومنا عن الجبال ومفهومنا عن «الجزر»، إذن فليس «هو» مما ينطبق عليه الوصف (القائل بأن المرئي جزيرة جبلية)؛ ولو كانت النظرية القائلة بأن اسم الإشارة لا يدل في القضية التي يرد فيها إلا على إشارة خالصة مجردة عن كل دلالة وصفية، أقول لو كانت هذه النظرية سليمة، لكان عدم انطباق القضية على الشيء المقصود بها راجعًا إلى خاصة ما من خصائص الحركة البدنية التي نؤدي بها فعل الإشارة، وهو سخف؛ فالمبدأ المنطقي الإيجابي الهام المتضمن هنا هو أنه في القضايا كافة ذات المضمون الوجودي، لا يكون البرهان أو الدليل إلا العملية التي يتاح لنا بها أن نقوم بإجراءات تحليلية في المشاهدة لنحدد بها المميزات التي تعين حقيقة الشيء الخارجي؛ فقوة البرهان إنما تكون في الشواهد لا في مجرى حديثنا نفسه؛ على أن إجراءات المشاهدة التي نجريها، إنما تتحكم فيها أفكارنا الذهنية أو ما لدينا من اعتبارات فكرية، لأن هذه هي التي تحدد الشروط التي لا بد من توافرها عندما نعين أنواع الأشياء تعيينًا وصفيًّا، معتمدين في هذا التعيين على اختلاف الأشياء في سماتها المشاهدة.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/13/
اتصال مجرى الحكم
للخبرة اتصال زمني؛ فثمة مجرى خِبْرِيٌّ متصل المضمون أو متصل الموضوع، ومتصل الإجراءات العملية؛ ولهذا المجرى الخِبْريِّ المتصل أساسه البيولوجي الواضح؛ وذلك أن البناءات العضوية — التي هي الشروط المادية لقيام الخبرة — ذات أمد زمني؛ فهي تمسك — عن غير قصد شعوري آنًا وعن قصد شعوري آنًا آخر — بنبضات الخبرة المختلفة، تمسكها معًا بحيث يتكون من هذه النبضات الخِبْرية تاريخ، كل نبضة من نبضاته تستمد كيانها من الماضي وتؤثر في المستقبل؛ غير أن تلك البناءات العضوية، مع احتفاظها بكيانها على أمد من الزمن، تتعرض كذلك لشيء من التحوير؛ أي إن اتصال بقائها ليس مجرد تكرار لذاتياتها؛ إذ إن كل نشاط تؤديه يترك «أثرًا» أو تسجيلًا لنفسه في الأعضاء التي قامت به؛ وبهذا يحدث تعديل إلى حد ما في البناءات العصبية المشتركة في القيام بنشاط معين، بحيث تصبح الخبرات المستقبلة مشروطة بما قد طرأ على البناء العضوي من تغير؛ ذلك فضلًا عن التغير الذي يطرأ إلى حد ما — بفعل كل وجه من أوجه النشاط السلوكي — في ظروف البيئة، التي تصبح هي المناسبات أو الحوافز التي تؤدي فيما بعد إلى خبرات جديدة. وقد اضطر «هيوم»، وهو الذي دفع تفتيت الخبرات إلى حده الأقصى، اضطر إلى إقامة مبدأ — هو مبدأ العادة — ليوازن به تفتيته لمجرى الخبرة إلى ذرات منفصلة، بحيث يتسنى له الحصول ولو على ما يشبه أن يكون رباطًا زمنيًّا يضمن للشيء من الأشياء أن يحتفظ بذاتيته الواحدة فترة من الزمن؛ إذ بغير هذه العلاقة الرابطة بين أجزاء الخبرة، يستحيل قيام الذاكرة كما يستحيل التوقع لما سيحدث مستقبلًا (دع عنك استحالة عمليتَي الاستدلال والتدليل)؛ لأن كل «انطباع» جديد سيكون (بناءً على نظرية هيوم) عالمًا منعزلًا قائمًا وحده، تنقصه الصفة التي تحدد ذاتيته؛ ولقد عد العادة «رباطًا ملغزًا»، لكنه كان مضطرًّا إلى التسليم بوجود رباط ليفسر به ثبات الأشياء على ذاتياتها، حتى وإن يكن ذلك الثبات وهمًا، وليفسر كذلك الذات الإنسانية التي يدوم بقاؤها خلال الخبرات المتتابعة، حتى إن كان بقاؤها ذاك وهمًا كذلك؛ وها هو ذا تقدم المعرفة البيولوجية اليوم قد أغنانا عن جانب «الإلغاز» في ذلك الرباط؛ إذ وجد أن نوعًا من الرابطة المتتابعة على لحظات الزمن، هو صفة أصيلة في طبيعة الخبرة كما أن من صفاتها الأصيلة في طبيعتها أن تكون ذات نبضات متميزة إحداها من الأخرى، لكنها مرتبطة بعضها ببعض في تيار واحد؛ ثم تجيء الظروف الثقافية فتعمل على مضاعفة الروابط، وتخلق صنوفًا جديدة من ربط الخبرات بعضها ببعض. وسيرنا في عملية البحث يصور ويجسد التيار الخِبْريَّ المتصل الذي أقامته العوامل البيولوجية والثقافية معًا؛ فكل بحث خاص هو — كما قد رأينا — سير نتقدم فيه خطوة بعد خطوة، ونراكم في الخطوة التالية ما قد جاءت به الخطوة السابقة، وذلك إبَّان قيامنا بإعادة تنظيم الظروف التي سبقت عملية البحث؛ ومعنى ذلك أن البحث الذي يتم في لحظة زمنية واحدة أمر محال؛ فمحال إذن أن يكون هنالك حكم (والحكم هو خاتمة البحث) منعزل وحده عما قد سبقه وعما سيأتي بعده؛ ولا يجوز لنا أن نخلط مع هذه الفكرة بالحقيقة الواضحة وضوحًا لا يستلزم ذكرها، وذلك بسبب أنها حقيقة في الواقع، وأعني بها حقيقة أن تكوين الحكم يتطلب فترة زمنية؛ فالذي أثبته هنا هو أن البحث الذي ينتهي إلى حكم، هو نفسه سير يتم فيه انتقال زمن يظهر أثره في مادة الوجود الخارجي؛ وإلا لما تحقق لنا حل للموقف المراد حله، بل كل ما يحدث عندئذٍ هو إحلالنا لاعتقاد ذاتي ليس لدينا ما يبرره، محل اعتقاد ذاتي آخر ليس لدينا ما يسوغه كذلك. وكما أن اتصال عملية البحث متضمن في تكويننا لأي حكم مفرد جائز القبول، فكذلك يمتد تطبيق مبدأ الاتصال هذا ليشمل تتابع الأحكام التي منها تتكون المعرفة بأسرها؛ وتدخل في امتداد المبدأ هذا صور معينة تميز طابعه حينئذٍ؛ إذ إن كل بحث يستغل النتائج أو الأحكام التي قد أفضت إليها أبحاث سابقة، إلى الحد الذي يبلغه ذلك البحث من نتائج يكون لها ما يبرر قبولها؛ وتكوين هذه النتائج إنما يتم بوساطة ما نصوغه لها من قضايا؛ وقوام هذه القضايا هو رموز نرمز بها إلى المضمونات التي نستمدها من الأبحاث السابقة في جوانبها ونواحيها التي نعتقد بأنها ذات صلة بحل ما نريد حله من الموقف المشكل الذي نحن إزاءه؛ ولا يختلف البحث العلمي عن البحث كما هو قائم في مجال الذوق الفطري، من حيث الطريقة التي يتبعها في استغلاله للوقائع وللأفكار (وأقصد بالأفكار المعاني الذهنية التي أنتجتها لنا الأبحاث السابقة)، لكنه يعود فيختلف عن البحث على صورته التي يقوم بها في مجال الذوق الفطري، في عنايته الفاحصة الدقيقة التي يلتزمها لكي يستوثق أولًا بأن النتائج التي جاءتنا من بحوث سابقة، تصلح مقدمًا أن تكون وسائل لتنظيم السير في بحوث مقبلة، وفي العناية ثانيًّا بأن يستوثق من أن الوقائع الخاصة والأفكار العقلية الخاصة التي ستستخدم في الأبحاث المقبلة، ذات صلة محددة بالمشكلة التي بين أيدينا؛ فلئن كانت وقفاتنا وعاداتنا التي كوناها خلال الخبرات السابقة، هي التي تعمل في مجال الذوق الفطري — إلى حد كبير — عمل السبب الذي يستلزم مسببه، فالبحث العلمي محاولة مقصودة للكشف عن الأسس التي تقوم عليها تلك الوقفات وتلك العادات، بحيث يجوز لها أن تعمل عمل السببية فيما نكون إزاءه من حالات معينة. إن النتائج التي سبق لنا الوصول إليها، لتؤدي مهمة تمهيد الطريق للبحوث والأحكام التي تنشأ بعد ذلك؛ وإنه لمن الحقائق المعروفة المألوفة أن ما ينشأ في المراحل التالية إنما يتوقف على الوقائع وعلى الأفكار التي استحدثت في المراحل الأولى، أقول إن هذه حقيقة معروفة مألوفة في النمو العقلي للأفراد، وفي النمو التاريخي لأي علم من العلوم؛ فكون طريق السير متصلًا في نضج الأفراد وفي إقامة أنواع المعرفة من حيث طرائق بحثها والنتائج التي وصلت إليها، هو أوضح من أن يتطلب حجة تؤيد صوابه؛ بل قد كان يكون أوضح من أن يستحق مجرد الذكر، لو لم يكن هذا الاتصال أمرًا لا يقتصر على كونه شرطًا لا غناء عنه في النمو العقلي؛ بل هو — فوق ذلك — المبدأ الوحيد الذي يمكن به فهم طائفة معينة من الصور المنطقية ذات الأهمية الأساسية؛ وأعني بها صور المدركات العامة وصور القضايا العامة المقننة؛ فموضوع هذا الفصل هو — إذن — العلاقة بين اتصال مجرى البحث والتعميم من حيث هو صورة منطقية. والقضايا كافة التي ترد فيها كلمة «هذا» موضوعًا لها، أو أي اسم مفرد آخر؛ والتي يأتي «فعل الكينونة» فيها ليكون رابطة (بين الموضوع والمحمول)، إنما هي قضايا تعبر عن الشبه بين «هذا» وبين مفردات أخرى سواه، في الكيف أو في الدرجة أو في المدى؛ كما في قولنا «هذا أحمر» و«هذا صدئ» و«هذا أكسيد الحديد» و«هذه ضوضاء» و«إنها خبطة» و«إنه صوت إخراج العادم من خلف السيارة»؛ ولو عممنا المحمولات تعميمًا صوريًّا، بحيث جعلناها حدودًا وصفية، وجدناها تتمثل في قولنا «كذا وكذا»؛ فيوصف الشيء المفرد (أي يتميز من سواه وتتحدد ذاتيته) باعتباره أحد أفراد نوع معين، باقتران مجموعة من السمات فيه تجعله شبيهًا بأشياء معينة أخرى سبق لها أن تعينت، ويرجح لها أن تعاود الحدوث في المستقبل لتكون أداة لتحديد سواها؛ وحسبنا هذه الملاحظات البسيطة تأييدًا لزعم قوي نزعمه من وجود علاقة تربط ما هو عام بمبدأ الاتصال؛ وأما المعنى الذي نفهمه من كلمة «تشابه» فموضوع إشكال سنتعرض لبحثه فيما بعد. إنه ليس من غير المألوف أن تفسر الصورة المنطقية التي نحن الآن بصدد بحثها، بإرجاعها إلى عامل «مشترك» يثبت وجوده بتكرار حدوثه؛ وهذا التفسير الذي يلجأ إلى تكرار الحدوث، له ما يبرره بوجه من الوجوه، لأنه علامة على اعترافنا بصورة من صور الاتصال؛ لكن الإشكال هو أن نستوثق من المعنى الواحد الخاص الذي يتحتم علينا أن نفهم به كلمة «تكرار الحدوث» لأننا إذا ما أمعنا النظر في هذه الفكرة، ألفيناها تتضمن بالفعل فكرة النوع؛ وبهذا يكون تفسيرنا لفكرة النوع بفكرة تكرار الحدوث، إن هو إلا استبدال كلمة بكلمة أخرى؛ مثال ذلك حين تحدث حادثة مفردة معينة فنعقب عليها بالقضية الآتية: «هذه لمعة برق»؛ فيقينًا ليست هذه اللمعة تكرارًا لحدوث، بمعنى عودة شيء ما أو حادثة ما إلى الظهور، بعد أن كانت هي نفسها قد ظهرت من قبل، وظلت قائمة في الوجود خلال الفترة بين ظهورها الأول وهذا الظهور الثاني؛ فواضح أن تكرار الحدوث هنا معناه المقصود فعلًا مرادف لقولنا إننا نحدد ذاتية اللمعة التي ظهرت الآن بأن نجعلها واحدة من مثيلات لها تكوِّن نوعًا؛ ولا شك أننا لا نستطيع في هذه الحالة أن نتخذ من عبارة «تكرار الحدوث» شيئًا تم لنا فهمه، وبوساطته نستطيع أن نفهم فكرة النوع. فتفسير الأنواع، التي هي أشياء عامة، على أساس تكرار الحدوث، لا يصدق — على أحسن الفروض — إلا في حالة الأشياء التي يمتد بقاؤها فترة من الزمن، والتي تظهر في مجال الخبرة آنًا بعد آن؛ فقد نرى جبلًا بعينه مرة بعد مرة في ظروف متغيرة تغيرًا منوعًا أشد التنوع، فلا تضمن لنا هذه الحقيقة شيئًا سوى وجود كائن مفرد وجودًا مستمرًّا؛ إذ إنها تتركنا بغير هداية أو سند نلجأ إليه في تمييزنا لحقيقة مفرد آخر لا يكون قد وقع لنا في خبراتنا من قبل، بحيث نقول عنه إنه جبل؛ ولو أنها تسوغ لنا أن نستدل الاستدلال الآتي: «إذا كان هذا جبلًا، فهو يتصف بالبقاء خلال فترة من الزمن» وبعبارة أخرى فإن تكرار الحدوث أحد الأسس الرئيسية التي نعتمد عليها في قبولنا للاعتقاد في الأشياء الباقية على فترات من الزمن، والتي ليست كلمعات البرق قصيرة الأمد جدًّا؛ غير أن تكرار الحدوث يترك مسألة الأنواع كما وجدناها عند بداية الحديث. أضف إلى ذلك أن الاختلاف المذكور هو على الأكثر اختلاف في مدة البقاء الزمني؛ فإن دام الجبل زمنًا أطول من السحابة، فنحن نعلم أن للجبال أصلًا بدأت به وجودها، وأنها إذا ما مر على بقائها مدة كافية من الزمن، تآكلت واختفت من الوجود؛ وكذلك نعلم أن الفترة الزمنية التي يبقاها شيء معين لا تتحدد بماهية أزلية متأصلة في طبيعته، بل هي دالة (بالمعنى الرياضي للكلمة) من ظروف وجودية أنتجت ذلك الشيء وأبقت عليه لعدد من ثوانٍ أو دقائق أو عدة آلاف من السنين؛ فمن حيث المبدأ الوجودي لا فرق بين المطر العابر وبين المحيط «الباقي أبد الدهر» وهكذا نرى القضايا التي تتحدث عن طول أمد البقاء لشيء ما، مرهونة بالشواهد التي نصادفها، وليست هي بالنتائج المستنبطة من فكرة الجوهر. إنه ليُقال إن من الشعوب البدائية ما يعتقد بأن مصدر الضوء الذي يغرب في المساء، ليس هو نفسه المصدر الذي يشرق في الصباح التالي ويبعث بالضوء من جديد؛ فهؤلاء فيما يُقال يعتقدون بأن لهم في كل يوم شمسًا جديدة؛ ولا فرق بالنسبة إلى التوضيح الذي نريده هنا، بين أن يكون هنالك من يأخذ بهذه العقيدة أو لم يكن؛ لأن الخبرة هي على أية حال فريدة ولا يتكرر حدوثها؛ فعلى أي أساس نميز بين طابعها هذا الفريد، وبين ذاتية الشيء الذي هو مبعث حدوثها؛ فسينقضي عام قبل أن تبدو الشمس مرة أخرى في نفس الموضع من السماء، وقد لا تبدو قط مرة أخرى في نفس الظروف بغير تغيير؛ وليست المسألة هنا هي أن نثير أي شك في صفة البقاء الثابت للشيء الذي نتحدث عنه الآن؛ وإنما أردنا أن نبين بأن المبررات التي تبرر لنا اعتقادًا ما هي أمور من الواقع، أو هي شواهد مما نشاهد، فهذه هي التي تجيز لنا نتيجة نقول عنها إنها نتيجة استدلال. (فتحديدنا لذاتية الفرد الواحد من حالاته المختلفة، وتحديدنا لحقيقة كونه عضوًا في نوع من أشباهه) عمليتان تترتبان على إجراءات من البحث واحدة في كلتا الحالتين، وليس ذلك فحسب، بل إن العمليتين لترتبطان إحداهما بالأخرى في عملية واحدة؛ بحيث يجيء تحديدًا لفرد ما بأنه شيء يحتفظ بذاتية واحدة على فترة من الزمن، هو نفسه التحديد الذي نحدد به بأن ذلك الفرد عضو في نوع معين؛ فتمييزنا لضوء مفاجئ بأنه لمعة برق، ولصوت مسموع بأنه خبطة باب ينقفل، ليس قائمًا على أساس صفات وجودية تمثلُ أمامنا مباشرة، بل هو قائم على أساس الصفات التي تتصل بالأداء الذي تؤديه تلك الصفات من حيث هي شواهد، أو بطريقة انتفاعنا بتلك الصفات في مجرى بحث نجريه؛ فما هو مكرر الوقوع، أو ما هو مطرد، أو ما هو «مشترك» (بين أفراد النوع الواحد) هو قابلية الصفات المباشرة لأن تكون لنا علامات؛ فإن كانت الصفات المباشرة في إدراكنا إياها إدراكًا مباشرًا — كما قد رأينا — فريدة وغير مكررة الحدوث، فهي رغم كونها فريدة في خصائصها الوجودية، قادرة على أن تصبح — خلال مجرى البحث المتصل — خصائص نستخدمها لتمييز الأشياء بعضها من بعض، إذ هي خصائص تسورُ نوعًا ما من الأشياء أو من الحوادث وتحدد ذاتيته؛ فالأشياء تكون من نوع واحد بمقدار ما تتشابه خصائصها في قوتها الأدائية، من حيث تكون هذه الخصائص وسائل لتسوير الأنواع وتمييز ذاتياتها بعضها عن بعض، ولتختلف تلك الأشياء بعد ذلك في خصائصها المباشرة، فلن يكون لاختلافها ذاك عندئذٍ خطر؛ فتحديد الأنواع عند العلم — مثلًا — إنما يتم بغض النظر غضًّا يصل إلى حده الأقصى، عن الصفات المحسة إحساسًا مباشرًا؛ بل إن هذه الصفات لتعد خارجة عن موضوع البحث، وكثيرًا ما تعوق الباحث في عمله الذي يكوِّن به نسقًا استدلاليًّا يربط أشياء العالم الخارجي بعضها ببعض، ولهذا كانت تلك الصفات لا تستخدم (في البحث العلمي) لوصف الأنواع. إن الشيء المفرد من حيث هو مجرد شيء يُشار إليه بكلمة «هذا» يثير الإشكال دائمًا، ثم يحل الإشكال بأن نتبين ماذا هو، أي إلى أي نوع ينتمي؛ وهذه الحقيقة وحدها كافية للدلالة على أن الأمرين اللذَيْن يبدوان في الظاهر مختلفين، هما في الحقيقة شيء واحد، وأعني بهما تحديد الامتداد الزمني لحادثة ما، وتحديد نوعها؛ فإشارتنا إلى شيء بقولنا «هذا» تظل لغزًا عقليًّا حتى يصبح في مقدورنا أن نصفه بما يعد في اللغة اسمًا عامًّا؛ فمثل هذا الوصف هو نفسه تمييز المفرد بما يخرطه عضوًا في نوع؛ وإذن فسؤالنا ينصب على الطريقة التي نكوِّن بها التعميم، مع ملاحظة أن تكرار الحدوث إنما ينصرف إلى عملية الاستدلال، وليس الذي يتكرر حدوثه هو كائنات الوجود الخارجي ذاتها، مستقلة عن دورها الذي تؤديه في الاستدلال. وهنالك حقيقة يمكن أن تتخذ نقطة ابتداء لمناقشة جديدة، وهي كون الجمل الفعلية (بالمعنى النحوي) الدالة على مناشط (في دنيا السلوك)، ليست تنشعب أقسامًا على أساس التفرقة بين الأسماء «المفردة» (أسماء الأعلام) والأسماء «العامة»، وهي التفرقة التي نقسم الأسماء عن أساسها؛ لأن ما يدل عليه الفعل (بالمعنى النحوي لهذه الكلمة) هو طريقة التغير أو طريقة السلوك؛ فطريقة التغير والنشاط السلوكي، أو كيفيته أو صورته، هي طريقة ثابتة أو مطردة؛ فهي باقية على حالها على الرغم من أن الفعلة الفردية التي يفعلها الفاعل، أو التغير المفرد الذي يحدث، أمر فريد؛ نعم إن فعلًا سلوكيًّا ما، وتغيرًا ما، يمكن الإشارة إليه لتمييزه مما عداه، كما يمكن وصفه وصفًا يسلكه في نوع؛ كأن نشير مثلًا إلى حالة معينة من سباق الجري، أو إلى حالة معينة من نار؛ لكن فعل التسابق أو فعل الاحتراق طريقتان من طرائق الفعل والتغير، فهما تتمثلان في مفردات لكنهما ليستا في ذاتيهما مفردين؛ إنهما قد تتكرران، إذ هما تمثلان إمكانات لتكرار الحدوث؛ وطريقة معالجتنا للأمر عند تمييزنا لمفرد ما، فيها هذا النوع المذكور من إمكان التعميم؛ فإذا ما انتقل نشاط بالقوة — كفعل المشي مثلًا — إلى نشاط بالفعل، فعندئذٍ تظهر مشية معينة في عالم الوجود الفعلي؛ وعندما تتحقق بالفعل عملية الاحتراق في كائن مفرد، فعندئذٍ تنشأ نار معينة؛ فهي إن تكن مفردة، أو هي مما يُشار إليه بقولنا «هذا»، إلا أنها فرد ينخرط في نوع. إننا حين نثبتُ عن هذا الشيء بأنه حلو أو صلب، فما ذلك إلا بسبب ما نجريه عليه من اختبار ومن لمس؛ ومثل هذا الإجراء يتكرر وقوعه لأنه ثابت؛ وربما كانت نتيجته أن نثبت بأن هذا الشيء المعين الذي يقع لنا في خبرة جديدة، مرٌّ ولين؛ فحدوث التمييز يرجع إلى نتائج الاتفاق والاختلاف، أي إنه يرجع إلى أن حالات الاتفاق وحالات التي تنشأ من إجراءات متكررة الحدوث في مجرى الخبرة المتصل؛ وحاصل ذلك هو أن حضور صفات مباشرة معينة، يرتبط بصفات أخرى معينة ليست مباشرة، ارتباطًا يجعل هذه الأخيرة نتيجة تستدل من الصفات الأولى؛ فإذا ما وقعت هذه الإجراءات الاستدلالية في لحظة تالية، فعندئذٍ يتحقق بالفعل التعميمُ الذي كان موجودًا بالقوة، بسبب قيام طرائق التغير والنشاط السلوكي نفسها؛ ونعد الاستدلال الناتج عن هذا، مدعمًا، بالدرجة التي تكون بها قد لحظنا العواقب المختلفة، ملاحظة تجعل بعض السمات المقترنة جائزة الاستدلال، على حين يستبعد بعضها الآخر. ولقد أصاب «هيوم» في بيانه للعلاقة بين الاستدلال والتوقع؛ وهي علاقة أدت به إلى نتائج لا تجاوز حدود الشك إلى اليقين، (١) لأنه لم يمضِ في تحليله لمبدأ العادة «الملغز» إلى الحد الذي يرى عنده أن ذلك المبدأ هو نفسه الاطراد في طريقة الإجراء وطريقة التغير، (٢) ولأنه قد فاته أن صياغة حالة من حالات التوقع في عبارة صريحة، تجعل ذلك التوقع قابلًا للمراجعة وللاختبار على أساس نتائجه، سواء كانت تلك النتائج إيجابية ومتفقة (مع الخبرة الماضية) أو سالبة ولا تنخرط مع الخبرة السابقة؛ (٣) على حين أن مثل هذه الصياغة ينقل التوقع من مجال السببية الوجودية إلى المجال المنطقي؛ فكل حالة من حالات التوقع تتضمن تعميمًا، باعتبارها حالة تتمثل فيها عادة نشأ عنها استعدادٌ للتصرف (أو للإجراء) على نحو معين؛ وحاصلُ هذا التضمن هو ما قد أسميناه تعميمًا منطقيًّا كائنًا بالقوة؛ فصياغة التوقع في عبارة صريحة تضعه في صورة قضية، مضافًا إليها استخدامنا في سلوكنا الفعلي لتلك الصياغة، بأن نتخذها وسيلة لضبط ومراجعة ما نحن قائمون به فيما بعد من إجراءات خلال مجرى البحث المتصل، تخلع على ذلك الوجود بالقوة (للتعميم) صورة منطقية محددة. وسأسارع إلى ذكر نتيجة مناقشة هذه النقطة، بأن أستعمل كلمات معينة أحدد بها هذا التمييز؛ فسأطلق على القضايا التي تُقال عن الأنواع أو عن الفئات حين نعني بهذه الكلمة أنواعًا، اسم القضايا الجامعة (بالمعنى الذي تكون به الأنواع جامعة كذلك) بينما أطلق على القضايا التي نحصل مادتها من الإجراءات التي تقرر لنا مجموعة من السمات على أنها هي السمات التي تصف نوعًا ما، اسم القضايا الكلية؛ ويقابل ذلك أني سأسمي الكليات — من حيث هي كذلك — مقولات لكي أتجنب ازدواج المعنى الذي نراه اليوم في استخدامهم لكلمة «فئات» في النظرية المنطقية — فكلمة «فئة» تستعمل لتدل على الأنواع وعلى الكليات في آنٍ واحد، مع أنهما متميزان فيما يؤديان من وظيفة منطقية، وفي الصورة المنطقية، كما سنبين ذلك فيما بعد. فهنالك كلمات في الاستعمال الجاري، مزدوجة المعاني ازدواجًا مطَّردًا، مثال ذلك كلمات كهذه: «إذا؛ لما (أو حين)؛ ظروف» فهي أحيانًا تشير إلى الكائنات الموجودة في الخارج، وأحيانًا تشير إلى الأفكار القائمة في الداخل؛ فحين يُقال: «إذا لم يحضر خلال خمس دقائق، فلن أظل منتظرًا»، فكلمة «إذا» تشير إلى مجموعة من الأحوال الحادثة زمانًا ومكانًا؛ وكذلك حين يسأل سائل: «متى تشرق الشمس غدًا؟» فواضح أن الإشارة هنا إلى حادث يحدث في زمن؛ لكن كلمة «حين» في الجملة التي قلناها «حين يسأل سائل» لها دلالة مختلفة كل الاختلاف؛ إذ إنها تعني «أيان» أو تعني إذا سئل هذا السؤال في أي وقت؛ دون أن يستلزم ذلك أن يكون السؤال قد سئل فعلًا أو أن سائلًا سيسأله أبد الدهر؛ فالقضية القائلة: «حين تظهر الملائكة بصمت الناس» لا تستلزم بذاتها أن ثمة ملائكة أو أن الملائكة ستظهر أبدًا؛ وفي العلم قضايا كثيرة ترد فيها الجملة البادئة بكلمة «إذا» حين يكون معلومًا أنها مضادة للظروف القائمة فعلًا في الوجود الخارجي، أعني أنها تكون مما يستحيل تحقيقه وجوديًّا، مثل قولنا: «إذا تأثرت ذرة ساكنة بفعل ذرة مفردة متحركة، إذن» … إلخ؛ ففي قضايا كهذه، يكون معنى «إذا» و«حين» هو العلاقة القائمة بين أفكار ذهنية، لا العلاقة القائمة بين وقائع وجودية، أو زمانية مكانية؛ وأما إذا استعملنا كلمة «ظروف» فهي الآن تشير إلى علاقة منطقية لا إلى أحوال وجودية. وهذه التفرقة معترف بها في النظرية المنطقية اليوم، ولكن في سياقات معينة؛ مثال ذلك، المذهب القائل بأن القضية الموجبة الكلية أو القضية السالبة الكلية لا يلزم عنها قضية موجبة جزئية أو قضية سالبة جزئية؛ وكذلك في التفرقة التي يميزون بها بين القضايا الرياضية والقضايا الطبيعية؛ فهذه الاعتبارات وحدها دالة على ضرورة اعترافنا اعترافًا مطَّردًا بالفارق الذي يميز صورتين منطقيتين للتعميم، ويبدو أن تقصيرنا في جعل هذا التمييز مطردًا وشاملًا راجع لمحاولة يحاول بها أصحابها أن يردوا القضايا العامة التي تُقال عن الأنواع (وتسمى الأنواع عندهم بالفئات) إلى صورة القضايا الكلية المجردة، والمصدر الأول لهذه المحاولة هو فيما يبدو متفرع بدوره عن مصدر آخر، وهو كون الأنواع في المنطق الأرسطي كانت تفسر على أنها كليات قائمة في الوجود الخارجي؛ لكن تقدم المنطق الحديث، وبخاصة تحت تأثير العلم الرياضي، قد بين أن القضايا الكلية هي قضايا شرطية مجردة، أي إنها لا وجودية في مضمونها؛ ومن هنا نشأ الخلط في النظرية المنطقية حين ظن أن القضايا التي تُقال عن الأنواع (وهي قضايا عامة بمعنى أنها جامعة) هي بعينها القضايا الكلية. فكل مؤلف حديث في المنطق يشير إلى ازدواج المعنى في مثل هذه القضية: «كل إنسان فانٍ» فأحد التفسيرات لهذه القضية، وهو التفسير الذي يحميه العرف التقليدي، هو أنها تعني أن فئة الناس (والفئة هنا معناها النوع) مشمولة في فئة الكائنات الفانية؛ فلو سقنا القضية سياقًا صريحًا يعرض مضمونها الوجودي، كان معناها: «كل الناس قد ماتوا أو سيموتون»، وهي قضية مكانية زمانية؛ لكنها من وجهة نظر أخرى تعني أنه «إذا كان ثمة كائن بشري، إذن فهذا الكائن فانٍ»، أي إن ثمة ارتباطًا ضروريًّا متبادلًا بين صفة كون الشيء بشريًّا وصفة كونه فانيًا، ومثل هذه القضية لا يستلزم، كلا ولا هو يفرض مسلَّمة تقول بأن الناس أو الكائنات التي تموت قائمة في الوجود الفعلي؛ فهي قضية صادقة — إذا كانت صادقة إطلاقًا — حتى ولو لم يشتمل الوجود على إنسان، لأنها تعبر عن علاقة ضرورية قائمة بين خصائص مجردة؛ ولكن قضية «كل إنسان فانٍ» — من جهة أخرى — إذا فُسِّرت تفسيرًا يبين إشارتها إلى الوجود الخارجي، كانت من الناحية المنطقية قضية موجبة جزئية؛ وما دامت تندرج عندئذٍ في النوع الاستقرائي من القضايا، فهي إذن معرضة لطوارئ الوجود الفعلي ولمقتضيات المعرفة حين تنصب على أمور الواقع؛ أي إنها عندئذٍ تكون قضية لها درجة معينة من الاحتمال؛ فالرابطة بين الحقيقة الواقعة التي هي الحياة، والحقيقة الواقعة التي هي الموت، تختلف في صورتها المنطقية عن العلاقة بين كون الشيء بشريًّا وكونه فانيًا؛ فهذه الأخيرة تصدق، كما قلنا منذ حين قصير، إذا صدقت على الإطلاق، بحكم تعريفنا لفكرة ما؛ وأما الحالة الأولى فأمرها مرهون بالشواهد، وهذه تحددها المشاهدات. إلى هنا والطريق ممهدة نسبيًّا؛ لكن التمييز (بين نوعي التعميم) كثيرًا ما تعقب عليه المؤلفات المنطقية المعاصرة بزعم — صريح أو مضمر — هو أن القضايا التي تُقال عن الأنواع هي في نهاية التحليل من نفس الطراز المنطقي الذي تكون عليه القضايا الكلية التي صورتها «إذا – إذن»؛ والتدليل الذي يؤدي إلى هذا الزعم — أو إلى هذه النتيجة — هو كما يأتي: إن القضايا التي تُقال عن الأنواع ليست تنصرف إلى أفراد النوع، بل تنصرف إلى العلاقة التي تصل السمات المميزة — التي بها يتعين النوع — بعضها ببعض؛ فإثباتنا أن كل الأفراد الذين يدخلون في نوع الإنسان يدخلون في النوع الذي هو أوسع نطاقًا، وأعني به نوع الكائنات الفانية؛ أقول إن إثباتنا لهذه الحقيقة لا يتضمن معرفتنا لأفراد الناس كافة، بل لا يتضمن معرفتنا لشخص واحد بذاته؛ إذ هو قول يصدق على الناس الذين لم يُولدوا بعد، كما يصدق على عدد لا حصر له من الناس الذين لا صلة لنا بهم؛ وعلى ذلك فأمثال هذه القضية تختلف في صورتها المنطقية عن أية قضية تُقال عن فرد واحد. ويمضي «مل» في حديثه ليثير سؤالًا عن الكلمات المجردة مثل كلمة «بياض» إن كانت عامة أو مفردة؛ وبعد أن تأخذه الحيرة بسبب اعتبارات معينة سنذكرها الآن فورًا، تراه ينتهي إلى نتيجة هي أن «خير سبيل، ربما تكون اعتبار هذه الأسماء لا عامة ولا فردية، فنضعها في فئة وحدها»؛ وإن هذه النتيجة لتشهد بما كان ﻟ «مل» من حاسة تدرك الصور المنطقية: فتلك «الفئة القائمة وحدها» هي في حقيقة الأمر فئة الكليات المجردة؛ لأنه إذ يقول إن تلك الأسماء ليست «عامة» فهو يستعمل الكلمة بالمعنى الذي تكون به الأسماء المشتركة (بين أفراد النوع الواحد) مثل كلمة لون، أسماء عامة؛ فحيرته كانت إذن راجعة إلى اعتقاده بأن بعض الحدود المجردة هي أسماء تطلق على نوع من الماصدقات؛ فاللون — مثلًا — يشمل بناءً على وجهة نظره، البياض والاحمرار والزرقة … إلخ، والبياض بدوره يشمل درجات متفاوتة؛ وهو يقول إن هذا نفسه يصدق على المقدار الكمي وعلى الوزن بالنسبة إلى ما لها من درجات متفاوتة؛ أما الحدود التي من قبيل «مساواة» و«تربيع» … إلخ فتدل — في رأيه — على خاصة «تتصف بالوحدانية ولا تقبل التعدد»، ومن العجيب أنه يجعل «إمكان الرؤية» في هذه الطائفة نفسها، مع أنه من الواضح أن إمكان الرؤية له درجات. فواضح — فيما أرى — أن «مل» حين يتحدث عن الحدود المجردة التي لها — كالأسماء المشتركة — ماصدقات من أنواع ودرجات، قد انزلق من الأشياء المجردة إلى الأشياء ذوات الوجود الفعلي وما لها من خصائص؛ نعم إن الأشياء الواقعية لها أحجام مختلفة أو درجات من الكم وأوزان مختلفة؛ لكنه يستحيل علينا أن نرى كيف يمكن للفكرة المجردة عن المقدار أو عن الثقل، أن يكون لها درجات أكثر مما يمكن أن تكون هذه الدرجات للتربيع أو للمساواة؛ فما دامت الأشياء المختلفة قد تتساوي مقدارًا، بينما تختلف حجمًا عن غيرها من الأشياء، فإن تدليله في حالة المقدار يفضي به منطقيًّا إلى النتيجة التي مؤداها أن المساواة هي أيضًا اسم يطلق على «فئة من صفات» ما دامت الأشياء قد تختلف حجمًا، ومع ذلك يظل بعضها مساويًا لبعضها الآخر؛ والمقدار يمثل الشيء الكبير بنفس الطريقة التي يمثله بها الشيء الصغير؛ وكذلك تمثيل الوزن بمعناه المجرد، لا فرق فيه بين جسم ثقيل وآخر خفيف؛ وهكذا قل في الاحمرار والزرقة والبياض، فكلها طرق تظهر فيها اللونية، لكنها ليست أنواعًا من اللون (بمعناها العيني) كأحمر وأزرق وأبيض. وسنفيض القول فيما بعد عن ازدواج معنى فكرة «دخول نوع في نوع»، فحين يُقال عن أنواع معينة إنها داخلة في نوع أوسع مجالًا في مسمياته، فمدلول كلمة «دخول الأنواع في غيرها» هنا منصرف بغير شك إلى الكائنات الخارجية؛ وأما حين يُقال عن تعريف متعدد الأضلاع في الهندسة بأنه «يشتمل» على تعريف المثلثات والأشكال ذوات الأضلاع الأربع … إلخ، فمعنى الكلمة يصبح مختلفًا أشد اختلاف عما كان في الحالة السابقة؛ وهو معنًى قد يتضح نوعه بنص وارد في معجم أكسفورد، وهو: «لا بد أن ندخل في فكرة «العمل الشاق» شتى المشاعر التي لا يستريح لها صاحبها … مصحوبًا بها استخدام الإنسان لفكره أو عضلاته أو كليهما في أدائه لعمل معين.» «والدخول» هنا مرتبط بتعريف فكرة أو تصور عقلي؛ فالنص المذكور يقرر أن أي تعريف للعمل الشاق (والكلمة هنا مستعملة بمعناها المجرد) يكون معيبًا إذا لم يشتمل فكرة عدم ارتياح القائم به، باعتبارها جزءًا ضروريًّا أو مكملًا لمفهوم العمل الشاق؛ فإذا قبل التعريف، أو حين يقبل، فهو يزودنا بشرط منطقي ضروري نقرر على أساسه إذا كانت وظيفة معينة هي من نوع يدخل (بالمعنى الثاني للدخول في الفقرة السابقة) في نوع الأعمال التي توصف بأنها شاقة؛ فبناءً على التعريف السابق، إذا قيلت قضية بأن الوظيفة الفلانية هي من العمل الشاق أو ليست منه، كانت القضية تعتمد في الفصل بين النوعين على حضور أو غياب صفة عدم الارتياح التي تصاحب أداء تلك الوظيفة؛ ولو عرفنا أو تصورنا العمل الشاق تعريفًا أو تصورًا يختلف عن التعريف المذكور، لجاز أن ينتج عن هذا التعريف مجموعة مختلفة من السمات التي على أساسها ندرج لونًا معينًا من النشاط في نوع معين، وعلى أساسها كذلك نحدد علاقة الأنواع بعضها ببعض؛ فهذا المثل يوضح لنا العلاقة الضرورية القائمة بين تحديدنا للقضايا الجامعة وبين القضايا الكلية المجردة، التي هي بمثابة تعريفات لِمعانٍ عقلية أو فكرية؛ لكنه مثل يتضمن أيضًا ما بين نوعي القضايا من اختلاف في الصورة المنطقية؛ ويبين كذلك الاختلاف الصوري بين مفهومي تداخل الأنواع بعضها في بعض وتخارجها بعضها عن بعض؛ فالقاعدة التي توضع للتداخل وللتخارج ليست هي نفسها حالة من حالات التداخل أو التخارج التي تترتب على تطبيقها؛ فلأن تستبعد أو تستخرج شيئًا بحكم التعريف، أمر يختلف منطقيًّا عن رفضك وضع نوع داخل نوع آخر معتمدًا على بينات الشواهد. وسنعود في الفصل التالي إلى مناقشة مفصلة للقضايا الجامعة والقضايا الكلية، في ضوء التفرقة بين الصور المنطقية التي أسلفنا صياغتها؛ ولكننا ونحن إزاء الحالة التي نرى النظرية المنطقية عليها اليوم مضطرون أن نتعرض لمناقشة كانت تعد استطرادًا خارجًا عن الموضوع، لو أن التفرقة المذكورة كانت معترفًا بها مأخوذًا بها أخذًا مطردًا؛ ولنا أن نختم هذا الجانب الحاضر من جوانب المناقشة، بقولنا إن دوافع منطقية ثلاثة — فيما يبدو — قد اجتمعت لتسبب قصور رجال المنطق دون تبينهم لما يميز الصور المنطقية بعضها من بعض؛ أولها تأثير الطريقة الأرسطية في جعل الفئات، من حيث هي أنواع وجودية ثابتة يمكن تعريفها بماهية صورية، في جعل هذه الفئات هي والكليات شيئًا واحدًا؛ وثانيها هو الرغبة في المحافظة على الفكرة التي تتصور المنطق على أنه صوري بحت (يستبعد كل إشارة إلى ما هو ذو وجود فعلي أو ما هو مادي) وذلك بأن تتخذ القضايا الرياضية على أنها الصورة المنطقية التي يقاس إليها تأويلنا للصورة في القضايا العامة كافة، وهي فكرة لو أُخذ بها أخذًا دقيقًا، لاقتضت — مع ذلك — حذف كل إشارة إلى الخارج، ولاقتضت بالتالي — في نهاية الأمر — حذف القضايا الفردية والقضايا العامة أيضًا؛ وأما التأثير الثالث فينشأ عن اعتبار كامن في طبيعة البحث نفسه، وأعني به المهمة الضرورية التي تؤديها القضايا الكلية في تقرير ما يجوز لنا قبوله من القضايا الفردية والقضايا العامة؛ وهي نقطة سنناقشها بإسهاب في الفصل التالي. لقد كانت مشكلة طبيعة التعميم موضوعًا له من الخطر في تاريخ المنطق الفلسفي، وتاريخ النظرية الميتافيزيقية على السواء، ما يستدعي أن نضيف بضع كلمات نوضح بها السمات التي تفرق بين موقفنا في هذا الفصل، وبين وجهات النظر التي عرفتْ تقليدًا بأسماء: المذهب الشيئي، والمذهب التصوري، والمذهب الاسمي، وحسبي هنا أن أفرق فقط بين موقفنا وبين هذه المذاهب، لا أن أحتجَّ بالحجة له وعليها؛ فالنظرية التي نعرضها تتفق مع المذهب «الشيئي» في تأويل الكلمات العامة، في أنها تثبت بأن طرائق الفعل السلوكي لا تقل وجودية عن الأشياء والحوادث المفردة؛ ولكنها تختلف عن هذا المذهب في قولها بأنه مع كون طرائق التفاعل هذه شروطًا ضرورية للتعميم المنطقي، إلا أنها ليست شروطًا كافية لقيام ذلك التعميم، لأن الشروط الكافية لا تتوافر إلا حين نتخذ مما هو عام تعميمًا وجوديًّا، أداة نوجه بها طريق السير — إذ نحن في مجرى البحث المتصل — نحو بلوغ ما يجوز لنا قبوله من نتائج. ويتبع ذلك أن تتفق نظريتنا مع «المذهب الاسمي» في أخذها، ليس فقط بأن الصفات المباشرة هي الأساس المطلوب لتحديد النطاق الذي يحدد تعميمًا معينًا ينصرف بإشارته إلى كائنات الوجود الخارجي، وأنها الأساس المطلوب كذلك لاختبار صلاحية ذلك التعميم للانطباق على حالة معينة، بل إنها لتتفق مع المذهب الاسمى أيضًا في قولها (وهذه نقطة أكثر أهمية فيما نحن الآن بصدده) بأن ما هو عام من الناحية المنطقية، سواء أكان تعميمه جامعًا أم كليًّا، لا بد بالضرورة أن تكون له خصيصة الرمز؛ لأنه ما دام اللفظ العام ليس تصويرًا حرفيًّا لما هو عام في الوجود الخارجي، بل هو طريقة للانتفاع بهذا الأخير تحقيقًا للغرض الخاص المقصود من البحث (أي إنه صورة منطقية بكل ما يميز الصورة المنطقية من خصائص) فالرمز — من حيث مكانته ومن حيث مهمته — يماثل الفرد المعلوم الذي تتطلبه دالة القضية لكي تصبح قضية كاملة؛ وصياغة هذه القضية الكاملة أمر لا بد منه بحكم طبيعة الحال، لكي يتسنى السير في البحث الموجه؛ لكن نظريتنا تعود فتختلف عن المذهب الاسمى اختلافًا جوهريًّا، في أخذها ليس فقط بأن ما هو عام يرتكز على أساس من الوجود الخارجي (وبالتالي فليس هو مجرد لفظ مناسب لتذكيرنا، أو للإشارة إلى عدد من المفردات) بل كذلك في أخذها بأن عملية الرمز باللفظ شرط ضروري لكل بحث ولكل معرفة، وليست هي مجرد تعبير لغوي عن شيء معلوم لنا من قبل، ولا يحتاج منا أن نرمز إليه إلا تحقيقًا لسهولة التذكر ونقل الأفكار إلى الآخرين. وعلى ذلك فنظريتنا تتفق مع «المذهب التصوري» في نقطة واحدة، وهي أن ما هو عام تصوري أو فكري في طبيعته؛ لكنها تختلف عن المذهب التصوري اختلافًا رئيسيًّا في فكرتها عن التصورات العقلية ماذا تكون طبيعتها؛ فمن الناحية السلبية — كما سبق لنا أن ذكرنا — هي ترفض رفضًا تامًّا الرأي القائل بأن التصور العقلي لفكرة كلية يمثل جانبًا مختارًا من المادة التي كانت قد وُجدتْ «مشتركة» بين عدد من المفردات؛ ورفضها ذلك معتمد على (١) تأويلها لما هو «مشترك» على أساس المهمة الأدائية التي تؤديها الخصائص الوجودية في عملية الاستدلال، و(٢) على ضرورة الكلي المجرد لتسويغ استعمالنا للخصائص الوجودية استعمالًا استدلاليًّا في أي بحث؛ والنقطة الثانية أهم من الأولى، لأنها تشير إلى ضرورة التصورات الذهنية ضرورة منطقية، تلك التصورات التي إن تكن المفردات الجزئية توحي بها، إلا أنها ليست مستمدة منطقيًّا من تلك المفردات، حتى ولا مما هو مشترك بين تلك المفردات؛ وذلك لأن الفكرة أو التصور الذهني هو في طبيعته إمكان، ولهذا فهو في حقيقته يختلف عن الوجود بالفعل، مهما كثر تردد الصفة الفعلية، أي مهما كان لهذه الصفة من درجة الشيوع فيما يتكرر وقوعه من المفردات؛ أضف إلى ذلك أننا نذهب إلى أن طابع الإمكان في التصور العقلي، هو من الناحية المنطقية شرط موضوعي ضروري في كل ما نقرره لأنفسنا من اعتقادات مقبولة أو من معرفة مقبولة؛ وليس هو بالزائدة النفسية، كما يُفهم — فيما يبدو — من المذهب التصوري التقليدي.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/14/
القضايا الجامعة والقضايا الكلية
للقضايا العامة صورتان: الجامعة والكلية؛ وأما القضايا الكلية فصياغات للطرائق أو الأساليب الممكنة لفعل ما نفعله أو إجراء ما نجريه؛ وإنما نتطلب هذه القضايا في صياغاتها تلك، لنضبط بها الفعل الذي من شأنه أن ينتهي بنا إلى تحديد وترتيب المادة الوجودية من حيث تكون بالنسبة إلينا بينات تشهد (على ما نريد أن نستشهد بها عليه)؛ على أننا إذ نمضي في تنفيذ العمل الإجرائي الذي تمليه وتوجهه القضية الكلية في أدائها لمهمة الشواهد المبينة، فإننا بهذا التنفيذ نختبر قوة القضية الكلية نفسها، ومدى صلتها بموضوع البحث، باعتبارها أداة لحل المشكلة المطروحة للحل؛ وذلك لأن القضية الكلية تُساق لتقرر علاقة مُقَدَّم شرطي المضمون يبدأ بكلمة «إذا»، بتالٍ هو جواب ذلك الشرط، مشتمل على كلمة «إذن»؛ فإذا كان تطبيقنا للقضية الكلية تطبيقًا عمليًّا، يبين وجود ظروف في العالم الخارجي، تتفق مع مضمونات جواب الشرط الذي يشتمل على كلمة «إذن»، تأيَّدَ فرضنا الذي نحن بصدد تحقيقه، ما لم يظهر بعد ذلك ما ينفيه؛ لأن تأييده هذا ليس له ما يكفي لتسويغ قبولنا إياه؛ أعني أن اتفاق جواب الشرط مع الواقع الخارجي هو اختبار (للقضية الكلية) ضروري ولكنه ليس كافيًا؛ إذ إنه من ضروب المغالطة أن تثبت المقدم لمجرد كون التالي قابلًا للإثبات؛ ولا بد من عمليات نحذف بها ما نحذفه (من عناصر الموقف) أي ننفي بها ما ننفيه، لكي نقطع بأن التالي لا يقع إلا إذا ثبت صدق المقدَّم. وتطبيقنا على مادة الوجود الخارجي للإجراءات التي تشير بها القضية الكلية، هو الذي يقرر لنا من أي الأنواع تكون تلك المادة الوجودية المشار إليها؛ فإذا مضينا في إجراءات ندخل بها نوعًا في نوع يشمله، ونبعد بها نوعًا من نوع لا يتصل به، استطعنا أن نحدد أي الأنواع تدخل أعضاء في نوع يشملها، بل استطعنا أن نحدد تلك الأنواع الأعضاء على سبيل الحصر الجامع المانع، حتى نستوفي استيفاءً كاملًا لكل ما يمكن استيفاؤه من الشروط المنطقية المطلوبة في عمليتي إدخال الأنواع بعضها في بعض وإخراجها بعضها من بعض، وهو استيفاء — في حقيقة الأمر — مستحيل التحقيق على النحو الكامل، بسبب طبيعة مادة الوجود الخارجي التي تجعل هذه المادة عَرضية الحدوث؛ غير أن ذلك لا يمنع من الاقتراب من الاستيفاء المطلوب — إبَّان سيرنا في البحث المتصل المراحل — فإذا لم يكن ذلك الاستيفاء الكامل ممكنًا في خطوات البحث الأولى، فقد يكون ممكنًا في خطواته الأخيرة البعيدة. فهنالك من أوجه النشاط العضوي — على المستوى البيولوجي — ما نختار به ونرتب الظروف الوجودية بطريقة نساير بها الواقع؛ فلو كان أحد الكائنات العضوية الدنيا مزودًا بالقوى التي تمكنه من عملية الرمز، لنتج عن ذلك قدرته على إدخال بعض الأشياء في تعميمات شاملة تضمها مع غيرها، أي إدخال بعض الأشياء في أنواع تشملها — كأن يصنفها مثلًا إلى أطعمة، ومواد لا تؤكل، ومواد سامة؛ وإلى أشياء ضارة ومعطلة، وأشياء مُعِينة ومساعدة — أي إلى أعداء وأصدقاء؛ وإن ينبوع الثقافة ليزود الإنسان — بوساطة اللغة — ليس فقط بالوسيلة التي يصوغ بها الأنواع صياغة صريحة، بل إنه ليزيد كذلك زيادة كبيرة من الأنواع تنوعًا وعددًا؛ وذلك لأن الثقافة تخلق — كما أنها تتألف من — طرائق كثيرة العدد جدًّا هي الطرائق التي نعالج بها الأشياء؛ فضلًا عن أن طرائق سلوكية معينة تُصاغ لتكون أمام الناس قواعد نموذجية ومعيارية، يحتذونها في سلوكهم وفي أحكامهم، ما داموا أعضاء من جماعة ثقافية معينة؛ فكما بيَّنَّا من قبل، يتألف ذوقنا الفطري — في مرحلة تعميمه — من مجموعة من أمثال هذه المفاهيم المقننة، التي يلجأ إليها الناس في تنظيم أفعالهم واعتقاداتهم (أعني أنها تكون قواعد الأفعال والاعتقادات) بحيث يميزون على أساسها المقبول وغير المقبول، والمطلوب منهم أداؤه، وما يحل لهم وما يحرم عليهم، بالقياس إلى أشياء البيئة الطبيعية والاجتماعية؛ وهكذا تصنفُ الأشياء ويصنفُ الناس أنواعًا، على أساس ما يُسمحُ به وما لا يسمح به من ضروب التصرف في تلك الأشياء وإزاءها؛ وما هذا إلا سابقةٌ في المجال العملي، تسبق وتنبئ بما يتلوها من نشأة عمليتي إدخال الأنواع بعضها في بعض، وإبعادها بعضها عن بعض، بالمعنى المنطقي لهاتين العمليتين. لكنها سابقةٌ من حيث الظهور فحسب، تنبئ بأن تاليًا سيتلوها؛ وذلك لأن الكائنات البشرية أكثر اهتمامًا بحكم «طبيعتها» بالنتائج وبالحواصل وبالثمرات طيبها ورديئها، منها بالشروط — المادية منها والمنهجية — التي تؤدي بها إلى تلك النتائج والحواصل والثمرات؛ أضف إلى ذلك أن المفاهيم والقواعد المقننة هي — إلى حد كبير — وليدة العادة والعرف التقليدي؛ ومن ثَم كانت من الثبات بحيث لا توضع هي نفسها موضع الشك والنقد؛ فهي تعمل — في مجال الحياة العملية — على تسوير الأنواع لتحديدها، لكن الأسس أو المسوغات التي تسوغ تحديد الأنواع المعترف بها في الحياة العملية، لا توضع موضع البحث والتقدير — فيكفي أن القواعد المرعية هي ما هي؛ فها هنا — من الناحية المنطقية — وقوعٌ في الدوْر، وذلك لأن ما يحدد الأنواع المعترف بها هو قواعدُ ثابتة لا يجوز عليها الشك؛ بينما القواعد تثبت الأنواع تثبيتًا لا يجعل هذه الأنواع أداة لاختبار وتعديل المفاهيم التي جعلناها قواعد في تثبيت الأنواع، بل إن هذه الأنواع لتتخذ أمثلة توضح القواعد وتؤيدها؛ وإذن فعملية البحث محصورة — على أحسن الفروض — في تحديدها لأشياء معلومة إن كانت تلك الأشياء متسمة أو غير متسمة بالصفات التي تدخلها في نطاق مفهوم معين من المفاهيم المقننة، كما لا يزال يحدث إلى حد كبير في أحكام «العامة» على أمور الأخلاق والسياسة. فطريق السير في البحث — من حيث هو بحث — مؤلف، إذن من اعتبارنا للقضايا العامة التي صِيغت فيها طرائق الفعل السلوكي، على أنها فروض، وهو اعتبار يساوي قولنا بأن طرائق الفعل السلوكي المتضمنة في القضايا العامة، مساقةٌ على سبيل افتراض ما هو ممكن، لا على سبيل ذكرنا لما هو محتوم أو ضروري؛ وهذه النظرة التي ننظر بها إلى أفكارنا (التي نجعلها بمثابة فروض لما يمكن أن نؤديه من فعل سلوكي إزاء الأشياء) أثرها المباشر أيضًا على تكويننا للأنواع؛ لأنها نظرة تتطلب منا البحث عن أسس نقيم عليها تكويننا للأنواع، وهي أسس لا بد لها من الوفاء (عن طريق إدخال الأنواع بعضها في بعض أو إخراجها بعضها عن بعض) بما يقتضيه الفرض الذي كنا قد فرضناه واستخدمناه؛ فما دام الوجود الخارجي هو الوجود الخارجي، ووقائعه عنيدة (لا تتغير وفق ما نشتهيه لها) كانت وقائع العالم الخارجي التي يثبتُ قيامها، وسيلة لاختبار صدق الفرض الذي استخدمناه؛ بمعنى أنه حين تتكرر المفارقة التي تباين بين الوقائع المشاهدة، وبين مقتضيات فكرتنا (وهي الفرض أو النظرية) فعندئذٍ يتهيأ لنا أساس مادي يقتضينا أن نغير من الفرض؛ وها هنا أيضًا وقوع في الدوْر، لكن الحركة الدائرية هنا تتم داخل نطاق البحث، وتضبطها الإجراءات التي نصطنعها لفضِّ المواقف المشكلة. وإن مثله المعروف الذي ساقه للتوضيح، وهو مثلُ القروية وابنة جارتها، لينهض برهانًا — إذا ما حللناه — على صدق عبارتنا الأخيرة؛ فالقروية تستدل حالة من حالة، بفضل ما لديها من ميل نحو التعميم؛ فما دام هذا العلاج قد شفى ابنتي، فسيشفي ابنتك كذلك؛ وليس من شك في أن هذه الطريقة هي نفسها التي نتبعها في حالات كثيرة؛ ولو لم يكن الأمر كذلك، لما شاعت شهرة دواء على أساس ما قد سجله صاحبه له من شهادات الشاهدين بصلاحيته، كما تشيع على النحو الذي نراه؛ غير أن حقيقة كون الميل نحو التعميم يعمل فينا من حيث هو مجرد ميل، لا عن طريق قضية عامة ننشئها على صورة «إذا – إذن» (فيمكن بناءً على ذلك مراجعتها على النتائج التي تترتب على عمليات تنفيذها) هي بالضبط علة الضعف النسبي الذي يفسد ما ينتج عن ذلك الحين من استدلالات؛ فالميل هو سبب الاستدلالات التي ننتزعها، لكن ليس مبررًا لصدقها بأية حال من الأحوال. فليلحظ القارئ أنني لا أنكر بأننا نستدل بالفعل استدلالًا نسير به من حالة إلى حالات أخرى، لكن الذي أثبته هو أن أمثال هذا الاستدلال لا تكون لها مكانة في المنطق — أي إنها لا تقوم على أساس سليم — إلا إذا سار الاستدلال خلال مراحل وسطى قوامها قضايا من ذوات الصورة الجامعة، وقضايا من ذوات الصورة الكلية. كل قضية تتضمن فكرة نتصورها عن نوع معين، هي قضية قائمة على أساس مجموعة من السمات والقسمات المتعلق بعضها ببعض، والتي هي الشروط الضرورية والكافية لوصفنا لذلك النوع المعين؛ وهذه السمات إنما نميزها بالمشاهدة تمييزًا ينتقيها من بين مجموعة المجال الإدراكي؛ فبأي معيار نلتقط من المجال الإدراكي طائفة من سمات ونحذف وننبذ ما عداها؟ إنه لا معيار هناك من ناحية الوجود الخارجي نفسه، إذا نظرنا إليه من حيث هو قائم قيامًا يستقل به عن خضوعه لعملية البحث؛ فكل شيء في العالم يشبه كل شيء آخر من بعض الوجوه، ويختلف عن كل شيء آخر من وجوه أخرى؛ فمن وجهة النظر الوجودية، يمكن للمقارنة أن تنشئ عددًا لا نهاية له من الأنواع؛ وليس هنالك من أساس قط، في أي موقف من المواقف، يسوغ لنا أن ننشئ هذا النوع دون ذاك؛ فمثلًا هنالك من الأشخاص من يتصفون بالحوَل، ويتصفون بالصلع، ويتصفون بكونهم صناع أحذية؛ فلماذا لا ننشئ نوعًا قائمًا على أساس هذه الصفات؟ الجواب هو أن مثل هذه المجموعة من السمات المقترنة عديم النفع تقريبًا بالقياس إلى هدف الاستدلال؛ أي إن هذه المجموعة من السمات ليست بذات قيمة من حيث هي شواهد تؤدي بنا إلى استدلال سمات أخرى تكون هي الأخرى مقترنة بتلك المجموعة، دون أن تكون قد وردت في مجرى المشاهدة عندئذٍ، وإذن فهي سمات لا تفضي بنا إلى شيء في عملية البحث. لكننا من جهة أخرى نستخدم اقترانًا لصفات مثل كون الكائن الحي ولودًا ودافئ الدم وذا تنفس رئوي، لنصف به نوعًا نطلق عليه اسم الثدييات، معتمدين في ذلك على سبب واحد فقط، وهو أن اقتران هذه الصفات من شأنه أن يفيد ويوجه الاستدلال في عالم الموجودات الخارجية، وهو يجيز لنا انتزاع نتائج مدعمة تتعلق بالكائنات الأفراد؛ وذلك لأننا ندخل هذه الأفراد في نوع الثدييات، أو نخرجها من ذلك النوع، تبعًا لما نجده في البحث على أساس المشاهدة، إن كان هذا الاقتران للسمات موجودًا أو غير موجود؛ فلولا فكرة السمات المتعلق بعضها ببعض، لما عرف الباحث عن أي شيء يبحث، ولا كيف يقدر ما عساه أن يجده في بحثه؛ وكذلك تمكننا مجموعة السمات من تكوين استدلالات عن العلاقات القائمة بين الأنواع؛ وذلك لأن السمات التي اخترناها سنجدها مندرجة — لوجود خصائص إضافية فيها — ضمن مجموعة السمات التي تصف نوع الفقريات، ومن شأن تلك الصفات المختارة أن تعيننا على إقامة الفواصل التي تفصل بين نوع الثدييات، وبين غيره من الأنواع (الداخلة معه في مجموعة الفقريات) كالأسماك مثلًا؛ فقد كان الاعتقاد ذات يوم فيما مضى أن صفات المشي والسباحة والزحف والطيران، هي التي تقدم لنا الأساس الذي نقيم عليه تمييزنا لمختلف أنواع الكائنات الحية، والفصل بينها؛ لكننا وجدنا هذا الأساس — كما تبين خلال البحث الخِبْري المتصل — هو أوسع مما ينبغي وأضيق مما ينبغي في آنٍ معًا؛ لأنه أساس يضع الحشرات والطيور والخفافيش في نوع واحد بعينه؛ ويضع الأسماك وعجول البحر في نوع آخر؛ ويضع الزواحف والديدان في نوع ثالث؛ فجاء البحث العلمي وأظهر — على خلاف ما ذكرنا — أن عجول البحر والطيور والزواحف يجب أن تدخل كلها في نوع يشملها جميعًا؛ وذلك لأن السمات التي تصف ذلك النوع بما يميزه من سواه، تجعل عملية الاستدلال ميسرةً ومأمونة الجانب، حين تنتقل من حالة إلى حالة، ما دامت المشاهدة المباشرة قد دلت على وجود تلك السمات؛ وهي في الوقت نفسه تسد الطريق أمام الاستدلال في حالة عدم وجودها. لقد كانت أوسع النظريات شيوعًا (أو على الأقل أكثرها قبولًا) في تكوين المفاهيم العامة، هي أن تلك المفاهيم تتكون بعمليات من المقارنة نجريها لنستخلص بها العناصر المشتركة بين حالات كثيرة، ولنطرح بها الصفات التي تختلف من حالة إلى حالة؛ ولقد أسلفنا الإشارة إلى أن تكوين الأنواع بناءً على هذه النظرية يصبح أمرًا جزافًا؛ لأن كل شيء يشبه سائر الأشياء ويختلف عن سائر الأشياء؛ وها نحن أولاء نثير اعتراضًا أهم، يتصل بما نحن الآن بصدده من حديث، وهو أن هذه النظرية تضع العربة أمام الحصان، لأنها تسلم بادئ ذي بدء بنفس الشيء الذي يُراد تعليله؛ إذ الصفات المشتركة هي بدورها صفات عامة؛ فمثلًا يُقال إننا نكوِّن الفكرة العامة عن الجواد بمقارنة أفراد الجياد، لنستخلص ما يتبقى لدينا (بعد حذف أوجه الاختلاف بينها) من صفات تكون مشتركة بينها؛ لكننا قبل أن نبدأ في المقارنة نكون قد أنشأنا تعميمًا، وذلك حين نقول عن الأفراد (المختارة للمقارنة) إنها جياد. إنه لو كان في مستطاعنا أن نكوِّن تعميمات سليمة، بأن نضع — في الذهن — عددًا من الأفراد في صف واحد، ثم نأخذ في اطراح الصفات المتباينة، حتى يتبقى لدينا عدد من الصفات «المشتركة»، لكان تكويننا الأنواع والمفاهيم العامة عملية سهلة وآلية مسرفة في آليتها؛ وما عليك إلا أن تنظر إلى الخصائص التي تصف بها نوعًا ما في البحث العلمي، لترى أن تكوين تلك الأنواع عملية شاقة، ولا تسير على النحو الذي نحن الآن بصدد نقده؛ فالأنواع في المجال العلمي — كنوع المعادن مثلًا — إنما تتكون بإجراءات تكشف عن الخصائص غير الحاضرة أمام المشاهدة العادية، بل هي خصائص تخلق خلقًا بما نجريه من تجارب، لكي نتخذ منها دلالة ظاهرة على ما يحدث من ضروب التفاعل؛ وذلك لأنه لا ييسر الاستدلال ويوجهه إلا الصفات التي يمكن أن نعدها علامات دالة على تفاعلات معينة. وهكذا نكون قد عدنا مرة أخرى إلى الفكرة القائلة بأن السمات التي تحدد الأنواع تحديدًا وصفيًّا، إنما هي سمات يتم اختيارها وترتيبها على أساس مهمتها التي تؤديها في تقوية وفي توجيه الاستدلال في عالم الموجودات الخارجية؛ وبعبارة أخرى، فلئن كانت كل سمة مميزة صفةً فليست كل صفة هي من السمات؛ فلا تكون الصفةُ سمة، بذاتها وفي ذاتها، أو لمجرد كونها قائمة في الوجود الفعلي والصفات كائنة في الوجود الخارجي، وهي تنشأ وتفنى بفعل ظروف وجودية؛ أما إذا أردنا للصفة أن تكون سمةً، فلا بد من استخدامها من حيث هي علامةٌ أو مميزٌ دال؛ ولذلك فلأننا نستخدم الصفات — حين تكون سمات — لتوجهنا وتضبط لنا عملية الاستدلال، كانت هذه الحقيقة نفسها سببًا يجعل صلاحية الصفات — من حيث هي سمات — لقيامها بمهمتها في الدلالة، أي مهمتها في أن تكون لنا شواهد دالة، أمرًا يقتضينا، أو يجب أن يقتضينا تمحيصًا دقيقًا. إننا في العادة نستخدم الصفات علامات، لكننا لا نمحص في العادة أو «بحكم طبائعنا» أهلية تلك الصفات لأن تؤخذ وتستخدمَ على أنها علامات؛ فالفنانون وأصحاب الميول الذوقية القوية وحدهم — على وجه الإجمال — هم الذين يعنون عناية كبيرة بالصفات من حيث هي صفات؛ فاللون الأحمر عند مفترق الطرق هو علامة للمرور؛ وفيما عدا مهمته هذه، لا ترى بين الناس من يلتفت إلى صفته الذاتية، وإن التفت أحد إلى صفته تلك، فبمقدار قليل؛ هذا إلى أن الصفة من حيث هي شيء كائن في الوجود الخارجي، لا تنفك تتغير؛ فهي تختلف باختلاف الظروف الجوية، وبتغيرات ضوء الشمس، وبالمسافة بينها وبين الشخص المدرك، وكذلك بما لهذا الشخص من جهاز بصري … إلخ؛ وأما ما هو ثابت ومطرد في الصفة فهو مهمتها التي تؤديها؛ ولا تتأثر مهمة اللون الأحمر في الطريق من حيث هو إشارة للمرور، بتغيرات صفة الاحمرار فيه كما هي كائنة فعلًا في الوجود الخارجي، اللهم إلا إذا جاوزت هذه التغيرات حدًّا معلومًا. ويلزم عن ذلك أن وجهة النظر القائلة بأن الصفات هي نفسها عامة، ولا تقل تعميمًا عن العلاقات والصلات، خاطئة من الناحية المنطقية؛ شأنها في خطئها هذا شأن المذهب القائل بأن الأفكار العامة تتحدد بما نختاره لها من صفات «مشتركة»؛ فلن يسع خيال الإنسان أن يتصور شيئًا أمعن في فرديته الأصيلة وفي عدم عموميته، من صفة تؤخذ من حيث هي كائن قائم في الوجود الخارجي؛ فالأحمر كما هو قائم فعلًا في ضوء المرور، لا ينقطع عن التغير، لأنه — من حيث هو جزء من الوجود الخارجي — مظهر له ما وراءه من ظروف متغيرة تتشابك في نسيج كثير الخيوط؛ وليس ثمة ما هو ثابت وما هو عام إلا المهمة، والمهمة وحدها التي تؤديها الصفة في تدعيمها للاستدلال. إن الأساس الوجودي الذي ترتكز عليه القضية الكلية هو — كما سبق لنا القول — طريقة فعل، ومع ذلك فليست القضية الكلية مجرد صياغة للطريقة التي يفعل بها الإنسان ما يفعله أو يجري بها ما يجريه؛ بل هي من قبيل الصياغة التي من شأنها أن توجه الإجراءات العملية التي بوساطتها يتم اختيار المادة الوجودية اختيارًا يميز أجزاءها بعضها من بعض، ثم يصل (أو يرتب) هذه الأجزاء بحيث تقوم بمهمة الأساس الذي يبرر لنا بناء النتائج الاستدلالية الجائزة القبول؛ وبعبارة أخرى فمضمون قضية ما يتسم بالكلية بفضل المهمة التي يتميز دون غيره بأدائها في عملية البحث؛ وإنما تكون طرائق الفعل — كما أشرنا إلى ذلك مرارًا — عملية وفعلية في بادئ أمرها؛ ثم يحدث بعدئذٍ أن ترمز تلك الطرائق بما نصوغه لها من قضايا، فتصبح ممثلة لطرائق الفعل الممكنة؛ ثم نحتفظ بهذه الطرائق الممكنة ونقويها باعتبارها إمكانات لطرائق من الفعل، ونجعلها عامة بالنسبة إلى حالات الوجود الفعلي (وهي عامة عندئذٍ لأنها طرائق للفعل، وليست أفعالًا مفردة أو حالات من الأداء جزئية) أقول إننا نحتفظ بتلك الطرائق ونقويها باعتبارها إمكانات لطرائق الفعل، فتكتسب بذلك صورة منطقية. ويتم التعبير في القضية الكلية عن إمكان حدوث ضرب معين من ضروب العمل، حين نصبها في صورة «إذا – إذن»؛ فإذا توافرت مضمونات معينة، إذن تتحقق معها مضمونات أخرى معينة؛ ولقد جرى التقليد على أن تسمى العبارة البادئة بكلمة «إذن» بالمقدم، والعبارة البادئة بكلمة «إذن» بالتالي؛ غير أن العلاقة بينهما هي علاقة منطقية بحت، ولفظتا «مقدم» و«تال» ينبغي أن تفهما بمعنًى منطقي لا بمعنى وجودي؛ وإن معنى هاتين الكلمتين ليزداد حرفية في القضية المصبوبة في صورة «إذا – إذن» إذا ما صِيغت أثناء تدبرنا لأمر معين يتصل بحياتنا السلوكية؛ كأن أقول مثلًا: «إذا ما بدأت بفعل هذا العمل المعين، فقد أتوقع للنتائج الفلانية أن تحدث» فها هنا نرى العلاقة علاقة أسبقية وتبعية في الزمن؛ وأما حين أقول: «إذا ما انتهكتْ حرمة ملكية خاصة، إذن لتعرضَ المنتهك للعقوبة» فالحدود هنا مجردة، والعلاقة بينها ليست بالزمنية ولا هي بالوجودية، على الرغم من أن المضمونات — أعني فكرة الانتهاك وفكرة العقوبة — تشير بطريق غير مباشر إلى الوجود الخارجي؛ وأما في قولنا: «إذا كان الشكل المستوي مثلثًا، إذن فمجموع زواياه الداخلية الثلاث يساوي زاويتين قائمتين» فالعلاقة عندئذٍ لا تقتصر على كونها لا وجودية، بل إن المضمونات لتتخلص من أية إشارة وجودية مشروطة، مهما جعلنا هذه الإشارة من نوع غير مباشر إلى أقصى حدود عدم المباشرة؛ ففي قضية كهذه، لا يكون ثمة شبهة من مقدم وتالٍ حتى ولا بالمعنى المنطقي؛ وإن المعنى ليظل بغير تغيير، إذا جعلنا القضية هكذا: «إذا كان مجموع الزوايا الداخلية الثلاث لشكل مستوٍ، مساويًا لزاويتين قائمتين، كان الشكل المستوي مثلثًا». ففي كلتا هاتين الحالتين المذكورتين، لا يلزم تالٍ عن مقدم ولا مقدم عن تالٍ لزوم التبعية في الزمن؛ لأن المقدم والتالي معًا في علاقة الواحد منهما بالآخر علاقةً ضروريةً، إنما يمثلان العنصرين اللذَيْن تنحل إليهما فكرةٌ معينة، قوامها ذانك العنصران في تكاملهما، وفي شمولهما للفكرة بأسرها؛ ومن هنا كان مما يعرضنا للخطأ أن نقول إن أحد الشقين يستلزم الآخر، لا لأن علاقة اللزوم لا تكون إلا بين القضايا دون الجمل الداخلة في تكوين القضية الواحدة، فحسب، بل كذلك لأن مثل هذا القول يُبهم أمام النظر الجانب المنطقي الأولي، وأعني به أن جملتَي القضية الشرطية تمثلان تحليل فكرة واحدة إلى مقوماتها المنطقية المتعلق بعضها ببعض، والجامعة لكافة أجزاء الفكرة، والمانعة لكل ما هو غريب عن الفكرة من الدخول فيها؛ ولهذا السبب كان للقضية الشرطية الكلية صورة التعريف بمعناه المنطقي؛ وعلى هذا فالقضية القائلة: «إذا كان شيء ما جسمًا ماديًّا، فإنه يجذب غيره من الأجسام المادية بنسبة تطرد مع كتلته، وتكون عكسية بالنسبة إلى مربع المسافة». يمكن أن نضعها في الصورة اللغوية الآتية بحيث لا يتغير شيء من معناها: «كل الأجسام المادية … إلخ»، فالقضية تعريف (جزئي) لكون الشيء ماديًّا، إذ هي تنص على شرط لا بد من توافره في أي شيء مشاهد، إذا أردنا أن ننعته بصفة «المادية» نعتًا يقوم على أساس سليم؛ ومن جهة أخرى، إذا وجدنا الأشياء تنهض شاهدًا على غير ما تقتضيه قضية مأخوذ بها، ثم كانت تلك الشهادة قائمة على أسس زودتنا بها قضايا كلية أخرى؛ فلا مندوحة لنا عندئذٍ من مراجعة إحدى القضيتين المتعارضتين، لتعديل صياغتها. لقد أردنا بالفقرات السالفة أن نبين (١) ماذا نعني بالطابع الأدائي الذي تتميز به القضية الكلية، و(٢) على أي نحو خاص هي أدائية؟ ويمكننا أن نعيد التعبير عن هذا النحو الخاص (لأدائية القضية الكلية) كما يأتي: إن القضية الكلية تضع الشروط التي لا بد من تحققها في المادة الوجودية، بحيث إذا كانت تلك المادة الوجودية فردًا من الأفراد، تعين أن يكون هذا الفرد عضوًا في نوع معين؛ أما إذا كانت المادة الوجودية نوعًا، كان ذلك النوع داخلًا في و/أو مشتملًا على أنواع أخرى معينة محددة؛ والقضية الكلية تؤدي مهمتها هذه بتنفيذها تنفيذًا فعليًّا لذلك الضرب من ضروب الإجراءات العملية، الذي جاءت القضية — بحكم كونها قضية — لتعبر عنه؛ وذلك لأن الإجراء ما دام قد خرج إلى نطاق الفعل، فلا مفر من أن ينصب فعله على ظروف وجودية، كما لا بد أن يكون له النتائجُ التي تعقبه بالمعنى الحرفي أو بالمعنى الوجودي لهذه الكلمة؛ ولو جاءت هذه النتائج الفعلية متفقة مجرد اتفاق مع مضمون الجملة التالية من جملتي القضية الشرطية الكلية، لما عددنا اتفاقها ذاك — كما قد شرحنا من قبل — اختبارًا كاملًا لصدق الفرض الشرطي، بل لا بد من إقامة الدليل — بقدر المستطاع — على أن تلك النتائج الفعلية هي النتائج الوحيدة التي تستوفي مقتضيات الفرض الشرطي؛ ولكي يتسنى لنا الدنو من كمال الاستيفاء المذكور، يلزم أن تكون القضية الكلية التي نكون بصددها، واحدة من نسق من قضايا كلية متعلق بعضها ببعض؛ إذ القضية الكلية التي لا تكون واحدة من نسق من قضايا، لا يمكنها — على أكثر تقدير — أن تنتج إلا النتائج التي تتفق مع الشروط التي تشترطها هي، دون أن تستبعد إمكان أن تكون تلك النتائج عينها متفقة أيضًا مع شروط تشترطها تصورات عقلية أخرى. قلنا في الفصل السابق إننا نريد أن نستخدم كلمة «مقولة» لندل بها على التصورات التي نصوغها في القضايا الكلية، بدل كلمة فئة، لأن هذه الكلمة الثانية تُستعمل لتدل أيضًا على العموميات التي تتخذ صورة الأنواع؛ فيمكننا أن نطلق اسم «مقولة» على كل فكرة تؤدي مهمتها من حيث هي نموذج لضرب من ضروب الإجراءات العملية الممكنة؛ فعلى الرغم من أن الكلمة قد استعملت في تاريخ الفلسفة لتدل — إلى حد كبير — على الأفكار وحدها التي نُظر إليها على أنها نهائية، (ومع ذلك فلم يحسبوا إلا قليلًا حساب طبيعتها الأدائية)؛ إلا أن اللغة الجارية تستعمل الكلمة استعمالًا أوسع من ذلك، فحين يُقال مثلًا (والمثل مأخوذ من عبارة وردت في أحد المعاجم) إن «هذا الشيء يندرج تحت مقولة الآلات» فالمقصود من ذلك هو أكثر من كون ذلك الشيء داخلًا في النوع «آلات»، إذ المعنى المقصود هنا هو أن الشيء المذكور يمثل المبدأ، أو مجموعة المبادئ، التي نعرف بها كون الشيء آلة؛ فالمقولة هي في المنطق مساوية لما نسميه في الجانب العملي «وقفة»، لأنها تكون وجهة للنظر، أو خطة، أو برنامجًا، أو عنوانًا، أو عبارة مفسرة، أو توجيهًا، أو ضربًا ممكنًا من ضروب نسبة المحمول إلى موضوعه؛ إذ إن وضع الشيء تحت مقولته — عند أرسطو — هو أن تحمل صفة على موضوعها؛ فلئن كان القانون المدني والقانون الجنائي نوعين مختلفين، إلا أن كون القانون مدنيًّا أو جنائيًّا مقولتان؛ لأنهما وجهتان للنظر نتناول منهما صورًا معينة من السلوك وننظمها؛ فالقانون صيغة ترسم حدود التعامل؛ لأنه يقرر إن كان أشخاصٌ بأعينهم يُستَدْعوْن أمام المحكمة، ثم كيف ينبغي أن تكون معاملتهم إذا ما استدعوا وعندما يستدعون؛ فالمبادئ التشريعية والخلقية مقولات، لأنها قواعد تضبط السلوك؛ فبينما القواعد نفسها قد تندرج في فئات، حين نعني بهذه الكلمة أنواعًا، لا يعد كون الشيء مبدأً، نوعًا من الأنواع؛ إذ هو اشتراط لكيفية تكوين الأنواع، أي لتحديد الوضع بالنسبة لفعل معين أو لخطة سلوكية معينة، أهي تقع في نوع معلوم أو لا تقع. ولا نكاد نتبين أن القضية الكلية صيغةٌ ترسم طريقة للعمل الممكن فعله، حتى تتحول المشكلة المنطقية الرئيسية الخاصة بالقضايا الكلية، بحيث تصبح مشكلة خاصة بعلاقة تلك القضايا بالقضايا الجامعة؛ وأعني علاقتها بتحديد السمات المميزة التي تضع للأنواع حدودها؛ وهي علاقة بناءً على وجهة النظر التي نأخذ بها في هذا الكتاب متبادلةٌ؛ فالقضايا الكلية والقضايا الجامعة يتعلق بعضها ببعض في عملية البحث بنفس العلاقة التي تقوم بين الوسائل المادية والوسائل المنهجية عند تكويننا للحكم؛ فالقضايا التي نقولها عن الأنواع، أو نقولها عن الأفراد من حيث هي أعضاء في نوع بذاته، تزودنا بالمادة التي تكوِّن لنا موضوع الحكم النهائي؛ وأما القضايا التي نقولها عن الإجراءات التي لا بد من اصطناعها لكي نعمل على تحويل ما قد كان أول الأمر مشكلًا، إلى موقف في الوجود الخارجي موحد ومتصل، أقول أما القضايا التي تُقال عن هذه الإجراءات فهي التي تزودنا بمادة المحمول. فالإجراء الذي لا نصوغه في قضية، هو إجراء بغير ضابط من الوجهة المنطقية، مهما يكن مدى نفعه في جانب الحياة العملية المعتادة؛ إذ لن يكون أمامنا أساس نحدد به أي النتائج، أو أي الجوانب من النتائج الناجمة، يرجع إلى ذلك الإجراء، وأي النتائج يرجع إلى ظروف خارجية غير مصوغة في صورة القضايا، أقول إنه لن يكون أمامنا أساس نحدد به كل ذلك إلى أن نصوغ الإجراء (الذي نصطنعه في القيام بالبحث) في قضية تعبر عنه؛ فالقضية الشرطية الكلية تقرر العلاقة بين الإجراء ونتائجه؛ على أن هذه النتائج نفسها ينظر إليها على أنها ذات قوة إجرائية في مجرى الخبرة المتصل، لا على أنها نتائج ختامية (نقف عندها) فتكون إذن منعزلة عما يأتي بعدها؛ وهكذا تكون العلاقة بين هذه النتائج والقضايا المرتبة في عملية التدليل، أو في عملية النقاش المنظم، هي نفسها العلاقة التي تقوم بين القضايا التي تُقال عن الأنواع وبين تقوية الاستدلال وتنظيمه؛ نعم إن هذه النتيجة المعينة أو تلك، لا تؤدي بذاتها إلى نتائج تنجم عنها بعد ذلك؛ بمعنى أنني حين أتدبر أمرًا، فستكون كلمة «إذا» التي أقدم بها فعلًا مقترحًا على أنه فعل ممكن، متبوعة بجملة «إذن» التي تحمل نتائج معينة هي في حسابي تترتب على حدوث الفعل المشترط حدوثه، إلا أن النتائج التي ستتولد عن هذه النتائج، ستظل مشكلة قائمة وحدها، وهي مشكلة سرعان ما تغيب عن النظر، لا سيما إذا كانت النتائج الأولى محببة إلى النفس؛ أما حين تكون «النتائج» هي نفسها بمثابة إجراءات ممكنة، فإن صياغتها في قضايا ستؤدي بطبيعة الحال إلى قضايا تُقال عن إجراءات أخرى تتصل بتلك النتائج، أو تؤدي إلى انتقال في الذهن من فكرة إلى فكرة تلزم عنها، إلى أن نصل — في حالة الاستنباطات الرياضية — إلى مرحلة لا يحول عندها حائل دون المضي إلى غير حد معلوم في الإجراءات التي يمكن أن تنشأ نتيجة للمراحل السابقة. ونعود إلى موضوع الصلة المتبادلة بالنسبة إلى العلاقة القائمة بين القضايا الجامعة والقضايا الكلية، فنجد أول ما نجد، حقيقةً (ذكرناها فيما مضى) هي أن الإجراءات التي منها تتكون مادة المحمول هي إجراءاتٌ من القبيل الذي يحدد المعطيات التي تكون لنا بمثابة الشواهد؛ وهذه المعطيات التي تتكون على هذا النحو، تصبح — ثانيًا — هي الاختبارات التي نختبر بها الإجراءات التي فرغنا من تنفيذها، كما تكون هي الأسس التي نقيم عليها إجراءات جديدة (أو تعديلات في إجراءات قديمة) مما يعرض لنا لنقوم بتنفيذه بعدئذٍ؛ فالعملية الإجرائية التي ننفذها من شأنها أولًا أن تحول مادة كانت من قبل موجودة، تحويلًا يجعل المادة في صورتها الجديدة أكثر دلالة أو أوضح إشارة؛ ثم تستدعي المادة بعد أن يطرأ عليها التحول المذكور، إجراءات أخرى، وهكذا دواليك حتى ينشأ لنا آخر الأمر موقف مستقر؛ وباختصار فإن مسوغ قيامنا بإجراء معين، هو أن ذلك الإجراء من شأنه أن يدنينا نحو نتائج في الوجود الخارجي تكوِّن لنا موقفًا محلول المشاكل؛ وصياغتنا لقضية نصف بها الإجراء قبل أن نجريه، هي شرط لا بد منه لكي يتسنى للإجراء أن يقوم بالمهمة التي ذكرناها؛ ومن جهة أخرى، فإن مشاهدتنا للنتائج التي تترتب فعلًا على تنفيذ الإجراء، مشاهدةً دقيقة في تمييزها لتلك النتائج عما عداها، مضافًا إليها مقارنة لهذه النتائج بما كنا قد قررنا له الحدوث بحكم الفرض الذي بدأنا به، أقول إن تلك المشاهدة وهذه المقارنة هما سبيلنا إلى اختبار الصدق (والدخول في الموضوع وقوة الدلالة) الذي تستحق أن توصف به صياغتنا التي صغنا بها القضية لنصف إجراء ما؛ وهكذا تعود تلك المشاهدة والمقارنة فتؤثر — عند الحاجة — في تعديل الإجراء وتغيير القضية اللذَيْن سنستخدمهما في الخطوات التالية. ونضع هذه النتيجة في حدود صورية فنقول: إنه لا سبيل إلى تكوين قضايا جامعة مدعمة الأساس، إلا من حيث تجيء هذه القضايا وليدة أدائنا لإجراءات كانت القضايا الكلية قد أشارت إلى إمكان حدوثها؛ وإذن فشكلة الاستدلال هي أن نميز وأن نقرن تلك الصفات التي نصادفها في مادة الوجود الخارجي، والتي تؤدي مهمة السمات المميزة (إدخالًا للفرد في نوعه وإخراجًا له من غير نوعه) التي تعين نوعًا بذاته؛ فالسمات المميزة التي كان يظن فيما مضى أنها تصف النوع «معادن» كانت هي درجة خاصة من البريق، والإعتام، والمرونة والكثافة العالية، والصلابة؛ وهذه كلها سمات من قبيل الصفات التي يمكن مشاهدتها، والتي تنشأ عن قيام الجسم بعملياته العادية، كالرؤية واللمس … إلخ؛ مقرونًا بها ما ينشط به الصانع من ضروب الفعل التي يعالج بها الأشياء تحقيقًا لأغراض النفع والمتعة؛ وعلى الرغم من قيمة نتائج هذه المناشط للأغراض العملية البحتة، إلا أنها لم تستطع هداية البحث في سيره من حيث هو بحث؛ لأنها لم تساعد قط على التنقيب عن معادن أخرى غير التي كانت مألوفة الاستعمال (وقد كانت كلها سبعًا أو ما يقرب من السبع)؛ وكذلك لم تساعد قط على ربط المعادن بغير المعادن في نسق مشترك من نتائج استدلالية؛ بل إنها لم تضمن دقة التحديد الذي تميز به المعدن الخالص من المعدن المخلوط؛ فكانت النتيجة النهائية لهذا كله، أن فن التعدين — حتى من وجهة نظر الاستعمال العملي — قد انحصر في نطاق ضيق الحدود. وقد حدث الانتقال إلى الفكرة العلمية القائمة اليوم، عن كون الشيء معدنيًّا كما تم تحديد السمات التي يوصف بها نوع المعادن وما ينشعب إليه من أنواع فرعية (وهي أكثر من ستين)، أقول إن ذلك الانتقال قد حدث حين تغيرت وجهة النظر؛ إذ تغيرت من النظر إلى النتائج في ارتباطها بالنفع والمتعة المباشرين، إلى النظر إليها باعتبارها قد نتجت من تفاعلات الأشياء بعضها ببعض؛ وهي تفاعلات يخلقها الإنسان خلقًا بتدخله في الأمر بما يجريه من إجراءات التجارب؛ وكان حاصل هذا التغير هو أن فقدت الصفات المحسة المباشرة ما قد كان لها قبل ذلك من دلالة، حين كانت تعد هي السمات المميزة (للأنواع التي تتصف بها)؛ مثال ذلك أن عنصرًا هامًّا في التعريف الحديث لكون الشيء معدنيًّا، هو «التآلف الكيموي» أي قدرة المعدن على التفاعل مع طائفة معينة من العناصر غير المعدنية، وبخاصة الأوكسجين والكبريت والكلورين؛ مضافًا إليها قدرة الأوكسيدات التي تتولد من ذلك التفاعل على أن تتفاعل بدورها مع الحمضيات فتكوِّن الأملاح؛ وعنصر آخر (من عناصر تعريف المعدن) هو القدرة الكهربية الإيجابية العالية؛ وواضح أن سمات كهذه كان مستحيلًا عليها أن تستمد — كما كانت تستمد صفتا البريق والإعتام — من الصفات الحسية المباشرة، كما كان مستحيلًا عليها أن تستمد من الإجراءات التي يجريها الصناع في أدائهم لصناعاتهم، كما كانت تستمد صفتا الصلابة والمرونة من تلك الإجراءات؛ فالسمات (التي تدخل اليوم في تعريف المعدن) هي من القبيل الذي يفيد في (١) تحديد خصائص المعادن التي لم تكن معروفة من قبل، و(٢) تحديد الأنواع الفرعية تحديدًا دقيقًا، و(٣) فيما هو أهم من ذلك، وهو ربط الاستدلالات التي نحصل عليها من المعادن، بالاستدلالات التي نحصل عليها عن التغيرات الكيموية كافة التي تشتمل عليها تلك المجموعة الكبرى من الاستدلالات، وهي المجموعة التي منها يتكون علم الكيميا. لقد ركزنا الاهتمام في هذا المثل التوضيحي حتى الآن، في اعتماد القضايا التي تُقال عن الأنواع على التعريف الذي نستقيه من القضايا الكلية الشرطية؛ ولو كان المناطقة قد تعقبوا التطور التاريخي الحقيقي الذي طرأ على القضايا الكلية الشرطية، إبَّان تقدم البحث الفيزيائي الكيموي، لكان الدور الذي تقوم به القضايا الوجودية التي تُقال لتصف الأنواع، في اختبار ومراجعة المفاهيم الكلية التي نبدأ بها، قد اتضح هو الآخر (وضوح الدور الذي تقوم به القضايا الشرطية الكلية في تحديد وتوجيه القضايا الوجودية)؛ فتصوراتنا الحديثة عن كون الشيء معدنيًّا، أو كونه حديدًا … إلخ، لم تنشأ لدينا من العدم؛ بل قد عرَضَتْ لنا بفضل النتائج التي كان الإنسان قد ظفر بها فعلًا عن أمور الواقع؛ ثم جاء تحويلنا لهذا الذي عرَضَ لنا بحيث جعلناه قضية، فرسم الطريق أمام إجراءات جديدة أثمرت لنا أمورًا جديدة من أمور الواقع؛ ومن ثَم نشأت لدينا أفكار جديدة في مجرى البحث المتصل؛ وهكذا حتى بلغنا — من جهة — ما قد بلغناه اليوم من أفكار عقلية وتعريفات، وحتى بلغنا — من جهة أخرى — هذا الذي حصَّلناه اليوم من مجموعة الأوصاف والأنواع التي نميز بعضها من بعض؛ وباختصار، فإن العلاقة بين القضية الكلية من جهة والقضية الجامعة من جهة أخرى، هي علاقة أدائية: وهي شبيهة أتم شبه — من حيث منزلتها ومهمتها في المنطق — بالعلاقة بين الموضوع المنطقي والمحمول المنطقي اللذَيْن يكونان في الحكم الختامي (الذي ينتهي عنده البحث مؤقتًا). إذن فهذه التفرقة بين صورتي القضية التي ناقشناها، هي تفرقة بين القضايا التي تيسر وتنظم سير الاستدلال، والقضايا التي منها يتألف التدليل العقلي باعتباره انتقالًا منظمًا من فكرة إلى فكرة؛ فانتقالنا من قضية وجودية إلى قضية وجودية أخرى، بوساطة الاستدلال، يعتمد — كما رأينا — على قضايا كلية غير وجودية المضمون، إذ نتخذ من هذه القضايا وسيطًا وَسليًّا، وهو اعتبارٌ يقتضينا أن ندقق في توجيه انتباهنا إلى تكوين القضايا الكلية التي نستخدمها في التدليل العقلي؛ لكنه لا يجوز لنا أن نوحد بين انتقالنا الاستدلالي (من حالة واقعة إلى حالة واقعة أخرى) وبين انتقالنا من فكرة عقلية إلى فكرة عقلية أخرى، إذ لو فعلنا لخلطنا خلطًا مذهبيًّا جوهريًّا؛ كلا ولا يجوز أن نوحد بين أي من هذين الانتقالين المنطقيين بين تطبيق القضية الكلية على مادة الوجود الخارجي؛ فمهما أسرفنا في خط التدليل العقلي، فلن يفيدنا هذا شيئًا أكثر من إخراج مكنون القضية الكلية؛ لكننا لن نستطيع بذلك وحده أن نقرر شيئًا عن أمور الواقع؛ إذ إن هذا التحديد الأمور الواقع لا يتولد إلا من عملية التطبيق العملي؛ وكذلك محال على المعطيات الوجودية — من جهة أخرى — أن تبرهن وحدها على صدق قضية كلية؛ نعم قد توحي لنا تلك المعطيات الوجودية بالقضية الكلية، لكن البرهان لا يتم إلا (١) بصياغة الفكرة الموحى بها في قضية شرطية، و(٢) بتحويل المعطيات إلى موقف موحد، بفضل تنفيذ الإجراءات التي تعرضها علينا القضية الشرطية لنتخذ منها قاعدة نلتزمها في الفعل الذي نؤديه. وعلى أساس تفرقتنا ثم وصْلنا للتضمن الوجودي باللزوم المنطقي، يمكننا أن نسوق المثل الآتي لنوضح به النقطة التي ذكرناها فيما سبق من الرابطة المتبادلة بين القضايا الجامعة من جهة والقضايا الكلية من جهة أخرى: شخص متهم باشتراكه في جريمة اشتراكًا يجعله متضمنًا مع مدبريها على نحو يجعله متضمنًا في عواقب الجريمة؛ غير أن التضمين في العقوبة المترتبة — مثلًا — إنما ينتج فقط على أساس التعريفات التي تعرف بها «جريمة» و«مدبر» و«شريك» في مجموعة معينة من الأفكار القضائية؛ وهذه التعريفات مقولات توضع في قضايا صورتها «إذا – إذن»؛ وبتطبيق هذه المقولات يتقرر قيامُ أو امتناعُ اقتران السمات الذي يدل على أن فعلًا معينًا هو من القبيل الذي يتضمن عواقب معينة؛ على أنه من الواضح — من جهة أخرى — أن هذه التعريفات والمقولات التي نتحدث عنها، لم تنشأ لدينا من العدم؛ بل تطورت وصِيغت صياغة صريحة بألفاظ تبين الشروط التي اشترطتها ضرورة مواجهتنا لأفعال الناس كما تقع في الواقع؛ ونسوق مثلًا آخر، شخصًا يخط اسمه على قطعة من الورق، فلا يتبع ذلك شيء من عواقب، لكنه في ظروف تتحدد بتعريف مجرد، قد يطالب بدفع مبلغ معين من المال إذا ما وقع باسمه؛ وأخيرًا فإن التعريفات والتصورات القضائية تتطور وتتعدل بالنسبة إلى المهمة التي تؤديها في تنظيم المواقف التي تنشأ في الوجود الخارجي، في مجال العلاقات البشرية؛ ويكون المعيار النهائي الذي نقيس به صحتها، هو نجاحها الفعلي في تنظيم السلوك الإنساني. ونلخص ما سبق فنقول: إن ما هنالك من تقابل دالي، أو من علاقة متبادلة بين التضمن واللزوم، وبين الأنواع والمقولات، وبين قسمات الأشياء الواقعة وأطراف الفكرة العقلية، وبين القضايا الجامعة والقضايا الكلية، يدل على أن هذه التقسيمات تمثل أقسامًا متعاونة بين أجزاء العملية الأدائية الواحدة التي نجري بها البحث على نحو يحوِّل الموقف المشكل إلى موقف موحد محلول الإشكال؛ وستظل الحرب الضروس في ميدان المنطق قائمة بين التجريبيين الذين هم من قبيل «مل» وبين مدرسة المذهب العقلي، ما دام أتباع كل من المدرستين لا يتبينون ما للقضية في صورتيها في (الكلية والجامعة) من طبيعة أدائية وسلية، باعتبار هاتين الصورتين وجهين متعاونين لعملية البحث؛ لكن ما نطالبهم بتبينه لا يتحقق لهم إلا إذا نظروا إلى مجال المنطق نظرة توسعه بحيث يتطابق مع مجال البحث الموجه في سعته؛ نعم إن العلاقات بين الحدود وبين القضايا في حالة التفكير العقلي، هي من النوع الذي يمكننا من صياغة عبارات صورية خالصة — ونعني بقولنا صورية خالصة أن طبيعة الحركة الفكرية المنظمة نفسها تقضي عليها بأن تعالج إمكانات مجردة من كل مادة وجودية؛ لكن النظرية — كائنة ما كانت — التي تُقال عن المنطق «الخالص» ثم تزعم أن صور التفكير العقلي هي بالضرورة كل ما يتناوله المنطق بالبحث، هي نظرية تعسفية؛ لأنها عندئذٍ تكون نظرية منبنية أساسًا على جعل الاهتمام الشخصي الذي يغلب على رجل معين من رجال المنطق، أو يغلب على جماعة معينة من هؤلاء الرجال، هو المعيار الذي نقيس به ما يجوز أن يكون موضوعًا للبحث المنطقي؛ أضف إلى ذلك أن مثل هذه النظرية لا تزودنا بالأساس المنطقي الذي يقوم عليه التدليل العقلي وصوره، ولا تزودنا كذلك بتفسير معقول لانطباق صور التدليل العقلي على الوجود الخارجي، وهو انطباق يظل (على أساس النظرية المذكورة) مرهونًا بتناسق أزلي يكتنفه الإلغاز، نفرض وجوده بين ما هو ممكن — لا يجاوز حدود الإمكان إلى الحدوث الفعلي — وبين ما هو متحقق في الواقع.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/15/
النظرية العامة في القضايا
ولقد كانت القضايا — من الوجهة المنطقية — متميزة من الحكم، إلا أنها الأدوات المنطقية الضرورية التي نتوسل بها لبلوغ قرار ختامي جائز القبول، أي لنصل إلى حكم؛ فلا سبيل إلى تسويف الفعل المباشر إلى أن نجري بحثًا في الظروف الخارجية وخطط السير إزاءها، إلا باستخدامنا لعملية الرمز (وهي الفصل الذي يميز القضايا تمييزًا يجعلها نوعًا قائمًا بذاته)؛ حتى إذا ما حان الحين آخر الأمر، لقيامنا بالفعل بصورة سلوكية مكشوفة، جاء عندئذٍ فعلًا بصيرًا لا فعلًا أعمى (كما كان ليكون لو أديناه بغير بحث)؛ وبناءً على ذلك فالقضايا — من حيث هي قضايا — أدوات وسلية مؤقتة تقع في مراحل الطريق الوسطى (بين قيام المشكلة أولًا وحلها أخيرًا)؛ ولما كانت موضوعات القضايا تتناول نوعين من الوسائل: وسائل مادية ووسائل منهجية، كانت تلك الموضوعات مندرجة في مقولتين رئيسيتين: (١) مقولة وجودية تشير مباشرة إلى الظروف الفعلية كما قد حددتها المشاهدة المبنية على تجارب، و(٢) مقولة عقلية أو فكرية، تتألف من معانٍ يتصل بعضها ببعض، وهي معانٍ لا تكون وجودية المضمون بإشارة مباشرة إلى العالم الخارجي، لكنها تكون مما يمكن أن يصْدق على الوجود الخارجي إذا نحن أجرينا الإجراءات التي تعرضها علينا تلك المعاني عرضًا على سبيل الإمكانات؛ وحين يزودنا هذان الضربان من القضايا بالوسائل المادية والوسائل الإجرائية على التوالي، فإنهما يكونان مكملين أحدهما للآخر، أي إنهما يكونان متقابلين في الأداء؛ فهما بمثابة تقسيم العمل في عملية البحث إلى قسميه الرئيسيين. وهنالك حركة معاصرة في النظرية المنطقية — تعرف باسم الوضعية المنطقية — تجتنب استعمال كلمتَيْ «قضايا» و«حدود» لتستبدل بهما كلمتَيْ «جمل» و«كلمات»؛ وإننا لنرحب بهذا التغيير إلى الحد الذي يجعله تغييرًا يركز الانتباه فيما للقضايا من بناء ومضمون رمزيين؛ لأن تبين هذه الحقيقة يحرر النظرية المنطقية من تبعيتها للاعتمادات التي قد نسبق إلى اعتناقها عن الحقيقة الكونية وعن الميتافيزيقا؛ ويسمح للنظرية المنطقية أن تمضي في طريقها مستقلة بكيانها، على أساس مضمونات القضايا ومهماتها التي تؤديها كما تعرض لنا فعلًا لنحللها؛ وإن هذا التغيير إذ يبرز العنصر الرمزي في القضايا، يصلها باللغة صلة تردها إلى منبع واحد؛ هذا إلى أن اللغة ستُعَدُّ عندئذٍ مختلفة الكيان عن الأشياء التي تُقال تلك اللغة عنها، على الرغم من أنها تُقال عن تلك الأشياء إما بطريق مباشر أو طريق غير مباشر؛ أضف إلى ذلك أن صياغة موضوع المنطق في لغة الرموز، من شأنها أن تحرر النظرية المنطقية من اعتمادها على العالم الذاتي الذي قوامه «إحساسات» و«أفكار» حين يوضع هذا العالم ليقابل عالمًا آخر قوامه الأشياء، وذلك لأن الرموز واللغة أحداث موضوعية ترد على الخبرة الإنسانية. وثمة اعتراض ثانوي على استعمال كلمتَيْ «جمل» و«كلمات» لتدلا على ما قد كان يُسمَّى بقضايا وحدود، وهو أنه ما لم نكن على حذر في فهمنا لتينك الكلمتين، أدى استعمالهما إلى تضييق نطاق الرموز واللغة بغير داعٍ؛ لأننا عندئذٍ سنحذف تعبيرات الوجه وسنحذف الرسوم (كالخرائط والرسوم التخطيطية … إلخ) إذ لم يجرِ العرف على أن نعامل هذه الأشياء معاملتنا للجمل أو الكلمات؛ ومع ذلك فهذه صعوبة يمكن أن نجتنب الوقوع فيها؛ أما الاعتراض الأهم فهو أننا إذا لم نحسن صياغة المصطلحين الجديدين، ألفيناهما لا يميزان بين اللغة التي اصطنعناها لأغراض التبادل الفكري (وهي ما أسماها «لُكْ» باللغة «المدنية») وبين اللغة التي لم تتقرر إلا خلال بحوث سابقة متصلة بأغراض البحث الذي نكون بصدده، واللغة بمعناها الثاني وحده هي ذات المضمون المنطقي؛ فهذه المشكلة الخطيرة لا يمكن التغلب عليها بالنظر إلى الجمل والكلمات وهي قائمة وحدها، لأن التفرقة تعتمد على نية المتكلم التي لا يمكن استخلاصها إلا من السياق كله. ولا مناص من حدوث المغالطات في النظرية المنطقية، طالما كانت أمامنا حالة معينة لم نجد إزاءها إن كانت نية المتكلم أن ينقل فكرة معلومة من قبل، أو أن يستعمل ما قد ظن أنه معلوم، وسيلةً للبحث في أمر لبث حتى ساعة الكلام غير معلوم ومثار إشكال؛ فمثلًا خذ مسألة الموضوع والمحمول: فالموضوع في النحو هو مادة يُفرض فيها أنها معلومة، ومتفق عليها، و«مفهومة» — عند نقل الحديث — لمن ينقل فكرته ولمن تُنقل إليه؛ وأما المحمول في النحو فهو ذلك الذي يُفرض فيه أنه جزء مما لدى الشخص الذي ينبئ سواه بنبأ أو ينصحه بنصح، من معرفة وفكر، لكن لا يكون جزءًا من معرفة المستقبل وفكره؛ فافرض أن الجملة هي «الكلب قد ضاع» فمعنى «الكلب» معرفة مشتركة، أو مفروض فيها أنها مشتركة بين المتكلم والسامع؛ أما أنه «قد ضاع» فمفروض أن يكون ذلك معلومًا للمتكلم، لكنه لم يسبق للسامع علمٌ به، ولو أنه متصل بخبرته واعتقاداته. وعلى خطورة هذه الاعتراضات التي ذكرناها، فهنالك اعتراض آخر أخطر منها، وهو أن الوضعية المنطقية — كما تُصاغ عادة — واقعة تحت تأثير الصورية المنطقية المستمدة من تحليل الرياضيات، إلى الحد الذي يجعلها تفرق تفرقات حادة مسرفة في حدتها بين المادة والصورة، وتطلق على هذين الجانبين اسمَيْ «معاني الكلمات» و«علاقات البناء اللفظي»؛ نعم إنه لا جدال في أن النظرية المنطقية لا بد أن تميز بين الصورة والمادة، لكن ضرورة هذا التمييز لا تدل بذاتها إن كان هذان الجانبان المتميزان مستقلين أحدهما عن الآخر أو غير مستقلين، أي إن التمييز في ذاته لا يدل إن كانت الصورة والمادة — مثلًا — متعلقين أحدهما بالآخر تعلقًا نابعًا من صميم طبيعتهما الداخلية، عندما يتمثلان معًا في موضوع القضية المنطقية، وأنهما إن تميزا فلا يتميزان إلا في التحليل النظري وحده، أقول إن التمييز بين هذين الجانبين لا يدل بذاته إن كانت هذه هي حقيقة أمرهما أو لم تكن؛ فبينما طبيعة الجمل أو اللغة تغرينا بإقامة التفرقة بين معاني الكلمات التي هي قوام مادتها وبين الطرق التي نرتب بها تلك الكلمات في بنائنا للجمل؛ فما هذه التفرقة إلا أسلوب جديد نخرج به المشكلة الأساسية القديمة، مشكلة قيام أو امتناع العلاقة بين المادة والصورة، أو بين المعاني والبناء الفظي؛ فإذا جئنا نزعم — زعمًا مضمرًا أو صريحًا — بأن التمييز بين الجانبين ينهض برهانًا على استقلال كل من المادة والصورة عن الآخر، جاعلين اختصاص المنطق مقصورًا على الصورة وحدها، لم نكن بهذا الزعم إلا بمثابة من يسلم بالنقطة الأساسية التي هي نفسها موضع النزاع. وعلى الرغم من رفض (الوضعية المنطقية) رفضًا اسميًّا المبادئ والمزاعم «الميتافيزيقية» كافة، إلا أن الفكرة القائلة بوجود فاصل حاد — إن لم يكن فصلًا تامًّا — بين الصورة والمادة، هي فكرة ترتكز آخر الأمر على تقليد خاص، هو تقليد ميتافيزيقي صِرف؛ فما للرياضيات من طابع صوري، مسلَّم بصورته، لا يقوم برهانًا على انفصال الصورة عن المادة، وكل ما يفعله هو أنه يضع تلك المشكلة وضعًا يجعلها مشكلة أساسية؛ وإنا لنضيف إلى اعتراضاتنا السابقة (على الوضعية المنطقية) اعتراضًا آخر هو أمس منها جميعًا بصميم الموضوع، وهو أن توحيدنا بين الصورة المنطقية والصورة البنائية في الجمل اللغوية، مضطر أن يفرض — كأنه حقيقةٌ معطاةٌ — وجودَ الفوارق التي تميز بين الأسماء والأفعال والصفات وحروف الجر وأدوات الوصل … إلخ؛ لكن أحدًا لم يحاول قط — ولست أرى كيف يمكن لمثل هذه المحاولة أن تتم بنجاح — أن يبين أي الكلمات يكون له القوة المميزة على أساس التصنيفات المذكورة (أعني أن يبين ما الذي يجعل الأسماء أسماءً والأفعال أفعالًا وهكذا) دون أن تؤخذ معاني الكلمات في الاعتبار، والمعاني إنما هي من قبيل المضمون المادي. لقد كان يكون سخفًا منا — بطبيعة الحال — لو ذهبنا إلى أن التفرقة المذكورة آنفًا، هي تفرقة متضمنة في طبيعة استبدالنا لكلمتَيْ «كلمات» و«جمل» بكلمتَيْ «حدود» و«قضايا»؛ ولكن أما والنظرية المنطقية على حالتها الراهنة التي هي عليها، تربط بالفعل هذا الاستبدال بفكرة التفرقة المذكورة، فقد أصبح لدينا ما يسوغ استخدامنا للمصطلحات القديمة في الموضوع؛ وإن هذا المسوغ ليزيده الاستعمالُ اللغوي قوة بسبب حقيقة سبق لنا ذكرها، ألا وهي أن كلمة «جملة» كما هي مستعملة في اللغة الجارية، تدل على ختام البحث أكثر مما تدل على بدايته، أو على السير المستمر في طريق تنفيذه؛ على حين أن كلمة «قضية» — من جهة أخرى — توحي على الأقل بأن شيئًا يعرض علينا لنقضي في أمره، بحيث يمكن أن نضعه فيما بعد موضع الاعتبار، ولذلك فهو شيء يدخل دخول التكامل في مجرى البحث المستمر. إن موضع النزاع الأساسي حول منطق القضايا، إنما يتصل بالنزاع الأصيل القائم بين النظرية القائلة بأن القضايا تردُ في المراحل الوسطى من السير في البحث، وبأنها أدائية في مهمتها التي تؤديها، وهي إقامة حكم نهائي نختم به سير البحث، وبين النظريات — تقليدية أو معاصرة — التي تعزل القضايا عن وضعها وعن مهمتها اللذَيْن يدل عليهما السياق، واللذَيْن يجعلانها تؤدي إلى تحديد الحكم النهائي؛ وإن إحدى هذه النظريات التي ذكرناها، لتذهب إلى أن الحكم وحده هو المنطقي، وأما القضايا فليست إلا عبارات لغوية تعبر عن الأحكام؛ وهي وجهة نظر تتسق مع الفكرة القائلة بأن المنطق هو نظرية الفكر، حيث يكون الفكر أمرًا عقليًّا؛ على حين تقول نظرية أخرى من تلك النظريات أيضًا بأنه ما دام الحكم وقفة عقلية — يقفها من يصدر الحكم — إزاء القضايا، إذن فالقضايا وحدها هي ذات الطبيعة المنطقية؛ وعلى الرغم من حدة الخلاف بين هاتين النظرتين، فإن كلتيهما تتفقان معًا على أن الحكم — أو «الفكر» بصفة عامة — هو شيء عقلي؛ وعلى ذلك فكلتاهما تقفان موقف المعارضة لوجهة النظر التي نأخذ بها في هذا الكتاب، ومؤداها أن البحث إنما يختص بتحويلات موضوعية تطرأ على مادة موضوعية؛ وأن مثل هذا البحث هو الذي يعرف لنا المعنى الوحيد الذي نجعل به «الفكر» أمرًا ذا صلة بالمنطق؛ وأن القضايا ليست سوى تقديرات وتقويمات مؤقتة نزن بها كائنات الوجود الخارجي وتصورات العقل، باعتبارهما وسيلتين لإقامة حكم أخير يكون بمثابة حل موضوعي لموقف مشكل؛ وبناء على ذلك فالقضايا تشكيلات رمزية، على أن هذا الرمز لا هو رداء خارجي، ولا هو شيء كامل ونهائي في ذاته. وربما كانت أكثر وجهات النظر شيوعًا اليوم، هي وجهة النظر التي تعد القضايا مادة الرباط الذي يضم النظرية المنطقية كلها في كيان واحد؛ وللقضايا — بناءً على هذه النظرة — خصيصة تحددها، وهي أن تكون قابلة للحكم عليها بالصدق أو بالكذب من الناحية الصورية؛ وأما بناء على وجهة النظر التي نأخذ بها في هذا الكتاب، فالقضايا تتباين أو تتشابه على أساس المهمة التي يؤديها مضمون القضية من حيث هو وسيلة — إجرائية أو مادية — ثم نفرع عن الفروق بين القضايا المختلفة فروقًا فرعية أخرى تباين بين صورها، على أساس الطرق الخاصة التي نستخدم بها موضوعات تلك القضايا الفرعية استخدامًا يجعلها وسائل تؤدي إلى غايات؛ وهذه النقطة الأخيرة هي الفكرة الرئيسية التي نعرضها في هذا الفصل؛ لكنه جدير بنا في هذا الموضع أن نقول بأنه ما دامت الوسائل — من حيث هي مجرد وسائل — لا هي بالصادقة ولا هي بالكاذبة، إذن فليس الصدق أو الكذب هو الخصيصة التي تميز القضايا؛ فنحن إنما نقول عن القضايا إنها فعالة أو غير فعالة، وإنها تمس صميم الموضوع أو ليست لها به صلة، وإنها مضيعة أو مقتصدة؛ على أن معيار التفرقة في هذه الحالات كلها إنما يكون في العواقب التي كانت الوسائل وسائل لها؛ وعلى هذا الأساس نقول عن القضايا الخاصة إنها سليمة التطبيق (قوية وفعالة) أو غير سليمة التطبيق (ضعيفة وغير وافية)، أو نقول عنها إنها مهملة الأطراف أو محكمة الأطراف وهلم جرًّا. لقد أسلفت القول بأن القسمة الأساسية للقضايا، إنما تقوم على مكانها الأدائي من الحكم، وها أنا ذا أعود إلى هذه النقطة؛ فالحكم المدعم يعتمد على إيجاد الوقائع التي (١) تحدد وضع المشكلة ومحيطها، أعني المشكلة التي خلقها موقف غير متعين، والتي (٢) تهيئ لنا الشواهد التي تختبر بها الحلول المقترحة والمعروضة وبهذا يكون لدينا قضايا، هي أحد قسمين رئيسيين للقضايا، وهو القسم الذي تدور قضاياه حول مضمونات الأشياء التي نجعلها موضوعات لتلك القضايا؛ لكن الحكم المدعم معتمد كذلك على معانٍ أو بناءات تصورية في الذهن (١) تمثل لنا الحلول الممكنة للمشكلة المطروحة بين أيدينا، و(٢) وترسم خطة للإجراءات التي لو نفذت لتولدت عنها معطيات جديدة تميل بنا نحو موقف متعين الحدود في العالم الخارجي؛ وهذه هي قضايا تدور حول مضمونات المحمول — وهي قضايا القسم الثاني من القسمين الرئيسيين. أما القسم الرئيسي الأول من قسمَي القضايا، فتتألف مادة موضوعه أو يتألف مضمونه من المعطيات المشاهدة أو الوقائع؛ وهذه تسمى بالوسائل المادية؛ وهي — من حيث هي وسائل مادية — إمكانات من شأنها — في تفاعلها مع ظروف وجودية أخرى — أن تنتج — متأثرةً بفعل إجراء تجريبي نجربه — أن تنتج تلك المجموعة المنظمة من الظروف التي منها يتألف موقفٌ حُلَّ ما قد كان فيه من إشكال؛ ومثل هذا الموقف الذي يتحقق وجوده في العالم الخارجي، إنما تكون الوسيلة الصريحة لاستحداثه هي ما يتم بين الوقائع الخارجية من تفاعل؛ نعم إن ما قد كان مقتصرًا على مجرد الوجود بالقوة في لحظة معينة من الزمن، قد يتحول إلى وجود بالفعل في لحظة تالية من لحظات الزمن، لا لشيء سوى ما يطرأ على الظروف المحيطة به من تغير، دون أن يتدخل الإنسان بأي إجراء ينطوي على جانب منطقي أو عقلي؛ كما يحدث مثلًا حين يتجمد الماء بسبب تغير معين يطرأ على درجة الحرارة؛ غير أنه في البحث لا بد أن يتدخل الباحث بإجراء متعمد، أولًا باختياره للظروف التي يراها عوامل فعالة؛ وثانيًا بإقامته للظروف الجديدة التي تتفاعل مع الظروف التي كانت موجودة من قبل؛ وهذان الإجراءان ترسم لهما الخطة التي من شأنها أن تقرب الباحث بقدر الإمكان من أن يحدد على وجه الدقة ماذا يكون نوع التفاعل — حين نجمع الظروف المتشابهة معًا، ونباعد بين الظروف المتباينة — ماذا يكون نوع التفاعل الذي لا غناء عنه لإنتاج مجموعة محددة من النتائج؛ وإنما تكون العلاقة بين الظروف المتفاعلة من جهة والنتائج المتحققة من جهة أخرى، علاقة عامة، كما تكون علاقة صورية من حيث جانبها الأدائي، لأنها تكون علاقةً قد تحررت من كل إشارة إلى أية حالة جزئية من حالات الحدوث المتحقق في المكان والزمان. وينبغي أن نفرق بين حالات الوجود بالقوة والإمكانات المجردة؛ فالأولى هي «قوى» وجودية تتحقق بالفعل في ظروف معينة من تفاعل الكائنات الموجودة في العالم الخارجي بعضها مع بعض؛ وأما الإمكان — على خلاف ذلك — فأمره أمر إجراء نجريه من حيث هو إجراء صرف؛ أي إن الإمكان هو قابلية الإجراء؛ ولا نقول عنه إنه قد تحقق وجوده بالفعل إلا حين ينصب الإجراء على كائنات فعلية، لا على رموز أو بوساطة رموز؛ والإجراء الممكن — بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة — هو الذي تتألف منه فكرة أو تصور ذهني؛ فإذا كان تنفيذ الإجراء منصبًّا على مادة فكرية حالة كونها مرموزًا لها برمز، فإنه لا يُنتج النتائج التي من شأنها أن تزيل حالة التوتر؛ إذ هو لا ينتج هذه النتائج — كما أشرنا في الفقرة السالفة — إلا بإضافة ظروف عن طريق الإجراء العملي، فتخلق تلك الظروف نوعًا محددًا من التفاعل؛ ففكرة اجتراع شراب من الماء — مثلًا — لا تؤدي إلى شرب الماء فعلًا إلا لأنها تحدث تغيرًا في الظروف التي كانت قائمة من قبل، وأقل ما يحدث في هذا الصدد أن يدار صنبور أو يصب الماء من إناء، لكي نصل بين الماء وبين مجموعة جديدة من الظروف؛ ومن هذه الملاحظات التمهيدية العامة ننتقل بالحديث إلى النظر في الأنواع المختلفة من القضايا، أعني الأنواع التي هي الأقسام الفرعية التي ينقسم إليها هذان النوعان الرئيسيان اللذان فرغنا الآن من وصفهما. فحين تسمى القضايا السالفة الذكر — كما تسمى أحيانًا — بقضايا الإدراك الحسي، يحدث خلط بين الظروف السببية التي تقع فيها الصفة المعينة، وبين الصورة المنطقية لهذه الصفة؛ فيهمنا أعظم الأهمية في شئوننا العملية أن نعرف الظروف السببية التي تجعل الشيء صلبًا أو مرًّا أو أزرق، إذ بغير هذه المعرفة لا نجد الوسيلة التي نضبط بها حدوث أمثال هذه الصفات؛ غير أن الدلالة المنطقية ﻟ «جزئي» ما إنما يُحددها حدوث الصفة التي نكون بصددها حدوثًا متعين المكان والزمان تعينًا دقيقًا؛ ومن ثَم كانت أمثال هذه القضايا هي التي تمثل أولى مراحل تحديد المشكلة؛ لأنها تزودنا بمعلوم أوَّلي، إذا ما أضفناه إلى غيره من المعطيات، فقد يدلنا على نوع المشكلة التي يقيمها الموقف الذي نحن إزاءه، وبهذا فهو يزودنا بشاهد من الشواهد التي تشير إلى حل مقترح لها، كما يكون أداة لاختبار ذلك الحل؛ على أن هنالك حالات تكون فيها للعبارة اللغوية الواحدة قوة القضية الدالة على تمثيل الفرد الجزئي لنوع ما، بالإضافة إلى دلالتها الإشارية، وهي صورة سنتناولها فيما بعد مباشرة؛ ففي سياق معين من البحث، قد لا يعني قولنا «هذا حلو» أن تغيرًا معلومًا هو في حالة الحدوث، وأنه لا بد من أخذه مأخذ الاعتبار في صياغة مشكلة ما؛ إذ قد يكون هذا القول في سياق خاص، علامةً على أن مشكلة معينة قد انتهت إلى حل؛ كما هي الحال مثلًا في مشكلة يكون هدفنا فيها هو البحث عن شيء ما من شأنه أن يحل شيئًا آخر، أما إذا فصلنا الصورة اللغوية عن مادة السياق التي هي مشكلةٌ معينة وبحثها، كان محالًا علينا أن نقرر ماذا تكون الصورة المنطقية التي جاءت تلك الجملة لتعبر عنها. قضايا تمثيل الفرد لنوعه هي تلك التي تحدد ما نشير إليه بقولنا هذا، على أنه أحد أفراد نوع معين؛ خذ المعنيين الممكنين لقولنا: «هذا حلو»؛ فإذا كانت القضية هنا قضية تشير إلى جزئي، كان معناها — كما قد أسلفنا القول — أن تغيرًا مباشرًا قد حدث أو هو على وشك الحدوث؛ وأما حين يقصد بهذه العبارة نفسها أن تقدم حل مشكلة قائمة، فمعناها يكون أن «هذا» هو أحد أعضاء نوع الأشياء الحلوة، أو أن هذا فيه صفات موجودة بالقوة، هي التي تكون خصائص أي شيء حلو؛ وعندئذٍ لا تكون صفة كونه حلوًا مجرد تغير قد حدث، بل تكون علامة على مجموعة مقترنة من النتائج التي ستحدث إذا ما حدثت تفاعلات معينة؛ خذ مثلًا هذه القضية «إنه قاسٍ» أو «إنه رحيم» فها هنا نجد الصفة التي تمثلها كلمة «قاسٍ» أو كلمة «رحيم» تدل على ميل نحو الفعل بطريقة معينة، وليست هي مقصورة على تغير يحدث في لحظة معينة من الزمن؛ بل إن ما يحدث في اللحظة الزمنية المعينة يتخذ شاهدًا على السمات الدائمة التي تصف نوعًا ما؛ وإن وجود هذه السمات التي تصف النوع ليتجلى في وضوح، إذا بدلنا من صيغة العبارة بحيث تصبح «إنه شخص قاسٍ». أما قضايا كهذه؛ «هذه شجرة من شجر الدردار» أو «هذا سكر، أو حجر من الجرانيت، أو شهاب … إلخ» فلا ازدواج في تحديدها وفي تمييزها لفرد ما على أنه عضو في نوع معين؛ ولا حاجة بنا إلى أن نعيد هنا ما قد أسلفناه عن قوة فكرة النوع أو مقولة النوع في سهولة الحصول على نتائج استدلالية مدعمة؛ لكنه قد يكون من الضروري أن نذكر أنه حين تكون لكلمة وصفية مثل «محسن» و«ثديي» نفس القوة المنطقية التي تكون للاسم العام، فعندئذٍ يكون هناك افتراض مسلَّم به، وهو وجود خصائص وصفية أخرى تقترن بالصفة التي أعلن عن وجودها؛ فحين يُقال: «هذا حديد» فمن الواضح عندئذٍ أن كلمة حديد تشير إلى سمات ليست مشهودة الآن شهودًا مباشرًا، لكنها من حيث هي نتائج موجودة بالقوة، تتصل بصلة الاقتران مع الصفة الحاضرة حضورًا مباشرًا، كصفة اللون أو صفة الملمس؛ وكذلك قلْ في الفرق بين هاتين القضيتين: «إنه (ها هنا وفي هذه اللحظة) يسلك سلوك الرحيم» و«إنه رحيم»؛ فهو فرق قوامه أن القضية الثانية تتضمن استدلالًا يبدأ من المعطي المباشر الذي هو تغيرٌ تقرره القضية الأولى، وينتهي إلى مجموعة من السمات لا تكون بذاتها مشهودة في تلك اللحظة الزمنية وذلك المكان المعين. وهكذا تعود بنا القضية التي تتحدث عن فرد من حيث هو عضو في نوع، إلى ما قلناه في الفصل السابق عن سير الحكم في طريق متصل الحلقات؛ فهذه القضايا الآتية: «هذا له لمعة الزجاج؛ ولا يمكن خدشه بسكين؛ وهو يخدش الزجاج؛ ولا ينصهر بنافث النار؛ ويتحطم في شظايا صدفية» هي قضايا — لو أخذت كل منها على انفراد — كانت أوصافًا لطرائق معينة من التغير؛ أما إذا طبقناها مقترنةً ومتجمعةً على شيء معين نشير إليه ﺑ «هذا»، فعندئذٍ نحصل منها على مجموعة من السمات المقترنة التي تصف نوع حجر الصوان (الكوارتز)؛ (١) فتغير واحد معين لا يكون من بين ما نلاحظه على أنه حقيقة واقعة فنشاهدها كما تقع؛ بل الذي نلاحظه عندئذٍ هو الظروف التي لا بد من توافرها لحدوثه؛ (٢) وهذه التغيرات يتبين لنا أنها مشتبكة بعضها مع بعض على نحو يجعل حضور إحداها علامةً مأمونة على أن سائرها سيمثلُ أمام أعيننا إذا ما حدثت تفاعلات من نوع معين، رغم تنوع الظروف التي قد تحيط بها في حالات مثولها؛ وكذلك قلْ في هذه القضية: «هذا يحيل الورقة الزرقاء حمراء» فهي في ذاتها وبذاتها لا تفعل أكثر من كونها تسجل ملاحظةً قائمة وحدها؛ لكننا إذا ما كنا في طريقنا من أبحاث يكمل بعضها بعضًا، ويجيء سابقها متبوعًا بلاحقها، وإذا ما وجدنا هذه الأبحاث تنتج لنا قضايا أخرى عن هذا (المشار إليه في القضية المذكورة)، فعندئذٍ تصبح قضية «هذا حامض» (أي إنه منتمٍ إلى نوع بعينه) قضية جائزة القبول (بفضل القضية المذكورة سابقًا)، وهكذا قد أصبح في مستطاعنا أن نحدد تحديدًا قاطعًا الفوارق المنطقية بين الصفة، والقَسْمة، والسمة، والخصيصة، وهي فوارق قد أثبتناها فيما سبق؛ ﻓ «تحويل الورقة إلى اللون الأحمر» — باعتباره موضوعًا لمشاهدة جزئية — يكون صفة؛ لكنه يكون سمة أو قسمة مميزة تعين حدود النوع، لو كان ذلك التحويل إلى اللون الأحمر يمكننا من الاستدلال المأمون من الخطأ بدرجة معقولة، فنستدل منه حدوث صفات أخرى في ظل ظروف معينة؛ ثم يصبح خصيصة إذا ما ثبت بأمثلة سلبية وأخرى إيجابية أنه علامة ثابتة يركن إليها في توقع قسمات أخرى نعلم أنها مقترنة بالقسمة المذكورة؛ فعندئذٍ تكون هذه الخصيصة منتمية إلى النوع كله بجميع حالاته، وبحكم طبيعته الأصيلة. لقد أعدنا الإشارة مرارًا إلى «الظروف» السياقية، باعتبارها ضرورة لا غناء عنها في تحديدنا لمفهوماتنا عن قسمات الأشياء المميزة لها، وعن الوجود بالقوة، وعن الاستدلال؛ وحقيقة هذه الظروف التي تعين طبيعتها، كثيرًا ما «تُضْمَر» أي إنها تُؤخذ على أنها أمر مسلَّم به؛ فيستحيل أن تُساق في عبارة صريحة سياقًا كاملًا، حتى في البحث العلمي نفسه وفي عملية الاستدلال؛ وذلك لأن عرضها في تقرير كامل أمر محال، إذ إن ذلك يقتضي أن نستوعب كل شيء تقريبًا؛ ولهذا ترانا نأخذ مأخذ التسليم بالظروف التي نرى أنها مفروضة الوقوع، فإذا بسطنا هذه الظروف في عبارة صريحة فيما ذلك إلا حين تتباين في آثارها، فنبسطها في العبارة الصريحة بمقدار ما هي متباينة الأثر؛ فهنالك ظروف عضوية خاصة لا يكون طعم السكر فيها حلوًا، وظروف مادية معينة لا يحلي السكر فيها غيره من المواد؛ ففي حالات خاصة كهذه فقط، يتحتم علينا أن نبسط الظروف في عبارة صريحة، أعني الظروف التي تجعل النتائج مغايرة للنتائج التي نسلم بوقوعها في الحالات المعتادة؛ فمثلًا ليس بمأمون من الخطأ أن تستدل بأن شيئًا ما لزجٌ لأنه حلو؛ لكن إذا ما بسطت الظروفُ المغايرة بسطًا وافيًا، فعندئذٍ تصبح بمنجاة من الخطأ أن تستدل بأن «هذا الشيء الحلو هو من فئة الأشياء اللزجة»؛ فتسليمنا منذ البداية — تسليمًا مضمرًا أو صريحًا — بالظروف المحيطة المطلوبة في حالة معينة، مساوٍ لقولنا عن مجموعة تلك الظروف إنها قد أصبحت مقننة لشتى الحالات. وإلا فالمعالم التي نستخدمها لنصف بها نوعًا معينًا قد تكون إما متداخلة (وفي هذه الحالة يصبح من الممكن أن ننسب الشيء أو الأشياء التي نكون بصدد التحدث عنها إلى نوع آخر) أو أن تكون المعالم المأخوذة غير كافية لنسبة الشيء إلى النوع الذي خصصناه له، أريد أن أقول إن المعالم عندئذٍ إما أن تكون أوسع مما ينبغي أو أضيق مما ينبغي (أي لا هي بالمانعة ولا هي بالجامعة)؛ مثال ذلك حين كانت الخفافيش تنسب إلى نوع الطيور، وكانت الحيتان تنسب إلى نوع الأسماك، فعندئذٍ كانت صفة الطيران وصفة السباحة على التوالي، أوسع شمولًا وفي الوقت نفسه أضيق حدودًا من أن تسوغ نسبة هذه الكائنات إلى هذه الأنواع؛ وإذن فالاستدلال لا يمكن أن يسير سيرًا مقبولًا في حالة القضايا التي تنسب فردًا إلى نوعه؛ إلا إذا حددنا مختلف الأنواع التي تندرج معًا في نوع أشمل منها، مع تحديدًا للفوارق التي تفصل كل نوع منها عن سائر الأنواع؛ فبهذا وحده تتحقق لنا الشروط المنطقية التي تجيز لنا السير في الاستدلال المذكور. وهذا الذي نقوله من أن القضايا التي ننسب بها فردًا إلى نوعه، والقضايا التي نقرر بها العلاقة بين الأنواع، تتصلان كلتاهما بعملية الاستدلال، هو بمثابة القول بهزيمة النظام القديم الذي كانت تنسق به أنواع النبات والحيوان تنسيقًا جامدًا، وأعني به نظم «التصنيف»؛ فقد كان لا مندوحة لهم عن تصنيف أنواع الكائنات تصنيفًا جامدًا، ما دام المفروض في تلك الأنواع هو أنها أنواع ذوات حقيقة وجودية ثابتة، ينفصل بعضها عن بعض في الطبيعة الخارجية؛ ثم أحللنا محل هذه النظم مجموعات مرنة متصلًا بعضها ببعض، فكان ما نراه في علمَي الحيوان والنبات من ممالك وفصائل وأسر وأنواع وصنوف … إلخ؛ وكل هذا هو بمثابة تحديدنا للعلاقات الكائنة بين الأنواع على أساس صلاتها بالاستدلال النسقي المنظم؛ ومع ذلك فقد كان الأثر المباشر لهدم فكرة الأنواع الطبيعية الثابتة عاملًا على التفكك من الناحية المنطقية، لأنه أدى إلى فكرة لا تزال قائمة في النظرية المنطقية عند التجريبين التقليديين، وهي الفكرة القائلة بأن كل قسمة إلى أنواع يتصل بعضها ببعض، إن هي إلا وسيلة للسهولة العملية دون أن تكون لها دلالة منطقية متأصلة في طبيعتها؛ لكن الكشف عن تفرع الأنواع من أصل مشترك، تفرعًا تطرد خطاه بفضل التنوع الذي ينشأ عن اختلاف الظروف المحيطة، قد وضع لنا أساسًا موضوعيًّا؛ إذ إنه قد أعاد إلينا موضوعية التصنيف، كما كانت الحال في نظرية الأنواع الثابتة، لولا أن هذا الأساس الجديد يختلف عن أساس النظرية القديمة، وإن اتفقا في الموضوعية؛ ووجه الاختلاف — من ناحية الظاهر الخارجي — علامته إحلالنا لاعتقادنا في «أصل الأنواع» محل الزعم الذي كانوا يفرضون به أنواعًا طبيعية ثابتة. وهذا التغير يساوي في مجال المنطق مصادرةً نفرضها لنعمل على أساسها، وأعني بها أن ترتيب الأفراد في الفئات التي من شأنها أن تفيد وأن توجه عملية الاستدلال التي ننتقل بها من كائن معلوم إلى كائن مجهول، هو نفسه الترتيب الذي نرتب به تسلسل الأحياء فرعًا عن أصل، حيث نقرن اختلاف الأنواع باختلافات الظروف المحيطة؛ فعلى هذا الأساس تكون الزواحف أقرب نسبًا إلى الطيور منها إلى الضفادع والتماسيح التي كانت توضع معها في صنف واحد بادئ الأمر؛ وهذا التحول إلى مبدأ للتصنيف يقوم على أساس تسلسل الأحياء، هو نفسه ما حدث في مجال المنطق من الانتقال من السوابق إلى اللواحق لتكون هي الأساس الذي نقيم عليه اقتران المعالم التي نميز بها نوعًا من الأنواع؛ وهو انتقال يتمشى مع الأهمية التي جعلناها لتفاعل الظروف بعضها مع بعض. ثم خذ هذه القضية: «زيد يعطي تفاحة إلى خالد» فهو يؤدي هذا الفعل في زمان ومكان معينين، وإذن فالقضية تشير إلى تغير وجودي قائم في ذلك الزمان وذلك المكان؛ وقد لا يكون هذا التغير حدث قط من قبل، وربما لن يحدث قط في المستقبل؛ ومع ذلك فكثيرًا ما تفسر القضية على الوجه الآتي: «زيد هو واهب لتفاحة إلى خالد» وليس هذا الاختلاف بين الصورتين اختلافًا لفظيًّا فحسب، بل إنه اختلاف ينقل الأمر من صورة منطقية إلى صورة منطقية أخرى، لأن العلاقة بين الواهب والموهوب إليه علاقة جامعة، ومن ثَم فهي متحررة من قيود الزمان المعين والمكان المعين؛ ولو فهمنا هذه العبارة الثانية فهمًا حرفيًّا، كان معناها هو أن زيدًا يضطلع بمهمة دائمة وهي إعطاء تفاح إلى خالد، أو أنه — على الأقل — يميل نحو أن تكون هذه هي مهمته؛ وخذ مثلًا قضيةً كهذه: «إبراهيم قد أوصى بوصية لصالح إسماعيل»، فهذا فعل (أي تغير) يحدث في زمان ومكان معينين، ولا بد أن يكون على حدوثه شهود ومشاهدون؛ إلا أن العلاقة بين الموصي والموصى له هي علاقة جامعة لأن العبارة التي تقرر هذا الفعل الخاص في حدود هذه العلاقة، تدرج الفعل في نسق من مقولات لها تعريفها في مجال القضاء، وهي مقولات تتنوع عواقبها عند تطبيقها؛ ولو أبعدنا ذلك الفعل الخاص عن كونه فعلًا من النوع الذي تحدده مقولات القانون، لما صح وصفه بأنه وصاية بوصية، لكنه سيظل مع ذلك فعلًا حدث في زمان ومكان معينين، غير أنه قد لا يختلف عندئذٍ عن كتابة كاتب لاسمه — لغير غاية مقصودة — على قطعة من الورق. وعلى خلاف القضايا التي فرغنا لتونا من مناقشتها، نرى القضايا التي تُثبت علاقة بين الأنواع، بحيث تدل على أن نوعًا ما يدخل مع أنواع أخرى في نوع يشملها جميعًا، أقول إن هذه القضايا هي — بالبداهة — «تصنيفية»؛ لكنه يكون خلطًا منطقيًّا خطيرًا، لو أننا مددنا في نطاق هذه الصفة التصنيفية حتى تشمل القضايا التي تنسب الفرد إلى نوعه في مفهومها، كما تشملها في ماصدقها، على حين أن الجانب التصنيفي مفروض هنا — بالبداهة — أن يقتصر على مجال المفهوم وحده دون الماصدق؛ فنحن نخلط بين الصور المنطقية إذا استنتجنا من المعالم التي نحدد بها علاقة بين الأنواع، معتمدين في ذلك على الجانب العقلي من تلك المعالم، أقول إننا نخلط بين الصور المنطقية إذا استنتجنا من ذلك أن «حلو» في قضية «هذا حلو» صفة عقلية تحمل على «هذا»، لأن هذه الصفة ليست صفة محمولة عقلًا على «هذا» بأي معنًى من معاني الضرورة؛ وكل ما تشير إليه هذه الصفة في هذه الحالة هو أن تغيرًا جزئيًّا معينًا قد حدث، أو في طريق الحدوث، أو سيحدث في زمان ومكان معينين؛ وإلى هنا لا نقول شيئًا أكثر من أن نعيد — في عبارة أخرى — نقطةً أشرنا إليها من قبل؛ لكننا نضيف نقطة جديدة ذات أهمية منطقية، حين نذكر هنا أن تفسير كافة القضايا على أساس تصنيف الأفراد أو على أساس حمل الصفة على موضوعها (وتفسيرها على أساس الماصدق وعلى أساس المفهوم) إنما هو تفسير يُبهم طبيعتها الوسلية والأدائية. إنه لا شك في أن قضية «الحديد معدن» معناها أن النوع الذي نرمز إليه بلفظ «الحديد» يندرج في النوع الذي نرمز إليه بلفظ «المعادن»؛ أو إذا أردنا أن نعبر عن هذا بعبارة تتناول الأمر من جانب صفاته العقلية، قلنا إن تلك القضية تعني بغير شك أن العلاقات القائمة بين المعاني التي نعرِّف بها كون الشيء معدنيًّا، تصدق كذلك على العلاقات القائمة بين الصفات التي نعرِّف بها كون الشيء حديدًا؛ لكن على أية حال من هاتين الحالتين اللتين قد نفهم بهما القضية المذكورة، فالقضية وسلية بالنسبة إلى الاستدلال؛ والأساس المنطق الوحيد لتمييز الصورة المنطقية التي تتمثل على هذا النحو، من الصورة المنطقية التي تنتمي إليها قضايا مثل «هذا حديد»، الأساس المنطقي الوحيد لهذا التمييز هو في نوع الاستدلال المراد خدمته؛ فإذا قرر صانع أن «هذا حديد» أمكنه أن يستدل النتائج التي ستترتب إذا هو عالجه على نحو معين؛ فمثلًا إذا أحماه أصبح لينًا إلى الدرجة التي تمكنه من صياغته؛ أما هاتان القضيتان «الحديد معدن» و«إذا كان الشيء معدنيًّا كان عنصرًا كيمويًّا». فهما — كما أشرنا — أساسان لاستدلال من طبقة تختلف عما ذكرنا. هنالك طراز من القضايا، هو شرطي في صورته اللغوية، لكنه مع ذلك يشير إلى أفراد؛ فالقضية؛ «إذا استمر هذا الجفاف فسيجيء المحصول غاية في القلة» والقضية: «إذا سقط هذا، فربما أعقب سقوطه انفجارٌ» تشير كل منهما إلى تغيرات وجودية يفرض في بعضها أنه متضمنٌ في بعضها الآخر؛ ويصدق هذا نفسه على قضية مثل «إذا استمر المطر فسترجأ مباراة الكرة عن موعدها المقرر»؛ فقضايا كهذه تمثل طرازًا من القضايا واسع الشيوع، وهي قضايا تظهر فيها كلمتا «إذا – إذن»؛ غير أنه في مثل هذه الحالات — كما لاحظنا في فصل سابق — هنالك فروض أولية مسلَّمة، وهي وجود رابطة وجودية بين ظروف وجودية يكون فيها لكلمتي «مقدم» و«تالٍ» معناهما الحرفي، أي يكون لهما معناهما الوجودي؛ فالجفاف والقنبلة قائمان الآن في الوجود الخارجي؛ فإذا حدث شيء ما (نرمز إليه بكلمتي «استمر» و«سقط») تبعته نتائج مادية معينة، بالمعنى الزمني لكلمة «تبع»؛ والرابطة هنا عرضية وللقضايا درجة معينة من الاحتمال؛ وهي — فضلًا عن ذلك — بمثابة التمهيد لما يجيء بعدها، إذ هي من قبيل النصح أو التحذير من حيث إنها تعد لحوادث محتملة الوقوع في المستقبل؛ فكأنما قائلها يقول: «استعد لنقص في محصول الغلة» و«لا تسقط ذلك الشيء إلا إذا كان مرادك أن يحدث انفجار» و«لا تذهب إلى ملعب الكرة حتى تستيقن من حالة الجو»؛ وإذن فهي قضايا متميزة من القضايا الشرطية الكلية المجردة من حيث صورتها، وذلك لما فيها من إشارة إلى مكان وزمان معينين. قد أسلفنا الإشارة إلى ضرورة تحديد المعالم — بوساطة النفي والعزل — التي تصف سائر الأنواع الداخلة مع النوع الذي نحن بصدد الحديث عنه في نوع يشملها جميعًا؛ ومن مراعاتنا لهذا الشرط تتولد قضايا وجودية انفصالية؛ فعبارة «الحديد معدن» ليست قضية تتأيد بمجرد الكشف عن سمات معينة يتسم بها الحديد، كما يتسم بها مع الحديد الصفيحُ والنحاس والرصاص والزئبق والزنك وغيرها؛ إذ هي لا تتأيد إلا إذا حددنا السمات المميزة التي تفصل الحديد كله من حيث هو نوع، وفرقنا بينها وبين السمات التي تصف المعادن الأخرى؛ وإلا لجاز أن يكون الحديد مزيجًا مثل النحاس الأصفر أو البرونز؛ فبغير القضايا السلبية، أي القضايا التي تعزل الحديد عما عداه، لا نكون قد استوفينا كافة الشروط التي يشترطها تعريف الشيء بكونه معدنًا، كتعريفه مثلًا بكونه عنصرًا كيمويًّا؛ فقبولنا إدخال نوع ما في نوع آخر إنما يعتمد — إذا تحقق له المثل الأعلى عند المنطق — على تكوين مجموعة من قضايا انفصالية تستوعب شتى الأنواع الفرعية الداخلة في نوع يشملها جميعًا، كأن نقول مثلًا: «المعادن هي إما … أو … أو … أو … وهذه الأنواع هي كل أنواع المعادن الموجودة» وقد أردنا بالنقط (…) التي في الجملة الأخيرة أن نشير إلى أن أمثال هذه القضايا الانفصالية مشروطة بالظروف المادية، ومن ثَم فهي عرضية إذ ليس هنالك ما يضمن لنا استيفاء الشرط الذي يشترط استيعاب كافة الأنواع الفرعية الداخلة في النوع الذي يشملها؛ فلئن كان الاسيكتروسكوب قد وسع نطاق مشاهدتنا، إلا أننا يستحيل أن نوقن بأن قائمة المعادن قد كملتْ لنا، حتى نشاهد مشاهدة تحليلية كل شيء في شتى الأكوان والمجرات؛ وحتى إذا استوفينا هذا الشرط، فسيظل الأمر أمرَ حقيقة واقعة، لا أمر قطع نظري، بأن بدائل الانفصال قد شملت كل ما هنالك من حالات؛ فلن تكون القضايا الانفصالية غير عرضية إلا على أساس التفكير النظري الذي يقيم لنا البرهان على أن وجود معادن أخرى (غير التي ذكرناها) مستحيل منطقيًّا، لما يقتضيه وجودها من تناقض. ولا نكاد نتناول معنًى من حيث هو معنًى، حتى يدخل عضوًا في نسق من معانٍ؛ وهذا القول متضمنٌ في الملاحظة التي ذكرناها في الفقرة السابقة، بأن المعنى من المعاني لا بد أن يتطور في علاقته مع المعاني الأخرى؛ ومن هذا التطور يتألف التدليل أو التفكير العقلي، حين نقصد بالتفكير انتقالًا متتابعًا من فكرة إلى فكرة تلزم عنها، أكثر مما نقصد به نقلًا لشيء سبق لنا أن احتويناه كاملًا؛ وبعبارة أخرى فإن القضية الكلية يكون لها معناها باعتبارها عضوًا من نسق، لا وهي قائمة وحدها؛ وما علاقة اللزوم إلا تعبير عن هذه الحقيقة، حتى إن الذي يحدد ماذا عسى أن يكون ذلك المعنى، هو تطويرنا للمعنى الذي تناولناه بالتوسيع، أو للمعنى الكلي الفرضي، تطويرًا يستخرج منه القضايا التي تلزم عنه؛ فإذا انبثق لنا عنه متناقضات — كما يحدث في برهان الخلف — كان ذلك برهانًا على أن المعنى الأصلي لم يكن المعنى الذي حسبناه؛ وها هنا عند هذه النقطة يتبين الفرق المنطقي الحاسم بين القضية الكلية والقضية الجزئية؛ فالقضايا الجزئية هي التحديدات التي نحدد بها معطياتنا تحديدًا يبرز المشكلة التي تتطلب حلًّا؛ فالجزئيات المختلفة، التي هي مستقلة بفحواها المادي بعضها عن بعض، ترتبط إحداها بالأخرى برباط اشتراكها جميعًا في أداء مهمة واحدة، ألا وهي تحديدها لمشكلة ما تحديدًا منطقيًّا؛ ففي المثل الذي سقناه فيما سلف عن حجر الصوان، كان قرارنا «هذا حجر صوان» قد تم على خطوات يضاف بعضها إلى بعض، من إجراءات أجريناها في مشاهداتنا، حين كان كل إجراء منها مستقلًّا عن غيره من حيث مادته، مثل «هذا له بريق الزجاج؛ وهو يخدش الزجاج لكنه لا ينخدش بسكين … إلخ»؛ فقوة هذه القضايا لا تزداد على التوالي تأييدًا برهانيًّا إلا إلى الحد الذي تكون به مضموناتها مستقلًّا أحدها عن الآخر من حيث مادته، وبحيث لا يكون بينها مضمون مشترك إلا أنها جميعًا تشير إلى «هذا»؛ ولكن نقيض هذا تمامًا هو الحال بالنسبة إلى القضايا الكلية، ففي هذه إذا انفصمت عراها الرابطةُ لها في مجموعة واحدة من المعاني، كان ذلك انفصامًا في صرامة التدليل العقلي. لقد سبق لنا أن بينا أن القضايا الكلية هي صياغات لإجراءات يمكن أداؤها؛ وما دامت هذه الإجراءات باقية بغير تنفيذ، ظلت مادة القضايا الكلية مجردة، أي ظلت مادة لا تتصل بالوجود الخارجي؛ خذ القضية «إن اللوم لا يوجه إلى الناس عدلًا، إلا إذا كان الناس أحرارًا»، فها هنا لا إثبات لقيام الحرية فعلًا، ولا لتوجيه اللوم العادل فعلًا؛ بل إن وجود الناس نفسه ليس مثبتًا لا على سبيل التضمين ولا على سبيل التصريح، ولو أنه يمكن لقائل أن يقول إن وجودهم فرضٌ أولٌ مسلَّم به؛ أما العلاقة المثبتة هنا بين الحرية وبين اللوم العادل — إذا كانت علاقة صادقة على الإطلاق — فستظل صادقة حتى لو محونا كافة بني الإنسان من الوجود؛ فالحرية والعدل واللوم كلمات تدل هنا على معانٍ مجردة؛ ومع ذلك فالقضية تصوغ لنا ما يمكن أداؤه من إجراءات، لو أجريناها بالفعل، ألفيناها تنطبق على السلوك الذي يسلكه الناس فعلًا، بحيث يؤدي هذا التطبيق إلى توجيه مشاهداتنا إلى حالات اللوم الحقيقية من حيث ظروفها ونتائجها؛ وأما ونحن بمعزل عن مثل هذا التطبيق، فإن القضية عندئذٍ لا تصور لنا إلا إمكانًا مجردًا، متوقفًا على تعريف للحرية والعدالة، وهو تعريف قد يكون — بالقياس إلى الوجود الحقيقي — اعتسافًا؛ وإذا كان أمره كذلك، أمكن لمن شاء أن يعارض القضية المذكورة بأضدادها، فيقول مثلًا: «إن اللوم لا يثمر ثمرته إلا إذا كانت أفعال الناس مكيفة تكييفًا سببيًّا؛ ثم لا يكون للوم ما يسوغه إلا إذا كان مثمرًا». والحق أن في التعريفات كافة شيئًا من صفة التضاد مع الواقع؛ لأنها مثلٌ عليا كما أنها فكرية؛ فشأنها شأن المثل العليا في أنها لا يُقصد بها هي نفسها أن تتحقق بالفعل، بل يُراد بها أن توجه سيرنا نحو تحقيق ما هو موجود بالقوة ليصبح موجودًا بالفعل في الظروف القائمة، ولقد كانت تلك الموجودات بالقوة لتغيب عن أنظارنا لولا هداية المثل الأعلى، أو التعريف؛ فنحن لا نعلي من شأن الدائرة الرياضية بسبب أننا لا نجد ما يناظرها في الأشكال ذوات وجود الفعلي، كلا ولا نحط من شأن الأشكال الموجودة بالفعل بسبب أن ليس بينها شكل له الاستدارة كما يعرفها لنا التصور الرياضي؛ فتقديس المثل الأعلى وازدراء ما هو موجود وجودًا فعليًّا لأنه لا يطابق المثل الأعلى قط، طريقتان متصلة إحداهما بالأخرى تخفيان عن أبصارنا جانب المهمة الأدائية التي يقوم لنا بها المثل الأعلى والموجود الفعلي: فالأمر ها هنا كالرؤية لا تكون هي نفسها منظرًا، لكنها هي التي تمكننا من تكوين المناظر التي ما كان ليكون لها وجود بغيرها؛ أما أن نفرض أن الرؤية ليست بذات قيمة ما لم تصبح — مباشرة — منظرًا من المناظر، فطريق عريض يسوق إلى التشاؤم أولئك الذين يأخذون الفكرة مأخذ الجد، كما يسوق إلى خيالات الأوهام عند الآخرين؛ فتجاهل المثل الأعلى أو ازدراؤه، لاستحالة ترجمته ترجمة حرفية إلى وجود فعلي، ليس هو بمثابة الاستسلام للأشياء «كما هي واقعة» — كما يُقال أحيانًا — فحسب، بل هو كذلك استسلام للأشياء «كما لا تكون قائمة»، وذلك لأن كل الأشياء القائمة تنطوي على إمكانات موجودة فيها بالقوة. ويجوز لنا في هذا الموضع أن نشير — بغير معاودة ارتياد المجال الذي سبق لنا ارتياده — إلى أن الصورة اللغوية إذا ما جردت عن مضمونها، لا تقرر لنا إن كانت الجملة هي من الناحية المنطقية جملة عن علاقات قائمة في الوجود الخارجي، أم أنها جملة عن إمكانات لم تتحقق بالفعل؛ وعلى هذا فقد تعني هذه الجملة: «إذا قلت الغلال ارتفع ثمنها» أنه في الحالات المعروفة كافة هنالك ارتباط بين صفتي القلة في المحصول والأسعار المرتفعة (والصفتان كلتاهما تشيران إلى حوادث مما يقع بالفعل)، أو قد تعني أن هنالك علاقة ضرورية بين المعنيين المجردين «قلة» و«غلاء»؛ وإن سهولة توحيدنا لهاتين الصورتين من صور القوة المنطقية (وجعلهما صورة واحدة) ليفسرها أن بينهما علاقة متبادلة أو تجاوبًا في الأداء، قد سبق لنا أن ذكرناه؛ فما لم نستطع أن نبين أنه لا بد من الوجهة النظرية أن تكون هنالك علاقة نابعة عن طبيعة الأمور نفسها بين القلة والغلاء، فإن ما نشاهده من اقتران بين القلة في محصول الغلال وبين الأثمان المرتفعة قد يكون من مقتضيات الظروف ونتيجة لالتقاء عرضي بينهما؛ وإذا أعدنا التعبير عن هذا المعنى من الوجهة الأخرى، قلنا إن اطراد ما نشاهده من اقتران، يحفز على البحث عن علة الاقتران، وهي علة — إذا وجدناها — نصوغها في قضية تدل على علاقة قائمة بين معانٍ مجردة، كالعلاقة القائمة — في المثل الذي نحن بصدده الآن — بين القلة والغلاء. إنه لا ينبغي لنا أن نوحد بين صورة الانفصال في حالة القضايا الكلية، وصورته في حالة القضايا الجامعة؛ فالقضية القائلة بأن المثلثات إما أن تكون متساوية الأضلاع أو مختلفة الأضلاع أو متساوية الساقين، ليست من نفس صورة القضية القائلة بأن المعادن إما أن تكون صفيحًا أو زنكًا أو حديدًا أو زئبقًا … والفرق بينهما له صلة بازدواج معنى كلمتي «مشمول في» و«شامل ﻟ» الذي سبق لنا أن ذكرناه؛ فالأشياء المفردات إنما تدخل في مجموعة تحتويها؛ وإذا كانت الأشياء المفردات لا حصر لعددها، كدخول كافة الأشياء التي تتميز بخصائص معينة أعضاءً في فئة بعينها (بالمعنى الذي نفهم به كلمة فئة في مجالَيْ علم النبات وعلم الحيوان) فعندئذٍ تتكون من تلك الأشياء المفردة فئة تكون المفردات أفرادها؛ فإذا قلنا عن المفردات في هذه الحالة إنها محتواة أو مشمولة في تلك الفئة، فما ذاك إلا أسلوب آخر نقول به إن تلك المفردات هي قوام هذه الفئة؛ إذ لا شك أنها لا تكون محتواة فيها احتواءً وجوديًّا كما تكون قطع النقود محتواة في صندوق، أو كما تكون الأبقار منحصرة في حقل؛ كلا ولا هي محتواة فيها على نحو ما تكون الأنواع الفرعية محتواة منطقيًّا في نوع أعم منها ويشملها؛ فإذا قلنا إن السيد فرانكلن د. روزفلت «مشمول» في فئة رؤساء الولايات المتحدة، كان ذلك القول طريقة ملتوية لما نستطيع أن نقوله من أنه أحد رؤساء الولايات المتحدة، ماضيهم، وحاضرهم، ومقبلهم، الذين منهم تتكون مجموعتهم؛ فأية فئة (من حيث هي نوع) هي آخر الأمر مؤلفة من عدد لا نهاية له من مفردات. فيحق لنا أن نقول عن نوع إنه محتوًى في نوع آخر أوسع منه، كلما كانت الخصائص المميزة للنوع الأعم جزءًا لا يتجزأ من مجموعة الخصائص التي تميز كل نوع فرعي من الأنواع الداخلة فيه، ثم كانت أيضًا مما يمكننا — بوساطة سلسلة من قضايا سالبة ومنفصل بعضها عن بعض (إما … أو …) — من الفصل التام بين شتى الأنواع الداخلة فيه؛ ومما يبرز التباين بين دخول الأنواع الفرعية في نوع أعم، وبين دخول المفردات في مجموعة تضمها سخفُ القول بأن المفهوم العقلي لنوع «الرؤساء» يمكننا من تلقاء نفسه من التفرقة بين أفراد الرؤساء؛ فالعلاقة بين الأنواع الفرعية والنوع الشامل الذي يحتويها، ثم بين الأنواع الفرعية نفسها بعضها ببعض، تتبين في وضوح كافٍ بمجموعة الدوائر التي جرى العرف على توضيحها به؛ إذ توضح علاقة الجنس الشامل بغيره من الأجناس، بدوائر ترسم كلها خارج حدود الدائرة التي نمثل بها ذلك الجنس؛ وأما المعنى الذي يصدق به «الشمول» على التعريفات والمفهومات الفعلية، فذو صورة منطقية مختلفة عما ذكرنا؛ فلا يمكننا توضيحه برمز الدوائر، بل يوضحه أن نرمز إليه بأقواس أو بغيرها من العلامات الفاصلة؛ فافرض أن المسألة المطروحة هي تعريف الثروة في الاقتصاد السياسي، فماذا ينبغي «اشتماله» في مفهومها؛ أنعرِّف الثروة على أساس المنفعة، باعتبار المنفعة كل ما يشبع الرغبة أو ما يساعد على تحقيق الأهداف؟ أم نعرف الثروة بأنها إعفاء من «العمل» بمعناه الذي يجعله تكليفًا وتضحيةً؛ أم نعرِّفها بأنها قدرة السيطرة على سائر السلع والخدمات؛ فلسنا في كل هذه التعريفات إزاء أنواع، لكن المفهوم أو التعريف الذي نختاره — عند تطبيقه من الخارج — هو الذي سيقرر أي الأشياء يدخل في وأيها يخرج من أنواع الأشياء التي هي ثروة؛ وعلى نحو شبيه بهذا يمكننا تصنيف الأشكال الهندسية القائمة في الخارج تصنيفًا يقسمها إلى أنواع من الأشكال المستوية أو من المثلثات؛ غير أن «المثلث» — بالمعنى الرياضي — معناه صفة المثلثية، وهذه الصفة هي معنًى كلي مجرد، أو مقولة؛ فكما قلنا مرارًا، ليس هنالك ثلاثة أنواع من المثلثات، بل هنالك ثلاثة طرق يكون بها الشكل مثلثًا؛ ومن هنا كان أي تقسيم لكون الشيء كذا وكذا، في حالة ذكرنا لما هو «مشمول» في فكرة أو في تعريف، لا بد أن يكون شاملًا بالضرورة لشتى الأنواع، على حين أنه في حالة تقسيم نوع أعم إلى أنواع أخص، فالتقسيم عندئذٍ يكون ذا طبيعة عرضية؛ أما في حالة الكليات، ﻓ «الاشتمال» معناه أن يكون المشتمل جزءًا لا يتجزأ من قاعدة يمكن العمل بمقتضاها، وعند تطبيق هذه القاعدة، فإنها ستقرر أي الأشياء يقع داخل نطاق إجرائها؛ وعندئذٍ يكون إخراج شيء من ذلك النطاق معناه استبعاده عن مدى انطباق القاعدة، أو إقامة حائل يحول دون دخوله؛ فكأنما إخراج الشيء عما ليس يقع في نطاقه هو بمثابة مبدأ نقرر به عدم جواز الدخول بمعناه المجرد؛ وهكذا يكون التخارج بين القضايا الانفصالية (إما … أو …) جانبًا ضروريًّا من جوانب القضايا المجردة، ولذلك وجب أن يتكون منها نسق مترابط الأجزاء. وبعبارة أخرى (وهذه هي النقطة الهامة)، كل القضايا الجزئية هي قضايا علاقيةٌ، وليس لها من صورة الموضوع والمحمول إلا في الصياغة النحوية؛ فقولنا «هذا أحمر» معناه — إذا حللناه من وجهة نظر منطقية — أن شيئًا قد تغير عما كان عليه، أو هو الآن في سبيله إلى التغير إلى شيء آخر؛ فهو قول يعبر عن رابطة زمانية مكانية بنفس الدقة التي تعبر عنها الأقوال الدالة على علاقات بصورة نحوية صريحة؛ والعبارة القائلة: «هذا حديد» معناها أن هذا — في ظروف خاصة — سيتفاعل بطرق معينة وسينتج نتائج معينة؛ فليس «هذا» موضوعًا و«حديد» محمولًا إلا من الناحية النحوية وحدها؛ ويتضح الجانب العلاقي في هذه الجملة من كون مضمونها يمكن التعبير عنه بصيغة المبني للمجهول، فنقول: «ستُخلق نتائج خاصة معينة بفعل «هذا» إذا أحاطت به ظروف معينة»؛ وهكذا نستطيع أن نغير من الصورة النحوية دون أن نغير المعنى، كأن يتساوى المعنى تمامًا بين قولنا «زيد يضرب خالدًا» و«خالد يُضرَب من زيد». وكذلك القضايا عن العلاقات بين الأنواع، هي قضايا علاقية، وليس لها الصورة المنطقية ذات الموضوع والمحمول؛ فإذا كانت القضية التي من قبيل «الحديد معدن» لا تبدو قضية علاقيةً في ظاهرها، لاستحالة عكسها بحيث تصبح «المعدن حديد»، فالقضية على صورتها هذه ليست من الناحية المنطقية قضية كاملة، لأنها لا تدل، بل لا تشير مجرد إشارة إلى الأسس التي تبررها؛ فهي على أحسن الفروض إما أن تكون جملة تنقل نبأً، أو قضية تمهد الطريق إلى بحث يعقبها؛ وأما القضية الكاملة فهي: «الحديد معدن متسم بكذا وكذا من السمات التي تميزه»، وكل معدن له هذه الخصائص المعينة هو حديد، وبهذا تكون القضية — من الناحية المنطقية لا من الناحية اللفظية — قضية خاصة بعلاقة بين أنواع. وكذلك ينبهمُ الجانبُ العلاقي في القضايا الكلية الشرطية، بسبب كونها في أغلب الحالات لا تكون كاملة التحديد، عندما نصل إليها ونصوغها؛ وتبعًا لذلك لا يكون إثباتنا ﻟ «التالي» أساسًا يسوغ إثباتنا ﻟ «المقدم» ولا نفينا للمقدم أساسًا يسوغ نفينا للتالي؛ وواضح أن ذلك راجع إلى أن ظروفًا معينة ضرورية ليتم التبادل المنطقي الكامل والتساوي المنطقي الكامل (بين المقدم والتالي في القضية الشرطية) تنقصنا عندئذٍ؛ لكنه نقص لا يعزى إلى صورة القضية الشرطية الكلية، بل هو نقص يدل على قصور مضمون القضية دون استيفائه للشروط المنطقية؛ وإنما تتوافر الخاصة الصورية — بأدق معاني هذه الكلمة — لأمثال هذه القضايا (أعني أنها تستوفي مقتضيات المنطق استيفاءً كاملًا) حين تبلغ القضية من التدعيم حدًّا يجعل كلمة «فقط» نعتًا ملائمًا؛ على أن القضية إذا اتخذت صورة كهذه: «فقط إذا … إذن …» اتضح لنا عندئذٍ أنها قضية علاقية بالمعنى الدقيق. وقد يحسن بنا أن نختم هذا الجزء من البحث بأن نعود إلى التفرقة بين القضايا الشرطية العرضية، والقضايا الشرطية الكلية (الضرورية)؛ فخذ هذه القضية: «إذا كانت أ على يمين ب، وكانت ب على يمين ج، وكانت ج على يمين د، إذن ﻓ د على يسار أ» فإذا كانت أ، ب، ج، د أفرادًا جزئية فقد تكون هذه القضية باطلة، فهي باطلة — مثلًا — إذا كانت أ، ب، ج، د أشخاصًا أو مقاعد وضعت حول نضد؛ أما إذا فهمنا القضية على أنها تعني «على فرض أن ثمة ترتيبًا في خط مستقيم، إذن فالعلاقات هي من القبيل الذي يجعل أي شيء مرموز له ب د على يسار أي شيء نرمز له ب أ» فالقضية عندئذٍ تصبح في حقيقتها تعريفًا لصورة معينة من العلاقة المكانية، وبالتالي فهي تصبح ضرورية الصدق، لأن أ، ب، ج، د عندئذٍ لا تشير إلى أفراد جزئية، بل تشير إلى معانٍ مجردة. الأهمية الخاصة لهذا الفصل بالنسبة إلى النظرية المنطقية، هي أننا قد بينا أن الصور المختلفة للقضايا إنما تشير إلى مراحل في طريق السير بالبحث؛ على حين أن النظرية السائدة اليوم تميل إلى النظر إلى الصور المختلفة للقضايا على أنها هكذا توجد، وكل ما على النظرية أن تفعله إزاءها هو أن تضع على كل صورة منها بطاقة تحمل اسمها: جزئية، عامة، شرطية … إلخ؛ أما إذا نظرنا إليها من جوانبها الأدائية — كما قد نظر إليها في هذا الفصل (وخلال هذا الكتاب كله) — فعندئذٍ يظهر في جلاء أن القضايا التي نشير بها إلى جزئيات، إنما تؤدي مهمتها من حيث هي أدوات نتوسل بها لنقرر المشكلة المتضمنة في موقف غير متعين، على حين تمثل الصور الأخرى التي ذكرناها، مراحلَ نجتازها لبلوغ الوسائل المنطقية التي تؤدي بنا إلى حل المشكلة؛ فلا يمكن للقضايا أن تكون أعضاء من نسق منطقي متماسك الأجزاء، إلا إذا كان بعضها متصلًا ببعض اتصالًا يجعلها جوانب لتقسيم العمل بينها في السير بالبحث إلى غايته؛ أما إذا حذفنا المهمة التي يؤديها كل منها، بحيث يسهم كل منها بمهمته في إقامة الحكم النهائي، أقول إننا إذا حذفنا ذلك من تفسيرنا النظري للقضايا، كان الحاصل أن يظهر لنا الموقف وكأنما هنالك عدد من صور القضايا، كل منها يقوم بذاته ويستقل بنفسه؛ وثمة نقطة أخيرة نذكرها، وهي أننا وإن كنا لم نبسط نتائج هذا الفصل فيما يتعلق بالجانب العلاقي الكائن في القضايا كافة، لنستعين بها على تأييد مذهبنا بأن كل صور القضايا إن هي إلا وسائل نتذرع بها للوصول إلى حكم (والحكم وحده هو الذي تكون له صورة الموضوع والمحمول)؛ إلا أن النتائج التي انتهينا إليها في هذا الفصل هي نفسها النتائج التي كنا لنتوقعها على أساس النظرية العامة التي بسطناها عن القضايا والحكم.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/16/
القضايا مرتبة في مجموعات وسلاسل
يسير البحث في طريقه قدمًا، وفي كل خطوة تتجمع نتائج الخطوات السابقة؛ والقضايا هي الأدوات التي نتذرع بها لتخليص النتائج المؤقتة التي انتهينا إليها من البحوث التمهيدية؛ إذ نسجل تلك النتائج في قضايا، ونحتفظ بها لنستخدمها في حالات مقبلة؛ وبهذه الطريقة تقوم القضايا بمهمتها من حيث هي وسائل فعالة — مادية ومنهجية — في توجيه السير بالبحث، إلى أن ينتهي البحث إلى إنشاء مادة لها من وحدانية الدلالة ما يجعلها جائزة القبول؛ ويلزم عن ذلك (١) أن ليس هنالك ما يصح أن يكون قضية قائمة بمعزل عن سواها، أو إذا عبرنا عن ذلك بعبارة موجبة، قلنا إن القضايا يتصل بعضها ببعض بعلاقة ذات ترتيب خاص، و(٢) وأن هنالك طرازين أساسيين لمثل هذا الترتيب؛ أما أحدهما فيتصل بالمادة الواقعية أي المادة الوجودية التي تقرر الموضوع النهائي للحكم؛ وأما الآخر فيتصل بالمادة الفكرية، أي بالمعاني التصورية، التي تقرر محمول الحكم النهائي؛ وإذا استخدمنا طرائق التعبير المعتادة، قلنا إن هنالك ضربًا من قضايا تتعلق ببعضها تعلقًا يكوِّن الاستدلال، وضربًا آخر من قضايا يرتبط بعضها ببعض ارتباطًا تسلسليًّا، ومنها يتكون التدليل أو التفكير النظري. وسنعنى في المناقشة التالية — فيما يختص بهذين الطرازين — بالترتيب المنطقي للقضايا، أكثر من عنايتنا بترتيبها الزمني في القيام ببحث معين؛ ففي أي بحث يكون على درجة عالية من الصعوبة، ترانا نتقبل قضايا كثيرة خلال السير بالبحث، لا لشيء إلا لنعود فننبذها أو نعدلها في بحث تالٍ؛ وذلك لأنها ليست بالقضايا التي تكون قوامًا للنتيجة النهائية، حتى لو كان الباحث وهو إزاء بحث معين، لم يكن ليتاح له الوصول إلى تلك النتيجة بغير قبوله لتلك القضايا في مرحلة من مراحل بحثه؛ فالترتيب الذي نحن الآن معنيون به، هو من النوع الذي لا يمكن إقامته إلا بعد أن يكون الباحث قد وصل إلى نتيجة صائبة، ثم أخذ يستعرض الأسس التي تسوغ قبولها؛ وبعبارة أخرى، فالقضايا التي نعنيها هي نفسها التي كانت تسمى بمقدمات النتيجة، على شريطة ألا يكون هنالك حد ثابت لعددها؛ ولقد تحوطنا بهذا الشرط السلبي، لأن نظرية الاستدلال القياسي ترد المقدمات إلى اثنتين، تسميان بالمقدمة الكبرى والمقدمة الصغرى؛ وسنبين فيما بعد أن تصورنا الذهني لمقدمتين، إحداهما كلية والأخرى مفردة الموضوع أو جامعة، هو تصور يمثل البناء المنطقي للحكم من حيث هو اتحاد (أو ربط) من قضايا، اتحادًا تتوافر فيه مضمونات المحمول والموضوع؛ وعلى ذلك فالنظرية التي تأخذ باثنينية المقدمات إنما تمدنا بتحليل للشروط المنطقية التي لا بد للنتيجة أن تستوفيها، أكثر مما هي تقرير عن المقدمات التي ترتكز عليها النتيجة ارتكازًا فعليًّا؛ وأعود فأكرر القول بأنه ليس هنالك حد نحدد به عدد المقدمات المطلوبة لتزويد النتيجة بمادتها. على أن قولنا «الإنسان فانٍ» هو — من جهة أخرى — قول ذو حدين بالمعنى الدقيق، وذلك حين يكون معناه: «إذا صدق على أي كائن أنه بشري، إذن فهو فانٍ»، وذلك لأن الحدين كليهما مجردان، والعلاقة المثبتة بينهما ذات صفة مجردة وغير وجودية؛ أي إن القضية المذكورة تقرر قيام علاقة بين مضمونين فكريين؛ وكذلك الصيغة التي صاغ بها نيوتن قانون الجاذبية، هي الأخرى ذات حدين، لأنها تعبر عن علاقة كلية، هي علاقة «إذا – إذن» بين كون الشيء ماديًّا وكونه «منجذبًا» انجذاب متبادلًا بطريقة معلومة؛ وليس بنا حاجة هنا أيضًا للإكثار من الأمثلة عن القضايا ذوات المضمونات المحمولة؛ لأنها (١) مستقلة عن الإشارة إلى مكان وزمان و(٢) تقرر علاقة ضرورية بين مقدم وتالٍ؛ فمهما تبلغ الصياغة من درجة التركيب اللغوي، ومهما يبلغ عدد الجمل والعبارات الداخلة في تكوينها، فإن الجمل والعبارات لا بد أن تنتمي إلى هذا المعنى العقلي أو ذلك، من المعنيين اللذَيْن نقول عنهما إنهما متعلقان أحدهما بالآخر؛ وكذلك المعادلة من معادلات الرياضة، أو الصياغة من الصياغات التي نقرر بها دالةً رياضية، قد تحتوي على رموز كثيرة، لكنها جميعًا تقع على هذا الجانب أو ذلك من جانبي الدالة التي صغناها. إلى هنا قد تناولنا بالحديث الخصائص المنطقية التي تصف الطرازين الرئيسيين لصور القضايا؛ وأنتقل الآن إلى صفة لا تخص سوى القضايا ذوات المضمونات الفكرية، أي ذوات المضمونات المحمولة؛ وهي صفة تميزها من القضايا الخاصة بأمور الواقع؛ فإذا ما مثل أمامنا موقف مشكل، عرض لنا معنًى ما، باعتباره طريقًا ممكنًا للحل؛ فإذا لم نصب هذا المعنى في صيغة قضية، قبلناه من فورنا ووقف البحث عند هذا الحد؛ وعندئذٍ تكون النتيجة التي وصلنا إليها فجة وغير قائمة على أساس متين؛ لكن المعنى الذي عرض لنا هو أيضًا عضو من مجموعة معانٍ، وإذن فلا يكفي أن نصوغه في قضية قائمة بذاتها؛ بل لا بد أن نطوِّر المعنى خلال مجموعة من قضايا أخرى تصوغ معاني أخرى، هي بدورها أعضاء في نسق المعاني الذي ينتمي إليه ذلك المعنى الأول؛ واختصارًا، فهنالك تدليلٌ أو حجاجٌ أو تفكير عقلي أو انتقال من معنًى إلى معنًى يلزم عنه؛ أضف إلى ذلك أن تطوير القضايا المتعلق بعضها ببعض خلال التفكير العقلي، ذو اتجاه، لأنه مسير بحكم طبيعة المشكلة التي سيؤدي لها المعنى العارضُ مهمة طريق الحل أو منهجه؛ فلو غضضنا النظر عن الإشارة إلى طريقة استخدام المعنى أو طريقة تطبيقه، كان في مستطاعنا أن نصل قضية معلومة بغيرها من القضايا الداخلة معها في نسق واحد من المعاني، بأنواع من الصلات لا حصر لعددها ولا تحديد؛ لكن المعنى من المعاني في أي عملية فكرية معينة، إذا ما صغناه في قضية، فإنما ينمو وسط مجموعة القضايا التي يتصل بعضها ببعض على نحو خاص، والتي تتجه نحو قضية ممكنة التطبيق في الظروف التي وجدناها تكتنف المشكلة الخاصة التي نحن بصدد حلها؛ وإن هذا التوجه في اتجاه خاص، لخاصةٌ بارزة في كل عملية من عمليات التدليل العقلي، ومن عمليات التفكير النظري الذي يكون ذا صلة بمشكلتنا؛ حتى ليبدو من نافلة القول أن نذكر تلك الخاصة ذكرًا صريحًا، لولا ما لها من أثر على المشكلة المنطقية التي نتناولها الآن بالبحث. وهنالك شرطان منطقيان لا بد من تحققهما لكل تفكير نظري منظم؛ فترتيب القضايا يتحتم أن يكون صارمًا ومنتجًا، و«واو العطف» في هذه القضية لها قوة غير قوتها التعدادية؛ إذ إن ترتيب القضايا يتحتم أن يكون صارمًا صرامة منتجة، ومنتجًا إنتاجًا صارمًا، وقولنا إن ترتيب القضايا يتحتم أن يكون صارمًا معناه أن كل قضية تلزم عن القضية الأولى — «أولى» بالمعنى المنطقي لا بالمعنى الزمني — لا بد أن تجيء مساوية في قوتها المنطقية للقضية التي سبقتها، وإلا لكانت الثانية تابعة للأولى وليست لازمة عن الأولى؛ وإنا لنؤكد هنا عبارة «في قوتها المنطقية» نظرًا لازدواج المعنى الذي تفهم به عبارة «تحصيل الحاصل» في النظرية المنطقية السائدة اليوم؛ فمبدأ تعادل القضايا ليس هو بعينه مبدأ تحصيل الحاصل، إلا إذا فهمنا تحصيل الحاصل بمعنًى خاص، معنًى لا يَجُبُّ، بل هو أقرب إلى أن يحقق شرط قابلية الإنتاج؛ فالمدركات العقلية أو المعاني التي نصادفها في القضايا التي تردُ مؤخرةً في ترتيب التفكير العقلي، هي نفسها المدركات أو المعاني التي وردت في القضايا السابقة في ذلك الترتيب، وذلك من حيث القوة الإجرائية في كلتا الحالتين، لا من حيث المضمونات؛ ولذلك فهي تؤدي في دقة صارمة إلى معانٍ ذوات مضمون آخر؛ وهذا الاختلاف في المضمون هو الذي يحقق قابلية الإنتاج في عملية التدليل العقلي، وها هنا يجيء مبدأ الاتجاه نحو وجهة خاصة، فالمطلوب هنا هو صياغة المعنى المطروح صياغةً تسلكه في صورة كلية مجردة وذلك في القضية الأولى (التي نبدأ منها تفكيرنا النظري) بحيث يكون من شأن هذه القضية الأولى أن تفضي عن طريق الإجراء العملي إلى قضية ممكنة التطبيق على الوجود الخارجي، تطبيقًا لم يكن مستطاعًا بالقياس إلى مضمون القضية الأولى؛ وإذن فاستيفاء شرط الصرامة لا يعني تحصيلًا للحاصل، بالمعنى الذي يجعل حدَّي القضية الأولى الكلية المجردة مكررين في صور لغوية مترادفة. مثال ذلك القضية الآتية: «التيار الكهربي مساوٍ لفرق الجهد مقسومًا على المقاومة» فها هنا لا يكون للحد «الجهد مقسومًا على المقاومة» نفس القوة الدلالية المباشرة، أي نفس الإشارة الوجودية، التي تكون للحد «التيار الكهربي»؛ لكن تعادل المضمونات الفكرية كما تريد القضية أن تثبته، يمكن من قيام قضية تالية تُقال عن شيء هو بدوره مساوٍ لعبارة «الجهد مقسومًا على المقاومة»، وهكذا؛ فكلمة «تيار» لا تظهر في القضية التالية، وعبارة «الجهد مقسومًا على المقاومة» تحل محلها في القضية التالية علاقةٌ تقوم بين تلك العبارة وبين شيء آخر مساوٍ لها؛ وهكذا دوالَيْك حتى تظهر لنا قضية في صورة ممكنة التطبيق — من الوجهة الإجرائية — في موقف تجريبي من شأنه أن يتمخض لنا عن مادة لا غناء لنا عنها لحل المشكلة التي بين أيدينا؛ أو على الأقل لصياغة عبارة أفضل نحدد بها كنه المشكلة؛ فلا بد أن تكون أفكار: التيارات، واختلاف المعادن في قابلية التوصيل والمقاومة، والاختلافات في قوة التيارات، أقول إن هذه الأفكار لا بد أن تكون قد نشأت في تاريخ باكر نسبيًّا، ولا شك في أنها قد نشأت قبل أن نصل إلى القانون المذكور بزمن طويل؛ لكن الصيغة التي نقرر بها نسبة أو علاقة محددة بين أفكار كانت من قبل مستقلة بعضها عن بعض، أقول إن صيغة كهذه هي في حقيقة الأمر طريقة جديدة لتصورنا العقلي لشتى هذه الأفكار؛ أضف إلى ذلك أن هذه الطريقة الجديدة لتصورنا لهذه الأفكار، هي التي مكنت لعلاقات تعميمية معينة أن تنفذ بصورة صارمة الدقة؛ وإذن فالتعادل هو القدرة على «استبدال» معانٍ في سلسلة القضايا التي منها يتألف التدليل العقلي؛ وعلى ذلك فليس ثمة إعجاز يدعو إلى العجب في كون «الاستنباط» ينتج لنا قضايا ذوات مضمونات مختلفة عن مضمونات القضايا التي كانت أصلًا لها؛ لأن القضايا المستخدمة في التفكير البرهاني، أي التفكير الاستنباطي، قد صِيغت هي نفسها على نحو يستحثها على أداء هذه المهمة؛ فليست الحيلة التي يلجأ إليها العلم — إن جاز هذا التعبير — هي في جانبه الجدلي أو التدليلي؛ ولو أنه في هذا الجانب أيضًا بحاجة إلى حكمة، اللهم إلا في شتى الحالات التي نألفها إلفًا يجعل حسابنا لها أمرًا آليًّا؛ بل الصعوبة الرئيسية، والبصيرة النافذة التي نتطلبها قبل غيرها للتغلب على تلك الصعوبة، إنما هي في صياغة المعاني التي يتعلق بعضها ببعض على نحو يتيح للقضايا المتعادلة أن يحل بعضها محل البعض، أثناء سيرنا قدمًا في خطوات البحث، سيرًا منتجًا (ومع ذلك فهو دقيق في انتقاله من خطوة إلى خطوة تساويها)؛ وبإحلال القضايا المتعادلة بعضها محل بعض تنبسط القضايا انبساطًا يجعل منها سلسلة (محكمة الحلقات). إن العلاقة المتبادلة — التي أسلفنا ذكرها — بين القضايا ذوات المضمونات الفكرية أو المجردة، وقضايا أمور الواقع، لتنشأ من كون مادة الفرض تعرض لنا أولًا بوحي من المشكلة الأصلية، ثم تختبر بعد ذلك وتراجع على أساس نتائجها؛ والمعيار الذي نهتدي به في هذا الاختبار والمراجعة، هو قدرة هذه النتائج على تيسير حل للمشكلة التي نحاول حلها؛ وإن الشرط الذي يقتضيه الاستمرار في البحث، ليتحقق بالدرجة التي يتسع لها مدى قدرتنا على إحلال قضايانا بعضها محل بعض (خلال خطوات التفكير الاستنباطي)؛ فإذا كان التعادل بين القضايا مقتصرًا على نطاق محدود من كائنات الوجود الخارجي، كأن يقتصر — مثلًا — على مسائل الحرارة أو التغيرات الميكانيكية (أعني التغيرات التي يمكن وصفها على أساس الحركة كما تحدث في المكان والزمان) مع بقاء تلك المسائل مستقلًّا بعضها عن بعض، كان نطاق التدليل العقلي المنتج منحصرًا في تلك الحدود، على الرغم من أنه يكون عندئذٍ أوسع بكثير من ذلك النطاق في حالة الركون إلى الذوق الفطري؛ وأما حين ننشئ من الفروض ما يتسع نطاقه ليشمل في التطبيق حقائق الحرارة والكهرباء والضوء والحركة الميكانيكية، فعندئذٍ يزداد مدى الحرية التي نتمتع بها في إقامة القضايا المتعادلة — وإذن يزداد مدى الحرية في التدليل العقلي — زيادة كبيرة؛ وعندئذٍ تصبح «النسقات» الخاصة أعضاء في نسق واحد شامل؛ وبسبب العلاقة المتبادلة بين القضايا التي هي من هذه الصورة، وقضايا المشاهدة المنصبة على أمور الواقع، يتسع مدى الاستدلال اتساعًا يتمشى مع ازدياد التعادل بين القضايا في مجال التدليل العقلي. ويصدق هذا الذي قلناه صادقًا مباشرًا على فكرة القضايا الأولية التي لا يقوم عليها برهان، باعتبارها أساسًا نبدأ منه كل برهان عقلي بعد ذلك؛ فلا شك البتة في أنه في كل حالة من حالات التدليل العقلي، لا بد أن تكون هنالك قضيةٌ أولى، لا تكون مستمدة ولا «مستنبطة» في مجالها الخاص الذي وردت فيه، إذ إن قولنا عنها إنها قضية «أولى» هو بمثابة أن نقول عنها إنها لا تلزم عن قضايا سابقة عليها؛ لكنه (١) لا تناقض قط في كون تلك القضية أولى في تلك المجموعة المعينة من القضايا، وكونها في الوقت نفسه تابعة أو قضية ختامية بالنسبة إلى مجموعة أخرى من القضايا؛ بل الأمر على عكس ذلك تمامًا؛ إذ إن استمرار البحث يقتضي أن تصبح النتائج في مشكلة معينة أو مجموعة معينة من المشكلات، نقط ابتداء في تفكير نتناول به مشكلات جديدة؛ ففكرة النسق نفسها (التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة) وفكرة النسق الذي يتألف من نسقات فرعية، لا تعني إلا هذا النوع من الإمكانات التي تهيئ لنا سبل الانتقال من مجال إلى مجال، فتحدث إعارةٌ واستعارةٌ بين حالات التدليل العقلي المختلفة؛ (٢) والقضية الأولى هي قضية كلية اشتراطية، نأخذها ونستخدمها ابتغاء ما ستفضي إليه؛ فترانا نختبرها ثم نعيد اختبارها باعتبارها فرضًا، ومحك الاختبار هو قدرتها الإنتاجية في إقامة قضايا كلية أخرى؛ على أن يكون اختبارها الأخير مستندًا إلى النتائج الوجودية التي تنجم عن تطبيقها على ظروف الواقع؛ وبرهانها هو في هذه النتائج، كما يكون البرهان على صلاحية نوع من الطعام في أكله؛ فإذا ما نشأت لنا قضايا تتناقض إما مع القضية الأولى، أو مع قضية تفرعت عنها، نشأت لنا بذلك مشكلة جديدة؛ وفي حالات كهذه، سنجد عادة أن القضية السابقة في سلسلة القضايا، يمكن تعديلها بحيث تستوفي مقتضيات الدقة الاستنباطية، دون أن نلجأ في هذا التعديل إلى شيء غير المعاني التي نشأت لنا من إجراءات تجريبية جديدة. يتم ترتيب القضايا التي نحدد بها مادة موضوع الحكم النهائي، وفق مبدأ آخر؛ فليست القضية من تلك القضايا تلزم عن قضية سواها بالمعنى الذي يجعلها متضمنة فيها، أو يجعلها متعادلة معها في قوتها المنطقية تعادلًا يجيز إحلال الواحدة منهما محل الأخرى إحلالًا مباشرًا، بل الأمر على نقيض ذلك، إذ إن قوة كل من هذه القضايا إنما تقاس أولًا بكونها ذات موضوع مستقل، يتقرر بإجراء تجريبي مستقل، وثانيًا بانضمامها إلى قضايا أخرى ذوات موضوعات مستقلة انضمامًا قد يحقق لها أن تتلاقى معًا تلاقيًا يجمع قواها؛ فالقضايا الوجودية إنما ترتب لأن موقفًا مشكلًا بعينه هو الذي يضبطها بالقياس إليه، فترتب على أساس نصيبها من تيسير حل لذلك الموقف، غير أنها في ترتيبها ذاك لا تكون سلسلة بل تكون مجموعة؛ فلئن كانت القضايا المتسلسلة في التدليل العقلي شبيهة بترتيب درجات السلم، فالقضايا التي تُقال عن أمور الواقع — والتي تزودنا بالشواهد التي تدعم الاستدلال — هي أشبه بخطوط يتقاطع بعضها مع بعض، تقاطعًا من شأنه أن يحصر رقعة تقوم بذاتها وكأنها كلٌّ واحد؛ ففي السلاسل التي هي من طراز قضبان السلم، يكون الترتيب المتتابع أمرًا جوهريًّا، وأما بالنسبة إلى القضايا التي تحدد الصفات التي نجعل منها شواهدنا، فلا يكون الترتيب المتسلسل بذي أهمية؛ وقوام الترتيب المنطقي في حالات التسلسل (متميزًا من الترتيب الزمني الذي تتم به الإجراءات التي نجمع بها المعلومات الأولية ذوات القيمة والمتصلة بموضوع البحث) أقول إن قوام الترتيب المنطقي في حالات التسلسل هو علاقات التداخل (أي الإثبات) والتخارج (أي النفي أو الحذف) التي نعرف بها عملية المقارنة؛ وأما إجراءات المشاهدة التجريبية فهي (١) تضيق نطاق المادة التي تصلح أن تكون شواهد ذات صلة بالبحث، و(٢) تخلق حالات تتقاطع تقاطعًا يتجمع تجاه قوة موحدة دالة، ومن ثَم فهي تتجه نحو إيجاد نتيجة موحدة. مثال ذلك الطبيب في تشخيصه للمرض، تراه يقوم بإجراءات مستقل بعضها عن بعض، تزوده بمعطيات منوعة، كل منها مستقل عن الآخر، فيعلم منها درجة الحرارة، وضربات القلب، والتنفس، وإفرازات الكليتين، وحالة الدم، وحالة الهدم والبناء في خلايا الجسم، وتاريخ المريض، وربما بحث كذلك عن عناصره الموروثة … إلخ؛ وهو يمضي في هذه الاستكشافات المستقل بعضها عن بعض، ما بقيت دلالة المعلومات التي يحصل عليها من تلك الاستكشافات غامضة، أعني ما دامت تلك المعلومات في تجمعها لا تجدي في تحديد اتجاه معين تشير إليه؛ وإن ما يُسمَّى عادة بارتباط المعطيات هو هذا الالتقاء في الدلالة، وهذه القوة التي تكتسبها الشواهد من تجمعها؛ ولو أخذنا هذه القضايا واحدة واحدة، ألفيناها ذات قوة دلالية في بيان طبيعة المشكلة وحلها الممكن؛ وأما إذا ما تجمعت فإن قوتها تصبح أداة نتحسس بها حقيقة الأمر؛ على أن القوة الدلالية تصير قوة هادية حين تتعين بعد حذف سائر طرائق الحل الأخرى الممكنة؛ وتكون الرابطة المتبادلة بين قضايا الواقع وقضايا الفكر ذات أثر فعال في تمكين محصولنا الفكري (وهو محصول يتوقف على حالة البحث النظري وتنسيق الأفكار في العصر الذي نعيش فيه) من تعيين الإجراءات التي نستعين بها على استكشافات جديدة مستقل بعضها عن بعض، والتي بفضلها نتمكن من تفسير نتائج تلك الاستكشافات. ومن المبادئ المنطقية المألوفة أن إثبات التالي (في القضية الشرطية) لا يضمن لنا إثباتًا تامًّا للمقدم، على حين أن إنكار التالي يقتضي إنكار المقدم؛ وعلى هذا فإن زودتنا الإجراءات بمعطيات تنقض نتيجةً كنا قد استنبطناها، ترتب على ذلك حذف أحد الاحتمالات الممكنة؛ وأما إذا اتفقت المعطيات في قوتها الدلالية مرة بعد مرة — على شرط أن تكون هذه المعطيات قد جاءتنا من إجراءات تجريبية مستقل بعضها عن بعض — كان اتفاقها ذاك مضاعفًا لدرجة الإثبات التي نثبت بها المقدم في كل حالة يتاح لنا فيها أن نثبت التالي؛ فعلى هذا النحو يكون السير في إثباتنا لأي فرض نفرضه؛ ومع ذلك فإمكان الوقوع في الخطأ حين نثبت المقدم (بناءً على إثبات التالي) ما يزال قائمًا؛ نعم إن حذف ما نحذفه من الاحتمالات الممكنة يأخذ في الحد من احتمال الوقوع في استدلال مغلوط، لكنه محال علينا أن نستيقن بأننا قبل استوعبنا بالحذف كل الاحتمالات الممكنة (ما عدا واحدًا)، وذلك لأننا لن نستوثق أبدًا من أن القضايا الانفصالية قد استوعبت شتى الممكنات جميعًا؛ ومن هنا كانت درجة الاحتمال علامة تميز كل قضية نصل إليها عن طريق الاستدلال من مجموعة قضايا قيلت عن أمور الواقع؛ كما أن ضرورة الصدق — أعني صرامة الدقة الاستنباطية — هي العلامة المميزة للقضايا غير الوجودية، التي ننشئها خلال سيرنا في التفكير النظري البرهاني؛ ولهذا لم يكن الاستيعاب الكامل خاصة تتصف بها أية مجموعة من القضايا الانفصالية التي تُقال عن الوجود الفعلي، بل هو شرط منطقي يُراد استيفاؤه فحسب. فحتى لو كان في مستطاعنا أن نجد قطعة من الذهب الذي يكون ذهبًا خالصًا، أعني أنه يكون ذهبًا ولا شيء إلا ذهبًا، لما أمكن قط أن نعزلها عزلًا تامًّا عن علاقتها التي تتفاعل بها مع عدد لا حصر له من الظروف المحيطة بها؛ نعم إن لدينا الآن قدرة كبيرة على ضبط الظروف بفضل التقنيات العلمية؛ إلا أنه سيظل هنالك دائمًا إمكان نظري بأن بعض الظروف التي تتأثر بها الظاهرة المشاهدة، قد أفلت من زمامنا؛ وإذن فعندما نفرض مصادرة أولى نزعم بها أن ما هو بين أيدينا كيانٌ وجودي مكتمل الأجزاء، فإنما نضع بهذا الفرض حدًّا أعلى يصبو إليه البحث التجريبي؛ أي إنه حد أعلى من الوجهة المنطقية، يحدد الاتجاه الذي لا بد للبحث أن يتحرك فيه، لكنه يستحيل عليه أن يدركه إدراكًا كاملًا؛ ومن ثَم كان الجانب الإحصائي لشتى التعميمات التي نصوغها من أمور الواقع، لا يعيبه نقص التقنيات (ولو أن هذا النقص في التقنيات يصور قصورنا في مراعاة الشروط التي يفرضها علينا المنطق، والتي يجب أن نراعيها) وإنما هو راجع إلى الطبيعة الأصلية للمادة الوجودية التي نتناولها بالبحث. والزعم القائل بأن الصفات الكيفية للأشياء تعاود الحضور بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة (أي الزعم بأنها كليات) هو غلطة (كما قد أشرنا من قبل) ناشئة من خلطنا بين دوام الشواهد على أداء مهمتها من حيث هي شواهد — وهو دوام ينشأ لنا عن البحث المستمر — وبين الصفات الكيفية كما تقع لنا في خبرتنا المباشرة بالوجود الخارجي؛ فليس هنالك صفة كيفية واحدة تقع مرتين من حيث هي صفة كيفية بذاتها؛ وإنما الذي يعاود الحدوث هو ثبات ما للشواهد من قوة البينة، أعني الشواهد التي نتخذها من كائنات قائمة في الوجود الخارجي، لكنها من حيث هي حوادث واقعة، تكون فذة لا يتكرر وقوعها؛ وحين يُقال بأن هنالك دقة دقيقة، أو ضرورة لزومية في سلسلة القضايا التي نقول بها: «جون أطول من جيمس، وجيمس أطول من وليم، وإذن فجون أطول من وليم» يفوت القائل أن «طويل» صفة يطرأ عليها التغير بما يطرأ على الظروف من تغير؛ نعم إن أحدًا لا يشك — من الناحية العملية — في أن هذه النتيجة في بعض الحالات تكون صادقة؛ لكننا لو أخذنا ثلاثة أشياء متساوية الطول تقريبًا، اتضح لنا أنه أثناء عملية القياس، قد يتغير أحدها من حيث صفة الطول فيه، على الرغم من كافة الجهود التي تبذل للإبقاء على الظروف على حالة ثابتة؛ ولهذا كان الاستدلال — نظريًّا — موصوفًا بدرجة معينة من الاحتمال، وليس موسومًا بضرورة الصدق؛ فإذا كانت القضية القائلة: «إذا كانت أ أطول من ب، وإذا كانت ب أطول من ج، إذن أ أطول من ج» ضرورية الصدق، فهي ضرورية ما دامت مضموناتها مجردة، لكنها ليست ضرورية حين تكون أ، ب، ج أفرادًا من كائنات فعلية؛ بعبارة أخرى فإن القضية هنا ضرورية من حيث هي تعريف، لكنه لا يلزم عن التعريف أن يكون «جون» و«جيمس» و«وليم» من حيث هم كائنات في الوجود الفعلي، يستوفون الشروط التي يفرضها التعريف؛ فالفكرة القائلة بأن القضايا التي تُقال عن هذه الكائنات الفعلية، لها خاصة «التعدي» اللزومية التي تكون بين حدود القضية الكلية، فكرة مغلوطة بسبب الخلط النظري الذي نخلط به بين الخصائص المنطقية لكل من القضايا اللاوجودية والقضايا الوجودية؛ فالأمر يتطلب منا إجراءات تجريبية قائمة بذاتها، لكي نقرر إن كانت العلاقات القائمة بين الكائنات الوجودية مستوفية للشروط التي وضعتها لنا قضية كلية شرطية؛ وفي بعض الحالات — كما قلنا منذ قليل — لا تنهض أمامنا صعوبة عملية في سبيل أدائنا للإجراءات المطلوبة؛ إلا أن سلامة النتيجة التي سننتهي إليها، تعتمد اعتمادًا كليًّا على اشتباك الوقائع المشاهدة بعضها ببعض، لا على وجود علاقة ضرورية في لزوم بعضها عن بعض؛ فهذه العلاقة الأخيرة هي التي تشترط ما عسانا أن نجريه من إجراءات، لكنها ليست هي نفسها العلاقة الفعلية التي تصل الكائنات الوجودية بعضها ببعض. إن العلاقة بين ما يُسمَّى بالاستدلال المباشر من جهة وتبادل الحدود من جهة أخرى، علاقة يحوطها شيء من غموض المعنى، فالعبارتان في بعض الحالات مترادفتان؛ لكنهما لا تترادفان في الاستدلال المباشر الذي يتم بإضافة «خواص» أي صفات مميزة أو يتم باللزوم الفرعي؛ لكننا نعود فتقول إن هاتين العمليتين المذكورتين إذا ما وقعتا في أي حالة لها أهميتها الدلالية، فالاستدلال عندئذٍ لا يكون استدلالًا مباشرًا؛ والأمثلة التوضيحية التي تسوقها الكتب المنطقية المألوفة «لإضافة الصفات المميزة» أمثلة تافهة لأن مادتها مألوفة ومكررة؛ وأما الحالات ذوات الدلالة فهي تلك التي تضاف فيها الصفات المميزة حين تكون القضية التي تضاف إليها تلك الصفات أوسع نطاقًا مما ينبغي وهي على صورتها القائمة (أو أعم مما ينبغي، حين تكون كلمة عام مستعملة بمعنى غامض)؛ ففي هذه الحالة نتطلب قضية أو قضايا مستقلة، لكي نقرر بها ما إذا كانت الصفة المميزة التي سنضيفها لتحدد المعنى، متساوية القوة عند تطبيقها على حدي القضية الغامضة على السواء، وفي هذه الحالات يكون الاستدلال غير مباشر؛ وأما اللزوم الفرعي فنوضحه بالمثل الآتي: «إن مجموع الزوايا الثلاث في مثلث إقليدي هو زاويتان قائمتان» ومن ثَم «فمجموع الزوايا الثلاث في مثلث مختلف الأضلاع هو زاويتان قائمتان» فها هنا تجيء القضية الثانية نتيجة لازمة عن الأولى، وإنما نسمي هذه الحالة لزومًا فرعيًّا لأن البحث الخاص الذي نحن بصدده في هذه الحالة، قد تصادف له أن استدعى حصرًا خاصًّا أو تضييقًا خاصًّا للحركة التي نتجه بها نحو القضية الختامية؛ ومع ذلك فحين تقرر مؤلفات المنطق أن العلاقة بين الحالة التي نسوقها لتحقيق صدق قضية كلية، وهي حالة نعبر عنها بقضية وجودية، وبين القضية الكلية نفسها (وهي بمثابة القانون النظري أو الصيغة المساقة على سبيل الفرض) أقول إن مؤلفات المنطق حين تقرر عن هذه العلاقة بأنها علاقة لزوم فرعي، فهي تقع في مغالطة صريحة، لأن القضية اللاوجودية يستحيل أن يلزم عنها قضية وجودية. القياس هو تحليل للحكم النهائي إلى مقوماته المنطقية التي هي قضاياه التي يتألف منها؛ وهذه المقومات المنطقية — كما أشرنا من قبل — هي: (١) قضية تتصل بأمور الواقع، و(٢) قضية تتصل بالعلاقة القائمة بين معانٍ مجردة، أو بين مضمونات فكرية؛ أما التي تتصل بأمور الواقع فهي التي تكون مقدمة صغرى، وأما التي لها مضمون فكريٌّ وافتراضيٌّ، فهي التي تكون المقدمة الكبرى؛ وعلى ذلك فالقياس صيغة نعمم بها الشروط المنطقية التي لا بد من استيفائها إذا أردنا للحكم النهائي أن يكون قائمًا على أساس سليم؛ فكأنما هو تحذير لنا بأننا إذا أردنا أن نضمن صواب الحكم النهائي، كان لزامًا علينا أن ننشئ علاقة متبادلة بين المعطيات المشاهدة وفكرة عقلية، والفكرة العقلية إنما يكون تعريفها بصورة كلية تتخذ شكل «إذا – إذن»؛ فافرض أننا كنا قد انتهينا فعلًا إلى نتيجة تقول بأن الخفاش طائر، فعندئذٍ كانت مقدمتنا الصغرى لو وضعت في عبارة صريحة، ستكون: «للخفاش أجنحة»، ولكي ندعم النتيجة القائلة «الخفاش طائر» على أساس سليم، كنا سنضطر بالضرورة أن نضع قضية عامة نقول بها إن «كل الكائنات المجنحة هي من قبيل الطير»، ويكون معنى كلمة «كل» هنا هو قيام علاقة بين معانٍ مجردة؛ أما إذا أردنا أن نضمن صدق النتيجة ضمانًا كاملًا، فقد كان لا بد أن نقيم قضية تقول: «الطيور والطيور وحدها مجنحة»؛ فذكر المضمون الحملي في قضية نجعلها مقدمة كبرى، أمر ضروري لضبط انتزاعنا لنتيجة معينة، لأنها ستؤدي مهمة الموجه للبحوث التي تنبني على مشاهدات، تلك البحوث التي تميل نتائجها نحو أن تنتج قضية جامعة مانعة. ولا يتفق هذا الشرح الذي أسلفناه مع النظرية التقليدية، لأن هذه الأخيرة — على وجه الإجمال — تجعل القياس والصورة الاستنباطية شيئًا واحدًا؛ فهي لهذا (١) لا تفسح مجالًا لأية قضية وجودية، و(٢) تعتصم بالفكرة القائلة إنه لا يجوز أن يكون هناك أكثر من «مقدمتين» في سلسلة القضايا التي ننتقل فيها بالفكر الاستنباطي، وهي فكرة تنفيها كل صور التدليل الرياضي؛ وأما الفكرة القائلة بأن القضية الوجودية الصغرى يمكن أن تستنبط من قضية كلية، فهي فكرة تمثل خطأً ذكرناه بالتعليق عليه مرارًا فيما مضى؛ فسواء أكانت القضية الصغرى مفردة الموضوع (أي موضوعها فرد في نوع) أم كانت قضية جامعة (تمثل علاقة بين أنواع) فلا بد لها أن تقام على أساس إجراءات قائمة بذاتها من مشاهدات تجريبية؛ فحين يكون القياس من الشكل الأول في ضربه الذي تكون فيه مقدمته الكبرى كلية موجبة ومقدمته الصغرى كلية موجبة والنتيجة كلية موجبة، تكون القضية التي هي مقدمته الصغرى قضية جامعة، لا قضية كلية، لأنها عندئذٍ تكون مشيرة إلى الوجود الفعلي؛ وإذن فهي في أية حالة من حالاتها الفعلية تكون ذات درجة معينة من درجات الاحتمال، أي إنها تكون قضية موجبة جزئية؛ وإن هذه الحقيقة لتبين أن القياس من الشكل الأول في الضرب المذكور لا يمكن اعتباره — حين تشير مقدمته الصغرى إلى الوجود الخارجي — قياسًا يبرر الخصائص التي لا بد من توافرها في أي استدلال حقيقي؛ لكن الأمر يختلف إذا ما نظرنا إلى القياس من الشكل الأول على أنه صيغة تضع الشروط المنطقية التي لا بد لنتيجة الاستدلال أن تستوفيها من الوجهة النظرية؛ وعلى ذلك فالطابع العام للقضية الصغرى، هو أنها وسيلة نقرر بها — من الوجهة النظرية — أو من الوجهة العقلية الصرف، أنه لا بد من قيام علاقة متبادلة دقيقة بين التعريف الذي تعبر عنه المقدمة الكبرى، وأمور الواقع التي تؤلف مادة المقدمة الصغرى؛ فلو فهمنا القياس على هذا الوجه، كان معناه أن النتيجة تكون جائزة القبول من الوجهة المنطقية، بل إن الوسيلة الوحيدة التي تجعلها جائزة من الوجهة المنطقية، هي أن تتلاقى الإجراءات المتضمنة في مجرى التفكير النظري، مع الإجراءات المتضمنة في المشاهدة التجريبية التي نشاهد بها كائنات الوجود الخارجي، لتخلقا معًا موقفًا متعينًا محلول الإشكال إلى درجة الكمال. تفسيرٌ كهذا للقياس يجعل له أهمية منطقية كما يجعله شيئًا لا غناء لنا عنه؛ لكنه تفسير يقتضي مراجعة خطيرة للنظرية الأرسطية للقياس؛ ذلك لأن المقدمة الكبرى في منطق أرسطو — أي التعريف — كانت قولًا يصف جوهرًا من شأنه أن يحدد حقيقة نوع من الأنواع كما هو قائم في الحقيقة الكونية الخارجية، على حين كانت المقدمة الصغرى إثباتًا بأن نوعًا ما يندرج من حيث وجوده الخارجي في ذلك النوع الأشمل (الذي تصفه المقدمة الكبرى) — وإذا لم تكن المقدمة الصغرى كذلك، فهي إخراج إلى الوجود الفعلي لما هو — من الوجهة المنطقية — موجود بالقوة في الجنس؛ فها هنا، كما في حالات أخرى ذكرناها فيما سبق، احتفظ المنطق التقليدي بالصورة العارية، بعد أن نُبذ الأساس الوجودي الذي كانت ترتكز عليه تلك الصورة (أي بعد أن نبذت فكرة الأنواع والجواهر الثابتة) ومن ثَم تعرض المنطق التقليدي لنقد «مل»؛ غير أن «مل» أبقى على الغلطة المنطقية التي وقعت فيها النظرية التقليدية، وإن يكن أبقى عليها في اتجاه معكوس؛ ذلك أن النظرية التقليدية تذهب إلى أن المقدمتين الكبرى والصغرى من صورة منطقية واحدة، وفاتها أن ترى أن إحداهما غير وجودية بينما الأخرى وجودية، وأن الإجراءات التي نتطلبها في تكوين كل من المقدمتين، تختلف في إحدى الحالتين عنها في الأخرى اختلاف المشاهدة الخارجية عن التفكير العقلي الداخلي؛ فجاء «مل» وارتكب الغلطة نفسها. لولا أنه جعل الكبرى والصغرى معًا قضيتين وجوديتين؛ فبدل أن يشبه صورة المقدمة الصغرى بصورة المقدمة الكبرى (كما تفعل النظرية التقليدية) شبه صورة الكبرى بصورة الصغرى، أعني أن «مل» يذهب إلى أن المقدمة الكبرى — أو القضية العامة — إن هي إلا مذكرة نلخص بها عددًا لا حصر له من القضايا الجزئية الوجودية. وقد كان تفسير «مل» هذا ليكون تفسيرًا سليمًا لو كانت قوة الشهادة مرهونة بما هو واضح بذاته، أعني لو كنا في غير حاجة إلى مبدأ أو إلى قضية كلية، لنقرر على أساسه ماذا يصلح شاهدًا وماذا لا يصلح، وإلى أي حد تكون المعطيات الخاصة في أية حالة معلومة ذات وزن وذات صلة بالموضوع الذي نحن بصدده؛ فلو أخذنا رأيه كما هو، ألفيناه يصادر على المطلوب بزعمه أن الجزئيات — من حيث هي جزئيات — مزودة بالفعل بقوة الشهادة الكافية؛ لكننا — لو استخدمنا اللغة التي سبق لنا استخدامها — نقول إن الجزئيات توحي لنا بفكرة معينة (والفكرة عامة) لكنها لا تدل دلالة سليمة على الفكرة، وأبعد من ذلك عن الصدق أن نقول إنها تبرهن عليها؛ فمشكلة البحث كلها — من جانبها الذي يتصل بالمشاهدة — هي في أن نحدد أي الظروف المشاهدة هي التي تصلح أن تكون معطيات نستشهد بها، أعني أي الظروف نعدها «وقائع الحال»؛ أما القول بأن ما قد قررنا عنه بالفعل أنه من الشواهد، يكون له قوة الشواهد، فهو من قبيل تحصيل الحاصل، لأن «الشواهد» و«قوة الشواهد» لفظان مترادفان؛ فالذي فات «مل» أن يراه، هو أن المشاهدات — إذا أُريدَ لها أن تزودنا بمادة للشواهد — لا بد أن توجهها أفكار، وأن هذه الأفكار لا بد أن يعلن عنها في عبارة صريحة — أي لا بد أن نصوغها في قضايا، وأن تكون هذه القضايا لها الصورة الكلية التي نعبر عنها بقولنا «إذا – إذن»؛ لكن ما يحسبه «مل» شهادةً «كافية» لا يجاوز أن يكون عددَ الجزئيات التي حصلنا عليها، لا المبدأ الذي على أساسه نقرر ما يكون لأي جزئي معين من قوة الشاهد. وكذلك يقرر «مل» أن المقدمة العامة أو الكبرى، إنما نصل إليها بالاستقراء؛ فلئن كانت نظريته في الاستقراء مهوشة، إلا أنها يقينًا تتضمن إجراءات تُجرى لتحليل المادة التي تأتينا بها المشاهدات الأولية، مصحوبة بإجراءات نحذف بها ما نحذفه، ونقر بها ما يكون بينها من اتفاق في الشهادة على حقيقة بذاتها؛ لكنه يضطر إلى قبول الفروض وأهميتها، على الرغم من أنه يضعها في منزلة «ثانوية». وتقدم لنا النظرية التقليدية مثلًا آخر لازدواج معنى كلمة «كل»، إذ إنها ترتكز على فهم كلمة «كل» بمعنيين: بمعنى وجودي ومعنى غير وجودي؛ فافرض قائلًا يقول: «كل الحيتان ثدييات، وكل الثدييات ذوات دم حار، إذن فكل الحيتان ذوات دم حار»، فلو كان هذا المثل مثلًا يُساق ليوضح تحليلًا لحكم قائم على أساس منطقي، كانت مقدمته الكبرى قضية كلية صورتها «إذا – إذن»، تُثبت أن ثمة علاقة ضرورية بين كون الحيوان ثدييًّا وكونه حوتًا، بحيث إذا نفينا هذه العلاقة بين الصفتين، أدى بنا النفي إلى تناقض؛ في القضية هنا تظل صحيحة — إذا كانت صحيحة — حتى لو زالت الحيتان من الوجود؛ فهي من حيث هي قضية إجرائية، توجه المشاهدة وجهة تستوثق بها إن كانت — في حالات فردية وجودية معينة — سماتُ إرضاع الصغار، وولادة الصغار … إلخ توجد مقترنة إحداها بالأخرى؛ لكن كلمة «كل» — من جهة أخرى — في هذه القضية الآتية: «كل الحيتان ثدييات» قد تعني أننا في حدود ما قد شاهدناه من أفراد الحيتان قد وجدناها — بغير استثناء — حيوانات ثديية؛ وهذه القضية معناها أن «الحيتان قد تكون ثديية»، وهي تدل على هذا الاحتمال دلالة تبلغ من القوة حدًّا يحفزنا إلى البحث عن العلة التي جعلت السمات تقترن على هذا النحو — أعني أنها تحفزنا إلى البحث عن علاقة بين الخصائص تصلح أن تقيم لنا قضية صورتها «إذا – إذن»؛ ولا نصل إلى حكم نهائي إلا إذا أقمنا تعليلًا ما، في وسعه أن يصوغ قضية من النوع المذكور، وإذا لم نصل إلى حكم نهائي، فسيظل البحث في مرحلة القضايا التي يقتصر فيها الأمر على مشاهدة المفردات وعلى تكوين الفروض واختبارها. ولو أنعمنا النظر تبين لنا أن الصعاب التي زعمنا أنها نابعة من طبيعة الصورة القياسية، إنما تنشأ من الظن بأن هذه الصورة القياسية هي نفسها الخصائص التي يتميز بها التدليل العقلي أو التي يتميز بها الاستدلال الخارجي حين ننظر إلى كل منهما بمعزل عن الآخر؛ لكن تلك الصعوبات تختفي إذا نظرنا إلى الصورة القياسية على أنها لا ترمي إلى أن تكون هي صورة الاستدلال الخارجي ولا إلى أن تكون هي صورة التفكير العقلي؛ بل هي صورة الرابطة المتبادلة بين مادتي الحكم: مادته الواقعية من جهة ومادته الفكرية من جهة أخرى؛ نصوغها على نحو يهدينا إلى الشروط العقلية وشروط القيام بمشاهدات خارجية، تلك الشروط التي لا بد من استيفائها، إذا أُريدَ للحكم أن يقوم على أساس كامل التدعيم؛ فلو فسرنا القياس على هذا الوجه، كانت «فائدة» الصورة القياسية كائنة في كونها تعمل لنا عمل المُراجع الضابط في حالة الأحكام الخاصة؛ إذ إنها تضع أمام أبصارنا الشروط المنطقية التي لا بد عندئذٍ من استيفائها؛ أي إن الصورة القياسية هي بمثابة الحد الأعلى الذي نصبو إليه ونقف عنده؛ فحتى لو لم يكن هناك حكم من الأحكام التي نصدرها فعلًا، يحقق بالفعل هذه الشروط المثلى، فإن إدراكنا لقصورنا عن تحقيق تلك الشروط، من شأنه أن يخلق لنا مناسبة لبحث جديد كما أن من شأنه أن يوجه هذا البحث الحديد، وذلك في الجانبين معًا: جانب المشاهدة الخارجية وجانب الأفكار العقلية؛ مما يزيد من اتصال البحث، ويؤيده.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/17/
العمليات والقوانين الصورية
بناءً على المذهب الذي بحثنا تفصيلاته في الفصول السابقة، كل حد (أي كل معنًى) يكون هو ما هو بفضل عضويته في قضية (أي علاقته بحد آخر)؛ وكل قضية تكون بدورها هي ما هي بفضل عضويتها إما في مجموعة القضايا التي ندعم بها استدلالًا (خاصًّا بالأشياء الخارجية) أو في سلسلة القضايا التي تؤلف تفكيرًا نظريًّا؛ ويلزم عن هذه الوجهة من النظر أن يتحدد المضمون والقوة المنطقيان للحدود وللقضايا — آخر الأمر — على أساس موضعها من مجموعة القضايا التي نجدها إما في حالة الاستدلال الخارجي أو في حالة التفكير الداخلي؛ وعلى ذلك فالترتيب هو المقولة المنطقية الأساسية، التي بها نحدد معنى الحدود تحديدًا مباشرًا في القضايا، وغير مباشر في مجموعات القضايا وسلاسلها. إنك لترى هذه القائمة — التي ذكرناها لتونا — قائمة الأنماط المختلفة للعلاقات التي تربط الحدود بغيرها من الحدود في المؤلفات المنطقية الحديثة كافة؛ ومع ذلك فالتفسير النظري الذي يفسرونها به عادة، جد مختلف عن التفسير الذي نعرضه ها هنا؛ ذلك أن الطريقة السائدة في معالجتها، طريقة يزعمون بها أن الحدود ترتبط بهذه العلاقات في ذاتها وبذاتها، بحكم طبيعتها المتأصلة في مضموناتها الذاتية؛ فإذا كان أصحاب هذا الزعم لا يبسطونه دائمًا في عبارة صريحة، فهو مضمر في إخفاقهم في تأويل الحدود على أساس قوتها الأدائية التي تستوفي بها ما يشترطه المنطق من ترتيب لها، وهي شروط تفرضها مقتضيات سلامة الاستدلال الخارجي والتفكير الداخلي على السواء، وإذا وضعنا هذا المعنى في عبارة موجبة، قلنا إن الموقف المذهبي الذي نعرضه هنا، يتطلب أن تفسر العلاقات الصورية التي تربط الحدود، على أنها شروط يتحتم على الحدود أن تستوفيها في أي بحث من شأنه أن ينتج نتائج جائزة القبول، لا أن تفسر على أنها كامنة في طبائع تلك الحدود نفسها. ولست بحاجة إلى أن تذهب بعيدًا لتجد العلة في أن العلاقات المذكورة، توضح عادةً بحدود منعزلة بعضها عن بعض؛ فحدود كثيرة قد تحدد استعمالها خلال البحوث السابقة، تحديدًا جعل في مستطاعنا الآن أن نقبل معانيها العلاقية أمورًا مسلَّمًا بها، فنعالج تلك المعاني وكأنما هي تنتمي إلى الحدود التي تعنيها، بغض النظر عن منزلة تلك الحدود وقوتها في تسيير البحث المتصل؛ وإن هذا ليصدق في حالة الحدود الرياضية صدقًا يستوقف النظر، وهو كذلك يصدق في حالة الحدود التي من قبيل «والد فلان» و«زوجة فلان» و«زوج فلانة» وما إليها، لأن معاني هذه الحدود قد استقر الآن بأوضاعها في نسق من التصورات، ذي ترتيب (أو سياق) خاص؛ وهو نسق نألفه إلفًا يجعلنا نأخذه بادئ ذي بدء مأخذ التسليم، ثم نتجاهل وجوده تجاهلًا كاملًا يحملنا على إنكاره آخر الأمر؛ مع أنه يُقال إن ثمة قبائل أسترالية ليس لديها فكرة التناسل، ولذلك ففكرة «والد فلان» توشك ألا يكون لها وجود عندها؛ وهنالك قبائل كثيرة تفهم من عبارة «والد فلان» نفس العلاقة التي نعبر عنها نحن في نظامنا بقولنا «عم فلان»؛ فحقائق كهذه تشير إلى نسبية هذه الحدود التي تفهم بالقياس إلى نسق من معانٍ متصل بعضها ببعض، سواء كانت تلك المعاني بيولوجية أم قانونية أم كليهما معًا. إنه لكي يكون الاستدلال مدعمًا في انتقاله من مجموعة سمات إلى مجموعة أخرى، أو من نوع إلى آخر، ولكي تكون القضايا في التفكير العقلي مرتبة على النحو الذي يجعل التالية لازمة عن سابقتها، وجب أن يجيء ترتيب الحدود المستخدمة في ذلك الاستدلال أو في هذا التفكير العقلي، بحيث تكون العلاقة القائمة بينها هي العلاقة المعروفة باسم التعدي؛ فخذ مثلًا حدودًا كهذه: «أكبر سنًّا من» (أو أعظم أو ألمع … إلخ) أو أية صفة أخرى مما يعبر عنه في اللغة بأفعل التفضيل؛ فإذا كانت «أ» أكثر (أو أقل) في أية سمة معلومة من «ب»، و«ب» ترتبط بنفس العلاقة ﺑ «ج» و«ج» ﺑ «د» وهكذا؛ إذن ﻓ «أ» ترتبط بالعلاقة نفسها بآخر حد من السلسلة، مهما يكن من أمر هذا الحد الأخير؛ وهكذا تستوفي الحدود شروط التعدي؛ وحيثما تقام الحدود على نحو يحقق هذه الصورة من صور الترتيب، جاز لنا أن نتخطى الحدود الوسطى؛ وإننا لنجد هذه العلاقة نفسها كذلك في الحدود التي ترتب على صورة تسلسلية باستعمال كلمة «بعد» أو كلمة «قبل» بالمعنى المكاني والمعنى الزماني معًا لهاتين الكلمتين؛ ونستطيع أن نوضح فيما يلي أهمية الترتيبات التسلسلية المعدة مقدمًا في حالة العلاقات التي تعبر عنها حدودٌ تحمل معنى المقارنة، وحدودٌ تدل على التجاور في المكان أو في الزمان، مضافًا إليها حاجتنا إلى مبدأ يعمل على عمل المنهج أو القاعدة في تقريرنا لأمثال الحدود المذكورة: إنه لمن الممكن نظريًّا أن نقتطع من مجموعة أشخاص ازدحمت كما اتفق، عددًا من أفرادها بحيث نستطيع أن نرتب هؤلاء الأفراد حسب أعمارهم من أكبرهم سنًّا إلى أصغرهم سنًّا؛ وعندئذٍ تتحقق عملية التعدي التي نعبر عنها بعبارة «أكبر سنًّا من»؛ غير أننا لن نفيد من هذه العملية شيئًا، إذ لن يكون في مقدورنا أن نستدل شيئًا يتصل بأية سمة أخرى مما يتسم به الأفراد الذين رتبناهم هذا الترتيب؛ وشبيه بهذا أن تأخذ صفًّا من الكتب الموضوعة كما اتفق على رف، فكل كتاب منها بعد الكتاب الأول، هو «بعد» الكتاب السابق عليه في الترتيب، بحيث يجيء آخر كتاب على الرف بعد سائر الكتب جميعًا؛ غير أن شيئًا لا يلزم عن قولنا هذا؛ لكننا — من جهة أخرى — لو رتبنا أفراد الناس المؤمن عليهم في إحدى شركات التأمين على الحياة، على أساس أطوال أعمارهم، بحيث يكون الفرد المعين في الترتيب «أكبر سنًّا من» تاليه، وجدنا أن ترتيبًا كهذا يستلزم نتيجة ما؛ كأن يمكن استدلال مدى المجازفة المحتملة من جانب الشركة، ومن ثَم نقرر مقدار الأقساط التي يدفعها هذا أو ذلك من الأشخاص حسب أوضاعهم المختلفة من سلسلة الأعمار. وخذ حالة نقول فيها «بعد» بمعناها الزمني؛ ففي اللحظة التي أكتب فيها الآن، يأتيني صوت سيارة بعد صوت تحدثه آلة كاتبة، ثم يأتي بعد ذلك صوت حفيف أوراق، ثم بعد ذلك صوت إنسان؛ وإذن فآخر صوت يأتي «بعد» صوت الآلة الكاتبة؛ وواضح أن المغزى المنطقي لعلاقة التعدي لا يتحقق بهذا التتابع، فهو تتابع مفتعل وتافه؛ ومن أهم مسائل البحث العلمي أن يفرق الحالات التي يكون بينها مجرد تتابع، من الحالات التي يكون فيها تلاحق سببيٌّ؛ فقد تحدد لنا المشاهدةُ المكررة ترتيبًا تتابعيًّا، لكننا لو بنينا عليه استدلالًا، وقعنا في المغالطة التي يسمونها «حدث بعد سابقه وإذن فهو يلزم عن سابقه»، اللهم إلا إذا كان لدينا مبدأ — نصوغه صياغة قضية كلية — نعلل به لماذا جاء التتابع على نحو ما جاء، حين نطبق ذلك المبدأ تطبيقًا عمليًّا؛ فهذه الأمثلة التوضيحية تزودنا بالشهادة المقنعة الدالة على الضرورة المنطقية التي تحتم علينا أن نفسر علاقة التعدي تفسيرًا يجعلها شرطًا لا بد من استيفائه في مُتصل البحث، بدل أن نفسرها بأنها خاصة علاقية تصادف لها أن تتعلق ببعض الحدود. وكذلك تتضح علاقة التعدي في الحدود الدالة على أنواع، في حالة واحدة فقط، في حين يتحدد نوع يحتوي على أنواع، أو شامل لأنواع فرعية، حين يتحدد ذلك النوع بالنسبة إلى الأنواع المشمولة فيه، تحديدًا يجيء على ترتيب المتوالية؛ ولنأخذ لهذا مثلًا بسيطًا: حين كانت الحيتان مقررًا لها أن تكون ثدييات، والثدييات أن تكون فقريات، كان هنالك علاقة ثابتة تتعدى من الحيتان إلى الفقريات؛ ومثل هذا الانتقال لا يجوز منطقيًّا إلا إذا كانت الصفات المقترنة التي تصف كل نوع، قد تحددت من قبل تحديدًا جامعًا مانعًا خلال عمليات الإثبات والنفي؛ وليس منا من لا يعلم أن البحث الطبيعي العلمي مختص بتمييز الأنواع المتعلق بعضها ببعض؛ غير أن هذه العناية الخاصة ليست مرحلة ختامية في ذاتها، بل تستهدف غرضًا، هو أن تنشئ حدودًا تحقق شروط التعدي، حتى ليصبح في مستطاعنا أن نقدم الاستدلال العلمي إلى الأمام وأن نضبط طريق سيره. لقد انصرفنا بعنايتنا حتى الآن إلى التعدي حين يتناول الحدود — مفردة أو عامة — التي تشير إلى الوجود الخارجي؛ لكنه قد تبين لنا أثناء المناقشة شيء آخر، وهو أن الحدود المرتبة ترتيبًا تسلسليًّا بوساطة مبدأ عام، هي وحدها التي يمكن أن ترتبط حقًّا بهذه العلاقة المذكورة؛ وهذا المبدأ يكون بمثابة قاعدة للترتيب، ونعبر عنه بقضية كلية؛ وهذه القضية الكلية لا بد بدورها أن تكون عضوًا من سلسلة قضايا ترد في تفكير عقلي منظم؛ والأمثلة النموذجية للحدود اللاوجودية المنشأة لكي تضمن التعدي في خطوات التفكير العقلي، هي الحدود الرياضية؛ فهي حدود علاقية بالمعنى الدقيق، وليست هي مجرد حدود متضايفة؛ وإنما تختلف الحدود العلاقية المجردة «أبوة» و«بنوة» و«عمومة» و«علاقة أبناء الأخ بعمومتهم» … إلخ عن الحدود المتضايفة: «أب وابن؛ عم وابن أخيه» في أن الأولى تدل على علاقات مستقلة عن الحدود المتعلقة بها؛ فأنت لا تستطيع أن تستدل من الحد المتعلق «والد» حدًّا متعلقًا مثل «حفيد» أو «ابن أخ» إذ إن نسل الوالد المذكور قد لا يكون هو نفسه ذا نسل، وقد لا يكون له إخوة، وحتى إن كان له إخوة فقد لا يكون لهؤلاء الإخوة أبناء؛ وإذن فالعلاقة هنا غير متعدية؛ لكن الأبوة والجدودة والأخوة والعمومة وبني العمومة … إلخ تؤلف نسقًا من علاقات من شأنه أن يجعل كل حد منها متصلًا بكل حد آخر بعلاقة متعدية. ومن ثَم لم تكن حدودٌ كهذه غير متعدية بسبب ناحية خاصة في طبيعتها الذاتية، فينشأ لها اللاتعدي من تلقاء نفسه؛ بل هي غير متعدية لسبب واحد فقط، وهو أنها على صورتها التي هي قائمة بها، لا تكون مرتبة بالنسبة إلى تحديد علاقة معينة زمانية أو مكانية، ولا إلى تحديد علاقة معينة بين أنواع، تحديدًا يجيز لنا أن نحصل على نتائج استدلالية؛ ففعل القتل إذا ما تحدد تحديدًا يرتبه في سلسلة من أنواع متدرجة، كما هو محدد في النظام القضائي، فيكون القتل إما حادثًا عرضيًّا، أو قتلًا للدفاع عن النفس، أو اغتيالًا على تفاوت الدرجة في أنواع الاغتيال، فهو عندئذٍ يكتسب معنًى تتحقق فيه شروط التعدي، وعندئذٍ أيضًا يكون في وسعنا أن نستدل استدلالًا قائمة على أساس سليم، إذ نستدل من السمات ما لم يكن قد وقع لنا في مجال المشاهدة، كما نستدل من النتائج ما عساه أن يقع وقوعًا فعليًّا في الوجود الخارجي؛ وإنما يتم لنا هذا التحول — كما قد بينا فيما سبق — بأن نستيقن من وجود سمات مما يترتب على ضروب معلومة من التفاعل، ثم نستخدم هذه السمات — بدل استخدامنا لصفات نشاهدها مشاهدة مباشرة — أساسًا لاستدلالنا؛ وذلك لأن الضرب من ضروب التفاعل أمر عام، على حين أن تغيرًا معينًا لا يكون كذلك، ولذلك فالتغير المعين لا يزودنا بأساس الانتقال من حالة إلى حالة (كالذي يحدث في حالة قيام علاقة التعدي)، على حين أن نوعًا ما من أنواع التغير، مما يكون ضربًا معينًا مندرجًا تحت ضرب أشمل منه من ضروب التفاعل، تتمثل فيه العلاقة المرتبة التي هي شرط ضروري لقيام علاقة التعدي؛ والذي يقابل هذا الشرط في مجال البحث العلمي، هو ما يقتضيه البحث العلمي من ضرورة تحديد الباحث لكل تغير معين تحديدًا يجعل ذلك التغير أحد المقومات في مجموعة معينة من تغيرات بينها ارتباط. تنتسب الحدود بعضها إلى بعض نسبة تماثلية حين يكون بين أحد الطرفين المتعلقين بهذه العلاقة وبين الطرف الآخر، نفس الصلة التي تكون بين هذا الطرف الآخر وبينه؛ فالعلاقة بين «الشركاء» — مثلًا — علاقة تماثلية؛ فإذا كان «أ» شريكًا ﻟ «ب» كان «ب» شريكًا كذلك ﻟ «أ»؛ وكلمة «زوج» حد نطبقه على كائنات يكون كل منها منسوبًا إلى الطرف الآخر بعلاقة تماثلية؛ وأما بالنسبة إلى سائر الازدواجات، فالعلاقة بينها تكون تماثلًا عكسيًّا؛ فعلاقة «الزوج بزوجته» في ذاتها لا تماثلية، لكن العلاقة بين الحدين هي علاقة التماثيل العكسي؛ وكلمتا «مورث ووارث» حَدَّان بينهما هذه العلاقة تربط أحدهما بالآخر؛ فعلاقة التماثل العكسي قائمة في كافة الحالات التي تحدث فيها أفعال جزئية وتغيرات جزئية، كما هي قائمة في الأمثلة التي أسلفناها عن اللاتعدي؛ وهي علاقة يعبر عنها النحو بصورتَي الفعل المبني للمعلوم والفعل المبني للمجهول؛ فإذا كان «أ قتل ب» إذن «ب قد قُتِلَ على يدَي أ»؛ وتصدق العلاقة نفسها في حالات الفعل إيجابًا وحالات كون الشيء منفعلًا بفعل ما يتجه نحوه (وإن لم يكن منصبًّا عليه) وهو ما تعبر عنه اللغة بالأفعال اللازمة (غير المتعدية)؛ وأهمية علاقة التماثل من الناحية المنطقية كائنة في اقترانها بعلاقة التعدي؛ والصيغة الآتية تعبر عن هذا الاقتران في صورته النموذجية: «الأشياء التي يساوي كل منها شيئًا معينًا، تكون مساوية بعضها لبعض»؛ ومن اقتران التماثل والتعدي تتألف المعاني التي نقيس إليها صحة استبدالنا لحد بحد آخر في عملية الاستدلال بين الأشياء، وفي عملية الانتقال الاستنباطي في مجرى التفكير النظري؛ وتساوي المقادير الكمية حالةٌ واضحةٌ تمثل الحدود التي يتصل بعضها ببعض بعلاقتي التماثل والتعدي معًا. ولا يقتصر مجال هذا الاقتران (بين علاقتي التماثل والتعدي) على الكميات التي نكونها بإجراءات عملية لها مدلولها في عالم الأشياء الخارجية؛ فمن يقيس مسطح الأرضية في غرفة معينة قاصدًا إلى تحديد مقدار ما ينبغي شراؤه من بساط، إنما يفعل ما يفعله لينشئ حدودًا تربطها بعضها ببعض علاقتا التماثل والتعدي؛ والمعادلات الجبرية مثلٌ للحدود التي بينها هذه العلاقة المزدوجة في نواحٍ غير المقدار الكمي؛ والدالات في العلوم الطبيعية هي تعميمات تجيز لنا أن نستبدل شيئًا بشيء في الإشارة إلى أمور العالم الخارجي، وذلك لما يتوافر في تلك الدالات من اقتران لعلاقتي التماثل والتعدي معًا؛ واختصارًا فإن أهمية ما نقدمه من معانٍ يرتبط بعضها ببعض بهذه الرابطة المزدوجة، هي أن تلك المعاني تصبح الأساس المنطقي للمقولة المنطقية الأساسية؛ وأعني بها مقولة التساوي؛ وهذا الاعتبار وحده يبرر لنا ألا نطيل وقوفنا عند الحقيقة القائلة بأنه ليس هنالك حد يتصف بهذه العلاقة باعتبارها خاصةً نابعةً من طبيعته الأصيلة إذ إن هذه العلاقة إنما تعبر عن شرط لا بد من تحققه في تكويننا للمعاني التي يجوز لها أن تؤدي عملًا في البحث الموجه. إنه من أجل تحقيق الغاية من الاستدلال ومن حركة التفكير العقلي المنظم، كان من المهم في مشكلات كثيرة أن تكون العلاقة القائمة بين العناصر المرتبط بعضها ببعض، محددة من حيث نطاقها، أي من حيث مداها ودرجة شمولها؛ وكلمة «الارتباط» هي التي تطلق اصطلاحًا على هذه الصورة من ترتيب المتعلقات؛ ففي النظام التشريعي الذي يأخذ بوحدانية الزوجة للزوج الواحد، تكون العلاقة بين الأزواج من ناحية والزوجات من ناحية أخرى هي علاقة واحد بواحد؛ أما في النظام الذي يأخذ بتعدد الزوجات، فالعلاقة هي علاقة واحد بكثير؛ وفي النظام الذي يأخذ بتعدد الأزواج للزوجة الواحدة، تكون العلاقة هي علاقة كثير بواحد؛ ومن أبسط الأمثلة التي نسوقها للدلالة على قوة مبدأ الارتباط في البحث، حالةٌ يحاكمُ فيها رجلٌ أو امرأةٌ بتهمة الزنا؛ لأن حالةً كهذه توضح كيف أن نوع «الارتباط» الذي تتعلق به مجموعة معينة من الحدود، مشروط بالمدى الذي حدده البحث فيما مضى لمجال معين من مجالات مواد البحث، بحيث تتخذ المادة في مجالها نسقًا معلومًا؛ وإذا كان البحث فيما مضى هو الذي حدد للمادة المعينة مجالها الحاضر، فما ذاك إلا نتيجة لم تكن لتنشأ إلا باستخدامنا لقضايا مجردة كلية، استخدامًا يجعل منها قواعد يسير الإجراء العملي على منوالها؛ ففي المثل المذكور — مثلًا — لا يحدد مغزى علاقة معينة إلا القواعد التشريعية الخاصة بالزواج، فهذه القواعد هي التي تحدد العلاقات تحديدًا يمكننا من استدلال ما نستدله من نتائج. وعلاقة الصديق بالصديق تماثليةٌ في حالة معلومة أو متعينة، لكنها في الحالات الأخرى تكون علاقة كثير بكثير؛ فلئن كان «أ» و«ب» صديقين بالمعنى الذي يجعل الصداقة متبادلة بينهما، فقد يكون ﻟ «أ» ج، د، ﻫ … من الأصدقاء الآخرين، كما قد يكون ﻟ «ب» ك، ل، م … من الأصدقاء فلسنا نستطيع أن نستدل إذا كانت علاقة الصداقة، أو عدم المبالاة، أو العداوة، هي القائمة بين هذه الحدود الأخرى التي هي أصدقاء «ب» وأصدقاء «أ»؛ غير أنه في الحالات التي نستطيع أن نضرب لها مثلًا قولهم: «إذا أحببتني فأحب كلبي»، تكون علاقة الصديق بالصديق مشروطة على النحو الذي لا يجيز أن يكون «ب» صديقًا ﻟ «أ» ما لم يكن «ب» صديقًا كذلك ﻟ «ج» الذي هو صديق ﻟ «أ»؛ وتتمثل العلاقة التي من هذا الطراز في بعض حالات القربى، وحالات الإخوة الأشقاء، والعلاقات التي بين أعضاء الجمعيات السرية حيث يلتزم كل عضو بالدفاع عن كل عضو آخر وتأييده، بغض النظر عما يكون بينهم من معرفة سابقة؛ فالعلاقة ها هنا ما تزال علاقة كثير بكثير، لكنها مع ذلك تنسق على صورة تجعل علاقة التعدي قائمة بين عناصر النسق التي يكون بينها — لو أخذتْ فرادي — علاقة كثير بكثير؛ وأما إذا لم تتحدد العلاقة بكون العناصر قائمة معًا جنبًا إلى جنب في نسق ما، كانت علاقة كثير بكثير من عدم التحديد بحيث لا تسمح لقيام علاقة التعدي؛ والعلوم الرياضية هي النموذج البارز لنسق تكون فيه الحدود مرتبطًا بعضها ببعض بعلاقة كثير بكثير، ومع ذلك يكون لنا من قواعد الإجراءات العملية التي تحدد لنا النسق، ما يمكننا من إنشاء علاقة واحد بواحد حيثما تنشأ الضرورة لذلك. تستوفي الحدودُ العلاقية شرطَ الترابط إذا كانت الحدود التماثلية في الوقت نفسه متعدية؛ فلقد رأينا أن التساوي هو حالة من حالات التعدي التماثلي، ولذلك فهو يدعم حركة الاستدلال وحركة التفكير النظري في سيرهما إلى الأمام أو إلى الخلف، إذا صح هذا التعبير؛ فلفظة «ترابط» يمكن توسيعها لتشمل حالات كهذه؛ وأما التعدي حين لا يكون تماثليًّا فأمثلته حدود كهذه: «أعظم من»، «أكثر حرارة من» وهو بصفة عامة يتمثل في الكلمات الدالة على المقارنة، حيث تكون العلاقة بين الحدود هي علاقة التماثل العكسي؛ وليس الترابط علاقة بين إحداثيين بقدر ما هو مركب من علاقات، وحالة التعدي هي دائمًا أساسية في شتى ضروب العلاقات المنطقية. لقد سرنا بالمناقشة على أساس تمايز صور الحدود المتضايفة والحدود العلاقية، التي يألفها الناس؛ إلا أننا قد فسرنا هذه الصور على الأساس المذهبي الذي يذهب إلى أن العلاقات المذكورة تدل إما على (١) شروط صورية يتحتم على الحدود (المعاني) أن تحققها، لكي يتسنى لها أن تعمل في البحث عملها الذي تتولد منه نتائج جائزة القبول، أو على (٢) أنها تحذيرات لنا بأن الشروط المطلوبة لم تتحقق؛ والمثل الذي نوضح به هذه الحالة الثانية هي حالة تكون فيها العلاقة لا تماثلية ولا متعدية، أو تكون فيها العلاقة علاقة كثير بكثير، حيث لا تكون العناصر قد تحدد لها أن تكون عناصر في نسق مرتب؛ وإنه لمن العسير علينا أن نقرأ بعض المؤلفات المنطقية (حتى تلك التي تؤكد ضرورة قيام الصورية الجازمة) دون أن تعرض لنا الفكرة بأن المعاني (الحدود) وإنما تؤخذ كما يتصادف لها أن تَمْثُلَ أمامنا، كل منها بمعزل عن سواها، وبعدئذٍ توضع عليها بطاقات تحدد أنواعها. ولقد بينا في الفصل العاشر أن المقارنة والمباينة هي الوسيلة التي نستعين بها على تحديد المضمونات تحديدًا يربطها بعضها ببعض تلك الرابطة التي تجعل منها قضية؛ كما بينا كذلك أن المقارنة والمباينة لا يمكن أن تعرفا إلا بلغة نستخدم فيها ألفاظًا تدل على إنشاء قضايا موجبة وقضايا سالبة يكون بينها صلة متبادلة، وهي القضايا التي نسوق فيها نتائج العمليات التي نؤديها لجمع أعضاء النوع معًا، ومنع ما ليس من أعضاء النوع من الدخول فيه؛ وإن هذه العمليات — من حيث مداها وضرورتها — في مسايرتها بعضها لبعض مسايرة دقيقة، لتتصف بالصفة التي توجب على القضايا المتعلقة منطقيًّا بعضها ببعض (في مجموعات وسلاسل) أن تحقق الشروط الصورية، وهي قيام علاقة متبادلة بين عمليات جمع أعضاء النوع، ومنع ما ليس من أعضاء النوع، أعني أنها توجب على تلك القضايا أن يتصل بعضها ببعض صلة تعطف قضية على قضية، أو تفصل قضية عن قضية؛ والحدود العلاقية الصرف، وهي «و» و«أو» و«الذي» و«لا شيء إلا …» مضافًا إليها حدود علاقية صورية أخرى، مثل «إذا» و«إذن» و«إما هذا أو ذاك لكن ليس كلاهما معًا» و«شيء ما» و«يكون» و«لا يكون»، هذه الحدود المذكورة هي الرموز التي نرمز بها إلى عمليات الوصل والفصل، التي تجعل قضية ما معدة من الوجهة الصورية لأن تكون عضوًا متعلقًا بغيره من أعضاء مجموعة أو سلسلة من القضايا ذات الترتيب المعين؛ ومع ذلك فليست كل هذه الحدود العلاقية المذكورة متساوية في منزلتها المنطقية، أو متعادلة في قوتها؛ بل إن بعضها ليدل على علاقة تستوفي (أو نفرض فيها أنها تستوفي) عمليات الوصل والفصل، بينما يدل بعضها الآخر على مضمونات لا تزال في سبيلها إلى التحديد الكامل بالنسبة إلى استيفاء تلك العمليات، وأعني بذلك المعاني التي لا تزال قوتها موضع إشكال؛ وكلمة «أي» هي من النمط الأول، وأما أداة التنكير، كقولنا «شيء ما» أو «أحد أفراد النوع الفلاني» (حين لا نقصد بهذه العبارة أن تكون مرادفة لكلمة «أي») فهي من النمط الثاني، وكذلك من النمط الثاني كلمتا «هذا» و«أل» في الحالات التي لا تكون فيها «أل» مرادفة ﻟ «هذا». وعلى ذلك فيمكن أن نصوغ النتيجة المذهبية التي انتهينا إليها كما يلي: إن مجموعات القضايا وسلاسلها لترتب على النحو الذي يجعلها تقيم بما بينها من تقابل أدائي (أعني العلاقة المتبادلة) نسقًا علميًّا (أعني نسقًا يحقق الشروط الصورية الضرورية) في حالة واحدة فقط، وهي الحالة التي لو أخذنا فيها تلك القضايا وهي فرادى، كانت بدائل متساوية الاحتمال (أي كانت متخارجة بعضها عن بعض)، وإذا أخذناها معًا، كانت متعاطفة ببعضها مع بعض، أو كانت جامعة ومانعة؛ وإننا لنقصد بهذه الصياغة — من جهة — أن نقرر بأن العمليات الأدائية المشار إليها، ليست خصائص نابعة من طبيعة القضايا نفسها، بل هي شروط منطقية لا بد من استيفائها؛ ونقصد من جهة أخرى، أن نقرر بأن تلك العمليات الأدائية هي «مبادئ هادية» بلغت حدًّا بعيدًا من التعميم المنطقي، لأنها تعرض نوع الإجراءات التي تؤدى والتي هي أساسية من الناحية المنطقية. وتختلف القوة المنطقية لكلمتي «و» و«أو» حين تنطبقان على الأنواع، عنها في حالة المفردات التي أسلفناها؛ فمثلًا قضيةٌ كالتي ذكرناها لتونا (الخاصة بالمفردات التي تؤلف مجموعة) تنتفي بإنكارنا لوجود أي فرد من الأفراد الذين أحصيناهم في قائمة المفردات؛ بينما ينتفي تمامها بأن نثبت أن فردًا آخر ينبغي أن يضاف إلى القائمة؛ وأما في حالة الأنواع، فالانتفاء ينصب على علاقة الاقتران في ذاتها؛ فصدق القضية القائلة إن «جيمس، وجون، وروبرت، وهنري، كانوا حاضرين في مناسبة معينة» يتعرض للبطلان إذا ما تبين أن أي واحد من هؤلاء الأربعة كان غائبًا؛ على حين أن القضية الجامعة: «الطيور والخفافيش والفراشات، أنواع فرعية تندرج في نوع واحد يشملها جميعًا» تتعرض للبطلان كلما تبين أن سمة الطيران ليست مجموعة من قسمات مقترنة تكفي لتحديد نوع شامل، وأن الفوارق في ضروب الطيران لا تكفي للتفرقة بين الأنواع الفرعية المشمولة في ذلك النوع الشامل؛ فالانتفاء هنا لا ينصب على الأنواع مأخوذةً وهي فرادى، بل ينصب على علاقة الشامل والمشمول؛ أو بعبارة أدق، إنه ينصب على مجموعة القسمات النشوئية المميزة، التي نقرر بها إن كانت الأنواع شاملة لغيرها أو مشمولة في غيرها. إن القضية التي نقول بها إن «الطيور والأسماك والزواحف والقردة العليا والإنسان … فقريات» هي قضية اقترانية تجمع أنواعًا بعضها إلى بعض، فهي تنصرف إلى العلاقات الكائنة بين الأنواع الفرعية حين يتألف منها نوع شامل لها؛ وأما هذه القضية حين تتخذ الصورة المفرقة من صورتي الاقتران الجمعي، فهي: «الفقريات هي الطيور أو الأسماك أو الزواحف أو القردة العليا أو الإنسان أو …» ولربما بدا أن الفرق بين الصورتين هو فرق لغوي لا أكثر، وليس هو بالفرق المنطقي؛ وأن الفرق لا يعدو أن يكون ناشئًا عن كوننا في حالة إضافة الجمع التي تضم الأنواع بعضها إلى بعض (وهي الحالة التي تعبر عنها بواو العطف) نذكر الأنواع الفرعية أولًا، على حين أننا في حالة الجمع المنطقي بذكر البدائل (وهي الحالة التي نعبر عنها بكلمة أو) نذكر النوع الشامل أولًا؛ إلا أن بين الصورتين فرقًا منطقيًّا حقيقيًّا؛ فليس في حالة إضافية الجمع التي تضم الأنواع — إذا عزلت عن الصورة الأخرى التي نفرق فيها بين البدائل — ما يضمن لنا استيعاب (أي كفاية) الأنواع المشمولة بالنسبة إلى النوع الشامل، ولا ما يضمن لما فيها صفة عدم تداخل الأنواع بعضها في بعض؛ وأما كلمة «أو» فقوتها المنطقية — متميزةً من صورتها اللفظية — كائنة في استيفاء الشرط الذي يشترط ألا تكون الأنواع الفرعية المعطوفة بعضها على بعض داخل نوعها الشامل، متداخلة، بسبب ما نكون قد ذكرناه من خصائصها التي تفصلها بعضها عن بعض؛ فخذ — مثلًا — هذه القضية: «الطيور والحيتان والثدييات هي فقريات» فما دامت الحيتان والثدييات تعرفان بمجموعة بذاتها من السمات، فإن «واو العطف» هنا لا تحقق عزل أحد النوعين عن الآخر؛ فالقوة المنطقية لكلمة «أو» معناها ضرورة تعيين الأنواع الفرعية التي تحدد تحديدًا وصفيًّا بذكر سماتها التي تبلغ من التمايز حدًّا يجعلها متخارجة بعضها عن بعض، ولو أنها تدخل معًا ضمن مجموعة السمات التي تميز النوع الشامل لها جميعًا؛ فالأنواع المعطوفة بالواو قد تنشئ قضايا صادقة إلى حد معلوم، لكنها لا تكون قضايا شاملة بما فيه الكفاية. إلى هنا نحن أقرب إلى الزعم منا إلى البيان بأن أداءنا لإضافة الجمع بصورتيها الضامة والمفرقة، لا ينصب إلا على علاقة الحدود داخل القضايا ذوات الإشارة إلى الوجود الخارجي؛ وأبسط الطرق لبيان سلامة موقفنا في هذا الصدد، هو أن ننظر إلى علاقة الأطراف المعنوية التي منها يتألف مضمون قضية كلية لا وجودية: ففي حالة السمات التي تحدد لنا الأنواع — سواء أكانت الأنواع شاملة لغيرها أم مشمولة في غيرها — يتحتم أن تكون السمات المستخدمة مستقلًّا بعضها عن بعض استقلالًا ماديًّا، ولكنها تكون مع ذلك متشابكة بعضها في بعض في اقتران يراكمها، بحيث تتكون منها مجموعة سمات تكفي لتحديد الأنواع تحديدًا جامعًا ومانعًا؛ وأما العلاقة بين الأطراف المعنوية في قضية مجردة، فهي — من جهة أخرى — علاقة متبادلة؛ فالقضية الكلية لا تحقق الشروط المنطقية إلا إذا كان كل طرف معنوي من أطرافها معتمدًا اعتمادًا متبادلًا على سائر الأطراف المعنوية الأخرى الداخلة في تلك القضية؛ وهذه الصورة من صور العلاقات هي التي نطلق عليها كلمة «مضاعفة الضرب» لنصفها بها؛ ذلك لأن اقتران المعاني في هذه الحالة ليس اقترانًا لمضمونات في وسعها أن تستقل بمشاهدات خاصة بها، أو بتحديد خاص بها؛ بل «الاقتران» هنا هو اقتران «طبائع» لا اقتران سمات؛ فضرورة الصدق التي تتميز بها القضايا الكلية — متميزةً بذلك من عرضية القضايا الوجودية — إنها تجيء نتيجة لاقتران أطرافها المعنوية المتعلق بعضها ببعض، اقترانًا فيه صفة التضاعف في عملية الضرب. فكون الحيوان ثدييًّا — مثلًا — يتقرر باقتران ضَرْبيٍّ لهذه المعاني: حار الدم، وولود، ومرضع للصغار؛ فإذا كانت هذه القضية الكلية صادقة من حيث هي تعريف، كانت (١) مستقلة عن الوجود الفعلي للكائنات المتميزة بما يقابل هذا التعريف من سمات كيفية، مع أنها (٢) تتضمن الفكرة الذاهبة إلى أن هذه الأطراف مرتبط بعضها ببعض ارتباطًا ضروريًّا حتى ليكون كل من هذه الأطراف الثلاثة بغير معنًى في التعريف إذا غضضنا النظر عن تأثيره في الطرفين الآخرين وتأثره بهما؛ وبعبارة أخرى، إذا كان الحيوان حار الدم، إذن هو ولود … إلخ؛ ولكن افرض — مع ذلك — أن القضية التالية قيلت عن علاقة قائمة بين الأنواع: «الثدييات حارة الدم، وهي (أو هي) ولود، وهي (أو هي) مرضعة لصغارها» فالواضح من ظاهر الأمر أن مثل هذه القضية تعريف مُقَنَّع لكون الحيوان ثدييًّا. والضرب في صورته المفرقة للبدائل، ضروري لنقرر به حالة الكفاية حين نكون إزاء علاقة قائمة بين الأطراف المعنوية (في قضية كلية)، كما هو ضروري في حالة اقتران السمات التي تقيم الحدود بين الأنواع المتعلق بعضها ببعض؛ إذ لا بد من استبعاد المفاهيم المعنوية التي تكون غير ذات صلة بموضوع بحثنا، أو تكون زائدة عن حاجتها، فمثلًا في حالة نظرنا إلى فكرة المثلث، يستبعد المقدار الكمي من التعريف؛ بينما يصبح الشكل خارجًا عن فكرة المثلث، حين نجاوز بها الحدود التي تقررها العلاقات التي تربط مفهوم المثلث القائم الزاوية بمفهوم المثلث المتساوي الأضلاع، وبمفهوم المثلث المختلف الأضلاع؛ ولقد اعتدنا التفكير في مفهوم المثلث بغض النظر عن حجمه، حتى ليبدو حذفه من مفهوم المثلث أمرًا أتفه من أن يستحق منا الذكر؛ لكن قد جاء يوم كان فيه البحث في العلاقات الهندسية معوقًا، لأن الحجم كان يظن عندئذٍ أنه خاصة ضرورية في المثلثات؛ إذ ما دام الإنسان يفرض عند تفكيره في المثلثات، أنها تشير إلى مسميات في الوجود الفعلي، فالحجم يصبح سمة لا تنفصل عن فكرة المثلث؛ أما إذا أخذنا العلاقات القائمة بين معانٍ معينة لنُعَرِّف بها — مثلًا — كون الشيء معدنيًّا، فعندئذٍ لا يمكننا أن نقرر بأننا قد أكملنا كل المعاني المطلوبة، إلا إذا فصلنا تلك المعاني عن معانٍ أخرى تكون العلاقة المتبادلة بينها تعريفًا لكون الشيء داخلًا من الناحية الكيماوية بما يخرج به عن كونه معدنيًّا، وبما يجعله متميزًا من غيره من الأنواع؛ وسأعيد هنا نقطة ذكرتها في مواضع أخرى وهي أنني إذا أثبت أن صفة المثلثية إما أن تكون قائمة الزاوية، أو مختلفة الأضلاع، أو متساوية الساقين، فقد أثبت بذلك (١) أن هذه الصور التي يكون بها الشيء مثلثًا، تستنفد كل الاحتمالات الممكنة للعلاقة التي تربط الأضلاع والزوايا في المثلث، و(٢) أن العلاقات التي تجعل الشيء مثلثًا، إنما تكون على تبادل بعضها مع بعض، بحيث تصبح هذه الصور التي يكون بها الشيء مثلثًا ضرورية لفكرة المثلث. ولكي نصل إلى حكم نهائي مقبول، لا بد من تقابل في الأداء بين القضايا التي تستوفي — على التوالي — شروط حالتي الإضافة بالجمع والإضافة بمضاعفة الضرب، عندما نصل القضايا بعضها ببعض أو نفصلها بعضها عن بعض؛ وليس في مستطاعنا أن نقرر بأن القضايا الكلية المستخدمة — من جهة — ذات صلة إجرائية بموضوع بحثنا، وأن السمات المقترنة المستعملة في تحديد الأنواع — من جهة أخرى — مانعة جامعة بسبب قيامها على أساس أو علة، إلا إذا ربطنا القضايا التي تحدد مضمونات الموضوع، بمضمونات المحمول؛ وإلا كان أساس ربطهما لا يعدو أن يكون تكرارًا لمشاهدات تعاود الحدوث، حتى ليصبح هذا الاقتران المشاهد مدار إشكال؛ والحدود العلاقية الآتية هي التي تعبر عن الصورة المنطقية للتقابل المتبادل بين الجانبين: «إما هذا أو ذلك، لكن كليهما لا يجتمعان معًا»؛ وخذ القضية الآتية مثلًا: «تتألف البشرية من أوروبيين وأفريقيين وأستراليين وأمريكيين …» والنقط هنا تشير إلى أن الإضافة تستغرق كل ما هنالك من أنواع البشر استغراقًا جامعًا؛ فليس في القضية — على صورتها هذه — ما يمنع عضوية الفرد في أكثر من نوعين، ولا ما يمنع أن تكون هنالك أنواع مثل نوع «الأمريكيين الأوروبيين»؛ فالقاعدة التي نسوقها في قضية كلية هي وحدها التي تحدد الأنواع تحديدًا يجعل مثل هذا الإمكان مستبعدًا؛ نعم إن مثل هذا التحديد للأنواع ليس بذي أهمية خاصة في المثل الذي اخترناه، ولو أن مسألة التبعية المزدوجة في انتماء الفرد الواحد لقوميتين في آنٍ واحد، قد تكون في هذه الحالة مشكلة فعلية؛ لكن ثمة أبحاثًا علمية لا يكون لنا فيها بد من التحديد بأن الأنواع يتصل بعضها ببعض على الصورة التي توجب أن ينتمي الفرد الواحد إلى هذا النوع أو ذلك، لكنه لا ينتمي إلى أكثر من نوع واحد في الوقت الواحد؛ فتحقيق هذا الشرط أمر ضروري لأية مجموعة سليمة من القضايا المفصول بعضها عن بعض (بأداة إما … أو …) ولا يمكن تحقيق هذا الشرط إلا على أساس مجموعة من القضايا الكلية الشرطية الانفصالية، التي من شأنها أن تحدد — بتطبيقها الإجرائي — الأنواع التي يمنع بعضها بعضًا، مع اجتماعها معًا اجتماعًا يستوعبها كلها في نوع شامل. ويلزم عن هذا نتائج؛ فمن المعتاد في مؤلفات المنطق أن تجد القضايا التي هي من قبيل القضايا التي تناولناها بالبحث، موسومة باسم «المركبة»؛ حين ينبني على «المركبة» فرض بقيام قضايا «بسيطة» سابقة على عملية وصل القضايا بعضها ببعض أو فصلها بعضها عن بعض، ومستقلة عن هذه العملية؛ أما من وجهة نظرنا (وهي أن أية عبارة رمزية لا يكون لها المكانة المنطقية التي تجعلها قضية إلا إذا كانت عضوًا في مجموعة منظمة أو في سلسلة منظمة من قضايا) فيلزم بالبداهة ألا يكون هنالك قضايا «بسيطة» بالمعنى المزعوم؛ نعم إن هنالك — بالطبع — قضايا بسيطة نسبيًّا، لكنها لا تكتسب الصفة المنطقية إلا من حيث هي تكوِّن ما يسمونه بالقضايا «المركبة»؛ مثال ذلك قضية جزئية (تشير إلى جزئي واحد) تُقال عن إحدى حالات التغير، التي كانت في لحظة معينة مستعصية على التحليل إلى كثرة من عناصر متفاعلة، مثل هذه القضية يكون قضية بسيطة أو أولية؛ لكنها (١) لا تكون كذلك إلا وهي مشروطة بشروط، إذ إن تحديدها يتوقف على ما بين أيدينا من تقنيات المشاهدات التجريبية؛ فإذا تحسنت هذه التقنيات، فقد نستكشف عناصر أكثر أولية، هذا إلى أن (٢) طبيعتها البسيطة أدائية على كل حال؛ لأن مضمونها — من حيث هو مضمون بسيط — يتقرر بقدرتها على أداء مهمتها باعتبارها شرطًا يحدد معالم مشكلة معينة؛ ومن هنا كانت درجة «البساطة» المطلوبة تختلف باختلاف المشكلة التي بين أيدينا. إذا غضضنا النظر عن طبيعة العلاقة المتبادلة بين عمليتي الجمع (التي نضيف بها الأنواع بعضها إلى بعض في مجموعة واحدة) والضرب (الذي نصل به الأطراف المعنوية المجردة في قضية كلية) اللتين نؤديهما حين نعطف القضايا بعضها على بعض أو نفصلها بعضها عن بعض، لما بقي لنا أساس منطقي للتفرقة بين القسمة من جهة والتصنيف من جهة أخرى؛ فالعملية تكون عندئذٍ «قسمة» حين نسير بها من النوع الشامل إلى الأنواع الفرعية المشمولة فيه، بينما تكون «تصنيفًا» إذا سرنا بها في الاتجاه المضاد؛ وأما مادة البحث نفسها فهي هي في كلتا الحالتين؛ لكننا إذا خصصنا «القسمة» بمعناها المنطقي للتفرقة بين السمات المتميزة التي تقيم الحدود الفاصلة بين الأنواع المتخارجة بالنسبة بعضها إلى بعض، والتي تندرج معًا في دائرة أشمل، والسمات المقترنة التي تصف نوعًا شاملًا لها، كان للقسمة معناها المنطقي الذي يميزها؛ ويكون «التصنيف» عندئذٍ دالًّا على ما نستطيع تمييزه من العلاقات المتبادلة بين المفاهيم المعنوية التي تفرق «الفئات» وبعضها عن بعض (ونستعمل كلمة «فئات» بمعناها الذي يخلو من الازدواج، وهو المقولات) داخل المفهوم الذي يكون للمقولة التي هي أوسع المقولات نطاقًا في التطبيق؛ أي إن «القسمة» تنصب على الأنواع في ماصدقاتها، بينما ينصب «التصنيف» على التصورات الذهنية في مفاهيمها. كانت النظرية الكلاسية عن الجنس وما ينطوي تحته من أنواع ثابتة، تضع للتعريف أساسًا وجوديًّا؛ إذ كان قوام التعريف ذكر الجنس والفصل اللذَيْن يتعاونان على تمييز النوع الذي نريد تمييزه من سواه، وعلى إبراز ماهيته؛ فلما نبذنا الأساس الكوني لهذه الفكرة عن التعريف، أصبحت المكانة المنطقية للتعريف قائمة في الهواء؛ فنظر إليه — مثلًا — على أنه أمر لغوي صرف، يحدد به معنى اللفظ الواحد بموضعه بين مجموعة ألفاظ يفرض فيها أنها معلومة المعاني من قبل، كل منها مأخوذة على حدة؛ ولو فهمنا هذه الفكرة عن التعريف فهمًا حرفيًّا، وجدناها تترك اشتراك الألفاظ المعَرَّفة في تكوين بناء واحد، بغير تفسير وعلى غير أساس؛ ومع ذلك فهي تشترك في تكوين التعريف بفضل اقترانها معًا اقتران جمع أو اقتران ضرب، إما بالمعنى الذي يجعل التعريف وصفًا لنوع معين، أو بالمعنى الأدق الذي يجعل التعريف تحليلًا لفكرة مجردة؛ وإنه لمذهب سديد أن نجعل الرموز — وما الكلمات بمعناها المألوف إلا أحد أنواع الرموز — ضرورية للتعريف، وأن نجعل الرمز الواحد في تعريف ما، أعني الرمز ذا المعنى المتكامل، ينحل إلى معانٍ بينها صلات متبادلة. لكن الفحوى المنطقي للتعريف يختلف عن ذلك اختلافًا جوهريًّا؛ فالمعاني الذهنية إنما تقوم بمهمتها من حيث هي صور تمثل طرقًا ممكنة لحل مشكلة قائمة؛ ولا تستطيع أن تؤدي مهمتها تلك إلا إذا انحلت إلى عناصر معنوية يتصل بعضها ببعض بصلة ضرورية؛ لا لشيء إلا لأنها تحليل الفكرة ذهنية واحدة؛ وقيمة أي تحليل معين (أعني صحته) نحلل به أية فكرة ذهنية معينة (وهو التحليل الذي عنه نقول إنه التعريف) إنما تتحدد آخر الأمر بقدرة العناصر المعنوية المتبادلة الصلة فيما بينها، على تكوين سلسلة من خطوات يمكن إحلال بعضها محل بعض في مجرى التفكير النظري، إحلالًا يلتزم الدقة الصارمة؛ وبغير هذا التصور للتعريف، لا نستطيع أن نفسر الدور الذي لا غناء لنا عنه، أعني الدور الذي تقوم به التعريفات في البحث، ولا أن نفسر كيف ولماذا تعد مجموعة مختارة من الحدود، ينضم بعضها إلى بعض فتكون تعريفًا مدعمًا من ناحية المنطقية، بدل أن تكون قد اجتمعت جزافًا. من وجهة النظر التي تحتم على القضايا أن تحقق الشروط التي تشترطها عليها عضويتها في مجموعة أو في سلسلة من قضايا، يكون معنى الذاتية هو الشرط المنطقي الذي يقتضي أن تثبت المعاني على حالة واحدة طوال متصل البحث؛ والمعنى المباشر الواضح لهذه العبارة، هو أن يظل المعنى المعين من المعاني ثابتًا خلال بحث معين، إذ إن أي تغير يطرأ على مضمونه، يغير قوة القضية التي كان ذلك المعنى واحدًا من مقوماتها؛ وبهذا التغير نصبح على شك: على أي المعاني، وعلى أي علاقة بين المعاني، اعتمدت النتيجة التي وصلنا إليها في ختام البحث؛ غير أن تحقيق هذا الشرط لا يعني أن رمزًا معينًا لا بد أن يحتفظ بمعنًى واحد في البحوث كافة؛ لأنه لو احتفظ الرمز بهذا المعنى الواحد، لاستحال على المعرفة أن تتقدم؛ لكن الحكم الذي هو آخر ما ينتهي إليه البحث، يعدل إلى حد ما — وقد يعدل تعديلًا جوهريًّا — من الفحوى الدلالي لواقعة معينة شاهدناها، وفي المعنى الذي كان من قبل المفهوم ذهني معين؛ فما لم يكن للذاتية قوة أدائية بالنسبة إلى مادة الموضوع الذي يخضع للبحث، لكان قانون الذاتية معرضًا للانهيار في كل خطوة من خطى العلم في تقدمه. لقد ذكرنا من قبل أن التحقيق التام للشروط التي تستلزمها عمليات الفصل والوصل بين القضايا، أي العمليات التي نفصل بها الحدود بعضها عن بعض، أو ندخل بها الحدود بعضها في بعض، أقول إن التحقيق التام للشروط اللازمة لهذه العمليات، يتمثل من الناحية الصورية بالصورة التي تكون أداتها هي «إما هذا أو ذاك ولكن كليهما لا يجتمعان»؛ ومبدأ الثالث المرفوع يحقق لنا أكمل درجات التعميم في صياغة عمليات وصل القضايا وفصلها، وصلًا وفصلًا يتعلقان أحدهما بالآخر بعلاقة متبادلة؛ ولربما كانت الفكرة القائلة بأن القضايا هي، أو يمكن أن تكون — في ذاتها وبذاتها — على نحو يجعل مبدأ الثالث المرفوع منصبًّا عليها انصبابًا مباشرًا، أقول إن هذه الفكرة ربما كانت مصدرًا للتدليل المغلوط في التفكير الفلسفي، وفي البحوث الأخلاقية والاجتماعية، أكثر من أي مصدر آخر للمغالطة؛ فقد كان ينبغي أن تكون القضايا المنفصلة التي ظن بها ذات يوم أنها تستوعب الحالات الممكنة كافة، وأنها ضرورية الصدق، ثم وجد بعد ذلك أنها ناقصة (بل ربما وجد أنها غير ذات صلة بالبحث إطلاقًا)، أقول إن هذه الحقيقة كان ينبغي أن تكون تحذيرًا لنا منذ زمن طويل، بأن مبدأ الثالث المرفوع إنما يضع لنا شرطًا منطقيًّا يُراد له أن يتحقق خلال سيرنا المتصل في عملية البحث؛ فهو مبدأ يصوغ لنا آخر هدف نستهدفه بالبحث، حين تتحقق الشروط المنطقية تحققًا كاملًا، فأشق مهمة يضطلع بها البحث هي أن يحدد مادة البحث تحديدًا يجبُّ كل إمكان آخر بعد الذي نكون قد ذكرناه. إنه كثيرًا ما يحتج المحتجون اليوم بأن المبادئ الثلاثة المذكورة، قد عفى عليها الزمان تعفية تامة، حين نبذ الناس صياغاتها كما وردت في المنطق الأرسطي؛ لكن إن كان تفسير أرسطو لهذه المبادئ على أنها متحققة في الوجود الخارجي، وإن كان أي تفسير آخر مما يعدها خصائص علاقيةً متأصلة في طبيعة القضايا نفسها، أقول إنه إن كان هذا التفسير أو ذلك قد أصبح مما لا بد من نبذه بغير شك؛ إلا أن هذه المبادئ الثلاثة لو عدتْ صياغات نصوغ بها الشروط المنطقية (في وصل القضايا وفصلها) التي يُراد لها أن تستوفى، فإنها عندئذٍ تكون سليمة من حيث هي مبادئ توجه طريق السير، أو من حيث هي مُثلٌ عليا تضع أمام البحث حدًّا أعلى يصبو إليه فينتظم بذلك طريق سيره؛ فثمة مَثلٌ يُساق أحيانًا ليبين خلاء مبدأ الثالث المرفوع من أي معنًى، وهو عدم قابلية هذا المبدأ للانطباق على كائنات الوجود الخارجي وهي في حالة انتقالها من وضع إلى وضع؛ ولما كانت شتى كائنات الوجود الخارجي في حالة من صيرورة التغير دائمًا، لزم أن يكون مبدأ الثالث المرفوع مستحيل التطبيق؛ فمثلًا يستحيل علينا أن نقول عن الماء الذي هو في طريقه إلى التجمد، وعن الثلج الذي هو في طريقه إلى الذوبان، إن الماء إما أن يكون صلبًا أو سائلًا؛ فإذا أردت أن تجتنب هذه المشكلة بأن تقول إن الماء إما صلب أو سائل أو في حالة انتقالية، كنت بمثابة من يصادر على المطلوب، وهو: تحديد الحالة الانتقالية الوسطى؛ وهذا اعتراض لا شك في سلامته لو أقمته على أي أساس شئت، إلا إذا سلمتَ بأن مبدأ الثالث المرفوع يعبر عن شرط يُراد له التحقق؛ غير أننا لو أخذناه بهذا المعنى الأخير، أظهر لنا عدم الكفاية العلمية لتصورات الذوق الفطري، مثل فكرتي صلب وسائل؛ فبعد أن أصبح البحث العلمي في الموجودات الفعلية، مشغولًا بالتغيرات، وبما بين أوجه التغير من ارتباطات، لم يعد ثمة مكان للأفكار الكيفية الشائعة، وأعني بها أفكارنا عن حالات الصلابة والسيولة والغازية؛ إذ قد أحللنا محلها اليوم ارتباطات بين وحدات من الكتلة والسرعة والمسافة واتجاه الحركة، بعد أن نصوغ تلك الارتباطات بلغة المقاييس العددية؛ وقد كانت ضرورةُ تكوين القضايا المنفصلة التي يعاند بعضها بعضًا، محققةً بذلك شرط استبعاد الحالات الوسطى، عاملًا من العوامل التي أحدثت هذا التغير العلمي. قد عنينا في هذا الفصل بالشروط الصورية التي لا بد للقضايا أن تستوفيها، لكي تؤدي مهماتها في البحث؛ والشروط المنطقية المذكورة تتناول — من جهة — مجموعات القضايا في علاقاتها التي تدعم نتيجة استدلالية، كما تتناول — من جهة أخرى — سلاسل القضايا في علاقاتها التي تكوِّن تفكيرًا نظريًّا مرتب الخطوات؛ ففي كلتا هاتين الحالتين، يُقال عن القضية الختامية إنها «تلزم» عن القضايا التي سبقتها، بينما يُقال عن طريق السير المضاد إنه «انتقال» أو «سير من النتيجة فصاعدًا»؛ لكن طبيعة «اللزوم» تختلف في الاستدلال عنها في التفكير النظري؛ وقد جرى التقليد على وصف الفرق بينهما (وهو وصف اتفاقي في جوهره) بأننا في حالة الاستدلال ننتقل من القضايا الجزئية إلى قضية عامة، وفي حالة التفكير النظري ننتقل من العام إلى الجزئي؛ ولمثل هذا القول مغزاه الحقيقي، كما أن له أساسًا من المنطق الأرسطي؛ لكنه قول يعوزه المبرر كما يعوزه المعنى المنطقي في البحث العلمي كما هو قائم اليوم؛ فالنتيجة في التفكير النظري الرياضي لا تقل تعميمًا (ما دامت قضية مجردة شرطية) عن القضايا التي لزمت تلك النتيجة عنها؛ فإذا كان من الجائز أن تكون هذه النتيجة أقل مجالًا في مفهومها، أو أقل نطاقًا في تطبيقها، فكذلك من الجائز أن تكون أوسع أو أضيق في هذا النطاق أو ذلك المجال، تبعًا لما تقتضيه المشكلة التي نحن بصدد حلها؛ وأما الفكرة القائلة بأننا نصل إلى القضايا العامة «بانتقالنا» من القضايا الجزئية إليها، فهي فكرة أكثر قبولًا، لأن القضايا الجزئية لا غناء عنها في صياغتنا للمشكلات التي تتطلب القضايا العامة لحلها؛ لكن صياغة الإجراءات التي نحدد بها تعميمًا يؤخذ من الجزئيات، عمليةٌ أكثر جدًّا في تركيب عناصرها من أن نشملها جميعًا بكلمتي «لزوم» أو «انتقال»؛ فتكوين القضية العامة يشمل — مثلًا — أداء إجراءات تمليها فكرةٌ عن حل محتمل، بحيث يتولد عنها وقائع لم تكن من قبل واقعة في مجال المشاهدة؛ وأما طبيعة «الانتقال» و«اللزوم» المتضمنين (في الاستدلال وفي التفكير الاستنباطي) فمثار مشكلة منطقية تنقل مناقشتنا المنطقية إلى موضوع طبيعة المنهج العلمي؛ إذ هي تتضمن بصفة خاصة مشكلة طبيعة الاستقراء والاستنباط، وعلاقة أحدهما بالآخر؛ ومجال هذا الموضوع هو مدار الحديث في الجزء الرابع، الذي سنتناوله بعد أن نفرغ من مناقشتنا «للحدود» في الفصل الآتي.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/18/
الحدود أو المعاني
ولا ينقض هذا القول أن نجد الكلمات المألوفة كلها تحمل معنًى ما، حتى وإن نطقنا بها وهي بمعزل عن سواها؛ وهي إنما يكون لها مثل هذا المعنى، لأنها تستعمل في سياق يتضمن علاقتها بكلمات سواها؛ هذا فضلًا عن أن معناها يظل قائمًا بالقوة أكثر منه قائمًا بالفعل، إلى أن نصلها بغيرها من الكلمات فإذا ما نطق ناطق بهذه الكلمات: «شمس» و«قطع مخروطي» و«يوليوس قيصر» … إلخ، فإنها توجه للمشاهدة الخارجية أو للتفكير العقلي طريقًا يتجه فيه؛ غير أن غاية هذا الاتجاه تظل غير متعينة، حتى تتميز من سائر الغايات الممكنة، وعندئذٍ تتضح ذاتيتها بفضل علاقتها بحد آخر؛ وإن عدم تبيننا للحدود الفواصل، لمصدر منازعات ومشاحنات حول المعاني؛ ذلك لأن الحدود غير المتعينة إما أن تزعم لنفسها أكثر من حقها، فتكون غير فاصلة الحدود لتداخلها في غيرها، وإما أن تضيق من نطاقها أكثر مما ينبغي لها فتترك بينها وبين غيرها رقعة بغير صاحب؛ وبعبارة أخرى فليس في مستطاعنا أن نحدد حدًّا ما تحديدًا كاملًا؛ ما لم نحدد معه كذلك سائر الحدود التي يتعلق بها وصلًا وفصلًا؛ والحدود — من حيث هي نهايات منطقية — تتجه بنظرها وجهتين، شأنها في ذلك شأن غيرها من الحدود الفواصل؛ فهي مستقرة المعنى من حيث هي نتيجة تولدت عن أوجه النشاط فيما مضى؛ وهي ذات أثر تشريعي فيما عساه أن يستجد من أبحاث؛ فهي تتسم بهاتين السمتين معًا، وتمارس هاتين المهمتين، بوصف كونها أدوات وسلية؛ ومثلها مثل الأدوات الوسلية كافة، في قابليتها للتعديل خلال استعمالها في الظروف المقبلة. ولقد كانت مؤلفات المنطق التقليدية تفرق عادة بين الحدود: العيني منها والمجرد؛ ما يدل على الماصدق وما يدل على المفهوم؛ ما يشير إلى الخارج وما يشير إلى الداخل؛ المفرد (أو الجمع) والجمعي والعام؛ وسنجعل من هذه التفرقات المعترف بها مادة للمناقشة؛ غير أن تفسيرها على أساس المبادئ التي صغناها في الفصول السابقة؛ سيختلف بالضرورة — في نواحٍ هامة — عن التفسير التقليدي لها؛ وسيتضمن تفسيرنا أيضًا إضافة تفرقات أخرى، كحلنا — مثلنا — للحدود العامة إلى ما هو جامع وما هو كلي؛ ولئن كانت مناقشتنا ستختلف عن التفسيرات التقليدية، فهي ستقتضي كذلك اختلافًا عن بعض المؤلفات الحديثة التي اختلفت هي أيضًا عن التفسير التقليدي فمثلًا تقيم بعض المؤلفات (الحديثة) تفرقة حادة بين الأسماء والحدود، على أساس أن الأسماء رموز تشير إلى أشياء لا شأن لها بالمنطق بمعناه الدقيق، على حين أن الحدود صورية خالصة؛ ولو التزمنا هذا الرأي التزامًا دقيقًا، لانتهينا إلى حذف ما يُسمَّى بالحدود «العينية» حذفًا تامًّا، ولأبعدنا كذلك كافة القضايا الوجودية، ما دامت هذه القضايا تتضمن في نهاية الأمر إما أسماء أعلام أو ما يعادل أسماء الأعلام من عبارات، كاسم الإشارة «هذا». والمؤلفات المذكورة لا تتسق أبدًا مع نفسها في هذا الموضوع؛ وفي اختلافنا عنها في غير ما ذكرناه من أوجه الخلاف، نرى وجهة النظر التي نأخذ بها في هذا الكتاب تقتضى استحالة القسمة الحادة الفواصل بين الصورة من جهة ومادة الموضوع من جهة أخرى؛ لأنها تذهب إلى أن مادة الموضوع هي ما هي بفضل تحديدها بالصور التي تجعل البحث هو ما هو؛ على حين أن الصور بدورها تتكيف بما هنالك من مواد موضوعات البحث التي من شأنها أن تحقق ما تقتضيه عملية البحث الموجه؛ على أن هنالك مدارس أخرى تقصر كلمة الأسماء على أشياء الوجود الخارجي، لتعطي للحدود — تبعًا لذلك — مجالًا أوسع؛ لكن الأسماء دلالات تستخدم الرموز؛ فإذا كان من المهم أهمية أساسية أن نلحظ إن كان ما يشير إليه الرمز شيئًا ماديًّا أو أمرًا صوريًّا (كما هي الحال في كلمتي «و» و«أو») فإنه من التعسف أن نصر على أن هاتين الكلمتين الأخيرتين لا تشيران أو لا تسميان ما تشيران إليه، ألا وهو العلاقات الصورية؛ ولعل الأمر هنا ضرب من الوهم نقلناه عن النحو التقليدي الذي يحتم أن يكون الاسم دالًّا على شيء متعين؛ والواقع هو أن كل رمز يُسمَّى شيئًا ما، وإلا لكان بغير معنًى على الإطلاق، ولا كان رمزًا؛ فالصورة التخطيطية أو المصور الجغرافي يشير إلى شيء ما، وله قوة دلالية، على الرغم من أن العرف اللغوي لا يجعلهما من الأسماء. والتفرقة الأساسية التي نقترحها هنا بين الحدود، تتبع نظريتنا في الحكم؛ فأي حد معين إنما يصدق في النهاية إما على مضمون الحكم أو على مضمون محموله، أي إنه إما أن ينصرف بدلالته إلى عالم الوجود الخارجي، أو إلى عالم التصورات العقلية؛ وأما كل ما عدا هذه التفرقة من تفرقات، فهي إما جوانب من هذه التفرقة الأساسية، من حيت قوتها المنطقية، أو هي مشتقة منها؛ وفيما بين الحدود الآتية مثل بسيط يوضح هذه التفرقة. الألفاظ الدالة على كيفيات تقع لنا في الخبرة المباشرة، هي ألفاظ عينية لا يعادلها في ذلك غيرها من الألفاظ؛ مثال ذلك، حلو، وصلب وأحمر، وزاعق، حين تستعمل لتصف أمورًا مشاهدة وصفًا يميزها من سواها ويحدد ذواتها؛ أعني حين تستعمل هذه الكلمات من حيث هي علامات دالة، أو رموز؛ وكذلك من الألفاظ العينية كلمات الإشارة: هذا، وذلك، والآن، وعندئذٍ، وهنا، وهناك، ومنها أيضًا الأسماء المشتركة التي تدل على أنواع، والنعوت التي ندل بها على السمات المميزة التي نستعين بها على تمييز الأنواع بعضها عن بعض، وإبراز حقائقها الذاتية؛ وأما الألفاظ المجردة فهي تلك التي تنوب عن تصورات ذهنية، بما في ذلك العلاقات التي نستخدمها دون أن يكون لها دلالة الانطباق الفعلي على الأشياء الخارجية، مثال ذلك: حلاوة وصلابة، واحمرار، وزعيق، وحضور، وغياب، ووضع، وموضع، وأبوة، وصفة كون الشيء زاوية … إلخ؛ على أن من الكلمات — إلى جانب الكلمات المجردة التي تستمد معناها المجرد من طريقة تصريفنا للأسماء العينية — طائفة كبيرة نعرفها مجردة أو عينية تبعًا للسياق الذي ترد فيه، بغض النظر عن صورتها اللفظية؛ فاللون والصوت — مثلًا — كلمتان عينيتان حين تشيران إلى سمات تتسم بها الأشياء الكائنة في الوجود الخارجي؛ على حين أنهما مجردتان في العلم، إذ تعنيان عندئذٍ اللونية أو إمكان الرؤية، والمسموعية؛ باعتبار هاتين الحالتين ممكنتين؛ ولكي يمكن الاستعانة بهما في توجيه البحث العلمي تراهما تعرفان بما يدل على نسب عددية؛ وهنالك نعوت كثيرة تتلفت النظر بعدم تعين معناها بالنسبة إلى التفرقة العددية المذكورة، فهي عند تطبيقها تطبيقًا مباشرًا على الأشياء، تكون بطبيعة الحال ذات دلالة وجودية، إلا أنها قد ترمز أيضًا إلى ما يمكن حدوثه في الحالات البسيطة، فكلمة دائري أو كلمة مستطيل عينيتان حين تستعملان لوصف الأشياء الفعلية، كأن نقول مثلًا «منشار دائري» و«نضد مستطيل». وأما في الرياضة فالدائرة معناها الدائرية والمستطيل معناه كون الزوايا قائمة والأضلاع مستقيمة؛ وكما يدل هذا المثل، قد تكون الأسماء المستمدة من النعوت مجردة في طريقة استعمالها، دون أن نشير إلى صورة التجريد حين لا تؤدي الكلمة عملها في قضية معينة؛ وعلى هذا فكلمة «صلب» قد تستعمل لتميز الأشياء الصلبة من «السائلة»، على حين أنها في الرياضة تدل على مفهوم معنوي يعرف لنا الطرق الممكنة التي يكون بها الشيء ذا شكل مجسم، تمييزًا له من الحالة التي تدل عليها كلمة «مستوٍ». لكننا لا نستطيع أن نحصل على المجرد من العيني بأن نقصر نظرنا على صفة معينة وهي قائمة بمعزل عن سائر الصفات التي تقترن بها في شيء ما؛ فقد نقول — مثلًا — هنالك جواد أسمر اللون، ذكر، عمره خمسة أعوام، وارتفاعه خمسة عشر شبرًا؛ ونستطيع أن نختار أية صفة شئنا من هذه الصفات لنتابعها بالفحص، دون أن نفكر في سائر الصفات، أو نتناولها ببحث؛ فمثلًا لو فكر شارٍ في شراء جواد ليضمه إلى جواد عنده ليكون له منهما زوج مؤتلف، فقد ينصرف عندئذٍ ببحثه إما إلى اللون أو إلى الارتفاع، أو إلى العمر، باعتبارها هي الجوانب التي تقرر إن كان الجوادان «يأتلفان» أو لا يأتلفان معًا؛ لكن الصفة التي يفكر فيها ما زالت «عينية»؛ فالأسمر ليس هو السمرة، وكون الجواد عمره كذا ليس هو العمر بمعناه المجرد، وكون ارتفاعه كذا ليس هو صفة الارتفاع مجردة؛ فالمقارنة التي تنتهي بنا إلى اختيار صفة معينة من مجموعة صفات هي شرط للتجريد، لكن الصفة المختارة لا تصبح باختيارها صفة كلية؛ هذا فضلًا عن أن الصفة المعينة لا تكون صفة كلية لمجرد كونها تميز عددًا من المفردات بل إنها بتمييزها هذا للمفردات التي تتصف بها، تحيط نوعًا معينًا بحدوده، كما تفعل ذلك أية سمة أخرى؛ وأما إذا أردنا لها أن تكون صفة كلية، فلا بد أن نعرفها تعريفًا يجعل منها ضربًا ممكنًا من ضروب الإجراء العملي؛ فتكون مهمتها عندئذٍ هي تحديد السمات المميزة التي لا بد من تحققها في الوجود الخارجي لكي يجوز لنا أن نستدل من وجودها أن فردًا معينًا ينتمي إلى نوع معين؛ وإنا لنجد أمثلة حقيقية نوضح بها التجريد، في فكرتنا عن الحرارة بأنها ضرب من الحركة الذرية، كما نجد مثلًا للتجريد الزائف في الفكرة القديمة عن الحرارة بأنها السعر الحراري — فلا نصنع سوى أن نكرر بكلمة مجردة صفة كيفية نصادفها في خبراتنا؛ وإذا كان يجوز لنا أن ننسب صفة أملس للأشياء، فما ذلك إلا لأن المعنى الكلي ملاسة من شأنه أن يرسم لنا طرق الإجراءات العملية في عمليات القياس الفنية؛ فالفكرة التي نحصل عليها بإدراكنا الفطري عن الملاسة، والتي نستمدها من إجراءات نجريها باللمس والبصر، تخدم لنا أغراضًا عملية كثيرة مألوفة، لكنها ليست فكرة علمية بحال من الأحوال؛ ولا يعرف الملاسة (تعريفًا علميًّا) إلا صيغة رياضية؛ وعندئذٍ لا تعود الملاسة مستمدة من صفات كيفية مدركة بالخبرة إدراكًا مباشرًا، عن طريق اختيارنا وتمحيصنا ومقارنتنا لتلك الصفات، أكثر مما نستمد تعريفنا للحرارة بأنها حركة ذرية من التمحيص والمقارنة المباشرين للصفة الكيفية التي نَخْبُرُها في مختلف الأشياء الحارة. كل حد دالٌّ على تصور عقلي، مما يكون له قوة حملية، هو حد كلي، إذ إنه يدل على إجراء ممكن الأداء، بغض النظر عما إذا كانت الظروف التي يصدق عليها في التطبيق العملي داخلة في مجال المشاهدة أو غير داخلة فيه؛ وأما الحدود المفردة والحدود الجامعة فذوات دلالة وجودية، ومكملة بعضها لبعض فالكائن الجزئي الفرد — من حيث هو كذلك — هو موقف فريد وغير قابل لتكرار الحدوث وكيفي؛ والمفرد، الذي تمثله كلمة «هذا» مثلًا، يكون مادة لموضوع نختاره اختيارًا محددًا من مجموعة موقف كيفي ابتغاء استخدامه في مهمة تحديد المشكلة القائمة، وفي تزويدنا بالوقائع التي — إذا اتخذناها شواهد — نختبر بها سداد أي حل مقترح للمشكلة؛ فالصفات الكيفية — كما قلنا من قبل — ليست تعاود الوقوع في ذاتها، لكنها تعاوده من حيث مهمتها التي تؤديها بكونها شواهد؛ وبوصفها هذا، تكون هي السمات المميزة التي تحيط نوعًا معينًا بحدوده؛ ويتبع هذا أن يكون الحد المفرد والحد الجامع بمثابة إبرازنا لموضوع القضية إبرازًا ذا ناحيتين (من حيث هو فرد ومن حيث هو عضو في نوع)، أعني موضوع القضية الذي نشير به إلى شيء من موجودات العالم الخارجي؛ فقولنا: «هذا شهاب» قول مفرد الموضوع بالنسبة لكلمة «هذا» وهو قول دالٌّ على نوع بالنسبة إلى كلمة «شهاب»؛ والسياق وحده هو الذي يبين على أي الصورتين المتكاملة إحداهما مع الأخرى ينصب الاهتمام في حالة معينة؛ فإذا كنا ندخل الشهب في نوع أشمل نطاقًا منها، كانت قضيتنا قضية تدل على العلاقة بين الأنواع، وعندئذٍ لا يكون ثمة ذكر صريح لكائن مفرد بعينه، أو لما نشير إليه بكلمة «هذا»؛ بل إن القضية في هذه الحالة لتصدق — إن كانت صادقة — بغض النظر عما إذا كان هنالك — أو لم يكن — شهاب أثبتت المشاهدة وجوده الفعلي في هذا الزمن المعين أو ذلك، وفي هذا المكان المعين أو ذلك؛ لكن القضية تسلم بفرض أولي، وهو أن الشهب لها وجود فعلي تظهر به في زمان ما وفي مكان ما؛ ولهذا فهي تشير إشارة مضمرة — وإن لم تكن مباشرة — لوجود المفردات؛ ولا تختلف عن هذا حالة نقول فيها إن «الغيلان حيوانات خرافية»، لأن القضية هنا أيضًا تسلم بفرض أولي، هو وجود اعتقادات خرافية أو أسطورية، وتثبت أن الاعتقاد في الغيلان قد كان قائمًا بالفعل، وأن مثل هذه الاعتقادات هي من قبيل ما يُسمَّى بالخرافي، ما دامت المشاهدة لم تؤيد وجود الغيلان، ولو أنها تجيز إثباتنا لقيام اعتقادات عنها. أما «العام» عندما نصف بها حدًّا منطقيًّا، فكلمة مزدوجة المعني؛ فكما قد ذكرنا مرارًا، هي كلمة تستخدم لتدل على ما هو جامع وعلى ما هو كلي في آنٍ معًا، ولقد تناولنا فيما سبق ما يحدث من خلط بين هذين المعنيين، وما يؤدي إليه هذا الخلط من نتائج لها أثرها في النظرية المنطقية؛ وأعني بذلك ما قد يحدث من قصور دون رؤية الفرق المنطقي بين ما هو وجودي وما هو غير وجودي، بين ما هو واقعي وما هو فكري؛ ومع ذلك فسنلحق بما سبق أن قلناه بعض التعليقات على المعنى المزدوج الذي ننسبه لكلمة «قانون»؛ فهي كلمة تستعمل لتدل على مضمونات التعميمات التي تُقال عن الطبيعة، وذلك في حالتين: (١) حين تدل المشاهدة على قيام اقتران معين بين السمات، ثم تتأيد المشاهدة دون أن ينتقص من قيمتها استثناء واحد نصادفه. (٢) حين تكون العلاقة المذكورة نفسها عضوًا في نسق من قضايا كلية متعلق بعضها ببعض؛ فكلمة «قانون» في الحالة الأولى تدل على ما نسميه حقيقة عامة، كقولنا: «الصفيح يذوب في درجة حرارة ٢٣٢ مئوية»؛ ولا اعتراض لنا على هذا الاستعمال المزدوج لكلمة «قانون»، لكن مثل هذا الاستعمال لا ينبغي أن يخفي عنا حقيقة كون القانون في إحدى الحالتين ذا دلالة وجودية، على حين أنه في الحالة الأخرى لا وجودي في معناه بغير شك؛ فالقانون في علم الطبيعة الرياضية كلي بمقدار ما يمكننا مضمونه الرياضي من استنباط قضايا أخرى في مجرى التفكير النظري؛ وأما من حيث هو قانون في علم الطبيعة، فمضمونه وجودي وعرضي. الفرق المنطقي بين هذين النوعين من الحدود هو نفسه الفرق الذي أشرنا إليه مرارًا فيما سبق، بين الحدود الدالة على مضمون الموضوع — وهو المضمون الذي تنصب دلالته على الموجودات الخارجية — وبين الحدود ذوات الفحوى العقلي والحملي؛ فالحدود تكون ذات دلالة في عالم المسميات حين تشير إلى الوجود الخارجي — إشارة مباشرة أو غير مباشرة (والإشارة غير المباشرة تكون في حالة القضايا التي تُقال عن علاقة بين أنواع) — ومن قبيل الحدود الدالة على مسميات في الوجود الخارجي الأسماء المشتركة، وأسماء الإشارة، والأفعال الدالة على تغير أو على فعل؛ ولقد أحيا «مل» الكلمة الإسكولائية «مفهوم» (ولو أنه خلع عليها معنًى مضطربًا ومختلفًا عن معناها عند الإسكولائيين) ليدل بها على المضمونات النعتية التي منها يتألف معنى الحد حين يكون حدًّا جامعًا لصفات يقترن بعضها ببعض في أفراد نوع معين، قائلًا إن المفهوم هو الذي يحدد معنى أمثال هذه الحدود؛ وبناءً على هذه النظرة يكون الحد الواحد من الحدود دالًّا على ماصدقات في الخارج وعلى مفهوم في الذهن في آنٍ واحد، ولا يستثني من ذلك إلا طائفة من حدود معلومة سنذكرها فيما بعد؛ وعلى ذلك تكون لفظة «سفينة» دالة على ماصدقات، من ناحية انطباقها على عدد لا يحصى من الأشياء، بينما يتألف مفهومها من السمات التي لا بد للشيء من حملها لكي يتسنى لكلمة سفينة أن تنطبق عليه انطباقًا مقبولًا؛ وليس الخلط الذي يتضمنه هذا الرأي من النعومة بحيث يجوز أن يفلت منا فلا نراه؛ إذ هو خلط بين السمات المميزة التي هي معنى سفينة، حين تكون هذه الكلمة حدًّا يشير إلى مسميات خارجية، وبين الأطراف المعنوية التي تسوغ — جمعًا ومنعًا — أن يكون لتلك السمات من القوة المنطقية ما يمكنها من الإحاطة بنوع معين؛ والأولى — أي السمات المميزة — إنما تقتصر على تقرير الأمر الواقع؛ إذ هي تقرر مجموعة السمات المستعملة في مجال الواقع التجريبي أساسًا نستند إليه في تسميتنا شيئًا معينًا بسفينة بدل أن نسميه — مثلًا — زورقًا أو «يختًا»؛ فإذا ما أثيرت أسئلة عما إذا كان شيء معين — أو لم يكن — منتميًا إلى النوع «سفينة»، فعندئذٍ يتطلب الأمر أن نعرف السفينة ماذا يُنتظر لها أن تكون؛ فافرض أن التعريف يتألف من اقتران الأطراف المعنوية الآتية (اقترانًا ضربيًّا «أي اقترانًا بدمج المعاني»): الطفو على الماء، وتقوس الجوانب، وسعة تكفي لنقل عدد غير قليل من البضائع والأشخاص، والاستعمال المنظم لنقل البضائع والركاب نقلًا تجاريًّا؛ فمثل هذا الحد لا يكون وصفًا للسمات التي تكون معنى سفينة، بل إن هذه السمات هي بمثابة اشتراطات تشترط ما يجب أن تكون عليه سمات الشيء إذا كان ليعد سفينة؛ فالحدود المذكورة كلها مجردة، وهي تعرف صفة كون الشيء سفينة، لكنها لا تصف السفن كما هي قائمة فعلًا في الوجود الخارجي. فحين نقصر المفهوم على معنى الحد الذي يشير إلى ماصدقات في الخارج (وهو ما لا بد أن يكون إذا ما قيل عن حد ما إنه دالٌّ على ماصدقات وعلى مفهوم في آنٍ معًا) فنحن في هذه الحالة إنما نقول الشيء نفسه مرتين؛ فسفينة حد يدل من ناحية المسميات أولًا على مجموعة من سمات، ثم يدل بعد ذلك على نوع من الأشياء، لأن هذه الأشياء تتميز من سواها بهذه السمات؛ أما حين يُقال إن المفهوم يحدد قابلية انطباق مجموعة من سمات، انطباقًا يجعلها تحيط النوع بما يميزه، فعندئذٍ ينتقل البحث إلى مجال منطقي آخر، ألا وهو مجال الكليات المجردة؛ فإذا كان قولنا عن حد إنه «ذو مفهوم» يعني شيئًا يختلف عن كون ذلك الحد وصفيًّا، إذن فالحد الواحد من الحدود لا يمكن أن يكون دالًّا على ماصدقات ودالًّا على مفهوم في وقت واحد؛ فالحدود الوجودية هي التي تنصرف دلالتها إلى الماصدقات الخارجية، والحدود المجردة هي التي تشير إلى المفهومات العقلية؛ وكل حد يشير بدلالته إلى الأشياء الخارجية يكون ذا صلة بحد يقابله أو يبادله العلاقة ويكمله، مما يشير بدلالته إلى المفهومات العقلية، وتكون تلك الصلة بينهما بالدرجة التي تجعل الدلالة الشيئية للحد المنصرف بإشارته إلى الماصدقات الخارجية دلالة جائزة القبول، وهذا في الجوهر هو ما أراده الإسكولائيون باستعمالهم للمفهوم؛ فلو ضربنا المثل — بدل المثل الذي ضربناه بكلمة سفينة، التي تكتسب معناها بالعرف أو ما يقرب منه — أقول لو كنا قد ضربنا المثل بحد علمي، كعنصر كيموي، أو معدن؛ لتجلي لنا في وضوح كيف يعتمد انطباق التسمية على مسماها انطباقًا سليمًا، على المدركات العقلية التي نُعَرِّف بها ما نريد تعريفه، ففي حالة العنصر الكيموي يكون المدرك العقلي هو كون الشيء بسيطًا من الناحية الكيموية، وفي حالة المعدن يكون المدرك العقلي هو كون الشيء ذا طبيعة معدنية؛ أما إذا قال قائل إن الحد الوصفي له مفهوم بالإضافة إلى دلالته على المسميات الخارجية، لم يكن في قوله هذا تكرار جريء وكفى، بل لما ترك مثل هذا القول مكانًا لحدود نذكر بها خصائص الأشياء، ولا لِمعانٍ كلية مجردة؛ فإما أن نستغني عن كلمة «مفهوم» أو أن نحتفظ بها لتدل على المعاني الكلية المجردة وحدها. فبناءً على مذهبه الرسمي، ينبغي أن يقتصر «المفهوم» على مجموعة الصفات الوجودية التي تؤلف معنى الحد العام «ناس»؛ إلا أنه في هذه الحالة تكون الكلمة العينية «ناس» ذات تسمية مزدوجة لا أكثر، وهي أن تكون تسمية منصرفة إلى صفات معينة تستخدم علامات مميزة، ومنصرفة في الوقت نفسه إلى الأشياء التي تتصف بهذه الصفات؛ ولهذا كان مما له مغزًى أن نرى «مل» يوضح المفهوم — في حقيقة الأمر — بالكلمات المجردة: الجسدية، والعقلية، وما إليها، وهي ليست خصائص تحملها الأشياء التي نريد الإشارة إليها، بل هي خصائص لها قوة الدلالة على الصفات (وأعني بها أن يكون للإنسان جسد وأن تكون له قوة استخدام عقله) التي يجب أن تكون سمات تتسم بها الأشياء، إذا أُريدَ للاسم «ناس» أن ينطبق على أشيائه انطباقًا سليمًا، وذلك لأن الأشياء الكائنة في الوجود الخارجي ليس لها، كلا ولا هي متصفة بالجسدية وبالعقلية، أكثر مما يكون لغروب الشمس احمرار أو أن يكون متصفًا به. وهكذا نرى أن إنكار «مل» أن تكون أسماء الأعلام دالة على مفهوم، إنكار سليم، على أساس التفسير الذي فسرنا به المفهوم منذ قليل (وأعني به التفسير الذي يجعل المفهوم منتميًا إلى الحدود المجردة)، لكنه إنكار غير سليم على أساس نظريته هو نفسه؛ إذ ليست أسماء الأعلام مجردة بغير شك؛ فليس فيها ما يضع الأساس الذي يبرر، ولا ما يكسبها الحق في انطباقها على الأفراد لكن ما دام «مل» قد جعل المفهوم هو نفسه معنى اللفظ، فإن معنى إنكاره هو أن ليس لأسماء الأعلام معنًى على الإطلاق؛ وهو في الوقت نفسه ينسب معنًى للحدود الدالة على سمات مقترنة تميز الأنواع، مع أن معاني تلك الحدود — بناءً على ما يقوله هو — ليست سوى مجموعات من مفردات؛ ومع ذلك، فبغض النظر عن هذا التناقض، فإنكار المعنى على اسم العلَم، يسلبه قوته الدلالية بالنسبة إلى الفرد الذي يدل عليه، مع أن «مل» — رغم ذلك — يصر على أن له مثل هذه الدلالة؛ ولو كانت كلمات مثل «لندن» و«جبال روكي» (وهي يقينًا ليست أسماءً لخصائص مجردة) بغير معنًى، لما كانت رموزًا أو أسماء على الإطلاق، ولكانت مجرد أصوات لا تنطبق على شيء معين بأكثر مما تنطبق على أي شيء سواه؛ فكل الظواهر دالة على أن موقف «مل» يرتكز على خليط مهوش من شيئين مختلفين؛ فانطباق اسم العلم «لندن» على شيء مفرد بذاته، له أسبابه، وإن لم تكن له علله، بالمعنى الذي يجعل العلة تعني مبررًا منطقيًّا يبرر أن يكون له هذه الصفات بعينها التي له في الواقع، ولا يكون له سواها؛ لكننا نرى — من ناحية أخرى — أنه إذا لم يكن هنالك مبرر منطقي (إذ ليس ثمة إلا أسباب تاريخية فحسب) لقيام الحد العام «حصان» من حيث هو كلمة تستعمل لتدل على نوع من أشياء، إلا أن هناك مبررًا منطقيًّا، أي إن هنالك علة عقلية، لاختيار المجموعة الخاصة من السمات التي نستخدمها لنصف بها الحياد من حيث هي نوع متميز من سواه؛ فلو نظرنا إلى الأمر من ناحية المبرر العقلي أو الأساسي، وجدنا الحد أو الاسم «حصان» له من المعنى ما ليس لكلمة «لندن»؛ ومع ذلك فلكلمة «لندن» — أو أي اسم علم آخر — مسمًّى تشير إليه، وإذن فهي كلمة ذات معنًى، أي إنها دالة على السمات المميزة التي تميز الفرد — المسمى بها — عما عداه وتوضح ذاتيته. ولقد عاد مؤلفو المنطق إلى الغلطة الجوهرية التي وقع فيها «مل»، ولو أنهم أحيوها في صورة أخرى، مع أنهم يقفون موقف الناقدين من آراء «مل» بصفة عامة، وذلك بإنكارهم أن يكون لكلمة «هذا» جانب وصفي؛ ولن أعيد ما قد سبق لي أن ذكرته من أوجه النقد للرأي الذي يأخذ بوجود فارق منطقي حاد بين ما هو إشاري وما هو وصفي؛ ولكن يحسن بي أن أشير إلى حجتين تقامان تأييدًا لهذا الفصل بين الإشارة والوصف؛ وإحدى الحجتين هي الخلط (الذي أشرت إليه فيما سبق) بين الأداة الوصفية غير المحددة، والأداة الوصفية المحددة كما هي الحال عندما يتنازع متنازعان إن كان ما يريانه — إذ هما على ظهر سفينة في عرض البحر — جبلًا أو سحابة؛ أما أن حالات كهذه تحدث فأمر لا شك فيه، ولكن حدوثها ليس برهانًا على أن المتنازعَيْن حين يشيران بقولهما «إنه كذا» تكون كلمة «إنه» خِلوًا من المعنى خلوًّا تامًّا؛ وكل ما يدل عليه حدوث نزاع كهذا هو أن صفات الشيء المشار إليه — إلى الحد الذي شوهدت به — لا تكفي لإقامة قضية مدعمة تبرر نسبة الشيء إلى النوع الذي ينتمي إليه؛ فليست هذه الحالة بمختلفة — إلا في الدرجة وحدها — عن حالة نثبت فيها إثباتًا جائز القبول بأن ما نراه جبل، ثم يظل السؤال قائمًا أي نوع من الجبل هو؛ فواضح بغير شك أنه ما لم تكن هنالك بضع صفات تمهد السبيل — في المثل المذكور — لأن يتبين المتحدث ماذا يُراد باسم الإشارة «هذا»، لما كان لدينا ما يؤكد أن الشخصين المتنازعين أي شيء عسى «هذا» أن يكون، يشيران إلى «هذا» بعينه لا يختلف عند أحد الشخصين عنه عند الآخر؛ لأنه إذا لم يكن الشخصان يشيران إلى شيء واحد بذاته، كان من الجلي أن القضيتين اللتين يقولانهما ربما تكونان صحيحتين معًا؛ فكل بحث نتناول به الوجود الفعلي من حيث صفاته القائمة، لنتخذ من ذلك البحث أساسًا لاستدلالنا شيئًا من شيء، يتضمن — خلال مراحل سيره — مثل هذا التكييف الوصفي غير المحدد، الذي نراه في حالة إشارتنا إلى شيء ما بقولنا «هذا»؛ وكل الفرق بين الحالتين هو أن «هذا» له — نسبيًّا — حد أدنى من التحدد الوصفي. وعلة أخرى يقدمونها تأييدًا للفكرة القائلة بأن الحدود الإشارية الخالصة لا تزيد على كونها إشارية، أي إنها بغير «معنًى»؛ وهي علة يبدءُونها من ناحية الحدود الوصفية؛ وذلك لأن ثمة حدودًا وصفية يعوزها الجانب الإشاري، مثل «جبل من زجاج» و«ملك فرنسا في الوقت الراهن» … إلخ؛ ومرة أخرى نقول إنه لا شك في صواب هذه الحقيقة التي يتقدمون بها، لكننا مرة أخرى كذلك نقول إنها لا تقيم البرهان على ما يُراد إقامة البرهان عليه؛ فلن يكون في الأمر تناقض إذا شاءت المصادفة لهذه الأشياء المشار إليها في مثل العبارتين المذكورتين أن يتبين وجودها بالفعل؛ فلربما صنع جبل من زجاج، ولقد كان ثمة ملوك لفرنسا؛ وكل ما تدل عليه العبارات الوصفية التي ليس لها مسميات في الخارج تشير إليها، هو أن المشاهدة لحظة زمنية معينة لا تكشف لنا عن أي شيء تصدق عليه أوصافها؛ وما هو أهم من الحالات المذكورة، هو أن أمثال هذه العبارات الوصفية كامنة في عدد كبير من البحوث الهامة؛ خذ مثلًا — وهو مثل تافه نسبيًّا — هذا السؤال عما إذا كان أو لم يكن في الوجود الفعلي ثعبان بحري؛ فواضح أن السير في البحث هنا مستحيل بغير وصف ما نصف به ما يُراد بهذا اللفظ؛ أو خذ سؤالًا نسأل به إن كان الأثير أو إن كانت الذرات موجودة وجودًا فعليًّا؛ فما لم يكن لهذه الحدود مضمون وصفي، لما كان لدينا إطلاقًا ما يوجه المشاهدة إبَّان محاولتنا التي نقرر بها إن كان ثمة موجودات فعلية تصدق عليها تلك الأوصاف أو لم يكن؛ ومثل آخر نسوقه هو مثل المخترعات والخطط والنوايا قبل تنفيذها، أو قل في أية لحظة قبل أن تبلغ تلك الأشياء مرحلة ختامها الكامل؛ فهي في هذه المرحلة لا تشير إلى شيء قائم بالفعل قيامًا محدد المعالم، ومع ذلك فهي ضرورية لإجراء العمليات التي ستجعل الوجود الفعلي لما يمكن أن تشير إليه تلك الأشياء أمرًا ممكنًا، ونختتم — إذن — بقولنا إنه لا هذه الحجة ولا تلك (من الحجتين اللتين تقامان لوجوب التفرقة بين ما هو إشاري صرف وما هو وصفي) يصح أن تكون مسوغًا لتعديل وجهة نظرنا، وهي أن ثمة علاقة متبادلة — بالمعنى الدقيق — بين الحدود الوصفية الجامعة لنوع ما (وهي حدود لا ينازع أحد في أنها ذات معنًى) وبين الحدود الدالة على فرد، سواء كانت هذه الأخيرة أسماء أعلام أو أسماء إشارة، مثل «هذا» و«إنه». بما لكلمة «شيء» من ازدواج، إذ إنها تستعمل لتدل على الأشياء الوجودية وعلى الكيانات التي تعد تصورية ورياضية بالمعنى الدقيق لهاتين الكلمتين. ويعترف المناطقة المحدثون بالفرق في الصورة المنطقية بين المفرد حين ننسبه إلى النوع الذي ينتمي إليه عضوًا من أعضائه، وبين الأنواع حين نجعل منها أعضاءً متعلقًا بعضها ببعض داخل نوع أكثر منها شمولًا؛ فهم إذن يعترفون بما ينشأ من صعاب حين يُقال عن نطاق الحد من الحدود إنه يمتد ليشمل الحالتين معًا؛ غير أنهم — مع ذلك — لم يريدوا الاعتراف بأن هذه «الصعاب» المذكورة، قد تبلغ حدًّا يجعلها هادمة لسلامة البناء المنطقي؛ ومن ثَم تراهم ما يزالون ماضين في حديثهم عن مدى الأشياء المفردة التي يشير إليها اللفظ باعتبارها مسمياته، لكي يجعلوا من مداها ذاك نطاقًا خارجيًّا لمعنى الكلمة وعلى ذلك يُقال عن نطاق المعنى لكلمة «سفينة» إنه الأشياء كافة، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، التي تصدق عليها كلمة «سفينة»؛ ومثل هذه النتيجة التي ينتهون إليها تلزم عما كان قائمًا، ثم هي امتداد لهذا الذي كان قائمًا، من جعل إشارة اللفظ إلى مسمياته الخارجية هي نفسها نطاق معناه؛ وهي نتيجة — من الناحية المنطقية — تخلع نفس القوة أو نفس الصورة على الفرد الواحد وعلى النوع، ما دامت أنواع السفن المختلفة (القوارب، والسفن الشراعية والسفن البخارية، والمراكب الحربية) يظن بها هي الأخرى أنها ترسم للحد نطاق معناه، على الرغم من أنهم يعترفون اعترافًا صريحًا — في سياق آخر — بالفرق بين القضايا التي من قبيل «هتلر نازي» والقضايا التي من قبيل «الإيطاليون (أو الألمان) فاشيون». نطاق المعنى الخارجي خاصة تلحق ببعض الحدود المشيرة إلى موجودات فعلية (وأعني بها الحدود التي تشير إلى أنواع، لا الحدود التي تشير إلى مفردات)؛ وبأن: «الإشارة إلى المسميات» و«النطاق الخارجي للمعنى» ليستا عبارتين تسميان صورة منطقية أو عملية منطقية بذاتها في كلتا الحالتين؛ وبأن: الحدود التي ليس لها تصورات ذهنية لا هي تسمى مسميات في الخارج (حتى وإن تكن ذات معنًى) ولا هي ذات نطاق خارجي لمعناها؛ فنطاق معنى «سفينة» إن هو — على وجه الدقة — إلا أنواع السفن القائمة الآن، أو التي كانت قائمة فيما مضى، أو التي ستقوم فيما بعد؛ وليس هو بالسفن المفردات، على الرغم من أن كلمة «سفينة» تسمي هذه المفردات؛ هذا إلى أن تعريف «سفينة»، أو كون الشيء ذا خصائص تجعله سفينة، من جهة أخرى، ليس لمعناه نطاق خارجي؛ لأن التعريف يسمح بطرائق مختلفة لكون الشيء متصفًا بذلك الاقتران الذي يوحد الخصائص المتعلقة بعضها ببعض، والتي بها نعرف «السفينة»؛ مع أن هذه الطرائق المختلفة ليست هي الصفات المميزة التي تتصف بها أنواع المراكب المختلفة (كما هي قائمة بالفعل)؛ ولعلنا لم نحسن اختيار المثل حين اخترنا كلمة سفينة، لأنه ليس بين كلمات اللغة المستعملة الحد المجرد «السفنِيَّة» وإذن فلنأخذ حدًّا من الرياضة من حيث هو حد رياضي ليس إلا، فنقول إن القطاعات المخروطية دوائر وأشكال بيضية وقطاعات مكافئة وقطاعات زائدة؛ فلو نظرنا إلى هذه العبارة من جانبها اللغوي، ألفينا الجملة من الناحية النحوية لها نفس الصورة التي تكون لجملة تُقال عن أنواع السفن، أو عن الزهور، أو عن المعادن، أو عن أي نوع آخر من الموجودات؛ أما من حيث هي حدود رياضية، فليس للكلمات قوة وجودية؛ ومن ثَم فالدائرة والشكل البيضي ليسا نوعين من أنواع القطاعات المخروطية، بل هما طريقتان لقيام المعنى الكلي المجرد الذي نحن بصدده؛ فكلمتا «قطاع مخروطي» هما اقتران ضربي (أي يدمج الصفتين معًا) لفكرتي المخروطية والقطاعية؛ و«الدائرة» هي الدائرية … إلخ؛ وهكذا لا تكون الدائرة والشكل البيضي … إلخ مؤلفة لنطاق خارجي تصدق عليه هذه الحدود المذكورة؛ إذ إن هذه الحدود مقولة (أي إنها كلي مجرد) «للقطاعية المخروطية» حين تصبح متعينة الحدود. ولسنا بحاجة إلى أن نطيل الحديث عن التصور العقلي لصفات الأشياء؛ فكلمة «تصور عقلي» تستعمل اليوم بثلاثة أوجه على الأقل؛ فهي تستعمل لتدل على «المعنى» حين يكون المراد: دلالة الألفاظ كائنة ما كانت صورها المنطقية. مرادفًا لمجموعة السمات المميزة التي تأتلف منها القوة الوصفية للحد الإشاري. قد أشرنا فيما سبق إلى تعدد المعنى لكلمة «مجموعة»، وذلك عندما كنا نناقش الجانب الكمي من القضايا؛ فكلمة «مجموعة» تستخدم — في غير تمييز — للدلالة على تجمع الوحدات تجمعًا غير محدود العدد، ويمثله كومة أو كدس من وحدات؛ وللدلالة على طائفة من وحدات يحددها وصف مميز لها، كفرقة عسكرية؛ وللدلالة على كلٍّ كيفي تكون مميزات الوحدات الداخلة في تكوينه متأثرة في كيفها بالكل الذي هي أجزاؤه، كما هي الحال حين نقول: «إن فرقة نيويورك العسكرية حاربت في بسالة، في معركة شاتو ثييري»، فهذه الجملة لا تقتضي أن يكون كل فرد من أفراد الجنود باسلًا؛ وإن الأحاجي الملغزة القديمة عن القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير، والشعرة الجزئية المعينة التي إن فقدها صاحبها أصبح أصلع الرأس، لأمثلة أخرى توضح المعنى الكيفي المذكور. إن موضوع الحدود الجمعية لذو أهمية خاصة بالنسبة إلى موقعي في هذا الكتاب على وجه الإجمال، وذلك لسببين؛ أولهما خاص بصعاب معينة نشأت في منطقة الرياضة، مثال ذلك ما يُقال من أن الأعداد تكون مجموعة لانهائية، حين يقصدون بذلك تجمعًا للوحدات؛ ففكرة كهذه تميل إلى مشابهة الأعداد بالأشياء الوجودية التي تنصب عليها كلمة «مجموعة» عادة، والتي تكون وحداتها قابلة للعد؛ ومن ثَم تنشأ المشكلات المحيرة التي ما كانت لتنشأ، لو تبين لنا أن العدد (كون الشيء عددًا، إذ إن هذا معنًى يختلف عن قولنا هذا العدد أو ذلك) صيغة إجرائية نستخدمها لنحدد بها ما هنالك من تجمعات ومجموعات، لكنه ليس هو نفسه مجموعة نهائية أو لانهائية؛ وحتى لو كان من الضروري أن نعرف العدد على نحو يتيح لنا أو يحتم علينا أن نأخذ المجموعة اللانهائية مأخذ ضرب أو طريقة يكون بها الشيء عددًا، فليس يلزم عن هذا أبدًا أن يكون العدد كما هو معروف، هو نفسه أحد أنواع المجموعات أو التجمعات. والسبب الثاني متصل ببعض المفارقات المزعومة؛ فهنالك مثل «السلسلة التي لا تمثل إلا نفسها»؛ كخريطة إنجلترا — مثلًا — إذ نقول عنها إنها عبارة عن مجموعة فيها تسلسل انعكاسي؛ وذلك أنك إذا رسمت خريطة لإنجلترا، قيل لك إنه لكي تكون الخريطة كاملة، فلا بد هي نفسها أن تشتمل على الخريطة المرسومة؛ وهو شريط يتطلب رسم خريطة أخرى، وهكذا دواليك تمضي في مجموعة من خرائط لا تنتهي عند حد أخير؛ مع أن رسم الخريطة عملية إجرائية تحدث في الوجود الفعلي؛ ومن حيث هي كذلك، فهي تحدث في تاريخ زمني معلوم؛ وليس هنالك في عملية الرسم نفسها، أو ما يترتب عليها، ما يتطلب رسم خريطة أخرى؛ فلو استلزم الأمر لأسباب عملية، غير منطقية، أن ترسم خريطة أخرى لإنجلترا، تمثل فيما تمثله الخريطة القديمة، كان هذا الفعل الآخر حدثًا زمنيًّا آخر؛ ولا تنشأ المفارقة المزعومة إلا إذا قفزنا من المجال الوجودي إلى المجال التصوري؛ فإذا كانت عبارة «رسم خريطة» ترمز إلى شيء تصوري صرف، أو ترمز إلى ضرب من ضروب الإجراء، كانت عندئذٍ بمثابة التعريف أو الصيغة التي يجيء الإجراء العملي بعدئذٍ على غرارها؛ وفي هذه الحالة يكون عدد الخرائط المراد رسمها، وتكون الأشياء التي تجيء وتلك الخرائط لتصورها، أمورًا غير متعينة بالنسبة إلى تصورنا الذهني؛ وهكذا نرى أن خريطة من الخرائط، أو مجموعة منها، تعتمد على ظروف وإجراءات وجودية في طبيعتها، ومن ثَم فهي غير «متضمنة» في فكرتنا التي نتصورها عنها. وإن ما يسمونه مجموعة انعكاسية، والتي يُقال عنها إنها تمثل نفسها بنفسها، ومن ثَم فهي مجموعة لا تنتهي وحداتها إلى حد أخير؛ لهي حالة يصدق عليها تحليل شبيه بالتحليل الذي ذكرناه؛ فخذ — مثلًا — علاقات انعكاسية في ظاهرها، مثل قولنا: «حب الحب» و«كراهية الكراهية»؛ فالحب والكراهية وهما اللفظان اللذان يكون كل منهما الجزء الأول من كل من العبارتين، اسمان عينيان، لأنهما يشيران إلى ما هو كائن في الوجود الفعلي، إذ هما يدلان على فعلين تأدَّيَا في زمان ومكان معلومين، سواء تم أداؤهما مرة واحدة أو تكرر ذلك الأداء عدة مرات، وأما الحب الكراهية اللذان يكون كل منهما الجزء الثاني من العبارتين المزدوجتي الحدود، فمن صورة مختلفة عن الصورة في الحالة الأولى؛ وهما لا يشبهان الحدَّيْن الأولَيْن إلا شبهًا لفظيًّا فحسب؛ لأنهما في الحالة الثانية يدلان على معانٍ مجردة، وهذه — بالطبع — تصورات ذهنية وليست هي بالكائنات الوجودية، فغيِّر من العبارتين بحيث تصبحان: «حب الخير» و«كراهية الشر» يختفِ كل أثر للعلاقة الانعكاسية، وللمجموعة التي تمثل نفسها بنفسها؛ «فكراهية شيء ما» فعل عيني، وأما «الكراهية» من حيث هي هدف الفعل، فمجردة. وتتميز «المجموعة» من حيث صورتها، من «النوع» ومن «الفئة» إذا أخذنا هذه الكلمة الأخيرة بمعنى المقولة؛ فالمعجم — من وجهة نظر معينة — مجموعة كلمات؛ والكلمات يمكن حصر عددها حصرًا تامًّا في مكان وزمان معينين، على الرغم من أن المعجم قد يعرض كلمات أكثر أو كلمات أقل عددًا من الكلمات التي تؤلف المجموعة في طبعات لاحقة أو في طبعات سابقة؛ فهي كمجموعة الطوابع معرضة للتغير العددي في لحظات الزمن المختلفة، وأما إذا أخذت في لحظة معينة فعدد وحداتها عندئذٍ يكون على وجه الدقة هو ما هو عليه حينئذٍ؛ لكن الحدود الجامعة التي تصدق على أنواع الأشياء، فهي تصدق على أشياء النوع كافة في عددها الذي لا يحده حصر، وأعني بها الأشياء التي تتميز بسمات خاصة تجعل منها نوعًا قائمًا بذاته؛ لكن الحد الذي نسمي به نوعًا من الأنواع، وإن يكن دالًّا على عدد من الأفراد لا حصر لمقداره، وليس هو بالدالِّ على عدد محصور من المفردات التي يشير إليها، إلا أنه في الوقت نفسه محدد المعنى تحددًا كاملًا لا يعتوره نقص، وذلك من حيث هو حد دالٌّ على مجموعة السمات المميزة التي يدل عليها؛ وأما المقولة فقوامها العلاقة المتبادلة بين معنيين كليين مجردين، كل منهما قد يكون في ذاته مركبًا من عدة عناصر؛ ومن هنا فليس العدد — وأقولها مرة أخرى — مجموعة، بل هو صيغة نستعين بها على تحديد المجموعات تحديدًا إجرائيًّا، على حين أن عددًا معينًا من الأعداد، مثل «٢» أو «١٧٠٠» يعد مجموعة تتحقق فيها الشروط المفروضة بحكم تعريف العدد؛ ومع ذلك فالمجموعة هنا ليست مجموعة أشياء ولا مجموعة مفردات موجودة بل هي مجموعة إجراءات، وأعني بها الإجراءات التي تحدد الوحدات، بناءً على تعريفنا للعدد وهو بمعناه المجرد؛ وعلى هذا يكون العدد «٢» معناه أن الإجراء الذي يتكون منه العدد «١» يؤدى مرتين. كلمة «جزئي» متعددة الوجوه، فهي أحيانًا مرادفة لكلمة «معين» حين نستعمل هذه الكلمة بمعنى «مخصص تخصيصًا قاطعًا»، كما في قولنا «الرجل الجزئي الذي تتحدث عنه»؛ ففي هذا الاستعمال تكون كلمة «جزئي» مرادفة لكلمة «مفرد»، ولا يبقى لدينا ما نقوله عن معناها المنطقي غير ذلك؛ لكن القوة المنطقية لكلمة «جزئي» حين نميزها من «مفرد» تظهر حين تنصب الكلمة على مواد وجودية لم ترتب بعد بالنسبة إلى كيانها من حيث هي بينات نستشهد بها؛ فقد يكون لدينا في مرحلة باكرة من مراحل البحث؛ محصول متراكم من مواد شاهدناها، لكن علاقتها وقيمتها بالنسبة إلى المشكلة القائمة في أيدينا، لا تزالان غير محددتين؛ فعندئذٍ تكون تلك المشاهدات أشتاتًا، وتكون ناقصة، ومن هنا تكون جزئية؛ فالكلمة وهي في صورة الجمع، وأعني كلمة «جزئيات»، تدل — بصفة عامة — على معطيات ممكنة، بينما الكلمة «جزئي» وهي في صورة المفرد، تدل على مادة كائنة في الوجود الخارجي، على صورة مخصصة محددة. ولنا أن نذكر عن «مل» — فيما يختص بموقفه الذي يعارض هذه النظرة الأخيرة — بالإضافة إلى ما كنا قد ذكرناه عنه من نصوص، عبارته التي يقول فيها إن أسماء الأعلام هي — كالعلامة التي رسمها اللص في حكايته الواردة في «ألف ليلة وليلة» — «مجرد علامات نستخدمها لتمكننا من أن يصبح الأفراد موضوعات لتفكيرنا النظري»؛ وصحيح أن الكلمة من الكلمات إذا فهمت على أنها لا تزيد على كونها أصواتًا أو علامات مرئية نستخدمها، لصح عندئذٍ عن أية كلمة كائنة ما كانت، أنها إما أن تكون «مجرد علامة نستخدمها» لتمكننا من أن يصبح شيء ما — سواء أكان مفردًا أم نوعًا — موضوعًا نطرحه للبحث، أو أن يصبح دالًّا على شيء يمكن أن يُقال عن الأشياء المطروحة للبحث أثناء بحثها، وهذه الحالة الأخيرة هي ما يحدث في حالة الكلمات التي تدل على أفكار ذهنية؛ لكننا لو أخذنا أية كلمة على أنها كلمة أو رمز، وجدنا لكل كلمة معنًى، سواء كان ذلك من جانب تصورنا الذهني لصفات مسمياتها، أو من جانب مفهومها (إن كان من الكلمات المجردة)؛ فكون الحد الوجودي الذي ندل به على أحد المفردات، يمكن مسماه من أن يصبح موضوعًا لتفكيرنا ولبحثنا، أمر لا يتحقق إلا إذا كان ذلك الحد قد سبق له أن تميز معناه من سائر الحدود، وإلا لظل من عدم تعين المعنى بحيث يستحيل استخدامه لتدل به على شيء أو لنميز به شيئًا مما يحيط به من سائر الأشياء؛ ولو كانت هذه هي الحال لما استطعنا أن نجعل مسماه موضوعًا لهذه العملية الفكرية أو تلك، أو موضوعًا لهذا البحث أو ذلك، إذ ماذا كان ليفرقه عندئذٍ عن آلاف المعاني الأخرى أو ملايينها، التي تصلح جميعًا أن تكون محمولات للموضوع الذي نتحدث عنه؛ وحين يسلم «مل» بأن «العلامة» لها «فحوى» خاص بها دون سائر العلامات، فهو بهذا يسلم — في حقيقة الأمر — بنفس الذي كان قد أنكره بالنسبة إلى الكلمات. هذه النتائج النظرية الواسعة المدى، التي ذكرناها، تجعل من النقطة المعينة التي نحن الآن بصدد بحثها، أمرًا ذا خطر بالنسبة إلى النظرية المنطقية؛ فهي نقطة تتصل — أولًا — بوجهة النظر القائلة بأن مضمون الموضوع الذي نجعله موضوعًا منطقيًّا للحكم، هو تحديد يعين ويميز عناصر بعينها داخل موقف كيفي يشملها مع سواها، إذ إننا عندئذٍ نختار تلك العناصر المعينة لنقيم بها حدود مشكلة معينة ولتزودنا بالظروف التي نختبر بها ما عساه أن يعرض لنا من حل ممكن لتلك المشكلة؛ ثم هي نقطة تتصل — ثانيًا — بالمذهب القائل إن المفردات الجزئية والأنواع تتحدد بصلة متبادلة بينهما، ما دمت لا تستطيع أبدًا أن تقع على مفرد جزئي لا يكون من نوع معين (أي يكون له من السمات المميزة ما يحدد نوعًا ما تحديدًا وصفيًّا)، كما أنك لا تستطيع أن تقع على نوع لا يكون آخر الأمر نوعًا يطوي تحته أفرادًا جزئية من الموجودات الخارجية؛ وثالثًا هي نقطة تتسق مع إنكارنا لإمكان قيام جزئيات ذرية، وقضايا ذرية؛ (أي جزئيات وقضايا تقوم كل منها بذاتها مستقلة عما عداها)؛ وذلك لأن الأساس النهائي الذي يستند إليه الاعتقاد في الحدود الذرية والقضايا الذرية، هو الفكرة القائلة بأن أسماء الإشارة تخلو من كل نعت وصفي يميزها؛ والنقطة المذكورة — فضلًا عما ذكرناه عنها — تكشف عن بحبوحة ذلك المذهب عن الأسماء، الذي يذهب إلى أن كل كائن مفرد — في لغة مثالية — يجب أن يكون له اسمه الفذ الخاص به وحده، بحيث يكون الكائن واسمه متعلقين بعلاقة واحد بواحد؛ ثم هي نقطة تضع أصابعنا على موضع المغالطة في المذهب القائل بأنه على الرغم من أن فكرة الأنواع وفكرة القضايا الجامعة (التي تُقال عن الأنواع) لها مكانها في النظرية المنطقية، إلا أن النظرية التي تُقال عن هذه الفكرة المذكورة ينبغي أن تكون من الصورية بحيث لا تفسح مجالًا في المنطق للكائنات العينية الوجودية؛ فالصورية المنطقية السائدة اليوم في المنطق، تريد لنفسها أن ترتبط كل الارتباط بالقضايا اللاوجودية التي هي من قبيل ما نجده في الرياضة، ولكنك تراها في الوقت نفسه تعترف بالقضايا ذوات المضمون الوجودي؛ وهي إزاء هذا التناقض، تخلط — لتستر التناقض المذكور — بين نوعي القضية العامة، وهما القضية الجامعة (التي تعمم القول عن أنواع الموجودات)، والقضية الكلية.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/19/
المنطق والعلم الطبيعي
على أن المكانة التي تحتلها الصورة في موضوع الدراسة المنطقية. بحكم طبيعتها المتأصلة فيها، لا يقتصر أمرها على كونها حقيقة معروفة شائعة، بل إنها لتقرر الخاصة التي تميز موضوع الدراسة المنطقية من موضوع الدراسة في سائر العلوم الأخرى؛ فهي التي تضع لنا المصادرة الأساسية التي نبني عليها النظرية المنطقية؛ غير أن اعترافنا بهذه الحقيقة لا يجيب لنا عن السؤال الذي نسأل به عن علاقة الصورة بالمادة ماذا تكون؛ فإذا كان بينهما علاقة ما، فماذا هي، أم أنه ليس بينهما علاقة كائنة ما كانت؛ وإن هذه المشكلة لتتناول الأساس بحيث يتوقف على طريقة تناولها المحور الرئيسي الذي يدور حوله ما بين النظريات المنطقية من اختلاف؛ فالصوريون هم أولئك الذين يذهبون إلى أنه لا علاقة إطلاقًا بين الصورة والمادة؛ ثم يعود الصوريون فيختلفون فيما بينهم؛ فطائفة منهم ترى أن الصور هي قوام عالم الإمكانات الميتافيزيقية؛ بينما ترى طائفة أخرى أن الصور إن هي إلا علاقة بنائية تربط الكلمات في جملها؛ وأما النظرية المنطقية التي هي من طراز مضاد لما ذكرنا، فتذهب إلى أن الصور هي «صور لمادة»؛ وينشعب هذا الطراز أنواعًا، بينها النوع الذي نعرضه في هذا الكتاب، وسمته المميزة هي أن الصور المنطقية تطرأ على مادة الموضوع بفضل تعرض مادة الموضوع هذه خلال البحث لشروط تقررها الغاية المنشودة من البحث، ألا وهي الحصول على نتيجة، فيها ما يسوغ قبولها. إنه لا حاجة بنا أن نعيد أو أن نلخص هنا ما قد عرضناه من حجج تأييدًا لهذه الوجهة من النظر؛ إلا أنه يجمل بنا أن نكرر في شيء من الإطناب، نقطة ذكرناها فيما سبق، وهي أن الفكرة التي نحن الآن بصددها (الفكرة القائلة بأن الصور تطرأ على المادة التي لم تكن حاصلة عليها وهي في صورتها الأصلية) هي بمثابة فرض نفرضه إبَّان السير في البحث، وليست هي بالتصور العقلي الذي نختلقه اختلاقًا ليسد حاجة اقتضتها اعتسافًا نظرية منطقية خاصة؛ فهنالك أمثلة كثيرة تتخذ فيها المادة الأولية الأصلية صورة محددة المعالم نتيجة للإجراءات التي نرتب بها تلك المادة ترتيبًا من شأنه أن يجعلها تخدم هدفًا معلومًا لا بل إن هذا نفسه ليحدث كلما تناولنا المواد الخامة الأصلية بإعادة الترتيب لكي تستجيب لما يقتضيه استخدامها وسيلة تؤدي إلى نتائج مقصودة؛ فتشكيل الصورة للمادة عندئذٍ لم ينتظر حتى ينشأ المنطق؛ بل إنه لأدنى إلى الصواب أن نأخذ بالفكرة المضادة فنقول إن المنطق نفسه كان لا بد له أن ينتظر حتى تفرغ الفنون المختلفة من إقامة إجراءاتها التي عملت على صياغة المواد الأولية في صور جديدة تجعلها صالحة لأن تؤدي عملها من حيث هي وسائل توصلنا إلى نتائج معينة. وسنختار من بين الأمثلة الكثيرة التي يمكن ضربها، مثلين نموذجيين؛ وهما: الصور القضائية والصور الجمالية؛ فلأفكارنا عن العدالة طبيعة صورية معروفة بآثارها السيئة، إلى الحد الذي سوغ الشكوى مرارًا خلال تاريخ القانون من أن شكليات الإجراء قد أصبحت هي العامل المسيطر على حساب المضمون؛ إذ إن تلك الشكليات في حالات كهذه، لم تعد صورًا لمادة بعينها، بل كانت صورة بلغت من انعزالها عن مادتها درجة جعلتها شكلية خالصة، وهي حقيقة قد تحتوي على درس مفيد للمنطق؛ إذ إنه من الواضح أن الصور القضائية لا بد لها أن تكون على النحو الذي يمكنها من خدمة الغرض المادي، ألا وهو تزويدنا بالوسائل التي تعمل على فض المنازعات؛ ذلك فضلًا عما نتطلبه من هذا الغرض الموضوعي نفسه، وهو أن يمدنا مقدمًا — بقدر المستطاع — بوسائل تنظيم السلوك تنظيمًا يجعل قيام المنازعات أقل احتمالًا مما كان؛ فالقواعد التي تنظم العلاقات الإنسانية برسمها للسبل التي يتحتم على عمليات التبادل بين الناس أن تسلكها، إنما وجدت لكي نجتنب قيام المنازعات، ولكي نفضها إذا ما نشبت، ونعوض الخاسر عما قد خسر؛ فهذه القواعد التي يسنها القانون، تعرض علينا أمثلة منوعة كثيرة للطرق التي تتشكل بها ضروب الفعل «الطبيعية» بصور جديدة، نتيجة لخضوعها للشروط التي صِيغت في تلك القواعد؛ وبما أن ما يستجد من ضروب التفاعل والتعامل الاجتماعيين، تخلق بدوره ظروفًا جديدة، ثم تفرض هذه الظروف الاجتماعية الجديدة أنواعًا جديدة من التعامل، كان لا بد لصور جديدة أن تنشأ لتسد الحاجة الاجتماعية الحادثة؛ فمثلًا حين اقتضى طراز جديد من المشروعات الصناعية والتجارية رأس مال ضخمًا، دخلت الصورة المعروفة باسم المسئولية المحدودة، على الصور التي كانت تأتلف منها القواعد القانونية الخاصة بالشركات. وتعرض الصورة القانونية المعروفة باسم العقد أمامنا مثلًا أبسط؛ فالاتفاقات التي تتم بين أشخاص يضمون أوجه نشاطهم بعضها إلى بعض ابتغاء هدف مشترك، فيتعهد شخص منهم بأن يؤدي شيئًا معينًا يسهم به في بلوغ ذلك الهدف، ويوافق الآخر على أن يؤدي شيئًا آخر، أمثلة لضروب الفعل وهي على صورتها «الطبيعية» أو الفطرية؛ ولا بد أن تكون أمثال هذه الاتفاقات المتبادلة قد نشأت في فترة باكرة من الحياة الاجتماعية؛ أما وقد كثرت الاتفاقات وألحت على الناس مشكلة تنفيذها، وأما وقد أخذت الأعمال تبعد رويدًا رويدًا عن كونها تبادلًا مباشرًا، واقتربت شيئًا فشيئًا من أن تصبح اتفاقًا على تبادل السلع والخدمات في وقت مقبل، فقد نشأت صور معينة للتفرقة بين أنواع الاتفاقات المتبادلة، فعد بعضها مجرد عهود، لا يستدعي نكثها عقوبات بعينها، بينما عد بعضها الآخر من نوع لو نكص أحد المتعاقدين فيه عن تنفيذ ما قد تعهد بتنفيذه، وقعت عليه تبعة نكوصه، على حين اكتسب الطرف الآخر حقًّا يستطيع أن يُلزم به شريكه. صورة لمادة. هي صورة طرأت على مادة كانت فيما مضى بغير صياغة شكلية، وقد طرأت عليها هذه الصورة لكي يصبح من المستطاع بلوغ الأهداف التي تريد تلك المادة أن تحققها على نطاق واسع وبطريقة ثابتة؛ فلما ازدادت المعاملات التجارية تعقدًا، نشأت أنواع فرعية من العقود، لكل نوع من أنواع المعاملات سماته الصورية المميزة له مما عداه. والناس لم ينتظروا نشأة النظرية المنطقية ليأخذوا في بحوثهم أخذًا ينتهي بهم إلى نتائج، أكثر مما انتظروا قيام قانون العقود ليتعهد بعضهم لبعض؛ لكن الخبرة بالبحث، كالخبرة بتسيير معاملات الناس في تجارتهم، قد بينت في جلاء أن الغرض الذي من أجله يسير الباحث في بحثه، يستحيل أن يتحقق على نطاق واسع أو بطريقة منظمة، إلا إذا خضعت مواده لشروط تفرض عليها خصائص صورية؛ فإذا ما جردنا هذه الشروط عن موادها، كان لنا بذلك موضوع دراسة المنطق؛ لكنها تظل رغم هذا التجريد صورًا لمادة بحث معينة، من حيث دلالتها والمهمة التي تؤديها. إن موضع الإشكال أمام الصورية المنطقية بمعناها الدقيق، بل أمام كل نظرية تفترض افتراضًا أوليًّا بوجود صور قائمة بمعزل عن المادة، أو تفترض وجود صور منطقية في مقابل الرأي الذي يدمج الصور في المادة، أقول إن موضع الإشكال ليبلغ غاية حرجه في مسألة العلاقة بين المنطق من ناحية والمنهج العلمي من ناحية أخرى؛ لأنه إذا عجز المنطق الصوري عن تناول الخصائص المميزة للمنهج العلمي، فإن وجهة نظرنا التي عرضناها في هذا الكتاب تتأيد تأييدًا قويًّا، وإن يكن تأييدًا غير مباشر؛ وإنه ليبدو بادئ ذي بدء كما لو كانت الصورية الخالصة لا بد أن تنتهي بمن يقبلون فكرتها إلى الامتناع امتناعًا تامًّا عن أية إشارة كائنة ما كانت إلى المنهج في العلوم الطبيعية، ما دام ذلك المنهج معنيًّا — بداهة — بمواد الواقع؛ لكن الأمر ليس كذلك؛ فالمنطق الصوري لا يرضيه أن يترك موضوع المنهج في العلوم القائمة على الوجود الخارجي، بحيث لا يمسه أبدًا؛ فاعتقاد أصحاب ذلك المنطق في أن ثمة رابطة تقوم على نحو ما بين المنطق والمنهج العلمي، ظاهر في استخدامهم لهذه العبارة التي تضيف أحدهما إلى الآخر، إذ يقولون: «المنطق والمنهج العلمي»؛ كما أن هنالك عبارة أخرى تحمل فكرة هذه الرابطة بينهما، وهي عبارة: «المنطق التطبيقي». وكلتا العبارتين تصادران على الإشكال الذي يتطلب الحل، أو هما على الأقل تخفيان حقيقة قيام ذلك الإشكال؛ ففي حالة العبارة التي تبدو البراءة عليها لأول وهلة، أعني عبارة «المنطق التطبيقي»، تكون المشكلة الحقيقية هي ما إذا كانت هذه العبارة — أو لم تكن — تحمل أي معنًى على الإطلاق، ما دام المنطق يعرف على أساس الصور المستقلة عن المادة استقلالًا كاملًا؛ لأن موضع الإشكال هو — على وجه الدقة — إن كان في المستطاع لمثل هذه الصور أن تنطبق على المادة؛ فإذا لم يكن ذلك مستطاعًا، كان قولنا «منطق تطبيقي» بغير معنًى؛ لأن المسألة ليست هي ما إذا كانت الصور المنطقية تطبيق — حين نعني بالتطبيق أنها تستخدم — في البحث الذي نتناول به موضوعًا مادته في الوجود الخارجي، بل المسألة هي هل يمكن لتلك الصور أن تستخدم على هذا الوجه إذا كانت صورية خالصة؛ وقد يسوق أحد لنا — مثلًا — حقيقة كون البحث في الظواهر الطبيعية — حين يسير هذا البحث بطريقة علمية — يتضمن قضايا رياضية، برهان صدقها صوري خالص، أقول إن أحدًا ربما ساق لنا هذا ليستشهد به على قيام منطق «تطبيقي»؛ وإنا لا نقتصر هنا على مجرد التسليم بهذه الحقيقة، بل إننا لنعدها ضرورية، كما قد سبق لنا أن بينا خلال مناقشاتنا السابقة؛ لكن قبولنا لها — مع ذلك — لا ينهض برهانًا على شيء بالنسبة إلى امتناع العلاقة بين الصورة والمادة؛ وكل ما يصنعه هذا القبول لتلك الحقيقة، هو أنه يثير مسألة الشروط التي لا بد من تحققها ليتم تطبيق أو استخدام القضايا اللاوجودية في تحديد القضايا ذات المضمون والفحوى الماديين. وإن النظرية الصورية لتنهار ها هنا، إذ تنهار — على وجه الدقة — عند هذه المسألة الأساسية، مسألة شروط تطبيق الصور على المادة؛ ولربما بدا أمرًا واضحًا بطبيعة الحالة نفسها، أن الصورة إذا ما كانت على حياد تام بالنسبة إلى المادة، لا تكون قابلة للتطبيق على مادة موضوع معين أكثر من سواه؛ ودع عنك أن يُقال عنها إنها تستطيع أن تدل بذاتها على أي المواد دون غيرها سيكون انطباقها؛ ولو كانت المادة المذكورة كاملة التعين باعتبارها مادة ذات صورة بعينها منذ اللحظة التي تتهيأ فيها للبحث، لما نشأت المشكلة إطلاقًا؛ ولا يبعد أن يقول لنا قائل إن هذه هي الحال في الرياضة، وسيكون لقوله هذا ما يدعو إلى القبول في ظاهره؛ لكن مثل هذا القول مستحيل بالنسبة إلى موضوع دراسة العلوم الطبيعية؛ فإما ألا يكون للصور المنطقية شأن بها على الإطلاق (وعندئذٍ لا تنشأ مسألة إمكان تطبيقها على المادة)، وإما أن يكون تطبيقها من شأنه أن يدخل على مادة الموضوع الأصلية، أو أن يفرض عليها من الخصائص ما يسبغ عليها منزلة علمية؛ وليس من اليسير علينا أن نرى كيف يمكن لهذا التدخل أن يحدث، ما لم تكن الصور المنطقية قادرة على اختيار المادة الخاصة دون غيرها — اختيارًا يتم بطريقة ما — أعني المادة التي لا بد أن تنطبق عليها تلك الصور في أي بحث علمي معين، وما لم تكن تلك الصور قادرة كذلك على تنظيم المادة التي اختارتها وترتيبها، بحيث يتاح لنا الوصول إلى نتائج سليمة من الناحية العلمية؛ ذلك لأن أقل معنًى يمكن أن ننسبه إلى كلمة «تطبيق» في البحث الطبيعي، هو الاختيار (بما في ذلك الحذف) وترتيب ما وقع عليه الاختيار؛ أضف إلى هذا كله أننا لا نكون قد واجهنا صميم المشكلة إلا إذا اعترفنا بأنه، في كل الحالات، تكون مشكلة أي المواد الوجودية ينبغي اختيارها، وكيف ينبغي لتلك المواد دون غيرها أن ترتب، مشكلة تختلف من حالة إلى حالة؛ وذلك لأن الصور — لو أخذت مجردة خالصة التجريد — كان انطباقها على أي مادة مساويًا لانطباقها على سائر المواد جميعًا بغير أدنى اختلاف مع أن ثمة دائمًا في البحوث الطبيعية مشكلة خاصة بتحديد مواد خاصة بعينها، مرتبة ترتيبًا خاصًّا معينًا؛ ومهما يكن الرأي في هذه المناقشة العامة التي أقدمها هنا، فهي مناقشة تفيد — على الأقل — في تحديد المعنى المقصود بضرورة تعيين الشروط التي لا بد من توافرها حتى يمكن تطبيق الصور الخالصة الخالية. وبناءً على ذلك فإن مناقشتنا تعود فتنصب على هذه المشكلة: فمن المسلَّم به أن القضايا اللاوجودية — في شكلها الذي يتخذ صورة قضايا شرطية كلية — ضرورية لكي نصل إلى نتائج تامة التدعيم في العلم الطبيعي؛ وهذا الرأي حجة حاسمة على المنطق التجريبي في صورته التقليدية (من طراز منطق «مل») الذي يذهب إلى أن عددًا كافيًا من القضايا مفردة الموضوع، يصح أن ينهض «برهانًا» على قول عام؛ على أن تفنيد هذا الرأي هو أبعد ما يكون عن أن يؤيد المذهب الذي يأخذ بالطابع الصوري الصرف لمثل هذه القضايا كما هي مستعملة في العلم الطبيعي؛ لأن صميم المشكلة هو كيف — في أية حالة معينة — تكتسب القضايا الكلية المستعملة، ذلك المضمون الذي هو شرط لإمكان انطباقها انطباقًا محددًا؛ ولا يكفي هنا أن يُقال إن دالة القضية: «إذا صدقت ص، إذن صدقت س» هي الصورة التي يتطلبها الموقف للوصول إلى نتائج مدعمة من الناحية العلمية؛ إذ لا بد أن تعطي «ص» قيمة محددة بحيث يمكن كذلك أن تعطي «س» قيمة محددة أيضًا؛ هذا فضلًا عن المبدأ الذي يسلم به الجميع وهو أن القضية الكلية لا «تستلزم» مفردات جزئية، وبهذا فليس ثمة انتقال مباشر — في أي حالة من الحالات — من القضايا الكلية إلى القضايا الوجودية؛ فافرض — مثلًا — أن العبارة الصورية الصرفة «إذا صدقت ص، إذن صدقت س» قد اكتسبت مضمونًا بطريقة مجهولة، كأن تصبح مثلًا: «إذا كان شيء ما كائنًا بشريًّا، إذن فهو فانٍ»؛ فها هنا أمران يختلف أحدهما عن الآخر كل الاختلاف: أما أحدهما فهو أن نقول إن مثل هذه القضية لها قوة التوجيه في أداء الإجراءات التي تقتضيها المشاهدة المنظمة التي تقرر لنا إن كان لشيء معين موجود تلك السمات التي تصف النوع الذي نسميه «بشريًّا»، وهي السمات التي يجوز لنا أن نستدل منها استدلالًا مقبول الصواب، بأن أي شيء ينتمي إلى هذا النوع يكون «فانيًا»؛ وأما الأمر الثاني الذي يختلف منطقيًّا كل الاختلاف عن الأمر المذكور، فهو أن تعتقد بأن القضية السالفة الذكر — بغض النظر عن مهمتها الإجرائية في توجيه المشاهدة المنظمة — فهي كذلك ممكنة الانطباق على الوجود الخارجي؛ واختصارًا، فها نحن أولاء قد دفعنا دفعًا إلى النتيجة القائلة بأن التطبيق أمر متعلق بالإجراءات الوجودية التي نجريها على مواد الوجود الخارجي، بحيث يكون للقضية الكلية — على الأقل في العلوم الطبيعية — صفة أدائية وصورة خالصتان. لقد زعمنا في المثل التوضيحي الذي سقناه في الفقرة السالفة، أن دالة القضية الصورية الخالصة: «إذا صدقت ص، إذن صدقت س» قد اكتسبت بوجه من الوجوه مضمونًا ما، بحيث أصبح معنى «ص» «كائنًا بشريًّا»، وهو معنًى متعلق تعلقًا ضروريًّا بمعنًى آخر، وهو «فانٍ»؛ وواضح — بغير حاجة إلى حجة نقيمها — أنه ما لم يكن من المستطاع أن «ندخل» قيمًا معينة مكان الرموز في دالة القضية، لما كان لدالة القضية الصورية أي سبيل إلى التطبيق — حتى ولا من الناحية الإجرائية — على كائن معين من كائنات الوجود الخارجي دون غيره؛ فكيف — إذن — نعطي للرمزين «س» و«ص» هذه القيم الخاصة؟ لماذا لا نستبدل بالرمزين المذكورين — في بحث معين — قيمتين تجعلان القضية المتكونة هي: «إذا كان الكائن ملائكيًّا كان بالتالي فانيًا»؟ أو «إذا كان الكائن عليلًا كان بالتالي خالدًا؟» — فأمثلة توضيحية كهذه — ونستطيع أن نكثر منها إلى غير حد معلوم — تدل دلالة جلية على أن العلاقة الضرورية القائمة بين المعنيين، هي علاقة بين مضمونات ذات صورة معينة، وليست هي بالعلاقة التي تصل صورًا مجردة بمعزل عن مضمونها؛ وها هنا يعود السؤال أقوى مما كان أولًا: كيف يتاح للصور الخالصة أن تمتلئ بمضمونات متعلق بعضها ببعض؟ ما هي الشروط المنطقية التي لا بد من توافرها لتكتسب تلك الصور مضمونات بغيرها يستحيل عليها أن تنطبق على الوجود الفعلي انطباقًا يتميز به البحث في العلوم الطبيعية؟ افرض أن صورة القضية (ص ø س) (أو ص ع س) قد اكتسبت على نحو ما، وبطريقة غير معلومة، مضمونًا يكفي لتحويلها إلى هذه العبارة: «س قد اغتيل»، فها هنا حتى لو تجاهلنا مشكلة الكيفية التي أضيف بها المضمون المادي «اغتيل» إلى الصورة الحالية، فسيظل السؤال قائمًا: كيف أعطيت «س» قيمة معينة دون غيرها من القيم الممكنة التي لا حصر لعددها؟ إنه لمما لا شك فيه أن «يوليوس قيصر»، وأن الرئيسين «لنكولن» و«جارفيلد» قد اغتيلا، وأن «كرمول» و«جورج وشنطن» لم يغتالا؛ لكن كيف أصبح هذا أمرًا معلومًا للناس جميعًا؟ إنه لمن السخف أن يُقال إنه قد أصبح هكذا بسبب صورة دالة القضية، وإذا كان هذا هكذا، إذن فالبديل الآخر هو الصواب الذي لا شك فيه، وهو أن ذلك الأمر قد أصبح معلومًا للناس علمًا مؤيدًا بفضل المشاهدة وتدوينها؛ وها هنا نجد فكرة «الاغتيال» — متميزة كل التميز من سائر ضروب الموت — متضمنة بالضرورة؛ فمن الناحية المنطقية، تكون القضيتان المنفصلتان اللتان ذكرناهما لتونا، كما تكون القضية الشرطية: «إذا حدثت السمات المتميزة الفلانية، إذن كان هذا النوع المعين، وأعني به الاغتيال» ضروريتين ضرورة منطقية؛ لكنهما شروط يُراد لها أن تتحقق وليست هي بالخصائص النابعة من طبائع الأشياء؛ ولا سبيل إلى تحقق تلك الشروط إلا عن طريق إجراءات وجودية معقدة العناصر واسعة المدى، نجريها على مواد الوجود الفعلي. إن ما يزعمونه من أن الصور الخالصة كفيلة بالتطبيق المطلوب، لهو مثل آخر للخلط بين القوة الأدائية وقوة التوجيه اللتين تكونان للعلاقة المنطقية الصورية في وضعها للشروط التي لا بد من استيفائها — الخلط بين هذا وبين أن يكون في الصور الخالصة خاصة بنائية منبثقة من طبيعتها؛ فخذ المثل الذي كثيرًا ما يرد في المؤلفات المنطقية المعاصرة: «س هو فانٍ» وهي عبارة يقولون عنها إنها تصبح قضية إذا ما وضعنا مكان «س» اسم «سقراط»؛ غير أن كلمة «سقراط» هنا إما رمز فارغ خالٍ من المضمون والدلالة، وإلا فهو: رمز ذو معنًى. وذلك المعنى هو من طراز يجعله ممكن التطبيق على الوجود الخارجي؛ فلو كان رمزًا صوريًّا، لما كسبنا شيئًا بأن نستبدله بالرمز «س»؛ وأما إذا كان ذا معنًى بتطبيقه على مسماه، فمعناه هذا لا يلزم عن دالة القضية اللهم إلا أن يكون ذلك عن طريق المشاهدات والمدونات التي يمكن أن تقع تحت أنظارنا، فهذه من شأنها أن تقرر. أن شيئًا ما — سقراط — موجود (أو أنه قد كان موجودًا في مكان وزمان معينين). أن هذا الشيء قد كان متسمًا بالسمات التي تعين النوع «ناس». إذن فدالة القضية «س إنسان» تعبير عن صورة غير محددة المعنى إلى درجة بعيدة؛ لكننا لا نلبث — حين تُساق في صورتها الصحيحة (وصورتها الصحيحة قضية كلية شرطية) — أن نتبين في جلاء أن الإجراءات التي تشير إليها بصياغتها، من حيث تكون هذه الصياغة بمثابة القاعدة التي توجب أداء عمل ما، أقول إننا لا نلبث أن نتبين أن تلك الإجراءات ضرورية لكي نحدد بها وجود شيء ما تتحقق فيه الشروط التي تشترطها دالة القضية؛ وبعبارة أخرى فإن عبارة «س كائن بشري» تصوغ مشكلة ما، وهي: استكشاف الشيء أو الأشياء التي من شأنها أن تكون متصفة بالصفات التي توجبها كلمة «بشري» — وهو شرط يقتضي أن يكون معنى كلمة «بشري» قد سبق له أن تحدد؛ ويتبع هذا أن «التطبيق» على كائنات الوجود الخارجي، يقتضي بالضرورة. مشكلة وجودية على أساسها يتم اختيار مضمونات القضايا اللاوجودية ثم ترتيب تلك المضمونات المختارة. أن نستخدم بطريقة إجرائية القضية التي هي لا وجودية من الناحية الصورية، نستخدمها وسيلة لمشاهدات نوجهها نحو البحث عن الأشياء التي تتحقق بها الشروط التي توجبها تلك القضية. وجدير بنا أن نعيد في هذا السياق نقطة — ذكرناها مرارًا — عن الخلط المذهبي الذي يخلطون به بين صورتي القضية العامة، وهما: القضية الجامعة (الوجودية) والقضية الكلية (المجردة)، وذلك لأن هذا الخلط لا مندوحة عنه إطلاقًا إذا كنا لننتقل انتقالًا مباشرًا من القضايا الكلية إلى القضايا التي تُقال عن فرد من حيث هو عضو في نوع، وإلى القضايا التي تُقال عن العلاقة بين نوع ونوع؛ وطريقة التدليل المعتادة التي يتبعونها في تأييدهم لهذا الخلط، هي شيء كهذا: القضية العامة (بالمعنى الذي يجعلها قضية جامعة) كقولنا «كل الناس فانون» حين يكون معنى هذه الجملة «كل إنسان فردًا فردًا، إذا كان قد عاش يومًا ما، أو إذا كان الآن بين الأحياء، أو سيكون بين الأحياء يومًا ما، قد مات أو هو سيموت» (وهذه قضية ذات فحوى وجودي بغير شك) — أقول إن القضية العامة التي ضربنا لها هذا المثل، يُقال عنها بحق إنها لا تشير إلى فرد واحد معين، بل تشير إلى أي فرد من عدد لا يحصى من الأفراد وإن هؤلاء الأفراد لَيمتدون في الوجود الفعلي على مدًى يشتمل على أفراد كثيرين مما لا يقع لنا الآن في مجال المشاهدة؛ وبعبارة أخرى فهي قضية تثبت رابطة قائمة بين مجموعة السمات التي تقيم الحدود حول النوع «إنسان» ومجموعة السمات التي تقيم الحدود حول النوع «فانٍ» وهم أولئك الذين يتعرضون للحادثة التي تسمى موتًا؛ وكذلك يُقال (بحق) إن جواز توكيدنا لقيام هذه الرابطة المذكورة هو آخر الأمر قضية تثبت أن المعنيين المجردين «كون الشيء بشريًّا» و«كون الشيء فانيًا» يتعلق أحدهما بالآخر تعلقًا ضروريًّا، فإذا لم نوفق إلى بلوغ مثل هذه القضية، كانت القضية وهي في مرحلتها الوجودية — على أحسن الفروض — تعميمًا، بالمعنى الذي يكون به التعميم نطاقًا لمسميات، لوحظ بعضها في حالات معينة، ثم عمم وصفها ليشمل عددًا لا يحصى من حالات لم تشاهد؛ ومثل هذا النطاق الخارجي للمسميات، يثبت «تجريبيًّا» بمشاهدة عدد كبير من الحوادث التي تحدث فعلًا، لكنه — من الوجهة النظرية — معرض للنفي في أية لحظة من حيث هو تعميم، إذ لا فرق في ذلك بين التعميم الذي ذكرناه، وبين القضية التي تقول: «كل البجع أبيض»؛ وإخراج قضية ما من هذه الصورة المقلقة (المعرضة للنفي في أي وقت إذا وجدنا فردًا يختلف عن الصفة التي كنا عممناها للنوع كله) مرهون — في حقيقة الأمر — بالبحوث البيولوجية والفسيولوجية، التي تدل على علاقة ضرورية متبادلة بين المعاني المجردة التي تعرف كلمة «يحيا» وتلك التي تعرف كلمة «يموت» — باعتبار هذين المعنيين بناءين نبنيهما بالتصورات الذهنية. إلى هنا لا خلط هناك؛ لكن حقيقة كون القضية «كل الناس فانون» لا تشير إلى فرد بعينه من حيث هو كذلك، أو إلى إنسان مقصود بذاته دون إنسان سواه، هذه الحقيقة تفهم على وجه غير مشروع، إذ تفهم على أنها تعني أن القضية المذكورة لا تشير إلى أي فرد كائنًا ما كان؛ وعندئذٍ تراهم يحولون القضية لتصبح قضية لا وجودية هي: «إذا كان الكائن بشريًّا، إذن فهو فانٍ»؛ والتحويل هنا غير مشروع، لأن ثمة أمرين مختلفين منطقيًّا، أما أحدهما فهو أن تقول قضايا عن سمات أو قسمات مميزة تقيم الحدود حول نوع ما بحيث «يتجرد» النوع عن أي فرد معين من أفراده؛ وأما الأمر الآخر الذي يختلف عن ذلك اختلافًا جوهريًّا، فهو أن تنشئ قضية عن تجريدات من حيث هي تجريدات؛ فامتناع الإشارة الخاصة التي تعين فردًا بذاته دون غيره، لا يجوز أن يكون أساسًا لقضية تخلو من أي إشارة وجودية على الإطلاق فالطريق المنطقي مسدود بين عبارة تقول: «ليس ثمة فرد بعينه» وعبارة أخرى تقول: «ليس ثمة فرد على الإطلاق» بالمعنى الذي يجرد الأمر من الإشارة إلى الوجود الخارجي من حيث هو كذلك؛ ومع ذلك فهذا هو الطريق المستحيل الذي تسلكه النظرية المنطقية إذا ما شابهت بين صورة القضايا الجامعة (الوجودية) وصورة القضايا الكلية (المجردة). يذهب إلى أن الصور المنطقية صورية بالمعنى الذي يجعلها مجردة عن كل مضمون، واقعيًّا كان ذلك المضمون أو تصوريًّا، ومع ذلك وأعود إلى ما كنت قد قررته في موضع سابق، وهو أنه إذا لم يكن المنهج العلمي ممكنًا بغير قضايا لا وجودية صورتها «إذا – إذن»، ثم إذا كانت أمثال هذه القضايا شروطًا ضرورية للمنهج العلمي، فهي ليست بالشروط الكافية وحدها؛ فالفرض العلمي متصل بما هو ممكن، والقضية التي تُقال عما هو ممكن، أمر لا غناء لنا عنه في أي بحث له مكانة البحث العلمي؛ والفرض العلمي إنما يُصاغ في قضية مجردة صورتها «إذا – إذن»، وعلى ذلك فهي تصوغ قاعدة ومنهجًا للملاحظة التجريبية؛ والنتائج المترتبة على تنفيذ الإجراءات المشار إليها في القضية (التي نصوغ بها الفرض العلمي) هي التي تحدد معنى التطبيق بالمعنى المنطقي المتسق الذي لا معنى سواه لفكرة التطبيق؛ فمن الشروط التي لا مندوحة عنها للتطبيق في حالة المنهج بالنسبة للعلم الطبيعي، إذن، شرط أن تكون مضمونات القضية الشرطية قد تحددت هي نفسها بأبحاث سابقة انصبت على الوجود الخارجي بطريقة تجعل المضمونات قادرة على توجيه عمليات المشاهدة الجديدة؛ هذا فضلًا عن أننا نقع في مغالطة إثبات المقدم بناءً على إثبات التالي، ما لم نكن قد قمنا بعمليات مشاهدة مستقلة بذاتها، وعلى نطاق واسع، بحيث يترتب عليها علاقة مثبتة بين المضمونات، إثباتًا له درجة من احتمال الصدق، وصدق احتمال كهذا مشروط بطبيعة القضايا الوجودية الأخرى وما تنتجه من نتائج مادية. وأما حالة التفكير الاستنباطي المنظم، الذي تجيء كل قضاياه — في حد ذاتها — لا وجودية في مضمونها، والذي ترد فيه هذه القضايا متسلسلة تسلسلًا يقتضيه أن القضية السابقة في ترتيب التسلسل تستلزم ما بعدها — وهو أمر يختلف عن العملية الاستدلالية التي نستدل بها واقعة من واقعة في عالم الأشياء — أقول إن مثل هذا التفكير الاستنباطي المنظم لا يكون — على أحسن الفروض — استثناء يشذ عن المبدأ الذي نقول به إن الصور إنما هي صور في مادة (وليست صورًا مجردة بمعزل عن مادتها)؛ وذلك لأن الترتيب المتتابع في سلسلة القضايا الاستنباطية، يتحدد — في شتى الحالات التي ننتهي فيها إلى قضية ختامية ممكنة التطبيق على العالم الخارجي — وفق الظروف المادية؛ نعم إنه من الوجهة النظرية، أو في حالة التجريد الصرف يمكننا أن نتصور أنواعًا لا حصر لعددها من تسلسلات للقضايا الاستنباطية التي يلزم فيها اللاحق عن السابق، كما هي الحال في الرياضة؛ إلا أن سلاسل القضايا الرياضية التي يلزم لاحقها عن سابقها — كما هو ظاهر في الفيزياء الرياضية — لها مضموناتها وترتيب قضاياها — في شتى الحالات التي يدخل فيها التطبيق شرطًا — أقول إن لسلاسل القضايا الرياضية في هذه الحالات، مضموناتها وترتيبها (في تقريرها لقضية شرطية تختتم بها السلسلة) اللذَيْن يخضعان للظروف الوجودية المشاهدة التي هي قوام المشكلة التي تتطلب حلًّا قابلًا للتعميم؛ وإلا لظلت المضمونات من حيث طبيعتها ومن حيث ترتيبها على حالة من عدم التعين، بحيث لا يكون لدينا قط ما يؤكد لنا أن القضية الختامية سيكون لها أي نوع من أنواع التطبيق، حتى ولو كان ترتيب القضايا تستلزمه الضرورة بالنسبة إلى صرامة اللزوم الاستنباطي؛ وهكذا نرى أنفسنا قد اضطررنا مرة أخرى إلى القول بأن العلاقات الصورية إنما تقرر شروطًا لا بد من تحققها تحققًا ماديًّا. هذه الحجج التي قدمناها تبين بيانًا لا يحتمل الجدل، أن الصور الخالصة — حين تعني كلمة «خالصة» «أنها مستقلة استقلالًا كاملًا عن أية صلة بالمضمونات ذوات المعنى» (سواء أكان ذلك المعنى واقعيًّا أم تصوريًّا) — يستحيل عليها أن تحدد طريقة التطبيق، بالمعنى الذي يجعل التطبيق أمرًا لا مندوحة عنه في العلوم الطبيعية؛ وهنالك حالة خاصة واحدة، كثيرًا ما تُساق مثلًا في المؤلفات المنطقية الحديثة التي يفرض فيها أنها تبرهن على أن القضية الكلية (المجردة) قادرة على أن تحدد الاستدلال الواقعي تحديدًا مباشرًا، أعني الاستدلال الذي يختص بأمور الوجود الخارجي؛ فهي — إذن — جديرة منا بالتمحيص، لأن تمحيصنا لها سيكشف عن المغالطة النموذجية التي هي متضمنة في شتى الأمثلة التي يسوقها المذهب الذي نحن بصدد مناقشته؛ والمثل المشار إليه هو القضية الشرطية (إذا – إذن) الآتية «إذا زاد عدد السكان في مدينة عن عدد الشعرات على رأس أي من هؤلاء السكان، إذن فلا بد أن يكون هنالك ساكنان (أو أكثر) متساويان في عدد الشعرات على رأسيهما» فليس — بالطبع — من سبيل إلى الشك في أنه إذا تحققت الشروط الواردة في جملة المقدم، تبعتها الحالة الواردة في التالي؛ لكننا إذا خصصنا القول بقضية ننبئ بها عن حالة شخص معين أو أشخاص معينين، في أية مدينة معينة قائمة بالفعل، ألفينا القضية تثير سؤالًا هو: هل تتحقق فعلًا تلك الشروط؟ وهذا سؤال ينصب على واقعة مادية، ولا يمكن الإجابة عنه إلا بعمليات مشاهدة مستقلة بذاتها، توجهها القضية المذكورة، قضية «إذا – إذن»؛ هي قضية إذا ما استخدمت في هذا التوجيه، جعلت من غير الضروري أن نعد الشعرات التي على رأس كل شخص ممن يسكنون مدينة معينة؛ وكل ما يلزم هو أن نحصل على تقدير موثوق به لعدد الشعرات على رأس الشخص الذي يكون له أكثف الرءوس شعرًا بين من نصادفهم من الأشخاص، وأن نحصل كذلك على تقدير موثوق به لعدد سكان المدينة؛ فإن توافرت لنا هذه المعطيات عن الوجود الواقع، جاز لنا أن نستدل قضية تقول إن شخصين غير معينين لا بد أن يكونا متساويين (أو ألا يكونا متساويين) في عدد الشعرات على رأسيهما؛ والحالة التي نستدل فيها نتيجة تقرر أنهما ليسا متساويين في عدد الشعرات، هي الحالة الأرجح وقوعًا إن كنا إزاء قرية لا يسكنها إلا عدد قليل من الناس؛ وأما في حالة المدن الموغلة في الكبر، مثل لندن أو نيويورك، فتكفينا معطيات المشاهدة لكي تجيز لنا قبول القضية الوجودية التي تقول إن شخصين (غير معينين) أو أكثر، يتساويان في عدد شعرات رأسيهما؛ لكن كفاية معطيات المشاهدة لاستدلال هذه القضية، ليست قائمة على أساس أن تلك القضية «لازمة» من القضية الشرطية المذكورة، بل على أساس تحديد المشاهدات للمعطيات الوجودية، مأخوذة في صلتها بالقضية الشرطية، باعتبار هذه الأخيرة هي القاعدة التي وجهت اختيار المعطيات وترتيبها. والتحليل نفسه يصدق تمامًا على القضية الوجودية التي تقول إننا نستطيع — في بلد يأخذ بنظام الزوجة الواحدة للزوج الواحد، والزوج الواحد للزوجة الواحدة — أن نستدل تساوي عدد الأزواج مع عدد الزوجات، دون أن نضطر إلى الدخول في عملية التعداد المملة، لنعد ما هنالك في الواقع من أزواج ومن زوجات؛ وذلك لأنه لا بد لنا من عمليات مشاهدة مستقلة بذاتها، لنعلم بها إن كان بلد معين يتبع أو لا يتبع نظام الوحدانية في الزواج؛ وقل هذا بعينه في حالة استدلالنا أن عدد المقاعد وعدد الأشخاص في ردهة معلومة، متساويان على وجه التحديد دون حاجة منا إلى عد المقاعد أو عد الأشخاص، إذ إنه لا بد لنا — ها هنا أيضًا — من ملاحظة مستقلة بذاتها لنعلم بها أن كل مقعد هو — في الواقع — مشغول؛ وهكذا نرى أن مصدر المغالطة في شتى هذه الأمثلة، هو أولًا: أننا نأخذ من الحالات ما قد سبق لإجراء وجودي أجريناه أن أعد لنا مادته، وثانيًا: أننا نتجاهل الطريقة التي أعدت بها تلك المادة، تجاهلًا يعادل النفي في هذه الحالة. إن مناقشتنا — إلى هذا الحد — قد أيدت المذهب القائل بأن الصور المنطقية هي صور في مادة، تأييدًا يرتكز على جانب سلبي، ألا وهو: التناقضات التي تنشأ في حالة قبولنا للرأي المعارض؛ وأما التأييد الإيجابي للمذهب المذكور فهو أن المضمونات المتعينة — واقعية كانت أم تصورية — وكذلك الصور التي ترتب فيها تلك المضمونات، تتحدد إبَّان البحث العلمي تحديدًا يجعلها تقابل بعضها بعضًا تقابلًا دقيقًا؛ ولو حاولنا أن نسوغ هذا القول في هذا الموضع، لاقتضانا ذلك أن نعيد التحليل والنتائج التي أسلفناها في الجزأين السابقين؛ غير أننا بدل أن نشغل أنفسنا بهذه المهمة التي لا تدعو إليها الحاجة، سنعالج النقطة التي هي موضوع النظر، بأن نبحث في المبدأ الذي يمثل في موضوعات البحث المتماثلة؛ فمقولة المنطق الأساسية هي «الترتيب»، وهي بعينها المقولة الأساسية أيضًا في كافة الفنون، والترتيب الذي ترتب به المضمونات المادية في جميع الحالات التي يكون فيها سير موجه توجيهًا معقولًا، هو الترتيب الذي يجعل الوسائل مؤدية إلى نتائج؛ أما المواد الموجودة فعلًا في العالم الخارجي، فتزودنا ﺑ «المادة الخامة»، لكن موقف هذه المواد من حيث هي وسائل، يتطلب إجراءات في الاختيار وفي إعادة الترتيب، بحيث يمكن إحداث تفاعلات خاصة من شأنها أن تنتهي إلى النتائج المقصودة؛ ففي بداية السير، حين تكون لدينا الرغبة في نتيجة معينة، قد نستخدم بعض المواد القائمة فعلًا بحالتها «الطبيعية» أو الفطرية، كأن نستخدم عصًا سهلة التناول، لنحرك بها حجرًا؛ ففي هذه الحالة لا تتجه إجراءات المشاهدة المطلوبة إلا إلى اختيار عصًا مناسبة، أما إذا عاودتنا الحاجة مرة بعد مرة إلى نوع معين من النتائج، فعندئذٍ يحسن ألا نختار إلا المواد التي يمكن تطويعها لتكون أدوات من شأنها أن تحقق لنا الهدف المقصود بأسهل الوسائل وأرخصها، وفي أحوال متباينة تباينًا واسعًا من حيث زمانها ومكانها؛ فعندئذٍ تختار المواد وتشكل لتصلح روافع؛ وقد لا تزيد الرافعة في مرحلة معينة من التقدم الثقافي، على مجرد «عتلة»؛ أما إذا تطورت الحاجة بحيث استلزمت استحداث نتائج في ظروف شديدة التنوع، فعندئذٍ نوسع من مبدأ الروافع ونهذبه، لتشمل ضروبًا متباينة من الحيل المادية، التي — إذا ما صغناها صياغة علمية — أفادت من قانون قوى الدفع، فتستفيد من ذلك القانون «ميزة» ميكانيكية؛ فيصبح الخبير الميكانيكي ملمًّا — حتى ولو لم يكن على علم بالقانون الذي صِيغ صياغة علمية — بأنواع كثيرة من الآلات التي هي من نوع الروافع، لأنها — رغم اختلافها حجمًا وشكلًا — تقوم كلها بالمهمة التي تجعلها وسائل مؤدية إلى نوع من النتائج متميز بخصائص معينة. فكل عدة، أو أداة، أو قطعة من الأثاث والتأثيث، وكل قطعة من ثياب، وكل وسيلة للنقل والمواصلات، إنما تمثل — من الوجهتين العملية والوجودية — تحول المواد الخامة إلى وسائل اختِيرت عمدًا ورُتِّبت بحيث أصبحت «مادة مصبوبة في صورة»؛ وإن شئت أن تعبر عن هذا المعنى من جانب الصورة فقل إنه يصبح لدينا «صور في مادة»؛ فقد تصبح الصورة والمادة من تكامل الارتباط إحداهما بالأخرى بحيث يبدو المقعد مقعدًا والمطرقة مطرقة، بنفس المعنى الذي يكون به الحجر حجرًا والشجرة شجرة؛ وهكذا نرى أن هذه الأمثلة شبيهة بالحالات التي يصبح فيها للبحوث السابقة من المعاني المألوفة ما يجعلنا نظن أن الصورة متأصلة في طبيعة المادة تأصلًا لا يتوقف على المهمة التي تؤديها هذه المادة، أو ننظر إلى المادة (كما هي الحال في بعض المحاجات الصورية التي نقدناها) كما لو كانت المادة نفسها صورية بحتة؛ وهي نتيجة نصل إليها لما نراه من تمام التكامل في اتصال الصورة والمادة إحداهما بالأخرى. هذه أمثلة توضح المبدأ الذي ذكرناه في الجزء الأول من هذا الفصل، وهو أن الصور تطرأ على المادة في اطراد منتظم، بفضل المواءمة بين المواد والإجراءات العملية بعضها مع بعض، لكي تحقق لنا أهدافًا بعينها؛ على أننا — مع ذلك — قد سقنا هذه الأمثلة في هذا الموضع لغاية أخرى وإن تكن غاية مرتبطة بالغاية المذكورة — وأعني بها توضيح المبدأ القائل بأنه في شتى حالات المواد المصبوبة في صور بذاتها، تنشأ الصورة والمادة بادئ ذي بدء، ثم تتطوران وتعملان في تقابل دقيق إحداهما مع الأخرى؛ فكل عدة (وأنا أستعمل هذه الكلمة بمعنى واسع يشمل كل أداة وكل حيلة آلية خلقت واستخدمت لتحدث نتائج معينة) أقول إن كل عدة هي بمثابة العلاقة بين طرفين؛ فالصورة إذ تكون علاقية تصبح هي العلاقة التي تصل الوسائل بنتائجها بينما يكون لكل شيء يخدمنا من حيث هو وسيلة فعالة، وجود مادي بوجه من الوجوه. ونستطيع أن نحلل العلاقة المجردة التي تصل الوسائل بنتائجها تحليلًا صوريًّا؛ فهي علاقة تتضمن تقابلًا بين المادة من ناحية ومعالجتها معالجة إجرائية من ناحية أخرى؛ وهو تقابل يتمثل — في مجال العُدَد والأواني وقطع الثياب … إلخ — في حقيقة كون المواد من ناحية والوسائل الفنية من ناحية أخرى، تتكيفان الواحدة للأخرى تكيفًا متبادلًا بينهما؛ فالعمليات الفنية التي نصطنعها في إعادة تشكيل المواد الخامة إنما ابتكرت لكي تصير قادرة على إعادة تشكيل المادة الخامة التي نجري عليها تلك العمليات إجراءً يجعل من تلك المادة أداة نتوسل بها لغاية معلومة؛ فينبغي لتلك العمليات أن تكون بحيث تستطيع أن تجري من ضروب التطبيق ما يلائم المواد التي تتناولها بالمعالجة؛ ولا تلبث التقنيات (أي الوسائل الفنية) أن تخلق حتى يصبح في مستطاعها أن تتطور تطورًا مستقلًّا بذاته؛ فإذا ما تقدمت في دقتها، لم تعد مقتصرة على تحويل المواد القديمة تحويلًا فيه النفع العاجل والاقتصاد في النفقات، بل إنها لتجاوز ذلك فتتناول بمعالجتها مواد خامة جديدة لم تكن من قبل صالحة لأن تستخدم وسيلة لغاياتنا؛ وهذه المادة الجديدة المصبوبة في الصورة التي نظفر بها عندئذٍ، تعود بدورها فتؤدي إلى تطورات جديدة في التقنيات (الوسائل الفنية) وهكذا دواليك إلى غير نهاية، دون أن يكون هنالك — من الوجهة النظرية — احتمال الوقوف عند حد يكون هو ختام المسير. إنه لا بد لكل تقنية (وسيلة فنية) أو مجموعة من الوسائل الإجرائية، أن تستوفي شروط ترتيب المادة بحيث يؤدي ترتيبها إلى اكتسابها لخصائص صورية وإنك لترى أبسط الوسائل الفنية التي تستخدم في إعادة تشكيل المادة الخامة واضحة المراحل — بالضرورة — من حيث البداية، والنهاية، والخطوات الوسطى التي تصل الطرفين؛ فلها من الخصائص الصورية ما يجعل هذه المرحلة أولى، وهذه أخيرة، وتلك وسطى بين الأولى والأخيرة — والخطوات الوسطى لها من الأهمية الجوهرية ما يحدد حتى معنى كلمة «وسيلة» نفسها ماذا عساه أن يكون وهذه العلاقة المتعدية المرتبة التي تتمثل في الكلمات؛ أولى، وأخيرة، ووسطى حين نصف بها إجراءاتنا، هي علاقة صورية، ويمكن تجريدها، لأنها هي التي تؤلف العلاقة المتبادلة الضرورية التي تقوم بين المعاني المجردة؛ فإذا غيرت إحداها، تغيرت الأخريان تبعًا لها تغيرًا لا محيص عنه، ولو عممت هذه النقطة، نشأت لك عن ذلك التعميم فكرة الترتيب التسلسلي، من حيث هو ترتيب ضروري للمادة باعتبارها مادة صبت في صورة، وذلك بالنسبة إلى شتى أوجه النشاط التي تجري على خطة معقولة. وعلى أساس النقطة الأولى التي ذكرناها (وهي المقابلة المتبادلة بين المادة من ناحية والوسائل الإجرائية أو التقنيات من ناحية أخرى) يكون الترتيب التسلسلي في مراحل الخطة الإجرائية، هو الذي يحدد العلاقات الصورية في المواد التي نعالجها بالتقنيات (أي الوسائل الفنية)؛ فحتى التقنيات البدائية الساذجة المستخدمة لاستحداث نتائج موضوعية، قد أنشأت تفرقة ساذجة بين خصائص المواد التي تميزها بعضها من بعض؛ فمواد معينة «صالحة» للتقنيات التي تنتج لنا الثياب، ومواد أخرى صالحة لصناعة الأواني التي نخزن فيها المواد أو نطهوها … إلخ؛ ومع تطور تقنيات صهر المعادن، تبينت لنا فوارق تميز ضروب المواد المعدنية من تلقاء نفسها — إذا جاز هذا التعبير — فأصبح في مقدورنا أن نفرق بين مختلف أنواع المعادن؛ وإذا عممنا المبدأ الذي نوضحه بهذه الأمثلة، تكونت لنا بهذا التعميم جملة تقول إن السمات المميزة التي تقيم الحدود الفاصلة بين الأنواع المختلفة، لا تنشأ إلا حين ننظر إلى المواد من حيث هي وسائل، وذلك بالنسبة إلى الإجراءات التي نجريها لنحصل على نتائج موضوعية بعينها. والغاية حين تتحقق — كالثياب مثلًا — تكون نوعًا من الأشياء، لكن الثياب تعود فتنقسم أنواعًا مختلفة، لتلائم الفصول المختلفة والمناسبات، والطبقات الاجتماعية، فتنقسم المواد بالتالي انقسامًا يجعلها «صالحة» لهذه الأغراض المتمايزة: فهذا قماش للشتاء، وذلك للصيف؛ وهذا للحرب وذلك للسلام؛ وهذا للقساوسة وذلك للأعيان، وثالث «لعامة» الشعب؛ وهكذا تتميز الأنواع وتتصل في تقابل دقيق بعضها مع بعض. ولو كنا لنعود إلى الملاحظات التي أبديناها في الفصل الذي عقدناه للجذور البيولوجية التي عنها نشأت عملية البحث، لذكرنا أن العلاقات الصورية المتمثلة في الترتيب التسلسلي، كانت لها أصولها الأولى في الحياة العضوية؛ فثمة حاجات (بمعنى توترات فعلية)، وهذه الحاجات لا تشبع إلا بإحداث تغير في الحالة القائمة؛ واستحداث الحالة التي تختم التوتر، أي الحالة التي يتحقق بها الإشباع، يتطلب سلسلة مرتبة من الإجراءات العملية، يكون بين حلقاتها من المواءمة بعضها مع بعض ما يجعلها تتعاون معًا على الوصول إلى الخاتمة الأخيرة؛ ولو قارنا هذه الأمثلة من الوسائل العضوية الطبيعية، في علاقتها المرتبة بالنسبة إلى النتيجة، ظهر لنا فارق هام؛ «فالغاية» في حالة النشاط المبذول للوصول إلى النتيجة المقصودة، والغاية في حالة الظروف المادية، تختلفان في كون الغاية في الحالة الأولى هي غاية بالمعنى الذي يجعلها نهاية أو ختامًا، وأما في الحالة الثانية فهنالك معنى التراكم الذي يجمع الخطوات السابقة في كل خطوة حاضرة؛ وإن الخاتمة الموضوعية في هذه الحالة — لكونها متصورة قبل وقوعها ومقصودة — لتصبح غاية ماثلة أمام العين، فتعمل على توجيه بصير لاختيار ما نختاره من التقنيات ومن المواد، ثم ترتيبه، غير أن هنالك نموذجًا لارتباط (الوسائل بغايتها) مشتركًا بين الحالتين. هذه الملاحظات التي أبديناها — لو نظرنا إليها من الجانب العملي — ألفيناها مألوفة إلى الحد الذي يجعلها أمورًا معروفة وليس فيها جديد؛ ولهذا فقد تبدو غير جديرة بالذكر في مناقشة النظرية المنطقية؛ لكنها ملاحظات في صميم الموضوع، لأنها تبرز عددًا من النقط ذات الدلالة الهامة بالنسبة إلى النظرية المنطقية؛ ونستطيع أن نسترجع الملاحظات الأساسية ملخصة فيما يلي: إن دخول الصور على المادة في حالة البحث، ليس من الفروض التي نتبرع بها وكان يمكن ألا نفعل. إنه حيثما تصير المواد مواد منصبة في صورة، كان الترتيب متضمنًا في الأمر، أي كانت هنالك مراحل متسلسلة. وهذا الترتيب — لكونه صوريًّا — يمكن تجريده وصياغته على نحو يمكننا من بسط ما يتولد منه في استدلال استنباطي. هنالك استمرار متصل الحلقات في تطور السير من مرحلة العلاقات المنظمة في الحياة العضوية، إلى العلاقات المرتبة عن عمد في الفنون الثقافية، ثم من هذه إلى العلاقات المرتبة التي يتميز بها البحث الموجه. هذه الصفات إن هي إلا صفات موجودة بالقوة. ولا يتبين لنا أنها الصفات الممكن حدوثها، إلا عن طريق الإجراءات التي نجريها عليها بغية تحويلها إلى وسائل مؤدية إلى غايات؛ وهي إجراءات قد تكون أول الأمر عشوائية و«عرضية»، ثم ينضبط لنا زمامها إبَّان تقدم الثقافة حتى لتصبح إجراءات تجريبية بالمعنى العلمي لهذه الكلمة؛ ويوضح النقطة الأولى حقيقة كون طائفة معينة من المواد تصبح ألوانًا من الطعام مع نشوء الحياة الحيوانية؛ لهذا قد تجد من يقول إن هذه المواد كانت طعامًا طوال الزمن، بل من يقول إنها «طعام» بحكم «طبيعتها» المتأصلة في تكوينها؛ لكن هذه النظرة إلى الأمور تخلط الوجود بالقوة بالوجود بالفعل؛ نعم إننا إذا التفتنا بأنظارنا إلى الوراء، استطعنا أن نقول بحق إن هذه المواد كانت مما يمكن أن يكون طعامًا؛ لكنها لا تصبح طعامًا بالفعل إلا إذا أكلت وهضمت؛ أعني أنها لا تصبح طعامًا إلا إذا أجريت إجراءات معينة من شأنها أن تخلع على المواد الأولية من الخصائص الجديدة ما يسلكها في نوع معين من أنواع الكائنات ألا وهو نوع «الأطعمة»؛ وأما النقطة الثانية فيوضحها أن الفرق بين ما يؤكل، وما لا يؤكل، وما هو سام، لم يستكشف إلا بعمليات من المحاولة والاختبار؛ فحتى القبائل التي تعد بدائية، قد وجدت الوسائل التي تجرى بها من الإجراءات الفنية ما تحول به المواد التي تكون سامة في حالتها الفطرية، إلى وسائل للتغذية؛ وإنا لنستطيع أن نقيم البرهان على أن الصفات من حيث هي موجودات بالقوة إنما تتبين لنا بإجراءات تجريبية، بأن نذكر أن مدى الأشياء الصالحة للأكل قد اتسع إلى غير حد بفضل ما قد أصابته الإجراءات الفيزيائية الكيميائية من نمو وزيادة في الدقة؛ فمثلًا يتوقف نجاحنا أو إخفاقنا في إنتاج لبن «صناعي» على ما بين أيدينا من تقنيات (وسائل فنية) فقط؛ فليس هو بالأمر النظري إلا إلى الحد الذي يجعل قيام نظرية ما أمرًا ضروريًّا لهداية المجهود العملي سواء السبيل. وهذه النسبية في الصفات التي تأتلف منها السمات المميزة التي تقيم الحدود الفواصل بين الأنواع، مضافًا إليها نسبية كشفنا عن هذه الصفات، بالقياس إلى تنفيذ ما نؤديه من إجراءات، تقوض النظرية الكلاسية — كما رأينا في سبق — من أساسها، وهي النظرية التي تقول بأن الأنواع تحددها طبائعها المتأصلة فيها، أو ماهياتها؛ كما أن لهذه النسبية تأثيرًا هامًّا آخر على النظرية المنطقية؛ فلقد قصرنا مناقشتنا الماضية على المذاهب التي تقيم فاصلًا حادًّا بين الصورة والمادة؛ لكن هنالك نظريات منطقية أخرى تخلع صفة وجودية مباشرة على الصور المنطقية، ولو أنها تفعل ذلك بطريقة تختلف عن طريقة المنطق الأرسطي في ذلك؛ وهي نظريات ترتكز على أساس من الواقع؛ إذ هي تعترف بأن الصور المنطقية لا يمكن أن تنصب على المادة الوجودية إلا بطريقة تبلغ أقصى حد يجعلها مزعزعة الأساس ومعتسفة كما يجعلها قائمة في الوجود الخارجي اللهم إلا إذا كان للمادة — من حيث هي قائمة في الوجود الفعلي — قدرتها — النابعة من طبيعتها — على قبول تلك الصور؛ لكن هذه اللمحة الصادقة يساء فهمها لا لشيء إلا بسبب الخلط الذي ذكرناه لتونا بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل؛ فالوجود الخارجي بصفة عامة يتحتم أن يكون من خصائصه القدرة على تقبل الصورة المنطقية؛ والوجود الخارجي في جزئياته لا بد له كذلك من القدرة على تقبل مختلف الصور المنطقية، لكنه لا مندوحة لنا عن الإجراءات العملية التي تؤلف البحث الموجه، لكي يتسنى لهذه القدرات أو لهذه الإمكانات أن تتحول إلى وجود بالفعل. والطريقة الخاصة التي تسلكها النظرية الحديثة في خلعها على الصور المنطقية صفة وجودية مباشرة (بدل أن تخلع عليها هذه الصفة الوجودية بطريق غير مباشر، بأن يتم لها ذلك خلال مهامها التي تؤديها في عملية البحث) هي تأويلها تأويلًا ميتافيزيقيًّا للثوابت؛ وتتضح إلى حد ما هذه الثوابت بمعناها المنطقي، من طريقة استعمالنا لطائفة معينة من الثوابت التي صِيغت صياغة رياضية، في البحث الفيزيائي؛ فلو عممنا ما يتضمنه استعمالنا هذا للثوابت الرياضية، كانت صور التعميم هذه ثوابت منطقية؛ مثال ذلك أن التفكير الاستنباطي المرتب مستحيل بغير علاقة اللزوم بين القضايا، وإذن فهذه العلاقة «ثابت» من الثوابت؛ وكذلك استدلالنا واقعة من واقعة أخرى استدلالًا مدعمًا، مستحيل بغير «ثابت» هو العلاقة الصورية بين اقتران السمات من ناحية وتمييزنا للأنواع بناءً عليها من ناحية أخرى؛ غير أنه لا يلزم عن كون «الثوابت» ضرورية لتسيير الأبحاث المنتجة لمعرفة جائزة القبول، أقول إنه لا يلزم عن ذلك أنها أمر محتوم لا بد منه للوجود الخارجي، ولا بد أن يكون قائمًا في الوجود الخارجي الذي نعرف عنه ما نعرف؛ فتحت ستار المبدأ السليم الذي يقول إن الصور المنطقية ذات دلالة وجودية، يتسلل مبدأ مختلف عنه جد الاختلاف، وهو عبارة عن فكرة ميتافيزيقية عن الوجود الخارجي؛ ثم تستعمل هذه الفكرة التي تسيطر على صاحبها في طريقة نظره إلى الأشياء، فيحدد على أساسها معنى الثوابت المنطقية؛ وبهذا يتحول المنطق إلى شيء يعتمد وجوده على وجود غيره، إذ يعتمد على مبدأ ميتافيزيقي لا يوصل إليه هو نفسه بطرائق يسنها المنطق وحده؛ أضف إلى ذلك أن الثوابت في منهج البحث العلمي هي ثوابت بالقياس إلى مجموعة معينة من القضايا، على حين أن وجهة النظر التي نهاجمها بالنقد تزعم أن الثوابت ثوابت على وجه الإطلاق. وإن القول بوجود الصور في الوجود الخارجي، وهو أحد جوانب الزعم الميتافيزيقي الذي أسلفناه، ليستوقف النظر بوضوحه، وذلك في كونه بحكم تعريفه مختصًّا بالوجود الفعلي، على حين أن البحث في الوجود الفعلي يستحيل عليه الوصول إلى نتائج إلا إذا كانت هذه النتائج ذات درجة معينة من درجات الاحتمال؛ وواضح أن تصورنا لثابت محتمل، ولبناء تكويني مستعصٍ على التغير، إنما هو تصور لما ينقض نفسه بنفسه؛ هذا إلى أن التصور في ذاته تبرع منا لا تقتضيه الضرورة، لأن مثول الصور الثابتة التي تحتمها الضرورة الإجرائية للوصول (خلال البحث) إلى نتائج جائزة القبول، أقول إن مثول تلك الصور الثابتة هو ما يمكن تعليله تعليلًا كاملًا على أساس سيرنا في البحث نفسه سيرًا موجهًا توجيهًا قديرًا؛ فالزعم بوجود تقابل تام بين صور المعرفة الموثوق بها، وصور الوجود الخارجي، بحيث تقابل كل صورة من هذه صورة من تلك، هو زعم لا ينشأ عن شروط محتومة داخل إطار منطق البحث نفسه، بل إنه لزعم صادر عن مصدر خارجي، إبستمولوجي وميتافيزيقي. وما قد خلقته هذه الآلات لنا من معطيات جديدة، يفيدنا بأكثر من مجرد تزويدنا بحقائق نؤيد بها أفكارنا القديمة ونهذبها؛ إذ هو يثير أمامنا طبقة جديدة من المشكلات التي يتطلب حلها إطارًا جديدًا من التصورات الذهنية نرجع إليه عند الحل؛ ونذكر بصفة خاصة أن استعمال الآلات الجديدة والتقنيات الجديدة هو الذي كشف لنا عن وجود تغيرات وعلاقات بين المتغيرات فيما قد كان يظن من قبل أنه ثابت، وهو كشف سِرْنا فيه بخطًى تزداد سرعة منذ القرن السابع عشر؛ ولقد كان هذا التغير الذي طرأ على طبيعة المعطيات سببًا ونتيجة — في وقت واحد — لاصطناع الإنسان في شتى أرجاء العالم للمنهج التجريبي، ولهذه الطبقة الجديدة من التصورات العقلية التي اقتضاها تنفيذنا لذلك المنهج تنفيذًا موفقًا. ولقد كان هذا الانقلاب العلمي مصحوبًا — في جانب التصورات العقلية — بانقلاب في مدركاتنا الرياضية؛ وكان هذا الانقلاب هو أيضًا سببًا من ناحية ونتيجة من ناحية أخرى؛ فطالما كانت هندسة إقليدس مأخوذة على أنها النموذج الأمثل للمنهج الرياضي، كانت مقولات الرياضة المضمرة فيها، من نوع لا يجد سبيله إلى التطبيق إلا في مجال التكوينات الثابتة داخل حدود معلومة؛ لهذا لبث منطق الاستنباط من حقائق عقلية ثابتة أولية، هو المسيطر حيثما اقتضت الضرورة قيام مبادئ عامة؛ ثم جاءت التحليلات الديكارتية، وحساب التفاضل والتكامل، وما ترتب على ذلك من تطورات، نتيجة اقتضاها تغيير موضع الاهتمام تغييرًا جوهريًّا في مجال البحث العلمي، إذ تركز الاهتمام في الارتباطات التي تربط المتغيرات؛ هذا في الوقت الذي أدى فيه تطور المدركات الرياضية تطورًا مستقلًّا إلى الكشف — عند تطبيق تلك المدركات على الوجود الخارجي — عن مشكلات جديدة أوسع نطاقًا وأدق أطرافًا، تتصل بما بين المتغيرات من ارتباط. وحدث في الوقت نفسه أن نظرية في المنطق تأخذ بالمبدأ التجريبي أخذًا صحيحًا، وتساير البحث العلمي الحقيقي كما يمارسه العلماء عملًا، قد غُلَّتْ عن السير غلًّا خطيرًا، وانحرفت عن جادة الطريق، لتشبثها بمجموعة من أفكار كانت قد تطورت في العصر السابق على نشأة العلم؛ فكان من أثر المفارقة القائمة بين هذا الإطار الفكري من جهة والبحث العلمي في إجراءاته الحقيقية ونتائجه الفعلية من جهة أخرى، أن ازداد موقف المدرسة اللاتجريبية التي تأخذ بالمبادئ القبلية، قوة، وجاءت هذه الزيادة في قوة موقفها على سبيل رد الفعل؛ لمنطق «مل» — باعتباره ممثلًا لطراز من التجريبية ظهر في مرحلة باكرة — جدير بالذكر، من حيث هو دمج لشيئين: العناية الحقيقية بالمنهج العلمي على أنه المصدر الوحيد للنظرية المنطقية السليمة، وفهم هذا المنهج فهمًا خاطئًا، وما مصدر خطئه إلا التمسك بأفكار صِيغت قبل نشأة المنهج العلمي الحديث، عن الإحساسات وعن الجزئيات والتعميمات: فكان حاصل هذا الموقف إنكارًا منه لأهمية التصورات العقلية، وإنزاله للفرض العلمي منزلة ثانوية «مساعدة»، وظنه بأن الجزئيات وحدها يمكنها أن «تبرهن» على قول عام … إلخ. وإذن فهذا الفصل — في جانبيه النقدي والإيجابي معًا — تمهيد لتمحيص مفصَّل لمنطق المنهج العلمي، كالذي نراه ماثلًا في العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية؛ وهكذا ترى النظام الذي اتبعناه في عرض الموضوعات في هذا المؤلَّف يسير بوجه من الوجوه في اتجاه مضاد للنظام الذي تطورت به مضموناتها في الواقع؛ لأن النظرات المنطقية الخاصة، وهي النظرات التي بسطناها فيما أسلفناه من حديث، تمثل — كما ذكرنا الآن — نتائج تحليل الشروط المنطقية للمنهج العلمي، وتحليل ما ينطوي عليه هذا المنهج من أصول؛ على حين أن تلك الشروط وهذه الأصول قد وردت في غضون الفصول السابقة، مأخوذة — في الأغلب — على أساس موقفها المنطقي الصرف؛ وعلى هذا فالفصول الآتية ستؤدي لنا مهمتين: فهي ستكون بمثابة الصياغة الصريحة للأسس الأولية التي تنبني عليها الآراء التي أسلفنا شرحها، وستكون في الوقت نفسه اختبارًا لسلامة هذه الآراء. وسنتناول الشروط المنطقية للاستنباط الرياضي أول ما نتناول من الموضوعات التي سنتعرض لها بالحديث، للدور الهام الذي تقوم به الرياضة في العلم الطبيعي وكذلك للجانب الصوري المتميز بطابع خاص في مادة البحث الرياضي.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/20/
الاستنباط الرياضي
إن ما لأية نظرية منطقية من قدرة على تفسير الخصائص المنطقية المميزة للمدركات والعلاقات الرياضية، لهو اختبار حاسم لصدق دعواها؛ ونظرية كالتي نعرضها في هذه الرسالة، مضطرة بصفة خاصة إلى ملاقاة هذا الاختبار والنجاح فيه؛ لأنها نظرية تؤدي مهمة ذات وجهين: فهي تنصف ذلك الجانب من القضايا الرياضية الذي يجعل البرهان على صدقها صوريًّا كما أنها تبين اتساق هذا الجانب الصوري مع بقية جوانب البحث في نمطه الذي يشتمل على شتى عناصره، ثم هي لا تقتصر على بيان هذا الاتساق، بل تجاوزه إلى بيانها بأن موضوع دراسة الرياضة إن هو إلا حاصل تتمخض عنه التطورات الداخلية التي تحدث داخل النمط المذكور (الذي يصور طريقة البحث في شتى عناصره) وللأسباب التي ذكرناها في الجملة الختامية من الفصل الماضي، يتحتم على تفسير الشروط المنطقية للمدركات والعلاقات الرياضية، أن يجيء تفسيرًا يشرح صورة الاستنباط الذي يكون — بحكم طبيعته — متحررًا من ضرورة أن يكون له ما يقابله في الوجود الخارجي، بينما يزودنا — في الوقت نفسه — بإمكان أن تكون له دلالة وجودية يتسع مداها إلى غير حد معلوم، كالاستنباط الذي نراه متمثلًا في الفيزياء الرياضية. الغاية من عملية البحث (بالمعنى الذي تكون به «الغاية» هي الهدف الماثل نصب العين، أو الهدف المرجو الذي يوجه البحث، والختام الذي هو نهاية السير) هي خلق موقف موحد محمول الإشكال؛ وإنما تتحقق هذه الغاية بإيجاد مواد تكون على التوالي هي الوسائل المادية وهي الوسائل الإجرائية في آنٍ معًا، أعني مواد من الواقع ومواد قوامها المعاني الذهنية؛ وهذه المواد الوسلية إنما تنشأ لنا عن عمليات إجرائية من شأنها أن تحور المادة القائمة في الخارج مكونة موقفًا مشكلًا معينًا، تحورها بالتجارب تحويرًا يسير بها في اتجاه معلوم؛ وفي الوقت نفسه تكون المواد الدهنية التي منها تتألف الحلول الممكنة، قد أقيمت على نحو يوجه العمليات التي نختار بها ونرتب، اختيارًا وترتيبًا تجريبيين من شأنهما أن يحدثا تحويرًا في مادة الوجود الخارجي لتنحو نحو الغاية، والغاية هي إيجاد موقف محلول الإشكال؛ أضف إلى ذلك أن التصورات الذهنية التي تمثل سبل الحل الممكنة، لا بد لها — إذا كان البحث موجهًا توجيهًا يضبط سيره — أن تُصاغ على صورة قضايا؛ ثم لا بد لهذه القضايا أن تبسط في سلسلة مرتبة الحلقات، بحيث يتولد عنها قضية عامة أخيرة، في وسعها توجيه الإجراءات العملية التي لا شك في إمكان انطباقها على مادة المشكلة الخاصة التي بين أيدينا؛ وإلا لكان ما لدينا هو استدلال الحقائق الواقعية بعضها من بعض، استدلالًا فجًّا لا ينتج لنا إلا قضية غير قائمة على أساس سليم. واختصارًا، فإن التفكير الاستنباطي المرتب، هو نفسه سلسلة تحويلات نسير فيها بناءً على قواعد تنظم إحلالنا لمختلف المعاني بعضها محل بعض، إحلالًا فيه الدقة الصارمة (أو ضرورة اللزوم) وفيه الخصوبة المنتجة؛ ولا يكون مثل هذا التحويل مستطاعًا إلا إذا أقمنا نسقًا من معانٍ مجردة يتعلق بعضها ببعض، وعلى ذلك فمدركات الذوق الفطري — مثلًا — لا تحقق شروط هذه الصلة المتبادلة (بين المعاني) التي يأتلف منها البناء النسقي؛ ومن هنا كانت ضرورة تغييرنا لمضمونات هذه المدركات — مدركات الذوق الفطري — إذا ما أدخلناها في العلم، إذ إننا نعدل منها تعديلًا يجعلها مستوفية لهذا الشرط؛ وهكذا نرى أن تحويل المضمونات الذهنية — وفق قواعد المنهج التي تحقق الشروط المنطقية المحددة — أمر متضمن في سيرنا بالتفكير الاستنباطي، كما هو متضمن أيضًا في تكويننا للمدركات الداخلة في ذلك التفكير، حتى حين نقصد بذلك التفكير الاستنباطي أن يكون في نهاية الأمر ذا تطبيق على الوجود الفعلي. إن مادة الموضوع، أو المضمون، الذي نعالجه بالتفكير الاستنباطي يتألف من إمكانات؛ ومن هنا كانت المضمونات في هذه الحالة غير وجودية، حتى حين نوجدها ونرتبها بقصد انطباقها على الوجود الفعلي. وما دامت إمكانات، فهي تتطلب صياغة في رموز؛ وليست عملية الرمز هذه وسيلة نصطنعها للسهولة، حين نجدها في حكم الضرورة التي لا غناء لنا عنها في التفكير الاستنباطي، كلا ولا هي مجرد ثوب خارجي لأفكار كانت قد كملت — بالفعل — في حد ذاتها؛ بل هي جزء من جوهر التفكير الاستنباطي ذاته، ما دام هذا التفكير منصبًّا على إمكانات؛ ومع ذلك، فالرموز — في جانبها الأدائي — تنزل نفس المنزلة المنطقية التي تنزلها المعطيات الوجودية، ولهذا كانت هي نفسها خاضعة لعمليات التحويل؛ ومن الوجهة التاريخية، كانت الإجراءات العملية التي نستعين بها على تحويل معاني الرموز، قد استعيرت أول الأمر من الإجراءات التي نعالج بها الأشياء المادية، ولهذا فقد كانت تلك الإجراءات ذات صلة وثيقة بهذه، كما هو واضح في الكلمات التي لا نزال نستخدمها لندل بها على عمليات عقلية، مثل كلمات من هذا القبيل بصفة عامة؛ تدبر، وروية، وتأمل؛ ثم بصفة أخص مثل كلمتي العد، والحساب فلما أن عدلت المعاني تعديلًا يمكنها من تحقيق الشروط المفروضة عليها، بحكم كونها قد أصبحت أجزاءً من نسق متعلق بعضها ببعض، عدلت الإجراءات أيضًا لتحقق مقتضيات المادة الذهنية في شكلها الجديد، فأصبحت الإجراءات مجردة تجريد المواد التي ستنصب عليها، وعلى هذا فقد أصبحت تلك الإجراءات ذات طابع يمكن التعبير عنه، بل لا يمكن التعبير عنه إلا بمجموعة جديدة من الرموز. لقد كنا في الفصول السابقة على هذا الفصل، ننصرف بعنايتنا إلى العلاقة القائمة بين المعاني والقضايا في التفكير الاستنباطي، حين ينساق هذا التفكير بقصد الوصول في نهايته إلى شيء يمكن انطباقه على الوجود الخارجي، وفي تفكير من هذا الطراز، يؤجل التطبيق، أو يظل معلقًا، لكن الصلة بالتطبيق لا تنمحي بالنسبة إلى مضمون المدركات التي نتناولها عندئذٍ؛ أما حين نسير بالتفكير الاستنباطي سيرًا لا نراعي فيه شيئًا قط، سوى أن يجيء هذا التفكير محققًا لشروطه المنطقية التي يسنها لنفسه، أو حين نسير به من أجل نفسه — كما يُقال — فعندئذٍ لا يقتصر الأمر على أن تكون مادة الموضوع الذي نفكر فيه غير ذات صلة بالوجود الفعلي بالمعنى المباشر، بل إننا لنكون تلك المادة نفسها على أساس تحررها من الإشارة إلى الموجودات الخارجية حتى حين تكون تلك الإشارة غير مباشرة إلى أقصى الحدود، أو تكون مؤجلة أو من النوع الذي يُنتظر وقوعه فيما بعد؛ وفي مثل هذه الحالة يكون التفكير الاستنباطي تفكيرًا رياضيًّا؛ فمادته مجردة وصورية إلى الدرجة القصوى، بسبب تحررها الكامل من الشروط المفروضة على المادة الذهنية حين تكون هذه المادة مصوغة على النحو الذي ينتهي آخر الأمر إلى تطبيق على الوجود الخارجي؛ في حالة التفكير الرياضي يصبح التحرر الكامل والتجرد الكامل حدين مترادفين. وإذا طرأ تغير في سياق الظروف التي تحيط بالبحث، أحدث هذا التغير تغيرًا في هدف البحث ومضموناته؛ فالمدركات الفيزيائية تختلف عن مدركات الذوق الفطري، لأن سياقها ليس هو كسياق هذه متصلًا بمسائل النفع والمتعة، بل سياقها هو السياق الذي نوجد فيه شروطًا تتحقق في الاستدلال المتسق حين يتم على نطاق واسع؛ وحين نغض النظر عن كل إشارة إلى التطبيق الفعلي، نحصل على سياق آخر جديد؛ فليست النتيجة هي مجرد الحصول على درجة أعلى في التجريد، بل هي الحصول على طبقة جديدة من التجريدات، وهي طبقة لا تنشأ ولا ينضبط سيرها إلا بمقولة العلاقات المجردة؛ ومع ذلك فضرورة تحويل المعاني بعضها إلى بعض في مجرى التفكير الاستنباطي، لكي يقرر لنا قضايا وجودية مقبولة، هذه الضرورة تزودنا بالحلقة الرابطة التي تصل الرياضة بالنمط العام للبحث. لقد أردنا بالملاحظات التمهيدية السابقة أن نقول إن مقولة التحويل تمتد فتشمل نمط البحث كله من: (١) التحويلات الوجودية المطلوبة لكي يجيء الحكم النهائي جائز القبول، إلى (٢) المعاني في مجرى التفكير الاستنباطي، ثم إلى (٣) العلاقات الصورية التي تربط المواد المجردة تجريدًا كاملًا، وها هنا يتخذ التحويل من حيث هو إمكان مجرد صورة «إمكان التحويل» بالمعنى المجرد؛ ونتيجة لهذا التطور الأخير، لا بد لنا من التفرقة بين طرازين منطقيين للقضايا الكلية؛ فلقد ذهبنا في غضون مناقشتها السابقة، إلى أن القانون الطبيعي — كذلك الذي نعبر عنه بعلاقة قائمة بين معانٍ مجردة — هو عبارة عن قضية شرطية كلية؛ فمثلًا قانون الجاذبية هو صياغة للعلاقة المتبادلة بين المعاني المجردة: كتلة، ومسافة، و«جاذبية»؛ غير أنه وإن تكن مضمونات القضية تجريدات، إلا أنه ما دامت القضية قد صِيغت بقصد أن تكون آخر الأمر ممكنة التطبيق على الوجود الفعلي، فمضموناتها تتأثر بهذا القصد؛ فقضايا كلية شرطية كهذه لا تستوعب الأحوال الوجودية الممكنة كلها، أعني تلك الأحوال التي يجوز لتلك القضايا أن تنطبق عليها، ولهذا فإنه يجوز لهذه القضايا أن تنبذ لتحل محلها قضايا كلية شرطية أخرى، تكون أوفى منها أو أكثر ملاءمة للموضوع الذي بين أيدينا؛ ويوضح هذا ما قد حدث من تغير انتقلنا به من قانون نيوتن للجاذبية إلى الصياغة التي صاغها أينشتين لذلك القانون؛ فعلى الرغم من أن كلا القانونين قضية كلية شرطية بهذا المعنى، إلا أن كلًّا منهما له دلالة تجريبية تضاد دلالة الآخر؛ في قضايا كهذه (بما في ذلك قضايا الفيزياء الرياضية كلها) يكمن الجانب الرياضي بمعناه الدقيق في العلاقة الضرورية التي ترتبط بها القضايا بعضها ببعض، لا في مضمونات تلك القضايا. أما في القضية الرياضية، مثل ٢ + ٢ = ٤، فالتأويل الذي نفهم به المضمونات لا يكون ذا شأن على الإطلاق بأي اعتبار مادي كائنًا ما كان؛ فإمكان تطبيق القانون من قوانين الفيزياء تطبيقًا يجيء في ختام الشوط، حتى إن كان هذا القانون مساقًا في صورة قضية كلية شرطية، يتطلب منا أن نفهم الحدود أو المضمونات المتعلق بعضها ببعض في تلك القضية، بأي معنًى نفضله، وما دمنا قد فضلناه فهو يصبح لنا بمثابة نهاية قصوى نهتدي بها؛ لكن مضمونات القضية الرياضية متحررة من الضرورة التي يحتمها تفسير واحد مفضل؛ فخذ مثلًا القانون الفيزيائي عن متوازي القوى، باعتباره يهيئ لنا أساس الحساب الذي قد يلتمس سبيله إلى التطبيق — آخر الأمر — على موجودات العالم الخارجي في صورها المحددة؛ فالموقف الذي تكون عليه «القوى» المشار إليها في ذلك القانون، يكون له أثره في معنى «متوازي الأضلاع»، لأن ذلك الموقف هو الذي يضع الحدود للتصور الذهني — الذي لولا تحديده لأصبح تصورًا رياضيًّا طليقًا — بحيث يلائم مواد معينة لها خاصة الاتجاه وخاصة السرعة؛ ومعنى ذلك أنه يتطلب ما قد أسميناه بالتفسير المفضل أو المستحسن، وهو تفسير يقيد الحدود بنطاق معين، على حين أن مضمونات القضية الرياضية — من حيث هي رياضية — حرة من الشروط التي تتطلب أي تفسير مقيد بحدود؛ فليس لتلك المضمونات معنًى وليس لها تفسير إلا ما تفرضه عليها — من الناحية الصورية — ضرورة تحقيق الشرط الذي يستوجب إمكان تحويل المعاني بعضها إلى بعض داخل النسق الواحد، دون أن يكون لما هو بداخل النسق أية دلالة يشير بها إلى شيء خارج النسق؛ فبالمعنى الذي نقصده من كلمة «معنى» بالنسبة إلى أي مدرك ذي دلالة وجودية — حتى إذا كانت الدلالة غير مباشرة — لا يكون للحدود معنًى (حين ترد في قضية رياضية) — وهي حقيقة ربما فسرت لنا وجهة النظر القائلة بأن مادة الرياضة لا تزيد على كونها علامات جزافية يتبع بعضها بعضًا؛ لكنها ذات معنًى — بالمعنى المنطقي الأوسع — قوامه الذي لا قوام لها سواه، هو علاقاتها بعضها بالنسبة إلى بعض، وهي علاقات لا يحددها سوى استيفائها لشرط إمكان تحويلها؛ وإذن فهذا الطراز من القضية الشرطية الكلية، يستند في إثباته إثباتًا منطقيًّا، إلى علاقات صورية؛ إذ إن العلاقات الصورية تحدد كذلك الحدود أو المضمونات — أي إنها تحدد «مادة النظر» — بالوجه الذي لا تستطيع أن تحدد به أية قضية كلية يكون لها تطبيق وجودي آخر الأمر؛ فنوع العلاقة الذي يكمن بين القضايا في الفيزياء الرياضية هو وحده الذي يعمل على تحديد المضمونات. ونلخص ما أسلفناه فنقول: إن تحويل المعاني وما بينها من علاقات أمر ضروري في التفكير الاستنباطي الذي نسير به سيرًا ينتهي به إلى استحداث أثر في تحويلاتنا لموجودات العالم الخارجي؛ إلا أن عمليات التحويل الداخلة في هذا، هي مما يمكن تجريده، فإذا ما جردناها وسلكناها في صياغة رمزية، زودتنا بطبقة جديدة من المادة يصبح التحويل الفعلي فيها مجرد إمكان التحويل؛ وفي مثل هذه الطبقة الجديدة من مادة البحث، لا يشترط لتوجيه التحويلات في سيرها المطلوب إلا استيفاء شروط إمكان التحويل بمعناه المجرد. في هذه النظرية عن المادة الرياضية، استمرار لإبراز النقطة التي ظللنا نؤكدها خلال الفصول السابقة، ألا وهي فعل الإجراءات العملية في تحديد مواد البحث؛ والفحوى المنطقي لهذا التحديد الإجرائي في هذا السياق الذي نحن الآن بصدده، إنما يتضح بموازنة تفسيرين للإمكان في حقيقة معناه، التفسير الإجرائي (بالنسبة إلى إمكان التحويل) وتفسير نظري آخر؛ وأما هذا التفسير الآخر فتختلف نظريته في أنها تفرق بين معنى الإمكان الذي ينصرف إلى الحقيقة الوجودية، ومعناه حين ينصرف إلى ما نؤديه من إجراءات؛ وذلك أن هذه النظرية ترد الصور الرياضية (والمنطقية) إلى «عالم الإمكان» الذي يتصوره أصحاب هذه النظرية عالمًا ذا وجود خارجي قائم؛ وعالم الإمكان هذا هو أوسع مدًى من عالم التحقيق الفعلي بدرجة لا تنتهي عند حد؛ ولما كان يتحتم على ما هو متحقق بالفعل أن يكون ممكنًا قبل تحققه، كان عالم الإمكان هو الذي يحدد الأساس المنطقي النهائي الذي يتم التحقق الفعلي داخل نطاقه؛ ولهذا فُسِّر انطباق الرياضة والمنطق على الوجود الفعلي، بأنه حالة خاصة تتمثل فيها العلاقة العامة التي تربط عالم «الوجود» الممكن بعالم «الوجود» الفعلي؛ ولقد تناولنا هذه النظرية هنا بالبحث، لأنها تهيئ لنا الفرصة — عن طريق الموازنة — لإبراز ما ينطوي عليه تفسيرنا للإمكان تفسيرًا أدائيًّا إجرائيًّا، إبرازًا يجعل ما قد انطوى عليه ذلك التفسير أكثر علانية. وليس أمرًا يسيرًا أن نجد مادة نوضح بها ما نريده، بحيث نخرج المناقشة من المجال الذي تصطرع فيه النظريات الفلسفية اصطراعًا مباشرًا، لندخلها في مجال المنطق بمعناه الضيق؛ ومع ذلك فقد نجد نقطة تنتقل عندها من ذلك المجال إلى هذا، وهي علاقة المصور الجغرافي لبلد ما، بالبلد نفسه الذي جاء ذلك المصور الجغرافي ليصوره؛ وليس هذا المثل التوضيحي أكثر من نقطة ننتقل عندها، لأنه من الواضح أننا لا نستطيع أن نفترض فيها بأنها حالة من حالات التماثل المباشر؛ إذ البلد المصور إن هو إلا مثل يمثل «عالم الوجود» الذي هو واقع بالفعل؛ والمصور الجغرافي يشير إلى البلد الذي يصوره من حيث هو أحد الموجودات الفعلية؛ لكن القوة التشبيهية في هذا المثل التوضيحي، تكمن في موضع غير كونه تماثلًا مباشرًا بين الحالتين، وأعني به الموازاة الصورية التي تتم بها المقابلة بين المصور الجغرافي وبين البلد المصور، بغض النظر عن الطبيعة الوجودية التي تتسم بها العلاقات الفعلية الكائنة بين أجزاء البلد المذكور. إن العلاقات بين أجزاء الخريطة، شبيهة (بالمعنى الاصطلاحي لهذه الكلمة) بالعلاقات بين أجزاء البلد المصور؛ لأن مجموعة الإجراءات التي تنشئ إحداهما هي هي بذاتها مجموعة العلاقات التي تنشئ الأخرى؛ فإذا كان هذا التشابه هو المثل الذي يوضح الموازاة الصورية، كان مثلًا لا يلقي ضوءًا على الموازاة الكائنة في الحقيقة الوجودية، والتي يُقال إنها قائمة بين الرياضة من جهة وعالم الإمكان من جهة أخرى؛ لأن القائلين بهذه الموازاة لا يعتقدون بأن الإجراءات التي نحدد بها العلاقة بين أجزاء المادة الرياضية، تحدد في الوقت نفسه العلاقات بين الحقائق في «عالم الإمكان»؛ على حين أننا نذهب هنا إلى أن إجراءات إمكان التحويل، التي نحدد بها مادة الرياضة، هي نفسها التي تكون «عالم الإمكان» بالمعنى المنطقي الوحيد الذي يمكن أن نفهم به هذه العبارة. فما أيسر أن ندرك صدق قولنا بأن العلاقات التي تربط أجزاء الخريطة شبيهة بالعلاقات التي تربط أجزاء البلد الذي تصوره الخريطة، لكونهما معًا نتيجة مجموعة واحدة من الإجراءات، هي هي نفسها في كلتا الحالتين، ما أيسر أن ندرك صدق هذا القول إذا ذكرنا أن كلتيهما تنتجان عن القيام بإجراءات معينة يمكن تلخيصها بكلمة «مسح»؛ فليس من شك في أن عناصر البلد المصور مرتبط بعضها ببعض في الوجود الخارجي، لكن هذه العلاقات التي تربطها تظل غير محددة حتى يتم لنا مسح ذلك البلد، هذا لو نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر علمنا به، أعني لو نظرنا إلى الأمر من ناحية القضايا التي يمكن تكوينها عن الروابط التي تربط أجزاءه؛ فإذا ما مسحناه، وإلى الحد الذي نبلغه في مسحه، ظهرت الخريطة التي تصوره في عالم الوجود؛ وعندئذٍ — بطبيعة الحال — يكون بين الخريطة من جهة والبلد كما صورته الخريطة من جهة أخرى، نمط من العلاقات مشترك؛ وكل ما نقع فيه من أخطاء في رسمنا للخريطة، نتيجة لنقص إجراءات المسح، سنراه أيضًا ماثلًا في القضايا التي نؤلفها عن العلاقات الكائنة بين أجزاء البلد؛ وأما المذهب القائل بوجود تشابه في البناء (وأقصد بالبناء هنا انعدام الجانب الإجرائي) بين علاقات الخريطة وعلاقات البلد المصور، فقد جاء نتيجة لأخذ الخرائط التي بلغت درجة كمالها — في حقيقة أمرها — خلال ما قد أديناه فيها من إجراءات مسحية منظمة، أخذ تلك الخرائط الكاملة بمعزل عن الإجراءات التي عملت على بنائها؛ وإن هذا المثل ليوضح لنا المغالطة التي تحدث دائمًا، كلما أخذنا القضايا أخذًا بغض النظر عن الوسائل التي مهدت السبيل لتكوينها. ولو سلمنا بأن الخريطة نمط من علاقات، وجدنا أن «العلاقة» بين نمطها هذا وبين نمط العلاقات في البلد المصور، هي علاقة أدائية؛ فهي علاقة تتكون خلال ما يتم في مراحل السير التي تتوسط بين البداية والنهاية، من إجراءات جديدة تمليها هذه العلاقة نفسها، ثم تجيء نتائج هذه الإجراءات فتصبح لنا بمثابة الوسيلة التي نستعين بها على اختبار صدق الخريطة؛ فالخريطة أداة وسلية لإجراءات نجريها وفق إرشادها، مثل السفر، وتخطيط الطرق للرحلات، وتتبع حركات البضائع والناس؛ ولو كنا لنأخذ هذا الاعتبار عندما ننظر إلى مادة الرياضة، كان لا بد لنا — بطبيعة الحال — أن نلاحظ بأن الإجراءات الجديدة التي ترشدنا فيها مادة الخريطة من جهة ومادة الرياضة من جهة أخرى، تختلف من حيث الصورة في حالة منهما عنها في الأخرى؛ في حالة الرياضة لا تكون الإجراءات وعواقبها أمورًا واقعة في الوجود الفعلي، كما هي الحال في علاقة الخريطة بالسفر وما إليه، وبما يترتب على ذلك من عواقب أما إذا نظرنا إلى تطور المادة الرياضية من حيث هي كذلك، ألفينا الشبه كاملًا بين الحالتين من ناحية قيامنا بالإجراءات قيامًا أدائيًّا؛ فليست المادة الرياضية التي تتهيأ لنا في أية لحظة من الزمن، تشير إلى شيء في الحقيقة الوجودية الخارجية، فهي لا تشير إلى «عالم الإمكانات» كما يظن، بل تشير إلى إجراءات جديدة يمكن أداؤها في تحويل عناصرها بعضها إلى بعض. إن ما تتضمنه الفقرة السالفة — فيما يختص بتوضيحنا للمادة الرياضية — هو بمثابة التمهيد لموضوع تعدد المعاني لكلمتي «علاقات» و«علاقي» عند تمييزنا للصورة في حالتي «الحدود المتعلقة» — وقد تسمى المتضايفات — و«العلاقات التي تصل الحدود» — وقد يُسمَّى التضايف؛ فالحدود تكون متعلقة بعضها ببعض بالمعنى الذي يجعلها مضافة إحداها إلى الأخرى، حيثما تتضمن تلك الحدود — علاوة على العلاقة الخاصة التي تدل عليها تلك الحدود — مفردات أو أنواعًا تتسم بسمات أو تتعلق بعلاقات غير العلاقة الخاصة المذكورة؛ أعني حيثما لا تكون العلاقة المذكورة مستوعبة لدلالة الحدود المتعلقة استيعابًا يستغرقها جميعًا، فكلمتا «والد» و«ابن» حَدَّان متضايفان، سواء أطلقناهما على فردين معينين أو على نوعين؛ لكن الأفراد الذين هم آباء وأبناء، يتسمون بسمات كثيرة أخرى ويتعلقون بعلاقات كثيرة أخرى؛ لا بل إنهما ليتعلقان أحدهما بالآخر بهذه العلاقة المعينة لأنهما يتصفان بصفات أخرى؛ أما «الأبوة – والبنوة» (بالمعنى المجرد) فحَدَّان يتعلقان «بعلاقة» تستنفد معنى الحدين بأكمله؛ والفرق بين الحالتين، هو الفرق الذي نعبر عنه في اللغة بهاتين اللفظتين الآتيتين على التوالي: «اسم عيني» و«اسم مجرد»؛ هذا إلى أنه ليس هنالك علاقة ضرورية تحتم أن يكون الرجل المتعلق بغيره على أنه والد، متعلقًا أيضًا بغيره على أنه أخ؛ فلأن يكون أخًا أو لا يكون، مسألة تتصل بالواقع، وتقررها المشاهدة؛ لكنه يجوز أن يكون هنالك «نسق من علاقات القربى» يقتضي أن تكون الأبوة والأخوة — داخل النسق — متعلقين بالضرورة، بينما يكون كلاهما متعلقين — بحكم تكوين النسق نفسه — بالعمومة وبنوة العمومة، وهكذا؛ كما هي الحال في قائمة مجردة للأنساب توضع لتشمل شمولًا جامعًا كل ضروب العلاقة في نسق من ممكنات القربى؛ فلو نظرنا إلى المناطق القطبية على خريطة «ميركيتور» المألوفة، على أنها متضايفة (بالمعنى الذي حددناه) مع الأقاليم الاستوائية، نتج عن ذلك أن تكون الخريطة باطلة في تمثيلها للواقع؛ لكننا إذا سلمنا بالإحداثيات التي تعرف هذه الطريقة المعينة من طرائق الرسم، وجدنا بين المناطق القطبية والمناطق الاستوائية علاقة ضرورية داخل هذا النسق الخاص؛ وإذن فحين يُقال عن المادة الرياضية إنها تتألف من علاقات بين علاقات، لا يكون هذا القول محدد المعنى؛ ففي حالة الأفراد والأنواع، تتضمن «علاقات العلاقات» دائمة إشارة إلى المواد المتعلقة — إشارة مضمرة أو صريحة — (وأعني بالمواد المتعلقة الأفراد والأنواع) التي لا يمكن أن نقرر وجودها أو عدم وجودها إلا عن طريق المشاهدة وحدها؛ إذ إنه بغير إشارة كهذه للعناصر من حيث هي حدود للعلاقات المتعلق بعضها ببعض، تكون (أعني علاقات العلاقات) تصورًا ذهنيًّا أجوف؛ لكن روابط العلاقات — بحكم طبيعتها نفسها — يتعلق بعضها ببعض في نسق — وطبيعة النسق تتقرر في الرياضة على أساس مجموعة المصادرات (أي الفروض الأولية المسلَّم بها بادئ ذي بدء). وبناءً على ذلك فنسق الروابط العلاقية — إذا حددناه على أساس معلوم — كما هي الحال في رسم خريطة على طراز من الرسم خاص، أو كما هي الحال في قائمة للأنساب نتصورها تصورًا مجردًا، يؤلف لنا أساس الإجراءات التي نجريها عند تحويلنا للمعاني الداخلة في ذلك النسق بعضها إلى بعض، لا بل إن هذا القول لأضيق مما ينبغي، إذ يفوته أن يذكر أن نسق المعاني المتعلق بعضها ببعض، إنما يعرف التعريف الذي يمكننا من إجراء مجموعة التحويلات التي يتحتم على أي تحويل منها، من الوجهة الصورية — وهي الوجهة التي تحددها صادرات النسق — أن يكون ضروريًّا من الناحية المنطقية؛ فبالمعنى الضيق الذي تعبر عنه العبارة الأولى، نقول إن الروابط العلاقية التي تربط الخرائط المرسومة بطرق مختلفة، والتي تربط أجزاء نسق الأنساب حين نتصوره تصورًا مجردًا، هي روابط رياضية في طبيعتها؛ غير أن الرياضة بمعناها الصحيح، إنما تتألف من تجريد العملية الإجرائية التي نجري بها التحويلات الممكنة (لا الفعلية) (أي نجري بها عملية إمكان التحويل)، تجريدًا يعمم مادتها على نحو لا نجده ماثلًا في المثلين المذكورين؛ فلئن كنا لا ندعي بأن تفسيرنا للموازاة الصورية القائمة بين الأنماط المتناظرة من الروابط العلاقية، وهو تفسير يفسرها بجانبها الإجرائي الأدائي، أقول إننا وإن كنا لا ندعي أن هذا التفسير يبطل تفسير الرياضة تفسيرًا يردها إلى أساس وجودي؛ إلا أننا نزعم أن تفسيرنا يجعل هذا التفسير الأخير غير ضروري للنظرية المنطقية، ويضعه موضع أية نظرية ميتافيزيقية أخرى، مما ينبغي أن تؤيد أو تفند على أسس ميتافيزيقية. لقد أردنا بالمناقشة السالفة أن نبين أن النمط العام لعملية البحث، يتمثل في الرياضة، وأن نبين كذلك كيف يجيء هذا التمثيل، وذلك أن عملية التجريد التي تدخل في كل بحث نعالج به الموجودات الخارجية، هي نفسها تعود فتتجرد وتعمم؛ وسنمضي في مناقشة أخرى نحاول بها أن نبين بطريقة أكثر تعينًا، كيف أن نمط البحث يتمثل في منهج الرياضة القائم على فرض المصادرات. إن بداية أي بحث تنبثق من مثول أمر مشكل معين؛ فالمشكلات المتصلة بأمور وجودية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، قد هيأت لنا — في أولى مراحل تاريخها — فرصة تنشأ فيها العمليات والمدركات الرياضية، من حيث هي وسائل لحل تلك المشكلات؛ فلما تطورت الرياضة، أخذت المشكلات تصور بالمادة الرياضية بمقدار ما يسع هذه المادة الرياضية في حالتها التي تكون عندئذٍ عليها؛ ولا تناقض بين أن تكون المضمونات الرياضية تصورية ولا وجودية في طبيعتها، وبين أن تكون للمادة الرياضية حالة خاصة في زمان ومكان معينين، تجعل لها وضعًا خاصًّا بين سائر الموجودات الفعلية؛ لأن هذه الحالة الخاصة نتاج تاريخي وحقيقة واقعة من حقائق التاريخ؛ فالمادة الرياضية كما هي قائمة في زمن معين، تكون بمثابة «المعطى» بمعناه النسبي؛ وإن حالتها كما تكون حقيقة قائمة بالفعل لتثير — عند تمحيصها — مشكلات يؤدي حلها إلى إعادة بناء تلك المادة؛ فلو لم يكن في المادة الرياضية كما هي «معروضة» أمامنا مواضع متناقضة، أي فجوات بين مكوناتها، لما كانت الرياضة أمرًا يستدعي العناية المستمرة، ولكانت موضوعًا فرغنا منه وختمناه. والوسائل المادية والوسائل المنهجية — كما قد ذكرنا في موضع سابق — تعملان جنبًا إلى جنب بحيث تكمل إحداهما الأخرى؛ وفي حالة الرياضة هنالك وسائل مادية، لها صفة المعطيات من الناحية الأدائية، على الرغم من كون الرياضة غير وجودية في طبيعتها؛ وهذه الوسائل المادية في الرياضة هي «العناصر» أو «الموجودات» التي تنصب عليها قواعد الإجراء؛ على حين تقوم هذه القواعد الإجرائية بمهمة الوسائل المنهجية؛ مثال ذلك العدد «٢» والعدد «٣» — في المعادلة ٢ + ٣ = ٥ — عنصران مما ينصب عليه الإجراء؛ على حين أن العلامة «+» والعلامة «=» هما الإجراءات نفسها التي تؤدى؛ ولا تناقض في قولنا إن المهمة الأدائية المنطقية في حالة المعطيات الوجودية، هي نفسها المهمة الأدائية المنطقية في حالة العناصر أو الرموز الرياضية، مع قولنا في الوقت نفسه إن هذه الأخيرة ذات طابع لا وجودي بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة؛ بل الأمر على خلاف ذلك، إذ إن شروط إمكان التحويل، التي لا بد للمضمونات الرياضية من استيفائها، لتتطلب أن يكون هنالك «معطيات» تتحدد على أساس الإجراءات وقواعد إجرائها، مما نقوم بتنفيذه فعلًا، أو مما يُراد لنا أن نقوم بتنفيذه بوساطة تلك المعطيات، وعليها، أقول إن تلك «المعطيات» تتحدد على أساس الإجراءات وقواعد إجرائها فقط، وهي تتحدد على ذلك الأساس تحديدًا يستوعبها جميعًا. وهكذا انتهى بنا البحث إلى ذكر صريح لمنهج الرياضة الذي يقوم على فرض مصادرات معينة؛ فكل نسق علمي كائنًا ما كان — إذا ما حُلل ورُتب منطقيًّا — وُجد أنه منطوٍ على قضايا معينة، تكون لهذا النسق قضاياه الأولية؛ وهذه القضايا الأولية هي المصادرات لكونها تقرر الشروط التي يجب أن تحققها القضايا التي ستنتزعها داخل ذلك النسق؛ ففي نسقات العلم الطبيعي، تتضمن الشروط الواجبة الاستيفاء (١) عناصر قررتها المشاهدة الموجهة أي المشاهدة التجريبية، و(٢) إجراءات في مستطاعها أن تنفذ على مادة الوجود الخارجي؛ وأما القضايا الأولية التي هي المصادرات في النسق الرياضي — فهي — كما قد بيَّنا مطلقة من هذين الشرطين؛ لأن مضموناتها بالنسبة إلى العناصر التي نجري عليها إجراءاتنا، وإلى المنهج الذي نتبعه في تلك الإجراءات، لا يحددها سوى قابلية التحويل. وبعبارة أخرى فإن مصادرات النسق الرياضي تقرر العناصر، والطرائق التي نتناول بها تلك العناصر، في علاقتها أحدها بالآخر، حيث ترتبط العناصر ارتباطًا متبادلًا دقيقًا، خذ — مثلًا — مصادرة كهذه: إذا كانت «أ» و«ب» عنصرين في المجال «ك» كانت «أ ب» (أ × ب) عنصرين في نفس المجال «ك»؛ فها هنا العناصر التي نصادر بها هي «أ» و«ب»؛ والإجراءات التي نصادر بها تتمثل في «واو العطف» وفي العلامة «×» أو في «أ ب»؛ فالقضية الأولية لا تصادر بادئ ذي بدء بعناصر معينة، ثم تعقب على ذلك بالمصادرة — بوساطة قضية أولية أخرى — على إجراء معين، بمصادرتين منفصلتين؛ بل إن العناصر والإجراءات توضعان معًا في مصادرة واحدة، بحيث تعتمد فيها العناصر والإجراءات كل على الأخرى من الوجهة المنطقية؛ فالعنصر «أ» يعرف تعريفًا من شأنه أنه إذا كانت العملية المرموز لها ﺑ «واو» العطف ممكنة التطبيق، كانت العملية المرموز لها بالعلامة «×» ممكنة التطبيق بالضرورة فالعناصر تقام منسوبة إلى الإجراءات التي ستعمل على ربطها بعضها ببعض، كما تتقرر الإجراءات وقواعد إجرائها منسوبة إلى العناصر؛ فالإجراءات التي تقررها المصادرات، لا تتعين إلا على أساس التكوينات التي يباح لتلك الإجراءات أن تدخل فيها وفق ما تقرره المصادرات؛ فمثلًا العملية الإجرائية التي تدل عليها العلامة «×» هي أية عملية إجرائية كائنة ما كانت، لا يشترط فيها سوى أن تحقق شروط تبادل الحدود وترتيبها وتوزيعها فيما يختص بالإجراء الذي تدل عليه العلامة «×». ولهذا السبب يتلاقى الوصف والتعريف — وهما شيئان مختلفان من حيث الصورة المنطقية في حالة المادة الوجودية — يتلاقيان بالنسبة إلى عناصر المادة الرياضية أو معطياتها المادية، كما يتلاقى الاستدلال (استدلال شيء من شيء) واللزوم (لزوم قضية من قضية لزومًا استنباطيًّا)؛ فالعناصر هي كما يقرر لها تعريفها أن تكون، فالتعريف هو الذي يؤلف كيانها، ولا شيء سوى التعريف وأما طرائق الإجراء، التي تقرر المصادرات علاقتها المتبادلة مع العناصر، فهي — من جهة أخرى — حلول أكثر منها تعريفات؛ لكن لا التعريفات ولا الحلول يمكن الخلط بينها وبين البديهيات بالمعنى التقليدي الذي يجعل البديهيات حقائق واضحة بذاتها؛ فالحل من الحلول إنما يختص بطرائق المنهج التي لا بد من التزامها التزامًا دقيقًا، والتعريف من التعريفات يقرر العناصر التي يُنتظر أن تؤدَّى الإجراءات بها وعليها، بهذه المناهج المخصصة التي تتبع في بناء تكوينات من العناصر، مما من شأنه أن يتمخض عن تحويلات ترد في النظريات التي تستدل من المسلَّمات الأولى؛ هذا هو الضابط الذي لا ضابط سواه في تحديد معنى العناصر الرياضية، ومعنى ذلك أن الضابط صوري بالمعنى الدقيق؛ فليس ضابط معناها هو — كما كانت تزعم النظرية المنطقية القديمة في فلسفة الرياضة — مصدر كائن خارج النسق الرياضي ذاته، إذ كانت تلك النظرية تزعم أن العناصر الرياضية تشير إلى «ماهيات» خارجية. إن كل نسق علمي يتألف من مجموعة مصادرات مستقلة — في المثل الأعلى المنطقي — إحداها عن الأخرى، أو هي لا تتدخل إحداها في الأخرى من حيث الإجراءات التي تؤدى بناءً عليها؛ وذلك لأن تآلف الإجراءات هو الطريق الوحيدة التي يمكن بها أن يحدث استطراد في مجرى التفكير الاستنباطي؛ وهذه المصادرة التي ذكرناها هي سبيل لإبراز مبدأ يقول إن أي عنصر يخضع لشرط الجمع المنطقي، يخضع أيضًا لشرط البدائل (إما … أو …) ومصادرة أخرى، هي: إذا كانت «أ» عنصرًا في المجال «ك» كانت «أ» هي الأخرى عنصرًا في ذلك المجال؛ فهذه مصادرة تقرر أن أي عنصر مما يرد في السياق، إذا كان يستطاع إثباته، كان بالتالي قابلًا لعملية النفي؛ وبهذا يتحقق الشرط المنطقي الذي يجعل عمليتي الإثبات والنفي على صلة متبادلة إحداهما بالأخرى؛ ولما كانت القضايا الأولية التي تؤلف مجموعة المصادرات من شأنها أن تملي عددًا كبيرًا من العمليات، تؤدي إلى جواز أن تتآلف نتائج أحد إجراءاتها مع نتائج الإجراءات الأخرى، كان من الجائز للمصادرات في نسق ما أن تكون هي النظريات في نسق آخر، والعكس صحيح؛ لأن الشرط المنطقي النهائي الوحيد، الذي يتطلب الاستيفاء، هو أن تُعَرِّف المصادرات عناصر النسق وترسم طرائق تناول تلك العناصر حين ترد في إجراءات عدة متآلفة كالتي تستلزم النظريات لتكون نتائج لها، وهي الإجراءات التي تحقق الشروط كافة التي يشترطها اتصال القضايا وانفصالها. وبناءً على ذلك فالتعادل داخل نسق معلوم، هو دائمًا غاية مقصودة أو هدف يُراد بلوغه؛ وتمشيًا مع وجهة النظر التي سبق أن بسطناها، فهذا التعادل من حيث هو غاية مقصودة، يقوم أيضًا بمهمة هي أن يكون وسيلة نهتدي بها في ترتيبنا للظروف التي تهيئ لنا سبيل بلوغها ترتيبًا ينطوي على اختيار طائفة من العناصر دون أخرى؛ والتعادل في الرياضة يتخذ صورة المعادلة؛ فإذا كان التعادل وقابلية الإبدال، في البحث الذي ينصب على الموجودات الخارجية، يتأثران بقابلية انطباق نتيجة البحث الأخيرة على كائنات الوجود الخارجي، ومن ثَم فهما خاضعان للشروط المفروضة عليها لتحقيق هذه النهاية؛ ففي الرياضة — ما دام التعادل (أو المعادلات) هي الغاية المقصودة المراد بلوغها داخل نسق معلوم وفي ظل قاعدة فعالة في اختيار العناصر ثم ترتيبها — لا يكون بنا حاجة إلى تنويع العمليات التي نحدد بها مضمونات النسق الذي نحن إزاءه، لا يكون بنا حاجة إلى هذا التنويع من أجل القيام بعمليات أخرى (إذ لا يقصد بها في التفكير الاستنباطي أن تنتهي إلى قضايا كلية يمكن تطبيقها تطبيقًا عمليًّا على موجودات العالم الخارجي)، على شرط أن تجيء نتائجها مستوفية للشروط التي يقتضيها وصولنا في النهاية إلى تعادل أو إلى معادلة، حتى لنستطيع أخذها إما على صورة مبسطة أو على صورة موسعة، لنجعل منها مادتنا فيما نقوم به بعدئذٍ من عمليات التحويل. فحين نكون داخل النسق الذي حددته لنا مجموعة معينة من المصادرات، يكون التعادل هو هدفنا المقصود؛ فإذا ما كان هنالك مجموعات مختلفة من مصادرات، كل منها تحدد نسقًا غير النسق الذي تحدده الأخرى، لم يكن ثمة شروط لتحقيق التعادل بينها؛ فإن كانت قابلية التحويل على إطلاقها تتطلب أن تكون النظريات في أي من هذه النسقات، ممكنة التحويل بحيث نستطيع ترجمتها إلى نظريات في النسقات الأخرى، فإن هذا التحويل المتبادل بينها إنما يتحقق بما نوجده بينها من موازاة صورية؛ أعني أن الموازاة الصورية (كالتي تكون بين الخرائط التي رسمت وفق أنماط من الرسم مختلفة) هي بالنسية لقابلية التحويل بين النسقات، كالتعادل بالنسبة إلى التحويل كما يحدث فعلًا داخل نسق معين؛ غير أن إيجاد قابلية التحويل بين مختلف النسقات، يتطلب إيجاد نسق جديد ليكون حلقة الوصل بينها؛ فالأمر هنا شبيه بما لو كانت الترجمة من اليونانية أو اللاتينية أو الألمانية أو الفرنسية أو الإنجليزية … إلخ إلى بعضها، يتطلب إيجاد لغة جديدة أو مجموعة من رموز جديدة؛ مثال ذلك ما قد يحدث عندما جعلت النتائج المميزة للجبر والنتائج المميزة للهندسة، موازية إحداهما للأخرى بإيجاد هندسة تحليلية؛ فمن الخصائص التي تطبع مقولة قابلية التحويل في صورتها الشاملة المجردة، حين نُعَرِّف بهذه المقولة مادة الرياضة، أن إقامتنا لنسق رياضي معين، من شأنه — عاجلًا أو آجلًا — أن يقيم مشكلة خاصة بإقامة فرع جديد من الرياضة، يمكن بوساطته أن تترجم النظريات الخاصة بالنسق الجديد إلى نظريات النسقات الأخرى، وهو جانب يساعدنا على تفسير الخصوبة التي لا حد لها في تقدم الرياضة. وفي الرياضة مقولة هامة، هي مقولة «الدورية» أو «التجمع» والذي يحددها هو تآلف العمليات تآلفًا يجعل الواحدة منها تحد من الأخرى؛ وليس من شك في أن المصدر الأصلي في التاريخ للترتيب الدوري، كان في موجودات العالم الخارجي؛ فيذهب الظن ببعضهم — مثلًا — إلى أن أول اسم للعدد «٢» كان قد استمد من تجمع طبيعي، كجناحي الطائر؛ وأن اسم العدد «٣» قد استمد — مثلًا — من الترتيب التماثلي لأوراق الشجر في مجموعات ثلاثية؛ ومهما يكن من أمر في هذا الشأن، فليس من شك في أن التجمع الدوري الذي يؤلف نظامنا العشري قد استمد بإيحاء من الحقيقة الواقعة التي هي أصابع اليدين العشر و/أو أصابع القدمين العشر؛ فلئن كان النظام العشري قد جاء اتفاقًا في أصله التاريخي، إلا أن ثمة صورة ما من صور التجمع الدوري (مستقلة بالطبع عن الاعتبارات الوجودية) أمر ضروري، لا اتفاقي؛ وذلك أنه ما لم تكن المجموعات المتآلفة قد اتخذت صورة التكرارية في العمليات الإجرائية في حالة تجمعاتها (أي إنه لو كانت تلك الصورة مقصورة على تكرار حدوث العمليات وهي فرادى) لما كان هنالك تكامل في العمليات التي تم أداؤها بالفعل؛ والتجمع ظاهر ظهورًا جليًّا في تكرار موضع العدد ١٠ في نظامنا العشري، لكن المبدأ يتمثل في أي عدد آخر، كالعدد «٢» مثلًا وإلا لما كان هناك سوى تتابع لا عددي كدقات الساعة المتتابعة حين لا يرتبط بعضها ببعض في وحدة تضمها؛ والدورية في سلسلة الأعداد اللانهائية، تعتمد على طبيعة العمليات التي توجدها، وهي طبيعة تتميز بعدم التكامل إلى حد ما؛ والعكس صحيح بالنسبة للأعداد الصحيحة الكاملة، فأي عدد منها هو تكامل لعمليات تحدد وتعبر عن دورية في الترتيب على وجه ما؛ ومفاهيمنا عن الخط والسطح والحجم — وما يتبعها من مقولات فرعية — هي أمثلة من التجمعات المتكاملة؛ وإذا كان هذا القول في ظاهر الأمر لا يصدق — فيما يبدو — على فكرتنا عن النقطة، فإن اندراج النقطة مع غيرها من التجمعات المتكاملة ليظهر حين نلحظ اعتماد فكرتنا عن النقطة اعتمادًا كاملًا على فكرتنا عن الخطوط والأسطح والأحجام؛ لا بل إنه ليصح أن يُقال بأن النقطة الرياضية — كاللحظة الرياضية — تُخرج إلى العلن الصريح فكرة الفترية المجردة المتضمنة في الدورية المجردة. ونستطيع أن نطبق النتائج التي وصلنا إليها على تفسيرنا للصفر واللانهاية؛ فقد ذكرنا مرارًا فيما سبق أن بسطناه من موضوعات منطقية مختلفة، العلاقة المتبادلة بين الإثبات والنفي (أو تحديد ذاتية الشيء وتمييزه عن سواه، أو جمع أفراد النوع معًا ومنع ما عداها من الدخول معها)؛ ولما كان هذا الشرط مستحيل التحقق تحققًا كاملًا في البحث الوجودي، لأن ظروف الوجود الخارجي، بالنسبة إلى أي قضية مستدلة لا تقيم نسقًا مقفلًا، نشأ عن ذلك أن كانت قضايانا عن الوجود الفعلي ذات طبيعة احتمالية، بالقياس إلى ما هو صادق بالضرورة؛ وأما المادة الرياضية فلها من التكوين الصوري الصرف ما يستوفي هذا الشرط؛ أي إن المثبت والمنفي يكونان في هذه الحالة من التكامل التام أحدهما مع الآخر، حتى ليجوز أن يُقال إن إحدى القواعد الأولية الثابتة هي استحالة أن تتصف عملية معينة بصفة لا يمكن لعملية أخرى أن تنفيها؛ وإذن فالصفر ليس رمزًا لمجرد انعدام العمليات الإجرائية، كلا ولا هو — كما هي الحال في الفئة الفارغة التي قد ترد في القضايا الوجودية — رمز لنوع خالٍ من المفردات في لحظة زمنية معينة؛ بل هو رمز يشير إلى التوازن التام والضروري، الذي تتسم به عمليات تحديد ذاتية الشيء المصحوب بتميزه مما عداه، أي تتسم به عمليات جمع مفردات النوع في نوعها، ومنع ما عداها من الدخول معها؛ وإن معادلة من قبيل قولنا «أ – ب = صفر» لتعبر تعبيرًا بسيطًا عن هذا التكامل بين العمليتين. على أن المهمة المنطقية الإيجابية التي يؤديها الصفر، هي أنه بغير الصفر تضيع منا العمليات التي تحدث قابلية «للتحويل كاملة»؛ فالأعداد السالبة في سلسلة الأعداد — مثلًا — لا يكون لها مسوغ مشروع بغير الصفر، لأن الصفر — من حيث هو أحد الأعداد — هو الذي يحدد الاتجاه؛ وفي الرياضية التحليلية مثل أفضل، حين يكون الصفر هو نقطة ابتداء الموجهات داخل النسق؛ إذ إن الصفر عندئذٍ — باعتباره مركزًا لنسق من إحداثيات — هو الذي يتيح لنا إمكان إجراء عمليات في شتى الاتجاهات، إمكانًا فيه تجرد وتعميم؛ وهذا من شأنه أن ينتج لنا نتائج، لها من التحديد ما يجعلها مضمونات متعلقًا بعضها ببعض داخل نسق من التحويلات معلوم الحدود؛ هذا إلى أن الصفر — باعتباره رمزًا يشير إلى مركز النسق المحدد بوساطة الإحداثيات — هو الرمز الدالُّ على تلك العلاقة التامة التكامل التي تقوم بين عمليات الإثبات والنفي إحداهما إزاء الأخرى. وأما اللانهائي — بمعنى غير المنتهي عند خاتمة معينة — فهو رمز نرمز به إلى ذلك الجانب في طبيعة أية عملية إجرائية — كائنة ما كانت — وأعني به صفة التكرارية المتأصلة فيها، ما دمنا نأخذ العملية المعينة قائمة وحدها؛ وإذن فلانهائية العدد أو لانهائية الخط (متميزة من الخطوط حين تكون أجزاء مقتطعة من خط معين، وهي طابع يميز هندسة إقليدس) ليست تعني عددًا لانهائيًّا معينًا، أو خطًّا لانهائيًّا معينًا؛ وإن الفلسفة الرياضية الحديثة، لتخلع معنًى آخر أكثر تعميمًا على فكرة اللانهائي؛ ألا وهو معنى التقابل، وبخاصة ذلك التقابل الذي يكون بين الجزء والكل الذي يكون ذلك الجزء جزءًا منه؛ ولما كانت مقولة التقابل متضمنة في إمكان التحويل (وذلك في الحالتين: حالة التعادل الذي يكون بين أجزاء النسق الواحد، وحالة التوازي الصوري الذي يكون بين مختلف النسقات) نشأت مشكلة منطقية، وهي هل نفسر التقابل الوارد في تعريفنا للانهائي بهذا التعريف، تفسيرًا إجرائيًّا، أم نفسره تفسيرًا آخر؛ فإذا فسرناه تفسيرًا إجرائيًّا، أدى بنا المذهب القائل بأن اللانهائية معناها هو أن المجموعات «مساوية» لأجزائها، إلى إيجاد تقابل بين شيئين يكون بينهما موازاة صورية، بعمليات نجريها؛ وعندئذٍ نكاد نستطيع تفسير التقابل في مثل هذه الحالة المعينة، تفسيرًا يجعله دالًّا على «التقابل» بمعناه المجرد. وليس معنى لفظ «يساوي» في هذه الحالة هو التعادل الذي نجعله — داخل نسق معلوم — غاية مقصودة وضابطًا يوجه عملياتنا الإجرائية؛ فمثلًا العدد ٧ من سلسلة الأعداد الفردية يقابل العدد ٤ في سلسلة الأعداد كلها زوجية وفردية؛ والتقابل هنا حقيقي، كما هو حقيقي في تقابل ٩ مع ٥، وتقابل ١١ مع ٦ … إلخ؛ ولئن كان من الصواب أن نقول إن الأعداد الفردية المذكورة إن هي إلا «جزء» من مجموعة «الكل» التي تشمل الأعداد الزوجية الفردية معًا، إلا أنه لا يلزم عن ذلك أن تكون العلاقة بين المجموعتين، هي نفسها العلاقة بين الكل والجزء، بالمعنى الذي تتمثل به علاقة «الكل» و«الجزء» داخل مجموعة الأعداد كلها؛ نعم إن تتابع الأعداد الفردية هو جزء من مجموعة الأعداد كلها، ما دام يحدث بنفس العملية الإجرائية ذاتها التي تحدد المجموعة لكننا إذا نظرنا إليها على أنها مجموعة قائمة بذاتها، هي مجموعة الأعداد الفردية، وجدنا العملية التي تحدد هذه الأعداد مختلفة عن العملية التي نحدد بها سلسلة الأعداد كلها، وإذن فبهذا الاعتبار لا تكون الأعداد الفردية جزءًا من المجموعة الأخرى؛ إذ لو أخذنا العلاقة بينهما على أنها علاقة «الكل بالجزء» بمعناها المألوف، كان ذلك شبيهًا بقولنا إن خريطة إنجلترا حين تكون موجودة داخل إنجلترا، هي «جزء» من «الكل» الذي هو إنجلترا؛ مع أن العلاقة ذات الدلالة بينهما هي علاقة الموازاة الصورية بين النظائر؛ وإنه لمما نسوقه على سبيل التمثيل الواضح لقابلية التحويل، هو استطاعتنا أن نوجد علاقة التقابل الذي يقابل جانبًا من هنا مع جانب من هناك من مكونات المجموعتين؛ فعدد العمليات التي نؤديها في ترتيبنا الأعداد الفردية، هو نفسه دائمًا عدد العمليات المتضمنة في أي عدد من مجموعة الأعداد الفردية والزوجية معًا، كما هي الحال في ٧ و٤، وفي ٩ و٥، وهكذا؛ لكن في حالة ١، ٢، ٣، ٤ … إلخ — باعتبار هذه الأعداد أجزاء من الكل الذي هو ١٠ مثلًا — فعلى الرغم من أن الفرق بينها من حيث هي أجزاء مرهون بتكامل العمليات التي نجريها، إلا أن منهج العملية الإجرائية هنا ليس هو نفسه المنهج الذي نميز به الأعداد ١، ٣، ٥، ٧ من مجموعة الأعداد الفردية؛ ولهذا فهذه الأعداد مختلفة من ناحية الإجراء الذي نجريه في استخراجها، عن الأعداد ١، ٣، ٥، ٧ التي تقع في المجموعة العددية الأخرى، ويجوز لنا أن نعد التقابل بينهما (ولو أنه ليس تقابل التعادل) تقابل الموازاة الصورية التي تكون بين النظائر؛ إذ هو تقابل يجعل في حدود الإمكان إيجاد طبقة جديدة من المفاهيم الرياضية، كما هو الشأن في الحالة التي أسلفنا ذكرها عن النظائر بصفة عامة؛ وهكذا يمكننا أن نعد مقولة اللانهاية بمثابة الصياغة التي نعبر بها عن صفة التقابل في حالتها المجردة. ونستطيع أن نسوق مثلًا يوضح ما تتضمنه الفقرات السالفة، نستمده من تفسير النقط المكانية واللحظات الزمانية بطريقة «التجريد من عالم الأشياء الواقعة»؛ فيستحيل أن «نجرد» النقطة بمعناها الرياضي تجريدًا يكون معناه اقتطاع جزء معين نختاره من العلاقات القائمة فعلًا بين ما في العالم الطبيعي من خطوط أو أمكنة أو أجسام؛ لأن النقطة من طراز منطقي مختلف عن أي رقعة مكانية في الطبيعة مهما تبلغ من ضآلة الحجم، كلا ولا هي مجرد انتهاء الامتداد المكاني؛ وذلك لأنه بغض النظر عن الصعاب المنطقية التي تكتنف ما هو سالب بحت، أو على الأقل تكتنف ما هو سالب في «لانهائيته»، فالنقطة تؤدي لنا مهمة إيجابية؛ فهي ليست مجرد امتناع الامتداد المكاني، كما أن الصفر ليس مجرد امتناع العدد؛ إذ النقطة حد علاقي (ولا أقول حدًّا نسبيًّا) بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة؛ فلا يمكن استخراجها بالتجريد من الموجودات المكانية — بالمعنى الحرفي لما هو ممتد في المكان — مهما تبلغ الرقعة المكانية من درجة الامتداد؛ فالنقطة تعني رابطة علاقية؛ والرابطة العلاقية التي تربط الشامل بالمشمول لا يمكن الحصول عليها منطقيًّا بأية عملية نختار بها جانبًا من بين علاقات الأشياء المشمولة بعضها في بعض والشاملة بعضها البعض؛ على الرغم من أن هذه العلاقة قد توحي لنا بفكرة الرابطة العلاقية بمعناها المجرد؛ فالرابطة العلاقية بمعناها المجرد تنطبق على الأجسام الطبيعية المشمولة في غيرها والشاملة لغيرها، انطباق الأبوة على من هم بين الناس آباء؛ فقولنا: «الخط مؤلف من نقط» ليس سوى طريقة للقول بأن عمليات التدخل الذي يقطع طريق السير، قد تتآلف مع العملية التي نرسم بها خطًّا رياضيًّا، تآلفًا من شأنه أن يحدد النقط؛ على حين أن قولنا: «إن الخط مؤلف من عدد لانهائي من النقط» ليس سوى طريقة للقول بأن العملية المركبة المذكورة من شأنها — كأية عملية أخرى في هذا المجال — ألا تضع خاتمة يقف الخط عندها. لقد قلنا في فاتحة هذا الفصل إن نظرية منطقية عن الرياضية لا بد لها أن تفسر أمرين معًا: فتفسر امتناع الضرورة في دلالة الرياضة على ما هو موجود في العالم الخارجي، وهو الامتناع الذي يجعل القضايا الرياضية قابلة لأن يبرهن على صدقها برهانًا صوريًّا؛ كما تفسر إمكان أن يكون للقضايا الرياضية دلالة وجودية إمكانًا يتخذ صورة التعميم؛ وقد شغلنا حتى الآن بأول هذين الأمرين؛ (وأما الأمر الثاني) فاستعمال الحساب في المعاملات التجارية العادية، والدور الذي تقوم به الرياضة في العلم الفيزيائي، ليكفيان لبيان أن قابلية التطبيق ممكنة، وأن الإمكان متحقق على نطاق واسع؛ وسأذكر نقطتين خاصتين بموضوع الإمكان. أمثلة كهذه — وهي أمثلة يمكن مضاعفتها إلى حد كبير — ليست من قبيل المصادفات العابرة؛ فبغير أن تكون لدينا فكرة ما — والفكرة في ذاتها بمثابة الإمكان، ومن ثَم فهي مجردة بقدر ما هي دالة على ما يمكن حدوثه — أقول إنه بغير أن تكون لدينا فكرة ما، لما كان هنالك من سبيل لإحداث التحويلات الوجودية إلا بأدوات عضوية؛ فذلك ظاهر من المدى المحدود الذي تقتصر عليه الحيوانات الدنيا في أوجه نشاطها؛ وكلما اتسع نطاق المدركات المجردة، ثم كلما اتسع مجال العمليات وازدادت تجريدًا، أعني العمليات التي بوساطتها تتطور تلك المدركات في مجرى التفكير الاستنباطي، كثرت بين أيدينا الأدوات الوسلية التي يمكن أن نؤدي بها العمليات الإجرائية في الطبيعة الخارجية، والتي من شأنها أن توجد لنا من المعطيات ما يصلح أن يكون أساسًا ملائمًا لاستدلال منظم واسع المدى؛ وأما إلى أي حد يمكن لهذه الإمكانات أن تتحقق بالفعل في لحظة زمنية معينة، فيتوقف على حالة العلم الفيزيائي في تلك اللحظة، ويتوقف بصفة خاصة على ما يكون بين أيدينا عندئذٍ من آلات مادية وتقنيات؛ على أن الإمكانات تظل قائمة تنتظر الفرصة التي تتيح لها أن تظهر ظهورًا عمليًّا. وليست دلالة المدركات الرياضية على موجودات العالم الخارجي — حتى حين يكون لها مثل هذه الدلالة — أمرًا مباشرًا؛ فمن المبادئ الأساسية في هذا الكتاب أن الدلالة إنما تتم بوساطة إجراءات تنصب على الوجود الخارجي على صورة تمليها وتوجهها المدركات العقلية؛ وما نريد إضافته هنا هو أن المدركات الرياضية في حالات كثيرة، أدوات لتوجيه العمليات الحسابية التي من شأنها أن تقدم بنتائجها طريقة تفسيرنا وترتيبنا للمعطيات الوجودية؛ وفي مثل هذه الحالات لا يكون ثمة تطبيق مباشر — حتى ولا من النوع الإجرائي — نوجد به المعطيات فلسنا نحصل على الأعداد اللامقيسة — مثلًا — بأية عملية لا تتضمن سوى القياس المادي المباشر؛ فأمثال هذه الأعداد ليست نتائج مباشرة لعمليات قياسية من هذا القبيل، بغض النظر عما إذا كانت هذه العمليات تتم داخل إطار المدركات العقلية التي تتضمن الأعداد اللامقيسة أو لم تكن؛ إذ إن الأعداد اللامقيسة ليست تصف النتائج المباشرة التي تتولد عن عمليات القياس؛ لكنها تُدخل في حدود الإمكان استخدام طرائق من الحساب تنتهي بنا إلى يسر في ترتيب النتائج التجريبية؛ وهذا القول نفسه يصدق على الدالات المتصلة؛ فلا هذه ولا الأعداد اللامقيسة تتيح لنا التفسير على أساس التطبيق الإجرائي المباشر، حتى في تلك الحالات التي تدخل فيها تلك الدالات المستمرة والأعداد اللامقيسة — عن طريق العمليات الحسابية التي تصبح ممكنة بفضلها — في الصياغة الختامية التي نصوغ بها قضايانا عن الوجود الخارجي؛ فأمثلة كهذه واضحة الدلالة على الجانب الدالي اللاوصفي من المدركات الرياضية حين تستخدم هذه المدركات في العالم الطبيعي فهي ذات مغزًى من الوجهة المنطقية، باعتبارها شاهدًا خاصًّا على أن القضايا الكلية (المجردة) أدوات وسلية وخطوات تمهيدية لما عساه أن يأتي بعدها؛ فما لم نفهم نتائج عمليات حسابية كثيرة مثل هذا الفهم، كان لزامًا علينا أن ننكر الصدق على القضايا التي تنتج لنا عن تلك العمليات الحسابية، لأننا لن نجد في الموجودات الخارجية ما يقابل مضموناتها. إن للملاحظات التي قدمناها هنا صلة واضحة بطبيعة اختبارنا لصدق القضايا وتحقيقها (انظر ما سبق [الفصل الثامن – الفهم والتصور الذهني])؛ إذ إنها تبرهن على أن التحقق من صدق فكرة أو نظرية مما يرد أثناء ممارستنا لعملية البحث ممارسة عملية، ليس مرهونًا بالعثور على كائن معين في الوجود الخارجي تتحقق فيه مقتضيات الفكرة أو النظرية، بل هو مرهون بترتيب منظم لمجموعة مركبة من المعطيات نعتمد فيه على الفكرة أو النظرية باعتبارها أداة وسلية.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/21/
المنهج العلمي
مهما يكن ما نقوله عن المنهج العلمي مما يميزه وما ليس يميزه، فهو على كل حال معنيٌّ بالتثبت من اقترانات السمات المميزة التي تصف الأنواع وصفًا يقيم الحدود الفواصل بينها بعضها بالنسبة إلى بعض؛ كما هو معنيٌّ بالتثبت من العلاقات المتبادلة بين المعاني المجردة التي تأتلف منها المدركات العقلية المجردة القابلة للتطبيق على نطاق واسع؛ والقضايا التي تنتج عن هذا التثبت هي تعميمات من صورتين: فهي إما تعميمات جامعة (للصفات المميزة للأنواع الخارجية) أو تعميمات كلية مجردة؛ والأولى وجودية المضمون، والثانية لا وجودية؛ ولقد أطلق على الطرائق التي نصل بها إلى التعميمات اسم «الاستقراء»؛ وأما الطرائق التي نستخدم بها تعميمات قائمة بالفعل، فقد أطلق عليها اسم «الاستنباط»؛ هذه ملاحظات أقل ما نفيده منها هو أنها تحدد مجال المناقشة؛ فأي تفسير للمنهج العلمي لا بد أن يكون قادرًا على أن يقدم إلينا مذهبًا متسقًا عن طبيعة الاستقراء والاستنباط، وعلاقتهما الواحد بالآخر؛ هذا إلى أنه لا بد أن يتفق مع ما هو جارٍ فعلًا في البحث العلمي كما يحدث عمليًّا. فبالنسبة إلى الاستقراء والاستنباط، لا يزال ميدان المنطق مليئًا ببقايا التصورات المنطقية التي تم تكوينها في عهد سابق لتطور المنهج العلمي، وبعض هذه البقايا متماسك تماسكًا يقل هنا ويكثر هناك، وبعضها الآخر يشبه الأنقاض شبهًا يقل هنا ويكثر هناك؛ وعلى ذلك فليس في مادة الدراسة المنطقية مجال يتطلب الإصلاح الشامل لجانبه النظري (وهو أمر جعلناه موضوعًا لفصل سابق) بمثل الضرورة الملحة التي يتطلبه بها الاستقراء والاستنباط؛ فمما قد جرى به التقليد أن نكرر العبارة القائلة بأن الاستقراء يسير من الجزئيات إلى ما هو عام، وأن الاستنباط يسير من العام إلى الجزئيات؛ لكن أحدًا لم يمحص تمحيصًا نقديًّا مدى سلامة هذه الأفكار، أعني أن يمحص سلامتها بحيث يرى إن كانت على وفاق مع ما يجري فعلًا في البحث العلمي؛ فكثيرًا ما تكون نتيجة ذلك أن يرغم المنهج العلمي إرغامًا على التقيد بمدركات سابقة التكوين ولا علاقة لها بما هو قائم في واقع الأمر؛ ولا طريق إلى خلاصنا من مثل هذا التصرف إلا بتحليل الاستقراء والاستنباط من وجهة نظر مناهج البحث كما هي قائمة بالفعل. إن أفكارنا التقليدية، والتي لا تزال سائدة، عن الاستقراء والاستنباط، مستمدة من المنطق الأرسطي، الذي كان في عصره — كما قد بينا — تنسيقًا للصور المنطقية على أساس اعتقادات معينة في حقيقة الوجود وما له من نواميس؛ وما دام التقدم الفعلي الذي طرأ على البحث العلمي قد أدى بنا إلى نبذ هذه الاعتقادات الأساسية فيما يختص ببناء «الطبيعة»، جاز لنا أن نتوقع قبل البداية أن نجد أفكارنا عن الاستقراء والاستنباط المستمدة من المنطق الأرسطي، غير ذات صلة بالمنهج العلمي كما يمارسه العلماء ممارسة فعلية، إلى الحد الذي يجعلها مصدرًا للخلط والتشكك حين نستخدمها أساسًا لتفسيراتنا لا ينطوي على فهم صحيح؛ ومع ذلك فلن نقيم مناقشتنا على أساس ظن محتمل قبل أن نتبين حقيقة الأمر؛ وسأبدأ ببيان موجز عن النظريات الأرسطية الأصلية، وعلاقتها بالأساس الكوني الذي قامت عليه؛ ثم أقدم موجزًا مختصرًا لكيف ينبغي أن نفهم الاستقراء والاستنباط على أساس المبادئ المنطقية التي سبق أن بسطناها في هذا المؤلف، ثم نعرض آخر الأمر تحليلًا مستقلًّا عن هذا وذاك. وفي كل من هاتين الصورتين نرى الاستنباطي والقياسي مترادفين لشيء واحد بذاته؛ فلو سلمنا بالمزاعم المنطوية في هذا المذهب عن النواميس الكونية، ألفينا معنًى أصيلًا في الفكرة القائلة بأننا نسير من العام إلى الجزئي؛ ففي حالة القياس البرهاني، يكون الانتقال من الأوسع شمولًا إلى الأضيق شمولًا، وهنا نفهم «الجزئي» بمعناه المنطقي الدقيق، نفهمه على أنه معادل لتمييزنا في الأنواع بين ما هو أخص مما هو شامل شمولًا كليًّا؛ لكن «الجزئي» يختلف معناه في حالة القياس الظني؛ إذ إن أي شيء متغير هو جزئي بمعنى أنه ناقص أو غير كامل؛ أما والأشياء المحسة هي أشياء مشاهدة في تكثرها، متميزة في ذلك من الأنواع الثابتة التي تنتمي إليها، فهي لا تعرف معرفة صحيحة — كما قد ذكرنا الآن — إلا إذا أدرجناها — وبالدرجة التي ندرجها بها — تحت قضايا كلية نقرر بها طبيعة الأنواع المتأصلة في كيانها؛ فإذا ما أدرجت الجزئيات على هذا النحو، «لزمت» من حيث هي جزئيات عما هو عام. ليس هنالك إلا تشابه لفظي بين صياغة الطرائق الاستقرائية للعلم القديم وللعلم الحديث على التوالي؛ فكلاهما يبدأ من معطيات مبعثرة (أو من جزئيات) ثم يتحرك نحو تكوين التعميمات؛ ولكن التشابه بينهما لا يجاوز الصيغة الغامضة التي تقول: «السير من الجزئيات إلى ما هو عام»، (١) فالجزئيات مختلفة فكرتها في الحالتين اختلافًا جوهريًّا، و(٢) عملية «السير» أو الطريقة التي يوصل بها من الجزئيات إلى ما هو عام جد مختلفة في إحدى الحالتين عنها في الأخرى؛ أما طبيعة الإجراءات الاستقرائية المتبعة في العلم الآن، فسنجعلها موضوعًا خاصًّا لتحليل يأتي فيما بعد؛ ولكن بغض النظر عن نتائج هذا التحليل، فيكفينا استعراض للفكرة الأرسطية عن الاستقراء لنتبين عدم صلاحيته — بحكم طبيعته — لأن يحقق شروط العلم الحاضر؛ فالنظرية الكونية عند أرسطو تفترض بادئ ذي بدء أن كل شيء مما يمكن معرفته، هو شيء ينتمي إلى نوع معين أو فصيلة معينة؛ فحتى الإدراك الحسي ضرب من المعرفة يجيء في مرتبة دنيا، إلى الحد الذي ندرك به الشيء المرئي أو المسموع أو الملموس، من حيث هو فرد ينتمي إلى فصيلة معينة، وأدنى درجة من درجات المعرفة، وهي مجرد الإحساس، هي درجة ندرك بها مباشرة من الكيفيات ما تحدده «الصور الحاسة» كما هي الحال في حاسة اللمس حين ندرك بها الصلب واللين؛ والإحساس والإدراك الحسي ضربان من المعرفة تسودهما «المادة» التي هي مبدأ التغير، ومن ثَم فهي مبدأ النقص في «الوجود»، مثال ذلك حين يتحول اليابس إلى رطب؛ وبصفة عامة فإن «الجزئي» الذي «يعرف» بالإدراك الحسي، خاضع للكون والفساد أي إنه خضع «للولادة» و«الموت»؛ كالشجرة تخرج من البذرة ثم تتحلل وتزول؛ والإدراكات الحسية المتكررة هي التي تؤلف الخبرة؛ وعند الموهوبين في ملكاتهم الفطرية من الناس، الذين لهم القدرة الكامنة على التفكير العلمي والفلسفي، تكون الصورة مدركة من حيث هي صورة، ويتم ذلك شيئًا فشيئًا، فهي تدرك أول الأمر بكونها صورة تخضع المادة، ثم تدرك آخر الأمر بكونها صورة تحررت تحررًا كاملًا من أية رابطة تربطها بالمادة؛ وهكذا ينشأ تعريف الأشياء وتصنيفها، وتتكون المعرفة العلمية على أساس الإدراك العقلي؛ أو على أساس رؤية حقائق الأشياء رؤية مباشرة؛ واختصارًا فإن الإنسان ليلم بالمعنى الكلي وهو على طبيعته الأصلية؛ وهذه العملية هي التي منها يتكون — في التصور القديم — «السير» من الجزئيات إلى الكلي، الذي هو الاستقراء عندهم؛ «فالصور» التي لا يطرأ عليها تغير، والتي هي ضرورية وكلية، تكون ماثلة منذ البداية فيما يدركه الحس والإدراك الحسي من كيفيات وأشياء؛ وما الاستقراء إلا العملية التي نستخلص بها هذه الصور من اشتباكها «بالمادة» حتى يمكن إدراكها بالعقل وهي في طبيعتها الجوهرية الخالصة؛ على أن تعريف «العقل» هو على وجه الدقة هذا الإخراج إلى الوجود بالفعل في عالم المعرفة، لصور «الوجود» الخالصة. قبل أن نبدأ في تحليل الاستقراء من وجهة النظر المادية، سأعرض وصفًا صوريًّا مختصرًا لطبيعته على ضوء المناقشة السالفة. إننا نميز الجزئيات تمييزًا ينبني على عملية نختارها بها، نميزها على وجه يحدد لنا مشكلة ما، يكون لها من طبيعتها ما يشير إلى ضروب ممكنة لحلها؛ ومراجعتنا للأشياء وصفاتها المدركة بالحس التي انتقيناها دون ما عداها، مراجعة تحددها لنا تحديدًا جديدًا، إنما تتضمن بالضرورة تحويرًا تجريبيًّا للأشياء وصفاتها يحولها عن حالتها «الطبيعية» التي جاءتنا بها؛ على حين أن المنطق القديم يأخذ هذه الأشياء وصفاتها «كما هي قائمة»؛ إذ إنه بناء على نظرية هذا المنطق، بعد كل تحوير تدخله تجاربنا على الأشياء وصفاتها، في ذاته من قبيل التغيير، ولذلك فهو تحوير يدخل في نطاق «الوجود» الناقص الجزئي؛ ومن ثَم فهو تناقض منا أن نعد إجراء التجارب وسيلة تؤدي بنا إلى بلوغ المعرفة بما هو كائن «حقًّا»؛ أضف إلى ذلك أن التحويرات التي تتغير بها معطياتنا من الأشياء وصفاتها — من وجهة نظر ثقافية اجتماعية — إنما هي تحويرات تحدث في أوجه النشاط التي تنشط بها الطبقة الدنيا من صناع وميكانيكيين وفنيين؛ وإذن فمثل هذه الأوجه من النشاط وهذه العمليات التي يؤديها هؤلاء، مرفوضة منذ البداية، لكونها «تجريبية» و«عملية» صرف، ومن ثَم فهي متصلة بالرغبة وبالشهوة، أي إنها متصلة بالحاجة وبالعوز؛ فهي متميزة تميزًا حاسمًا من المعرفة التي هي معرفة «نظرية» وكافية بذاتها كفاية تقتضيها طبيعتها نفسها، أي إنها معرفة نلمح بها «الوجود» لمحًا مباشرًا وهو في صورته النهائية الكاملة. ليست تقتصر جزئيات المشاهدات التي نوجدها بالتجارب على أنها هي التي تؤلف مواد المشكلة تأليفًا يشير إلى طريقة مناسبة لحلها، بل من شأنها كذلك أن يكون لها قيمتها من حيث هي شواهد ثم من حيث هي بينات على الصواب بالنسبة إلى طرائق الحل التي توحي بها؛ فالإنسان يؤدي الإجراءات التي يؤديها متعمدًا، لكي يحوِّر تحويرًا تجريبيًّا ما كان قد سبق أن عرض له من مدركات حسية، ابتغاء خلق معطيات جديدة مرتبة على نحو جديد؛ وإيجاد المعطيات الجديدة المتصلة بالنتيجة وذات الأثر في هذه النتيجة التي نأخذ بها على سبيل الفرض، هو ألزم وأصعب جوانب البحث في العلوم الطبيعية فالأشياء والصفات كما تمثل لنا مثولًا طبيعيًّا، أي كما «تعطى» لنا، ليست هي معطيات العلم، وليس هذا فحسب، بل إنها أهم عقبة وأول عقبة نصادفها في تكوين تلك الأفكار والفروض التي هي ذات شأن وذات أثر فعال بالمعنى الصحيح. فالمعاني الأولية، وترابط الأفكار والفروض بعضها ببعض على صورة أولية، يُستمدان من وضعهما وقوتهما حين تردان في المواقف التي ندركها بالذوق الفطري إدراكًا يخدم أغراض النفع والمتعة؛ فإذا ما عبرنا عنهما في رموز تُطَوِّرُها فما ذاك إلا خدمة للتفاهم الاجتماعي أكثر منه خدمة للشروط التي يتطلبها البحث الموجه؛ فالرموز عندئذٍ تكون مشحونة بالمعاني التي لا تمس البحث حين يُراد بالبحث الوصول إلى المعرفة من حيث هي معرفة؛ فإذا كانت هذه المعاني مألوفة وذات تأثير في حملنا على الاقتناع بها، فذلك لما هو مرتبط بها ارتباطًا وثيقًا مقررًا؛ ولهذا كان تقدم العلم على عصور التاريخ متميزًا ومصحوبًا بحذف متعمد لأمثال هذه المعاني، لنحل محلها مجموعة جديدة من الرموز نكوِّن بها لغة اصطلاحية جديدة؛ وإن تقدم كل علم — الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وحتى الرياضة — إجمالًا وتفصيلًا، ليشهد بالصعوبة وبالضرورة اللتين تواجهاننا معًا في إيجاد معطيات من طبقة جديدة، لهذا كان أي مثل خاص نسوقه للتوضيح، قد يعوق أكثر مما يعين، وعلة ذلك هي على وجه الدقة أن طبيعة هذا المثل ستكون مقصورة على نطاق معين؛ ومع ذلك فسأجازف بذكر حالة نموذجية: فانظر كيف وقف تقدم علم الفلك بسبب أن الأرض — من حيث هي شيء يقع للإدراك الحسي المباشر — قد بدت ثابتة، بينما بدت الشمس للإدراك الحسي وكأنما هي تتحرك كل يوم عبر السماء، كما بدت وكأنما هي تتحرك — مصحوبة بالكواكب «السائرة على غير هدى» — من الشمال إلى الجنوب ثم تعود مرة أخرى في غضون الحول؛ وانظر إلى العقبات الهائلة التي كان لا بد لها أن تزال قبل أن نستطيع الوصول إلى مدركاتنا الفلكية الحاضرة، ومعها ما قد استحدثناه من معطيات مشاهدة جديدة فسيحة المدى وبالغة الدقة، معتمدين في ذلك كله على ما اخترعناه من آلات وتقنيات جديدة؛ فلم تكن النظرية الفلكية على ما كانت عليه مدى قرون عديدة من خطأ، بسبب نقص في قدرة الإنسان على ترتيب المعطيات، بل كان ذلك بسبب ما قد حسبناه أنه هو المعطيات؛ فأحسبه واضحًا بغير حاجة إلى جدل، إن أية نظرية يفوتها أن تعد ما يطرأ على الأشياء المدركة بالحس كما تمثل أمامنا، من إجراءات نجريها عليها لنحورها بها، أمرًا أساسيًّا في تصورها للاستقراء، هي نظرية معيبة من أصولها. ولقد بينا أن العمليات التي نحور بها المادة المقدمة لنا في المواقف الكيفية التي تصادفنا في إدراكنا الفطري (نحورها لكي تزودنا بمادة من شأنها أن تعين أطراف مشكلة ما، وأن تكون في الوقت نفسه شاهدًا نهتدي به) هي عمليات من إثبات ونفي يقابل أحدهما الآخر؛ بحيث يكون الناتج الذي يتولد لنا عن ذلك هو مجموعة من مواد الواقع تكون جامعة ومانعة، وتكون أيضًا على التبادل ضابطة بعضها لبعض ومؤيدة بعضها لبعض في وقت واحد؛ فمما هو معلوم لنا جميعًا أن البحوث العلمية تلتمس المعطيات التي تمس مشكلاتها، مستعينة في ذلك بالتجارب تحدد بها ذاتيات الأشياء كما تحدد بها مواضع الاختلاف بين الأشياء؛ ولا حاجة بها في هذا الموضع من سياق الحديث إلا أن نلحظ الاتفاق التام بين هذا الإجراء العلمي المتفق عليه من الجميع، وبين الشروط المنطقية التي تتطلبها النظرية التي بسطناها؛ ولا بد لنا كذلك أن نذكر أن العمليات التي نجريها لنجمع أفراد النوع الواحد معًا، ونمنع ما ليس منها من الدخول فيها، هي عمليات فعلية تنصب على الموجودات الخارجية (وليس هي بالعمليات «العقلية») وأنها عمليات تحل الصفات التي هي وليدة تفاعلات محل الصفات المدركة بالحس إدراكًا مباشرًا. مادة القسمين السالفين قد صممت على أساس أن نبين بها أولًا قصور المنطق التقليدي عن أن يزودنا بالمبادئ التي يتم الاستقراء على هداها فعلًا؛ ثم أن نعرض بعد ذلك جوانب معينة من الطريقة الاستقرائية، تلزم صوريًّا عن الموقف الذي اصطنعناه في هذا المؤلف؛ وأنتقل الآن إلى تحليل تلك الطرائق العلمية التي يجوز لنا أن نطلق عليها اسم «استقراء»، إذا كان لهذه الكلمة ما تنطبق عليه إطلاقًا؛ فليست المسألة مسألة كلمة ومعناها، حتى وإن تكن هذه الكلمة قد أحاطها طول الاستعمال بهالة من قداسة، بل المسألة مسألة الطرائق الحقيقية التي نسلكها في تأييدنا للأقوال العامة في العلوم الطبيعية؛ هذا إلى أن تلك التعميمات تجيء على صورتين: فهنالك التعميمات التي تنشئ علاقة الأنواع الشاملة بالأنواع المشمولة؛ وهنالك التعميمات التي تنشئ القضايا الكلية المجردة التي ترد على صورة «إذا – إذن» لتكون بمثابة الفروض والنظريات؛ فإذا أردنا شرحًا وافيًا للطرائق العلمية، من حيث هي الوسائل التي نستعين بها على صياغة تعميمات جائزة القبول، فلا بد لذلك الشرح — إذن — أن يصدق على هاتين الصورتين معًا؛ وهذه الملاحظة هي — في الحقيقة — تحذير أحذر به سلفًا من استحالة أن نقيم فاصلًا حادًّا بين «الاستقراء» باعتباره الإجراءات التي نكوِّن بها تعميمات وجودية، و«الاستنباط» باعتباره الإجراء المختص بالعلاقات التي تربط القضايا الكلية المجردة في مجرى التفكير النظري، ففيما يختص بالبحث الطبيعي — على الأقل — لا بد لنا من تفسير الاستقراء والاستنباط تفسيرًا يظهرهما جانبين متعاونين من إجراءات هي في النهاية واحدة بذاتها. وأبدأ بعبارة موجزة أذكر بها النتائج التي يُنتظر بلوغها من جوانب البحث التي تكون استقرائية متميزة، وجوانبه التي تكون استنباطية متميزة، وما بينهما من علاقة متبادلة، أو من تقابل في الأداء؛ (١) فالجانب الاستقرائي يتألف من مجموعة عناصر الإجراءات التجريبية التي نحور بها ما قد كان قائمًا في الوجود الخارجي من ظروف، تحويرًا نحصل به على معطيات تشير إلى طرائق لحل المشكلة القائمة، وتختبر في الوقت نفسه سداد تلك الحلول المقترحة؛ (٢) وكل حل يُقترح أو يُشار إليه، لا بد أن يُصاغ الصياغة التي تجعله أحد الممكنات؛ ومن مثل هذه الصياغة يتكون الفرض؛ وهذا الفرض الذي ينتج لنا على صورة قضية تقول «إذا – إذن» لا بد أن نتناوله بالبسط في علاقته المنظمة مع غيره من القضايا ذات الصورة الشبيهة بصورته (أي نتناوله بالتطوير في قضايا يلزم بعضها عن بعض في مجرى التفكير النظري)؛ حتى نحصل على المضمونات المتعلق بعضها ببعض، فتكون منها القضية الخاصة ذات الصورة «إذا – إذن»، والتي من شأنها أن توجه المشاهدات التجريبية التي تتمخض لنا عن معطيات جديدة؛ والمعيار الذي نقيس به سداد أمثال هذه الفروض، هو قدرة المعطيات الجديدة التي تنتجها تلك الفروض، على أن تنضم إلى المعطيات السابقة (التي كنا وصفنا بها المشكلة القائمة) بحيث يتألف منهما كل واحد ذو دلالة موحدة؛ (٣) ويلزم عن ذلك لزومًا مباشرًا طبيعة ما يكون بين هذين الجانبين من جوانب البحث، من علاقة متبادلة، أو من تقابل في الأداء؛ فالقضايا التي تصوغ المعطيات، لا بد لها — لكي تستوفي شروط البحث — أن تكون على النحو الذي يمكنها من تحديد مشكلة ما، تحديدًا يجيء على صورة تشير إلى حل ممكن؛ على حين أن الفرض الذي يُصاغ به هذا الحل الممكن، لا بد أن يكون على النحو الذي يمكنه من تزويدنا — إجرائيًّا — بالمعطيات الجديدة التي تملأ الفجوات التي تتخلل المعطيات التي سبق لنا أن حصلنا عليها، ثم ترتب تلك المعطيات، وهكذا ترى حركة مستمرة من جيئة وذهاب بين مجموعة القضايا الوجودية التي قيلت عن المعطيات، والقضايا اللاوجودية التي قيلت عن مدركات عقلية متعلق بعضها ببعض. وبعد هذه النبذة التمهيدية أنتقل إلى الموضوع الرئيسي: ألا وهو تحليل الطرائق الاستقرائية من وجهة النظر المادية؛ وستكون المادة التي نتخذ منها وسيلة للتوضيح المبدئي، هي البحوث التي انتهى أصحابها إلى تعميم عن تكوين الندى وطبيعته؛ فمشاهدة الإنسان بإدراكه الفطري كافية في هذه الحالة — على الأرجح — لتمييز الظواهر المفردة التي نجمعها معًا تحت اسم واحد هو «الندى»؛ فثمة من السمات ما هو مميز تمييزًا كافيًا لعزل ظواهر الندى عزلًا يجعل منها نوعًا قائمًا بذاته، أي يجعل منها نوعًا يختلف عن غيره من الأنواع؛ وهي سمات يمكن مشاهدتها في يسر مشاهدة تتكرر مرة بعد مرة؛ فمن هذه السمات: وقت ظهور قطرات الندى، ومكانها، وتوزيعها فوق الأرض، وشكلها … إلخ؛ غير أن المشكلة الرئيسية الخاصة بهذه الظاهرة، لم تكن هي الكشف عن السمات التي تميز قطرات الندى، بل كانت هي تحديد النوع الشامل الذي يندرج فيه النوع المسمى «ندى»؛ فمنذ عهد أرسطو، بل ربما قبل ذلك بكثير، كانت الفكرة المقبولة هي أن الندى نوع فرعي للنوع الأشمل «مطر»، أو بعبارة أخرى كانت الفكرة المقبولة هي أن يُقال إن قطرات الندى سقطت، ولبث هذا الاعتقاد موضع التصديق حتى أوائل القرن التاسع عشر. فمما هو جدير بالذكر — من جهة — أن مثل هذه النتيجة الاستدلالية كانت في حقيقة الأمر محتومة، ما دام المفروض في الصفات المدركة إدراكًا مباشرًا، هو أنها وحدها تكفي لتحديد نوع من الأنواع، وأن التغير الذي طرأ على فكرة النوع — من جهة أخرى — لم يحدث إلا بعد الوصول إلى نتائج عامة معينة عن توصيل المواد للحرارة وعن إشعاع الحرارة؛ لأن هذه التعميمات قد اقتضت أن تكون السمات الوجودية المستخدمة في تحديد أحد الأنواع تحديدًا وصفيًّا، هي مما يفهم على أساس طرائق التفاعل، لا على أساس الصفات المدركة إدراكًا مباشرًا؛ (١) فالفكرة الجديدة عن الندى قد عرضت لنا بعد أن ثبت أن سمات معينة، التي هي نتائج تتولد عن الحرارة، وعن توصيل الحرارة وإشعاعها بين الأجسام المتفاوتة في درجات حرارتها، بعد أن ثبت أن تلك السمات مرتبطة بسمات الأجسام من حيث هي صلبة وسائلة وغازية؛ فجاء الفرض الجديد لتفسير الندى إيحاءً مباشرًا أوحت لنا به هذه المادة، ولم توحِ به أية معطيات مما قد سبق لنا أن لاحظناه؛ (٢) وعندئذٍ أصبحت الصفات المشاهدة الظاهرة بمثابة الظروف التي تقيم لنا مشكلة يُراد حلها، ولم تعد تلك الصفات هي السمات التي يمكن الاعتماد عليها في الوصول إلى ذلك الحل؛ وذلك لأن أفكارنا عن الإشعاع وعن توصيل الأجسام للحرارة، وعن الحرارة، والضغط، هي أفكار علاقية في مضمونها، بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، لأنها أفكار قوامها الروابط التي تصل ألوان التغير بعضها ببعض؛ (٣) وأخيرًا، فبينما تعميماتنا عن الحرارة والضغط قد بلغت حدًّا يكفي لقبولنا إياها على أنها هي الصواب بوجه عام إلا أن علاقتها بظاهرة الندى ظلت موضع شك وافتراض؛ ولو أنه كان فرضًا مرجح القبول بأن هذه الأفكار يمكن أن تفسر لنا الندى؛ فهو فرض قابل للتطوير في خطوات من التفكير النظري، تطويرًا ينتهي بنا إلى قضايا مستنبطة نراها وثيقة الاتساق مع الظواهر التي كانت قد وقعت لنا في مجال المشاهدة؛ فاختفاء حرارة الشمس ليلًا، معناه انخفاض درجة حرارة الهواء؛ وهذا الانخفاض في درجة الحرارة — بدوره — معناه — بناءً على قوانين معترف بصوابها — أن الرطوبة في الهواء تتكثف وتظهر على الأشياء القريبة؛ هذه النتيجة يمكن الوصول إليها بالتفكير النظري وحده؛ فعلى أساس المنطق القديم، كانت هذه «المعقولية» النابعة من طبيعة النتيجة نفسها، تكفي لقبولها وإثباتها فورًا؛ فالجانب الهام من الناحية العلمية، من جوانب منطق البحث العلمي، هو أن نتيجة كهذه لا تعامل بأكثر من كونها فرضًا يستخدم في توجيه عمليات المشاهدة، أي إنها تعامل على أنها فكرة يجري عليها الاختبار، ويقام عليها «البرهان» على أساس النتائج المترتبة على تلك العمليات؛ فمضمون الفكرة الجديدة عن الندى، يتضمن افتراضًا لشروط بعينها، ولا بد لنا من القطع برأي: هل هذه الشروط متحققة أو غير متحققة في وقائع الحال كما يمكن أن تقع لنا في مجال المشاهدة. فالفرض هنا يزعم — مثلًا — وجود بخار غير مرئي في الهواء، يكفي مقداره أن يفسر الندى المتكون على الأشياء؛ فكان لا بد من القيام بمشاهدات تجريبية دقيقة لنرى إن كان هذا الشرط متحققًا؛ فتبين من المشاهدات أن الندى يكون في أغزر حالاته على أشياء عرفنا عنها بمشاهدات وبتقديرات كمية مستقلة، أنها تتصف برداءة التوصيل للحرارة، وبجودة الإشعاع؛ فأوجدنا — بقدر المستطاع — ارتباطات عددية بين القدرة على التوصيل وعلى الإشعاع، وهي القدرة التي أثبتناها بعمليات قائمة بذاتها، وبين ما قسناه من كميات البخار الذي استقر على الأشياء؛ وكان لا بد لنا كذلك أن نقرر بمشاهدة تجريبية أن كمية تغيير حرارة الهواء — مع بقاء سائر الظروف متساوية — تتناسب بنسبة ثابتة مع مقدار التغير في حرارة الأشياء التي استقر عليها البخار؛ وكذلك أجريت تجارب أفادتنا بأن الاختلاف في درجة الحرارة اختلافًا خلقناه خلقًا بوسائل تجريبية، متناسب مع ظهور قطرات الماء على الزجاج وعلى ألواح من المعدن المصقول. وجدير بنا — قبل أن نتناول حالة أخرى نتخذها مثلًا موضحًا آخر — أن نلخص بعض النتائج التي تولدت عن تحليلنا الذي بسطناه حتى هذا الموضع من الحديث، والنتيجة البارزة بين هذه النتائج هي أن الإجراءات الاستقرائية، هي تلك التي نهيئ بها مادة وجودية يكون لها وزن من حيث الإقناع باعتبارها شواهد نستشهد بها على صدق تعميم انتهينا إليه بعملية الاستدلال؛ وأما الفكرة القائلة بأن الاستقراء يتألف من الانتقال من «بعض» الحالات الجزئية (سواء أكانت كلمة «بعض» تعني منطقيًّا واحدًا أم عدة آحاد) فهي على أحسن الفروض فكرة خاوية؛ وذلك لأننا ما دمنا قد بلغنا بالبحث حدًّا يقرر لنا عنده تلك المعطيات الوجودية التي تكفي لضمان صدق النتيجة فقد وصلنا بذلك إلى هذه النتيجة فعلًا، ولا حاجة بنا بعد ذلك إلى «انتقال»؛ وأما إذا لم تكن المعطيات المادية التي نستدل منها النتيجة العامة، قد تهيأت بالفعل خلال مشاهدات تجريبية سابقة، فمحال على أي عدد من الحالات — مهما بلغ هذا العدد من اتساع المجال — أن تدعم استدلالًا، أو أن تتيح لنا أي شيء أكثر من التخمين الذي قد يخطئ وقد يصيب؛ فالعمليات التي نعد بها المادة، لا بد أن تُوَجَّه في سيرها بأفكار (تكون هي الفروض) توجيهًا يمكنها من تحقيق مهمتَي الإثبات والنفي تحقيقًا يتم بجمع المتشابهات وبالتفرقة بين شتى الاحتمالات التي يحتملها الموقف الواحد؛ وهو تحقيق لا نظفر به إلا بعد مقارنات ومباينات نجريها إجراءً عمليًّا؛ فهذه الإجراءات — حين نجريها بما نقيمه من تجارب — تكشف لنا عن مواضع الاتفاق بين الظواهر التي هي من حيث مادتها، أو من حيث وجودها الخارجي، مستقل بعضها عن بعض؛ وهي كذلك إجراءات من شأنها أن تراجع لنا مواضع الاتفاق (أعني التحقق من ذاتيات الأشياء) التي نحصل عليها بعمليات من العزل نجريها على نسق معلوم، أعني أنها تؤكد لنا ما بين الظواهر من مواضع الاختلاف؛ فلسنا نستطيع هنا أن نعرف الجانب الاستقرائي من البحث إذا أردنا أن يكون للاستقراء أي معنًى مما يتحقق على أساس البحوث العلمية كما يمارسها العلماء فعلًا، إلا على أساس الإجراءات التي نحول بها مادة الإدراك الحسي التي تلقيناها بادئ ذي بدء، تحويلًا يجعلها مادة معدة للبحث حتى إذا ما أعدت المادة إعدادًا يحقق الشروط المذكورة كانت مهمة الاستقراء قد انتهت وفرغنا منها، إذ نكون قد وصلنا إلى التعميم بحكم الأمر الواقع. والعمليات التي نؤديها لنشاهد ما نشاهده على سبيل التجارب، وأعني بها العمليات التي تعد لنا المواد إعدادًا سويًّا، تتطلب توجيهًا من قِبَل مدركات عقلية؛ فإلى أن نصوغ هذه المدركات العقلية صياغة تجعلها بمثابة الفروض، وإلى أن يتم لنا تطوير معانيها عن طريق خطوات استنباطية نسير بها في تفكير نظري مرتب، فإن المشاهدة وتجميع المعطيات تظل تخبط خبط عشواء، ولو أنه حتى في هذه الحالة العشوائية، يكون هنالك على الأقل تقدير مبهم من نوع ما، أي يكون هنالك تخمين هو الذي يؤدي بنا إلى مشاهدة بعض الظواهر دون بعضها الآخر؛ وعلى أية حال، فقيمة هذه الاستكشافات (التي نرود بها مجال المحسوسات المشاهدة) والتي ستكون غير محددة كثيرًا أو قليلًا، هي في قدرتها على استثارة ما عساه أن يوحي لنا بإيحاءات تأخذ بزمام مشاهدات تجريبية أكثر من سابقتها تحديدًا؛ وها هنا يكون تطوير المدرك العقلي الذي يرشدنا في توجيه مشاهداتنا — تطويره في تفكير نظري — هو الذي يزودنا بالمادة الوحيدة الممكنة التحقيق، والتي نستعين بها على رؤية الجانب الاستنباطي من المنهج العلمي؛ وهكذا تتضح المقابلة الأدائية بين جانبي الاستنباط والاستقراء في المنهج العلمي، ومع ذلك فقد يجدر بنا أن نقول — مرة أخرى — إن معنى «المنهج العلمي» هو أن تتحقق الشروط المنطقية التي يفرضها توجيهنا للبحث تحققًا كافيًا. لقد كانت مشكلة التعميم المتضمنة في المثل الذي حللناه الآن توضيحًا للمنهج العلمي خاصة قبل كل شيء بالحالة التي نكون فيها قضية جامعة (قضية تصف نوعًا من الأنواع)؛ فالمشكلة الرئيسية هنا هي أن نتثبت من النوع الخاص الذي تنتمي إليه ظاهرة الندى، لكن كان قد دخل في الأمر تعميمات من طراز القضية الكلية الشرطية، كقوانين الحرارة والضغط؛ ولو أنها دخلت باعتبارها أمورًا قد تقررت من قبل، حتى لقد أصبحت المشكلة الرئيسية هي أن نقرر إن كانت ظاهرة الندى من النوع الذي ينطوي تحت هذه القوانين، باعتباره حالة خاصة من حالات تطبيقها؛ وننتقل الآن إلى مثل توضيحي آخر، نصب فيه اهتمامنا الرئيسي على الطريقة التي نحدد بها تعميمًا بالمعنى الذي يكون به التعميم قانونًا من القوانين، على أن يتخذ تحديد نوع الظاهرة (التي ينطبق عليها هذا القانون) موضعًا ثانويًّا؛ والمثل الذي نريد عرضه الآن هو الملاريا؛ فلقد قررت لنا الأبحاث أن الملاريا نوع، يتميز مما عداه بخصائص تفصله عن سائر الأنواع التي تندرج معه في نوع أشمل نطاقًا، وهو نوع الأمراض الطفيلية، إلا أن الأهمية العلمية (متميزة من الأهمية العملية) للنتيجة، إنما تكون في الإثبات الذي تؤيد به — بوساطة هذه النتيجة — نظرية عامة عن مقولة الأمراض بأسرها. ومع كل هذا فلم تكن الشروط المنطقية لتحديد القانون أو القضية الكلية تحديدًا علميًّا، قد تحققت كلها تحققًا كاملًا؛ إذ بقي علينا أن نستوفي شروطًا معينة أخرى لعزل شتى الحالات الممكنة فلا نستبقي منها إلا واحدة؛ فمثلًا كان لا بد لنا أن نبين أن الأنواع الأخرى من البعوض لا تحمل الطفيلي ولا تدخله في جسم المريض، وأن عضة بعوض الملاريا لا تحدث الخصائص المميزة التي تميز المرض، إذا ما كانت قد تغذت قبل ذلك على دم الأصحاء وحدهم؛ وحتى بعد هذا كله، بعد أن نكون قد حذفنا هذه الاحتمالات، فالعمل العلمي لا يكون قد كمل بعد؛ فأجريت بعد ذلك تجارب على كائنات بشرية، تبين منها أن بعوضة الملاريا لو عضت مريضًا بالملاريا، ثم عضت سليمًا بعد ذلك بفترة محدودة من الزمن (هي نفسها الفترة الزمنية التي تبين ببحث قائم بذاته أنها الفترة المطلوبة لتطوير الطفيلي في جسم البعوضة) فإن هذا الشخص السليم يطوِّر السمات المميزة لهذا المرض نفسه؛ ومن الناحية السلبية أجريت تجارب تُبين أن الأشخاص الذين يقون أنفسهم وقاية تامة ضد لذعة بعوض الملاريا، لا يطورون المرض، حتى في المناطق التي تكثر فيها الملاريا؛ ثم اتخذت إجراءات سلبية أخرى، تبين منها أن سبل الوقاية التي من شأنها أن تحول بعض الملاريا دون التكاثر، كصب الزيت في الماء الذي يتكاثر فيه البعوض، وكتجفيف المستنقعات … إلخ، قد أدت إلى اختفاء المرض؛ وأخيرًا، فإنه مما كانت قد دلت عليه التجربة منذ أمد طويل، أن شراب الكينا يكسب الإنسان حصانة معينة من الملاريا، وأن ذلك الشراب كان علاجًا خاصًّا لمن أصيب بالمرض؛ ثم ثبت الفرض الخاص بقيام علاقة جوهرية بين تطور المرض وتطور الطفيلي الذي تحمله البعوضة إلى الدم، أقول إن هذا الفرض ثبت ثبوتًا تامًّا، حين تبين بالتجارب أن هذه الحقيقة التي دلت عليها الخبرة عن الكينا إنما هي نتيجة العلاقة بين الخصائص الكيموية للكينا، وشرط قيام الحياة في الطفيلي؛ وهكذا تم الأساس الذي تقوم عليه قضية كلية تقول: «إذا حدث كذا، وفي هذه الحالة وحدها التي يحدث فيها كذا، ينتج كيت وكيت» أقول إن أساس قضية كلية كهذه قد تم وضعه، بمقدار ما يمكن لقضية من هذا القبيل أن تقوم على أساس قاطع. إلى هذا الموضع من سياق الحديث، قد سلمنا تسليمًا بالرأي السائد الذي يذهب إلى أن هدف البحث العلمي هو تكوين مبادئ وقوانين عامة، واقعية كانت أو تصورية؛ إذ ليس من شك في أن إقامة أمثال هذه التعميمات، هي جزء لا يتجزأ من عمل العلوم الطبيعية؛ إلا أنه كثيرًا ما يضيف أصحاب هذا الرأي زعمًا يضمرونه أو يفصحون عنه، وهو أن إقامة التعميمات أمر يستنفد مهمة العلم كلها؛ وفي قولهم هذا إنكار على العلم قيامه بأي دور كائنًا ما كان في تحديد القضايا التي تشير إلى المفردات من حيث هي مفردات؛ نعم إنهم بالطبع يسلمون بأن القضايا التي تتحدث عن مفردات باعتبار هذه المفردات منتمية إلى هذا النوع أو ذلك، أمر لا بد منه للوصول إلى تعميم، كما يسلمون أيضًا بأن أي تعميم يُساق على سبيل الاقتراح، لا بد من اختباره بأن نتثبت مما إذا كانت ملاحظة الأحداث المفردة — أو لم تكن — تؤدي بنا إلى نتائج متفقة مع ما يقتضيه ذلك التعميم؛ إلا أنهم يرون أننا إذا ما وصلنا إلى التعميم، فإن القضايا التي تتحدث عن مفردات تكون عندئذٍ قد فرغت مهمتها المنطقية كلها؛ وهو زعم مساوٍ لإنكارهم بأن يكون استعمالنا للتعميم في تحديد المفردات ذا دلالة علمية على الإطلاق؛ نعم إنهم بالطبع يعترفون بأن التعميمات تستعمل فعلًا هذا الاستعمال، كما يستعملها — مثلًا — المهندسون والأطباء؛ غير أنهم يعدون هذا الاستعمال لها أمرًا خارجًا عن نطاق العلم، أي إنه أمر «عملي» صرف؛ وإن هذا الضرب من ضروب التصور ليعكس ويؤيد — في آنٍ معًا — تلك التفرقة الخبيثة بين النظر والعمل؛ فترى هذه التفرقة المزعومة معبرًا عنها في فرق منطقي ثابت يجعلونه بين العلوم «البحتة» والعلوم «التطبيقية». فحقيقة الأمر — فيما يبدو — هي أن التشبث تشبثًا غير نقدي بالتصورات الأرسطية، قد تآلف مع مكانة الفيزياء، وبخاصة الفيزياء الرياضية، فتولد عن تآلفهما الرأي الذي لا يكتفي بأن تكون الفيزياء أكثر صور البحث العلمي تقدمًا (وإنها لكذلك بغير شك) بل يجعلها كذلك وحدها دون سواها ذات طبيعة علمية؛ نعم إن تطبيق التعميمات الفيزيائية — من وجهة النظر الشعبية — كما هي الحال مثلًا في تقنيات المهندس الكهربي، أو الكيموي، وفي الطرائق التي يستخدمها «علم الطب» (إذا جاز لنا هذا التعبير)، أقول إن تطبيق التعميمات الفيزيائية تقع عند الناس موقعًا حسنًا، لما ينجم عنها من عواقب عملية بصفة خاصة لكننا لو نظرنا إلى الأمر نظرة منطقية، ألفينا هذه التطبيقات أجزاءً لا تتجزأ من عمليات التحقق من صدق التعميمات نفسها؛ فتجفيف المستنقعات التي يتكاثر فيها بعوض الملاريا، أمر محمود لأنه يعين على التخلص من الملاريا؛ لكنه من وجهة النظر العلمية تجربة تقام لتثبت نظرية؛ وبصفة عامة فإن التطبيق الاجتماعي لنتائج الفيزياء والكيميا، يزودنا باختبار يضاف إلى غيره من الاختبارات، وبضمان جديد يضاف إلى غيره من الضمانات التي نختبر بها ونضمن بها نتائج كنا قد حصلنا عليها. وتنطوي النقطة المتضمنة في هذا على نتائج بعيدة المدى؛ فما قد جرى عليه التقليد من قصر العلم على التعميمات، يضطرنا اضطرارًا إلى إنكار السمات العلمية والقيمة العلمية على أي ضرب من ضروب العمل؛ إذ إنه يمحو — منطقيًّا — الاختلاف الفسيح الكائن بين أوجه النشاط التي نكررها بغير تفكير، وأوجه النشاط الأخرى التي تنم عن ذكاء، بين الفعل الذي تمليه الأهواء والفعل الذي نسير فيه بالفنون الصناعية التي تتجسد فيها مهارات فنية وتقنيات تعبر عن أفكار مختبرة الصدق اختبارًا محكمًا؛ بل إنه لأمسُّ بموضوعنا أن نقول إن ما قد جرى به التقليد من قصر العلم على التعميمات وحدها هو أنه يتضمن — منطقيًّا — انتحار العلوم حتى من ناحية التعميمات نفسها؛ وذلك لأنه ليس ثمة قط ما يسوغ الفصل المنطقي بين الإجراءات وتقنيات التجارب في العلوم الطبيعية، وبين نفس الإجراءات وتقنيات التجارب المستخدمة في تحقيق الأغراض العملية بأدق معناها؛ فيستحيل على الخيال أن يتصور ما هو أشد فتكًا للعلم من استبعاد التجارب، وما التجارب إلا صورة من صور الأداء والفعل؛ فتطبيق التصورات الذهنية والفروض على المواد الكائنة في الوجود الخارجي بوساطة الأداء والفعل، هو مقوم أصيل من مقومات المنهج العلمي؛ فليس هنالك الخط الحاسم الفاصل بين أمثال هذه الضروب من النشاط «العملي»، وتلك الضروب التي تصدق نتائجها على أغراض إنسانية اجتماعية، ولو فصلناهما على هذا النحو لاستتبع ذلك نتائج خطيرة بالنسبة إلى العلم بمعناه الضيق. ربما بدا بعض الموضوعات التي ناقشناها في هذا الفصل بعيدًا بعض الشيء عن موضوع الاستقراء؛ ولو كان الأمر كذلك لكان هذا أمرًا ظاهريًّا فحسب؛ وذلك لأن النظرية المنطقية على حالتها الراهنة اليوم، تتجاهل مشكلات الاستقراء في جوانب رئيسية منها، مستندة في ذلك إلى تصورات خاطئة تنبثق من مصدرين؛ فمن جهة هنالك تأثير منطق صِيغ قبل نشأة العلم الحديث؛ ومن جهة أخرى، هنالك تأثير المنطق التجريبي الذي حاول أن يقسر النظرية المنطقية على مطابقة الإجراءات المنهجية في العلم الحديث؛ فكلا هذين التأثيرين تآلفا على تأييد الفكرة القائلة بأن الاستقراء عملية نستدل بها مما يحدث في بعض الحالات المشاهدة على نتائج تحدث في الحالات كافة، المشاهد منها وغير المشاهد؛ فإذا ما حللنا هذه النظريات تحليلًا نقديًّا، وجدنا عنصر الحقيقة الوحيد فيها هو أن كل استدلال يتضمن توسعة نجاوز بها نطاق الأشياء التي قد شوهدت فعلًا؛ وتفسير هذه الحقيقة غير المنكورة عند كلتا النظريتين يتجاهل الجانب البارز من جوانب الاستدلال العلمي الاستقرائي، وهو: إعادة تكوين المفردات إعادة موجهة، أعني المفردات التي هي أساس التعميمات؛ وإن هذه الإعادة لتكوين المفردات لتتم على نحو يتيح لنا أن نقرر ماذا يحدث خلال التفاعل الذي يقع في الحالة المفردة الواحدة؛ فالاستدلال الذي نسير به «من إحدى الحالات إلى الحالات كافة»، إنما يتحدد تحددًا تامًّا كاملًا بما قد جرى فيما سبق من إجراءات تجريبية، كانت قد قررت لنا عن الحالة الواحدة بأنها عينة نموذجية لمجموعة من التفاعلات، أو لمجموعة من الارتباطات في الأداء بين متغيرات؛ وهذه المجموعة — إذا ما ثبتت لنا — كانت هي نفسها التعميم؛ ولما كانت مجموعة المتغيرات من شأنها أن تندرج تحت مجموعة أخرى من التغيرات أوسع نطاقًا، كانت النتيجة هي تعميم نعمم به علاقة تربط أنواعًا بعضها ببعض؛ ما دامت التفاعلات المذكورة هي التي تقرر ماذا تكون السمات المشاهدة التي إن اقترنت معًا حددت نوعًا معينًا؛ وأما إذا جردنا مجموعة التفاعلات، فإنها إلى الحد الذي نجردها به تصبح ممكنة الإدراك للعقل، وذلك عن طريق تطويرنا للرموز التي ننشئ بها قضية كلية من طراز «إذا – إذن» تطويرًا يتم خلال خطوات من التفكير النظري؛ فيكون الحاصل عن ذلك تعميمًا يتخذ صورة قانون أو مبدأ غير ذي إشارة إلى الوجود الخارجي، لكنه ينظم المادة الوجودية حين نُجري الإجراءات التي تنطوي عليها صيغته النظرية. إن التعميم بصورتيه الجامعة والكلية المجردة، لينبثق من مصدر واحد منطقي مشترك، وهذه حقيقة أخرى نسوقها مثلًا لما بين الصورتين من علاقة متبادلة؛ فالنقص الأساسي الذي يعيب المنطق التجريبي التقليدي، هو عجزه عن تبين ضرورة الفروض المجردة — بما تقتضيه من علاقات استنباطية بين القضايا — في توجيه الإجراءات التي نجريها لنوجد بها المفردات التي تحمل عبء هدايتنا بما فيها من شواهد، واختبارنا لصدق ما عسانا أن ننتهي إليه من نتائج؛ وأما النظرية التقليدية (النظرية العقلية الصورية) فعيوبها المتأصلة في طبيعتها هي: (١) عجزها عن أن تتبين أن الإجراءات المنهجية التي يقوم بها العلم التجريبي، من شأنها أن تحوِّل المفردات التي منها يبدأ السير نحو التعميم الاستقرائي، و(٢) عجزها عن أن تتبين العلاقة الوسلية — بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة — القائمة بين الفروض باعتبارها وسائل، وتحديد المفردات تحديدًا تجريبيًّا باعتباره الغاية المتحققة بتلك الوسائل. وتحديدنا — خلال المنهج العلمي — لما هنالك من ضروب التفاعل، عملية لا غناء لنا عنها، وهي تتضمن عمليات هي التي نطلق عليها اسم «السببية»؛ وذلك لأن السمات المشاهدة المميزة التي نقرر بها قضية تقول إن هذا (الشيء المفرد المعين) هو أحد أفراد نوع بذاته، والتي نقرر بها أيضًا قضية تقول إن النوع المذكور يندرج مع غيره من الأنواع في نوع يشملها جميعًا، لم تكن لتهيئ لنا الأسس المقبولة التي نبني عليها هذه النتائج، إلا لأن العلامات المذكورة التي نتخذها شواهد (على أن فردًا ما ينتمي إلى نوع معين، وعلى أن نوعًا ما يدخل مع غيره في نوع أشمل) هي حالات يتحقق فيها بالفعل ما قد كان موجودًا بالقوة بحكم ضروب التفاعل كما هي قائمة في الفرض المجرد؛ فالذي يكون مضمون قضية كلية مجردة، أي يكون مضمون فرض من الفروض، هو طريقة التفاعل أو صورته من حيث هي طريقة أو صورة نأخذها مأخذ الإمكان مجرد الإمكان. وموضوعنا في الفصل التالي هو أن نعرض هذه الفكرة بلغة «السببية»؛ فلسنا نتطلب إلا قليلًا جدًّا من الإلمام بموضوع الاستقراء، لكي نقدر الدور الأساسي الذي قامت به فكرة السببية في النظريات التي تصدت لتفسير الاستدلال الاستقرائي؛ غير أن مشكلة السببية وطبيعتها — منذ عهد «مل» وما قبله — قد ارتبطت بشتى ضروب المشكلات التقليدية في الميتافيزيقا والإبستمولوجيا (نظرية المعرفة)؛ لكن الملاحظات التي أبديناها في هذا الفصل ستعيننا على اطراح الكثرة الغالية من هذه المشكلات؛ وذلك لأن اعترافنا بالمكانة الرئيسية التي تحتلها التفاعلات، يقصر مناقشتنا لمقولة السببية على المهمة المنطقية التي تؤديها فكرة التفاعلات هذه.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/22/
القوانين العلمية
كانت وجهة النظر التي تجعل القوانين العلمية صياغات لتتابعات الأحداث تتابعًا مطردًا ومطلقًا، هي الوجهة المقبولة بصفة عامة منذ عهد «مل»؛ وكذلك أخذوا برأي «مل» في تعريفه للسببية على أساس هذه التتابعات في الأحداث؛ غير أن الأخذ بهذين الجانبين، لا يستلزم القبول الشامل لموقف «مل» الذي يتميز به؛ بل الأمر على نقيض ذلك. إذ إن مَن وجهوا النقد لوجهة نظره، لم يجدوا عسرًا في أن يبينوا أن فكرة التتابع المطلق أو الضروري نفسها، لا تتسق من حيث الأساس مع الفكرة القائلة بأن المفردات — من حيث هي مفردات — هي الدعامة وهي المضمون للقضايا العامة كافة، أو بتعبير أعم، إن الضرورة أو الرابطة المحتومة التي يسلم بقيامها (بين الحوادث المتتابعة) لا تتسق مع العلاقة التي تصل المفردات بعضها ببعض؛ ولما كان «مل» نفسه قد اعترف بأن تحديدنا للاطراد الدقيق في تتابع الأحداث، إنما يعتمد آخر الأمر على تحديدنا لطبيعة ذلك التتابع من حيث هو أمر مطلق، بل إن ذلك الاطراد في التتابع هو نفسه هذه الصفة المطلقة في طبيعته، كان من الواضح أن الفكرة القائلة بأن القوانين سببية، وبأن السببية تتابع غير مشروط، إنما هي فكرة تتطلب — إذا ما قبلناها — أساسًا منطقيًّا يختلف كل الاختلاف عن الأساس الذي يقدمه «مل» إلينا. لقد بُذلت جهود بارعة في محاولات قصد بها أصحابها أن يبينوا كيف أن فكرة اطراد تتابع الأحداث يجوز أن تندمج مع فكرة الضرورة المطلقة، على أساس من مدركات منطقية تختلف عن المدركات التي يأخذ بها «مل»؛ لكن سداد النقد الموجه إلى مذهب «مل» لا يستلزم أن يكون المذهب الذي يعرضونه ليحل محل مذهب «مل» هو المذهب السليم، كما لا يستلزم أن يكون هذا المذهب المعروض نفسه خلوًا من التناقض؛ بل الأمر على خلاف ذلك، إذ إننا لا نحتاج إلى أكثر من تحليل يسير لنتبين أن فكرة تتابع الأحداث الواقعة في الوجود — الخارجي — تتابعًا ضروريًّا (أو تتابعًا غير مشروط) — وكل تتابع لأحداث تقع في الزمن إنما يتسم بكونه أمرًا واقعًا في الوجود الخارجي، بحكم تعريفه نفسه، إنما هي فكرة تتناقض مع مبادئ منطقية أساسية أخرى تقع لدينا في العادة موقع القبول؛ وذلك لأن أحدًا منا لا يتردد في التسليم بأن القضايا الكلية المجردة وحدها — أعني القضايا التي لا تشير إلى الوجود الخارجي بمضمونها — هي القضايا الضرورية؛ وأن أية قضية ذات مضمونات تشير إلى الوجود الخارجي إشارة مباشرة، إن هي إلا قضايا موجبة جزئية أو سالبة جزئية، وليست هي بالقضايا الضرورية، كلا ولا هي بالقضايا الكلية المجردة. ومع ذلك فمن الواضح أن بعض جوانب الرأي الذي نتناوله بالنقد سليمة إذا ما أخذناها فرادى؛ فصحيح أن القضايا الكلية المجردة الضرورية لا غناء عنها في المنهج العلمي؛ وليس بمنكور أن تحديدنا لحالة من حالات التتابع في الأحداث الواقعة في الوجود الخارجي، أمر لا محيص لنا عنه في بحوث كثيرة، كما هي الحال في مثلَي الملاريا والندى اللذَين ناقشناهما في الفصل السابق؛ وصحيح أيضًا أن ثمة علاقة منطقية معينة بين القضية الكلية المجردة من ناحية، وهي القضية التي تتألف من مفاهيم مجردة مرتبط بعضها ببعض، وبين تحديدنا — من ناحية أخرى — لتتابع تجيء فيه الأحداث على ترتيب معين تحديدًا سليمًا غير أنه لا يقل عن ذلك وضوحًا أن ثمة فرقًا منطقيًّا بين هذين النوعين من القضية فالثانية منهما وجودية، ولذلك فهي — كما سيتبين فيما يلي — آخر الأمر تشير إلى مفردات، على حين أن الأولى مجردة؛ وهكذا نرى المذهب الذي نتناوله بالنقد متضمنًا لتناقض داخل بنائه نفسه؛ فهو يخطئ حين ينسب القوة الأدائية التي تتسم بها القضايا ذوات المضمونات المرتبط بعضها ببعض ارتباطًا ضروريًّا (وأعني أنها أدائية في تحديدها لما هو واقع في الوجود الخارجي من تتابع)، أقول إن المذهب المنقود ينسب — خطأً — هذه القوة الأدائية للتتابع نفسه الذي كان من شأن تلك القوة الأدائية أن تحدده، كما لو كانت تلك القوة الأدائية هي مضمون القانون العلمي؛ كما أنه كذلك ينسب — بالتالي — إلى هذا التتابع في الأحداث الواقعة تلك الخاصة العلاقية الضرورية التي لا تخص إلا القضية الكلية المجردة الشرطية التي صورتها «إذا – إذن» والتي من شأنها أن تعين لنا ما بين الأحداث الواقعة من تتابع. ولقد عاودنا مرارًا ذكر مصدر هذا الخلط المنطقي؛ فهو خلط يقع فيه من يجعل التعميمات ذات الصورة الجامعة (التي تصف الحقائق الواقعة كما تقع) والتعميمات ذات الصورة الكلية المجردة، يجعلهما وكأنما لا تختلف إحداهما عن الأخرى؛ ولنضرب لذلك مثلًا علميًّا نموذجيًّا؛ في الفيزياء قضايا أساسية يرد فيها الزمن والمسافة والكتلة مرتبطًا بعضها ببعض؛ والقضايا التي تصوغ هذه الارتباطات المتبادلة بينها، إنما هي معادلات ودالات رياضية أخرى؛ فهي قضايا يُراد بها أن تقرر علاقات ضرورية قائمة بين مفاهيم مجردة، وعلى ذلك فليست هي بالوجودية من حيث مضمونها؛ فمعاني «الزمن» و«المسافة» و«الكتلة» تتحدد في التعريف وبالتعريف، وما دامت تتحدد على هذا النحو فهي خلو من السمات المادية التي تعين تاريخًا بعينه ومكانًا بعينه وكتلة بعينها؛ وأما البحوث التي نصبها على التغيرات الفعلية وما بينها من ارتباطات، فهي — من جهة أخرى — ذوات مضمون يشير إشارة مباشرة إلى مادة الوجود الخارجي فهي أبحاث معنية بمجرى الأحداث كما تقع فعلًا في ظروف متعينة من مكان وزمان؛ فصميم البحث العلمي — إذن — هو أن يبقي على هذه التفرقة بين النمطين المنطقيين المتمثلين في نوعي القضية المذكورين، ويبقي في الوقت نفسه على الصلة الأدائية (أي التقابل) التي تصل النوعين أحدهما بالآخر، وإنما قصدنا بقولنا في الوقت نفسه هنا أن تجيء التفرقة بين نوعي القضية المذكورين، والصلة بينهما، في عملية واحدة تدمجهما معًا؛ وتنشأ المغالطة التي تفسد وجهة النظر القائلة بأن القوانين العلمية صياغات لتتابعات التغير تتابعًا مطردًا وغير مشروط بقيد، أقول إن هذه المغالطة تنشأ من الظن بأن مهمة القضية الكلية المجردة جزء يدخل في بناء المحتوى الذي يتألف منه مضمون القضايا الوجودية. فلا تعميم الوقائع في قانون، ولا التعميم الكلي المجرد الشرطي باعتباره قانونًا، يأتلف مضمونه من تتابع للأحداث؛ فالقانون حين يكون تعميمًا واقعيًّا، مضمونه مجموعة من تفاعلات متبادلة؛ ويتم اختيارنا لسُبُل هذا التفاعل — إيجابًا وسلبًا — في أية حالة معينة معروضة أمامنا، على نحو يجعل النتائج الكامنة لسبل التفاعل هذه، هي السمات التي من شأنها أن تقيم العلاقة التي تصل الأنواع بعضها ببعض، بجمعها لسمات الفرع الواحد معًا، ومنعها للسمات التي لا تدخل في ذلك الفرع؛ فهي سمات — من ناحية المنطق الصرف — يتسع مدى انطباقها مجتمعة إلى نطاق يمكننا من أن نقول عن أية حادثة مفردة — عند حدوثها — إنها تنتمي إلى هذا النوع المعين أو ذلك؛ وفي الوقت نفسه تكون العلاقة بين هذا النوع المشار إليه وغيره من الأنواع، مما يمكننا من استدلال حادثة واقعة من حادثة واقعة أخرى؛ فمثلًا ترانا نحدد أفكارنا عن الكثافة والوزن النوعي ودرجة السيولة أو التحول إلى الصورة الغازية أو التحول إلى الصلابة … إلخ إلخ، نحدد هذه الأفكار واحدة واحدة لكل معدن من المعادن كافة، تحديدًا ينبني على تفاعل معلوم بين ظروف معينة؛ ثم نتناول هذه الصنوف المختلفة من طرائق الفعل، فنصلها إحداها بالأخرى، وصلًا من شأنه أن يحدد لنا مجموعة الخصائص المقترنة التي نميز بها على التوالي أنواع: الصفيح والرصاص والفضة والحديد وغيرها؛ وأما القانون المجرد، أي القانون الكلي الذي يتخذ صورة «إذا – إذن»، فمادته — من جهة أخرى — هي العلاقة المتبادلة بين مفاهيم معنوية تتصف بكونها أعضاءً داخلة في تكوين نسق شامل من مفاهيم معنوية مرتبط بعضها ببعض بعلاقات متبادلة بينها؛ وفي هذه الحالة يكون التفكير النظري المرتب، أو «الاستنباط» أمرًا مستطاعًا. إنك في الوقت الذي ترى فيه إجماعًا على الاعتراف — عند مناقشة موضوعات بعينها — بأن العلاقة بين المقدم والتالي في القضية الكلية المجردة علاقة صورية بحت، لا ترى مثل هذا الإجماع — على الأقل بالقول الصريح — على أنه بالنسبة للقضايا الكلية المجردة في العلوم الطبيعية — كما هي الحال في الفيزياء الرياضية — تكون مضمونات كلٍّ من هذه القضايا متوقفة على إمكان قيامها وعلى قوتها من حيث هي عضو من نسق مشتمل على مجموعة قضايا متصل بعضها ببعض؛ ولهذا فكل من هذه القضايا يتسم — من الوجهة النظرية الصرف — بخاصة تجعلها تتعدَّى إلى سواها من قضايا النسق الواحد؛ بحيث نستطيع أن نستنبط من القضايا الأكثر شمولًا (مثل القضايا الخاصة بعلاقة الزمن والمسافة والكتلة) قضايا أقل سعة في نطاق تطبيقها؛ فتكون هذه القضايا المستنبطة عندئذٍ ممكنة التطبيق على المشكلات التي تقيمها لنا التغيرات الوجودية المتعينة الظروف، تطبيقًا لا نستطيعه ونحن إزاء القضايا الكلية المجردة ذوات النطاق الأشمل. بناءً على ذلك تكون عبارة «القوانين السببية» — على الرغم من شيوع استعمالها — عبارة مجازية؛ فهي مجاز ندل به على قانون ما، لا عن طريق المضمون الخاص لذلك القانون، بل عن طريق العواقب التي تترتب على تنفيذنا لمهمتها الأدائية؛ فباستخدامنا لمثل هذه العبارة المجازية، نسمى القضيب المعدني رافعة، ونسمي التركيبة الخاصة التي نصل فيها بين قطعة من الخشب وقطعة من المعدن مطرقة، ونسمي ظاهرة مادية مرئية بيضاء اللون سكرًا، وهكذا؛ وكما قد ذكرنا فيما سبق، حتى الأشياء التي تقع لنا في خبرات الإدراك الفطري، يُشار إليها — عادة — بما يدل على النتائج المتوقعة التي تنجم عن تفاعلاتها المألوفة مع غيرها من الأشياء؛ على الرغم من أن الإدراك الفطري يميل إلى نسبة هذه النتائج إلى «قوة» ما، كامنة في الأشياء نفسها (وهو جانب من الجوانب التي تتألف منها الفكرة الشائعة عن الجوهر)، كما يميل إلى تجاهل تفاعل الشيء مع سواه من الأشياء تفاعلًا يكون هو العامل الذي يحدد طبيعته، ولما كانت القوانين تُصاغ صياغة صريحة تجعلها وسائل مؤدية إلى نتائج (وسائل مادية ووسائل إجرائية على التوالي). فلا يتحتم أن نضار بوصفنا إياها وصفًا نبنيه على ما يقع في الوجود الواقعي من تلازمات زمانية مكانية لحوادث تتعاقب أو تتعاصر في الوقوع؛ وهي التلازمات التي يخلقها تطبيق القوانين تطبيقًا عمليًّا؛ إلا أنه قد نشأ خلط جوهري — وكان لا بد له أن ينشأ — في النظرية المنطقية، حين ينظر إلى هذه التلازمات في وقوع الحوادث — التي خلقت على الصورة التي بيناها — على أنها هي نفسها مكونات القوانين ذاتها — وهو ما نقع فيه حين لا نكتفي بتسميتها قوانين سببية، بل نجاوز ذلك إلى الظن بأنها صياغات نصف بها اطراد التتابع في وقوع الأحداث. إننا إذ نقرر قيام رابطة «سببية» بين أية حادثتين فلسنا بذلك نقرر أمرًا نهائيًّا ولا كاملًا منطقيًّا؛ بل هو وسيلة نستعين بها — فيما يتصل بما نقرره إزاء ارتباطات أخرى — على إيجاد تاريخ متصل واحد فريد؛ فالحوادث التي كانت فيما مضى قد عرضت لنا في الخبرة منفصلًا ومستقلًّا بعضها عن بعض، تصبح — نتيجة للبحث العلمي — مكونات متكاملة لحادثة متصلة واحدة بعينها، وعندها نبلغ هذا التوحيد لما قد كان يبدو منفصلًا، نكون قد بلغنا مرحلة ينفضُّ عندها ما كان قد أشكل علينا، بأن نجدنا إزاء موقف متماسك الأجزاء ذي طابع كيفي واحد، وهي مرحلة تكون لنا بمثابة النتيجة النهائية أو الختامية؛ حتى إذا ما تحقق لنا قيام مثل هذا الموقف المتماسك الأجزاء، الذي تتصل أحداثه بعضها ببعض في وحدة زمنية يتعاصر فيها وقوعها، تكون فكرة السببية قد حققت أغراضها، ثم تزول؛ ولا نعود إلى السببية بعد ذلك إلا حين ينشأ لنا ما يسوغ الشك فيما إذا كان الرباط الزماني المكاني بين مجموعة معينة من الأحداث، يؤدي حقًّا إلى موقف وجوديٍّ متصل. هذا بناء قد احترق، فاحتراقه يكون في الخبرة المباشرة — الخبرة كما نتلقاها في مكان الحادث وزمانه — حادثًا معزولًا وحده؛ فتكون المشكلة عندئذٍ هي أن نربطه مع غيره من الحوادث ربطًا يجعله جزءًا لا يتجزأ من تاريخ أشمل نطاقًا؛ وإنها لمشكلة تنحلُّ عند الإدراك الفطري إذا ما وقعنا على حادثة «سابقة»، كأن نرجعها — مثلًا — إلى فعل فاعل أشعل النار في البناء بغية الانتقام، أو ابتغاء الحصول على أموال التأمين، أو إلى عود ثقاب قذف به قاذفه إهمالًا، أو ما شابه ذلك؛ وأما العلم فيرد الحوادث في جملتها الكيفية، وهي الحوادث التي كان الإدراك الفطري قد ظنها كافية للتفسير، يردها إلى مجموعة متصلة من تفاعلات، كل واحد منها يبلغ من الصغر حدًّا يجعله قادرًا على الاتحاد بسواه ليكون معه كلًّا متصلًا متعاصر الحدوث أو متعاقبه، دون أن يكون بين أجزاء المجموعة فجوات أو ثغرات؛ فبالنسبة إلى التعميم، لا يبلغ البحث حد الرضا إلا إذا حدد ضروبًا معينة من التفاعل، وحدد الصيغة الكلية التي بوساطتها يمكن وصل تلك الضروب بعضها ببعض؛ فمثلًا ترانا نصل إلى التعميمات الخاصة بالوزن النوعي، والكثافة ودرجة انصهار المعدن، عندما نصل إلى أمثال هذه التعميمات التي نراها في الوصف العلمي لكل من هذه الأنواع؛ وعندئذٍ نستخدم هذه التعميمات — كلما احتجنا إلى استخدامها — في تمييز عنصر معين تمييزًا يبين ذاتيته ويفصله عما عداه من العناصر، فنعلم أنه معدن من النوع المعين الفلاني؛ فمن ناحية القضايا الكلية المجردة، يعرف الوزن النوعي والحرارة والضوء على أساس مضمونات من شأنها أن يرتبط بعضها ببعض ارتباطًا يمكننا من استنباط إحداها من الأخرى. وتظل هذه التعميمات تنتظر التطبيق كلما نشأت ظروف تستدعي منا أن نحدد ظاهرة خاصة قامت في الوجود الخارجي؛ نعم إن الأحكام العامة قد أنشئت بمناسبة وقوع ظروف فعلية تستوجب منا أن نعمم الحكم بمقدار ما لدينا من وسائل في التعميم؛ لكننا نضيف إلى هذا القول الآن إننا حين نطبق تلك الأحكام العامة على موقف بذاته، فإنها تحدد لنا مفردات الواقع تحديدًا دقيقًا مقيسًا، بحيث نستطيع بعدئذٍ أن نربط هذه المفردات بعضها ببعض لنكوِّن منها متصلًا يكون وحدة كيفية واحدة تتسع لتشمل في نطاقها رقعة من مكان وفترة من زمان؛ وكون التعميمات بصورتيها (الكلية المجردة من ناحية والجامعة لسمات الأنواع الواقعة من ناحية أخرى) تتقرر تقريرًا صريحًا بالاستناد إلى قدرتها على أداء هذه المهمة، أقول إن كون التعميمات تتقرر على هذا الأساس، هو نفسه العلة التي تجعل مهمتها الأدائية هذه تندمج اندماجًا في مضمونها، حتى لنسلم بوجود تلك المهمة الأدائية تسليمًا ينتهي بنا إلى إنكار وجودها، ثم ينتهي الأمر بنا آخر الأمر إلى فصل تام بين «النظر» و«العمل». وسنضرب مثلًا يجعل هذه الملاحظة الصورية أكثر تعينًا؛ رجل وجد ميتًا في ظروف شاذة إلى الحد الذي يثير الريبة والشك والبحث؛ أكانت حالة اغتيال أم حادثًا عارضًا أم انتحارًا؟ فالمسألة هنا مسألة تحديد السمات التي تجيز للظاهرة المذكورة أن تندرج تحت نوع محدد اندراجًا سليمًا؛ والطريقة الوحيدة التي نكشف بها عن السمات التي نقرر عنها أنها تكفي للتفرقة التي تضع لنا الظاهرة في نوعها الصحيح، هي — كما نقول عادة — أن نبحث عن «السبب» الذي سبب الوفاة في الحالة التي بين أيدينا؛ فمهما يكن ما تعنيه وما لا تعنيه كلمة «سبب» في هذا السياق، فهي على الأقل تتضمن إخراجنا للحادثة من عزلتها التي وجدناها عليها أول الأمر، لنربطها بغيرها من الحوادث؛ حتى إذا ما حولناها إلى صورة أخرى بتحليلنا لعناصرها، فإنها تصبح بهذا التحويل أحد المقومات التي يأتلف منها امتداد من الحوادث أوسع نطاقًا؛ وبهذا الربط بينها وبين سواها، يتبدد «السر» الذي كان بادئ ذي بدء يكتنفها بغموضه؛ فماذا يتضمنه البحث الذي نجريه لننشئ به هذه الروابط المطلوبة؟ فأولًا يتم فحص الجثة وما يحيط بها من ظروف فحصًا دقيقًا؛ وهو فحص — إن كان قائمًا على المشاهدة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة — إلا أنه موجه بما يكون علم العصر وفنونه قد زودانا به من مدركات وتقنيات؛ وأما أن هذه المشاهدات توجه إلى ما تتجه إليه بقصد الكشف عن السمات المميزة التي نميز بها أنواع الميتات الممكن وقوعها؛ كأن يكون موتًا طبيعيًّا مفاجئًا، أو موتًا بالانتحار أو بالاغتيال، أو بحادث عارض، فأمر يصبح من الوجهة العملية شيئًا مألوفًا معادًا؛ لكنه من الوجهة المنطقية يتضمن مجموعة من قضايا انفصالية (نقول بها إما كذا أو كيت) تستوعب شتى الاحتمالات الممكنة نظريًّا؛ على أننا عند صياغتنا لكل من هذه القضايا الانفصالية، نصوغها في صورة فرض نقول به «إذا – إذن»؛ وبعدئذٍ نبسط مكنونات كل من هذه الفروض في سلسلة مرتبة من التفكير الاستنباطي؛ كأن نقول — مثلًا — «إذا كان الموت طبيعيًّا، إذن لنتج كذا وكذا من النتائج التي ترتبط بالموت الطبيعي» وها هنا نأخذ في فحص الظروف القائمة لنستوثق إن كانت هذه النتائج المستنبطة نظريًّا هي النتائج الواقعة فعلًا أم أن الأمر ليس كذلك. غير أن القضية الناتجة عن نوع الميتة التي نحن بصددها، لا تحل الإشكال بحيث نهتدي إلى أي البحوث نتناول؛ فكل ما تفعله تلك القضية الناتجة هو أنها تصوغ الإشكال في صورة توحي وتحدد طريق السير في بحث جديد؛ فافرض أن القضية هي هذه: «هذه حالة موت نتج عن ضرب عنيف أنزله بالقتيل شخص آخر»؛ فهذه قضية بدل أن تكون هي النتيجة الختامية الكاملة، نراها نقطة ابتداء لبحوث يُراد بها الكشف عن مقترف الجريمة من هو وعن الظروف التي اقترف فيها جريمته؛ وهذا الشق الأخير هو الذي نسميه عادة ﺑ «الدافع»، وهو الذي يزودنا بالسمات الفاصلة التي نقرر على أساسها من أي نوع يكون هذا القتل الذي نحن بصدده: أهو قتل للدفاع عن النفس؟ أم هو قتل في ثورة من غضب؟ أم هو عن قصد سبقه إصرار؟ وهكذا؛ وتحديد نوع القتل في هذه الحالة الخاصة، يحدد بدوره عواقب وجودية أخرى، تجيء وفق النظام القائم من حيث المدركات القانونية، فتكون هذه هي القواعد التي نسلك على أساسها، فالموت للقاتل، أو الحبس، أو إطلاق السراح … إلخ. وغايتنا من ذكر هذه القائمة من وجوه البحث المختلفة، هي أن نبرز القوة المنطقية للحقيقة الجلية التي هي أن البحث الذي تضطلع به يمد من نطاقه حتى يجاوز — إلى حد بعيد — مجرد فحص الجثة وما يحيط بها من ظروف إحاطة مباشرة؛ فالضرورة التي تلزمنا بالقيام بأبحاث نستوثق بها من الحالة الصحية التي كان عليها الميت قبل موته، ومن تحركاته خلال الفترة السابقة على اللحظة التي تقرر أن الموت قد حدث فيها، ومن علاقاته بالأشخاص الآخرين كأعدائه أو الأشخاص الذين يُنتظر لهم أن يستفيدوا من موته؛ ونستوثق من أوجه النشاط التي قام بها أشخاص آخرون تحوم حولهم الشبهات، وهكذا؛ أقول إن الضرورة التي تلزمنا بأن نستوثق من هذا كله هي نفسها الضرورة التي تبرهن لنا على أن القضايا التي نستدلها عن نوع الميتة التي وقعت، إنما هي قضايا ناقصة وغير كاملة من الناحية المنطقية؛ وإذا أردنا أن نضع هذا المعنى في عبارة إيجابية، قلنا إن القضية التي نحدد بها نوع الميتة إن هي إلا شرط لا بد من توافره لكي نواصل بحوثنا التي نربط بها الوقائع التي نكون قد استوثقنا منها بمجموعة من وقائع أخرى مرتبط بعضها ببعض، بحيث ينتج لنا مركب من حوادث موصول بعضها ببعض، يتكون منه مجرى واحد متصل الأجزاء مكانًا وزمانًا. وبقي علينا أن نذكر علاقة هذه الملاحظات التي أبديناها بفكرة «السببية» كما تعمل عملها في البحث العلمي؛ فالفكرة الشائعة المستمدة من اعتقادات الإدراك الفطري غير الدقيقة، هي أن في مستطاعنا أن ننتقي حادثة نجعلها هي السابقة على الحادثة التي نحن إزاء بحثها، ثم نعد هذه الحادثة السابقة سببًا لتاليتها؛ مثال ذلك أن يُقال إن ما قد سبق موت القتيل رصاصة أطلقها شخص آخر بمسدسه؛ لكن نظرة فاحصة تبين أن هذه الحادثة الأخيرة ليست سابقة أسبقية زمنية، ودع عنك أن نقول إنها هي الحادثة السابقة (التي لا سابق غيرها) وذلك لأن مجرد إطلاق الرصاصة ليس لصيقًا في التعاقب الزمني بما يكفي أن نجعله «سببًا» للموت؛ فربما كانت الرصاصة قد أخطأت الرجل فلم تصبه بشيء؛ فلا تكون الرصاصة مرتبطة «سببيًّا» بوقوع الموت، إلا إذا دخلت فعلًا في جزء حيوي من الكيان العضوي، دخولًا يوقف العمليات العضوية عن أداء مهماتها؛ ومثل هذه الحادثة لا تكون سابقة على حادثة الموت، لأنها مقوم من مقومات حادثة الموت نفسها. ونستطيع أن نصف العمليات العقلية التي تؤدي بالإدراك الفطري إلى فكرته عن سبب حادثة ما (إذ يجعل السبب حادثة سابقة يختارها) كما يلي: نقطة البدء هي واقعة الموت؛ ثم تثير هذه الظاهرة بعزلتها التي تدركها عليها المشاهدة الحسية مشكلة الكشف عما يربطها بغيرها من الحوادث ربطًا مكانيًّا وزمانيًّا؛ لكن هذه مشكلة تختص بحالة مفردة من حالات الوجود الخارجي، وليست هي بمشكلة خاصة بتكوين حكم عام، على الرغم من أنها مستحيلة الحل بغير التوسل إلى ذلك بأحكام عامة نستخدمها؛ والخطوة الأولى في تحديدنا للروابط التي تربط حادثة الموت بغيرها، هي استكشافنا بأن رصاصة دخلت جزءًا حيويًّا من الكيان العضوي، وأن الرصاصة قد أطلقها شخص آخر؛ إلى هنا لا إشكال في الأمر؛ لكن التحليل يبدأ في الحيدة عن جادة الصواب حين يفوتنا أن تحديدات كهذه تكوِّن مضمون حادثة ما، تحل عندئذٍ من البحث محل الحادثة كما وقعت لنا في مشاهدتنا بادئ ذي بدء؛ فالحادثة كما شوهدت أول الأمر، قد تحول أمرها الآن بحيث أصبحت توصف بمجموعة من تفاعلات رددنا إليها بالتحليل حادثة الموت في صورتها التي شوهدت بها بادئ الأمر. وتحليل الحادثة في صورتها الأصلية تحليلًا يردها إلى هذه المجموعة من التفاعلات، يتم بتطبيقات لطائفة معلومة من مدركات عامة، هي نتائج كنا قد وصلنا إليها من بحوث سابقة، كمدركاتنا — من جهة — عن القوانين الفيزيائية الخاصة بالسرعة وما إلى ذلك، وذلك من ناحية الرصاصة، وكمدركاتنا — من جهة أخرى — التي كوناها عن العمليات الفسيولوجية؛ فهذه تعميمات تعمم أحكامًا عن مضمونات سمات مشاهدة ومفاهيم عقلية، يرتبط بعضها ببعض منطقيًّا؛ لكنها ليست تعميمات عن التتابعات الزمنية؛ فحادثة دخول الرصاصة في القلب — مثلًا — إنما هي مقوم من المقومات التي تتألف منها حادثة مفردة، هي حادثة الموت التي نتناولها بالبحث، وليست هي بالحادثة التي سبقت حادثة الموت. فالمذهب القائل بأن السببية قوامها علاقة بين حادثة سابقة وحادثة لاحقة، هو إذن مذهب نشأ عن خلط مهوش لفكرتين من طرازين مختلفين؛ فهنالك الفكرة السليمة التي تقول إن الحادثة كما كانت على صورتها الأولية التي أدركناها بالمشاهدة إدراكًا مباشرًا، لا يمكن فهمها إلا إذا رددناها إلى حوادث أصغر (تفاعلات) بحيث يصبح بعض هذه الحوادث الأصغر عناصر من مقومات مجرى متصل مكانًا وزمانًا؛ لكن القائلين بهذه الفكرة السليمة تراهم مع ذلك ينظرون في الوقت نفسه إلى الموت كما لو كان حادثة أولية ترتبت على حادثة أولية أخرى، هي إطلاق الرصاصة من المسدس؛ فالجمع بين هاتين الفكرتين المتباينتين، هو الذي يولد فكرة العلاقة بين حادثة تعد السابقة وحادثة أخرى تعد اللاحقة. ثم يكمل الخلط بعد ذلك بالفكرة القائلة إن التعميمات — التي بوساطتها نستوثق من صحة الحادثة الفذة المتصلة — هي صياغات نصوغ بها تتابعًا للأحداث مطردًا؛ وهكذا يتمثل في هذا الخلط بين الوسائل الإجرائية التي نصطنعها في منهج البحث، ونتائج تطبيقها على وقائع الوجود الخارجي، أقول إن في هذا الخلط يتمثل خلط آخر بين فكرة الإدراك الفطري عن السببية باعتبارها علاقة بين حادثتين مستقلتين، والطريقة العلمية في حل ما يحدث حلًّا يرده إلى حادثة مفردة مستمرة؛ نعم إنه خلط يتبين فيه كيف أصاب فكرة الإدراك الفطري شيء من التهذيب، لكنه في الوقت نفسه يحتفظ في دخيلته بما في تلك الفكرة من متناقضات، وذلك لأنه لا وجود لما يسمونه تتابعات مطردة للأحداث، إذ إننا إذا ما أحللنا التعميم الذي نعمم به اقتران السمات أو اقتران المفاهيم العقلية، محل «الأحداث»، زالت صفة التتابع. وقبل أن نمضي في مناقشة هذه النقطة، يجمل بنا أن نقول شيئًا عن الأصل التاريخي لهذه الفكرة؛ فلقد أدت حقيقة كون الأشياء وهي على حالتها الكيفية الأولية (وهي الأشياء كما تقع لنا في الإدراك الحسي المباشر) منفصلًا بعضها عن بعض بحكم تفرد طبائعها الكيفية تفردًا يميز الواحدة من الأخرى، أقول إن هذه الحقيقة قد أدت — حين تدخل التأمل الفلسفي في الأمر — إلى الشعور بأنه لا بد لنا من شيء ما يملأ الفجوة بين تلك الأشياء المنفصلة؛ فإشعال عود الثقاب — مثلًا — ينتهي قبل أن نمس بالثقاب المشتعل قطعة من الورق مسًّا تأخذ به الورقة في الاحتراق؛ فالثقاب المحترق والورقة المحترقة شيئان كيفيان متميزان؛ ولهذا لجأ من لجأ إلى فكرة «قوة ما» ليعالج بها ما قد أحدثته هذه الفجوة الكيفية من إشكال؛ ففرضوا بأن للثقاب قوة إحراقية معينة؛ وهكذا أيضًا قيل عن الجسم الحي إنه يموت حين تفارقه الشرارة الحيوية، أو القوة التي تمد الجسم الحي بحياته؛ ثم عمموا هذه القوى آخر الأمر، فقالوا إن قوة الجاذبية هي التي تجعل الأشياء تسقط إلى أسفل، وقوة الخفة هي التي تجعلها تتحرك إلى أعلى، وقوة الكهربا هي التي تجعل قطع الكهرمان — إذا ما حكت — تجذب إليها قطع الورق، وقوة المغناطيس هي التي تجعل المغناطيس يجذب الحديد، وهكذا؛ فالحق أن فكرة القوى منبثة في الاعتقادات الثقافية الشعبية انبثاثًا يبلغ منها أعماقها، فليس بنا حاجة إلى ضرب الأمثلة. وأما المصدر العقلي لهذه الفكرة فقد سبق أن ذكرناه، فالأحداث تشاهد أول ما تشاهد متعاقبة؛ والتعاقب بحكم طبيعته الكيفية نفسها يتضمن فاصلًا زمنيًّا أو فجوة؛ وعلى ذلك فلا غناء لنا عن شيء ما خارج الحوادث لنفسر به كون الحوادث مرتبطًا بعضها ببعض رغم استقلال كل منها عن الأخرى؛ وقد مرَّ بنا زمن رأينا فيه أن القوى بحكم تعريفها غير قابلة لأن تكون موضع مشاهدة تجريبية ولهذا استبعدت القوى من مجال العلم، واستبعد معها سواها من الصفات والصور «الغيبية»، ولربما كانت القوى أبرزها مثالًا في هذا السبيل؛ ونشأت بعد ذلك فكرة هجين، أخذت من الإدراك الفطري فكرة التتابع، وأخذت من العالم فكرة اقتران (السمات أو المفاهيم العقلية) اقترانًا لا يتخلف؛ وإن ظواهر الأمر كلها لتدل على أن طمأنينة النفس التي ظفرنا بها نتيجة لتخلصنا من فكرة القوى غير المحببة وغير العلمية، قد كانت كافية لحماية الأفكار الجديدة التي جاءت لتقول إن القوانين هي تتابعات لا تتخلف، حمايتها من النقد الذي كان ليكون واضحًا جليًّا لولا تلك الطمأنينة، وهو النقد الذي مؤداه أن المضمونات التي يتعلق بعضها ببعض في القانون العلمي تعلقًا يطَّرد ولا يتخلَّف، ليست أحداثًا؛ وأن العلاقة بين تلك المضمونات ليست علاقة التتابع؛ بيد أنه ما كادت الفكرة تجد لنفسها صياغة تصوغها (صياغة دالة على تشكك عند هيوم، وصياغة قاصدة إلى البناء عند مل) حتى صادفت قبولًا، كما لو كانت أمرًا محتومًا قبوله، إن لم يكن صادقًا صدقًا واضحًا بذاته، فهو أقرب شيء إلى الصدق الواضح بذاته. ولدينا من المسوغات ما يجعلنا نفترض بأن الفكرة القائلة إن القوانين العلمية صياغات لتتابعات تطرد ولا تتخلف، قد جاءت — إلى حد كبير — نتيجة لمحاولة من حاول أن يراجع — من نواحٍ هامة — طريقة الإدراك الفطري في استخدامه لفكرة السببية دون أن ينبذ — رغم ذلك — الفكرة التي تنطوي عليها تلك الطريقة؛ فالإدراك الفطري مترع باعتقادات من قبيل: «المطر الغزير يعمل على نمو البذور التي تكون قد بذرت» و«الماء يطفئ الظمأ» و«تسخين الحديد يجعله أكثر قابلية للطرق» وهكذا إلى ما لا نهاية له من الاعتقادات؛ ولقد أحيل بعض هذه الاعتقادات الشعبية الآن إلى مقولة الخرافات، كالاعتقاد بأن التغيرات في أوجه القمر تسبب تغيرات في نمو النبات؛ لكن هنالك اعتقادات كثيرة أخرى ما ينفك الناس يعتمدون عليها في أوجه نشاطهم العملي؛ وفي هذه الحالات تكون «التعميمات» من طبيعة تجعلها صياغات لما نتوقعه بحكم ما قد تعودناه؛ فهي من القبيل الذي رد إليه «هيوم» فكرة السببية بأسرها؛ ولما كانت صياغات لتوقعات، فهي تنصب على علاقة التعاقب بين السابق واللاحق من الحوادث؛ غير أن الصياغة التي نصوغ بها ما نتوقع حدوثه — مهما كانت نافعة عمليًّا، ومهما كثرت حالات إثباتها — فليست هي من قبيل القانون؛ فمن وجهة نظر البحث العلمي، لا تزيد هذه التوقعات على كونها مادة لمشكلات؛ فمثلًا لماذا وكيف أمكن للإنسان أن يعتمد عليها في حياته العملية؟ والجواب عن هذا السؤال لا يكون إلا على أسس موضوعية تسوغ لنا أن نتوقع ما نتوقعه؛ وهكذا ينبغي أن نحول العبارة التي نعبر بها عن (كون السببية) عادة اعتدناها في الجانب العملي من حياتنا، لتصبح عبارة نعبر بها عن علاقة قائمة بين مواد موضوعية. خذ اعتقادًا غير علمي كالذي نعبر عنه بالقضية الآتية: «إدخال الزرنيخ في الكيان العضوي يسبب موته»؛ فالقول تعميم في صورته اللغوية، وهو قول عن تتابع يؤخذ على أنه مطرد اطرادًا معقولًا على أقل تقدير؛ لكن البحث العلمي يبدأ سيره بإضافة شروط مقيِّدة؛ فلا بد من تخصيص مقدار الزرنيخ المجترع، إذ يتحتم لجرعة الزرنيخ أن تكون ذات مقدار كمي يكفي (لإحداث الموت) وكذلك لا بد من تحديد لحالة الكيان العضوي الذي يجترع الزرنيخ؛ لأن بعض الأشخاص يعاودون اجتراع جرعات صغيرة من الزرنيخ، تزداد تدريجًا فيصبحون ذوي حصانة من الجرعات التي تكفي لإحداث الموت عند غيرهم؛ ولا بد من الأخذ في اعتبارنا حضور أو غياب «الظروف المضادة» إذ إن الموت قد لا ينشأ نتيجة للزرنيخ إذا ما شرب مجترعُه ترياقًا يُبطل فعله مثلًا. فالقضية التي ننتهي إليها بعد أن نسير بالبحث حتى هذه النقطة، ليست قضية عن تتابع مطرد، بل هي قضية ذات صورة من هذا القبيل: «إدخال الزرنيخ في كيان عضوي تحت ظروف معينة، يميل نحو إحداث الموت»؛ فالأمر هنا ما يزال تقريرًا لمشكلة أكثر منه نتيجة علمية ختامية؛ ومهمة البحث العلمي في حل المشكلة هي الكشف عن أسس أو مسوغات من الوجود الواقعي، تجيز لنا قبول القضايا التي فرغنا حتى الآن من تكوينها؛ فإذا ما حددنا تلك الأسس أو المسوغات، ألفيناها ذات أثر فعال ينشأ عنه تغير جوهري في مضمون القضايا وصورتها، أعني القضايا التي كنا قد سقنا المشكلة في عباراتها؛ فليس التغير الذي ننتقل به من الاعتقاد الشعبي ومن القضية الناقصة علميًّا، إلى التعميم العلمي المحدد، مقصورًا على مجرد حذف بعض العناصر وإضافة غيرها؛ بل هو تغير يقتضي إقامة مادة وجودية من طراز جديد؛ ففي هذا التغير تتحول الأحداث الكيفية الأولية، والصفات التي تقع لنا في الإدراك الحسي المباشر، وهي الأحداث والصفات التي يأتلف منها مضمون فكرتي الزرنيخ والموت، تتحول هذه لتصبح مجموعة متعينة من تفاعلات؛ وحاصل ذلك قانون، فالقانون يقرر لنا علاقة قائمة بين سمات من شأنها أن تقيم الحدود الفواصل لنوع معين، وهي سمات — من الناحية المنطقية — تقترن معًا لتجمع خصائص النوع كما أنها تستوعب الحالات الممكنة التي إن صدقت إحداها كذبت الأخرى؛ فليس عنصر التتابع قائمًا في علاقاتها إحداها بالأخرى وعلى ذلك فالفكرة القائلة إن القانون هو صياغة للتتابع المطرد (أو الذي لا يتخلف) هي — فيما يظهر — محاولة للاحتفاظ ببعض عناصر الفكرة الشعبية بالإضافة إلى بعض عناصر الفكرة العلمية، بغض النظر عن التحول الجوهري الذي تحدثه الصياغة العلمية في مادة الاعتقاد الشعبي. أضف إلى ذلك أن تحديد التفاعلات التي نحصل منها على السمات التي تقترن اقترانًا غير مقيد بزمن معين، مكونة بذلك الفكرة العلمية، إنما يتحقق بما نجريه من تجارب؛ وإن الأمر ليقتضينا عدة صفحات في رسالة تؤلف عن الكيميا، لكي نبسط التجارب — بما تتضمنه من أجهزة وتقنيات — التي لا بد منها حتى يتاح لنا قبول مجموعة السمات التي تقترن معًا، والتي تستوعب شتى الحالات الممكنة في قضايا انفصالية، والتي منها يتكون مضمون التعميم العلمي؛ أما والتجارب التي نكون بها المجموعة المطلوبة من السمات المتعلق بعضها ببعض، تعتمد على فروض تُصاغ في قضايا على صورة «إذا – إذن»، فإن الأمر ليقتضينا فصلًا أو فصولًا من رسالة كيماوية، لكي نبسط في عبارة صريحة تلك الأفكار والعلاقات المتبادلة بين الأفكار، المتضمنة بطريق مباشر وبطريق غير مباشر في سيرنا بالتجارب التي تنتهي بنا إلى القانون أو إلى التعميم المذكور، بحيث يكون فيه ما يبرر لنا قبوله؛ ولا أحسبني بحاجة إلى أن أضيف أن مضمون هذه القضايا الشرطية (الفروض) — التي تتخذ صورة القوانين الفيزيائية — لا يشتمل على أية إشارة إلى تتابعات؛ لأنها قضايا تقرر علاقة بين مفاهيم عقلية، ويحسن أن يجيء تقريرها هذا في معادلات رياضية؛ فبينما تكون هذه المعادلات الرياضية ذات إشارة — آخر الأمر — إلى ما هو موجود في الواقع، عن طريق الإجراءات الممكنة التي تتم بتوجيهها، فهي في الوقت نفسه لا وجودية في مضمونها (ومن ثَم فهي غير مقيدة بزمن معين). وعلى الرغم من هذا الذي أسلفناه، فالأرجح للفكرة القائلة إن القانون العلمي دالٌّ على تتابع، أن تظل راسخة في عقول كثير من القراء؛ فقد يُعترض — مثلًا — بأن النظرية التي أعرضها، مضادة لحقيقة الواقع، إذ إننا نرى التتابعات السببية بالفعل قائمة في القضايا العلمية التي تُقال عن الأحداث الطبيعية؛ مثال ذلك (وسأمضي في شرح الاعتراض) حالة نشتبه أنها حالة تسمم فإننا عندئذٍ نلتمس السمات الدالة على الظاهرة المشتبه فيها، والتي تنبئ بفعل مادة سامة كالزرنيخ مثلًا؛ فإذا وجدنا هذه السمات، مضينا في بحوث أخرى لكي نقرر به ترتيبًا متتابعًا في الأحداث محدد المراحل، كأن نعين حادثة شراء للزرنيخ قد سبق وقوعها، وفرصة سنحت فيما سبق لشخص ما أن يدبر اجتراع جرعة منه؛ وإنه ليُقال إن النتيجة الختامية تبلغ من الصحة بمقدار ما استطعنا أن نجد ترتيبًا متتابعًا جاءت فيه الأحداث وثيقة العرى واحدة بعد واحدة. لكن ما قد أسلفناه من قول لا يناقض في شيء هذه الوقائع كما بسطناها هنا؛ بل الأمر على خلاف ذلك، إذ إن ما قلناه هو الرأي الوحيد الذي يزودنا بتفسير منطقي متسق لها، كما أنه هو الرأي الوحيد القادر على بيان دقيق لموضع التحديدات التي تجيء متتابعة: أين تدخل وتعمل عملها، وكيف يتم لها ذلك الدخول والعمل؛ فالمثل الذي ذكرناه ينصب على حادثة مفردة، والحادثة فذة في تفردها، لا تقع إلا في لحظة زمنية واحدة وإلا في موضع مكاني واحد، مما يستحيل معه — على أية حال — أن تعاود الحادثة حدوثها في تفردها؛ هذا إلى أن الأمر لا يقتصر على استحالة حدوث ميتتين بتسمم الزرنيخ بحيث تكونان متحدتين تمام الاتحاد في زمان الحدوث ومكانه، بل إن هنالك دائمًا من الصفات المتعينة الأخرى ما تختلفان فيه؛ فلئن كانت القوانين (للطرازين معًا) وسائل نتوسل بها لتحديد التتابعات التي تكوِّن — بصورتها التي أيدها البحث — مضمون التفسير العلمي لما قد حدث في الحالة المفردة، إلا أن هذه القوانين — وإن تكن وسيلة ضرورية لتحديد التتابعات في الحالات المقررة المطلوب تفسيرها — فليست هي نفسها بذات مضمونات فيها تتابع، كلا ولا الحوادث المفردة التي يتحدد أمرها بتلك القوانين مما يعاود الحدوث. لقد قصدنا بعبارتنا التي أسلفناها عن التتابعات، أن القوانين، سواء أكانت خاصة بالسمات التي تحدد نوعًا ما من الأنواع، أم كانت خاصة بالمفاهيم العقلية التي تنصب في صيغة تقول «إذا – إذن» — هي أدوات وسلية لتحديد تتابعات مرتبة — بوساطة العمليات الإجرائية التي تقررها وتوجهها، تتابعات ترتد إليها الحوادث الكيفية الأولية (التي نصادفها في إدراكنا الحسي المباشر)، وكذلك أشرنا فيما سبق إلى أن رد الحوادث الكيفية الأولية إلى تتابعات مرتبة على هذا النحو، يفسر المكانة والمهمة الفعليتين لما يسمونه تتابعات سببية؛ وقبل أن أتناول هذه النقطة بالنظر، سأوضح الشروط المنطقية المتضمنة في صياغة قانون من القوانين، بأن أسوق حالة أخرى على سبيل المثال، وهي حالة التتابع المشاهد بين النهار والليل؛ فتتابعهما يقرب من الاطراد الذي لا يتخلف قربًا ليس في الإمكان ما هو أقرب منه في محيط الحوادث الأولية؛ ومع ذلك فإن كانت إحدى الحادثتين تؤخذ — عند أعضاء إحدى القبائل الهمجية — على أنها سبب للأخرى، فإن المحاولات العلمية لم تكد تبدأ في تفسير التتابع بينهما، حتى وضع هذا التتابع موضع المشكلة التي تتطلب حلًّا، ولم يُنظر إليه على أنه يزودنا بما يكون مضمونًا لقانون، فقامت النظرية البطليموسية على أساس أن ما نشاهده من ثبات الأرض، وحركة الشمس، يمكن اتخاذه أساسًا للاستدلال؛ فكان تفسير تتابع النهار والليل عند هذه النظرية قائمًا على أساس ما بين المفهومين العامين: مفهوم الدوران ومفهوم الثبات في موضع بعينه من علاقات تربط أحدهما بالآخر؛ فإذا كانت هذه النظرية قانونًا للحوادث المتتابعة، فما ذلك إلا بالمعنى الذي يجعلها قانونًا يفسر تلك الحوادث المتتابعة، لا بالمعنى الذي يجعل التابع نفسه قوامًا لمضمون القانون؛ وكذلك جاءت نظرية كوبرنيق فنظرت إلى تتابع النهار والليل على أنه مشكلة تتطلب الحل (وأدخلوا في المشكلة أنواعًا كثيرة من التتابع إلى جانب تتابع النهار والليل ومواضع الشمس المتتابعة خلال السنة الشمسية وغير ذلك) أعني أنها جعلت ذلك التتابع هو مادة الموضوع المشكل الذي يتطلب البحث؛ وراحت تبحث عن تعميم يشمل الكواكب كافة والأوضاع المتعاقبة التي تأخذها توابعها، كما يشمل أنواعًا أخرى من تتابعات مشاهدة؛ فنتج عن ذلك قوانين فلكية تصدق على أنواع كثيرة جدًّا متباينة من التتابعات، منها كثير مما لم يقع في مجال المشاهدة إلا بسبب مجموعة الأفكار الجديدة؛ ولقد صِيغت هذه القوانين — من ناحية القضايا الشرطية، كما فعل نيوتن — في صورة معادلات خالية من أية عناصر تتابع تتابعًا زمنيًّا؛ وأما من ناحية القضايا الجامعة أو قضايا الأمور الواقعة، فقد كانت تلك القوانين مؤلفة من اقتران سمات تشغل في العالم الخارجي زمانًا ومكانًا؛ وهذه السمات نفسها لم ينظر إليها — لا على أنها تغيرات واقعة — بل على أنها وسيلة لتحديد العالقات القائمة بين التغيرات الفعلية؛ فالصيغة التي صاغ بها نيوتن الجاذبية، شملت أفكار كوبرنيق وقوانين كبلر في نظرية أشمل منها. وثمة وجهة أخرى للنظر يمكن أن ننظر منها إلى المشكلة، وهي وجهة النظر التي تقول «بتعدد الأسباب»؛ فحالات الموت، من حيث هي أحداث كيفية أولية (نصادفها في مجال المشاهدة المباشرة) تسبقها سوابق كثيرة أو «أسباب» كثيرة؛ لكنه ليس ثمة حالة واحدة لموت معين متعين الظروف، يمكن أن يكون له من الأسباب الممكنة أكثر من سبب واحد؛ ولو أننا في حالة عدم التيقن، نستعين بكثرة من فروض لنحدد مجرى الحوادث المتتابعة المتصل الفريد، الذي كانت تلك الميتة جزءًا منه؛ ولسنا بهذا نقول إن القوانين التي تصف النوع «موت» والتي تعرف — بوساطة علاقة متبادلة بين مفاهيم عقلية مجردة — ماذا يكون الموت بالمعنى المجرد، أقول إننا لا نزعم أن هذه القوانين تختلف — ما دامت قوانين صحيحة — من زمن إلى زمن ومن مكان إلى مكان؛ نعم إن السمات المقترنة التي اتخذناها علامة نصف بها الموت وأنواعه الفرعية، قد تغيرت على مر التاريخ؛ وقد نتوقع لها أن تتغير في المستقبل مع تقدم العلم؛ لكن هذا التغير إنما نحدثه ابتغاء الحصول على مجموعة من معانٍ عقلية تصبح ممكنة التطبيق بغير تغير؛ وهذا القول نفسه يصدق على تعريف الموت بمعناه المجرد. إن قول «مل» بأنه «ليس من الصواب أن الأثر الواحد يتحتم أن يكون مرتبطًا بشرط واحد فقط، أو بمجموعة واحدة من شروط» إن قول «مل» هذا لا يصدق إلا في حالة واحدة فقط، وتلك حين نفهم «الموت» بمعناه الواسع الذي يجعل من هذه الكلمة كلمة تسع كل الحالات؛ غير أنه ليس هنالك حالة فعلية لموت حقيقي تكون ذات طبيعة غامضة على هذا النحو؛ فمن ناحية تفكيرنا النظري، نرى أن هدف المنهج العلمي هو أن يصل إلى مجموعة متسقة من أنواع متعلق بعضها ببعض، بحيث تكون تلك المجموعة شاملة الأنواع كافة شمولًا نستطيع معه أن نذكرها واحدًا واحدًا، أو أن نستوعبها بقائمة من قضايا منفصلة تقول إن الحالة إما أن تكون كذا أو كذا أو … ومثل هذه المجموعة المتسقة للأنواع كافة إنما تؤلف كثرة من فروض، يكون كل فرض منها قاعدة تهدينا في القيام بمشاهدات تجريبية من نوع خاص؛ على أن نتائجها جميعًا، لو أخذت جملة واحدة، تقدم لنا السمات المنطقية التي تصف النوع والتي تحدد لنا أن الحالة المعينة إما أن تكون كذا أو كيت؛ أي إنها تقدم لنا السمات التي تصف لنا نوعًا ما بما يتسم به، وتمنع عنه ما ليس منه؛ فالدلالة التي تستفيدها النظرية المنطقية من فكرة «تعدد الأسباب» هي — إذن — بيانها بأن السمات التي نستخدمها بإدراكنا الفطري لنحدد بها نوعًا ما من أنواع الأشياء التي تقع لنا في حياتنا العملية، هي سمات غير محددة، ما دامت قد نشأت عن عمليات ليس من شأنها — نسبيًّا — أن تقيم الحدود الفواصل بين مختلف الأنواع؛ فسمات مثل وقوف التنفس ودرجة حرارة الجسد، قد تكفي للدلالة على أن موتًا قد حدث، لكنها لا تلقي ضوءًا على نوع الميتة التي وقعت. إن البحث العلمي ليبدأ سيره بنظرة إلى التغير المذكور على أنه مجموعة مركبة من تفاعلات يمكن التيقن منها — فرادى ومجتعمة — بوساطة عمليات إجرائية نحلل بها ونقيم التجارب؛ والنتائج التي تترتب على هذه العمليات الإجرائية، والتي تفرِّق لنا بين نوع ونوع، هي التي تقرر نوع الميتة التي وقعت؛ فمجموعة التفاعلات المتضمنة هنا، والتي تجمع كل ما ينتمي إلى النوع الذي نحن بصدده كما تمنع كل ما ليس ينتمي إليه، إنما تتعلق تعلقًا نسقيًّا بضروب أخرى من التفاعلات، ويكون هذا التعلق بوساطة قضايا كلية مجردة تصل بينهما؛ فلو كانت هذه الميتة المعينة — مثلًا — قد تبين بالاستدلال أنها نشأت عن حمى التيفود، فإن الكشف عن جرثومة معينة تكون عنصرًا من عناصر التفاعل في الموقف، يمكننا من استدلال شيء عن الحوادث السابقة على حدوث الموت؛ بحيث يجيء استدلالنا هذا موجهًا للبحث في طريق يلتمس فيه من المعطيات ما يؤيد الاستدلال؛ ولقد كان الاستدلال مستطاعًا بسبب أن ثمة تعميمًا يقرن حضور هذه الجرثومة في الجسم البشري بحضورها في ماء الشرب وفي اللبن وما إليهما؛ وأما التصور بأن هذا الاقتران في الحضور هو حالة يظهر فيها تتابع الأحداث، فإنه ينشأ — كما ذكرنا — من الخلط بين مضمون التعميم من جهة ومضمون الأحداث المتسلسلة التي تقع فعلًا في الوجود الخارجي من جهة أخرى، مع أن هذه الأحداث الواقعة تتحدد بطريقة استخدامنا إياها استخدامًا عمليًّا؛ فالمادة الماثلة في الوجود الخارجي، والتي نطبق عليها التعميم النظري، إنما تصبح بهذا التطبيق متصلًا تاريخيًّا تتسلسل حلقاته تسلسلًا زمنيًّا؛ على أن كل حالة من حالات هذا التسلسل الزمني للحوادث لا تكون غير الحالة المفردة التي هي ما هي عليه. وأعود الآن إلى مسألة الوضع الحقيقي والمهمة الفعلية التي توضع فيه وتقوم بها القضايا التي تُقال عن التتابعات المرتبة؛ فإذا لم يكن التتابع المرتب مضمونًا لقانون أو لتعميم، فأي نوع من أنواع القضايا يكون هذا التتابع مضمونه؛ لقد عرضنا — بالطبع — عناصر الإجابة عن هذا السؤال في غضون مناقشتنا السالفة، ولم يبقَ علينا سوى أن نجمعها معًا؛ فالتتابعات المرتبة هي مادة للقضايا التي ينحل فيها تعاقب الحوادث الكيفية الأولية، بحيث ترتد هذه الحوادث إلى مقومات لحادثة متصلة مفردة واحدة؛ ولم يفت من كتبوا في مناهج البحث الفيزيائي، أن يلاحظوا بأن البحث التجريبي يحل التغيرات الكيفية الأولية، التي تقع لنا في مجال المشاهدة وقوعًا مباشرًا، إلى مجموعات من تغيرات بالغة في الصغر لكن التفسير النظري لهذه الحقيقة المذكورة قد أفسدته الفكرة القائلة بأن الأثر المترتب على ذلك التحليل لا يعدو أن يكون مجرد إحلالنا لتعميم أكمل وأدق بكثير — بالنسبة إلى ترتيب تتابعي معين — محل تعميمات غير محكمة كان قد أخذ بها الإدراك الفطري بالنسبة للترتيب التتابعي المذكور؛ مع أن التفسير الصحيح — على خلاف ذلك — هو أنه بفضل التطبيق الإجرائي الوسلي لتعميمات تتألف من علاقات بين الحوادث غير مقيدة بزمن معين، تصبح التغيرات الصغيرة المذكورة بحيث تمكن الحوادث المتباينة كيفًا أن تصير مكونات لحادثة متصلة واحدة. إن التباين الكيفي الذي نراه بين الحوادث الأولية المشاهدة يحدث — كما قد ذكرنا في موضع سابق — فجوة ظاهرة بينها؛ ثم تجيء التعميمات التي نعمم بها القول عن السمات تعميمًا نتقيد فيه بما نراه بينها من تفاعل، فتسد لنا تلك الفجوات وكلما كانت ضروب التفاعل التي نتحقق منها أشد صغرًا، أي كلما كانت أكثر «بساطة»، جاء زوال تلك الفجوات على صورة أكمل، وجاءت المتصلات المفردة التي ينتهي بها الأمر إلى أن تكون متصلات متماسكة الأجزاء كأنما كل متصل منها فرد واحد لا يتجزأ في الوجود الواقعي مكانًا ولا زمانًا، جاءت تلك المتصلات الفردية أيسر اتصالًا؛ وما تلك المتصلات إلا الحواصل الختامية التي تؤدي إليها معرفتنا بالحوادث معرفة علمية. وهذه الملاحظات تؤيد النتيجة النظرية بأن السببية — من حيث هي تتابع مرتب — مقولة منطقية، بالمعنى الذي يجعلها فكرة مجردة عن التتابعات التي لا حصر لعددها في الوجود الواقعي، والتي يؤكدها البحث العلمي، يؤكدها باستخدامه لقضايا معممة هي بمثابة القوانين؛ وذلك لأننا لو نظرنا إلى الحوادث من حيث هي وقائع وقعت في الوجود الخارجي، بالمعنى الدقيق لهذه العبارة، لما كان منها حادثة تعد سابقة أو «سببًا» أكثر مما تعد هي نفسها لاحقة أو «مسببًا»؛ أضف إلى ذلك أنه حتى إذا أخذنا حادثة ما على أنها سابقة أو لاحقة (وهو تأويل لها تعسفي صرف، إذا نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر وجودها الواقعي معزولًا عن إجراءات البحث) وجدنا لها عددًا لا نهاية له من السوابق ومن اللواحق التي ترتبط بها، ما دامت كل حادثة مرتبطة في الوجود الواقعي بحادثة غيرها، وهكذا إلى غير نهاية؛ وبناءً على ذلك، فالنتيجة الممكنة الوحيدة التي نرتبها على أساس تأويلنا للسببية تأويلًا واقعيًّا أو وجوديًّا، هي أن كل شيء في الكون سبب ومسبب لكل شيء آخر، وهي نتيجة تجعل مقولة السببية معدومة النفع إطلاقًا بالنسبة للأغراض العلمية. إن فيما قد ذكرناه الآن لمفتاحًا لنوع القضايا التي يمكن أن يُقال عنها بحق إن لها مضمونًا سببيًّا، مميزين لها من الأحداث المتتابعة المرتبة ترتيبًا زمنيًّا أو تاريخيًّا، وذلك لأن ما قلناه يتضمن علاقة الوسائل بنتائجها؛ إذ إن القضايا التي تتناول تناولًا صريحًا مواد متعلقًا بعضها ببعض تعلق الوسائل بنتائجها يصح أن تسمى بالقضايا السببية بمعنًى مميز لهذه الكلمة؛ فكثيرًا ما يشير المشيرون إلى أن الإدراك الفطري يستخدم السببية بمعنًى عملي توقعي؛ فما من فعل بصير إلا ويتضمن اختيارًا لأشياء بعينها لتكون وسائل مؤدية إلى أشياء أخرى هي نتائج تلك الأشياء المختارة؛ فإذا أُريدَ للحديد أن يُطرَق ويُشكَّل فلا بد من تسخينه؛ وإذا أُريدَ لغرفة أن تُضاء فلا بد من إنارة مصباح أو من ضغط على زر الكهرباء، وإذا أُريدَ للمحموم أن يُشفى من مرضه فلا بد من معالجته على نحو معين، وهكذا نستطيع أن نذكر أمثلة إلى غير نهاية؛ فالنتيجة المنشودة هي المسبب الذي تكون الوسائل المؤدية إليه أسبابًا له؛ وبصفة عامة، يبدأ البحث العملي بغاية يُراد تحقيقها، ثم نمضي في البحث عن الوسائل التي يمكن بها لتلك الغاية أن تتحقق؛ أما فكرة المسبب فغائية في جوهرها، إذ إن المسبب هو النهاية التي نصل إليها؛ وأما الوسائل المنوعة التي نستخدمها لذلك فهي التي تؤلف السبب، وذلك حين نختار هذه الوسائل ونعمل على أن يتفاعل بعضها مع بعض. إن النظرية الخاصة بالقوانين السببية — وهي التي تناولناها بالنقد — تذهب إلى أن القضايا العلمية عن السببية تختلف عن القضايا التي فرغنا لتونا من توضيحها، في أن لها دلالة راجعة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، ومن ثَم فهي قضايا «نظرية» صرف؛ مع أن الحقيقة القائلة إن إجراء التجارب يدخل في تحديد كل قضية جائزة القبول، تكفي وحدها للبرهنة على خطأ النظرية المذكورة؛ فالأداء والصنع متضمنان في الأمر؛ ونوع الأداء والصنع هو الذي يقرر الوسائل — المادية والإجرائية — التي بها تتحقق غاية متوقعة، أي يتحقق بها موقف موحد يكون هو نتيجة الأداء أو الصنع؛ فالموقف الموحد هو الهدف الأخير (وإن لم يكن الهدف القريب) من كل بحث؛ ومن ثَم كانت القضايا السببية (بالمعنى الذي تكون به هذه القضايا ذات مضمون يدل على علاقة الظروف التي هي وسائل بالظروف الأخرى التي هي نتائج) متضمنة في كل بحث سار فيه الباحثون بكفاية؛ فما إحداث النتيجة إلا خلقها أو إنتاجها أو صناعتها أو توليدها، والذي يعيننا على تحقيق هذه الغاية هو السبب بالمعنى الوجودي المشروع الوحيد لهذه الكلمة. نعم إن استعراضنا للحوادث استعراضًا نرتد به من النتيجة سببها، هو أصح وأشمل نطاقًا في البحث العلمي منه في أبحاث الإدراك الفطري، إلا أن هذه النظرة الراجعة ماثلة أيضًا في بحوث الإدراك الفطري، لأنه يستحيل علينا أن نقدر وأن نحكم على الظروف التي نتخذ منها وسائل، إلا على أساس ما قد تم حدوثه في الماضي؛ وإنه لصحيح أيضًا أنه في حالة القضايا العلمية، تكون الدلالة التوقعية التي نستدل فيها من السبب على مسببه هي الأشمل نطاقًا وهي الأصرح ظهورًا — من الناحية المنطقية — من دلالة المسبب على سببه؛ وخذ مثلًا لذلك حالة قضية جامعة (نصف بها نوعًا من الأنواع بمجموع خصائصه)؛ فهي قضية لها صورة تمكنها من أن تنطبق على كل بحث نقوم به في المستقبل، إذا ما تحققنا من قيام ظروف معينة؛ بيد أن القضايا التي تنتج عن تطبيقها الإجرائي، تكون ذات فحوى منطقي أصيل، لأنها ستكون هي الوسائل التي نختبر بها صدق القضية الجامعة المذكورة، فإذا ما وجدناها ناقصة عدنا إليها بالمراجعة وبإعادة صياغتها في صورة أخرى. واختصارًا فإن القضايا التي نقولها كافة عن أية خطط نريد اتباعها وعن أية غايات نريد أن نكدح لبلوغها، وأية نتائج نريد الوصول إليها، هي قضايا عن موضوعات ترتبط أجزاؤها بالعلاقة الصورية التي تربط الوسائل بنتائجها، فهي — بالمعنى الذي حددناه — قضايا سببية؛ وعلى هذا فالقضايا التي نهتدي بها إلى أي الأشياء يكون خيرًا لنا أن نلاحظها، وأي المدركات العقلية يكون خيرًا لنا أن نكونها وأن نستخدمها، هي قضايا تدخل في توجيهنا لأي بحث كائنًا ما كان، وإن يكن دخولها في البحث العلمي يتم على صورة أدق وأشمل منه في بحوث الإدراك الفطري؛ غير أنه رغم دخولها هذا، فهي لا تظهر ظهورًا صريحًا في النتائج الختامية؛ ومع ذلك فثمة قضايا تختص صراحة بهذه العلاقة ولو كانت عبارة «قضايا سببية» ذات دلالة صحيحة، فدلالتها هي أمثال هذه القضايا؛ فالسببية بأي معنًى وجودي وغير نظري، هي أمر عملي وغائي من أولها إلى آخرها. ليست النظرة التي نقول بها إن مقولة السببية شيء منطقي وإنها وسيلة أدائية لتنظيم السير بالبحث في كائنات الوجود الخارجي، وإنها ليست بذاتها أمرًا قائمًا في ذلك الوجود؛ وإن الحالات كافة التي يجوز لنا أن نصفها بكونها حالات سببية، هي في حقيقتها أمور «عملية»، أقول إن هذه النظرة ليست بالنظرة التي ستصادف قبولًا من فورها؛ لكنه قد مر زمن كانت فيه مفاهيم الأنواع والجواهر هي الأخرى مفروضًا فيها أنها كائنة في الوجود الخارجي؛ وكذلك مرَّ زمن كان فيه الهدف أو الغاية مفروضًا فيها أنها خاصة موجودة وجودًا حقيقيًّا في «الطبيعة»؛ وأيضًا مر زمن كانت فيه صفة البساطة مفروضًا فيها أنها المبدأ المنظم ﻟ «الطبيعة»، ولم يحدث في العلم سوى تخلص البحث من كابوس كان يجثم عليه بسبب هذه الأفكار، وإنما جاءه هذا الخلاص حين تغيرت هذه الأفكار بحيث أصبحت تفهم على أنها مبادئ منهجية ترسم طريق السير في البحث، فهي مبادئ منطقية أكثر منها حقائق قائمة بالفعل في الوجود الخارجي فلسنا نخاطر بالرأي إذا ما تنبأنا بحدوث شيء شبيه بهذا لفكرة السببية؛ فلقد قامت بالفعل صعاب في المستكشفات العلمية الحقيقية، حملت بعض الناس على الاعتقاد بأن فكرة السببية كلها لا بد من القذف بها في البحر؛ لكن هذا خطأ منهم؛ والنتيجة الصحيحة التي يجوز لنا أن ننتزعها من الموقف هي ضرورة نبذ تفسيرنا للسببية تفسيرًا يجعلها حقيقة قائمة في الوجود الخارجي؛ وأما اعترافنا بما لمقولة السببية من قيمة، من حيث هي مبدأ يهدينا سواء السبيل في بحثنا الذي نصبه على كائنات الوجود الخارجي، فهو أمر قد تأيد في الحقيقة؛ إذ انسجمت نظرية السببية مع الممارسة العملية للبحث العلمي؛ فالهدف الذي يستهدفه كل بحث يتصل بالموجودات الواقعية، هو إقامة مواقف وجودية لها تفرد وتتسم بطابع كيفي؛ و«السببية» مقولة توجه عملياتنا الإجرائية التي بفضلها نبلغ ذلك الهدف كلما نشأت لنا مواقف يكتنفها إشكال.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/23/
المنهج العلمي والمادة العلمية
لما كانت النتائج التي ننتهي إليها تكون مجموعة من مادة تناولها التنظيم، ثم لما كانت هذه المجموعة المنظمة من مواد البحث لا تبلغ المرتبة العلمية إلا بفضل المناهج التي استخدمت لبلوغها، تحتم على مجموعات الحقائق والمبادئ التي منها تتألف مادة العلم، أن تكشف في نفسها عن خصائص تساير الشروط التي تفرضها تلك المناهج؛ وعلى ذلك فليس بد من أن نجد في تمحيصنا لبعض الملامح الرئيسية التي تميز العلم الطبيعي، محكًّا نلجأ إليه في اختبارنا لصدق ما قد عرضناه من حقيقة منطق المناهج؛ وقبل أن أستعرض مادة الموضوع، سألخص بعض النتائج البارزة التي تخص المنهج، مما يكون له أثر مباشر على فهمنا للموضوع الذي يصلح أن يكون مادة علمية. إن جانب التجربة من جوانب المنهج، ليعبر تعبيرًا صريحًا عن كون البحث يستحدث تحولًا وجوديًّا في مادة الوجود الخارجي التي كانت باعثًا على القيام بذلك البحث؛ وليس إجراؤنا للتجارب مجرد وسيلة نلجأ إليها ابتغاء النفع العملي المريح، كلا ولا هو مجرد وسيلة نعدل بها حالات عقلية في رءوسنا، بل إنه ليس ثمة أمامنا من أساس آخر غير تحويلنا للموقف المشكل تحويلًا يجعله موقفًا محلول الإشكال، لنسوغ به المهمة الضرورية التي تؤديها التجربة في عملية البحث. فالتجربة مطلوبة لنوجد بها المعطيات التي تجيز لنا قبول ما نستدله من قضايا؛ فبغير أن نتعمد إحداث تغيرات في الظروف الوجودية الماثلة أمامنا، فهذه الظروف — كما هي ماثلة — لا تقيم لنا حدودًا للمشكلة المراد حلها بوساطة البحث، كلا ولا هي تصف لنا تلك المشكلة، بل ولا تزودنا بالمادة التي من شأنها أن تختبر صدق الحل المقترح اختبارًا كافيًا؛ ولهذا نستطيع أن نسارع إلى القول — حتى قبل أن نتناول بالبحث المفصل خصائص المادة العلمية كما هي قائمة في واقع الأمر — بأن المادة التي نختبر بها صدق الحل المقترح، لا بد لها أن تتميز بنفس الخصائص التي تتميز بها المعطيات الأولية التي بدأنا بإعدادها لنتخذها أساسًا نبني عليه استدلالاتنا المنظمة الجائزة القبول؛ وبعبارة أخرى فإن المادة العلمية لا بد لها — بالضرورة — أن تتميز بفوارق هامة تختلف بها عن المادة كما تقع لنا في مجال الإدراك الحسي المباشر، كائنًا ما كان هذا المجال. وما دامت التصورات العقلية هي التي توجهنا، باعتبارها وسائل إجرائية ترسم لنا خطة العمليات التي نجريها حين نجري تجاربنا العلمية؛ فلا بد أن تشتمل مجموعة أفكارنا ومدركاتنا ومقولاتنا، وهي المجموعة التي تتسق معًا لتقيم لنا مادة البحث العلمي، أقول إنه لا بد لها أن تشتمل على المفاهيم التي من شأنها أن تمكنها من رسم خطة السير في العمليات الإجرائية التي تعيننا على اختيار ما نختاره من مادة، ثم تنظم ما نختاره منها؛ ومن هنا كان لا بد للقوانين والمبادئ التي منها تتألف المادة العلمية، أن تكون ذات طابع مميز، أو طابع يفرق بينها وبين ما عداها. إننا نحاول بما نجريه من تجارب أن نبعد عن المادة التي كانت قد مثلت لنا بادئ ذي بدء، كل عنصر وأي عنصر لا يكون ذا صلة بتحديد المشكلة المعينة المتضمنة في الموقف، والذي لو بقي لكان عائقًا يحول دون وصولنا إلى الحل المطلوب؛ فضلًا عن هذا الإبعاد للعناصر التي لا تمس المشكلة الراهنة، فإن التجارب تهيئ لنا أيضًا مواد وجودية جديدة، شأنها أن تحقق لنا هذه الشروط؛ وهكذا لا يكون لنا مناص في المنهج العلمي من العمليات التي ننفي بها هذا ونثبت ذلك، ونعزل هذا وندرج ذلك، ونفصل الشيء عما عداه لنستوضح حقيقته الذاتية؛ ولهذا فإننا نعيد القول مرة أخرى، بأننا نستطيع أن نسارع إلى القول — حتى قبل المضي في البحث — بأن المادة العلمية سيكون لها من الطابع المميز ما يحقق فيها شروط عمليتي النفي والإثبات اللتين تسيران جنبًا إلى جنب. قبل أن أتناول تناولًا مباشرًا مادة العلم الطبيعي، لأبين كيف تحقق تلك المادة هذه الشروط المنطقية التي لا بد من توافرها في منهج البحث، سأناقش موضوعًا كان ليكون غير ذي صلة بما نحن الآن بصدد الحديث عنه، لو أن وجهة النظر التي بسطناها كانت مقبولة بصفة عامة، لكن أما والرأي الفلسفي على ما هو عليه اليوم، فمناقشة ذلك الموضوع هنا أمر يتصل بصميم ما نحن الآن بصدده؛ فبناءً على وجهة النظر التي أخذنا بها في هذا المؤلف، ليس ثمة إشكال — بصفة عامة — ينشأ عن كون مضمون المادة العلمية (سواء كان مضمونًا ماديًّا أو إجرائيًّا) مختلفًا جد الاختلاف عن مضمون مجالات الإدراك الحسي المباشر والإدراك الفطري؛ فلا بد لمضمون المادة العلمية أن يختلف عن مضمون هذه المجالات في نواحٍ متعينة، لو أردنا له أن يحقق شروط البحث الموجه في فض المواقف المشكلة؛ فلئن كان البحث الموجه ينصب على مشكلات قائمة، إلا أنها مشكلات خاصة ذات طابع متميز؛ فهي مشكلات تعنى بالتحويلات المعينة التي يتحتم استحداثها بالنسبة إلى مادة المشكلات الجزئية الخاصة؛ أما لو أخذنا بأية وجهة للنظر غير الوجهة التي بسطناها في هذا الكتاب، كانت أمامنا مشكلة عامة هي التي يطلقون عليها عادة اسم المشكلة المعرفية (الإبستمولوجية)؛ ولهذا فإني سأذكر بعض الأسباب التي تسوغ لي الاعتقاد بأن المشكلات الفلسفية التي يطلقون عليها اسم المشكلات المعرفية (حين تعد مشكلة المعرفة شيئًا آخر غير مجرد اسم مرادف لكلمة منطق) هي مشكلات يتبرعون بها، وهي مشكلات مصطعنة؛ وأن مثل هذه «المشكلات» يزول حين نفهم الخصائص المميزة للمادة العلمية من وجهة نظر تجعلها عبارة عن استيفاء للشروط المنطقية التي تقتضيها عملية البحث الموجه؛ وسأسوق لتوضيح ذلك مثلين؛ أحدهما خاص بالفرق بين مادة الإدراك الحسي العادي وبين ما للمادة العلمية من مضمونات وجودية؛ والآخر خاص بالمادة الفكرية في علاقتها بموجودات العالم الخارجي. ففي مجال الإدراك الحسي المباشر هنالك نقط من الضوء تشاهد في السماء، ثم تكشف لنا المناظير المقربة نقطًا أخرى من الضوء لا ندركها بالحس المجرد؛ وفي كلتا الحالتين تنشأ لنا مشكلة خاصة، هي مشكلات انتزاعنا لنتائج نستدلها من هذا الذي ندركه بالحس المباشر، لكي يتسنى لنا تعليل ما قد شاهدناه بوضعه في متصل زماني مكاني واسع النطاق؛ فإحدى نتائج البحث تدلنا على أن هذه النقط الضوئية إنما هي في النهاية شموس في مجموعات تبعد عن المشاهد من فوق هذه الأرض عدة سنوات ضوئية؛ بيد أن نقطة الضوء في ذاتها، أو كما تقع لنا في إدراكنا المباشر، ليست سوى الخاصة الكيفية التي ندركها بها؛ وها هنا تنشأ المشكلة المعرفية المزعومة، حين نضاد بين الصفة الكيفية كما تقع لنا في إدراكنا المباشر، حين تجيء إلينا معطًى حسيًّا مباشرًا، وبين الشيء (أو موضوع الإدراك) الذي هو الشمس البعيدة نفسها التي هي قوام النتيجة العلمية؛ فتراهم يقولون — مثلًا — إن نقطة الضوء قائمة هنا والآن، على حين أن الشيء المدرك نفسه، أي الشمس، ربما يكون قد زال من الوجود إبَّان الفترة الزمنية التي انقضت منذ غادر الضوء مصدره حتى «وصل» إلى من يشاهده؛ ومن هنا تنشأ «مشكلة» عن المفارقة الجوهرية التي تقع بين مادة الوجود الخارجي كما هي واقعة، وبين المادة التي يتخذها العلم موضوعًا له، وهم يتخذون من هذه الحالة بالذات مثلًا يسترعي الانتباه في توضيحه للفرق الذي يرونه قائمًا بين الطرفين، مستندين إلى كل ما يضطلعون به من أبحاث علمية. لكن المشكلة المزعومة لا يكون لها وجود إذا ما صغنا نظرية المعرفة على أساس تحليل منهج البحث المستخدم فعلًا في العمل العلمي، أو على أسس منطقية؛ فعندئذٍ نأخذ الضوء المرئي على أنه معلومات أولية هي بمثابة الشواهد التي — إذا ضممناها إلى غيرها من الشواهد — تمكننا من انتزاع قضية نستدلها على أساس سليم؛ فالضوء كما نراه الآن لا يزعم أنه شمس أو أنه «يمثل» شمسًا، بل هو يقيم لنا مشكلة؛ فحين نستعين بمجموعة دقيقة من تقنيات المشاهدة التجريبية، مهتدين في ذلك بمجموعة تماثلها دقة من تصوراتنا العقلية، فإننا ننتهي إلى خلق متصل زماني مكاني فسيح الرقعة، إذا ما وضعنا فيه الضوء المرئي في موضع معين، انحل لنا الإشكال الذي كان هذا المعطى الضوئي الراهن قد أقامه لنا؛ ففي هذا المتصل الذي انتهينا إليه استدلالًا، تكون الشمس التي تبعد عنا بمسافة تقدر بعدة سنوات ضوئية هي الحلقة الأولى في المتصل الذي أنشأناه، ويكون الضوء كما هو مرئي الآن وهنا هو الحلقة الختامية؛ وفي غضون تحديدنا لهذا المتصل تنشأ لنا مشكلات خاصة كثيرة، وتنشأ لنا أبحاث بعينها كثيرة أيضًا، لكننا لا نلاقي مشكلة عامة من الطراز المعرفي المزعوم؛ فمن وجهة نظر البحث ومنهجه، تكون المشكلة وطريقة حلها من طراز واحد، كما هي الحال مثلًا حين يستدل جيولوجي، على أساس سمات يشاهدها في الصخر القائم أمامه هنا والآن، والذي يدركه بحسه هنا والآن، يستدل وجود حيوان من نوع معين كان يعيش منذ عدة مئات من ألوف السنين؛ فلو أخذنا الصخرة المشاهدة بمعزل، استحال أن نستدل منها ما قد استدللناه، أما إذا سلكناها — مستعينين بمجموعة ما لدينا من مدركات عقلية كثيرة العناصر — مع غيرها من المعلومات الأولية الكثيرة المستقل بعضها عن بعض في وجودها المادي، في نظام واحد يشملها جميعها في ترتيب واحد، فعندئذٍ تصبح القضية المستدلة جائزة القبول؛ ففي المثلين المذكورين كليهما، نرى الفرق في مادة الموضوع بين ما نشاهده هنا والآن، وبين ما نجعله موضوعًا للبحث العلمي، كائنًا أساسًا في استيفاء الشروط التي يستوجبها البحث الموجه؛ فلا تنشأ ولا يمكن أن تنشأ مشكلة فلسفية عامة من الطراز «المعرفي» (الإبستمولوجي) إلا إذا لم تكن مادة الموضوع مختلفة في الحالتين. وما هو مذكور هنا يصدق بصفة شاملة على مادة التصورات العلمية في تميزها من مادة العالم الخارجي الواقع؛ والحق أنه ما لم نفسر مادة التصورات العقلية تفسيرًا يشملها كلها ولا يردها إلا إلى أساس واحد هو المهمة التي تؤديها تلك التصورات العقلية في السير بالبحث، فإن هذا الفرق في الأبعاد بين ما هو تصوري وما هو وجودي خارجي يثير لنا مشكلة فلسفية أساسية؛ لأن التفسيرات الممكنة الوحيدة بعد ذلك تكون إما النظرة (التي هي أبعد ما تكون عن الإقناع) والتي تقول إن تصوراتنا العقلية ما هي إلا حيل نلتمسها للنفع العملي؛ وإما النظرة القائلة بأن تلك التصورات وصفية — بوجه من الوجوه — لشيء قائم بالفعل في مادة الوجود الخارجي التي نتناولها بالبحث؛ وأما من وجهة النظر التي تفسر التصورات العقلية من ناحية المهمة التي تؤديها فعلًا في عملية البحث، فالمشكلة لا تحتاج عندئذٍ إلى «حل»، لأنها عندئذٍ لا يكون لها وجود على الإطلاق. وسنتناول بالنظر مثلًا توضيحيًّا آخر، وهو مثل خاص بطبيعة النقط (واللحظات) باعتبارها مدركات عقلية في الفيزياء الرياضية؛ وهي مشكلة قد سبق لنا أن ناقشناها هي الأخرى؛ فلمدركاتنا العقلية عن النقط واللحظات من الأهمية ما هو ظاهر ظهورًا لا يجعلنا بحاجة إلى إثباتها بالحجة؛ غير أنه ما من شيء يمكن ملاحظته في الوجود الخارجي، إلا وفي الإمكان مده زمانًا ومكانًا، مهما يكن هذا الامتداد بالغًا في الصغر؛ ولو أننا اخترنا أي أساس آخر سوى أن المادة العقلية التي نطلق عليها اسم نقط ولحظات إن هي إلا أداة وسلية أدائية، لنشأت لنا «المشكلة» الخاصة بانتزاع تلك النقط واللحظات من مادة الوجود الخارجي؛ ولقد كانت طريقة هذا الانتزاع التي لبثت زمنًا طويلًا وهي موضع القبول، (وأعني الانتزاع بوساطة اختيار جانب من الشيء الخارجي دون غيره من الجوانب) مؤداها أننا نصل إلى النقطة بتجريدنا لحد نختاره، وهو الحد الذي يتحدد بتقاطع خطين؛ ولما كانت الفكرة الرياضية عن الخط باعتباره امتدادًا بغير كثافة. أقول إنه لما كانت تلك الفكرة الرياضية عن الخط مأخوذًا بها من قبل ذلك، جعل هذا الحد الذي يحدده تقاطع الخطين ممثلًا للنقطة الرياضية، ثم جعلت النقطة الرياضية وصفًا عقليًّا لحقيقة واقعة في الوجود الخارجي؛ فلما اتضحت المشكلات المنبثقة من هذا التصور، لجئوا إلى مصدر وجودي آخر تصدر عنه فكرة النقطة الرياضية، وذلك أنهم تصوروا ذلك المصدر في صورة علاقات تربط مجموعة متسلسلة الحلقات، كمجموعة من صناديق — مثلًا — تسلسل حجمًا بحيث يدخل كل صندوق منها فيما يليه كبرًا، وهكذا حتى نصل إلى أصغرها في التصور وهو النقطة الرياضية؛ ونحن لا ننكر أن صلة الشامل بالمشمول ربما تتخذ تعريفًا للنقطة، غير أن موضع الإشكال الذي نحن بصدده، هو أن تلك الصلة تختلف في أبعادها المنطقية عن العلاقات التي ترتبط بها الأشياء الشاملة بالأشياء المشمولة؛ فالصلة المذكورة هي تجريد خالص؛ وربما كانت «مستمدة» عن طريق الإيحاء الذي توحي به المواد المذكورة، لكنه ليس بذي أهمية منطقية على الإطلاق أنها صلة مستمدة من سواها؛ فالطريقة الخاصة التي أوحى إلينا بها — من الوجهة المنطقية — بتلك الصلة المجردة، أمر آخر؛ والمسألة التي نتعرض لمناقشتها إنما تختص بالمهمة التي تؤديها فكرتنا عن النقطة في عملية البحث وإنا لنجد ما يبرر هذه الفكرة، في النتائج المترتبة على استخدامها استخدامًا عمليًّا؛ فإذا كانت النظريات الخاصة بطريقة حصولنا على فكرة النقطة من الأصل الذي نشأت عنه، ذات أهمية سيكولوجية، فهي غير ذات موضوع من الناحية المنطقية — اللهم إلا إذا زعمنا بأن مادة التصورات العقلية لا بد لها، بوجه من الوجوه، أن تجيء ممثلة بطريقة وصفية لمادة الوجود الخارجي — وهي فكرة ترتد في النهاية إلى المنطق الأرسطي، وإلى حالة العلم التي في ظلها صِيغ ذلك المنطق. إنه لمن الحقائق المألوفة الشائعة أن مادة العلم تتعرض للمراجعة من زمن إلى زمن، بل تكاد تتعرض لهذه المراجعة يومًا بعد يوم، وذلك بالنسبة إلى تفصيلاتها وبالنسبة إلى الفترات الحاسمة في مجرى التاريخ، مراجعة تتناول من تلك المادة أصولها؛ وإن من المدارس المنطقية مدرسة تفسر هذه الحقيقة على أنها تشهد بأن العامل الوحيد المأمون العواقب، والمنطقي بالمعنى الصحيح، هو العامل الصوري؛ وتقول هذه المدرسة إن هذا الجانب الصوري يتأيد صدقه من ناحية أخرى، بإشارته إلى حقيقة قبلية ثابتة نهائية، مأخوذة على أنها المقدمة التي لا مقدمة وراءها؛ وحتى «مل» — على الرغم من اعتقاده بأن فكرة «اطراد الطبيعة» يوصل إليها بالاستقراء — قد ذهب إلى أن ذلك الاطراد في الطبيعة مبدأ كان لا بد من اتخاذه مقدمة نهائية ترتد إليها كل العمليات الاستقرائية؛ ومع ذلك فهو — من الوجهة الرسمية — ينتمي إلى المدرسة التي تأخذ بأن القيمة التجريبية تكمن في المادة الوجودية وحدها. ولو نظرنا إلى ما تنطوي عليه هذه الفقرات، مقرونًا بنظرية «بيرس» عن المبادئ التي تهدي أو التي ترشد إبَّان السير في البحث؛ ألفيناها تنطوي على أن العنصر الصوري إنما يتولد عن المنهج؛ فالعلاقة بين الصورة والمادة هي العلاقة الرابطة بين المناهج من جهة والمادة الوجودية من جهة أخرى، أعني المادة التي نستخدم المناهج في إيجادها وفي ترتيبها؛ هذا فضلًا عن أن مسألة العلاقة بين المنهج وبين المادة التي ينصب عليها المنهج، هي أمر ينشأ في المدى البعيد؛ فالمناهج — فيما قد أسميناه بالمتصل الخبري للبحث — تصحح نفسها بنفسها بحيث تتحدد النتائج التي تحصل عليها من تلك المناهج تحددًا يزداد بالتدريج شيئًا فشيئًا؛ ويلزم عن هذا أن صدق القضايا الوجودية مرهون بدرجة الاحتمال، وأن درجة الاحتمال المتحققة فيها هي بمثابة قدرة تلك القضايا على الاستمرار في البحث؛ وإن هذه الملاحظات التي ذكرناها لتهيئ لنا أساسًا للانتقال إلى أول الموضوعات التي نريد مناقشتها، مما يتصل بالمادة العلمية بمعناها الصحيح. لقد بينا فيما سبق أن القضايا الجامعة التي تتحدث عن الوجود الخارجي ليست بالقضايا الضرورية، لأنها منبنية على مادة تقع لنا في مجال المشاهدة؛ والعمليات التجريبية التي نختار بها ونرتب هذه المادة، إنما يتألف أساسها ومضمونها المنطقيان من الوفاء بما تقتضيه عمليات جمع المتشابهات في أنواعها، ومنع ما ليس منها من الدخول معها في نوع واحد، جمعًا ومنعًا شاملين، يتمان في إطار من قضايا معطوف بعضها على بعض، وأخرى مفصول بعضها عن بعض؛ غير أن ما تستلزمه هذه العمليات من شروط منطقية، هو من قبيل المبادئ والمثل العليا التي نهتدي بها في طريق السير؛ إذ إنها ترشدنا في أداء العمليات التجريبية التي نحدد بها مادة الموجودات الخارجية؛ لكن طبيعة هذه المادة تقتضي ألا يكون تحديدنا لها إلا على سبيل التقريب، لا على سبيل الحسم القاطع؛ ومن ثَم كانت هذه القضايا كلها «التي تتحدث عن موجودات العالم الخارجي» احتمالية الصدق مع تفاوتها في درجة هذا الاحتمال؛ وسنخصص هذا القسم من أقسام مناقشتنا للمادة العامية، لمناقشة خاصة الاحتمال في القضايا الوجودية، بالنسبة إلى علاقة خاصة الاحتمال هذه بكون عملية البحث تدنو شيئًا فشيئًا من الصدق على مدًى طويل؛ ولو وضعنا وجهة نظرنا في صورة سلبية، قلنا إنها مضادة لأية نظرية تفسر الاحتمال على أساس جهلنا بما هو حق، أو على أساس أي عامل «ذاتي» آخر؛ لأننا نعتقد أن الاحتمال مظهر تتبدى فيه طبيعة المادة الوجودية نفسها التي نتناولها بالنظر؛ وبعبارة إيجابية نقول إن مقولة الاحتمال في رأينا لا تفسر تفسيرًا منطقيًّا إلا على أساس تكرار الحدوث وحده؛ وذلك لأننا إذا سلمنا بأن الظروف الوجودية الجائزة القبول تحدد لنا في غضون البحث المتصل، الذي بوساطته تميل الأخطاء — التي تقع في حالات خاصة — نحو أن يصحح بعضها بعضًا؛ إذن فقد سلمنا بتفسير الاحتمال على أساس تكرار الحدوث بوجه من الوجوه؛ فلسنا نوجه مناقشتنا التالية — إذن — نحو أن نبسط بها — في صورة اصطلاحية — فكرتي الاحتمال وتكرار الحدوث، بل هي مناقشة نريد بها أن نبين علاقة هاتين الفكرتين — بحكم طبيعتيهما الأصيلتين — بالموقف الذي وقفناه فيما مضى حين بسطنا الرأي في مناهج العلم الطبيعي؛ ولهذا فسنسير بالمناقشة على أساس ضربنا لعدد من الأمثلة الموضحة للقضايا الاحتمالية. خذ قضية كهذه: «من المحتمل أن يكون يوليوس قيصر قد زار بريطانيا العظمى»؛ فلا شك أن الجهل «بحقيقة ما قد حدث» يدخل في طائفة القضايا التي سقنا هذه القضية نموذجًا لها؛ ولست أعني الجهل بصفة عامة، بل أعني بالجهل هنا كلمة تطلق على نقص المعلومات الأولية التي بين أيدينا نقصًا يمكن تعيينه؛ إذ لا تتوافر لدينا مدونات مما يتعلق بصفة خاصة بالقضية المستدلة المذكورة؛ لكن على الرغم من عدم وجود هذه المعلومات الأولية المعينة، فللقضية قسط معلوم من الصفة المنطقية، قائم على ما فيها من احتمال الصدق؛ فليس يتطلب المنطق منا أن نمتنع امتناعًا تامًّا عن استدلال أية قضية على الإطلاق؛ لكن على أي أساس نبرر أمثال هذه القضايا الاحتمالية؟ هنالك رأي يقول إنها ترتكز في النهاية على «الحدس» الذي ندرك به صورة الاحتمال من حيث هو كذلك. يقينًا ليس لنا أن نستند في ذلك إلى أن صورة الاحتمال المذكورة إنما ترتكز على ما في هذه الحالة المعينة من أسس مادية تحققت، لأن هذه الأسس المادية — بحكم تعريف الحالة — ممتنعة؛ وواضح أيضًا أن القضية السالفة تختلف منطقيًّا عن قضية كهذه: «من المحتمل أن يكون يوليوس قيصر قد زار بريطانيا العظمى كذا من المرات خلال حملاته المختلفة»، وذلك لأن في القضية الأخيرة نسبة معينة من تكرار الوقوع، متضمنة في القول بصورة صريحة، على حين أن القضية في الحالة الأولى لا تشتمل في معطياتها على معامل لتكرار الحدوث؛ كيف نفسر أمثال هذه القضايا منطقيًّا؟ والتفسير الذي أتقدم به هنا هو أن الموقف في هذه الحالة يكون من نوع شأنه أن يضمن لنا — في غضون متصل البحث — قضية احتمالية؛ فالاحتمال المذكور هو احتمال كيفي صرف، لا نستطيع أن نحدده بدرجة عددية مقيسة حتى ولا على سبيل التقريب؛ إذ إن قياسه كيفي، ولذلك فنحن نعبر عنه طبيعيًّا بصورة من هذا القبيل: «إذا أخذنا كل شيء مأخذ الاعتبار، فوقوع الأمر أكثر احتمالًا من عدم وقوعه»؛ فليس في معطيات هذه الحالة المعينة عامل تكرار الحدوث، أكثر مما نجد هذا العامل في القضية نفسها؛ وإنما يكمن هذا العامل في التشابه الكيفي بين الموقف في جملته وبين مواقف كيفية أخرى (وهي كيفية لأنها لم تحلل، أو لأنها غير قابلة للتحليل إلى معطيات مادية محددة) وجدنا على مدى شوط بعيد أنها (في معظم الحالات) تنتج لنا من النتائج ما يمكن الركون إليه؛ وعلى هذا فعامل تكرار الحدوث يمكن أن يُساق في صورة كهذه: «قد حدث في معظم الحالات أن الاستدلالات المنتزعة من نوع المواقف الذي يجيء هذا الموقف الراهن نموذجًا له، قد تبين فيما بعد أنها استدلالات مثمرة على الرغم من عدم وجود المعطيات المادية الكاملة» واختصارًا فإن عامل تكرار الحدوث أمر يتعلق بالمنهج الذي نستخدمه في حالة من هذا الطراز. هذه الطريقة في التفسير تقدم لنا شرحًا بسيطًا ﻟ «الحدس» الذي يُقال إنه متضمن في مثل هذه الحالة؛ فثمة شيء يمكن تسميته بالحدس بالمعنى السيكولوجي لهذه الكلمة؛ ذلك أن المنهج المتبع متجسد في عادة اعتدنا بها أن نتصرف عمليًّا في حالة تلك المواقف الكيفية التي نشبه بعضها ببعضها الآخر من ناحية الاستدلالات التي ننتزعها منها؛ والعادة — في هذه الحالة كما هي في حالات العادات الأخرى — هي مما نركن إليه حتى تجيء ظروف فتسد عليها الطريق بصورة لا شك فيها؛ وإذن فلنا أن نقول إما أن «الحدس» هو في إدراكنا المباشر للكيفية المتضمنة في هذا الصدد، وللتشابه الكيفي بين هذا الموقف وبين غيره من المواقف التي كنا فيما سبق قد استدللنا منها النتائج أو أن نقول — بصورة أكثر مباشرة — إن الحدس هو ما نعنيه بالعادة التي تفعل فعلها عندئذٍ؛ إلا أن المنهج — لا الحدس — هو الذي يخلع على أمثال هذه القضايا ما قد يكون لها من صفة منطقية. وأنتقل الآن إلى نوع آخر من القضية، يشبه النوع الذي ناقشناه لتونا، في كونه ينصب على مفرد واحد، لكنه يختلف عنه في أنه (١) مؤسس على معطيات محددة جاءت بها المشاهدة، وهي معطيات — فضلًا عن ذلك — قد جمعت ورتبت بقصد خاص، وهو أن نكون قضية عن احتمال وقوع حادثة معينة؛ وفي أن (٢) المعطيات ترتب وتفسر بوساطة قضايا تصورية المكونات بشكل صريح، أي إنها قضايا نظرية؛ ومن الأمثلة التي توضح هذا، تنبؤنا باحتمال أن يجيء الجو غدًا من نوع معين؛ فالمعطيات في هذه الحالة إنما نستمدها من مشاهدة الظروف القائمة المتعلقة بأمور معينة كدرجة الحرارة، واتجاه الرياح وسرعتها، والمطر والسحب، على نطاق فسيح من الأرض، ولمدة فترة طويلة من الزمن؛ ومع ذلك فليست دلالة هذه المعطيات التي نحصل عليها، وأعني بدلالتها ما تشير إليه من العواقب، أقول إن دلالتها ليست كائنة في مجرد هذه الوقائع المذكورة مأخوذة وهي بمعزل، بل إنها لترتب بالنسبة بعضها إلى بعض ترتيبًا يجيء وفق بناء عقلي متسق في تصوراته (ومن أمثلة هذه التصورات العقلية فكرتنا عن الأصقاع ذوات الضغط العالي وذوات الضغط المنخفض)؛ على أن تتحدد القوة الدلالية التي للمعطيات المرتبة على هذا النحو السالف، تبعًا لقوانين فيزيائية معينة، ومن أمثلتها القوانين التي نصوغ بها العلاقات التي تربط الحرارة بالضغط والحركة. وهذه القوانين الفيزيائية تتخذ صورة القضايا الكلية المجردة، إذ إن مضمونها عبارة عن علاقة متبادلة بين مفاهيم مجردة؛ فليس يطوف لأحد ببال أن يفترض بأن هذه القوانين الفيزيائية من حيث هي قضايا مجردة المضمون، «تستلزم» حالة الجو الذي يحتمل أن نجده غدًا في رقعة معينة من الأرض؛ وذلك لأن تلك القوانين وسلية وليست هي بالوصفية؛ فهي تطبق تطبيقًا إجرائيًّا — قبل كل شيء — في أن تقرر لنا ما نوع المعطيات الخاص الذي علينا أن نحصل عليه بالمشاهدة، أي ما هي الحوادث المعينة التي علينا أن ننتقيها من مجمل الحوادث التي تضطرب معًا في خضم واحد يقع كله في محيطنا الفعلي؛ وهي تطبق — ثانيًا — في تفسير ما تدل عليه الحوادث التي نكون قد دوناها؛ وليس في وسعنا أن نطبق القوانين الفيزيائية على صورة من هاتين الصورتين إذا اقتصرنا على المعطيات التي تجيء بها مشاهداتنا إبَّان يوم واحد؛ فهذه المشاهدات لها دلالتها بالنسبة إلى ما قد أثبتناه عندنا من مشاهدات شبيهة بها وقعت لنا في الماضي، لأن التنبؤات الجوية تتفاوت درجة الركون إلى صدقها بتفاوت مقدار ما لدينا من معلومات مدونة عما قد حدث في أصقاع فسيحة من الأرض، إبَّان فترات طويلة من الزمن؛ فإذا كانت القضية الاحتمالية المراد قولها تنصب على مفرد واحد، كان العامل الحاسم في هذا هو إحصاء تكرار حالات الحدوث إحصاء يبين مدى اقتران العناصر التي شوهدت فيما مضى، لنتخذه أساسًا نحدد عليه انطباق ما لدينا من مادة عقلية على الحالة الخاصة التي نحن بصددها. وإذن فالحالة المذكورة لا تقتصر على أن توضح لنا المهمة الأدائية للجانب النظري، وللحساب النظري وللتفكير النظري، مما نستمده من تصوراتنا العقلية النظرية؛ لكنها حالة ذات دلالة محددة على طبيعة مقولة الاحتمال؛ فهي — من جهة — تبين أن الاحتمال في المثل المذكور قائم على معرفة ما قد حدث بالفعل فيما مضى بالنسبة إلى نسبة تكرار الحدوث، وليس هو قائمًا على جهلنا بحقيقة ما قد حدث؛ ومن الناحية الإيجابية — وهذه هي النقطة الحاسمة — يدل المثل المذكور لماذا وكيف تتأثر قضية كهذه بمعامل الاحتمال؛ إذ إن ذلك راجع إلى كون المعطيات (في هذه الحالة وفي كل حالة) حوادث وصفات مما يقع في الوجود الخارجي، انتقيناها انتقاءً متعمدًا من مجمل مجالنا الإدراكي في الخارج؛ ولقد اخترناها على أساس قيمتها من حيث هي شواهد تهدينا بالنسبة إلى مشكلة خاصة، هي تحديد ما عساه أن يحدث في زمان ومكان معينين. وإنه لأيسر علينا أن نتنبأ بوقوع حادثة تتعلق بظاهرة فلكية، كحدوث خسوف للقمر، من أن نتنبأ بالجو غدًا في سان فرانسسكو مثلًا؛ لأنه أيسر في الحالة الأولى أن نختار ظروفًا معينة نراها ذات شأن بالقضية المستدلة وأن نحذف غيرها من حسابنا لكونه غير ذي شأن بهذه القضية؛ وبعبارة أخرى، ففي مستطاعنا أن نقترب اقترابًا أكثر مما هو نسق مغلق «من مجموعة ما لدينا من أفكار نظرية» بحيث تعلو درجة الاحتمال في حالة التنبؤ بخسوف القمر؛ ومع ذلك فثمة عنصر من الاعتساف الجزافي، أو عنصر من العرضية بالنسبة إلى القضية التي نقولها عن زمان ومكان خسوف معين؛ وذلك لأنه ليس ثمة مبرر نظري — ونحن هنا نسوق مثلًا متطرفًا — يسند القضية القائلة بأن القمر سيكون موجودًا مجرد الوجود في اللحظة الزمنية التي يشير إليها التنبؤ؛ نعم إن درجة احتمال وجوده عندئذٍ عالية جدًّا، لكن ليس ثمة ضرورة منطقية في الأمر؛ لأن القضية على كل حال معتمدة على أساس ما كنا قد وصلنا إليه في أبحاث ماضية من اقترانات مكانية زمانية واقعة في الوجود الخارجي؛ وإذن فالأمر هنا خاضع لظرف هو من صميم طبيعة ظروف الوجود الخارجي؛ ذلك أن ظروف الوجود الخارجي من طبيعتها أن تجيز أن يحدث اقترانها في المستقبل على صورة تختلف عما اقترنت به في الماضي وكان أساسنا في التنبؤ المذكور؛ وبعبارة أخرى فإن معامل الاحتمال ضارب بجذوره في طبيعة الظروف الوجودية، لا في موقف الباحث إزاء تلك الظروف. إن علاقة الاحتمال بتحديد نسبة تكرار حدوث الاقترانات في موجودات العالم الخارجي واضحة، وذلك لأنه حتى لو تيقنا يقينًا لا يشوبه الخطأ من أن المعطيات التي استخدمناها هي أولًا وقائع وجودية لا شبهة فيها، وأنها ثانيًا مستوعبة لكل ما قد حدث في الماضي، فتأثيرها — من حيث هي شواهد — على حالة جديدة لا يكون مضمون الصدق ضمانًا كاملًا؛ نعم إنه إذا لبثت الظروف كما هي تمامًا، إذن تكون النتيجة المتنبأ بها شبيهة بالنتيجة التي كانت قد وقعت فيما مضى — وهو تحصيل حاصل — لكن مضمون الجملة الشرطية البادئة بكلمة إذا عرضي من ناحية الوقوع الفعلي، وليس له القوة المنطقية لجملة إذا حين تجيء جزءًا من قضية كلية شرطية مجردة. فافرض أن معترضًا قد اعترض بقوله إننا سنرتد رغم هذا كله إلى جهلنا بحقيقة الواقع، لأننا إذا فرضنا — وهو فرض مستحيل من الوجهة العملية — أننا على علم بحالة الكون في مجموعه فالعرضية والاحتمالية ستزولان عندئذٍ؛ فهذا الاعتراض الافتراضي الصرف يتضمن عاملين، لو أننا أبرزناهما علنًا لألقيا ضوءًا على المشكلة التي نحن بصددها؛ فأولًا ينطوي الاعتراض على زعم بأن الكون هو في حقيقته كلٌّ مغلق وكامل؛ وهذه قضية ميتافيزيقية خالصة لا تستند إلى دليل تجريبي؛ فهي مقحمة على المنطق من خارجه، ثم تستخدم بعد ذلك لتبرير مذهب منطقي معين؛ وثانيًا، فحتى لو زعمنا هذا الزعيم الميتافيزيقي لما صدق على ما يحدث في مكان جزئي معين في رقعة مكانية معينة، وفي لحظة زمنية بذاتها؛ فحتى لو كان الكون كلًّا مطلقًا مغلقًا كاملًا، وحتى لو كان معلومًا لنا علمًا كاملًا — وهو افتراض لما يستحيل حدوثه من الوجهة العملية — لكانت القضية الوحيدة التي تلزم عن ذلك قضية تنبئ عن حالة الكون — باعتباره كلًّا — في لحظات تالية من الزمن؛ لكن المشكلة هي مشكلة التحقق مما يحتمل حدوثه في مكان معلوم وفي لحظة زمنية معلومة، وتحديد أمر كهذا إنما يعتمد على علمنا بما هو حادث في الأمكنة الأخرى وفي اللحظات الزمنية الأخرى التي تمر بها تلك الأمكنة؛ وترتيب هذه المعرفة وتفسيرها يعتمدان على مدونات مستفيضة ندون فيها مشاهداتنا للاقترانات التي حدثت فعلًا في عدد كبير من الأصقاع المكانية الأخرى، وفي عدد كبير من اللحظات الزمنية، وهو أمر يعيدنا إلى الاحتمال المستند بجذوره إلى الموجودات الفعلية، وإلى تفسير الاحتمال على أساس تكرار الحدوث. والمغزى المنطقي الإيجابي لهذه الاعتبارات هو أن كل حالة نقوم فيها بتحديد لمعطيات، هي حالة نقوم فيها بعملية اختيار موجه بقصد أن تكون المعطيات المختارة ذات مهمة تؤديها من حيث هي شواهد تهدينا إزاء مشكلة معينة الحدود؛ فيكون المعطيات — من حيث هي معطيات — قد اختيرت عمدًا دون سواها، هو عنصر أصيل في طبيعة البحوث نفسها، التي نتناول بها كائنات الوجود الخارجي؛ وليس هو بالعنصر الذي ينشأ عن أي مصدر آخر خارج منطق الحالة نفسها، كأن ينشأ مثلًا عن موقف سيكولوجي إبستمولوجي نعزوه إلى قصور في ملكات الباحث ومعرفته؛ فما دامت طبيعة الحالة نفسها تقضي بضرورة أن يختار الباحث المواد التي تزوده بالمعطيات التي تصلح أن تكون شواهد في بحثه، فالقضايا المستدلة إذن تخضع للشروط الوجودية التي تفرضها عملية الاختيار هذه؛ ومن هنا تنشأ صفة الاحتمالية كما ينفسح المجال للقضايا التي تنبئ عن نسبة تكرار الحدوث، فتصبح هي العامل الحاسم في تحديد درجة الاحتمال التي ننسبها إلى قضية بعينها؛ لأن تحققنا من وقوع اقترانات للحوادث الماضية على صورة بعينها، هو الذي يهيئ لنا الأساس الأخير في اختيارنا لبعض الكائنات والصفات الواقعة دون سواها، لنتخذها معطيات. وننتقل الآن إلى الحالات التي ترد فيها قضايا متحدثة بشكل صريح عن نسبة تكرار الحدوث لتعيين درجة احتمالها؛ والمثل الذي سنتناوله بالتمحيص هو قذفنا بقطعة نقدية أو لزهرة من زهرات اللعب بقصد معرفة احتمال ظهور وجه قطعة النقد أو ظهرها أو احتمال ظهور وجه معين من أوجه الزهرة، فكم مرة يظهر في سلسلة من الرميات؟ فمادة الموضوع هنا تختلف عنها في الحالات التي سبق لنا أن بحثناها، في أنها (١) المعطيات الوجودية في هذه الحالة محددة وكاملة نسبيًّا، وفي أن (٢) الاستنباط من تصوراتنا العقلية يلعب دورًا أهم من الدور الذي يلعبه في الحالات السابق ذكرها؛ ففي حالة سلسلة الرميات التي نقذف بها زهرة اللعب، تتحدد الظروف الوجودية على نحو يستوفي — بدرجة غير مألوفة — الشروط المنطقية التي تقتضيها عملية الجمع والمنع؛ فقطعة النقود لها وجهان فقط، والزهرة لها ستة أوجه فقط؛ وظروف الحال تقتضي ألا يظهر إلا جانب واحد فقط — دون سائر الجوانب — في كل مرة نقذف فيها بقطعة النقد أو بالزهرة؛ فإذا فرضنا قيام هذه الظروف، ثم فرضنا بالإضافة إلى ذلك أن قطعة النقد أو الزهرة متجانسة التكوين، (أي إن جانبًا منها لا يستدعي بحكم تكوينه أن يظهر أكثر من سواه) وأن المرات المتتابعة التي نرمي فيها قطعة النقد أو الزهرة من شأنها أنه إذا كانت إحدى الرميات متميزة بخصائص شاذة، فإن الرميات الأخرى — في المدى البعيد — سيكون لها أيضًا من الخصائص الشاذة ما ينتهي بالأمر إلى توازن الأثر (أي إن طريقة الرمي ستطرد على وجه الإجمال فلا تنحرف في موضع دون سواه) فعندئذٍ تتدخل في الأمر النظرية الرياضية «في قياس درجة الاحتمال» بحيث يمكن — من الوجهة النظرية — حساب نسبة تكرار الحدوث في سلسلة متتابعة من الرميات. والنقطة المنطقية الهامة هنا، هي أنه من وجهة النظر الرياضية، تكون نسب تكرار الحدوث كما تحسب رياضيًّا، ممثلة للحد الأقصى لسلسلة رياضية لانهائية، على حين أن نسبة التكرار كما يقع في الواقع الفعلي مردها إلى سلسلة محدودة تبلغ غايتها في المدى البعيد؛ فافرض مثلًا أننا عند الحلقة الختامية من رميات عددها ن (ن هنا تمثل عددًا ذا نهاية معلومة) نصل إلى نتائج فعلية تتفق مائة في المائة مع النتائج التي كنا لنبلغها لو حسبنا الأمر حسابًا نظريًّا؛ فعندئذٍ تكون المغالطة واضحة إذا نحن وقفنا عند هذه الحلقة الختامية قائلين إن النتيجة النظرية قد تحققت الآن تحققًا كاملًا بالأمر الواقع؛ وذلك لأن الرمية التالية نفسها ستنقض هذا «التحقق» القائم على الاتفاق التام بين ما هو نظري وما هو فعلي، نقضًا يتفاوت مداه حسب عدد الرميات السابقة؛ وعلى ذلك فمحال أن ننسب إلى التصورات والقضايا الرياضية قيمة وصفية، فمنزلة هذه التصورات والقضايا الرياضية كائنة في أنها وسلية وأدائية؛ فما يصدق على الظروف في حالتها هذه، أعني الظروف التي نعدها مقدمًا إعدادًا يقر بها بقدر الإمكان من حالة النسق المغلق، يصدق بالتالي وبنفس الدرجة على الحالات الأخرى التي يستحيل فيها أن نعد الظروف الوجودية مقدمًا «قبل مشاهدة ما عساه أن يقع بالفعل في عالم الواقع». وأنتقل الآن إلى الحالات التي هي من الطراز الذي يتمثل في قوائم طول الأعمار المتوقع، التي تستخدمها شركات التأمين، فننظر إليها من ناحية المهمة التي تؤديها؛ فليست مادة الموضوع هنا أيضًا هي احتمال حدوث حادثة مفردة معينة، بل هي احتمال نسبة تكرار معينة في وقوع حوادث من أنماط معلومة، منسوبة إلى الحوادث التي هي من النوع الذي يشمل تلك الأنماط باعتبارها أنواعًا فرعية تندرج فيه؛ فالنوع الشامل هنا قوامه سمات مقترنة نصف بها نوع «الميتات»؛ والأنواع المشمولة هي الميتات التي يتميز بعضها من بعض داخل ذلك النوع الشامل، تميزًا أساسه السن — داخل حدود مقررة معينة — التي يحدث فيها الموت؛ فإذا فحص طبيب زيدًا من الناس، فقد يكون قضية ينبئ فيها بطول الزمن المحتمل لزيد أن يحياه؛ أما عند الشركة التي يؤمن فيها زيد على نفسه، فزيد لا يزيد على كونه فردًا من مجموعة أفراد يتميزون من سواهم بكونهم متساوين في السن؛ فباعتباره فردًا من نوع من حيث هو نوع، لا باعتباره فردًا من حيث هو فرد معين، يكون لزيد عمر متوقع بدرجة احتمالية معينة؛ فالقضايا عندئذٍ تكون كما يأتي: إنه من الأشخاص ذوي سن معينة، تموت نسبة معينة في العام التالي، وعدد نسبي آخر معين يموت خلال العامين التاليين، وهكذا. فالمعطيات التي نبني عليها استدلالاتنا، والقضايا التي نستدلها من تلك المعطيات، كلتاهما مرهونتان بنسبة تكرار الحدوث؛ فسلامة المعطيات متوقفة على سعة نطاق مشاهداتنا الماضية وعلى اكتمال مدوناتنا ودقتها؛ والذي يؤكد لنا سلامة هذه المعطيات تأكيدًا ماديًّا هو أن شركات التأمين على الحياة قد بنت أعمالها على أساسها أمدًا طويلًا، ولهذا كان لدى هذه الشركات مجموعة من المعطيات المختارة المعدة تعتمد عليها في استدلالاتها، أكثر مما تهيئه لنا قوائم الوفيات بصفة عامة؛ نعم إنه لا خلاف في أن عملية التأمين كما يتناولها محاسبو شركات التأمين هي عملية رياضية في خصائصها، لكن أيسر تحليل يكفي لبيان أن الرياضة في هذه الحالة المذكورة إنما تؤدي مهمتها أداءً وسليًّا، وليست هي بالتي تصف حالات الواقع كما يقع؛ فمن وجهة نظر أصحاب النظرية الذاتية في حساب الاحتمال، يكون من الواضح أنه كلما ازدادت معرفة الإنسان بالمعطيات المتصلة بالموضوع سعة ودقة، ازدادت دقة قضايا الاحتمال التي يكونها. وقد يجمل بنا أن نقول شيئًا عن مسألة تتناولها المناقشة كثيرًا أو قليلًا، ألا وهي الاحتمال بأن نظرية معينة أو قانونًا معينًا «صحيح»؛ فبناءً على وجهة النظر التي أخذنا بها في هذا الكتاب، لا معنى لذكر درجة احتمال قانون معين أو نظرية معينة، اللهم إلا إذا أردنا لهذه العبارة أن تضمر أو أن توجز (وعندئذٍ تكون عبارة مرذولة) ما نريد أن نشير بها إليه، وهو معاملات الاحتمال الخاصة بالمواد التي جاءت القوانين فمكنت — باعتبارها وسائل انتقال — من قيام علاقات بينها؛ فبعض القوانين أشمل من بعض، إذ تصدق على نطاق من الحالات أوسع مجالًا؛ فلو كان لدرجة احتمال قانون من القوانين أي معنى حرفي، كان هذا المعنى — فيما يظهر — لا يصدق إلا على تكرار الحدوث النسبي للتطبيق الصحيح الذي تنطبق به القوانين الأقل شمولًا، داخل مجموعة القوانين التي تنخرط فيها؛ وإنه لمن العسير أن نجد حالة واحدة يكون فيها لهذا التحديد أية قيمة؛ ولو كان للعبارة السالفة معنًى، فذلك أنها تمثل المبدأ الذي سبق لنا أن ذكرناه، وهو: أن احتمال نظرية معينة يقاس بالعلاقات التي تقوم بين نتائج تلك النظرية وبين نتائج غيرها من النظريات في سيرنا المتصل بعملية البحث. جدير بنا، في ختام هذا الجانب من جوانب مناقشتنا للمادة «العلمية» أن نعود إلى الغاية التي نستهدفها من هذا الفصل؛ فغايته هي بيان العلاقة بين الملامح المميزة لمجموعة القضايا التي تأتلف منها مادة العلم الخاص بالوجود الخارجي وما سبق أن بسطناه من شرح لمنطق المناهج؛ فلقد أردت بمناقشتي للاحتمال أن أقتصر على أن أبين أن طابع الاحتمال في القضايا العلمية التي تُقال عن المفردات، ومجموعات الموجودات وأنواعها، إنما يؤيد النتائج التي كنت قد انتهيت إليها عن المنهج، كما أبين كيف يكون ذلك؛ لا أن أقدم مناقشة اصطلاحية للموضوع بأسره؛ وإذن فهو أشد ما يكون صلة بمناقشتنا للقضايا ذات الدلالة الوجودية، التي تراها في الفصل الخامس عشر. عند هذا الموضع من الحديث، يجدر بنا أن نفرق بين الحالات التي هي عينات والحالات التي هي نماذج؛ فالحالة تكون نموذجًا إذا ما تألف مضمونها على نحو يجعل نوعها يتيح لنا أن نستدل منها استدلالًا مأمونًا وجود سمات وأشياء ليست واقعة عندئذٍ في مجال المشاهدة؛ فنقول — مثلًا — عن هذا الشيء المعين إنه نموذج للشعير أو القمح أو الشوفان، حين نستوثق من أنه متصف بمجموعة معينة من السمات المقترنة التي تميزه؛ وصفاته من حيث هو نموذج لا تجيز لنا أن نستدل منه أشياء وخصائص خارج النوع، كأن نستدل منه مثلًا أشياء متجاورة في زمان الوقوع أو في مكان الحدوث؛ لكننا إذا ما حددنا المادة المذكورة على أنها عينة مقبولة، فعندئذٍ تصبح المادة شيئًا أكثر من مجرد كونها حالة مثلى، أو نموذجًا لنوعها؛ فلا يكون الشيء المعين عينه إلا إذا تقرر أنه عنصر من عناصر متصل متجانس؛ فسؤالنا عما إذا كانت حفنة من الغلال مختارة من صومعة الغلال هي أو ليست هي عينة لمحتويات الصومعة، أمر يختلف عن سؤالنا عما إذا كانت أو لم تكن تلك الحفنة المختارة نموذجًا كاملًا للنوع «قمح» أو لأحد الأنواع الفرعية التي تندرج تحت القمح؛ فهي لا تكون عينة مقبولة إلا إذا حققنا التجانس لمحتويات الصومعة، كأن نمزج تلك المحتويات مزجًا شاملًا كاملًا، بحيث تكون أية حفنة منه ممثلة — في توزيع صحيح النسبة — كافة عناصر الغلال التي يتألف منها محتوى الصومعة؛ فعندئذٍ تصبح هذه الحفنة ممثلة لسائر أجزاء المحتوى، بالمعنى الذي يجيز لنا أن نستدل منها خصائص أية حفنة أخرى، بغض النظر عن النوع أو الأنواع التي تنتمي إليها هذه الحفنة، وبغض النظر عن الجزء من الصومعة الذي أخذناها منه. وهكذا يكون لتحديدنا لحالات بعينها أنها عينات، مهمة منطقية مميزة؛ فمدى نطاق النتائج التي نستدلها مما قد أسميته بالحالات النموذجية، يخضع لقيد معين معلوم؛ وذلك أن تقريرنا بأن مفردات معينة تنتمي إلى نوع بعينه، يتوقف على اختيار الخصائص وترتيبها؛ فليست الخصائص — كما قد رأينا — مما يؤخذ بالحالة التي ندركها عليها إدراكًا مباشرًا، إذ إننا نختارها ونرتبها من حيث هي دلائل أو علامات تشير إلى ما هنالك من تفاعلات تكون تلك الخصائص نتائجها؛ ووثوقنا من قيام تفاعل معلوم الحدود، هو بمثابة تحدينا لما هنالك من ارتباط بين تغيرات أو تنوعات؛ وصياغتنا للتفاعل المعين في صورة قانون أو صورة قضية جامعة، ليست — من حيث مضمونها — صياغة نشير بها إلى الخصائص التي وقعت لنا في مجال المشاهدة: بيد أن الإشارة إلى الجانب الكيفي «جانب الخصائص المشاهدة» تظل بالضرورة قائمة؛ وليس من شأن هذه الإشارة إلى الخصائص المشاهدة أن تعوق قياس الظواهر قياسًا كميًّا، أو أن تعوق العمليات الحسابية التي ترتكز على ذلك القياس الكمي، إذ إن مضمون القانون نفسه من شأنه أن يدفع إلى الأمام وأن يوجه تلك المقاييس التي نقيس بها المادة المختارة، والتي تجعل تلك العمليات الحسابية في حدود المستطاع، لكن تلك الإشارة إلى الخصائص المشاهدة تحول دون استخدامنا للقضايا الكلية المجردة، أو للصيغ الرياضية — من حيث هي كذلك — استخدامًا تطبيقيًّا على الواقع؛ وذلك لأن الأنواع متباينة، ما دامت متميزة بعضها من بعض على أساس خصائصها المشاهدة؛ بل إن الأنواع الفرعية المندرجة تحت نوع واحد شامل لها، يتميز بعضها من بعض بمميزات تستند إلى فروق بين خصائصها المشاهدة؛ ومن هنا كان تطبيق العمليات الحسابية «المستمدة من المقاييس الكمية للظواهر» مقتصرًا على العلاقات القائمة داخل الأنواع؛ فإذا أوجدنا متصلًا مكانيًّا زمانيًّا يكون من صفاته أن أي جزء منه متجانس مع أي جزء آخر، كان ذلك معادلًا لإيجادنا نوعًا جديدًا من طراز جديد، له من الشمول في عالم الموجودات الخارجية ما يجعل مضموناته متصلًا بعضها ببعض، لا لأنها متميزة بعضها من بعض بما يفرقها من خصائص، بل لأنها حالات خاصة من التفاعلات داخل إطار مركب واحد من التفاعلات؛ وهذا الإطار المركب الواحد إنما يوصف بعبارة تخلو خلوًّا تامًّا من أية إشارة تدل على شيء سوى الخصائص المشتركة بين كافة التفاعلات الجزئية الداخلة في ذلك الإطار العام؛ وأثر هذا التغير على مادة العلم الطبيعي هو الموضوع الخاص الذي سنتناوله في القسم الآتي. تتألف مادة العلم الطبيعي — بقدر المستطاع — على أساس أن تكون مكوناتها مما يمكن أن يقاس قياسًا كميًّا، بحيث تجيء هذه القياسات الكمية قابلة لأن يرتبط بعضها ببعض برابطة نسقية؛ أي أن تجيء بحيث تكون قابلة لإجراء موازنات تحدد ذاتيات الأشياء وتحدد الفروق الفاصلة بينها، تحديدًا يجعل تلك الذاتيات وتلك الفروق قابلة أيضًا للصياغة العددية؛ إنه لا يكفي أن نقيس ثم نقف عند هذا الحد؛ بل لا بد لهذه القياسات الكمية أن تكون — في المثل الأعلى العلمي — قابلة لأن تُساق في حدود يمكن مقارنة بعضها ببعض مقارنة نسقية، أي أن تكون مما يمكن تعلقه بعضه ببعض في العمليات الحسابية. وتتحقق هذه الغاية في البحث العلمي بوساطة مقولات المكان والزمان والكتلة، مرتبطًا بعضها ببعض على نحو يتيح للتغيرات التي تحدث (والتغيرات نفسها تقاس قياسًا عدديًّا) أن توصف بلغة مقولة شاملة، هي مقولة اختلافات الحركة؛ وذلك لأن تحديدنا للتغير على أنه حركة، معناه صياغة ذلك التغير على أساس الكتلة المقيسة قياسًا عدديًّا، مضافًا إليها الزمن والمسافة أو «البعد» مقيسين كذلك قياسًا عدديًّا؛ فالكتلة والزمن والبعد — ك، ز، م — هي الوسائل المقننة لتحديد الوحدات التي نقيس بها الظواهر الطبيعية، إذ إنها هي التي — باستخدامها — يصبح أي تغير قابلًا لأن يُصاغ على أساس سرعة الحركة وعجلتها اللتين تتسمان بخصائص الموجهات «بالمعنى الرياضي»؛ فهي الوسائل التي نوجد بها بين المعطيات تجانسًا يجعل أي جزء من المتصل المكان الزماني مهيأ لأن يتخذ عينة تمثل نسقًا من تفاعلات؛ فعندئذٍ يصبح تبادل المعطيات مستطاعًا، فيؤدي بعضها ما يؤديه بعضها الآخر من مهمة الاستدلال في عالم الموجودات الخارجية. وهذا القول — من الناحية السلبية — يتضمن أن هذه التصورات العقلية ذات صفة منطقية، لا صفة وجودية؛ وأما ما يقع في الوجود الفعلي من تفاعلات فلا بد أن يكون فيه من الإمكانات ما يجعل تلك التفاعلات قابلة لأن تُصاغ بلغة الحركة التي نعرفها بتطبيقنا للمدركات ك، ز، م؛ ومع ذلك فقد كانت الصياغة الكلاسية التي تستخدم التغيرات الكيفية حدودًا لها، وأعني الصياغة التي لم يكن فيها لتغير الوضع المكاني، وللزمن الذي يستغرقه ذلك التغير، أية أهمية خاصة، أقول إن تلك الصياغة الكلاسية التي كانت تعتمد على التغيرات الكيفية، قد كانت من حيث وصفها لمجال الإدراك الحسي المباشر، أصدق حرفية من العلم الفيزيائي الحديث؛ وكذلك كان التفسير على أساس الأنواع التي كان كل عضو فيها نموذجًا كاملًا — أو يكاد يكون كاملًا — لنوعه، تفسيرًا ألصق — بكثير — بما ينبئنا به إدراكنا الفطري في ظاهر الأمر، من فكرة المتصل المكاني الزماني المتجانس؛ إلا أن «العلم» الذي بني على أساس تلك الصياغة وهذا التفسير القديمين لم يطوع نفسه لا إلى التطور النظري المثمر، ولا إلى التحكم في التغير الكيفي تحكمًا عمليًّا ينصب على الوجود الخارجي؛ وإنما حدث التطور الإيجابي للعلم بفضل تناول مادة العالم المحس من جانب الخصائص التي نخلعها على الأشياء الطبيعية على أساس ما تؤديه من مهام في عمليات البحث المنظم التي نرتقي بها ونمسك بزمام توجيهها، أي إنها خصائص منطقية أكثر منها وجودية مباشرة؛ فالكتلة والزمن والبعد — من حيث هي تصورات ذهنية — هي مقومات قضايا كلية مجردة، تطبيقها على الوجود الخارجي هو تطبيق إجرائي «لا انطباق وصفي». إننا إذا أوردنا القول بلغة متصل مكاني زماني متجانس، أتاح لنا أن نرتب القضايا في مجرى التفكير النظري الاستنباطي ترتيبًا نسقيًّا على نطاق واسع، كما أتاح لنا إيجاد معطيات مقيمة في مجال الاستدلال الموضوعي «الذي نجريه بين أشياء العالم الخارجي»؛ فاستبعادنا للصفات الكيفية بحيث لا نجعلها أساس قضايانا العلمية، قد مكننا — كما سبق لنا القول — من القياسات الكمية ومن العمليات الحسابية المنبنية على أساس تلك القياسات؛ غير أن القياسات الكمية والعمليات الحسابية لا تزودنا من تلقاء نفسها بالوسيلة التي نفسر بها أو نرتب بها المعطيات التي قد ظفرنا بها، تفسيرًا أو ترتيبًا يبلغ حد الكمال في تنسيق أجزائه؛ لأن العلاقة المتبادلة بين المعطيات من جهة والمدركات الذهنية من جهة أخرى (وهي علاقة أشرنا إليها مرارًا فيما مضى) تتطلب — لكي ننظم المعطيات تنظيمًا كاملًا — نسقًا يقابل تلك المعطيات، يكون قوامه مدركات ذهنية مرتبط بعضها ببعض، وقابلة للتطبيق المانع الجامع؛ وهو شرط تستوفيه مدركات الكتلة والزمن والمسافة فيما يقوم بينها من علاقات متبادلة؛ وتحويل مضمونات هذه المدركات الدال عليها الألفاظ التي نستخدمها لترمز إليها، هو أمر ممكن في مجرى تفكيرنا النظري الاستنباطي، إمكانًا لا يقف عند حد؛ أو على الأقل فهذا هو المثل الأعلى المنطقي، إذ إن هذا المثل الأعلى يقضي بأن تكون المقولات النهائية للبحث الفيزيائي مما يتيح إمكان التحويل بين هذه المدركات إمكانًا لا يتقيد بقيد؛ فالظواهر الطبيعية التي تتباين من الوجهة الكيفية تباينًا بعيدًا، كما هي الحال في الحرارة والضوء والكهرباء، تصبح قابلة لأن تُساق في معادلات يمكن السير فيها سيرًا استنباطيًّا لا يقف عند نهاية معلومة. ومع ذلك فاختيارنا للكتلة والزمن والمسافة من حيث هي مدركات معيارية يتضمن اتفاقًا ذا وجهين، أما أحدهما — وهو وجه ثانوي من وجهة نظر الموضوع الذي نحن الآن بصدد مناقشته — فقد سبق أن تعرضنا للحديث عنه؛ فاختيارنا لقضيب بلاتيني محفوظ في مكان معين محاط بظروف معينة، لكي يكون هو وحدة قياس الأبعاد، أمر مرهون — بالبداهة — باتفاق الناس فيما بينهم؛ لكنه إذا كان المضمون المعين لهذا المعيار — كما قد أشرنا فيما سبق — مرهونًا باتفاق الناس عليه، فليست المهمة التي يؤديها بالأمر الاتفاقي، إذ إن لعملية القياس من الأهمية الأصيلة ما يستوجب أن تكون هنالك وسيلة فعالة للقيام بها. وهنالك اتفاق آخر، هو هذه المرة اتفاق تصوري ذو فحوى منطقي مباشر؛ فكون الكتلة والزمن والمسافة أمورًا منطقية أكثر منها أمورًا وجودية في طبيعتها، يدل على أنه ليس ثمة من ضرورة وجودية لاختيارها؛ فمثلًا كان يجوز لنا أن نختار الكتلة والطاقة والكثافة؛ وفي مثل هذه الحالة كان البعد والزمن سيكونان أمرين متفرعين؛ وهنالك من الناس من يعتقد بأن تطور فيزياء الكوانتم سيترتب عليه أن تصبح الكتلة والشحنة الكهربية وقوة الدفع في مسار ينحرف على شكل الزوايا، هي المدركات المعيارية؛ فأساس اختيارنا للمدركات المعيارية هو سهولة البحث وضبطه، وهذه علامة أخرى تدل على أن المدركات المعيارية لها الخصائص التي تجعلها وسائل إجرائية، كما تدل على أن الاتفاق المتضمن في اختيارها ليس هو بالأمر الجزاف. وسأختم مناقشتي لهذا الموضوع الذي نحن الآن بصدده، بالعودة إلى الارتباط القائم بين العمليات الاستقرائية والعمليات الاستنباطية في البحث العلمي؛ وذلك أن مادة العلم الفيزيائي تعرض لنا في صورة مكشوفة معنى هذا الارتباط؛ فالفوارق بين كائنات الوجود الخارجي — وهي استقرائية — إنما تحدد على نحو يمكن المدركات والعلاقات الرياضية من أداء مهمتها أداءً فعالًا في مجرى التفكير النظري المرتبة خطاه ترتيبًا استنباطيًّا؛ فالعالم الخارجي الواقع، في ذاته وبذاته، إنما هو ذو طبيعة تمكننا من تحديد الفوارق الفاصلة بين أشيائه تحديدًا لا يقيد اختيارنا لتنوعاته قيد؛ والذي يقرر لنا ما نختاره من أشياء — إذ نكون إزاء حالة بعينها — هو المشكلة «التي نكون بصدد حلها عندئذٍ»؛ فالمشكلة فيما يسمونه بمجال الإدراك الفطري تكون متصلة بنفع نبتغيه أو متعة نريدها؛ وأما في مجال العلم فالمشكلة المتصلة بما نحن إزاءه من وقائع هي كيف نخطو إلى الأمام بالبحث الموجه؛ ولما كانت سيطرتنا هذه المطلوبة على السير بالبحث لا يمكن بلوغها إلا بتدخل مدركات مجردة مرتبط بعضها ببعض، كان تمييزنا للأشياء الواقعية تمييزًا استقرائيًّا إنما يوجهه في كل خطواته ما نستهدفه من إمكان تطبيق المدركات العقلية التي يرتبط بعضها ببعض ارتباطًا استنباطيًّا، على حين أن هذه المدركات العقلية يتم اختيارها وترتيبها بالقياس إلى ما نريد أن ننتهي إليه آخر الأمر من تطبيق على كائنات الوجود الخارجي. فهذه الحقيقة من شأنها أن تحدد معنى الاستقراء والاستنباط في دلالتهما المنهجية؛ فلا فرق هناك بين الاستقراء والاستنباط من ناحية العمليات التي نصطنعها إبَّان السير في البحث؛ فسواء كانت مادة موضوعنا مشاهدات خارجية أو مدركات عقلية، فالأمر في كلتا الحالتين يتطلب حكمة في التقدير، وعناية دقيقة في الإدراك وتسجيل ما ندركه، وفي تقبل ما يعرض لنا من إيحاءات وتطويرها، وعينًا نافذة تلتقط أوجه الشبه التي لها مساس بموضوع البحث، وتجربة تتحسس الطريق، وتشكيلًا للمادة ينصب على الطبيعة الخارجية أو ينصب على تصوراتنا الذهنية، بحيث نستطيع أن نصور تلك المادة على هيئة رسوم تبينها؛ وإذا قلنا إن هذه الأمور كلها تتطلبها مادة الموضوع سواء أكانت واقعة في مجال المشاهدة أم في مجال المدركات العقلية، فقد قلنا إن هذه الأمور مطلوبة سواء أكانت المادة المذكورة تؤدي مهمة استقرائية أم استنباطية؛ وإذن فليست التفرقة بين الاستقراء والاستنباط كائنة في عمليات البحث، بل هي كائنة في الاتجاه الذي تتجه إليه تلك العمليات؛ فالأمر هنا يتوقف على ما إذا كان الهدف المنشود هو تحديد المعطيات الخارجية التي تتصل بموضوعنا وتؤثر فيه، أو هو المدركات العقلية المرتبط بعضها ببعض والتي تتصل بموضوعنا وتؤثر فيه؛ فالمسافر من نيويورك إلى شيكاغو، ومن شيكاغو إلى نيويورك قد يتبع نفس الطريق ونفس وسائل النقل في كلتا الرحلتين؛ وإنما الفرق هو في المكان المقصود وفي اتجاه السير؛ ولا يختلف الأمر عن هذا في حالة قيامنا بالعمليات التي يقتضيها الاستقراء والاستنباط. فالفكرة القائلة بأن ثمة منطقًا للاستقراء وآخر للاستنباط، وأن المنطقين مستقل أحدهما عن الآخر، هي فكرة تعبر عن مرحلة معينة من مراحل التاريخ الفكري؛ إذ قد تطورت في زمن كان المنطق الكلاسي ما يزال مفروضًا فيه أنه يزودنا بمعيار التفكير النظري البرهاني، لكنه كان في الوقت نفسه يرى غير كافٍ لأغراض البحوث المنصبة على الوجود الخارجي؛ ولهذا احتفظوا به منطقًا يرونه سليمًا في مجال الاستنباط، ثم أضافوا إليه ضميمة تحتوي على منطق استقرائي، فرضوا فيه أنه يصوغ المناهج المستخدمة في البحوث الطبيعية؛ وكان من نتائج ذلك أن تأثر كلٌّ من المنطقين اللذين أطلقوا عليهما منطق الاستنباط ومنطق الاستقراء، أقول إن كلًّا من المنطقَين قد تأثر في مضموناته نفسها، وذلك أنَّ عزل أحدهما عن الآخر قد جعل محالًا علينا أن نبسط أيًّا منهما على أساس العمليات الأدائية التي يؤديها كلٌّ منهما على التوالي؛ بحيث أصبح مستحيلًا علينا أن نحاول الحصول على منطق كامل بإضافة منطقين شائهين ناقصين.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/24/
البحث الاجتماعي
مادة المشكلات الاجتماعية وجودية؛ ولهذا فالعلوم الاجتماعية فروع من العلم الطبيعي بالمعنى الواسع لكلمة «طبيعي»؛ غير أن البحث الاجتماعي هو نسبيًّا في حالة من التأخر بالقياس إلى البحث الفيزيائي والبيولوجي بحيث يوحي بالحاجة إلى مناقشة خاصة به؛ وليست المسألة هي ما إذا كانت مادة العلاقات الإنسانية علمًا — أو يمكن إطلاقًا أن تصبح علمًا — بالمعنى الذي تعد به الفيزياء اليوم علمًا؛ بل المسألة هي مادة العلاقات الإنسانية أمن طبيعتها أن تسمح بتطور المناهج التي تستوفي — قدر مستطاعها — الشروط المنطقية التي لا بد من استيفائها في سائر فروع البحث؟ وإن حالة التأخر التي عليها البحث الاجتماعي لتشهد بأن ثمة صعابًا خطيرة في طريقه؛ فمصدر واضح من مصادر هذه الصعاب هو أن مادة البحث الاجتماعي لها من «تركيب» عناصرها ومن تداخل تلك العناصر بعضها في بعض تداخلًا معقدًا، ما يزيد من صعوبة إيجاد نسق مغلق نسبيًّا (وهي صعوبة موجودة في العلم الفيزيائي)؛ وإذن فتأخر البحث الاجتماعي في حد ذاته قد يفيدنا في اختبار الأفكار المنطقية العامة التي انتهينا إليها؛ وذلك لأن نتائج مناقشتنا للموضوع قد تبين أن قصورنا عن العمل وفق الشروط المنطقية التي أشرنا إليها، هو الذي يلقي الضوء على حالته التي أعاقته دون التقدم. إن نتائج معينة مما قد انتهينا إليه فعلًا، لَتمهد لنا طريق المناقشة. وتأثير الظروف الثقافية على البحث الاجتماعي واضح؛ فكل متعقب لما يدور في مجال هذا البحث، في وسعه أن يرى تأثير تحيزات الجنس والقومية والطبقة والمذهب، لما تلعبه هذه الأمور من دور خطير؛ وما علينا سوى أن نذكر قصة علم الفلك، وقصة الأحداث الأقرب عهدًا والتي حدثت لنظرية التطور، لنعلم أن المصالح الخاصة لبعض النظم القائمة — في الماضي — قد كان لها أثر في تطور العلم الفيزيائي والبيولوجي؛ فإذا كانت لا تؤثر في العصر الحاضر بما يمتد إلى ما يشبه النطاق التي امتدت إليه فيما مضى، فما ذلك — إلى حد كبير — إلا لأن الفيزياء قد طورت اليوم مواد وتقنيات لها طابع التخصص؛ فكانت نتيجة ذلك أن «الفيزيائي» قد أخذ يبدو لكثير من الناس مستقلًّا بذاته عن الجوانب الاجتماعية (وهو حق) ثم لم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن الفيزيائي قد أخذ يبدو لهم كذلك أنه منفصل بحكم طبيعته الأصيلة عن كل سياق اجتماعي؛ وترتب على هذا العزل — إلى حد ما — ما يبدو في الظاهر من امتناع الصراع بين الجانبين؛ لكن الذي حدث حقيقة، هو أن تأثير الظروف الثقافية قد أصبح تأثيرًا غير مباشر؛ فالنمط العام لأهم المشكلات الفيزيائية، هو الذي يحدد مجموعة المدركات التي ما تزال سائدة؛ وأما الاتجاهات الاجتماعية وما يحيط بها من مشكلات، فتستثير اهتمامًا خاصًّا ببعض مجموعات من المشكلات الفيزيائية دون بعض؛ فمحال أن نفصل — مثلًا — بين انصراف القرن التاسع عشر إلى المدركات الآلية وحدها، وبين حاجات الصناعة في ذلك العصر؛ على أن الأفكار «التطورية» — من جهة أخرى — قد نشطت في تناولها للموضوعات الثقافية الاجتماعية قبل أن تطبق تلك الأفكار على البيولوجيا ففكرة الفصل التام بين العلم والبيئة الاجتماعية مغالطة تشجع استهتار العلماء بما يترتب على عملهم من عواقب اجتماعية. إن النتيجة التي انتهينا إليها، وهي أن اتفاق أوجه النشاط مع ما يترتب عليها من نتائج، هو اختبار للتقدم العلمي، وهو قوة دافعة لذلك التقدم، أقول إن هذه النتيجة متسقة مع وجهة النظر القائلة بأن الغاية والمحك النهائيين لكل بحث هما تحويل موقف مشكل (وإشكاله يتضمن خلطًا وتعارضًا) ليصير موقفًا موحدًا؛ وأما أن تحقيق هذه الغاية هو أصعب جدًّا في العلوم الاجتماعية منه في مجال العلوم الفيزيائية بمعناها الضيق، فهذه حقيقة واقعة؛ لكنها ليست حقيقة من شأنها أن تخلق اختلافًا نظريًّا أو اختلافًا منطقيًّا أصيلًا بين هذين النوعين من البحث؛ بل الأمر على خلاف ذلك، إذ إن قيام الصعاب العملية ينبغي أن يكون — كما هي الحال داخل نطاق البحث الفيزيائي نفسه — بمثابة حافز فكري وتحدٍّ لنا بأن نتابع التطبيق في مجال جديد. إن مطالبتنا البحث الاجتماعي بأن يستوفي الشرطين المتلازمين، وهما شرط أن نستوثق بالمشاهدة من صدق الوقائع، وأن نستوثق كذلك من أن مدركاتنا العقلية ذات توجيه إجرائي مناسب، هذه المطالبة قد تبدو أوضح من أن تتطلب بسطها في قول صريح؛ لأن هذين الشرطين هما بالبداهة شرطان لكل عمل علمي ينصرف به صاحبه إلى مادة الوجود الواقعي؛ غير أن العجز عن تحقيق الشرط الذي يقتضي أن نجعل مادة الواقع ومادة الفكر في تقابل متبادل إحداهما مع الأخرى، هو طابع ملحوظ في العلوم الاجتماعية كما هي اليوم قائمة (كما سنبين ببعض التفصيل فيما بعد) حتى لنرى لزامًا علينا أن نعرض هذه النقطة عرضًا صريحًا؛ فمن الناحية الإيجابية، تدل ضرورة قيام هذه الصلة المتبادلة (بين الوقائع من جهة وأفكارنا النظرية من جهة أخرى) على أهم السبل التي يمكن بها للعلم الفيزيائي أن يتخذ نموذجًا يحتذيه البحث الاجتماعي؛ لأنه لو كان هنالك درس أولى من أي درس سواه بأن نتعلمه من مناهج العلوم الفيزيائية، فذلك هو ما فيها من التضايف الدقيق بين الواقع من جهة والأفكار من جهة أخرى؛ فإلى أن يوفق البحث الاجتماعي في تثبيت مناهجه في مشاهدة المعطيات الأولية والتمييز بينها وترتيبها، أعني تلك المعطيات التي تستثير في الذهن ما يقابلها من أفكار نظرية، ثم تختبر هذه الأفكار، وإلى أن تكون الأفكار — من جهة أخرى — التي نكونها ونستعملها (١) مستخدمة باعتبارها فروضًا وتكون (٢) ذات صورة من شأنها أن توجه وترسم خطة العمليات الإجرائية التي نحدد بها الوقائع على وجه تحليلي تركيبي، فلا أمل للبحث الاجتماعي في أن يستوفي الشروط المنطقية التي يقتضيها بلوغه منزلة العلم. لقد بينا خلال المناقشات السابقة أن ثمة أحكامًا تُصاغ لقصد واضح وهو أن تدخل لتكون جزءًا لا يتجزأ من العملية التي يُعاد بها تأليف مادة الوجود الخارجي نفسها، التي تنصب عليها أو تعنى بها تلك الأحكام في نهاية الأمر؛ كما بينا كذلك أن الأحكام التي يكون فيها هذا الجانب واضحًا — وأعني بها أحكام الحياة العملية والأحكام التاريخية — إن هي إلا حالات خاصة من عملية التحويل التي يُراد بها إعادة تأليف المادة، والتي تنصب على موضوع مشكل سابق، يجعله الباحث غايته القريبة المنشودة، والنهاية الموضوعية المقصودة من البحث كله؛ ولهذه الملاحظات علاقة خاصة بالبحث الاجتماعي كما هو في حالته الراهنة؛ وذلك لأن ثمة فكرة سائدة بأن البحث الاجتماعي لا يكون بحثًا علميًّا بالمعنى الصحيح إلا بمقدار ما يكفُّ نفسه عمدًا وبطريقة مدبرة عن كل صلة تربطه بشئون الحياة الاجتماعية العملية؛ فالدرس الخاص الذي يستطيع منطق مناهج البحث الفيزيائي أن يعلمه للبحث الاجتماعي هو — بناءً على ما ذكرنا — أن البحث الاجتماعي — من حيث هو بحث — يتضمن ضرورة قيامنا بعمليات إجرائية من شأنها أن تعدل فعلًا في الظروف القائمة التي هي — على الصورة التي هي قائمة بها — مناسبات مواتية لإجراء البحث بمعناه الصحيح، والتي تهيئ لهذا البحث موضوع دراسته؛ فهذا الدرس — كما قد رأينا — هو المغزى المنطقي للمنهج التجريبي. لقد وصل البحث الفيزيائي اليوم — إلى حد كبير، كما وصلت الرياضة، إلى حد أكبر مما قد وصل إليه البحث الفيزيائي — إلى مرحلة تقام فيها المشكلات أساسًا على مادة قد هيأتها فيما سبق نتائج البحوث التي فرغ الباحثون منها، حتى لتجيء البحوث الجديدة فتجد أمامها ذخيرة من المعطيات والمدركات والمناهج العلمية قد ظفر بها الباحثون فعلًا؛ لكن ما هكذا الحال في مادة البحث الاجتماعي؛ إذ إن هذه المادة إنما تكون على الأغلب في حالة كيفية أولية؛ وإذن فمسألة إقامة المناهج التي يمكن بها لمادة المواقف الوجودية أن تتحول إلى مواد معدة تيسر البحث وتوجهه، هي المسألة الأولى والعاجلة فيما يختص بالبحث الاجتماعي؛ وهذا من سنوجه مناقشتنا الآتية بصفة خاصة إلى هذا الجانب من منطق البحث الاجتماعي. معظم البحث الاجتماعي السائد اليوم مطبوع — كما سيظهر لنا من التمحيص التحليلي فيما بعد — بطابع يميزه، وهو غلبة إحدى صورتين من صور الإجراء المنهجي، وهما صورتان تباين إحداهما الأخرى مباينة توضح انفصال الجانب العملي عن الجانب النظري؛ ففي الجانب العملي، أو عند من يشتغلون مباشرة بإدارة الشئون العملية، يسود الزعم بأن المشكلات القائمة قد تحددت قسماتها الرئيسية بالفعل؛ وإذا ما قام هذا الزعم، لزم عنه أن تكون مهمة البحث مقصورة على التيقن من خير منهج يُصطنع لعلاجها؛ ونتيجة هذا الزعم هي إغفال — إلى حد كبير — لعمل التفرقة التحليلية التي لا بد منها لتحويل موقف مشكل إلى مجموعة من ظروف تؤلف مشكلة بعينها؛ ويتبع هذا حتمًا أن تقترح مناهج لحل المواقف المشكلة دون أن يكون هنالك أية فكرة واضحة عن المادة التي يُراد للخطط والمشروعات أن تطبق عليها وأن تحدث فيها آثارها؛ ثم تتولد عن هذا نتيجة أخرى وهي أن الصعاب في معظم الحالات تزداد حِدَّة، لما ينشأ أمام العقل وفعله من حوائل جديدة؛ وحتى إذا تخففنا من بعض تلك الظواهر، تولدت لنا عن ذلك مشكلات جديدة؛ ولك أن تستعرض المشكلات السياسية ومناهجها التي تعالج بها — سواء كان ذلك في مجالات السياسة الداخلية أو السياسة الدولية — لتكشف عن أي عدد شئت من الأمثلة الجيدة التي توضح لك ما نقول. والموازنة — عند هذه النقطة — بمناهج البحث الفيزيائي تسترعي النظر؛ ففي البحث الفيزيائي ينصرف جانب كبير من التقنيات المستخدمة، إلى تحديد طبيعة المشكلة، بمناهج تشمل نطاقًا واسعًا من المعطيات، وتقضي برأي في قيمة هذه المعطيات من حيث هي شواهد يركن إليها، وتستوثق من دقة تلك المعطيات بطرائق القياس الكمي، وترتبها بالترتيب الذي قد أظهر البحث فيما مضى أنه — على الأرجح — هو الترتيب الذي يشير إلى طرائق ملائمة في منهج البحث؛ على ذلك فالمشاهدة التحليلية الموجهة، بما يدخل فيها من عمليات المقارنة والمباينة المنظمة، أمر مفروغ منه في الموضوعات التي حققت بنفسها مكانة علمية؛ فمن المسلَّم به أنه من العبث أن نحاول حل مشكلة لم تتحدد ظروفها. وإن التماثل بين ما يقوم به العاملون في المجال الاجتماعي، وما قد كان يقوم به العاملون في مجال الطب قبل نشأة التقنيات والمدونات المستخدمة في المشاهدة التجريبية العملية، لتماثل فيه من شدة التشابه ما يرشد إلى الصواب؛ ففي كلتا الحالتين يقوم زعم بأن مشاهدة الحالات في جملتها كافية للتأكد من طبيعة المشكلة؛ فلو استثنينا حالات غامضة غموضًا يشذ عن المألوف، كانت ظواهر المرض التي يكون لها من كبر الحجم ومن غلظ التكوين ما يجعلها ممكنة المشاهدة للنظرة الأولى، كانت هذه الظواهر تكفي عند القائمين بالعلاج الطبي لتزويدهم بالمعطيات التي يقيمون عليها تشخيصهم للأمراض؛ وأما اليوم فمن المعترف به أن اختيار ما يتبع من إجراءات علاجية بغية استرداد المريض لصحته إنما تظل جزافية إلى أن تتحدد العوامل التي تكوِّن العلة أو المرض، تحديدًا كاملًا ودقيقًا بقدر المستطاع؛ وإذن فالمشكلة الأولى هي أن نخلق التقنيات التي نستخدمها في المشاهدة والتدوين، بحيث تزودنا بالمعطيات التي نراها صالحة للاستشهاد واختبار صحة ما ننتهي إليه؛ فالدرس الذي نتعلمه فيما يتعلق بمنهج البحث الاجتماعي، هو الضرورة الأولية التي تحتم علينا تطوير تقنيات المشاهدة والمقارنة التحليليتين، تطويرًا يمكننا من حل المواقف الاجتماعية المشكلة إلى مشكلات صبت في صياغة محددة. وينبغي لنا أن نعنى عناية خاصة بأحد العوائق الكثيرة التي تقف في سبيل تحقيق الشروط المنطقية التي يتطلبها المنهج العلمي، وذلك أن العلل الاجتماعية الخطيرة كثيرًا ما تفسَّر تفسيرًا خلقيًّا؛ ولا حاجة بنا إلى الإنكار بأن المواقف نفسها هي في أعماقها خلقية من حيث أسبابها ونتائجها، وذلك بالمعنى الحقيقي لكلمة «خلقي»؛ غير أن تحويل المواقف التي هي موضع البحث، إلى مشكلات محددة يمكن تناولها تناولًا عقليًّا، إنما يتطلب صياغة موضوعية عقلية للظروف (التي تتألف منها تلك المواقف)؛ ومثل هذه الصياغة يتطلب بدوره تجريدًا تامًّا للمواقف من نعوت الخطيئة والتقوى، ومن الدوافع التي توصف بالفضيلة أو بالرذيلة؛ وهي نعوت سرعان ما ينعت بها الأفراد والجماعات والطبقات والأمم؛ فقد مرَّ زمن كانت تنسب فيه الظواهر الطبيعية المحببة والكريهة؛ إلى ما للقوى العليا المسيطرة من خير ومن شر؛ وكذلك مر زمن كانت تُعزَى فيه الأمراض إلى ما يدبره الأعداء الشخصيون من حيل السحر؛ وإننا لنجد ما يبرر الفكرة التي عرضها ودافع عنها «سبينوزا» من أن حدوث الشرور الخلقية لا بد أن يعالج على نفس الأساس وفي نفس المستوى الذي يعالج به حدوث الصواعق، أقول إننا نجد لهذه الفكرة ما يسوغها من وجهة نظر المنهج العلمي وما يقتضيه، على أن نغض النظر عن السياق الذي أورد فيه «سبينوزا» فكرته هذه من نسقه الفلسفي الخاص؛ وذلك لأن مثل هذا المنهج هو الخطة الوحيدة التي يمكن بها أن تُصاغ الشرور الخلقية صياغة موضوعية، أي أن تُصاغ على أساس العناصر التي نختارها ونرتبها (من بين عناصر الموقف القائم)؛ فمثل هذه الصياغة هو الطريقة التي لا طريقة سواها لتناول موضوعنا تناولًا يمكن به أن نسوق إجراءات الخطة العلاجية في صورة موضوعية؛ فلربما كان تناول الباحثين للمشكلات الإنسانية من ناحية اللوم الخلقي والاستحسان الخلقي، ومن ناحية الخبث والطهر، هو أكبر عقبة مفردة بين العقبات التي تقف اليوم في طريق تطوير المناهج السديدة في مجال الدراسة الاجتماعية. وحين ننتقل من النظر إلى مناهج البحث السائد استخدامها في الشئون السياسية وفي كثير من الشئون الإدارية، إلى المناهج المستخدمة فيما يسمونه بالعلم الاجتماعي، نجد الأمر على نقيض الصورة التي وصفناها؛ فها هنا نصادف زعمًا لو أنه سيق في عبارة صريحة أو لو أنه صِيغ في صياغة تبرزه، لاتخذ صورة كهذه: «إن الوقائع قائمة بالفعل في الوجود الخارجي، ولا تحتاج إلا إلى مشاهدة وتجميع وترتيب، لكي تنشئ أحكامًا عامة ملائمة وقائمة على أساس سليم»؛ نعم إن الباحثين في الظواهر الطبيعية كثيرًا ما يتحدثون ويكتبون على نحو شبيه بهذا؛ لكن تحليل ما يفعلونه، متميزًا عما يقولونه، ينتهي بنا إلى نتيجة جد مختلفة؛ غير أني — قبل أن أتناول هذه النقطة — سأناقش زعمًا آخر وثيق الصلة بهذا، وأعني به الزعم الذي يدعي أننا قبل أن نبني النتائج على الوقائع، وعلى الوقائع وحدها، ينبغي أن نستبعد كافة الإجراءات التقديرية استبعادًا لا يدع منها شيئًا. وهذا الزعم من ناحية أولئك المشتغلين — باسم العلم — بالبحث الاجتماعي، إنما هو مستمد — في أذهان أولئك الذين يأخذون به — من مبدأ سليم؛ إذ هو نتيجة ترتبت — إلى حد كبير على الأقل — على تبين الضرر الذي أحاق بالأمر حين كنا نصوغ الأحكام الاجتماعية على أساس تحيزاتنا الخلقية؛ أعني على أساس تصوراتنا لما هو صواب وما هو خطأ، أي تصوراتنا لما هو من الرذيلة وما هو من الفضيلة؛ فكما قد قلنا منذ قليل، إن هذا المنهج لا بد بالضرورة أن يميل بنا مقدمًا نحو ما نختاره من المعطيات الدالة التي نراها ذات شأن بموضوعنا ونحو الطريقة التي نسوق بها المشكلات المراد حلها، ونحو الطرائق التي قد تؤدي إلى حلها؛ غير أن سلامة المبدأ القائل بوجوب استبعاد الاستهجان والاستحسان الخلقيين من العمليات التي نجريها لتكوين مدركات عقلية نعالج بها المعطيات، كثيرًا ما يتحول إلى ظن بأن كل تقدير قيمي لا بد من حذفه؛ لكن هذا التحول لا يقع إلا حين تتدخل في الأمر فكرة موغلة في الخطأ، وأعني بها الفكرة القائلة بأن الاستهجانات والاستحسانات الخلقية المشار إليها، هي من قبيل التقدير القيمي، وأنها تستوعب كل عناصر ذلك التقدير؛ مع أنها ليست قيمية بأي معنًى منطقي من معاني التقويم؛ بل إنها ليست أحكامًا بالمعنى المنطقي للحكم؛ إذ إنها ترتكز على فكرة ما سابقة لدينا عن الغايات التي لا بد أو ينبغي أن يوصل إليها؛ وهذه الفكرة السابقة من شأنها أن تستبعد الغايات (أو النتائج) من مجال البحث، وترد البحث في أحسن حالاته إلى شيء مبتور شائه، هو التماس الوسائل التي تحقق لنا أهدافًا سبق لنا أن قررناها؛ على حين أن الحكم الذي يكون حكمًا بالمعنى الحقيقي (وهو الذي يستوفي الشروط المنطقية للحكم) ينشئ الوسائل ونتائجها (أي غاياتها) متصلة إحداهما بالأخرى بعلاقة متبادلة بالمعنى الدقيق لهذه العبارة؛ فلا مندوحة لنا عن تقدير الغايات (أي تقويمها) على أساس الوسائل التي هي في متناول أيدينا والتي يمكن بها أن تتحقق تلك الغايات؛ تمامًا كما أنه لا مندوحة لنا عن تقدير مواد الوجود الواقعي (أي تقويمها) من ناحية مهمتها التي تؤديها باعتبارها وسائل مادية تؤدي إلى فض موقف مشكل؛ وذلك لأن الغاية التي نضعها نصب أعيننا هي في ذاتها وسيلة، أعني أنها وسيلة إجرائية. إن الفكرة القائلة إن «الغاية تبرر الوسيلة» لها من سوء السمعة في النظرية الخلقية قدر ما هي مأخوذ بها في الشئون السياسية العملية أخذًا مألوفًا؛ ونستطيع أن نسوق هذا المذهب صياغة منطقية دقيقة، حتى إذا ما تمت لنا صياغته على هذا النحو، تبين في جلاء عيبه المتأصل فيه؛ فهو من وجهة النظر المنطقية يرتكز على فرض أولي بأن غاية ما قد حددت بالفعل تحديدًا يخرجها من مجال البحث، حتى لتصبح المشكلة الوحيدة أمام البحث هي التثبت من المواد ثم استخدام هذه المواد التي يمكن بها أن تتحقق تلك الغاية؛ وبهذا يفوتنا أن ندرك المهمة الافتراضية وهي المهمة الموجهة التي تؤديها الغايات المنشودة، من حيث هي وسائل إجرائية، وبالتالي فنحن بهذا نعتدي على شرط منطقي أساسي للبحث؛ فليس يمكن للغاية المنشودة إطلاقًا — من الناحية المنطقية — أن تحدد لنا مواد الواقع التي نتخذها وسائل، إلا إذا نظرنا إلى تلك الغاية على أنها فرض (يتمكن بوساطته أن نميز بين مواد الواقع وأن نرتبها، تمييزًا وترتيبًا إجرائيين)؛ ففي كل الميادين — ما عدا الميدان الاجتماعي — قد بلغ من استنكار الفكرة التي تجعل الحل الصحيح قائمًا مقدمًا، بحيث لا يبقى إلا أن نلتمس الوقائع التي تبرهن على صحته، أقول إنه قد بلغ من استنكار هذه الفكرة استنكارًا تامًّا، أن عُدَّ السالكون على أساسها أدعياء علم أو علماء مزيفين يحاولون أن يفرضوا فكرة مدللة عندهم على الوقائع؛ أما في الأمور الاجتماعية فأولئك الذين يدعون أن لديهم الحل الوحيد الأكيد للمشكلات الاجتماعية، كثيرًا ما يجعلون من أنفسهم علماء يتسمون بالطابع العلمي الذي يميزهم، وأما سواهم فيتخبطون في فوضى «التجربة»؛ ولا يمكن أن نغير العادات السائدة في تناول المشكلات الاجتماعية، إلا إذا تبينا — في الجانبين النظري والعملي على السواء — أن الغاية المراد بلوغها (أي الغايات التي نضعها نصب أنظارنا) هي من طبيعة الفروض، وأن الفروض يجب أن تكوَّن وتختبر مع مراعاة دقيقة لارتباطها بظروف الوجود الواقعي، باعتبار هذه الظروف هي الوسائل المؤدية إلى تلك الغايات. وهذا الذي قلناه يشير إلى المعنى الصحيح للتقدير القيمي في البحث بصفة عامة، ويبين أيضًا ضرورة الأحكام القيمية في البحث الاجتماعي؛ فحاجتنا إلى تمييز قائم على اختيار بعض العناصر دون بعضها الآخر، من بين مواد الوجود الخارجي أو الوجود الواقعي. لكي نتخذ من تلك العناصر المختارة معطياتنا هي دليل على أن عامل التقدير القيمي قائم فعال؛ وأما الرأي القائل بأن التقدير القيمي معنيٌّ فقط بالغايات، وأنه بحذف الغايات الخلقية من حسابنا — نحذف أيضًا أحكام التقدير القيمي، أقول إن هذا الرأي يرتكز — إذن — على خطأ عميق في فهم طبيعة الشروط المنطقية وطبيعة مكونات البحث العلمي كله؛ فكل بحث قويم وسديد يتطلب منا أن نختار من خضم المواد الكثيرة القائمة في عالم الواقع، والتي هي كذلك قابلة لأن تقع في مجال المشاهدة والتدوين، مواد بعينها، نزنها من حيث هي معطيات، أي من حيث هي «وقائع الحال»؛ وما هذه العملية إلا عملية تقدير وتقويم؛ وأما من الناحية الأخرى، فليس هنالك — كما قد قلنا منذ قليل — تقدير قيمي على الإطلاق إذا ما أخذنا الغايات على أنها أمور قد تحددت مقدمًا؛ فلا غناء لنا منطقيًّا عن فكرة وجود غاية يُراد بلوغها، أي وجود غاية تكون نصب أنظارنا، لا غناء لنا منطقيًّا عن هذه الفكرة في تمييز مادة الوجود الواقعي، من حيث هي وقائع الحال التي نتخذ منها شواهدنا ومحك اختبارنا لما ننتهي إليه؛ فبغير هذه الفكرة لا يكون لمشاهدتنا من هادٍ، وبغيرها يستحيل على الباحث أن يكون على علم بما ينبغي له أن يبحث عنه، بل إنه لا يكون على علم بما هو باحث عنه؛ إذ إن أية «واقعة» تكون عندئذٍ مساوية في قيمتها لأية واقعة أخرى، أي إنها تكون غير صالحة لشيء قط في توجيه البحث، وفي تكوين المشكلة وفضها. وهذا الذي قلناه الآن توًّا له مساس مباشر بزعم آخر ينطوي عليه جزء كبير مما يزعمون له أنه بحث اجتماعي علمي؛ وأعني به الفكرة القائلة إن الوقائع قائمة في العالم الخارجي ولا تحتاج إلا إلى من يشاهدها مشاهدة دقيقة ويجمعها بكمية تكفي لتبرير الأقوال العامة (التي نعمم بها الحكم على تلك الوقائع)؛ مع أن التعميم حين يكون في صورة فرض هو شرط لا بد من توافره مقدمًا لكي نختار على أساسه ثم نرتب المادة باعتبارها وقائع (لها شأن بموضوع البحث)؛ وإذن فالتعميم سابق على مشاهدة الوقائع وتجميعها كما أنه نتيجة لاحقة لمشاهدتها وتجميعها على السواء؛ أو بعبارة أصح، يستحيل على تعميم أن يتولد لنا من حيث هو نتيجة مقبولة، ما لم يكن هناك تعميم على صورة فرض قد سبق له أن وجه العمليات التي فرزنا بها الوقائع لنختار منها ما نختاره، والتي رتبنا بها المادة (ترتيبًا تركيبيًّا) لنكوِّن منها الوقائع التي تصير عناصر مشكلة معينة كما تصير عناصر لحلها؛ ونعود إلى النقطة التي لوحنا بها في موضع سابق: إن ما تفعله البحوث العلمية، متميزًا مما تقوله تلك البحوث هو أنها تُجرى عمليات معينة على سبيل التجارب — وهي عمليات أداء وعمل — من شأنها أن تعدل الظروف الوجودية التي كانت من قبل قائمة حيالنا، بحيث ينتج عن هذا التعديل من الوقائع ما له قيمة ووزن في حل مشكلة بعينها؛ فعمليات التجارب هي حالات لمحاولات عمياء نصيب فيها أحيانًا ونخطئ أحيانًا، ولا تؤدي وهي في أحسن حالاتها إلا إلى أن توحي لنا بفرض نخضعه فيما بعد للاختبار، وذلك فيما عدا الحالات التي تكون فيها تلك العمليات التجريبية نفسها موجهة بفرض لدينا عن حل معين. وهكذا نرى زعم الزاعمين بأن البحث الاجتماعي يصبح علميًّا إذا استخدمت فيه التقنيات الملائمة في المشاهدة والتدوين (والتفضيل هنا للتدوين الإحصائي) (على أن يكون معيار الملاءمة هو أن تكون تلك التقنيات مستعارة من التقنيات المستعملة في العلم الطبيعي)، أقول إن هذا الزعم إنما يفوته أن يراعي الشروط المنطقية التي تخلع — في العلم الطبيعي — على تقنيات المشاهدة والقياس الكمي منزلتها وقوتها؛ وسنوفي الحديث عن هذه النقطة حين نتناول الفكرة السائدة اليوم، والتي مؤداها أن البحث الاجتماعي لا يصير علميًّا إلا إذا تنكرنا تنكرًا تامًّا لكل إشارة إلى الأمور العملية، وجعلنا هذا المبدأ شرطًا لا بد من توافره قبل البدء في البحث الاجتماعي؛ وسنبدأ مناقشة هذه المغالطة (وهي مغالطة من وجهة النظر المنطقية البحتة) من النظر إلى طبيعة مشكلات البحث الاجتماعي. المشكلة بمعناها الصحيح هي تلك التي تقيمها مواقفُ مشكلة في العالم الخارجي الواقع؛ فالمشكلات بمعناها الصحيح في البحث الاجتماعي، لا تنشأ إلا عن مواقف اجتماعية فعلية تكون هي نفسها متضاربة العناصر مختلطتها؛ فحالات التضارب والخلط الاجتماعية تقوم في الواقع قبل أن تقوم مشكلات للبحث؛ فمشكلات البحث هذه هي تصويرات عقلية خلال عملية البحث نصور بها تلك المتاعب والصعاب «العملية» التي سبقت؛ وما ننتهي إليه من قرارات عقلية لا يمكن اختباره وقبوله إلا بأدائنا لفعل ما ينصب على المواقف الوجودية المشكلة التي كانت هي المصدر الذي نشأت عنه قراراتنا العقلية تلك، على أن يكون من جراء الفعل الذي نصبه على الموقف الخارجي المشكل أن يحوله نحو أن يكون موقفًا مرتب العناصر؛ فالعلاقة بين البحث الاجتماعي — من ناحية معطياته الاجتماعية وتعميماته الفكرية — وبين الجانب العملي، هي علاقة نابعة من طبيعة الحالة نفسها وليست هي بالعلاقة الملفقة تلفيقًا؛ فكل مشكلة من مشكلات البحث لا تنشأ عن ظروف اجتماعية حقيقية (أي «عملية») هي مشكلة مصطنعة، إذ تكون مشكلة أثارها الباحث اعتسافًا بدل أن تكون مشكلة أنشأتها ووجهتها عوامل خارجية؛ فلربما التزم الباحث تقنيات المشاهدة كافة المستخدمة في العلوم المتقدمة، بما في ذلك استعمال أفضل الطرق الإحصائية لحساب الأخطاء المحتملة … إلخ، ومع ذلك تظل المادة الحقيقة «ميتة» من الوجهة العلمية، أعني أنها تظل غير ذات صلة بمشكلة حقيقية، حتى لتكاد العناية بها ألا تزيد على كونها صورة من صور التسلية العقلية؛ فالذي نجعله موضوعًا لمشاهداتنا، مهما بلغت دقتنا في مشاهدته، وفي تدوينه، لا يكون قابلًا لأن يصبح أمرًا مفهومًا إلا على أساس ما نعتزم القيام به من ألوان النشاط، نتيجة لما شاهدناه ودوناه؛ وصفوة القول إن المشكلات التي يعنى بها البحث في الموضوعات الاجتماعية — لو أُريدَ لها أن تستوفي شروط المنهج العلمي — فلا بد لها أن: (١) تنشأ عما يقع فعلًا من توترات اجتماعية وحاجات اجتماعية و«متاعب» اجتماعية. (٢) تتحدد مادتها بالظروف التي هي الوسائل المادية المؤدية إلى موقف موحد. (٣) تتعلق بفرض يكون بمثابة خطة وسياسة لحل فعلي نحل به الموقف الاجتماعي ذا العناصر المتضاربة. قد حتمت الضرورة أن يسبق ذكر هذا الموضوع خلال المناقشة السالفة التي بينت أن الوقائع لا تكون وقائع بالمعنى المنطقي لهذه الكلمة إلا بمقدار ما تؤدي إلى تحديد إطار مشكلة معينة تحديدًا يمكن من الوصول إلى حلول مقترحة ثم من اختبارها؛ غير أننا مع ذلك سنتناول نقطتين متضمنتين في هذا القول فنعرضهما عرضًا صريحًا. إنه لما كان تحويل موقف مشكل (أعني موقفًا مضطربًا تتضارب مقوماته بعضها مع بعض) إنما يتحقق بتفاعل عوامل وجودية انتقيناها نحن انتقاءً مقصودًا، كان لا بد للوقائع أن تتحدد على أساس مهمتها ذات الجانبين: مهمتها من حيث هي عوائق، ومهمتها من حيث هي عوامل مساعدة؛ أي إنها تتحدد على أساس عمليات النفي (أو الحذف) والإثبات؛ وما الإثبات إلا تحديد للمواد من ناحية كونها متفقة أو مؤيدة بعضها لبعض اتفاقًا أو تأييدًا إيجابيًّا؛ فيستحيل على موقف قائم في الوجود الخارجي أن يتحور بغير عوامل مضادة معوقة تنحرف بالموقف عن صورته القائمة، وتجعل الموقف المعين مضطرب العناصر متعارضها؛ وها هنا لا يكون لنا غناء عن عمليات الحذف؛ وكذلك يستحيل علينا إقامة موقف موحد في العالم الخارجي، إلا إذا أطلقنا ورتبنا العوامل الإيجابية القائمة في الظروف الراهنة. بحيث تسير نحو النتيجة الموضوعية المنشودة؛ وإلا لكانت الغايات المقصودة أحلامًا و«مثلًا عليا» بالمعنى العاطفي لهذه الكلمة الأخيرة. إن التفكير الاجتماعي الواقعي هو على وجه الدقة طريقة المشاهدة التي تميز الظروف المعاكسة والظروف المساعدة في موقف قائم؛ وإنما نفهم «المعاكسة» و«المساعدة» بالقياس إلى الغاية المقترحة؛ فليس معنى «الواقعية» إدراكًا للموقف القائم في جملته؛ بل معناها تمييز في اختيار ما نختاره من الظروف من حيث هي معاكسة أو مساعدة، أعني من حيث هي سالبة أو موجبة؛ فحين يُقال: «إنه ينبغي لنا أن نأخذ الظروف كما هي» فإن هذا القول إما أن يكون بداهة منطقية «تخلو من المضمون»، أو أن يكون مغالطة، وفي هذه الحالة تفعل فعلها فينا إذ تكون لنا ذريعة للامتناع عن العمل؛ فالقول بداهة منطقية إذا فهم على أن يكون معناه هو أن الظروف القائمة هي المادة — التي لا مادة سواها — التي نتناولها بالمشاهدة التحليلية؛ أما إذا فهمناه على أنه قول يعني أن «الظروف كما هي» نهائية بالنسبة إلى الحكم الذي نقرر به ما يمكن فعله أو ما ينبغي فعله، نتج عن فهمنا هذا إنكار تام لأي توجيه سديد يمكن أن توجهنا به المشاهدة والفعل؛ وذلك لأن ظروف الموقف حين يكون موقفًا مثيرًا للشك وغير مرغوب فيه، يستحيل أن تكون كلها سواءً — وإلا لما كان فيه تضارب أو اضطراب — فضلًا عن أنها يستحيل أن تكون من الثبات بحيث يتعذر إحداث تغيير فيها؛ فحقيقة ما يحدث في الواقع، هي أن تلك الظروف نفسها ما تنفك متغيرة في اتجاه ما، حتى لتصبح مشكلتنا هي أن نخلق طرائق للتفاعل بينها، من شأنها أن تميل بتلك التغيرات في الاتجاه المؤدي إلى النتيجة الموضوعية المقترحة. إن كون الظروف لا تثبت ثباتًا كاملًا أبدًا، معناه أنها في حالة من السير، أي إنها — على كل حال — تتحرك نحو أن تخلق وضعًا من الأوضاع سيكون مختلفًا عن الوضع الراهن على وجه ما؛ فالغرض من عمليات المشاهدة التي نفرق بها بين العوامل المعاكسة والمساعدات الإيجابية، هو على وجه الدقة أن تدلنا على أوجه النشاط التي نتدخل بها في مجرى الأمور تدخلًا يخلع على حركتها صورة مختلفة (وبالتالي نغير من نتيجتها) عن صورتها التي كانت لتتخذها لو أنها تركت وشأنها، أعني أن نجعلها تسير نحو موقف وجودي موحد مقترح. لقد ذكرنا لتونا أن الظواهر الاجتماعية تاريخية؛ أي إنها في طبيعتها تتابعات زمنية فريدة؛ وإنه لمن تحصيل الحاصل أن نقيم الحجة على صحة هذا الزعم، لو أننا فهمنا «التاريخ» على أنه يشمل الحاضر؛ فما من أحد يطوف بباله قط أن يجادل في أن الظواهر الاجتماعية التي تؤلف نشأة البابوية، والثورة الصناعية، وقيام القومية الثقافية والسياسية، هي من الأمور التاريخية؛ وليس في مستطاع أحد أن ينكر بأن ما هو حادث الآن في بلاد العالم، سواء أكان ذلك في نظمها الداخلية أم في علاقاتها الخارجية، سيكون مادة التاريخ في المستقبل؛ فمن السخف أن نزعم بأن التاريخ يشمل الحوادث التي وقعت حتى أمس، لكنه لا يشتمل على الحوادث التي تقع اليوم؛ فكما أنه لا وجود لفجوات زمنية في تتابع تحددت حلقاته تاريخيًّا، فكذلك لا وجود لفجوات زمنية في الظواهر الاجتماعية التي يحددها البحث؛ إذ إن الظواهر الاجتماعية هي التي تكون مجرى الحوادث المتغير؛ ولهذا فعلى الرغم من أن مشاهدة المواد وتجميعها، معزولة عن حركتها في تتابع الحوادث، قد يتمخض لنا عن «وقائع» من نوع ما، إلا أن هذه الوقائع لن تكون كذلك بأي معنًى اجتماعي لهذه الكلمة، لأنها لن تكون عندئذٍ وقائع تاريخية. وهذه النقطة تؤيد النتيجة التي كنا قد انتهينا إليها، وهي: أن البحث في الظواهر الاجتماعية يتضمن أحكامًا تقويمية؛ لأنها أحكام لا يمكن فهمها إلا على أساس كونها نهايات لسير الحوادث ويمكن لتلك الحوادث أن تنحو نحو تحقيقها؛ ولهذا كان لتلك الأحكام من التأويلات — من الناحية المجردة — بقدر ما هنالك من صنوف النتائج الممكنة بالنسبة إلى اتجاه الحوادث؛ ولا يستتبع هذا القول أن ننقل الغائية إلى الظواهر الاجتماعية، بعد أن ذهب زمانها بالنسبة إلى الظواهر الطبيعية؛ أي إنه لا يستتبع أن تكون ثمة غاية معينة تسيطر على الحوادث الاجتماعية، أو أن هذه الحوادث الاجتماعية تنحو في سيرها نحو هدف محتوم عليها قبل وقوعها؛ بل معنى هذا القول هو أن أي موقف مشكل، إذا ما حللناه، يعرض أمامنا — فيما يمس فكرة العمليات الإجرائية الواجب أداؤها — عدة غايات ممكنة، بالمعنى الذي تكون به الغايات هي النتائج التي ينتهي عندها البحث؛ بل إن ما يشاهده الباحث في العلوم الطبيعية نفسها، وما يأخذ به من أفكار، إنما يسيره الغرض الموضوعي المقصود، وذلك هو بلوغ موقف حُلَّ إشكاله؛ فليس الفرق بين البحث الطبيعي والبحث الاجتماعي كائنًا في وجود أو غياب هدف يضعه الباحث نصب عينه، ويصوغه على أساس النتائج الممكنة؛ بل الفرق بينهما هو في المادة التي تكون في كل من الحالتين قوام الغرض المقصود؛ وهو فرق ذو تأثير عملي جسيم في خطة السير بالبحث لأنه فرق في نوع العمليات الإجرائية التي ينبغي أداؤها لإقامة المواد التي بتفاعلها بعضها مع بعض ينحل الموقف؛ في حالة البحث الاجتماعي نرى أوجه النشاط الاجتماعي داخلة دخولًا مباشرًا في العمليات الإجرائية التي تؤدى، وهي تدخل في فكرتنا عن أي حل يُقترح لحل الإشكال القائم؛ وإنها لجسيمة تلك الصعاب العملية التي تعترض سبيلنا إلى تحقيق صنوف من الاتفاق بين الناس في اجتماعهم الفعلي الذي لا مندوحة لهم عنه لأداء نوع النشاط المطلوب؛ فالباحث في الأمور الطبيعية يستطيع أن يصل إلى نتيجته في معمله أو في مرصده؛ غير أن انتفاعه بنتائج الآخرين أمر لا محيص له عنه، وكذلك لا بد للآخرين من القدرة على الوصول إلى نتائج شبيهة بنتائجه، باستخدامهم لمواد ومناهج شبيهة بما استخدمه الباحث المفرد، وهكذا يكون نشاطه مشروطًا بعوامل اجتماعية في بدايته وفي نهايته؛ لكن هذه العوامل الاجتماعية الشارطة في البحث الطبيعي غير مباشرة نسبيًّا، على حين أنها متضمنة تضمنًا مباشرًا في حل المشكلات الاجتماعية؛ فيتحتم على أي فرض نظري متصل بغاية اجتماعية أن يشمل بين مقوماته نفسها فكرة اجتماع منظم ينعقد بين أولئك الذين يُنتظر لهم أن يقوموا على تنفيذ العمليات الإجرائية التي يصوغها ذلك الفرض ويوجهها. فلا مندوحة لنا عن أحكام تقويمية، وهي أحكام نصف بها الوسائل المستخدمة، المادي منها والإجرائي على السواء، بأنها أحسن أو أردأ؛ وأما مساوئ أحكامنا الاجتماعية كما في قائمة اليوم حين نصبها على ما نستهدفه من غايات وما نتبعه من خطط، فمنشؤها — كما سبق أن ذكرنا — أننا نقحم على البحث الاجتماعي أحكامًا قيمية من خارج نطاق البحث نفسه؛ أي إن تلك المساوئ تنشأ عن كون القيم المستخدمة لا تتقرر في عملية البحث نفسها وبما تقضي به تلك العملية وذلك لأنهم يزعمون أن ثمة غايات معينة لها قيمة بحكم طبيعتها نفسها، وأن قيمتها تلك مما لا يجوز فيه الجدل، حتى ليصح أن تتخذ معيارًا للوسائل المستخدمة من حيث طريقة سيرها وصوابها؛ وذلك بدل أن يجعلوا الغايات هي التي تتقرر على أساس الظروف القائمة، من حيث هي عوامل معاكسة أو مساعدة؛ فلكي يستوفي البحث الاجتماعي شروط المنهج العلمي، لا بد أن يقرر أولًا أن نتائج موضوعية معينة هي الغاية التي تستحق أن نبلغها في الظروف القائمة فعلًا؛ لكني أعود فأكرر أن هذا القول لا يعني ما يظن عادة أنه يعينه، وهو: أن الغايات والقيم يمكن افتراضها خارج نطاق البحث العلمي، بحيث يجيء البحث العلمي فيحصر نفسه في تحديد الوسائل التي يرى أنها هي أفضل الوسائل للوصول إلى نهاية تتحقق بها تلك القيم؛ فالأمر على خلاف ذلك؛ إذ إن معنى العبارة المذكورة هو أن الغايات — من حيث هي أساس للقيم — لا يمكن تحديدها تحديدًا سليمًا إلا على أساس ما هو قائم فعلًا من توترات وعقبات وإمكانات إيجابية؛ والمشاهدة الموجهة هي التي تدلنا على قيام هذه الأمور في الموقف الفعلي. قد اضطررنا أن نمس هذا الموضوع في مناقشتنا للنقطة الأولى الخاصة بطبيعة المشكلات؛ وكذلك تناولناه في القسم السابق الخاص «بالكشف عن الوقائع» كشفًا يسير في طريقه بمعزل عن تصورات الإنسان بالنسبة إلى الغاية المراد بلوغها؛ إذ أشرنا عندئذٍ إلى أن هذه التصورات — بينما تدعو بها الحاجة إلى أن تختبر وأن تراجع على محك الوقائع المشاهدة — إلا أنها بدورها أمر لا غناء عنه لنوجه بها اختيارنا للوقائع ثم ترتيبها وتفسيرها؛ ولهذا فسنقصر النظر في تناولنا لموضوع هذا القسم — في معظمه — على إبراز الغلطة المنطقية التي تقع فيها المناهج التي تنظر إلى المادة الفكرية كما لو كانت تتألف من حقائق أو مبادئ أو معايير أولى لا سبيل إلى تغييرها، تحكم بنفسها على صدق نفسها، وكما هي الحال في معظم الحالات التي تتعارض فيها وجهات النظر التي تنظر إلى الأمور من جانب واحد، ترى عيوب المدرسة التي تتخذ الواقع مدارها، وهي التي يسمونها بالمدرسة «الوضعية»، وعيوب المدرسة التي تجعل الأفكار العقلية مدارها، ترى هذه العيوب تهيئ الحجج التي تقدمها كل من المدرستين تيسيرًا وتأييدًا لآراء المدرسة الأخرى؛ فلا يستطيع قائل أن يقول إن المدرسة الفكرية أو «العقلية» لا تأبه إطلاقًا بحقائق الواقع؛ لكن الذي في وسعنا أن نقرره هو أنها تضع كل اهتمامها على الأفكار العقلية، حتى لتجيء الوقائع فتندرج مباشرة تحت «المبادئ»؛ إذ تنظر هذه المدرسة إلى المبادئ على أنها معايير ثابتة تقرر إن كانت الظواهر القائمة مشروعة أو غير مشروعة، كما تقرر مقدمًا أي الغايات التي ينبغي أن نوجه مجهودنا نحو تحقيقها. ولا سبيل إلى الشك في أن التاريخ الماضي للتفكير الاجتماعي قد سيطرت عليه — على نحو ما — الطريقة العقلية في تناول الموضوع؛ فقد قام أول ما قام (وسنكتفي هنا بذكر بعض الجوانب البارزة فحسب) — في النظرية الكلاسية عن الأخلاق والسياسة — فكرة الغايات التي هي غايات في ذاتها، والتي هي ثابتة في «الطبيعة» وبحكم تلك «الطبيعة» (ومن ثَم فهي غايات كائنة بالفعل في الحقيقة الكونية وبمقتضى النواميس الكونية)؛ ثم قام — ثانيًا — مذهب «القوانين الطبيعية» الذي كان ينطوي على فرض هو أن أنواعًا متباينة من الصور قد تعاقبت مع تعاقب العصور؛ ثم قامت — ثالثًا — نظرية تقول بأن الإنسان يدرك بحدسه حقائق ضرورية قبلية؛ وأخيرًا قام — كما هي الحال في الفكر المعاصر — مذهب يأخذ بوجود سلم متدرج من القيم الثابتة يستمد صفته المتدرجة من طبيعته الداخلية نفسها؛ ولسنا نعتزم أن نجعل مهمتنا في هذا الكتاب تتناول فيما تتناوله تمحيص هذه الألوان التاريخية المختلفة التي ظهرت بها الفكرة التي توحد بين الغايات من حيث إنها تحتل مكانًا في الحقيقة الموضوعية، وبين قيام مادة عقلية أولية (يدركها الإنسان بغير الاستعانة بتجاربه)؛ وسنسوق مثلًا موضحًا، وهو مثل ينصب على المنطق المتضمن في هذا كله، وإن لم يكن مثلًا ينصب على المادة التي يطبق عليها ذلك المنطق. كان الاقتصاد السياسي الكلاسي يدعى — من حيث صورته المنطقية — أنه علم، وذلك، أولًا، على أساس حقائق أولى معينة ينتمي إليها التحليل، وثانيًا، على أساس إمكان الوصول عن طريق «الاستنباط» الصارم من تلك الحقائق إلى الظواهر الاقتصادية كما تقع فعلًا؛ فلزم عن هاتين «المقدمتين»، ثالثًا، أن تكون تلك الحقائق الأولى قد أمدتنا بمعايير النشاط العملي في مجال الظواهر الاقتصادية؛ أي إن الإجراءات الفعلية التي نجريها تكون صوابًا أو خطأً، والظواهر الاقتصادية الفعلية تكون سوية أو شاذة بمقدار تطابقها مع النتائج الاستنباطية التي ننتزعها من مجموعة الأفكار العقلية التي منها تتألف المقدمات؛ ولقد اختلف أعضاء هذه المدرسة — بالطبع — من «آدم سمث» إلى آل «مل» وأتباعهم المعاصرين لهم، اختلفوا عن المدرسة «العقلية» التقليدية، وذلك لأنهم ذهبوا إلى أن المبادئ الأولى نفسها مستمدة بطريقة استقرائية، وليست هي بالمبادئ التي تقوم على أساس الحدس القبلي؛ لكننا لا نكاد نصل إلى تلك المبادئ، حتى نعدها — في رأيهم — حقائق لا تحتمل الجدل، أو نعدها بديهيات بالقياس إلى غيرها من الحقائق الأخرى كائنة ما كانت؛ إذ إن هذه الحقائق الأخرى ستكون مشتقة منها بالطريقة الاستنباطية؛ وقد حسبوا أن قوام المضمون الحقيقي لتلك المقدمات الثابتة؛ هو حقائق معينة عن الطبيعة البشرية، كالرغبة العامة التي يحسها كل فرد من الناس في تحسين حالته والرغبة عند كل فرد بأن يحقق لنفسه هذا التحسين بأقل جهد (إذ إن الجهد له تكاليفه من الألم الذي لا بد من تقليله إلى الحد الأدنى)، وكالحافز الذي يحفز الناس إلى أن يتبادلوا السلع والخدمات تبادلًا يحقق لهم الحد الأقصى من إشباع الحاجات بالحد الأدنى من التكاليف، وما إلى ذلك. وليس يعنينا مضمون هذه المقدمات أصحيح أم غير صحيح؛ بل إن المشكلة التي نحن الآن بصددها هي مشكلة خاصة بفحوى منطق المنهج المتبع في هذه الحالة؛ فصفوة النتيجة التي تترتب على طريقة علم الاقتصاد الكلاسي، هي أنه قد جاء مؤيدًا للفكرة التي كانت سائدة من قبل عن «القوانين الطبيعية». وإنما استند هذا التأييد على تفسير تلك القوانين الطبيعية تفسيرًا جديدًا؛ وذلك لأن (علم الاقتصاد) كان قد انتهى إلى نتيجة هي أن «قوانين» النشاط البشري في المجال الاقتصادي، وهي القوانين التي يمكن من الوجهة النظرية استنباطها، هي معايير النشاط البشري السليم أو الصحيح في ذلك المجال؛ وكان مفروضًا في القوانين أنها «تحكم» الظواهر، بالمعنى الذي يجعل الظواهر كافة التي لا تساير تلك القوانين، ظواهر شاذة أو «غير طبيعية»، أي إنها ظواهر بمثابة المحاولات الخبيثة التي تسعى إلى تعطيل القوانين الطبيعية عن عملها، أو تسعى إلى الإفلات من النتائج المحتومة لتلك القوانين؛ ولهذا كانت كل محاولة لتنظيم الظواهر الاقتصادية بفرض الرقابة على الأحوال الاجتماعية التي في ظلها يحدث إنتاج السلع وتوزيعها، تعد كسرًا للقوانين الطبيعية، أو «تدخلًا» في المجرى السوي للأمور، حتى ليتحتم على النتائج الناجمة عن ذلك أن تكون مفجعة، شأنها في ذلك شأن نتائج المحاولة التي نحاول بها أن نعطل أو أن نتدخل في عمل أي قانون طبيعي، كقانون الجاذبية مثلًا. وتقتصر مناقشتنا لهذه الوجهة من النظر عن المنطق الذي تنطوي عليه، لا على أنها وجهة قد أدت عمليًّا إلى نظام «الفردية» القائمة على أساس التجارة الحرة، كما أدت إلى إنكار الصواب في أية محاولة يُراد بها الرقابة الاجتماعية على الظواهر الاجتماعية؛ فمن ناحية المنهج المنطقي لم تكن تعد المدركات العقلية المتضمنة فروضًا يُراد استخدامها في توجيه المشاهدة وفي ترتيب الظواهر، إذن فهي مدركات يختبر صدقها بالنتائج الناجمة عن تصرفنا على أساسها؛ بل كانت تلك المدركات تعد حقائق عقلية تقرر صدقها بالفعل، ولهذا فهي ليست موضعًا للشك؛ أضف إلى ذلك أنه من الواضح أن تلك المدركات لم تكن تُصاغ على أساس ما هو قائم فعلًا من حاجات وتوترات في زمن معين ومكان معين، أو تُصاغ لتكون طرائق تلتمس في حل ما هو قائم فعلًا من العلل في تلك اللحظة المعينة من الزمن وفي تلك النقطة المعينة من المكان، بل كانت تُصاغ على أنها مبادئ كلية مجردة قابلة للتطبيق في كل مكان وفي أي مكان؛ نعم في مستطاعنا أن نجد الجوانب المؤيدة لوجهة النظر التي تقول إن تلك المدركات العقلية لو كانت قد صِيغت وفُسرت على أساس قابليتها للتطبيق في ظروف قامت بالفعل في ظل عوامل معينة ذات مكان وزمان معلومين، كأن تكون قد قامت — مثلًا — في النصف الأول من القرن التاسع عشر في بريطانيا العظمى، فقد كانت — إلى حد كبير — بمثابة الفروض التي توجه إجراءاتنا العملية فيما يمس تلك الظروف التاريخية؛ إلا أن المنهج الذي كان متبعًا كان يحرم أي تأويل لتلك المدركات على أساس مكان وزمان معينين. صفة المدركات النظرية من حيث هي فروض. أن لهذه الفروض مهمة توجيهية في رسم طريق المشاهدة، وفي التحويل العملي الذي نحول به آخر الأمر ما قد كان قائمًا أول الأمر من ظواهر. أن تلك الفروض إنما تختبر وتراجع مراجعة متصلة على أساس النتائج التي تتمخض عنها تلك الفروض عند تطبيقها على الوجود الفعلي. ونستطيع أن نسوق مثلًا توضيحيًّا آخر لمقتضيات الطريقة المنطقية، نجده في النظريات الأخرى السائدة اليوم عن الظواهر الاجتماعية، كالمشكلة التي يزعمونها عن تعارض «الفردية» مع «الجماعة» أو «الاشتراكية»، أو كالنظرية التي تقول إن الظواهر الاجتماعية كافة لا بد أن ينظر إليها على ضوء التنازع الطبقي بين البورجوازية وطبقة الأجراء، فمن ناحية المنهج، أمثال هذه التعميمات النظرية — ولا عبرة هنا بماذا تكون المدركات العقلية التي نأخذ بها دون ما يقابلها — هي التي تقضي مقدمًا بالسمات المميزة وبالأنواع التي نجدها في الظواهر الحقيقية التي يُراد لنا أن نعالجها بما قد رسمناه لأنفسنا من خطط؛ ولهذا فنحن منذ البداية نغضي عن العمل الذي تقوم به المشاهدات التحليلية التي من شأنها أن ترد الظواهر الحقيقية إلى مشكلات متعينة الحدود يمكن معالجتها بعمليات خاصة محددة، إذ إن هذا الإغضاء محتوم بطبيعة موقفنا الذي نقضي به مقدمًا كيف نتجه بمشاهداتنا حسب أفكارنا السابقة؛ وذلك لأن «التعميمات» (التي من القبيل المذكور) هي من النوع الذي يجعل «الحقائق العقلية» جامعة أو مانعة؛ فهي كسائر ما يماثلها من الحقائق الكلية التي تعمم بغض النظر عما قد يكون هنالك من استثناءات، لا تقيم الحدود التي تحدد ميدان البحث تحديدًا يبلور المشكلات التي يمكن تناولها واحدة فواحدة؛ بل تراها من النوع الذي يحتم — من الناحية النظرية — أن تكون نظرية واحدة هي المقبولة، وأن يرفض كل ما عداها رفضًا شاملًا. ومن أبسط الوسائل التي تمكننا من إدراك الفرق المنطقي بين البحث الاجتماعي المرتكز على مبادئ عقلية ثابتة، وبين البحث الفيزيائي، أن نلاحظ بأن ما هو قائم من الخلافات النظرية — في البحث الفيزيائي — إنما ينصب على الكفاية العملية لتصوراتنا المختلفة عن المنهج، بينما الخلافات النظرية القائمة في البحث الاجتماعي تدور حول ما يزعمه كل فريق من حق أو من بطلان للمدركات العقلية بحكم طبيعتها نفسها؛ ومثل هذه الوقفة من شأنها أن تولد نزاعًا في الرأي، وصدامًا في الفعل، بدل أن تعين البحوث بأن تحيلها إلى وقائع ممكنة المشاهدة والتحقيق، وإذا نظرت إلى أولى المراحل التي اجتازتها مجموعة الحقائق والأفكار التي بين أيدينا اليوم، والتي منها تتألف علوم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والطب وجدت الخلاف حول هذه العلوم في فترة من الزمن غابرة، إنما كان خلافًا يدور أساسًا حول ما يصفون به مدركات عقلية معينة بالحق أو بالبطلان بحكم طبيعة تلك المدركات نفسها؛ أما وقد تقدمت هذه العلوم في خاصتها العلمية الحقيقية، فقد انصب الشك والبحث على الكفاية العملية التي تكون لمناهج البحث المختلفة؛ فنتج عن ذلك أن زالت الحالة التي كانت البدائل الجامدة تعرض فيها ليتحتم علينا أن نقبل أحدها ونرفض بقيتها، وحلت محلها حالة نرحب فيها بتعدد الفروض ترحيبًا مقصودًا؛ وذلك لأن تعدد البدائل الممكنة هو الوسيلة الفعالة التي نجعل بها البحث أوسع نطاقًا (أي نجعله أوفى) وأكثر مرونة وأكثر قابلية للاعتراف بشتى الوقائع التي تنكشف لنا. وصفوة القول أنه لا مندوحة لنا عن الإجراءات التي نجريها لنكشف بها عن حقائق الواقع، وذلك: لتحديد المشكلات. لتزويدنا بالمعطيات التي نهتدي بها إلى الفروض والتي نختبر بها تلك الفروض، هذا إلى أنه لا مندوحة لنا كذلك عن البناءات والأطر الفكرية لنهتدي بها في توجيه المشاهدة توجيهًا نميز به المعطيات ونرتبها؛ وهكذا نستطيع أن نقيس الحالة المتأخرة التي نرى البحث الاجتماعي فيها، بمقدار ما نجده من قيام هاتين العمليتين؛ عملية الكشف عن حقائق الواقع وعملية إقامة غايات نظرية، أقول إننا نقيس تأخر البحث الاجتماعي بمقدار ما بين هاتين العمليتين من انفصال في السير إحداهما عن الأخرى انفصالًا ينتهي بنا إلى اعتبار كل من قضايا الواقع من جهة، والبناءات الفكرية أو النظرية من جهة أخرى، شيئًا نهائيًّا وكاملًا في ذاته، على اختلاف المدارس في أيهما يكون هو النهائي والكامل؛ ونريد أن نضيف بعض الملاحظات فيما يختص بالإطار الفكري. إننا لنميل إلى الظن بأن مدركاتنا العقلية التي توجهنا (في عملية المشاهدة) أمر مفروغ منه، وذلك بمجرد أن تصبح تلك المدركات جارية الاستعمال عند الجميع؛ ونتيجة هذا الظن هي إما أن تظل تلك المدركات مضمرة، أي أنها تظل غير معبر عنها، وإما أن نعبر عنها في قضايا، لكننا نصوغ تلك القضايا على صورة سكونية بدل أن نصوغها على صورة أدائية؛ وتقصيرنا دون تمحيص البناءات والأطر الفكرية التي تنطوي عليها — على غير وعي منا — الأبحاث الواقعية كلها، حتى ما يبدو منها أنه أكثر سذاجة، أقول إن تقصيرنا ذاك هو أكبر عيب — إذا أخذت العيوب واحدًا فواحدًا — نصادفه في أي مجال من مجالات البحث؛ وحتى في الموضوعات الفيزيائية نفسها، لا يلبث إطار فكري معين أن يصبح أمرًا مألوفًا، حتى تراه قد اتجه نحو أن يكون آخر الأمر عقبة تعوق السير بالنسبة إلى الاتجاهات الجديدة في البحث؛ والخطر يكون أشد حدة وأفجع كارثة في البيولوجيا وفي الدراسات الاجتماعية كالقانون والسياسية والاقتصاد والأخلاق؛ فقصورنا دون تشجيع الخصوبة والمرونة في تكوين الفروض — باعتبارها أطرًا فكرية يرجع إليها — هو أقرب الأشياء إلى أن يكون إنذارًا بالموت لعلم من العلوم. وبالنسبة إلى مادة الدراسة الاجتماعية بصفة خاصة، يكون تقصيرنا في ترجمة المدركات العقلية ذات الأثر إلى قضايا نصوغها فيها، ضارًا بشكل ملحوظ؛ لأن صياغة المدركات صياغة صريحة هي وحدها التي تحفزنا إلى تمحيص معانيها تمحيصًا على أساس العواقب التي تؤدي إليها تلك المدركات؛ وهذه الصياغة الصريحة هي وحدها كذلك التي تفيدنا في موازنة الفروض المختلة موازنة نقدية؛ وبغير صياغة الأفكار الرئيسية صياغة نسقية يظل البحث عند مرحلة الرأي، ويظل الفعل موضعًا للتنازع؛ لأننا إذا لم نضع أفكارنا في قضايا صريحة ومكشوفة، نسوق بها ما استطعنا أن نسوقه من مختلف الفروض النظرية، فإنه لا يبقى أمامنا في النهاية — من الناحية المنطقية — إلا أن نقيم أفكارنا الرئيسية إما على أساس العادة والتقليد، أو على أساس المصلحة الخاصة؛ وتكون نتيجة ذلك انشعاب المجال الاجتماعي إلى شعبتين: محافظين وتقدميين؛ «رجعيين» و«ثائرين» … إلخ. ومن بين العقبات العملية الرئيسية التي تعوق البحث الاجتماعي، هذا الذي نراه قائمًا من تقسيم للظواهر الاجتماعية إلى مجالات منفصل بعضها عن بعض، ومستقل بعضها عن بعض كما يزعمون؛ بحيث لا يتفاعل بعضها مع بعض؛ كما في الحال بالنسبة إلى العلوم الاجتماعية المختلفة، كالاقتصاد والسياسة والتشريع والأخلاق وعلم الأجناس البشرية وغيرها؛ وليس من مهمة نظرية منطقية عامة أن تذكر الطرق والوسائل الخاصة التي يمكن بها أن نزيل الحواجز القائمة بين تلك العلوم؛ فتلك مهمة البحوث التي تجرى في مجالاتها المختلفة؛ إلا أن استعراضًا — من وجهة النظر المنطقية — للكيفية التي تطورت بها الدراسات الاجتماعية على مر العصور التاريخية، يفيدنا إذ يكشف لنا عن الأسباب التي عملت على تفتيت الظواهر الاجتماعية إلى عدد من الحظائر المغلقة نسبيًّا بعضها دون بعض، وما أدى إليه هذا التقسيم من آثار ضارة؛ فيحق لنا أن نقول بأن الحاجة ماسة لإزالة هذه الحواجز الفكرية، لكي يتسنى لنا أن تزيد من إخصاب الأفكار بعضها لبعض، وأن نوسع من نطاق الفروض وتنوعها ومرونتها. هو بمثابة اختيارنا لإحدى الأفكار النظرية دون سائرها، وهي كلها خطط ممكنة للعمل على مقتضاها. ويعقب تنفيذه عواقب — إذا لم تكن في قابليتها للتمايز المحدد المعالم، أو التمايز الذي يعزل المختلفات بعضها عن بعض، مساوية لنظائرها في التجارب الفيزيائية — فهي عواقب تراعى مع ذلك في حدود معلومة، لكي تتخذ محكات تقاس بها سلامة الفكرة العقلية التي تصرفنا على أساسها؛ فالفكرة القائلة بأنه ما دامت الظواهر الاجتماعية لا تسمح لنا بإحداث التغيير الموجه في مجموعات الظروف بسلسلة من الإجراءات العملية التي نجريها واحدة في إثر واحدة إذن فلا مجال على الإطلاق لتطبيق المنهج التجريبي على تلك الظواهر، أقول إن هذه الفكرة إنما تحول دون أن ننتفع بالمنهج التجريبي إلى الحد الذي يمكننا أن نبلغه في الانتفاع به؛ فافرض مثلًا أن المسألة المطروحة خاصة برسم خطة تشريعية معينة؛ فاعترافنا بأنها ذات طبيعة تجريبية، يقتضينا — من ناحية مضموناتها — أن نجعل تلك المضمونات محددة بقدر المستطاع، وذلك على أساس ما نبسطه من مختلف الاحتمالات التي ننتهي إليها بعد تفكير طويل، أعني أن نبسط تلك الاحتمالات المختلفة في قائمة من قضايا نقول بها إما كذا أو كذا أو … حتى نستوعب الاحتمالات كافة؛ أريد أن أقول إن قصورنا عن الاعتراف بهذا الجانب التجريبي من المسألة، يشجعنا على تناول أية خطة من الخطط وكأنما هي إجراء مستقل بذاته منفصل عما عداه؛ وهذا العزل النسبي من شأنه أن يؤدي إلى تكوين خططنا على صورة مرتجلة نسبيًّا، نتأثر فيها بالعوامل والضغوط المباشرة، أكثر مما نتأثر باستعراض وافٍ للظروف والنتائج في جملتها؛ ومن ناحية أخرى، فإغفالنا للجانب التجريبي من الخطاط التي نقوم بتنفيذها، يشجع التهاون وعدم التمسك بالمشاهدة التي نفحص بها النتائج التي نجمت عن تنفيذها فحصًا يميز بين دقائقها؛ وعندئذٍ ترانا نقول عنها إجمالًا إنها خطط ناجحة أو غير ناجحة، ثم ننتقل إلى خطة جديدة نرتجلها؛ فالتقصير في مشاهدة الظروف المحيطة مشاهدة دقيقة متصلة تختار هذا وتترك ذاك، يزيد من مدى الغموض في تكوين الخطط، ثم يعود هذا الغموض بدوره فيحول دون الدقة في المشاهدات المطلوبة لاختبار تلك الخطة ومراجعتها. ولنا — أخيرًا — أن نذكر أن الحالة الراهنة للبحث الاجتماعي تقدم لنا اختبارًا نختبر به كفاية النظرية المنطقية العامة، وتزودنا في هذا الصدد بما يؤيد صدق النظرية العامة التي قد بسطناها؛ غير أننا إذا أردنا أن نستعرض — بالتفصيل — قيمتها من حيث هي محك لصدق النظريات المنطقية التي أخذنا بها فيما يتصل بالوقائع من جهة وبالمدركات العقلية من جهة أخرى، وعلاقة إحداهما بالأخرى، كان معنى ذلك أن نعيد كل ما قلناه فيما سبق، لكننا نستطيع أن نضيف هنا كلمة عن قيمتها من حيث هي اختبار نختبر به النظريات المنطقية الصورية؛ فالمنطق الذي يعنى بالصور وهي بمعزل عن المادة، يحصر نفسه في — البحث الاجتماعي — في المهمة التي تؤديها الصور في الكشف عن مواضع المغالطات الصورية التي تقع خلال التفكير النظري الاستنباطي، وفي التحذير — بصفة خاصة — من خلط الكلمات ذات الأثر العملي العاطفي المباشر (وهي ما يسمونه «بالجمل التعبيرية») والكلمات ذات المعنى الموضوعي نعم إن تطهير التفكير الاستدلالي على هذا النحو من المغالطات الصورية خدمة قيمة؛ غير أن هذا الكشف عن المغالطات يوشك ألا يكون بحاجة إلى إطار صوري تفصيلي؛ إذ إن المغالطات الهامة في المغالطات التي تقع في المضمون المادي، وهذه الأخيرة تنشأ من نقص في الطرائق السديدة للمشاهدة من جهة، ومن نقص في الطرائق التي نصطنعها في تكوين الفروض واختبارها من جهة أخرى؛ لكن المنطق الصوري — بالضرورة — لا يقول شيئًا عن هذه الأمور المتعلقة بالجانب المادي؛ وأصحابه يدافعون عن سكوته هذا أحيانًا، على أساس أن القضايا الخاصة بالأمور الاجتماعية، وبما ينبغي عمله بالنسبة إلى تلك القضايا تقتضي تقويمات (وهو صحيح) ثم يقولون إن القضايا التي تُقال عن القيم هي أشباه قضايا، تقتصر على أن تعبر عن قرارات يتخذها الإنسان للتصرف بطرائق معينة؛ ولسنا ننكر أن عنصر القرار العملي قائم؛ بل إن هذا العنصر قائم أيضًا في كل فكرة نتصورها عن كيفية الإجراء العملي الذي نؤديه في العلم الفيزيائي؛ لكن النقطة الهامة هي أن المنطق الصوري لا يزودنا بالأساس الذي يمكن لنا به أن نختار خطة عملية دون أخرى، ولا بالأساس الذي نستطيع به أن نتعقب نتائج خطة معينة إذا ما أجريناها عمليًّا، لتكون تلك النتائج اختبارًا لصدقها؛ والنتيجة النهائية لهذا كله هي أن نقذف بنفس المجال الذي يكون الضابط العقلي فيه أقصى ما يكون أهمية، نقذف بهذا المجال بأسره خارج حظيرة المنهج العلمي، وهنالك من ينظر إلى هذه النتيجة على أنها تناقض نشأ عن أخذنا بالنظرية التي نحن الآن بصددها؛ وعلى كل حال فالأرجح جدًّا أن يخلق موقف الصوريين رد فعل من شأنه أن يساعد على تقوية النظرية القائلة بوجود نظم للقيم ثابتة أولية، تعرف عن طريق الحارس العقلي المباشر؛ وذلك لأن أي إنكار لإمكان تطبيق المنهج العلمي، من شأنه حتمًا أن يحثنا على اللجوء — في أمر له هذه الأهمية كلها — إلى استخدام الطرائق اللاعلمية بل إلى استخدام الطرائق المعادية للعلم. وأختم مناقشتي لموضوع منطق البحث الاجتماعي، بالإشارة مرة أخرى إلى النقطة التي هي نقطة رئيسية في المناقشة السالفة، وأعني بها استناد ذلك المنطق إلى الجانب العملي استنادًا نابعًا من طبيعته نفسها، ولقد بينا أن هذا الاستناد إلى الجانب العملي متضمن في تحديدنا للمشكلات الحقيقية، وفي تمييزنا للوقائع من حيث هي شواهد، ثم تقدير قيمتها وترتيبها، وفي تكويننا للفروض التي نأخذ بها ثم اختبارها؛ وأضيف هنا كلمات قليلة عن الموضوع الخاص بفهم الوقائع؛ فالفهم أو التفسير هو عبارة عن ترتيب المواد التي نتحقق من كونها وقائع، أعني أن نحدد ما بينها من علاقات؛ فمهما تكن المادة التي بين أيدينا للدراسة، فهي مشتملة على علاقات كثيرة متعددة الأنواع؛ فعلينا أن نحدد ماذا عسى أن تكون مجموعة العلاقات ذات المساس بمشكلتنا القائمة؛ وذلك لأن المدركات العقلية النظرية التي تمس ما نحن إزاءه، لا تقوم بدورها إلا إذا اتضحت وتحددت المشكلة التي بين أيدينا؛ وأعني بذلك أن التفكير النظري وحده لا يكفي لأن يقرر أي مجموعة من العلاقات ينبغي استحداثها، ولا أن يقرر الكيفية التي نفهم بها مجموعة معينة من الوقائع؛ فالميكانيكي — مثلًا — يفهم مختلف أجزاء المكنة — كالسيارة مثلًا — حين يعرف، ولا يفهمها إلا حين يعرف كيف تعمل الأجزاء معًا؛ فالطريقة التي تعمل بها الأجزاء معًا، هي التي تزودنا بمبدأ الترتيب الذي على أساسه وبفضله تتعلق تلك الأجزاء بعضها ببعض؛ وفكرة «العمل معًا» تتضمن فكرة النتائج: أي إن دلالة الأشياء هي في النتائج التي تنتج عنها حين تتفاعل مع أشياء معينة أخرى؛ وما صميم المنهج التجريبي إلا تحديد ما للأشياء المشاهدة من دلالة، عن طريق ما نتعمد إقامته من ضروب التفاعل بينها. ويلزم عن هذا أن «الوقائع» في البحث الاجتماعي، قد تلقى كل عناية في التحقق منها وفي تجميعها، دون أن تكون مفهومة؛ فلا تكون تلك الوقائع قابلة للترتيب أو للاتصال بعضها ببعض على النحو الذي يتيح لنا فهمها، إلا إذا رأينا أثرها، و«الأثر» مسألة متعلقة بالنتائج؛ ولما كانت الظواهر الاجتماعية متدخلة بعضها في بعض، استحال علينا أن نعزو نتائج معينة (وبالتالي نعين الأثر والدلالة) إلى أية مجموعة من الوقائع، ما لم نكن قبل ميزنا النتائج الخاصة للوقائع التي تتصل بها؛ ولا يمكن أن نميزها على نحو يحددها إلا بما نجريه من عمليات سلوكية أو «عملية» نؤديها وفق فكرة معينة، وهذه الفكرة هي بمثابة الخطة؛ فلا تنفرد الظواهر الاجتماعية بكونها متدخلة بعضها في بعض تدخلًا معقدًا، بل إن حوادث الوجود الخارجي كلها — من حيث هي حوادث قائمة في الوجود الفعلي — هي على مثل هذه الحالة؛ إلا أن مناهج التجريب، وما يوجهها من مدركات عقلية، قد بلغت اليوم من متانة البناء بالنسبة إلى الظواهر الطبيعية، بحيث يبدو على مجموعات كبيرة من الوقائع أنها تحمل دلالتها معها حملًا يكاد يظهر عند مجرد النظر إليها، ما دمنا قد تحققنا من قيامها؛ وذلك لأن ما قد أجريناه فيما مضى من عمليات تجريبية، قد دل على أن نتائجها المحتملة ستتخذ أوضاعًا معلومة إلى درجة بعيدة من الدقة، وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الظواهر والوقائع الاجتماعية؛ ولا يمكن أن يكون أمرها شبيهًا (بحالة الظواهر الطبيعة) ولو على سبيل التقريب، إلا إذا وصلنا الوقائع الاجتماعية بعضها ببعض، وَصْلًا يمكننا من فهمها؛ وذلك يكون على أساس ارتباطها بالنتائج المتميزة التي تتولد عن خطط محددة نتبعها في تناولنا للظواهر تناولًا عمليًّا: وأكرر القول بأن الخطط إن هي إلا فروض توجه الإجراءات العملية، وليست هي بالحقائق العقلية الثابتة، ولا هي بالمبادئ المقطوع صوابها.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/25/
منطق البحث وفلسفات المعرفة
بين المنطق والنسقات الفلسفية علاقة ذات وجهين؛ فتاريخ الفلسفة يبين — من جهة — أن كل نمط أساسي من أنماط النسقات الفلسفية قد طور طريقته الخاصة في تفسير الصور والعلاقات المنطقية؛ بل إنه يوشك أن يكون من العرف المتفق عليه أي تُقْسَم الفلسفة بصفة عامة، ونسقاتها الجزئية بصفة خاصة، إلى فلسفة كونية أو ميتافيزيقا من ناحية، وما يقابلها من إبستمولوجيا أو نظرية في المعرفة من ناحية أخرى؛ غير أن وجهة أخرى للنظر تجعل المنطق وعلم الجمال والأخلاق في الفروع التقليدية الرئيسية للفلسفة؛ ولم يكن من قبيل المصادفات أن تكون الفلسفات الروحية والمادية، الواحدية والثنائية والتعددية، المثالية والواقعية، قد أبرزت ميولًا نحو هذا النمط أو ذاك من أنماط النظرية المنطقية؛ فكانت إذا ما تبينت العلاقات القائمة بين مبادئها الأولى ومناهجها، طوَّرَت نمطًا من النظرية المنطقية يتسق مع نظرياتها عن الطبيعة والإنسان؛ فمن حسنات كلٍّ من الأنماط الرئيسية في الفلسفة، أن كل نمط منها قد حاول أن يُخْرِج إلى العلن ما ينطوي عليه من منطق. لكن الوجه الثاني من العلاقة (التي تربط المنطق بالنسقات الفلسفية) هو الذي يعنينا في هذا الفصل، فلكي يكسب النسق المعين من نسقات الفلسفة أتباعًا، ولكي يدوم بقاؤه، يتحتم عليه ألا يقتصر على الأخذ بدرجة معقولة من الاتساق الجدلي بين أجزائه الداخلية، بل لا بد له كذلك من مواءمة نفسه مع بعض أوجه المناهج وشروطها؛ المناهج التي وصل عن طريقها إلى من يذهب إليه من اعتقادات عن العالم؛ فلا يكفي أن يكون للنسق الفلسفي منطق متسق في مراحل تفكيره النظري، بل لا بد أن يكون له كذلك مقدار كبير من الوجاهة عند تطبيقه على أشياء العالم، إذا أراد أن يكسب لنفسه الأتباع وأن يحتفظ بهؤلاء الأتباع؛ ويلزم عن ذلك أن كل نظرية فلسفية رئيسية عن المعرفة، لا ينبغي لها أن تقتصر على مجرد اجتنابها للأغلاط من وجهة نظرها الخاصة وحدها، بل لا بد لها كذلك أن تستعير مبادئها الرئيسية من هذا الجانب أو ذاك من جوانب النمط المنطقي للبحث، لكي تجيء نتائجها وكأنها في ظاهرها قد اجتنبت الأغلاط المادية كذلك؛ فلكي ننشئ ونحافظ على ضروب فلسفات المعرفة التي لا تفتأ تعاود الظهور، لا مندوحة لنا عن شيء أكثر من اتساق مراحل التفكير النظري الاستنباطي اتساقًا يبلغ من الدقة غايتها؛ فكون تلك الضروب (من فلسفات المعرفة) محدودة العدد وتعاود الظهور آنًا بعد آنٍ في التاريخ (مع تعديلات تطرأ على مادة الحديث تلائم ثقافة العصر الذي تظهر فيه) قد يدل في ذاته على أن تلك الضروب قد وضعت أيديها على بعض معالم المنطق المتبع في البحث المنتج، وجعلتها أساسًا تُغري به الناس؛ نعم قد يتدخل التمني في اختيار المعالم الخاصة؛ إذ قد تُختار هذه المعالم لتؤيد مقدمًا نتائج معينة دون غيرها، إلا أن المعالم المنطقية نفسها لا يمكن أن تُنتحل انتحالًا حسب الظروف؛ ولو كانت كذلك لأصبحت النظريات بناءات من أوهام المرضى. وإذن فالغاية من هذا الفصل هي النظر في طائفة من الأنماط الرئيسية في نظرية المعرفة، التي تبرز معالم السير في تاريخ الفلسفة، بغية أن نبين بأن كل نمط منها يمثل جانبًا يُختار لتجريده وحده من بين الظروف والعوامل التي من مجموعها يتكون النمط الحقيقي للبحث الموجه؛ وسنبين أن استعارة تلك الأنماط لهذه الجوانب التي تختارها دون سواها من مجموعة جوانب نمط البحث الموجه، هي التي تكسبها ما قد يكون لها من حسنات وقبول، على حين أن مصدر ما فيها من فساد هو انتزاعها التعسفي للعناصر المختارة من بين سياق البحث الذي كانت تلك العناصر المختارة تؤدي عملها فيه؛ وعلى ذلك فلن نوجه النقد إلى تلك الأنماط على أساس أنها تعتدي على كافة شروط البحث التي هي الوسيلة لبلوغ المعرفة، بل على أساس أن اختيارها لما تختاره من العناصر فيه من ضيق النظر ما يجعلها تتجاهل — وبتجاهلها فهي في الحقيقة تنكر — سائر الشروط التي تخلع على الجوانب المختارة قوتها المعرفية، والتي تضع أيضًا الحدود التي في نطاقها يمكن للعناصر المختارة أن تنطبق انطباقًا سليمًا. فإذا تصدينا لعرض كامل للخصائص المنطقية المختارة، التي تجعل كل نظرية نمطية من نظريات المعرفة هي ما هي، تطلب ذلك منا كتابًا بأسره، لا فصلًا من كتاب؛ غير أن نمط البحث الذي تنشأ المعرفة فيه وبفضله، يوجه انتباهنا إلى الشروط المنطقية التي يتحتم للمعرفة أن تستوفيها، وبهذا فهو يزودنا بمفتاح نهتدي به في سيرنا خلال متاهة النظريات المختلفة؛ فإذا لم تكن هذه النظريات اعتسافًا كلها، بل كانت اهتمامات جزئية بهذا الجانب أو ذلك تختاره كل منها من سياق النمط الصحيح في مجموعه، إذن فهذا النمط يعرض علينا مجموعة الشروط المنطقية كلها، التي جاءت النظريات المختلفة فانتزعت منها هذا الجانب أو ذاك، ثم راحت تعارض بينها؛ فليس اختيار جانب دون سائر الجوانب مقتصرًا على أنه ممكن الحدوث، بل إنه قد حدث بالفعل، وكانت نتيجة حدوثه قيام الأنماط المتعددة من نظرية المعرفة، وهي الأنماط التي تتبين منها معالم تاريخ الفكر؛ وعلى ذلك فلو كانت مادة المناقشة الآتية نقدية بالضرورة وموضعًا لاختلاف الرأي، فليست غايتها موضعًا لاختلاف الرأي؛ إذ إن غايتها هي إلقاء الضوء على الدافع المنطقي الموجِّه لكل نسق على حدة، كما أن غايتها كذلك أن تسوق تأييدًا غير مباشر للنتائج التي قد عرضناها فيما أسلفناه. إن نمط البحث يتضمن أن يكون هنالك تقسيم للعمل بين مواد الإدراك الحسي ومواد التفكير العقلي، تقسيمًا يقوم على أساس التعاون الفعال بين الجانبين؛ فإذا زدنا من اهتمامنا بأحد هذين الطرفين على حساب الطرف الآخر، نتج عن ذلك بالضرورة نظريات متضاربة عن معرفة؛ فأولئك الذين يجعلون أحد العاملين سيِّدًا ونهائيًّا، سيحاولون بالضرورة أن يفسروا العامل الآخر برده إلى حدود العامل الأول، فإن لم يستطيعوا حذفوه من حسابهم؛ هذا فضلًا عن أن نقص كل من هاتين النظرتين على حدة سينفخ بالضرورة كذلك روحًا جديدة وقوة جديدة في النظرية المضادة لها؛ وتاريخ الفكر منذ عصر اليونان فصاعدًا، يبدي من العلائم ما يدل على خلاف متصلٍ بين التجريبية الحسية والعقلية المجردة. هذا إلى أن نمط البحث متميز أولًا بوجود العناصر الكيفية المباشرة التي تحدد مشكلة البحث، وهذه بدورها تحدد المادة التي تكون ماسة بالمشكلة، والتي تختبر صلاحية أي حل مقترح، ومتميز ثانيًا بوجود العوامل الاستدلالية؛ وها هنا أيضًا نرى أن الاختيار الذي يقتصر على جانب دون جانب أمر مستطاع. فلئن كنا قد ناقشنا نظرية المعرفة المباشرة ورفضناها، إلا أن مناقشتنا لها لا تستوعب النقط كافة التي تمس الموضوع الذي نحن الآن بصدده؛ وذلك لأن ثمة نظريات تسلِّم بأن عمليات الاستدلال شرط مبدئي للحصول على المعرفة، لكنها هي نفسها ليست جزءًا من المنطق؛ مثال ذلك النظريات التي تذهب إلى أن الاستقراء والاستدلال ليسا سوى خطوات تمهيدية نوائم بها نفسيًّا (بيننا وبين ما نريد إدراكه)، لكن ثمة — من جهة أخرى — نظريات أخرى تعترف بضرورة التفكير الاستدلالي، اعترافًا ينتهي بها إلى نتيجة هي أن في موضوع المعرفة الذي نخْلُص إليه آخر الأمر، يكون كل شيء ذا علاقة استدلالية بكل شيء آخر؛ ومن هذه الوجهة للنظر، يكون موضوع المعرفة الذي لا موضوع سواه هو الكون، من حيث هو كلٌّ واحد مطلق، حتى لتصبح الأشياء التي يظن بعادة أنها معرفة، بما في ذلك العلم، لا تزيد على كونها من «الظواهر» أو مما يبدو في الظاهر، إذ هي نتَفٌ مجزأة ناقصة من «الحقيقة الكونية الموضوعية» التي ينتهي الفكر إليها؛ وعلى الرغم من أن النتيجة النهائية ميتافيزيقية، إلا أن هذه النتيجة الميتافيزيقية في العصور الحديثة إنما يوصل إليها بما يستهدف أن يكون تمحيصًا نقديًّا للشروط التي لا بد من توافرها لتصبح المعرفة ممكنة؛ فالفرق بين نظريات المعرفة المثالية والواقعية يعتمد أخيرًا على وجهة النظر التي نقف بها حيال العناصر المباشرة والعناصر المستدلة في المعرفة. وهناك مسألة العلاقة بين الصورة والمادة؛ ولقد ناقشنا فيما سبق جانبًا واحدًا من جوانب هذه المسألة، وهو الجانب الذي يذهب إلى أن المنطق معنيٌّ بالصور. ولا شأن له بالمادة؛ لكن هذه النظرة أيضًا لا تستوعب جوانب الموضوع كلها؛ فثمة نظريات، كالمذهب العقلي التقليدي، تذهب إلى أن الصور هي التي تحدد تحديدًا كاملًا مادة المعرفة النهائية؛ على أن ثمة نظريات أخرى تعتقد بأنه إذا كانت الصور — من حيث هي ماهيات — مستقلة تمام الاستقلال عن الوجود المادي، فبعضها — مع ذلك — يهبط آنًا بعد آن ليسيطر على الوجود الفعلي باعتبار هذا الوجود الفعلي مجرد تيار دافق من متغيرات، سيطرة تجعله معرفة — إلى الحد الذي تسيطر به الصور — وهنالك نمط من المذهب العقلي التقليدي، وأعني به المثالية المطلقة، يذهب إلى أن الصور المنطقية لا تميز إلا المعرفة الإنسانية، وأنها مستوعبة كلها داخل مادة المعرفة المطلقة. وهذا الوجه من وجوه الموضوع يسترعي انتباهنا إلى أن هنالك بالفعل تغيرات وتكوينات منوعة لمختلف العناصر التي يأتلف منها نمط البحث في جملته، حتى ليمكن القول (بغض النظر عن الرأي القائل بأن الصور طابع يميز عالم الإمكانات المجردة) بأن موضوع الصورة والمادة قد فعل فعله على مر التاريخ من حيث هو عامل مميز للنظريات الأخرى، أكثر مما فعل فعله على أنه أساس للنظريات قائم بذاته؛ مثال ذلك أن إنكار الضرورة على الصور المنطقية طابع يميز المذهب التجريبي التقليدي والمذهب المادي التقليدي كليهما؛ وإن الآراء المختلفة عن طبيعة الصور لتلعب دورًا هامًّا في إيجاد الاختلاف بين النظريات الواحدية والثنائية والتعددية. هاتان النظريان في المعرفة يمكن عرضهما معًا، إذ إن كلًّا منهما يسوق لنا مثلًا نموذجيًّا كيف يقع الاختيار على جانب نصبُّ عليه اهتمامنا دون جانب من جانبي المواد اللذَيْن نراهما معًا داخلين — من الناحية الصورية — في أية عملية كاملة من عمليات البحث؛ فالمذهب التجريبي بشتى صوره قد أصرَّ على ضرورة المادة المدركة بالحس في تحصيل المعرفة؛ على حين أن المذهب العقلي كما عرفناه في التاريخ، قد ذهب إلى أن المادة العقلية وحدها هي التي يمكن لها أن تزودنا بالمعرفة بمعناها الكامل؛ وليس بنا حاجة إلى أن نعيد هنا ما قد أسلفناه من تحليلات بَيَّنَتْ أن الفصل ثم العلاقة بين معطيات المشاهدة من جهة والأفكار الموجهة لها من جهة أخرى، إنما يمثل تقسيمًا للعمل داخل عملية البحث، له مهمته التي يؤديها، لكي يجيء البحث مستوفيًا للشروط المنطقية التي لا بد من توافرها حتى نظفر بنتيجة يجوز قبولها؛ وإنه لمن أجل هذا السبب يستحيل على اختلاف الرأي في هذا الصدد أن ينحسم؛ فكل نمط من نمطي نظرية المعرفة قد ازدهر بفضل ما في النمط الآخر من ضعف؛ فالطابع الخاص المميز للمذهب التجريبي التقليدي هو تطرفه في القول بالإدراك المباشر؛ فقد انصرف انصرافًا كاملًا إلى اختيار جانب واحد، وهو جانب المادة المدركة بالحس؛ لكنه كذلك فسَّر هذه المادة تفسيرًا يجزِّئها تجزئة مطلقة؛ وذلك أنه اعتقد أن المادة المعطاة عطاءً مباشرًا، تتألف من ذرات منفصلة انفصالًا كيفيًّا، وليس في طبائعها الداخلية ما يستوجب ارتباطها بعضها ببعض لكننا قد بيَّنَّا في مناقشة أسلفناها في موضع سابق، أن المادة المعطاة لنا عطاءً مباشرًا هي موقف كيفيٌّ فسيح الرقعة؛ وإنه إذا نتأت صفات منفصلة في ذلك الموقف، فما ذلك إلا نتيجة عمليات المشاهدة التي من شأنها أن تميز العناصر بعضها من بعض، لكي تكون هذه العناصر وسيلة صالحة لتحديد المشكلة الخاصة المتضمنة في الموقف، ووسيلة أيضًا لتزويدنا بما نختبر به صدق الحلول المقترحة؛ وبعبارة أخرى (فهذه الصفات المنفصلة التي تظهر لنا في الموقف الموحَّد) تمييزات أدائية يخلقها البحث داخل مجال واحد في جملته بغية التحكم في النتائج؛ وهكذا نرى المذهب التجريبي التقليدي يعرض أمامنا عرضًا يستوقف أنظارنا يحدث حين نعزل العناصر الحقيقية في نمط البحث الموجَّه، عزلًا يخرجها عن سياقها، فنفسرها — نتيجة لذلك — تفسيرًا على غير أساس مهمتها الأدائية. لقد كان لدى «كانت» أول الأمر ميول نحو الجانب العقلي، لكنه أخذ ينحرف عن هذا الجانب حين استيقن من أن الإدراك العقلي بغير إدراك حسي يكون خواءً، وأن الإدراك الحسي بغير إدراك عقلي يكون أعمى، حتى لتستوجب أية معرفة بالطبيعة اتحاد الإدراكين معًا؛ غير أنه يعتقد بمذهبه هذا أن مواد الإدراك العقلي ومواد الإدراك الحسي يصدران عن أصلين مختلفين مستقل أحدهما عن الآخر؛ وفاته أن المادتين تظهران على صورة عمليات متعاونة مكمل بعضها البعض، في إجراءات البحث التي نحلل بها المواقف المشكلة تحليلًا ينحو نحو تحويل تلك المواقف إلى مواقف موحدة؛ وقد ترتب على مذهب «كانت» أنه لم يكن مضطرًّا فقط إلى اللجوء إلى جهاز مصطنع يستعين به على ربط نوعين من المادة مختلفين كل الاختلاف، أحدهما بالآخر، بل اضطر كذلك إلى الوصول إلى هذه النتيجة (ما دام قد سلم بمقدماته) وهي أن مادة الإدراك الحسي — على ضرورتها — إنما تقف حائلًا منيعًا دون معرفة الأشياء كما هي على «حقيقتها» حتى ليقتصر كل جزء مما يصح أن نطلق عليه اسم «معرفة» على مجرد الظواهر كما تبدو من خارج. وإنه لجدير بالذكر أن الاستطراد في النزعة نحو التجزئة التي كان ينزعها المذهب التجريبي التقليدي، قد أدى — عند تطبيق تلك النزعة نحو التجزئة على المجال الاجتماعي — إلى «فردية» ذرية فككت كل الروابط الداخلية التي تربط الأفراد في مجتمع واحد، ولم تترك سوى المصالحة الشخصية تسير الأمور الاقتصادية، والقسر يسير الشئون السياسية، لكي يتماسك أفراد الناس في جماعة واحدة؛ وإننا لنرى في المجال الاجتماعي بوضوح كيف أن المذهب التجريبي المقتصر على جانب واحد من الحقيقة، يستثير قيام مذهب عقلي يقتصر هو الآخر على جانب واحد من الحقيقة، ويزوده بحججه الرئيسية؛ ذلك أن رد الفعل المنطقي للفردية الذرية هو قيام نظريات «عضوية» في الدولة، تطوي العلاقات الإنسانية كافة تحت محور السياسية؛ ولقد هيأت هذه الفلسفة أساسًا يقوم عليه إحياء السلطة المستبدة، وخلقت الأسس النظرية التي تستند إليها الدول المستبدة الحديثة؛ على أن اشتباك النظريات الديمقراطية في الدولة، كما قد عرفت تلك النظريات في التاريخ، بالذرية «الفردية» القديمة، قد كان — من جهة أخرى — مصدرًا رئيسيًّا لما أخذ يتزايد من ضعف المجتمعات «الحرة»، قومية كانت تلك المجتمعات أو محلية. ويتضح اقتصار الوضعية الشائعة على جانب واحد فقط من جوانب منهج البحث، حين نلاحظ أن تاريخ العلم يدلنا على أن فروضًا كثيرة قد لعبت دورًا هامًّا في تقدم العلم، على أنها فروض كانت عند نشأتها الأولى تأملية خالصة، وكانت الوضعية — إذا التزمت مبادئها — لتنبذها باعتبارها «ميتافيزيقية» لا أكثر؛ ومن أمثلة هذه الفروض فكرة بقاء الطاقة بغير زيادة أو نقصان، وفكرة الارتقاء التطوري؛ فتاريخ العالم — من حيث هو توضيح للطريقة التي يكون عليها منهج البحث — يبين بأن إمكان التحقق (كما تفهمه الوضعية)، بالنسبة للفروض لا يدنو في أهميته من أهمية هذه الفروض من حيث هي قوة توجه الباحث؛ فعلى سبيل الإجمال الذي يغفل الاستثناء نقول إنه لم يحدث لفرض علمي هام أن تحقق بالصورة التي كان عليها أول أمره، كلا ولا حدث لفرض علمي هام أن تحقق دون أن تطرأ عليه مراجعات وتعديلات كثيرة؛ والذي يسوغ هذه الفروض كونها ذات قوة في توجيه النظر إلى ميادين جديدة من المشاهدة التجريبية، وفي خلق مشكلات جديدة ومجالات جديدة للدراسة؛ وهي بأدائها لهذه الأشياء، لم تقتصر على تزويدنا بحقائق جديدة، بل زادت على ذلك أنها كانت كثيرًا ما تغير تغييرًا جوهريًّا ما كان يظن قبل ذلك أنه هو حقائق الواقع؛ فعلى الرغم من أن الوضعية الشائعة تزعم لنفسها أنها علمية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، إلا أنها قد كانت من بعض نواحيها وارثة لمذهب ميتافيزيقي سابق، كان يعزو للأفكار خصائص الصدق والكذب بحكم طبائع تلك الأفكار نفسها؛ وأما إذا ألممنا بنمط البحث على حقيقته، ألفينا الأفكار — من حيث هي أفكار — لا تتصف بحكم طبيعتها الداخلية إلا بكونها أدائية، يمكن استخدامها وسائل في إجراءاتنا العملية؛ وعلى هذا الأساس وحده. نرى النظرية الوضعية في المعرفة قاصرة؛ وإن هذا النقد ليصدق كذلك على أي ضرب من ضروب النظرية الوضعية، ما دام يقصر نطاق المنطق على تحويل مواد كانت موجودة بالفعل فيما سبق، دون أن يهيئ السبيل إلى إنشاء فروض جديدة، من شأنها — إذا استخدمناها عمليًّا — أن تزودنا بمواد جديدة تعيد بناء المواد التي هي بالفعل بين أيدينا؛ وهو نقد يصدق على «الوضعية المنطقية» بمقدار ما تقصر هذه النظرية المنطق على تحويل القضايا معزولة عن العمليات التي هي الوسيلة لتكوين تلك القضايا. مثل هذه الأشياء — الوجودي منها والفكري على السواء — لا تنفك تستخدم في مواصلة البحوث الجديدة؛ بل إن استمرار البحث متوقف على تناولنا إياها واستخدامنا لها وسائل في بحوث تالية؛ فما نكون قد بلغناه فيما مضى من أشياء، ربما تعرض للتعديل خلال الاختبارات التي نصبها عليها في المشكلات الجديدة، على غرار ما قد تغيرت به مجموعة الفوارق المميزة للأشياء، والتي كان يظن بها يومًا ما — ظنًّا لا يقبل الشك — أنها الأشياء، وإنما جاء هذا التغير بالنسبة لها مع تقدم المعرفة العلمية؛ على أننا نقبل الأشياء التي كنا قد أنشأناها خلال البحوث المتصلة السابقة، عند تناولنا لبحث جديد، كما لو كانت هي حقائق الواقع كما هو قائم بالفعل، تمامًا كما نستخدم العُدَد التي قد ثبت مرارًا أنها أدوات فعالة، فنستخدمها من جديد فيما نهم به من عمل جديد؛ فإذا نظرنا إلى هذا الأخذ وهذا الاستخدام المباشرين كما لو كانا حالة من حالات المعرفة، كان الحاصل المنطقي لهذه النظرة هو الفلسفة «الواقعية» في المعرفة؛ نعم إن الأشياء التي نستخدمها هي بالفعل أشياء معروفة لنا؛ لكننا إذا غضضنا النظر عن عمليات البحث التي كانت وسيلتنا إلى جعل تلك الأشياء أشياء معروفة لنا، كذا بذلك نركز اهتمامنا على جانب نختاره دون غيره من جوانب نمط البحث كما يقع في الحقيقة؛ فإن كان الاهتمام بهذا الجانب الواحد سليمًا بقدر ما تسمح به ظروفه، إلا أنه مع ذلك يكون من التميز بحيث يتمخض لنا عن نظرية فاسدة، لأنها نظرية تجعل فعل الإشارة إلى شيء معلوم، رغم أنه لم يصبح معروفًا لنا إلا بفضل عمليات لا شأن لها قط بفعل الإشارة، أقول إنها تجعل فعل الإشارة هنا كما لو كان هو نفسه حالة تتمثل فيها معرفة تصور الواقع، لتخدم بذلك أغراض نظرية معينة في المعرفة. إن ضرورة قيام أشياء بعينها لا نفتأ نستخدمها، ونستخدمها استخدام من يألفها، فنجعلها وسائل تؤدي بنا إلى معرفة جديدة، هي التي تخلع على النظرية الواقعية جاذبيتها، وهي جاذبية تبلغ من القوة بحيث تبدو أية نظرية سواها كما لو كانت انحرافًا عما يرضى عنه الذوق الفطري، لم تنحرفه إلا لتحقق ما تقتضيه نظرية معينة اعتنقها أصحابها مقدمًا؛ أما أن الأحجار والنجوم والأشجار والقطط والكلاب … إلخ، قائمة في الوجود الفعلي مستقلة عن العمليات التي يؤديها الشخص العارف بوجودها في أية لحظة معينة فحقيقة من حقائق المعرفة لها من متانة الأساس ما يمكن أن يكون لأي شيء كائنًا ما كان؛ لأنها من حيث هي مجموعات من فوارق مميزة مرتبط بعضها ببعض وكائنة في الوجود الخارجي، قد ظهرت واختبرت مرارًا في الأبحاث التي قام بها الأفراد وقام بها الجنس البشري؛ وإنه — في معظم الحالات — لمن ضياع الجهد ضياعًا بغير مقابل، أن نكرر العمليات التي كانت هذه الأشياء قد تكونت بها وتأيدت؛ فإذا ظن العارف الفرد أنه قد كونها بعملياته هو العقلية المباشرة كان ظنه من السخف كما لو ظن أنه هو الذي خلق الشوارع والمنازل التي يراها أثناء سيره خلال المدينة؛ ومع ذلك فالشوارع والمنازل قد صنعت، ولو أنها قد صنعت بعمليات وجودية انصبت على مواد فعلية مستقلة بوجودها، ولم يكن صنعها بعمليات «عقلية»؛ والأشياء — كالشوارع والمنازل — إذا ما تم تكوينها، فإنها تستخدم استخدامًا مباشرًا في مشروعات جديدة. إلى هذا قد ناقشت النظريات الواقعية التي هي من الصنف المباشر، أو من الصنف «الواحدي» كما تسمى أحيانًا؛ فقد أدى الخلط بين شيئين مختلفين الذي أشرنا إليه لتونا، والذي ينشأ من مزجهما في مزيج واحد يزعمون له بعدئذٍ أنه فعل بسيط ومفرد في تحصيل المعرفة، أقول إن هذا الخليط قد أدى إلى مشكلات معينة، يدل عليها ما يكتنفها من أغلاط وأخطاء وأوهام وظنون؛ فالواقعي المتسق مع مبدئه إذا كان من طراز الواقعيين الذي وجهنا إليه النقد منذ قليل، مضطر — منطقيًّا — أن يعزو الوجود الضمني — إن لم نقل الوجود الفعلي — إلى مواد المعرفة الباطلة كلها، كما يعزوه إلى مواد المعرفة الصحيحة سواءً بسواء، وبهذا فهو، يمحو المعنى المنطقي المميز للمعرفة؛ ذلك لأنه بناءً على هذه النظرية، تكون المعرفة الباطلة هي الأخرى حالة من الحالات التي يشير بها الشخص العارف — إشارة مباشرة — إلى المواد التي إنما هي ما هي على حقيقتها بغض النظر عن عمليات تحصيل المعرفة بها؛ ولن أوغل في هذه النقطة إيغال من يريد أن يوجه إليها نقدًا فوق ما وجهناه إليها؛ إذ إنها النتيجة المنطقية التي تترتب على المزج الذي يخلط بين أمرين، كما قد أشرنا؛ وإنما أذكر هذه النقطة لعلاقتها بنمط آخر من النظرية الواقعية، وهو ما يسمونه بالواقعية الثنائية، أو «الممثلة» لما هو واقع. فبناءً على هذه النظرية، يكون موضوع المعرفة المباشرة أو المعطى، حالة عقلية دائمًا؛ سواء أكانت هذه الحالة «إحساسًا» أم «فكرة»؛ وإنما يعرف الشيء المادي الوجودي عن طريق حالة عقلية يُفترض فيها أنها تصوير لذلك الشيء الخارجي؛ وكما هي الحال بالنسبة إلى النظريات الأخرى المطروحة للبحث، سننصرف بالمناقشة الحاضرة إلى هذه النظرية من ناحية واحدة فقط، وهي الناحية التي تجعل لها أساسًا في نمط البحث كما يقع في الحقيقة؛ فهي نظرية تنشأ عن تجريد الجانب الاستدلالي من جوانب البحث، ثم يؤدي عزل هذا الجانب عن سياق البحث في مجموعه، إلى تحويل القيم الأدائية إلى نوع من الوجود الفعلي ذي الكيان القائم بذاته، وبعدئذٍ يصفون هذا الوجود بأنه عقلي؛ ففي عملية البحث، تتميز الصفات المباشرة مما عداها على أساس مهمتها من حيث هي علاقات أو إشارات تدل على نتيجة يمكن استدلالها؛ مثال ذلك أن تحس ألمًا إحساسًا مباشرًا، فتفسره بأنه ألم في الأسنان، وعلى ذلك تحكم عليه بأنه أحد الأفراد التي تنضوي تحت نوع معين؛ فيُقال عن الألم — ومعه مجموعة صفات أخرى تقع للمشاهدة — إنه يؤلف شيئًا، ويكون الألم علامة دالة على وجود ذلك الشيء؛ وتكون الصفة التي هي الألم — بوصفها هذا — ممثلة لشيء ما؛ فإذا نحن غضضنا النظر عن المهمة الخاصة التي تؤديها تلك الصفة في عملية البحث، جَسَّدنَا هذا الجانب الأدائي الذي هو ممثل لما عداه؛ وهكذا نفهم الألم لا على حقيقته كما هي، وأعني بها أنه صفة تدل أول الأمر دلالة مشكلة أو مبهمة، بل نفهمه على أنه كائن عقلي يمثل — على وجه ما — شيئًا ماديًّا؛ فبهذا المجاز تتحول مهمته الأدائية من حيث هو ممثل لشيء سواه، وهي المهمة التي نستعين بها على حل المشكلة قائمة، إلى مجرد فكرة التمثيل. ويصدق هذا القول نفسه على الأفكار باعتبارها شيئًا متميزًا من الصفات المباشرة؛ فالفكرة من الأفكار كما تؤدي عملها في البحث، هي الدلالة التي يمكن أن ننسبها إلى الصفات الماثلة في إدراكنا حين تكون دلالتها غير واضحة؛ وبوصفها هذا، يكون للفكرة جانب تمثيلي، لأنها تقوم مقام حل ممكن؛ ولكونها مقتصرة على مجرد الإمكان، فليست هي مما يقبل قبولًا مباشرًا إذا ما كنا بصدد بحث بمعناه الصحيح، بل إنها لتستخدم على أنها إرشاد توجيهي لما عسى أن نقوم به من عمليات أخرى في مجال المشاهدة، من شأنها أن تعطينا معطيات جديدة؛ أما إذا أغفلنا مهمتها الأدائية هذه، كانت الفكرة — كالصفة المباشرة — في ظننا تمثيلًا عقليًّا لشيء ما، بحكم طبيعتها نفسها؛ ففي المثال الذي ذكرناه منذ قليل، يكون الألم موحيًا بوجع الأسنان؛ ويجيء الحكم المبتسر (وهو مبتسر إلى الحد الذي لا يجعله حكمًا على الإطلاق بالمعنى المنطقي للحكم) فيقبل الإيحاء ويؤيده؛ لكن البحث يستخدمه ليبدأ ويوجه عملية جديدة في مجال المشاهدة، لنقرر بها ما إذا كانت — أو لم تكن — هناك صفات أخرى موجودة، مما يعد خصائص مميزة للنوع الذي نطلق عليه اسم وجع الأسنان؛ فالإيحاء بوجع في الأسنان — من هذه الناحية — هو فكرة، أي أنه معنًى افتراضي ممكن؛ فهو ممثل لشيء سواه، ولكنه ليس تمثيلًا مجردًا، وصفته الافتراضية هي ما نعنيه حين نسميه فكرة؛ غير أن هذه الصفة خاصة منطقية وليست هي بالخاصة الوجودية التي كان أن نعارض بها الشيء باعتباره كائنًا عقليًّا. فالغلطة الأساسية في الواقعية التي تجعل المعرفة صورة ممثلة للواقع، هي أنها في الوقت الذي تعتمد فيه فعلًا على الجانب الاستدلالي (كما عرفناه) من جوانب البحث، يفوتها أن تفسر الصفة المدركة إدراكًا مباشرًا، والفكرة المتعلقة بها، تفسيرًا ينظر إليهما من ناحية المهمة التي تؤديانها في البحث، بل تراها على نقيض ذلك تجعل القوة التمثيلية خصيصة كامنة في طبيعة الإحساسات والأفكار من حيث هي إحساسات وأفكار، إذ تنظر إليها على أنها «تمثيلات» في ذاتها وبذاتها؛ والنتيجة الضرورية لذلك هي تثنية الوجود العقلي والوجود المادي، أي الفصل بينهما، لكن هذا المذهب الواقعي لا يعرض هذه التثنية على أنها نتيجة لزمت عن طريقته في النظر، بل يعرضها على أنها حقيقة واقعة نتلقاها على هذا الوجه؛ فعدم وضع القوة التمثيلية للصفات المباشرة وضعًا يجعلها علامات، وعدم وضع المعاني وضعًا يجعلها دلالات ممكنة، وهو وضعهما كما يرد في سياق البحث، يؤدي بنا إلى الافتراض أنها كائنات مادية أو عقلية ثم ترانا بعدئذٍ نخلع عليها قوة سحرية، هي قوتها في أن تنوب عن، وأن تشير إلى، كائنات ذات طبيعة مختلفة عن طبيعتها. والواقعية التمثيلية تفسر الأخطاء والاعتقادات الباطلة والأوهام، تفسيرًا يتناولها بصفة عامة، دون أن تضطر إلى إسكان عالم «الوجود الخالص» بشتى أنواع الموجودات التصورية، التي يُقال إنها هي الموجودات التي يشير إليها الشخص العارف (في حالة الخطأ والاعتقاد الباطل والوهم)، تمامًا كما يشير إلى الأشياء الحقيقية عندها يحدث له أن يتحدث عنها؛ فبناءً على النظرية التمثيلية، يكون إمكان الخطأ أمرًا منبثقًا من طبيعة الإحساسات والأفكار نفسها، من حيث تكون هذه الإحساسات والأفكار تمثيلات لسواها؛ ولأنها ذات طبيعة في الوجود مختلفة عن الأشياء الخارجية التي تمثلها، فليس هنالك ما يضمن لنا أن تجيء الإحساسات والأفكار تمثيلات للأشياء الخارجية كما هي في الواقع، التي جاءت تلك الإحساسات والأفكار صورًا لها؛ فلئن كانت هذه النظرية تفسر لنا مجرد إمكان وقوع الخطأ والأباطيل بصفة مجردة، فهي تعجز عن أن تفسر الفرق بين الاعتقادات الصادقة والاعتقادات الباطلة في أية حالة جزئية معينة؛ فلكي نقرر — مثلًا — ما إذا كانت فكرة معينة تمثيلًا لثعبان البحر أو للحوت، وما إذا كانت فكرة معينة تمثيلًا لعفريت أو لشخص ملفع بملاءة، ترى النظرية مضطرة إلى الخروج عن حدود الفكرة نفسها، وعن حدود أي شيء مما قد يكشف عنه تمحيصنا للفكرة في ذاتها؛ إذ هي مضطرة إلى الارتداد إلى عمليات البحث المنتجة المألوفة، وهي عمليات مستقلة تمام الاستقلال عن الطبيعة المزعومة للفكرة باعتبارها تمثيلًا عقليًّا؛ فالشيء الهام دائمًا هو صواب أو خطأ التفسير الخاص المعين الذي نفسر به صفة مدركة إدراكًا مباشرًا، أو نفسر به معنًى أوحى به إلينا؛ وما دامت الواقعية التمثيلية — لكي تحسم الأمر في هذه المسألة — مضطرة إلى الارتداد إلى العمليات المألوفة في البحث، فهي إذن نظرية عديمة النفع وغير ذات شأن، في الجانب الوحيد ذي الأهمية المنطقية؛ فأقل ما نقوله هنا هو أنه أيسر علينا وأقصر طريقًا، أن نبدأ وأن نمضي في طريقنا، غير ناظرين إلا إلى عمليات البحث، وهي العمليات التي يعتمد عليها آخر الأمر؛ ولو فعلنا هذا، لسقطت من تلقاء نفسها فكرة الصفات والأفكار بأسرها، أعني الفكرة التي تعد الصفات والأفكار ضروبًا من الوجود العقلي. ولو أنعمنا النظر في الأمر إنعامًا يتناوله بتفصيل أكثر، لتأيدت النقطة التي أثرناها أكثر من مرة، وهي أن ما يسمونه بنظرية المعرفة «الإبستمولوجيا» ليس سوى مزيج من مدركات منطقية استقيناها من تحليل البحث المنتج، ومدركات نفسية وميتافيزيقية سبق لها أن تكونت في أذهاننا دون أن يكون لها مساس بالموضوع؛ نعم لو أنعمنا النظر في الأمر لتأيدت لنا صحة النظرية القائلة بأن العنصر الأصيل في كل نظرية «إبستمولوجية» نموذجية. إنما هو عنصر منطقي؛ ولنا أن نضيف بأنه لو أراد أحد تفسير الجانب «العقلي» بأنه مادة الخبرة، حين تتميز تلك المادة بأنها — خدمة لعملية البحث وفي سبيل السير به إلى غايته — حالة شرطية فرضية بأدق المعاني لهاتين الكلمتين (وهي حالة تكون عليها الصفات «الخارجية» والمعاني «الداخلية» حين يكون البحث الذي نحن بصدده ما يزال في طريق سيره)؛ أقول إذا أراد أحد تفسير الجانب «العقلي» بمثل هذا التفسير، فلا اعتراض لنا على ذلك؛ لكن هذا التفسير «العقلي» يختلف اختلافًا جوهريًّا عن المذهب القائل بأن في المعرفة جانبًا متضمنًا فيها، وهو طبقة من الوجود تتسم بكونها نفسية أو عقلية في ذاتها وبذاتها؛ فلو قلنا إن هنالك صفات وجودية معينة، كالانفعالات، نردها إلى ذوات الأشخاص من حيث تكون هذه الذوات ضربًا من الوجود قائمًا بذاته (بنفس المعنى الذي تكون به الأحجار والنجوم والمحار والقردة أنواعًا من الوجود لها صفاتها الخاصة المميزة) كان قولنا هذا قضية صادقة؛ لكن هذه الدلالة الموضوعية التي تتميز بها الصفات الذاتية، لا شأن لها إطلاقًا بما يزعمونه من الخصائص الذاتية للصفات والأفكار حين تؤدي هذه الصفات والأفكار دورها في المعرفة؛ فالذات الشخصية شيء من الأشياء، وليست هي «بالعقل» ولا هي بالوعي، حتى إذا جاز لنا أن نقول عن شخص إن له عقلًا، استنادًا إلى ما له من قدرة على البحث. فكلمة «ذاتي» — في حالة انفعال ما — لا تزيد على كونها كلمة مرادفة لكلمة شخصي؛ وأما هل الصفات التي تميز حالات كالأمل والخوف والغضب والحب، صفات تحدد نوعًا من الأشياء التي تتميز بطابع يجعلها أشياء شخصية فمسألة تتصل بأمور الواقع، ونجد حلها بنفس الطرائق التي نقرر بها أي السمات يميز لنا أسماك اللزيق من أسماك المحار؛ فالخصائص التي تميز البحث هي نفسها الخصائص التي تجعل المعرفة حالة مختلفة عن الجهل وعن مجرد الظن وعن الوهم؛ فالشخص — أو إن شئت تعبيرًا أقرب صلة بالنشوء، فقل الكائن العضوي — إنما يصبح ذاتًا عارفة بفضل اشتغاله في عمليات البحث الموجه؛ وأما النظرية التي نوجه إليها النقد، فتزعم أن ثمة ذاتًا عرفانية سابقة على، ومستقلة عن البحث، أي إن هناك ذاتًا هي بحكم طبيعتها نفسها كائن عارف؛ ولا كان محالًا علينا أن نحقق هذا الزعم بأية وسيلة تجريبية، كان تصورًا ميتافيزيقيًّا سبق له أن تكون في أذهاننا، ثم امتزج بعدئذٍ بالشروط المنطقية امتزاجًا نشأ عنه هذا الضرب أو ذاك من «نظرية المعرفة» (الإبستمولوجيا). هنالك ثلاثة أنماط من نظرية المعرفة، مما يطلق عليه اليوم كلمة «مثالي» ونستطيع أن نفرق بينها بأن أحدها هو النمط المستند إلى الإدراك الحسي، وتمثله نظرية باركلي، وثانيها هو النمط العقلي، وثالثها هو النمط المطلقي؛ والفرق بين الأول والثاني إنما ينشأ عن إقحام فلسفات كونية مثالية، إقحامًا يؤدي إلى الفصل — الذي ناقشناه فيما سبق — بين ما يدرك في التجربة إدراكًا حسيًّا، وبين ما تتكون فكرته العقلية في التصور الذهني؛ وأما النظرية الثالثة فتمثل محاولة للتغلب على هذا الانقسام، وذلك بالرجوع إلى نوع من الخبرة يندمج فيه ما يدرك بالحس وما يدرك بالعقل اندماجًا تامًّا، وأعني بها الخبرة المطلقة. وهكذا أصبح العقل الذي إليه تنتمي الأفكار، والذي خصائصه هي هذه الأفكار، أصبح العقل (في رأي باركلي) هو الجوهر الوحيد؛ على أن «باركلي» قد قبل نظرية «لك» بأن موضوع المعرفة هو العلاقة بين الأفكار؛ وموضع الأصالة عنده هو في تفسيره لهذه العلاقة تفسيرًا يجعلها علاقة دالة أو علاقة إشارية، كما تشير صفات الدخان إلى صفات النار؛ فالطبيعة من حيث هي موضوع للمعرفة هي كتاب أو لغة، على حين أن المعرفة في فهم المرقوم في هذا الكتاب؛ هذا فضلًا عن أن طائفة معينة من الأفكار تفرض علينا فرضًا، والعلاقة القائمة بين هذه الأفكار — وهي علاقة دلالتها على ما تدل عليه أو إشارتها إلى ما تشير إليه — دائمة وثابتة؛ وإن كون الأفكار الأولية والعلاقات الثابتة القائمة بينها، تجاوز حدود سيطرتنا، ليدل على أنها لا تنشأ أصلًا في عقولنا، بل هي مظاهر يتبدى فيها «العقل الإلهي» أو «الإرادة الإلهية». وفيما يختص بالزعم الأساسي الذي يزعمون به «للأفكار» طبيعة عقلية أصيلة، فالنقد الذي وجهناه إلى الواقعية التمثيلية يصدق أيضًا على هذه النظرية؛ فالعنصر المنطقي المميز للمذهب المثالي المستند إلى الإدراك الحسي هو أن ذلك المذهب يجعل العلاقة التي منها تتألف المعرفة هي نفسها علاقة دلالة الشيء على معناه؛ وواضح أن هذا الجانب من النظرية يدل على فهم صحيح لشرط ضروري من شروط البحث الموجه: وهو الشرط الذي نشترط به أن تكون الصفات المدركة إدراكًا مباشرًا علامات لنا نستشهد بها على شيء ما خارج تلك العلاقات نفسها؛ فإذا ما وجهنا اهتمامنا إلى جانب واحد دون سائر الجوانب، تجاهلنا حقيقة كون الصفات المذكورة قد اختيرت من بين مجال يشملها ويشمل غيرها معها، وإنما وقع عليها الاختيار دون سواها لتؤدي مهمة خاصة في عملية البحث، ألا وهي تحديد المشكلة المطلوب حلها؛ ويترتب على ذلك أن ننظر إلى الجانب الأدائي الصرف من الصفات المدركة بالحس، على أنه شيء أصيل في تكوينها، بحكم طبيعتها الداخلية؛ وعلى ذلك فهذه النظرية تقدم لنا شرحًا لما يحدث في نظرية المعرفة حين تُعزل عناصر منطقية معينة عن سياق البحث. كون الصفات — من حيث هي أشياء تشير أو تدل على سواها — تختار عمدًا، تحقيقًا للغرض من البحث، من بين مركب العناصر التي نتلقاها في الخبرة تلقيًا مباشرًا. كون قيام الموقف المشكل المراد حله هو الذي يضبط عملية الاختيار التي نميز بها ما نختاره من الصفات الدالة المنتجة ذات المساس بما نكون بصدد بحثه، اختيارًا يكون لنا بمثابة الوسيلة؛ فإذا أخذنا في اعتبارنا هاتين الملاحظتين، تبين لنا على الفور أن كون الصفات الطبيعية ذات خاصة دلالية، ليس أمرًا منبثقًا من طبيعتها، بل هو أمر يطرأ عليها بفضل المهمة الخاصة التي تؤديها في البحث. لا غناء لنا عن أبحاث مميزة الأشياء في مجال المشاهدة، لنقرر بها أن الصفات المشاهدة هي صفات الدخان؛ إذ قد تكون — مثلًا — صفات البخار؛ أضف إلى ذلك. أن النار المشار إليها ليست مجرد النار بصفة عامة، بل هي نار جزئية معينة؛ والنيران الجزئية قد تتباين إحداها مع الأخرى تباين النار تشتعل في غابة مع نار سيجار مشتعل، ومع النشوة الخاصة المقترنة بالدخان آتيًا في الغسق من مدخنة أحد المنازل؛ فالبحث مطلوب ليحدد نوع الشيء الذي يدل عليه ما قد تبين بالمشاهدات الموجهة أنه دخان؛ وعلى أية حال. فليس الدخان هو العلامة المضمونة على وجود النار؛ فمثلًا خذ الفكرة العلمية عن النار من حيث هي احتراق، ففي هذه الحالة التي فرغنا من قبولها لا يظهر الدخان على الإطلاق؛ فالخصائص المميزة التي تصف أنواع النار من وجهة النظر العلمية، من شأنها أن تقيم الدليل على العلاقة القائمة بين ما للأشياء من أداء ذي دلالة، وبين عملية البحث؛ وأما الفكرة القائلة بأن هذا الأداء هو علاقة كافية في بنية الطبيعة (أي إنها علاقة بنائية لا أدائية) فقد تولدت عن كون العادات الماضية — في الأمور التي ألفناها في حياة النفع والمتعة — قد أنشأت علاقة يمكن الاستناد إليها استنادًا مباشرًا؛ غير أن هذه الأشياء نفسها، إذا ما جاوزنا بها مجالًا محدودًا من الجوانب العملية في نطاق الإدراك الفطري، تدل دلالات مختلفة في الثقافات المختلفة، وهي حقيقة تكفي للبيان بأن العلاقة ليست كامنة في بنية الأشياء، وفي مستطاعنا إدراكها إدراكًا مباشرًا؛ فالقول بأن دلالة الشيء كامنة في طبيعته، هو قول تخلف من المذهب المثالي. كانت فلسفات الوجود وما وراء الطبيعة اليونانية الكلاسية واقعيتين في نظرياتهما عن المعرفة؛ غير أن العنصر «الحقيقي الواقعي» في «الطبيعة» كان في رأي تلك الفلسفات هو الجانب العقلي أو الفكري؛ وأما الصفات الحسية التي تتميز بها الأشياء المتغيرة، ويتميز بها التغير نفسه، فقد كانت علامة تدل على حضور عنصر اللاوجود، أي عنصر «الوجود» وهو في حالة النقص وعدم الكمال؛ ثم جاء تطور العلم الفيزيائي الحديث، فأبعد الصور الفكرية والغايات العقلية من «الطبيعة» كما نعرفها؛ وحاول فلاسفة المدرسة — تمشيًا مع الاتجاه الذاتي في الفلسفة الحديثة — أن يؤيدوا ما في الكون من معقولية كامنة في طبيعته، متبعين في تأييدهم هذا سبيل تمحيص الظروف التي في ظلها تصبح المعرفة أمرًا مستطاعًا؛ فلم يجد هؤلاء الفلاسفة صعوبة في أن يبينوا أن المعرفة غير ممكنة بغير قيام المدركات العقلية، وأن هذه المدركات العقلية لا يمكن استخراجها من الصفات الحسية، لا على أنها هي الصور الباهتة لتلك الصفات، ولا على أنها مركبات منها؛ فكان الحاصل من هذا هو المذهب المثالي العقلي، الذي يرى أن العالم الحقيقي مؤلف من نسق من علاقات، وأن طبيعة هذه العلاقات هي أنها «عقل» أو «روح» موضوعي شامل؛ وعندئذٍ تكون عملية تحصيل المعرفة بالنسبة إلى الذوات الإنسانية، مؤلفة من حالات جزئية تتبدى فيها طبيعة هذا «العقل» الموضوعي. فهذه النظرية — شأنها شأن المذهب العقلي التقليدي الذي تفرعت عنه — تمثل الانصراف باهتمام أصحابها إلى جانب واحد اختاروه، وهو بجانب المهمة الأدائية التي تقوم بها المادة الفكرية في عملية البحث الموجَّه، وذلك حين تُعزل تلك المهمة الأدائية عن السياق الإجرائي الذي تستخدم فيه وسيلة لتحويل المواقف المشكلة؛ فلا حاجة بنا إلى أن نضيف شيئًا إلى ما قد أسلفناه عن هذا الجانب من جوانب النظرية؛ إذ الناحية التي تهمنا في مناقشتنا هذه الآن، من بين نواحي هذه النظرية، هي أنها نظرية تصل إلى فلسفتها الكونية المثالية الأخيرة، عن طريق نظرية منطقية خاصة بعملية المعرفة؛ وهذا هو الجانب من جوانبها، الذي سنتناوله بالتمحيص. العمليات الوجودية التي نجريها في مجال المشاهدة. المهمة التجريبية التي تؤديها المادة العقلية في توجيه البحث؛ فلأن النظرية لا تقوم على أساس من فحص العمليات الفعلية التي يتم بها تحصيل المعرفة، تراها قد اضطرت إلى تجسيد «الفكر»؛ الذي تصبح فاعليته «العقلية» بمعناها الدقيق — بناءً على طبيعة تكوينه الداخلي نفسه — هي في رأي أصحاب هذه النظرية مصدرًا لبنية الكون ولبنية المعرفة كلتيهما، فبدل أن يفسروا «الفكر» على أساس تمحيص العمليات الفعلية التي يؤديها الباحث في قيامه بالبحث، تمحيصًا يتناولها كما تتحقق في التجربة، تراهم يفرضون بادئ ذي بدء شيئًا يسمونه فكرًا، ويزعمون منذ فاتحة الأمر أنه فاعلية أو قوة شاملة أصيلة قائمة بذاتها؛ فالنظرية نفسها، بإصرارها على أن يكون الفكر أوليًّا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، تعترف بما لهذا الزعم من جانب ميتافيزيقي خالص، أي من جانب ذي طبيعة يستحيل التحقق منها تحققًا تجريبيًّا. غير أنه لا بد من التنويه بفضل هذه النظرية في اعترافها بضرورة المراحل الاستدلالية الوسطى التي نجتازها لحصولنا على المعرفة؛ فجانب قوتها هو إصرارها على قيام التفكير النظري (ومعناه هو الجانب الاستدلالي الذي يتوسط طريق البحث) في شتى ضروب المعرفة، وما يصاحب ذلك التفكير النظري من نقد مضمر أو صريح لكافة نظريات المعرفة التي تقول بالإدراك المباشر؛ لكنها — للسبب الذي ذكرناه توًّا — تجعل التفكير النظري شيئًا يهبط على الوجود الفعلي من السماء، ويؤدي مهمته على نحو إجمالي؛ ذلك أن المقولات الأولية «القبْليَّة» أو الطرائق التركيبية للتصور الذهني، التي تؤلف — بناءً على النظرية نفسها — بنية «الفكر»، تعمل عملها على صورة إجمالية؛ فهي تنصبُّ على ما قد انتهينا في التحقيق منه إلى أنه معرفة صحيحة على نفس الصورة التي تنصب بها على ما هو معرفة ظاهرية فحسب، مما يتبين فيما بعد أنه باطل، تمامًا كما يسقط المطر من السماء على العادل وعلى الظالم على حد سواء؛ فتجسيد «الفكر» تجسيدًا يجعله كائنًا عنصريًّا، هو نتيجة ترتبت على تجاهل العمليات التي تؤدى عند القيام بالبحث، مع أنها العمليات التي يمكن بها وحدها أن نميز «الفكر» في عالم التجربة؛ وهذا التجسيد يحول دون أن تكون هذه النظرية قادرة (ما دمنا نسلم بمقدماتها) على تعليل الفرق بين الاعتقادات الصحيحة والاعتمادات الباطلة؛ إذ إن مقولات «الفكر» تفعل فعلها في الحالتين على حد سواء؛ فالمشكلة المنطقية الحقيقية هي في هذه النقطة بالذات، والمشكلة هي كيف نقيم ثم نختبر الاعتقادات المعينة الجزئية، بحيث نقرر جواز قبولها؛ فما دامت هذه النظرية المذكورة مضطرة إلى الخروج عن مجموعة مقدماتها، لكي تجد ما تفرق به بين الحق والباطل، وما دامت مضطرة إلى اللجوء في ذلك إلى العمليات الفعلية التي تؤدَّى في البحث، والتي في الوسيلة لإقامة المعتقدات واختبارها، فواضح أن مقدماتها لا تدعو إليها الحاجة، وأن على النظرية أن تبدأ بنفس الأمور التي ترى نفسها مضطرة إلى الانتهاء بها. إن التأييد بالتجربة، وهو ما يبدو لنا أن النظرية المذكورة تلجأ إليه، مستمدٌّ من كون التفكير النظري أو التفكير الاستدلالي متضمن بالفعل في بلوغنا أي شيء يحق له أن يدَّعى بأنه معرفة، متميزًا من مجرد الظن، لكنه يتجاهل الاعتبارات الأساسية التي تتحدد بها عمليات الفكر النظري، وهي العمليات التي تؤلف قوته الحقيقية في البحث: ألا وهي قيام مواقف مشكلة في الوجود الخارجي، وحدوث إجراءات عملية تنصبُّ على الوجود الخارجي، وتوجهها أفكارٌ في ذهن الباحث، ثم تجيء نتائجها الفعلية اختبارًا لسلامة تلك الأفكار؛ وهكذا نرى النظرية تخطئ خطأً أساسيًّا في فهمها للتوحُّد الذي يتجه إليه البحث فعلًا، بما له من ناحية نظرية استدلالية تتوسط طريق سيره؛ نعم إن الحركة تجاه موقف مرتب موحد أمر موجود بالفعل في عملية البحث كما تحدث في الحقيقة، لكن التوحُّد دائمًا منصب على المادة التي يأتلف منها موقف مشكل مفرد؛ وليس هو بالتوحد على إطلاقه؛ لكنْ لأن عمليات التفكير النظري تُجسَّد بحيث تصبح كائنًا قائمًا بذاته ذا طبيعة إجمالية، يطلق عليها «الفكرة» أو «العقل»، تراهم يعممون جانب التوحد هذا تعميمًا يجاوزون به الحدود التي في نطاقها يحدث التوحد حدوثًا فعليًّا، وأعني بها حل مواقف مشكلة جزئية معينة؛ ولهذا تراهم يفرضون في المعرفة أنها عبارة عن بلوغ الإنسان «وحدة» نهائية شاملة لكل شيء، معادلة «للكون» باعتباره كلًّا مطلقًا، وهو فرض يعلل قيام المثالية المطلقة التي سنتناولها فيما بعد؛ نعم إنه من الحق أن المواقف المشكلة قد أصبحت كذلك بسبب قيام ظروف تتعارض دلالاتها، تعارضًا يخلق موقفًا مضطربًا، ومن ثَم كانت الخاصة العامة لأي بحث كائنًا ما كان، هي أنه يحول الموقف المضطرب إلى موقف موحَّد أو موقف متصل في دلالته؛ غير أن النظرية المطروحة الآن للتمحيص، تعمم اتجاه البحث نحو هذه الغاية تعميمًا يجاوز الحدود التي يمكن التحقق منها بالتجربة. إن المثالية العقلية تدعي أن العالم عقلي في شتى نواحيه، ما دام العلم ليس إلا الكشف عن مجموعة قوانينه المطردة، وهي مطردة لأنها ضرورية؛ فلو غضضنا النظر عن القول بأن قوانين العلاقات المطردة، هي في النهاية أدوات وَسِليَّة نضبط بها المواقف الموحَّدة العناصر؛ لننظر في هذه الدعوى من وجهة نظرها هي، وجاءنا الناحية العقلية المزعومة للكون في جملته، مثلًا آخر للتعميم الذي يجاوز الحدود التي يتحتم على البحث المدعم أن يقف عندها؛ فكون المواقف المشكلة ممكنة الحل (على الرغم من أن الوسائل التي تؤدي بنا إلى الحلول قد لا تكون في متناول أيدينا فعلًا لحظة معينة من الزمن) هو بغير شك مصادرة منتجة نفرضها قبل القيام بالبحث؛ وإنه لمن الحق أن حل الموقف على هذا النحو يجعل ما قد كان أول الأمر غير مفهوم، مفهومًا؛ لكن ذلك لا يسوغ لنا أن نمط هذه المبادئ حتى نجاوز بها حدود المواقف المشكلة الفعلية في تعددها؛ فقيام المواقف المشكلة تحدٍّ يبعث على القيام بالبحث، أي إنه يبعث على أن يفعل الذكاء فعله في صورة عملية؛ أما الفكرة القائلة بأن المعقولية المترتبة على البحث العلمي أو البحث الموجه، دليل على أن عالمًا عقليًّا أوليًّا قد كان موجودًا قبل البدء في البحث نفسه، فهي فكرة تضع العربة أمام الحصان؛ أضف إلى ذلك أنها تجعل ظهور المواقف على هيئة عمياء مهوشة العناصر، مشكلة تستعصي على الحل، اللهم إلا إذا أقمنا فاصلًا ميتافيزيقيًّا حادًّا بين عالم الظواهر كما تبدو، وعالم الحقائق التي تكمن وراء تلك الظواهر؛ وأخيرًا فإن التحدي الذي يحفزنا إلى أن نجعل العالم شيئًا أقرب إلى المعقول، هو تحدٍّ ما ينفك يتجدد، لأنه يتحدانا أن نؤدي بالفعل عمليات متعينة في أمكنة وأزمنة معينة؛ فالإيمان العلمي المنتج هو الاعتقاد بأن العناية بالبحث الموضوعي المتصل، في دأب وشجاعة خلال القيام به، يمكن أن تصبح أمرًا مألوفًا لدى عدد من الناس يزداد على مر الأيام؛ وأما الفكرة التي تقول إن إيمان العلم هو اعتقاد بأن العالم هو بالفعل عقلي في ذاته إلى درجة الكمال، فهي فكرة تسوغ خنوع الرضا أكثر منها فكرة تحث على العمل. لاحظنا أن المذاهب المثالية التي هي من النمط الذي فرغنا لتونا من تناوله، تصادف صعوبة كبيرة في تفسيرها لوجود العناصر الكيفية المدركة إدراكًا مباشرًا؛ فكل نظرية مستمدة — ولو من بعيد — من «كانت»، مضطرة إلى القول بأن «مقولات» الفكر الأولي «القبلي» تفعل فعلها على مادة حسية معطاة، لا قبل لنا إزاءها سوى أن نقبلها على أنها هي المادة المعطاة لنا؛ فكانت الصعوبة التي نشأت عن هذا الوضع، هي المصدر الذي جاء منه النمط الثالث من أنماط النظرية المثالية في المعرفة؛ وهذا النمط الثالث يقف وقفة ازدراء تجاه العمليات المجردة، التصورية منها والنظرية الذهنية؛ وبناءً على هذه الوجهة من النظر، يكون «المطلق» وهو «الكل غير المشروط بأي شرط» وهو موضوع المعرفة بمعناها الصحيح بمعايير المنطق، وهو الهدف الذي يقصد إليه الإنسان في تحصيله للمعرفة؛ أقول إن «المطلق» بناءً على هذه النظرية يكون هو التفسير الكامل والاندماج التام لعناصر الإدراكات المباشرة والتصورية والذهنية على السواء وما دام نقدنا الذي أوردناه عن مغالطة التوحد الشامل للعناصر كافة في العالم كله، يصدق أيضًا على هذه النظرية، فسنحصر مناقشتنا في الفكرة القائلة بتداخل ما هو مباشر من الفكر (وهو الذي يمثله ما نشعر به كما تمثله الصفات المحسَّة) وما هو علاقي منه تداخلًا يؤلف حكمًا. ولباب النقد الذي يوجهه هذا النمط من نظرية المعرفة المثالية إلى المثالية العقلية، إنما ينصب على الجانب العلاقي من جوانب الحكم باعتباره حكمًا؛ فبناءً على المثالية المطلقية، يكون كل تفكير نظري استنباطي، كما يكون كل حكم من حيث هو حكم، مشتملًا على عملية تنقض نفسها بنفسها؛ وذلك لأن الحكم يبدأ سيره على أساس العلاقات، مع أن كل علاقة تحدث تمييزًا بين الأشياء إلى جانب كونها تربط بينها؛ وعلى ذلك فالحكم — ما دام هو السبيل الوحيد الذي يستطيع أفراد الإنسان أن يسلكوه — فلا مندوحة عن وقوفه حائلًا يحول دون بلوغهم الهدف المنشود، وهو التوحد النهائي؛ وهكذا تراهم يقولون إن التفكير النظري الاستنباطي ينطوي على فرض سابق، وهو فرض خبرة تشمل كل ما في الوجود — خبرة مطلقة — لا يكون فيها من الفوارق ما يميز المدرك إدراكًا مباشرًا من المدرك بطريق الاستدلال؛ وهذه «الخبرة» لها طبيعة المشاعر الكيفية التي استوعبت استيعابًا كاملًا الخصائص العقلية والعلاقية في نفسها، حتى لتزول الأخيرة منهما فلا يصبح لها وجود؛ لكن المضمون المادي لهذا الكل النهائي (الذي هو «الحقيقة الكونية» دون سواه) هو فوق متناولنا بصورة حاسمة، ما دمنا نحن لا «نعرف» إلا عن طريق الحكم، والحكم نظري واستنباطي. إن المناقشات والنتائج التي وردت في هذا الفصل، موجَّهةٌ بنظرية نمط البحث التي بسطناها، فلا يمكن فهم تلك المناقشات والنتائج بمعزل من هذه النظرية؛ ولقد أوردناها لكي تزودنا بتأييد غير مباشر لوجهة النظر التي أخذنا بها في هذا الكتاب؛ ولن أكرر هنا ما قلته بحيث انتهيت به إلى نتيجة، هي أن الاهتمامات التي صبها كل مذهب على جانب واحد اختاره لنفسه دون سائر الجوانب التي تتكامل كلها في نمط البحث كما يقع بالفعل، خاطئة لأن مادتها منزوعة عن سياقها، وبهذا أصبحت مادتها إطارًا ذا بناء خاص، ولم تعد أدائية؛ أي إن مادتها قد أصبحت كونية بدل أن تكون منطقية؛ وإنه ليحق لنا أن نختم بخاتمة نشير بها إلى الإهمال التام، بل وإلى الإنكار التام لما يتصف به البحث من ظروف إجرائية ومن نتائج عملية؛ فالإجراءات والتقنيات كافة التي تقع أثناء البحث مما يؤدي إلى اعتقادات مستقرة، في مجال الإدراك الفطري وفي المجال العلمي على السواء، هي إجراءات عملية تنفذ فعلًا في الوجود الخارجي؛ أما الإجراءات التي تتم في مجال الإدراك الفطري فمقيدة بنطاق محدود، بسبب اعتمادها على عدد محدود من الأدوات الوسلية، ألا وهي أعضاء البدن مزودة بأجهزة وسلية كانت قد اخترعت لتحقق منافع عملية ومتعًا عملية، أكثر مما اخترعت لتخدم البحث في سيره؛ وحاصل هذه العمليات في النهاية، أعني العمليات التي توجه نحو غاية عملية، هو أن تضفي سلطانًا على مجموعة من أفكار أصبحت مألوفة في ثقافة معينة؛ ولكن العلم المنتج يبدأ حين تتكيف وتُصاغ الأدوات الوسلية المستخدمة في إجراءات البحث، على نحو يجعلها تخدم غرض البحث من حيث هو بحث فقط، بما يقتضيه ذلك من تطور لغة خاصة أو مجموعة من رموز. لقد نشأت نظريات المعرفة التي تؤلف ما يُسمَّى اليوم بمذاهب «الإبستمولوجيا»، لأن المعرفة وتحصيلها لم يفهما على أساس كونهما إجراءات عملية من شأنها — خلال متصل البحث الخِبْري — أن توصلنا إلى اعتقادات مستقرة تزداد مقدارًا واستعمالًا على مر الأيام؛ فلأن المعرفة وتحصيلها لم يُقاما على أساس الإجراءات العملية، ولم يُفهما على أساس ما يتبع فيهما من طرائق بحث فعلية وما يترتب عليهما من عواقب واقعية، فقد كان لا مندوحة لهما عن أن يُصاغا في صورة مدركات عقلية يسبق تكوينها قيام الإنسان بالبحث؛ وهي مدركات تُستمد من مصادر متعددة، أهمها عند النظرية القديمة هو مصدر النواميس الكونية، وأهمها عند النظرية الحديثة هو المصدر السيكولوجي (بمعنى مباشر أو غير مباشر)؛ وهكذا يفقد المنطق استقلاله الذاتي، وهي حقيقة يزيد معناها على مجرد أن يكون الكساح قد أصاب نظرية صورية؛ بل إن ما فقده المنطق معناه أن المنطق، باعتباره التفسير الذي يعمم الوسائل التي تؤدي بنا إلى الاعتقادات السليمة في أي موضوع كائنًا ما كان، كما أنها الوسائل التي تمكننا من اختبار سلامة تلك الاعتقادات، أقول إن ما فقده المنطق معناه أن المنطق قد انعزل عن العمليات الفعلية التي تؤدي بالناس في الواقع إلى أمثال هذه الاعتقادات السليمة وتأييدها؛ ولقد أدى قصورنا دون بناء منطق قائم — بصورة جامعة مانعة — على عمليات البحث الإجرائية، إلى نتائج ثقافية جسيمة، فهو يشجع القول الغامض، ويزيد من قبولنا للاعتقادات التي تكونت قبل أن تبلغ طرائق البحث ما قد بلغته في مرحلتها الراهنة، ويميل نحو أن يعهد بطرائق البحث العلمية (أعني الطرائق المنتجة) إلى مجال التخصص الفني؛ ولما كانت الطرائق العلمية لا تجاوز أن تكون هي الطرائق التي تعرض الذكاء الحر وهو يعمل عمله بأحسن صورة ممكنة في الزمن المعين، كان ما يصيب الثقافة من ضياع في الجهد ومن خلط وتشويه نتيجة قصورنا دون استخدام هذه الطرائق في شتى الميادين، وبالنسبة إلى شتى المشكلات، يفوق كل تقدير؛ وأن هذه الاعتبارات لتزيد من قوة الدعوى التي تنادي بها النظرية المنطقية، حين تكون هذه النظرية هي نظرية البحث، في أن تحتل ثم تحتفظ بمكانة لها الحظ الأول من الأهمية الإنسانية.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/0.3/
معجم المصطلحات
null
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/0.2/
إهداء
من أجل هَنَا، مع حبِّي، بينما تُطفئين شموع عيد ميلادك الثالث عشر.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/0.3/
شكر وتقدير
أتقدَّم بالامتنان الخالص المُحب إلى ريك وشيرلي؛ لكونهما ملاذي الآمن وسطَ كل عاصفة كبيرة؛ وميشيل، الداعِمة بالكُتُب والإنصات وفطائر البصل الأخضر؛ وشُون، القارئ الدائم والكاتب الدائم الذي لا يدعني أبدًا أنسى «التركيز على التفاصيل الصغيرة». وأتوجَّه بشكر خاص إلى لوري هورنيك، وريجينا كاستيو، وفريق التصميم في دايل/بوفين؛ وجميع الأشخاص الاستثنائيِّين في مجموعة بنجوين يانج ريدرز؛ وديبورا كوفاكس، ومايكل فلارتي، والمجموعة الرائعة في والدين ميديا؛ وبراندون دورمان لبراعته الفنية الفريدة وعواصف الألوان البديعة. كما أودُّ شكرَ سارة هيوز في بوفين بالمملكة المتَّحدة، وكلَّ المحررين الآخرين حول العالم الذين تلقَّوا الكتاب الذي بين يدك بالترحيب (ومايا نيكولش وإيلينا سانتوجادي في رايترز هاوس لمساعدتهما في وضع الكتاب بين يدي أولئك المحرِّرين)، بالإضافة إلى كاسي إيفاشيفسكي في جامعة تكساس في أرلينجتون لما أدَّته من عمل في ويست كوست. وأخيرًا، أتقدَّم بتقديري الحار وإعجابي الصريح لوكيل أعمالي دانيال لازار في رايترز هاوس الذي لا ينام أبدًا حسبما أعتقد، وأليشا نيهاوس التي تَعلم دائمًا متى تُمسك بيدي أو تدفعني دفعةً قوية؛ وذلك لخبرتهما المميزة الفائقة، ودعمهما الدائم، وروحهما الفكاهية.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/0.4/
أسوأ عيد ميلاد على الإطلاق
نظَر فيش إليَّ بترقُّب. كنتُ سأشرح له أهميةَ ذهابي، دون غيري، لإيقاظ أبي. الأمرُ في غاية البساطة؛ فهِبتي الخارقة تَكمُن في إيقاظ الكائنات الحية مثلما حدث لسلحفاة سامسون. أعلم أنَّ هِبتك الخارقة ليسَت شيئًا تستطيع الحصولَ عليه بمجرَّد رغبتك في وجوده، لكنَّني إذا تمكَّنت مِن بلوغ سالَينا، فسيُمكنني إثباتُ أن سُبل إيقاظ أبي موجودة بداخلي، وعلى استعداد للانطلاق مثل شرارات روكيت أو أمطار ورياح فيش. كنتُ على وشْك أن أُخبر أخي بكل هذا لولا أن ويل جونيور عثر علينا آنذاك. قال ويل مبتسمًا: «عيد ميلاد سعيد يا ميبس. ألن تأتيَ إلى الحفل؟» أجبتُه وأنا أحرِّر ذراعي بالقوة من قبضة فيش المُحكَمة: «أنا قادمة.» أطلق فيش سراحي، لكنه نظر إليَّ نظرةً ثاقبة، أكَّد فحواها بسقوط القليل من المطر من السُّحب فوق رءوسنا على نحوٍ عَشوائي مباغت. بادلت فيش النظرةَ الحادة نفسها. ثم ابتسمتُ لويل الابن ابتسامتي الخاصة، وتركتُه يَسحبني إلى الكنيسة، إلى خضمِّ الكارثة — حفل عيد ميلادي الثالث عشر — مُباشرة.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/1/
الفصل الأول
عندما بلغ أخي فيش الثالثة عشرة، انتقلنا إلى أعماق اليابسة بسبب الإعصار، وحقيقةَ أن أخي مَن أحدَثَه بطبيعة الحال. أحببت العيش في الجنوب، على حافة اليابسة، وبالقرب من الأمواج الدافعة الساحبة. عشِقتُ ذلك المكان أيما عشق؛ لذا كان تحوُّلنا عنه أمرًا قاسيًا كقسوة الرصيف الذي سقطتُ عليه للمرة الأولى من فوق دراجتي الوردية الثنائية العجلات، واحترقت يداي مثل النار من شدة الألم المُنبعِث من تحت الجلد. لكن كان واضحًا استحالةُ عيش فيش في مكانٍ مُتاخم أو محاذٍ أو مُجاوِر أو قريب أو داخل أو في أنحاء أي كُتَل مائية كبيرة. فقد كان للماء طرائقه الخاصة في تحفيز قُدرة أخي الخارقة وتحوُّل الطقس اليومي الطبيعي تحوُّلًا مخيفًا للأسوأ. ثارت عاصفةُ عيد ميلاد فيش بلا سابق إنذار على عكس الأعاصير الطبيعية. كان أخي يَنزِع ورق التغليف عن الهدايا في الفِناء الخلفي لمنزلنا القريب من الشاطئ؛ وفي الدقيقة التالية اصطبغ وجهه وسماء الظهيرة باللون الرمادي على نحوٍ مُخيف وغريب. وبينما تشبَّث أخي بحافة الطاولة، اشتدَّت الرياح من حوله وتسارعت وتيرتُها وانتزعتْ ورق الهدايا من يده وحلَّقت به عاليًا في السماء مع كل البالونات والشرائط الطويلة الرفيعة التي راحت تدور وتتفكَّك كحفل عيد ميلاد في خلاط. اهتزَّت الأشجار وانثنت بشدة، بصرير وطقطقة، وانقلعَت مِن مكانها وسقَطَت بسهولة كعيدان في رمال مُبتلَّة. رشقتنا حباتُ المطر، كحصوات يَقذفنا بها طفل شقي في ملعب أطفالٍ، في الوقت الذي تحطَّمت فيه النوافذُ وانخلعت الألواح من السطح. وبينما اشتدت العاصفة المصحوبة بإعصار، وتعالَت أمواج المحيط المُزبدة وتقلَّبَت آخذةً في صبِّ المياه الهائجة والحُطام على مسافة بعيدة من الشاطئ، أمسكت أمي وأبي بفيش وأحكما قبضتَيهما عليه، وركض بقيتُنا بحثًا عن مخبأ يحتمُون به. فهِمَت أمي وأبي ما كان يحدُث. كانا يتوقَّعان حدوث مِثل هذا الشيء، وأدركا أن عليهما تهدئةَ أخي ومساعدته في إنهاء العاصفة دون إحداث أذًى. كان الإعصار فريدًا من نوعه من حيث قِصَره حسب السجلات، لكن اعتزمت عائلتنا الرحيل، وانتقلت إلى عُمق اليابسة، وغاصت في قلبها تحديدًا، وتوقَّفت في أقربِ نقطة ممكنة لمركز الدولة، للحفاظ على سلامة المدن الساحلية من أخي فيش. فهناك استطاع فيش، نظرًا لعدم وجود كتلٍ مائية ضخمة تُذكي العواصف العاتية، أن يُحرِّك الرياح ويُنزِل الأمطار دون أن يتسبَّب في كمٍّ هائل من المصائب والدمار. أقمنا بين نبراسكا وكنساس مباشرة، في منزلنا الخاص، على مسافةٍ ليسَت ببعيدة من الطريق السريع ٨١، وليسَت بقريبةٍ من البيت المُجاوِر لنا، في موقع مثالي لعائلة مثل عائلتنا. ولم يكن يبدو من أقرب مدينة إلا هيكل ضبابي بعيد، في الطرف المقابل من الطريق الرئيسي، وكانت صغيرةً على أن تُختَص بمدرسة أو متجَر أو محطة وقود أو عمدة. أطلقنا على قطعتنا الرفيعة مِن الأرض «كنساسكا» من يوم الإثنين إلى الأربعاء. وسمَّيناها «نبرانساس» من الخميس إلى السبت. وتركناها بلا تسمية على الإطلاق يوم الأحد تبجيلًا لمن خلق عالَمنا دون تلك الخطوط المرسومة على وجهِه كتجاعيد جَدِّي. ولولا جَدي العجوز بومبا ما وُجدت كنساسكا-نبرانساس لنعيش فيها. فعندما لم يكن جَدِّي سوى فتًى مُراهق غرٍّ يُطفئ شموعَ عيد مولده الثالث عشر الذائبة فوق كعكة مائلة، أخذته هِبَتُه الخارقة من مَجامِعه على حين غرَّة — كما حدث لفيش ذلك اليوم في حفلة عيد ميلاده بالفناء الخلفي وما نجم عن ذلك من إعصار — ومِن ثم ظهرت ولاية أيداهو كلها. على الأقل هكذا كان يَحكي جَدي بومبا القصة على أيِّ حال دائمًا. كان يقول: «قبل أن أبلغَ الثالثة عشرة، كانت مونتانا تَلتصِق بواشنطن على نحو مباشر، وكانت وايومينج وأوريجون تتشاركان في حدودٍ آمِنة هادئة.» وعلى مدار السنوات كبُرت حكاية عيد ميلاد جَدي الثالث عشر، مثل الأراضي التي كان يستطيع نقلَها وبسطها، واكتفَت أمي بهز رأسها والابتسام في كل مرة يتحدَّث فيها على نحوٍ مُبالغ. لكن في الحقيقة، هذا الفتى الصغير الذي شبَّ وطعن في السن مثلما يُعتَّق النبيذُ وتَشيخ الأرض شكَّل أماكنَ جديدة متى أراد وأينما رغب. وكانت هذه هي هِبتَه الخارقة. لم تظهر هِبتي الخارقة بعدُ. لكن لم يتبقَّ سوى يومَين على شموع عيد ميلادي الثلاث عشرة الذائبة وإن كانت كعكة أمي لا تَميل إلى الجانب أو إلى المُنتصَف أبدًا. فكعكات أمي مثالية، مثلها تمامًا، وهنا تَكمُن هِبَتُها الخارقة. كانت أمي مثالية. وكلُّ ما تصنعُه مثاليًّا. وكل ما تَفعله مثاليًّا. ولو أفسدت الأمر، فإنها تُفسده بصورة مثالية. في كثير من الأحيان تصوَّرتُ ما ستكون عليه هِبَتي الخارقة. تخيَّلت نفسي وأنا أطفئ شموع كعكتي أخمِد النيران في مداخن أربع مُقاطعات. أو تخيَّلت وأنا أسرُّ أمنيةَ عيد ميلادي في نفسي — وأنفخ وجنتي عن آخرهما بالهواء — أن أُحلِّق نحو السقف مثل بالون عيد ميلادي السعيد تمامًا. قلتُ لأخي روكيت: «ستكون هِبَتي رائعة. أنا واثقة من ذلك.» أجاب روكيت، وهو يُمرِّر يدَه في كتلة شعره الأشعث الكثيف الداكن فحدثَت طقطقة بفعل الكهرباء الساكنة: «الفتيات لا يَحصُلن على الهِبَات الفذَّة. الفتيات لا يَحظين إلا بالهِبَات المهذَّبة الهادئة أو الطيبة الودود وما شابه من الهِبَات المُملَّة. وحدَهم الفتيان هم مَن يفوزون بالهِبَات القوية.» عبستُ في وجه روكيت وأخرجتُ لساني استهزاءً به. فكلانا يعلم أن هناك فتياتٍ كثيرات من بداية شجرة العائلة إلى نهايتها يتمتَّعن بهِبَات قوية وشديدة مثل جول أخت جَدِّي التي يُمكنها الرجوع بالزمن إلى الوراء عشرين دقيقة كلَّما عطست؛ أو ابنة العم أوليف التي يُمكنها إذابةُ الثلج بنظرة حادَّة حارقة. كان روكيت في السابعة عشرة ومُفعمًا بالتفاهات غيرِ المسموح لي بالتفوُّه بها حتى أتقدمَ كثيرًا في العمر. لكنه كهربائي قلبًا وقالبًا، ممَّا جعله مُعتزًّا بنفسِه. وعلى سبيل التسلية كان روكيت يوقِف شَعر رأسي كما لو كان قد فرَكه ببالون أو يضرب فيش بصعقة كهربية عابثة من الجانب الآخر من الغرفة. ورغم ذلك كان روكيت يستطيع الحفاظَ على بقاء الأضواء مُشتعلةً عند انقطاع الكهرباء، الأمر الذي سرَّ عائلتي بلا شك، خاصة صغارَ عائلة بومونت. كان روكيت أكبرَنا سنًّا، يَليه فيش، ثم أنا. ويَفصِل بيني وبين فيش سنة واحدة فحسب؛ ومن ثَم تشاركنا الطولَ نفسه تقريبًا، وتشابهنا في الكثير من الملامح، وفي لون الشعر الذي يُشبه لون الرمل والقش مثل أمِّنا. لكن بينما ورِثتُ عن أبي عينَيه العسليتَين، ورِث فيش عن أمي عينَيها الزرقاوين كالمُحيط. كان الأمر كأننا أخذنا جزءًا صغيرًا من أمي، أو جزءًا صغيرًا من أبي وصنعنا الباقي بأنفسنا. لم أكن أصغرَ أفراد عائلتنا سنًّا أو حجمًا؛ فقد كان سامسون الكئيب الداكن الغامض في السابعة من عمره، وجيبسي ذات الوجه الذي يُشبه الدُّمى في الثالثة من عمرها. كانت جيبسي مَن بدأت مُناداتي بميبس، عندما عجز لسانها الطفولي الجذَّاب عن نُطقِ اسمي الكامل ميسيسيبي. لكن أسعفني هذا اللقب. فقد لاحقني ذلك الاسم في الأرجاء كسُحب فيش الكثيفة المُنذِرة بالعواصف. ••• سيطرت اللهفة والحماسة الملازمتان لصخب عيد الميلاد على مَشاعري، يوم الخميس السابق للجمعة، والجمعة السابقة للسبت، الموافق عيد ميلادي الثالث عشر. جلست على طاولة العَشاء بجوار مَقعد أبي الفارغ وصَحْنه الجاهز، ولم ألمَس طعامي تقريبًا. وفي الطرف المقابل جلست جيبسي تُثرثر بلا توقُّف، تُحصي الكائنات التي تخيلت رؤيتها في الغرفة وتتوسَّل إليَّ لأساعدها في تسميتها. دفعتُ الطعام في أرجاء صَحني، متجاهلةً شقيقتي ومستغرقة في أحلام اليقظة حولَ ما سيَحدُث عندما أحصُل على هِبَتي الفريدة، وفجأةً رنَّ الهاتف وسط اللحم المطبوخ في المرق والبطاطس المهروسة والفاصوليا الخضراء غير المحبوبة كثيرًا. نهضت أمي للردِّ على الهاتف، فاغتنمنا وجَدِّي بومبا الفُرصة لإلقاء البطاطس المهروسة فوق الفاصوليا، مِن وراء ظهرها. ودسَّ سامسون بعضًا من الفاصوليا في جيوبِه لإعطائها إلى سلحفاته الأليفة الميتة رغم تنبيهات أمي المتكرِّرة ألا يُعطيَها أيًّا من طعامنا الطيب لأنها ميتة بالفعل، وسيتعفَّن الطعام فحسب. لكن سامسون كان على ثقةٍ حزينة من أن سُلحفاته في بيات شتوي لا أكثر؛ ومن ثَم حالت رأفة أمي به دون إلقائها خارج المنزل. كنا نتبادل الابتسامات حول طاولة المطبخ بشأن تصرُّفنا الذكي مع الفاصوليا عندما أسقطت أمي سماعةَ الهاتف مُصدِرة صوتًا مُجلجلًا وأطلقت تنهيدةً حارة واحدة تنمُّ عن حزن عارم. انهارت أمي على أرضية المطبخ، وبدت للجميع كما لو أنها تَخترق بعينَيها المشمَّع المربع التصميم ذي اللونين الأزرق والبُني، كي تتطلَّع إلى اللبِّ المكوَّن من الحمم البركانية المُشتعلة في مركز الأرض مُباشرة. وقالت بصوتٍ مُختنِق بينما انقبضت ملامحها المثالية وانبسطت: «إنه بابا.» هبَّت زوبعة من ناحية فيش من المائدة بعثَرَت شعرنا وطيَّرت مناديل المائدة الورقية على الأرضية بصورة فوضوية. وازدادت أجواء الغرفة دفئًا ورطوبة كما لو أن المنزل نفسه يتصبَّب عَرقًا كريهَ الرائحة من قلقِه، وجلجلت الأوعية الفارغة المُحْكمة الغلق المغبرَّة المُصطفَّة فوق الخزانات وصلصلت مثل مئات الكئوس التي تُقرَع لشرب نَخْب. كانت السماء تمطر بالخارج بسبب فيش، وتحوَّل المطر في غُضون ثوانٍ من مجرَّد مطر خفيف إلى زخَّات غزيرة، وفيش يحملق بعينين متسعتين وفمٍ فاغِر كاشفًا عن أسنانه، بينما يُحاول السيطرة على خوفه لكنه عجز عن تخفيف وقع هِبَته الخارقة. تجرَّأ روكيت على النُّطق: «أمي؟» طقطق الهواء من حوله بفعل الكهرباء الساكنة والتصقَ قميصه بجسدِه كالتصاق الجوارب بالمناشِف بعد خروجها من المجفِّف مباشرة. وومضت المصابيح في المنزل ومضاتٍ مُتتابعة، وافرنقعت الشرارات الزرقاء وطقطقت عند أطراف أصابعه المتشنِّجة المُتوترة. نظرت أمي إلى مَقعد أبي الفارغ وصَحنه الجاهز ثم استدارت إلينا بفمٍ مُرتجف وأخبرتنا عن الحادثة التي وقعت على الطريق السريع. وحكَت لنا كيف تحطَّمت السيارة بشدة كعُلبة مياه غازية تحت حذاء راعي بقر، وكيف ذهب ولم يتمكَّن من الفِرار قبل وقوع ذلك، وكانت النتيجة أنْ رقد بمَشفى «هوب» في سالَينا وتمدَّد على السرير مُكسرًا في غيبوبة لا يستطيع الاستيقاظ منها. قال جَدي لأمي في مواساة، كأن الزمن عاد بهما إلى الوراء؛ حيث لا تزال أمي طفلةً صغيرة تجلس على رُكبة جَدِّي وتبكي دميتها المحطَّمة: «لا تقلقي يا طفلتي. أولئك الأطباء مُتمرِّسون في عملهم. وسيداوون رفيقك في غمضة عين. وسيُعيدون الأمور إلى نِصابها.» كانت نَبرة جَدي حانية ومُطمئنة. لكن بينما أضاءت الومضات المُتتابعة لشرارات روكيت المتوتِّرة وجهَ جَدِّي رأيت القلق محفورًا في كل تجاعيده. شعرتُ بالكراهية تجاه أبي لجزء بسيط من الثانية. كرهته لأنه كان يعمل في مكانٍ بعيد جدًّا عن المنزل ويُضطرُّ إلى أن يسلكَ الطريقَ السريع كل يوم. وكرهتُه لتعرُّضه لتلك الحادثة وإفسادِه للحم المطبوخ في المرق. خاصة أني أدركت أن كعكتي المثالية المزينة بعجينة السُّكر الصفراء والوردية لن تعودَ، فكرهتُ أبي لتحطيمه أهمَّ عيد ميلاد في حياتي حتى قبل أن يَحين موعدُه. ثمَّ غشَّاني خزيٌ حارق لمجرَّد أني فكَّرت على هذا النحو في أبي العزيز الطيب، وغُصت في مَقعدي. وللتكفير عن هذه المشاعر الأنانية، جلست بهدوء وتناولتُ كلَّ حبات الفاصوليا الخضراء البغيضة حتى آخر حبة من تحت البطاطس المهروسة بينما ارتطمَت أمطار فيش بالنوافذ وتسبَّب روكيت في انفجار كل مصابيح المنزل بصَعقة كهربائية في الأسلاك المشحونة فتهشَّمت بفَرقعة وتطايرت شظاياها الزجاجية على الأرضية بجلجلة وغرِق المنزل في ظلام دامس.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/2/
الفصل الثاني
بقيتُ مُستيقظة في سريري، إلى وقتٍ مُتأخِّر من تلك الليلة، في غرفة النوم المُظلِمة التي أقتسمُها مع جيبسي ورُحت أُنصِت إلى أنفاسها المُنتظِمة والنَّقرات المُتواصِلة لأمطار فيش القَلِقة. وتناهى إلى مسامعي حركة أمي وروكيت في أنحاء الطابق السُّفلي وهما يكنُسان الزجاج ويستبدلان المصابيح. كان جَدِّي قد ذهب إلى سريره أيضًا إلا أن الأرض ظلَّت تُقعقِع من حينٍ لآخَر وأرضية الغُرفة تهتزُّ كأنَّ باطن الأرض يُعاني ألمًا في المعِدة. كان من المقرَّر أن يذهبَ روكيت وأمي إلى سالَيْنا في الصباح الباكر ويَمكُثا بنُزلٍ بالقرب من المشفى. توسَّلت إليهما كي يَصحباني معهما، وناشدتهما أن يَسمحا لي برؤية أبي والإقامة في النُّزل والحصول على بعض مِن قِطَع الصابون المَلفوفة في ورق. لكن كان لا بدَّ من بقاء بقيتنا في المنزل مع جدِّي. وتحتَّم ذهاب روكيت لأنه لا يُمكن تشغيل سيارتنا العائلية القديمة إلا بلمستِه الكهربائية. لم يَقُل أحدٌ شيئًا بخصوص عيد ميلادي. ولم يَقُل أحدٌ شيئًا عن أي شيء. وبتُّ مستيقظةً أكثرَ الليل عاجزةً عن النوم، حتى تسلَّلت أمي على أطراف أصابعها إلى الغُرفة مع طُلوع الفجر، كي تودعَني هامسةً وتُقبِّل وجنتي قُبلة خفيفة بشفتَيها الورديتين المثاليتَين. ولأنَّني كنتُ لا أزال مُستاءة من عدم السماح لي بالذهاب معها ومع روكيت إلى سالَينا، تظاهرت بالنوم، وبُعَيد ذلك سمعتُ صوت صفق أبواب السيارة، وانطلاق محرِّكها بشرارة روكيت، وهما يرحلان بعيدًا عن المنزل. في يوم الجمعة السابق ليوم عيد ميلادي تولَّى فيش مسئوليةَ الاعتناء بجيبسي وجَدي بومبا. ووقع على عاتقي مسئولية إيقاظ سامسون وتجهيزه للذَّهاب إلى المدرسة والتأكُّد من صعودنا الدرجات الثلاث الشديدة الارتفاع للحافلة البرتقالية الكبيرة التي ستَحملُني وسامسون مسافةَ ١٥ ميلًا إلى المدرسة في هيبرون بنبراسكا. اضطُررتُ إلى وكز سامسون الكئيب ونكزه إلى الطريق الموحل الطويل باتجاه صندوقنا البريدي الذي سقَط أثناء الليل، بعد أن دفعَتْه قعقعةُ جَدِّي القَلِقة مسافة عشرة أقدام غربًا. لم يتحدَّث سامسون كثيرًا ونحن ننتظر الحافلة، ولكن هذا ليس مستغربًا منه؛ فهو لم يكن يومًا كثيرَ الكلام. وفي كل يوم عندما نصعد إلى الحافلة تقول أشلي بينج: «إنها ميسي-بيسي وسُحُبها المنذرة بالعواصف.» وكل يوم تُكرِّر إيما فلينت وراءها: «ميسي-بيسي!» وهي تَضحك ضحكةً مُزدرية، وكأنها تَسمع دعابةً مُضحِكة وجديدة في كل مرة. وعلِم الأطفال في مدرستنا منذ اليوم الأول أن اسمي الحقيقي هو مسيسيبي، وهذا مِن سوء الحظ؛ لأنَّ أفراد عائلة بومونت يَحصلون على ما يكفيهم من الهمسات والقهقهات الساخرة بطبيعة الحال. ودارت الشائعات حولنا بقوة وسمِعْتُها كلها: «انظروا، إنهم الأطفال الغريبو الأطوار. قالت أمي إنَّ سبب انتقالهم الاضطراري إلى هنا هو وقوع أحدهم بورطة كبيرة.» «سمِعتُ أن أخاهم الأكبر قد صعَقَه البرق، وصار خطِرًا، ونادرًا ما يُغادر المنزل.» «لا بد أن تعيش هذه العائلة في سفينة نجاة. إذ تهُبُّ العواصف عند بيتهم بصفة مُستمرة، وفي يومٍ ما سيَنجرفون للأبد.» أُدرك أنني بعدما أطفئ شموع عيد ميلادي الثالث عشر الذائبة، فهذا يَعني إلقاءَ تحية الوداع على مدرسة هيبرون الإعدادية، ومعها أشلي بينج وإيما فلينت ومَن شابَههما. وسيَصير سامسون الكئيب المسكين خيالًا وحيدًا في المَقعد الخَلفي للحافلة البرتقالية الكبيرة، وأنا سأَزرع الطحالب في أوعية المُخلل بالمنزل مع فيش وروكيت. لم يكن مِن السَّهل على أطفال عائلة بومونت اتِّخاذ أصدقاءَ لهم والمحافَظة على هذه الصداقة. فلم يكن آمنًا دعوةُ أحد إلى المنزل، وفيش وروكيت لا يَزالان يتعلمان كيفيةَ تخفيف وقْع هِبتِهما الخارقة؛ كما لا يمكننا المخاطرةُ بأن يكشفَ أحدٌ سرَّنا أو يتعرض للأذى بالشرارات أو العواصف إن فقد شقيقاي السيطرة. وقد تستغرق الهِبَة الخارقة سنوات لترويضها، مثل أشياء كثيرة أخرى، بالإضافة إلى أن تقلُّبات النُّضج لا تزيد إلا من صعوبة التحدي حسبما قال أبي وأمي. ••• التفتَ الجميع في مقاعدهم يَنظرون إليَّ. ولم يَبتسِم لي أحد أو يتمنَّى أمنية حارة من أي نوع. واكتفى أغلب الأطفال بهزِّ أكتافِهم ثم عادُوا يَنظرون إلى الأمام مرةً أخرى. قالت أشلي كأنها تتحدَّث إلى طفلٍ رضيع، واستخدمت نَبرةً خافتة حتى لا تَسمعها المدرِّسة: «ستمكث ميسي-بيسي في المنزل مع أمها.» وكرَّرت إيما وراءها: «مع أمها.» قالت أشلي بسخرية: «ستَمكث بالمنزل حتى لا يرى أحدٌ كم هي غريبة الأطوار ووحيدة.» قلَّدتها إيما مثل ببغاء بغيض: «كم هي غريبة الأطوار.» كان من مَصلحة أشلي وإيما أن أمي تُبقينا بالمنزل فورَ أن نحظى بهِبتِنا الخارقة. كنتُ آمُل على أي حال أن تَمنحني هِبَتي الخارقة القدرةَ على تحويل الفتيات البغيضات إلى ضَفادع خضراء لزجة أو على لصق شفاههنَّ بإحكام بإيماءة مِن رأسي. عُدتُ وسامسون إلى البيت في فترةِ ما بعد الظهيرة، ووجدنا شاحنةً ذهبية صغيرة لامعة واقفة أمام منزلنا، يتولَّى فيش تنظيفَها بخرطوم الحديقة بغضب. وما إن رأيتُ مُعطِّر الجو المتدلي من نافذة الشاحنة الأمامية على شكل ملاكٍ مُبتسِم، تعرَّفت على الشاحنة على الفور. إنها شاحنة زوجة الواعظ، السيدة روزماري. كانت أمي تجبر العائلةَ كلها على الذهاب إلى كنيسة هيبرون يوم الأحد من كل أسبوع رغم المخاوف من الكوارث التي قد تُحدِثها هِباتُنا الخارقة؛ لذا كنا نَعرف السيدة روزماري جيدًا. كانت رائحتها شبيهةً بمُعقِّم الليزول وحلوى البترسكوتش، لديها منظومتان منسجمتان للصواب والخطأ — كالحقائب التي تُجبِر الآخرين على حملِها — وقد أخذَت على عاتقها أن تَظهر جميعُ الأشياء والأشخاص بمَظهر لائق مثالي كما أراد الربُّ في اعتقادِها. وبطريقةٍ ما، وصلت إلى زوجة الواعظ أنباءُ حادثة أبي وبقاء بقيتِنا في المنزل بمُفردنا بلا أم. لذا تراءى لها القدوم لتضعَ الأمور في نِصابها. تحرَّك الماء من الخرطوم في يد فيش، ودار حول الشاحنة مثل إعصارٍ وشيك أثارَه مزاجه المُتعكِّر. وانثنَت وتأرجَحَت الأشجار المُجاوِرة للمنزل التي استَحال لونُها إلى الأصفر الضارب للخُضرة الزاهية بحُلول الربيع المُورِق. خفَض فيش خُرطومه عندما رأى قُدومنا بوجهٍ مُكفهرٍّ غاضِب. وقال: «يُستحسَن أن تتسلَّلا إلى المنزل من الخلف وإلا ستَندمان.» وأشار برأسه إلى المنزل. وقفنا جميعًا ونظرنا إلى منزلنا الجميل بحزن، كأننا اكتشفنا للتوِّ اقتحامَ دبٍّ أمريكي ضخم لمنزلنا أثناء غيابنا، وأنه باشرَ إفراغ الأثاث من الحشو وتمزيقَ كل الصور الجدارية والْتهام جميع حلوى المارشميلو الصغيرة الخاصَّة بالمناسَبات من أعلى الرف فوق الثلاجة. ابتسم فيش ابتسامتَه الجانبية، كانفراج الطقس السيئ، ورشَّ بالخرطوم تجاهي مازحًا. وقال: «هذا يومُكِ الأخير بالمدرسة، أليس كذلك يا ميبس؟» قلتُ وأنا أتفادى مياهَ الخرطوم: «اليوم الأخير.» تركنا فيش لينتهي مِن مُهمَّته، وتسللتْ وسامسون بهدوء إلى المنزل عبْر الباب الخلفي، آملين أن نصعد الدَّرج قبل أن تنتبه السيدة روزماري لوصولنا. قالت السيدة روزماري لحظةَ دخولنا إلى المطبخ: «بدا جَدُّكما متعبًا، فجعلته يستلقي في غرفته، لينال قسطًا من الراحة.» كانت تجلس عاليًا، تُمسك بزجاجةِ رشٍّ بإحدى يدَيها المُغطاة بقفاز مطاطي، وخِرقة بيدها الأخرى، وكلتاهما في وضعيةِ الاستعداد. وكانت تَتناول الأوعيةَ من فوق الخزانات، فتُزيل الغبارَ عنها باختلاجة في أنفها وتتفرَّس ملصقاتها الباهتة. راقبتها وأنا أحبسُ أنفاسي آملةً أنها لم تفتح أيًّا منها. فليس مسموحًا لأحدٍ خارجَ العائلة أن يلمُس هذه الأوعية على الإطلاق. تابعت السيدة روزماري: «وجيبسي أيضًا نائمة؛ لذا أتوقَّع منكما أن تَبقيا هادئين وألا تُوقظاها.» قلتُ وسامسون الذي اكتفى بتحريكِ شفتَيه فحسب: «بالطبع يا سيدة روزماري.» قالت السيدة روزماري وهي تُزيل غبارَ الوعاء الأخير بحركةٍ مسرحية: «كان من المفروض أن تتَّصل بي أمُّكما فورَ أن عرَفَتْ بما حدث لأبيكما المسكين.» شعرتْ بالرضا من عملها، فألصقتْ كلًّا من زجاجة الرش والخرقة بصَدرها وأغلقتْ عينيها، كأنها تدعو الرب ليمنحها القوةَ التي تُعينها على تنظيف العالم الواسع بأَسرِه. وعندما فتحتْ عينَيها من جديد، نظرت إلينا بصرامة وجدِّية. وتنهَّدتْ قائلة: «كان يَنبغي أن أحضرَ إلى هنا في وقتٍ أبكرَ. فالأطفال يَحتاجون إلى وجود أمٍّ في المنزل.»
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/3/
الفصل الثالث
كنتُ أعلم أنَّ السيدة روزماري ليست بديلًا مُناسبًا لأمي المثالية. شعرتُ بذلك أسفل مِعدتي، وعلمتُه مِن أطراف أصابع قدمي. وغَشَّاني شُعور بالغثيان والسيدة روزماري تُشير بزجاجة الرش لحثِّنا على الذهاب إلى الصالة في الطرَف المقابل للدَّرج وقالت: «أحضرتُ روبرتا وويل الابن معي لمرافقتكما في فترةِ ما بعد الظهيرة. لمَ لا تَبحثان عنهما؟ بوسعكما مشاهدة التلفاز. لكن بهدوء.» تمتمت: «أجلْ سيدتي»، رغم أننا لم نكن نملِك تلفازًا؛ إذ مع وجود روكيت في المنزل قرَّر أبي وأمي عدمَ شراء أي أجهزة كهربية غالية الثمن حتى يتأكَّدا تمامًا من قدرته على تجنُّب تدميرها بطريق الخطأ. تلهفتُ وسامسون لمغادرة المطبخ، لا للبحث عن صغار السيدة روزماري روبرتا وويل الابن. كان للقسِّ وزوجته أبناءٌ ثلاثة، أكبرهم في الثلاثين من عمره، ويعمل شرطيًّا في مدينة توبيكا. ولم يتحدَّث أحدٌ كثيرًا عنه. كانت روبرتا — التي يُناديها الجميع ﺑ «بوبي» باستثناء أمِّها — في السادسة عشرة، وربما لم تأتِ في ذاك الوقت من الظهيرة إلا لأنَّها تأمُل في رؤية روكيت بالمنزل. وكان روكيت، في رأيي، ذاك النوعَ مِن فِتيان السابعة عشرة الذي تُحبُّ فتياتُ السادسة عشرة التصرُّف بسخافة وغباء أمامه حتى ولو بدا دائمًا كأنه أدخل إصبعَه في مَقبِس إنارة. كانت بوبي تقول بينما نَدخل الغرفة: «هذا مُمل. لا أُصدِّق أننا اضطُررنا إلى القدوم إلى هُنا.» لم يأتِ ويل الابن وبوبي إلى منزلنا من قبل، وكانا مُنشغلَين بالتنقيب والتلصُّص والتطفُّل. انشغلت بوبي بتصفُّح كومة من رسومات أمي المُكتمِلة جزئيًّا، وانهمك ويل الابن في نكزِ سلحفاةِ سامسون الأليفة بأحد مُكعَّبات جيبسي الخشبية، حيث قبَعت داخل حوض زجاجي مُنكمِشة في قوقعتها بلا حَراك. قال ويل: «اصمتي يا بوبي. فوالدهم يقبَع في المشفى. أظهري بعضَ الشفقة.» قلتُ دون عواطف، مفاجئًا ويل وبوبي، اللذين لم ينتبِها لدخولنا إلى الغرفة: «لا نحتاج إلى شفقتكما. نحن على ما يُرام.» التفتت بوبي لتنظرَ إليَّ أنا وسامسون كأننا دخلنا الغرفةَ دون إذن. ثم تنهَّدت تنهيدةً طويلة بدا أنها تدرَّبت عليها كثيرًا كمُراهِقة، وأدارت عينَيها في مَحْجِرَيهما، ونفَخَت فقاعة وردية كبيرة بعلكتِها، وألقت نفسَها على الأريكة بهمهَمةٍ ضَجِرة. انحنَت إلى الوراء، وهي تُغلِق عينَيها وتَضع إحدى يدَيها على جَبهتها بشكلٍ درامي، وقالت مُتذمِّرة: «ألا يُوجد ما نفعله في هذا المنزل؟» لاحظتُ أن بوبي تستخدم ظلًّا لامعًا للعيون وأنها قد ثقبتْ حاجبَها الأيمن. برَقَ قرطٌ ذهبيٌّ صغير بريقًا لا يكاد يُرى من تحت شَعر ناصيتِها الطويل، وتعجَّبتُ كيف سمحتِ السيدة روزماري لها بأن تَفعل ذلك. قال ويل، وهو يَرمُق بوبي بنَظرةِ غضبٍ، تحوَّلت إلى نظرةٍ حانية عندما نظر إليَّ وسامسون: «تجاهَلاها فحسب.» كان ويل مثلَ فيش، في الرابعة عشرة، إلا أنه كان يفوقه طولًا، وعلى النقيض من أخي، كان يُحافظ على شَعره البني المجعَّد مُهندمًا. شَعرت بالفضول تجاه ويل دائمًا. سمِعته ذات مرَّة يقول إنه يُريد أن يَصيرَ مثلَ والده عندما يَكبُر. وبينما تجاهل الآخرون عائلة بومونت في الكنيسة، بدا ويل كأنه يَقتفي أثرنا أو يُراقبنا في الوقت الذي كان يفترض فيه أن يتلوَ صلواته. بل إنه ذات مرة أعطاني كوبَ العصير الخاص به عندما احتشد الحاضرُون حول طاولة المَشروبات حتى إنني لم أَستطِع شقَّ طريقي بينهم. ولكن على الرغم من أن ويل الابن وفيش كانا في العمر نفسِه، ولم يكن لدى فيش أيُّ أصدقاء، فإنَّ أخي لم يحبَّ ويل قط، ظنًّا منه أنه ليس أكثرَ من فتًى يُنصِّب نفسَه واعظًا على الآخرين. أما أنا، فرأيته فتًى لطيفًا، وإن كان مُتزمِّتًا بعضَ الشيء في مظهره. عاد ويل يَنظر إلى الحوض الزجاجي. وسأل: «هل السلحفاة حية أم …؟» لكنه ألجمَ نفسه قبل أن يقول «ميتة»، وأطرقَ مُعتذِرًا. أفلت سامسون يدي، وانساب كالظل عبْر الغرفة كي يُخرِج سلحفاته من الحوض ويُبعِدها عن معاينة ويل الفضولية. ثم تسلَّل من الغرفة بحيوانه الأليف الفاقد الحياة، بعد أن نظر إلى الفتى الكبير نظرةً طويلة ثابتة، كي يَختبئَ بمكانٍ ما، مثل عُثَّة رمادية مُغبرة. كنت أعلم أنه سيظهر لاحقًا خلف باب أو تحت سريره أو أسفل كومة غسيل. وضع ويل المكعب الخشبي ومسح يدَيه في سرواله، والتفت لينظرَ إليَّ، مُحاكيًا بنجاحٍ الاهتمامَ البالغ الذي يُوليه الواعِظُون لرعيتِهم. وقال بجِدِّية لا تَحتمِل الهَزْل: «أتمنَّى للسيد بومونت شفاءً عاجلًا. جميعنا ندعو لوالدك.» هززتُ كتفي في توتُّر وأجبتُ: «حسنًا.» لم أكن أُعارض الدعاء؛ فقد دعوت الربَّ في كل ليلة حتى تظهر هِبَتي الخارقةُ وتكون الأفضل على الإطلاق. ودعوته كي يَمنحني القوة التي تُمكنني من الطيران أو إطلاق الليزر من عيني. كما دعوته من أجل جَدِّي بومبا وجيبسي عندما أُصيبت الأخيرة بالخُناق. كلُّ ما في الأمر هو أنني لم يَخطُر ببالي الدعاء لأبي، وشعرت بالأنانية مرةً أخرى، وغشَّاني شعورٌ بالخِزي والسوء، وشعرت أنني أستحق «سقوط» منزل فوقي، فلا يُرى مني شيء سوى قدمي؛ لهذه الدرجة شعرت بالسوء. عَبَر ويل الابن الغرفةَ، ووضع إحدى يدَيه على كتفي، بطريقة غريبة لائقة بالبالغين، وانحنى للأمام مائلًا برأسه كما لو كان يبحث عن الدموع في عيني. وقال كما لو أن ذلك سيُصلح كلَّ شيء: «لقد جلبَت أمي لكم رغيف لحم.» تراجعت للخلف غير مُتأكِّدة من رغبتي بالوقوف بالقرب من ويل إلى هذه الدرجة حتى وإن كان يتصرَّف بلُطفٍ فحسب. كنتُ أعلم أن رغيف اللحم شيءٌ رائعٌ، خاصَّة مع صلصة الطماطم وشرائح البصل الرقيقة، إلا أنه لن يكون كذلك الليلة، بالنسبة إلى عائلة بومونت.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/4/
الفصل الرابع
قالت السيدة روزماري بنظرةٍ جانبية خاطفة، نقلَتْها من جيبسي إليَّ، بينما انهمكتْ في تقطيع شريحة من رغيف اللحم ووضعِها في صحن جَدِّي بومبا: «لقد أخبرَتْني العُصفورة أن الغد هو عيد ميلاد شخصٍ ما.» ابتسمَت زوجة الواعظ وهي تَنظر إلى رغيف اللحم بشرائح البصل السميكة الضخمة التعيسة والطبقة الرقيقة الجافة من صلصة الطماطم. راقبتُ السكِّين وهو يقطع شريحةً أخرى من رغيف اللحم وتظاهرت أنني لم أسمع شيئًا مما قالته. كان الجلوس إلى المائدة كالجلوس في حلَّة بخار، والفضل في ذلك لفيش؛ إذ صار جوُّ الغرفة ساخنًا ومشحونًا. وحدَها جيبسي مَن تفاعلَت مع السيدة روزماري؛ لأنَّها كانت في الثالثة من عمرها ولا تعرِف بعْدُ ما يَعرفه باقي عائلة بومونت عن الأسرار؛ كالاحتياج إليها أو امتلاكها أو المحافظة عليها. صفَّقت جيبسي بيديها الصغيرتين ولمعت عيناها واتَّقدت حماسةً ترقُّبًا للبالونات وعجينة السكر. تابَعَتِ السيدة روزماري، غيرَ مُنتبهة على ما يبدو للجوِّ المشحون والتوتُّر: «ظننت أن حفلة عيد ميلاد قد تساعد في إضفاء القليل من البهجة على الجميع.» وتطلَّعت إلى الوجوه المُحيطة بالمائدة واحدًا تلو الآخر. حدَّق فيش إلى المِمْلَحة والمِبْهَرة الموضوعتَين أمامه، والمصنوعتين من الكريستال الفاخر، اللتَين لم تَستخدمهما أمي قط، بل احتفظَت بهما عاليًا في خزانة الصحون الممنوع لمسُها وإلا فالويل لك. وفهمت أنه يُحاول كبْحَ جِماح هِبَته الخارقة. لكنه كان يشعر بالإجهاد، وبدأ يتصبَّب عَرقًا وبدا مُتألمًا شاحبًا بائسًا. سألت بوبي وهي تَحشر شوكةً مليئة من رغيف اللحم في فمها وتُقلِّب عينَيها في مَحْجِرَيهما كأنها ممسوسة أو تُعاني نوبةً ما: «ليس هناك داعٍ لحضوري، أليس كذلك يا أمي؟» تمنَّى جزءٌ مني أن تَثبُت عيناها على تلك الحال، مثلما يقولون إنه يُمكن أن يحدُث. ردَّت السيدة روزماري: «أجل، يا روبرتا، سنحضُر جميعًا.» قلَّدت بوبي بفمهما المليء برغيف اللحم صوتَ أمِّها على نحو مثالي مُخيف: «أجل، يا روبرتا، سنَحضُر جميعًا.» أطلقت السيدة روزماري نظرةً نارية إلى بوبي، انطفأت في ابتسامة اعتذارية، عندما حوَّلتها إليَّ وقالت: «هذا يكفي يا روبرتا!» وارتختْ روبرتا في مقعدها. واصلت زوجة الواعظ كلامها كما لو أنَّ بوبي لم تُقاطعها: «سنُقيم الحفل في الكنيسة بالطبع. لا نمتلك الكثير من الوقت، لكنَّنا نستطيع دعوةَ جميع أصدقائك في الكنيسة، يا ميبس، وغيرهم من أصدقائك في المدرسة ممَّن ترغبين في دعوتهم.» أجبتُ على أملِ أن تُنهي هذه الحقيقةُ المحادثة: «ليس لديَّ أيُّ أصدقاء يا سيدة روزماري.» قال ويل الابن بجدِّية: «أنا صديقكِ يا ميبس.» نظرتُ إليه عبْر المائدة وإلى قميصه المُزرَّر إلى آخره. ابتسم لي ويل ابتسامةً عريضة جعلتْه يَبدُو مُختلفًا بطريقةٍ ما؛ أكثر استرخاءً. ولأنَّني في ذلك الوقت لم أكن واثقةً تمام الثِّقة من مشاعري تجاه ويل الابن، لم أَبتسِم له. لكنَّني لم أعبس في وجهه أيضًا. أردفَتِ السيدة روزماري كما لو أنَّ ويل لم يَقُل شيئًا: «هذا هراء. وسأُريك. سأقوم باتصالاتي هذا المساء وسأُدبِّر حفلًا فاخرًا للغد. لا تَقلقي، يا ميبس، فلديَّ صِلاتي.» وأشارت السيدة روزماري بإصبعها إلى السقف وظننتُ أنها تُشير إلى السماء في الحقيقة. على ما يبدو ستُقنع الربَّ كي يُساعدها في تخطيط الحفل. وتصوَّرت أن الربَّ لديه أشياءُ أهم تَستدعي عنايتَه مثل حماية الآخرين من الموت جوعًا، أو مِن قَتل بعضهم بعضًا، أو مُساعدة أبي؛ لذا رجوت ألا يكترثَ لهذا الأمر. ولاحظتُ أنه لم يكن شعوري وحدي، فقد شعرتُ بازدياد توتُّر فيش وجَدِّي أكثرَ فأكثر بالحديث عن الحفلات. فأعياد ميلاد الثالثة عشرة في عائلة بومونت ليسَت أحداثًا عامة قطعًا. ••• كنتُ في الثامنة فحسب عندما بلغ روكيت الثالثة عشرة، ولا أزال أتذكَّر عيد ميلاده بوضوح وانتعاش كجو البحر المنعش. ففي ذلك اليوم، منذ سنوات مضت، في بيتنا في الجنوب، وجَدَّتي دَالاب لا تزال على قيد الحياة وجيبسي لم تأتِ إلى عالَمنا بعدُ، قضيتُ وروكيت وفيش فترةَ ما بعد الظهيرة كلِّها في الفناء الخلفي نساعد جَدتنا في التعليب بينما كانت أمي تجهِّز المنزل لعشاء عيد ميلاد روكيت. كانت الطاولة مُغطَّاة بأوعية جَدَّتي الزجاجية الصافية، وكان لكل وعاء مُلصَق أبيض وغطاء معدني. وكلَّفتنا نحن الأطفالَ بمهمَّةِ وضعِ المُلصَقات على الأوعية بينما كانت تملؤها. لكن جَدَّتي لم تكن تُعلِّب الخوخ أو الطماطم أو المخلل، بل موجات الراديو. وانتقت جَدَّتي أفضلَها مثل الخطابات أو القصص أو الأغاني المفضَّلة التي أذاعتها المحطات المحلية، ولكن مع ذلك، كان قبو منزلنا مُكتظًّا برفوفٍ عالية من الأَوعية المُغبرَّة المليئة ببرامج الراديو المُذاعة على مدار سنوات كثيرة جدًّا. وحِرتُ في كيفية وضعِ جَدَّتي مَوجات الراديو في تلك الأوعية والحفاظ على بَقائها هناك؛ كانت تمدُّ يدَها وتَلتقطها من الهواء كما لو أنها تَصطاد الحشرات المُضيئة. ثم تدسُّ هذه الموجات غير المرئية في الأوعية، وتُخبرنا بما سنُدوِّنه على المُلصَقات. وبعد ذلك ما عليك إلا فتحُ غطاء أي وعاء من مجموعتها لتَستمِع إلى ما بداخله. لكن يجب ألا تَنزع الأغطيةَ تمامًا وإلا تسرَّبت الأصواتُ والأغاني وضاعت إلى الأبد، إلا إذا كانت جَدَّتي حاضرةً وأمسكتْ بها في الوقت المناسب. كان روكيت أكثرَ انزعاجًا من الدُّب في موسم الشتاء وهو يجلس في الفِناء الخلفي ويراقب جَدَّتي وهي تمسك بموجات الراديو. وقد غرُبت شمس عيد ميلاده الثالث عشر تقريبًا دون أن يَحدث شيء؛ وخشيَ أخي ألا يَحدُث شيء على الإطلاق. ولأن روكيت هو الطفل الأول لأبي وأمي، وأبي منحدر من عائلة عادية، كالتي نراها كلَّ يوم، لا تَمتلِك أيَّ مواهب خاصة باستثناء سقوط الشَّعر كاملًا قبل سنِّ الثلاثين، خشيَ أن يُشبه أبي وينتهيَ به الأمر بلا هِبَة خارقة ولا شعر على رأسه أيضًا. حلَّ المساء وزحفت الشمس ناحيةَ الغرب. بدأنا نَنقل كلَّ الأوعية إلى داخل المنزل عندما توقَّف روكيت في مكانه جامدًا بلا حَراك فجأةً، بذراعَيه المُمتلئتَين ببرامج الراديو المعلَّبة في ذلك اليوم. بدت بشَرته شاحبةً في ضوء الشفق وانحنى على ذراعَيه المليئتين بالأوعية الزجاجية مُترنِّحًا كأن شخصًا قذفه بها. توقَّفتْ جَدَّتي دالاب أيضًا وأمالت رأسها جانبًا كما لو أنها تُصِيخ السمع. شعرتُ بالقشعريرة فوقف شعرُ رأسي كأنَّ تيارًا كهربائيًّا سرى في الهواء ولسَعني. قالت جَدَّتي بينما تُواصِل الإنصات: «هذا غريب. لا بد أن هناك خطْبًا ما بمَحطَّة الراديو. أنا لا أسمع شيئًا سوى الكهرباء الساكنة.» سألت أخي بحذرٍ وأنا أشعر بالقلق من شحوب وجهِه وتوتُّر عضلاته كلها وانقباضها: «هل أنت بخير يا روكيت؟» قال روكيت: «أظن أنني سأتقيَّأ.» ثم جَثا على ركبتَيه، بانفجار باهر من الشرارات الزرقاء البرَّاقة، مثلما يَحدُث في عيد استقلال أمريكا باستثناء أن الشرارات الساطعة لم تكن حمراء وبيضاء. وفورَ أن ارتطمتِ الأوعية التي كان يحملها على الأرض وتهشَّمت، تسرَّبت منها تسعة برامج إذاعية مختلفة في آنٍ واحد، وتصاعدت هذه الجَوقة من الأصوات والأنغام في جو الليل. وفي اللحظة نفسِها انطفأت كلُّ المصابيح داخل وخارج المنزل. وخفتَت مصابيح إنارة الشوارع ثم انفجرت وتطايرت شظاياها الزجاجية الدقيقة وأظلمَت منازلُ الجيران حتى نهاية المربَّع السكني. وامتدَّ انقطاعُ التيار الكهربائي مِن منزلنا حتى بلغ البلدة المُجاوِرة. حصل روكيت على هِبَته الخارقة وكان الأمر مريعًا. بينما كنتُ آوي إلى سريري في الليلة السابقة لعيد ميلادي الأهم على الإطلاق، وبعد أمسية رغيف لحم السيدة روزماري وتدخُّلها، لم أبتهِل إلى الرب للحصول على هِبَة خارقة قوية مثل هِبَة روكيت. ولم أدْعُه لأنالَ القُدرة على الرؤية بالأشعة السينية أو الركض بسرعة فائقة أو التنفس تحت الماء. ولم أدْعُ لجَدِّي أو لجيبسي. كما لم أدْعُ لأبي كي يُفيقَ. في تلك الليلة، دعوتُ الله ألا يأتيَ أحدٌ على الإطلاق لحَفلِ عيد ميلادي.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/5/
الفصل الخامس
استيقظتُ مُبكرًا يوم السبت الموافق لعيد ميلادي الثالث عشر، واستلقَيت في سريري بلا حَراك صامتة لفَترة طويلة للغاية، لا أفعل شيئًا سوى الانتظار. لم يتغيَّر شيءٌ تغيُّرًا جذريًّا بعدُ. فلم أستطِع الرؤيةَ عبْر السقف أو تشغيل مصباح غُرفتي بطرْفة عين أو بغمزة. كما لم أستطِع التحليق فوق مَرتبة السرير أو جعل وساداتي تختفي. تنهَّدت وطرقت بأصابعي التصميم الموجود على الملاءة بضع طرقات. ولم يحدث شيء. ليس بعْدُ على الأقل. قرَّرت أنه لا ضَيْر من النهوض. قد تصل هِبَتي الخارقة إلى الكنيسة مع حفل عيد ميلادي في توقيتٍ سيئ وما شابَه. نهضتُ مِن السرير، وأنا أنظر إلى جيبسي؛ حيث كانت مُستلقية وسط دُمى الحيوانات المحشوَّة والوسائد. كانت جيبسي تُحيط نفسها بالزَّغَب والوَبَر دائمًا. وأحبَّت أن يكون عالَمها الطفولي طريًّا وناعمًا، بلا حروف قاسية أو خيوط خشنة. وما إن تغِطَّ في النوم، يُصبِح مِن الصعب إيقاظُها كحيوان الكسلان الراقد. لم تُصدِر ألواحُ أرضية الغرفة صريرًا أو يُصدِر زنبركُ السرير صوتًا، لكن فورَ أن لمستْ قدماي العاريتان الأرض ووقفتُ لحلِّ رداء النوم، جلست أختي وفركَت عينيها، مُحملقةً إليَّ من فوق سريرها الصغير. قلتُ: «عودي إلى النوم يا جيبسي.» كرَّرت جيبسي كلمتَها المفضَّلة وهي وتَفرُك عينيها بعناد: «لا-لا-لا.» قلتُ: «لا يزال الوقت مُبكرًا جدًّا على الاستيقاظ. أغلقي عينيك وارجعي إلى النوم مرة أخرى.» وقطعتُ الغرفة لدسِّ جيبسي تحت أغطية سريرها من جديد، ثم غادرتُ غرفتنا بسرعة قبل أن يمكنها التذمُّر. تسرَّب ضوءٌ وردي عبْر ستائر المنزل غامرًا الطرقةَ بين غرف النوم بحُمرة الصباح الخفيفة. حرصت ألا أحدِثَ جلبة كبيرة، وأنا أتسلَّل أمام غرف النوم الأخرى وأنسلُّ إلى الطابق السُّفلي، لا أرغب في إيقاظ أحد، وأرغب في مزيد من الوقت لنفسي لرؤيةِ ما يُمكنني رؤيته والشعور بما يمكنني الشعور به. وفي المطبخ، أعددتُ لنفسي صَحنًا من حبوب الإفطار، وحملتُه معي إلى الغُرفة المُجاورة، كي أتناوَله وأنا أجلس مُتربِّعة على الأريكة. وفورَ أن جلستُ وثبَّتُّ صَحن الحبوب على ركبتي بصورة ملائمة، سمعتُ طَرقة مكتومة. طق، طق، طق. تجمَّدتُ في مكاني تمامًا، وحدَّقت عبْر الغرفة المعتمة، وتحوَّل ضوء الصباح من اللون الوردي إلى البرتقالي، وألقى ببريقِه الفاتح على أكوام رسومات أمي، وانعكس على الحوض الزجاجي لسُلحفاة سامسون الأليفة الميتة. طق. طق. وضعت صَحني على الأرض، ناثرةً الحليب، ففاض على جانب الصحن، واقتفيت صوت الطرق المكتوم حتى وجدت أنفي مُلتصقًا بالحوض تقريبًا. كانت في الحوض سلحفاة سامسون حيةً غير ميتة، تبذُل مُحاولات كبيرة مضنية لتسلُّق جدار الحوض، ولكن دون جدوى. وفكَّرت، لا بدَّ أن السلحفاة كانت في سُبات في نهاية المطاف. كنت أعلم أن سامسون سيكون سعيدًا؛ بقدْرِ ما تسمح له نفسه النَّكِدة المتقلبة المزاج. لكن لماذا اختارت السلحفاة تلك اللحظة المحدَّدة بعينها لتستيقظ من النوم، مع بشائر الصباح الأولى لأهمِّ عيد ميلاد في حياتي، وأنا برداء نومي وأحاول ضبطَ صحن حبوب الإفطار المغطَّى بالحليب على ركبتي؟ وبينما أراقب السلحفاة، نقرتُ على زجاج الحوض. بدأت أشعر بارتجافٍ ينخُر في أعماق عظامي، وأنا أفكِّر بشأن السلحفاة وأتذكَّر كيف استيقظت جيبسي بطريقةٍ غريبة فورَ أن خرجت من السرير، وصاحبني هذا الشعور بقيةَ الصباح وراح يتزايد مثل الدخان المتصاعد من حرائق الحقول. ••• وفي الساعة الثانية ظهرًا، تكدَّسنا في شاحنة السيدة روزماري، متَّجهين إلى الكنيسة في هيبرون. وساعدتُ وفيش جَدِّيَ في الصعودِ إلى المقعد الأمامي وربْطِ حزامِ الأمان والتأكُّد من غلق راديو الشاحنة. فمنذ وفاة جَدَّتي دَالاب كان جَدِّي يشعر بالحزن كلما استمَع إلى الراديو. وبعد جلوسِ جَدِّي في مقعده، عاد فيش إلى الداخل ومكَثَ فترةً طويلة إلى أن عثر على سامسون وأبعده عن سُلحفاته الأليفة التي صارت حيةً نشيطة. وبينما كنتُ أكافح مع السيدة روزماري لتثبيت مقعد سيارة جيبسي المخصَّص للأطفال بالخلف، صعد الفتيان إلى الشاحنة. ارتديت فستان المناسبات الخاصة الجديد الذي انتقاه لي أبي بمُفرده من متجر كبير بسالَينا. وقال في تلك الليلة وهو يُناولني صندوقًا أبيضَ كبيرًا مربوطًا بشريط دائري مَطاطي ذهبي اللون: «رأيت أن ابنتي الصغيرة تستحقُّ فستانًا جميلًا جديدًا لترتديَه في عيد ميلادها الخاص.» كان لون الفستان الموجود داخل الصندوق أصفرَ باهتًا، مُرتفع الخَصْر ذا رباط تزييني، وتنورة منفوشة مزوَّدة بجيوب عميقة. وقد زُيِّنت حاشيةُ الفستان وفتحتا كمَّيه القصيرَين بشريطين متعرِّجَين باللون الأبيض. لكن كان أفضل جزء في الفستان هو الزَّهرة الأرجوانية الكبيرة المصنوعة من الشرائط الحريرية الناعِمة والمُثبتة عاليًا على الكَتِف مثل الإكسسوار. واعترف قائلًا: «لا أَعرفُ الكثيرَ من الفساتين. ولكني لم أكن لأَستسلِمَ مُتذرِّعًا بهذه الحُجة. لم أغادر المتجرَ حتى تأكَّدت من عثوري على الفستان المُناسب.» وتخيَّلت أبي، وهو يتجوَّل عبْر المتجَر، باحثًا عن فستاني المثالي، وعلت ابتسامةٌ شفتيَّ. كان أبي رجلًا فريدًا من نوعه وإن لم يكن لدَيه هِبَةٌ خارقة أو لديه شَعر على رأسه؛ وكان صالحًا طيبَ المَعْشر، ولديه حاجبان كثيفان أسودان مَعقوفان كسيقان الخنافس الراقصة، ووشمٌ باهت، يعود إلى أيام التحاقِه بسلاح البحرية، على شكل حورية بحر طويلة الشَّعر مُلتفَّة حول مرساة على ساعده، فوق ساعة معصمِه الفضِّية الثقيلة مُباشرة. واعتاد أبي تغطيةَ الآنسة حورية بأكمام قميصِه البيضاء النظيفة عند ذهابه إلى العمل في ذلك المكتب المبني بالمِلاط والأسمنت في سالَينا في أيام العمل. لكنه عند عودته إلينا في الليل كان يَطوي كمَّيه وتكشف الآنسة حورية عن ابتسامتها. ولم نَكترِث لعدم امتلاك أبي هِبَةً خارقة، وكذا الأمر بالنِّسبة إليه؛ فلم يُبالِ أن بعضنا لديه هِبَات خارقة والبعض الآخر قد يُصبح لديهم. وكانت ليلة إهدائي الفستانَ هي آخر ليلة عاد فيها إلينا مِن سالَينا وآخر تجمُّع لنا. سأل أبي وهو يَفرُك ذقنه ببراجمه بينما يُراقبني وأنا أُخرج الفستانَ من الصندوق: «هل أعجبكِ إذن؟» قلتُ وأنا أرقص بفُستاني عبْر غرفة المعيشة مرتَين قبل أن أُعانقَ أبي: «إنه رائع يا أبي! شكرًا لك!» كنتُ أعلم أن أبي هو أفضل أبٍ في العالم، وأن فستاني هو فستان حفلات، بالنسبة إلى العالِمين بهذه الأمور، وإن لم تَسِر حفلتي الحقيقية وفقَ ما خطَّطت له. وانتبهت وأنا أركب الشاحنةَ إلى السيدة روزماري وهي تُحملق إلى الزهرة الأرجوانية الكبيرة المثبتة على كتفي. وظننت أنها تتمنَّى لو كان لها فستان مثل فستاني بدلًا من لباسها التقليدي القبيح. ارتدينا جميعًا أحزمةَ الأمان في الشاحنة، وارتججنا واهتززنا في الطريق المليء بالحُفَر، مُتَّجهين إلى الطريق السريع، في رحلتنا إلى الكنيسة، من أجل حفلتي غير المرحَّب بها. تظاهَرت أنني لم أَلحظْ نظرات جَدِّي وفيش المُستمرة كما لو أنني نوع من الديناميت على وشْك الانفجار عند الرجَّة أو الهزة التالية للشاحنة. لكنَّني لم أشعر بأي شعور مُزعج استثنائي يأخذ بمجامعي مثلما حدث مع أخويَّ؛ وكنت أعلم أن هِبَتي الخارقة لن تكون صاخبة ومُزلزلة نوعًا ما، لكنها ستكون أفضل كثيرًا لمساعدة أبي. وسألت أمي عندما اتَّصلت ذلك الصباح لتتمنى لي عيد ميلاد سعيد: «هل قبَّلتيه يا أمي؟» فأجابت بهدوء: «أجل يا ميبس. قبَّلتُ أباك.» سألتها: «هل استيقظ؟» تنهَّدت أمي تنهيدةً بطيئة طويلة كأنها تُغنِّي المقطعَ الأخير من تهويدةٍ ما، وكاد قلبي ينفطر من فرطِ حزنها. وقالت في نهاية المطاف: «لا يا عزيزتي، لم يستيقظ أبوك. لم يستيقظ بعدُ على الأقل. يقول الأطباء — حسنًا — يجب أن ننتظرَ ونرى ما سيحدث.» وفي تلك اللحظة أدركتُ ما يجب أن أفعلَه تحديدًا وإن لم أعرف كيفيةَ تحقيقه. ••• عندما وصلنا إلى الكنيسة، سرعان ما أدركت أن الربَّ أصغى جيدًا إلى دعاء السيدة روزماري على عكسِ ما فعل معي. كانت ساحة انتظار السيارات مُمتلئةً عن آخرها وانتشر الأطفال في كل مكان. لم تكن هذه حفلة صغيرة. وإنما بهرجةً مبالغًا فيها. لو لم أعرف سامسون، لقلتُ إنه اختفى قبل أن تتوقَّف الشاحنة؛ إذ ابتعد عن الأنظار فور أن خرجنا. وسيظهر لاحقًا، بطبيعة الحال، بعد قضائه فترةَ ما بعد الظهيرة في أي مخبأ مليء بالغبار تحت الأرغن أو مع المماسح في خزانة التخزين. اكتفى جَدِّي بعضِّ شفتَيه وهزِّ رأسه، مُغمغمًا لنفسه، والسيدة روزماري تقوده وجيبسي إلى الكنيسة، مارِّين بحافلة مدرسية مطلية بلون وردي كلون أسفل قدَمي جيبسي، وعليها إعلان شركة «هارت لاند» لتوريد الكتب المقدَّسة. أمسكني فيش من ذراعي، فورَ أن استدارت السيدة روزماري، ووجهني بعيدًا عن الحافلة الوردية والكنيسة. وقال مُصدِرًا هبَّة رياح ضربتني كالتوبيخ: «لا يُمكنك فعْلُ هذا الشيء هُنا يا ميبس. هذا ليس المكان المناسب لوجودك اليوم. أنتِ تعلمين أن الأمرَ خطير.» طمأنته قائلة: «ستكون الأمور على ما يرام. أنا أعلم ماهية هِبَتي الخارقة، يا فيش، ولن تُؤذي أحدًا. في الحقيقة …» قاطعني فيش قبل أن أُخبره بالمزيد: «هل تعلمين بالفعل؟» وشدَّد قبضته على ذراعي. أصابتني رياحُ أخي المُفاجئة القَلِقة بالشك لوهلة. لكن لا، كنت واثقة من هذا الأمر تمامَ الثقة. أجبت: «أجل يا فيش، أنا أعرِف هِبَتي. أسكِنْ عاصفتَك فحسب.» نظر فيش إليَّ بترقُّب. كنتُ سأَشرح له أهمية ذهابي، دون غيري، لإيقاظ أبي. الأمر في غاية البساطة؛ فهِبَتي الخارقة تكمُن في إيقاظ الكائنات الحية مثلما حدث لسُلحفاة سامسون. أعلم أن هِبَتك الخارقة ليست شيئًا تستطيع الحصول عليه بمجرَّد رغبتك في وجوده، لكنني إذا تمكَّنت من بلوغ سالَينا، فسيُمكنني إثباتُ أن سُبل إيقاظ أبي موجودة بداخلي، وعلى استعداد للانطلاق مثل شرارات روكيت أو أمطار ورياح فيش. كنتُ على وشْك أن أُخبر أخي بكل هذا لولا أن ويل الابن عثر علينا آنذاك. قال ويل مُبتسمًا: «عيد ميلاد سعيد يا ميبس. ألن تأتيَ إلى الحفل؟» أجبتُه وأنا أُحرِّر ذراعي بالقوة من قبضة فيش المحكمة: «أنا قادمة.» أطلق فيش سراحي، لكنه نظر إليَّ نظرةً ثاقبة، أكَّد فحواها بسُقوط القليل من المطر من السُّحُب فوق رءوسنا على نحوٍ عَشوائي مباغت. بادلت فيش النظرةَ الحادة نفسها. ثم ابتسمت لويل الابن ابتسامتي الخاصة، وتركته يَسحبني إلى الكنيسة، إلى خضمِّ الكارثة مباشرة؛ حفل عيد ميلادي الثالث عشر.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/6/
الفصل السادس
فور أن مررتُ من البابين المزدوجَين المفتوحين للكنيسة، التقَيت بأشلي بينج وإيما فلينت لسوء الحظ، وكان شَعرهما مُصفَّفًا ممشَّطًا وعليهما ثوبان جميلان من أجل الحفل. وكنتُ قد تمنَّيت ألا ألتقي بأيٍّ منهما أبدًا بعدما غادرت مدرسةَ هيبرون الإعدادية للمرة الأخيرة. لكن في ذلك اليوم لم يكن ثمَّة تشابُه بين ما رغبت فيه وما حصلت عليه. نقلَت أشلي بصرها منِّي إلى فيش ثمَّ إلى ويل الابن وركَّزت على الأخير لفترة طويلة، لكنني صرتُ أشجعَ مما كنت عليه في المدرسة، ربما كان ذلك لأني بلغت الثالثة عشرة أو لأنني أقف بجوار فيش وويل، وشدَدتُ قامتي أمام تلك الفتاة المُتغطرِسة ورفيقتها التي تُوافقُها بشكلٍ أعمى. وسألت: «لماذا أتيتما إلى هُنا في الأساس؟» لم أحب الطريقة التي حدَّقت بها أشلي إلى ويل مثلما لم أحب شعوري بالانزعاج من تحديقها إليه. قالت دون أن تبعِد عينيها عن ويل: «لقد أجبرتني أمي على القدوم يا ميسي-بيسي.» كرَّرت إيما: «أجل يا ميسي بيسي.» شعرتُ بالخِزي والخجل وأنا واقفة هناك. لم أُصدِّق أن هاتين الفتاتين دعتاني بهذا الاسم المرعب أمام ويل الابن. ورغبت في أن أزحف تحت السجادة البُنية المبقَّعة وأمكث هناك. عبس فيش في وجه الفتاتَين وضربتنا هبَّةُ رياح قوية للغاية ومُباغتة أجبرت الفتاتَين على الإسراع عبْر الباب المفتوح لتفقُّد شَعرَيهما وإصلاحِ ما فسد من زينتِهما المُفرطة. ودون أن ينظر إليَّ، كان فيش لا يزال عابسًا بشدة، وأدركت أنه لم يقصد إطلاق العِنان لنفسه بتلك الطريقة أمام الجميع. سأل ويل بابتسامة مشفقة دون أن يُركز انتباهه على فيش أو الرياح: «هل هما صديقتاك؟» تمتمتُ وأنا لا أزال أشعر بالخزي: «بالطبع لا.» أومأ ويل برأسه موافقًا. وقال: «أشعر أنكِ ستَكونين أفضل حالًا دون صديقاتٍ كهؤلاء.» عقب ذلك، لم يَقل ويل الابن المَزيد بشأن أَشلي وإيما، من باب التلطُّف. واجتَزنا معًا تحت قيادته أبوابَ المكان المقدَّس وبابَ مَكتب أبيه المفتوح حيث تبدَّدت ابتسامته عندما توقَّفنا لحظةً نَختلِس النظر إلى الداخل. نظرت نظرة خاطفة إلى القسِّ ميكس، بقامته الفارهة وقميصِه المزرَّر، وهو يتحدَّث إلى رجلٍ ويَنقُر على كتاب مقدَّس ورديٍّ كبير بين يدَيه. لم يبدُ الواعظ في غاية سعادته. وتدلَّت ربطة عنقه الصفراء معوجَّة، وراح يَبصُق أثناء الحديث. وبينما يدُسُّ إصبعه داخل ياقتِه المُنشاة، كما لو كان أعلى زرٍّ بها يُحكِم إغلاقَها حول عنقِه، أبعدنا ويل الابن عن الباب بسرعة باتجاه قاعة الحفل. وتدلَّت حول القاعة شرائط طويلة رفيعة من ورق الكريب البرتقالي والأحمر وكأنها بقايا زينةٍ مِن حفل آخر. كانت الغرفة فارغة، باستثناء كعكة شوكولاتة كبيرة بلا ورود من السُّكر أو شمعة واحدة ذائبة أو غير ذائبة، وكومة صغيرة من الهدايا التي اشتراها أصحابها في عجالة. واحتشد غالبية الحضور بالخارج، وربما لا يزالون غير واثقين مِمَّن قَدموا للاحتفال به تحديدًا. أخرج ويل هديةً من الكومة الموجودة على الطاولة ونحن نمرُّ بجانبِها. وكرَّر وهو يُناولني عُلبة صغيرة مُغلَّفة بورقٍ زاهٍ: «عيد ميلاد سعيد يا ميبس. إنها مجموعة أقلام.» وأشار برأسه نحو الهدية وأضاف: «هذا إن كنتِ تتساءلين.» قلتُ: «شكرًا»، وحرتُ هل أفتح الهديةَ الآن مع معرفتي ما بداخلها. لكن ويل لم يَمنحني الفرصة. وبدلًا من ذلك رافقنا عبْر الغرفة المفتوحة نحو المطبخ، حيث أُجبرَت بوبي وفتاتان من الكنيسة في نفس عمرها على إعداد عصير الفواكه وشطائر زبدة الفول السوداني المُقطَّعة إلى أرباع مع إزالة الحواف. كانت الفتيات يرتدين سراويلَ جينز أنيقة وقُمصانًا تَكشِف عن أَجسادهن وسُرَّتهن. وكنَّ يَضعن مساحيق تجميل على خُدودهنَّ وشفاهِهن ويَسلُكن سلوكًا خاصًّا وبدا أن كل ذلك يَنسكِب في عصير الفواكه. نظرت بوبي إلى الزهرة الأرجوانية الكبيرة على كتفِ فستاني وأدارت عينَيها في مَحجِرَيهما. وقالت بنَبرة تُشبه السَّب: «عيد ميلاد سعيد.» وبدأت الفتاتان تتهامَسان وتَضحكان وهما تَخلِطان جِعَة الزنجبيل وحلوى رين بو المُثلَّجة بعصير الأناناس أصفر اللون الباهِت الذي له نفس لون فستاني. تجاوَزَتني نظرات فتاتَي الكنيسة وفيش وويل، وأخذت تبحث في المدخل، على أملِ أن يظهر شخص آخر. وسألت الأُولى مُتنهِّدة: «ألم يأتِ روكيت؟» لم يكن روكيت موجودًا إلا أن وسامته الداكنة وشُهرته الغامضة أكسبتاه مُعجبتَين؛ صرخت الفتاة الأخرى مُقهقِهةً عند ذكرِ أخي، وتظاهَرَت الأولى بالغياب عن الوعي. قلَّبت بوبي عصيرَ الفواكه بشبحِ ابتسامة، حجبَتْها بسُرعة مرةً أخرى بعد نكزة مُمازحة من الفتاتَين. وفجأة، بينما أنظر إلى هاتَين الفتاتَين المُراهقتَين في ثيابهن المراهقة، شعرت أنني أصغر من فتاة في الثانية عشرة من عمرها على وشْك تمام الثالثة عشرة، وأن فستان المناسبات الخاصة ليس خاصًّا للغاية. وأدركت أنني نفسي صرت مراهقة للتو، وهناك تغييرات قادمة في حياتي ليسَت لها أي علاقة بهِبَتي الخارقة. وبينما أنا واقفة في ذاك المطبخ، أعبَث بالزهرة المصنوعة من الشرائط على فستاني في توتر، سمعت صوتًا مُباغتًا غريبًا لم أفهمه جيدًا. لكنه استرعى انتباهي. وللحظة، نسيت فستاني وتجاهلتُ الفتيات الأخريات وأملتُ رأسي جانبًا كأنني كلبٌ يُصغي السمع إلى ذلك الصفير الذي لا يستطيع مالكه سماعَه أو كالجَدة دَالاب وهي تُرهف السمع للوصول إلى موجة الإذاعة الصحيحة لتضمها إلى مجموعتها. وهمس صوتٌ غنائيٌّ مكتوم وراء أذني، وكان الصوت يُشبه ماءً لا يزال عالقًا هناك بعد السباحة لفترة طويلة. هززت رأسي وأدرت إصبعي في أذني. وتوقَّف الصوت لحظةً من الزمن. أدركت أنَّ فيش عاد يرمقني بعينيه. ويراقبني. كان ينتظر؛ ينتظر انفجار الديناميت. لكن هذا لن يحدث لأنني أعلم كيف ستَسير الأمور. أعلم أنني سأَذهب إلى سالَينا. وأدرك أنني سأوقظ أبي بنفس الطريقة التي أيقظت بها جيبسي وسُلحفاة سامسون. ثم سمعت الصوتَ مرةً أخرى، وهذه المرة بدا كأنه ينبعث من خلف مُقلَتي عيني مثل صداع الرأس، لو أمكن أن يتحوَّل صداع الرأس إلى صوت. اختل توازني، فأسقطت مجموعةَ الأقلام هديةَ عيد الميلاد السعيد المغلَّفة، وارتطمت بويل الابن مباشرة، واصطدم الأخير بصينية الشطائر بعنف. سقطت الصينية على الأرضية في صخب وطوَّحت مثلثات الخبز وزبدة الفول السوداني في الهواء. سبَّت بوبي، مثل سائق شاحنة بثلاثة إطارات فارغة، وانحنَت لتلتقط الصينية. كان هذا عندما رأيت الصورة على جِلدها. ولاحظت الحِبر الزاهي لوشم بوبي. كانت لابنة الواعِظ رسمة صغيرة في منطقةِ أسفل الظهر لا تظهر إلا عندما تَنحني بسروالها الجينز العصري. وكان الوشم عبارةً عن مَلاك صغير، ذي هالة ذهبية وأجنحة مُنبسِطة، إلا أنه امتاز بابتسامة كبيرة ماكرة وذيل أحمر مُستدق الرأس يَتناسب معها. لم أفهم كيف حصلَت بوبي على هذا الوشم. كنتُ واثقة إن عَلمتْ بهذا الأمر السيدة روزماري، التي لها اتصالات مباشرة مع السماء ولديها القُدرة على الحصول على مساعدة الإله الجبار في تخطيط حفل عيد ميلادي، فلن تتمكَّن بوبي من بلوغ حَفلة عيد ميلادها القادمة أو الوصول إلى السماء لنَيل هالتها المقدسة. حينئذٍ أدار الملاك الصغير رأسَه ولفَّ ذيله، وقال: «إنها تَشعُر بوحدة شديدة حقًّا، كما تَعلمين …» وحينها، غبتُ عن الوعي.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/7/
الفصل السابع
استيقظتُ على أصوات شجار. كان لا يزال رأسي مشوَّشًا ومُضطَرِبًا، وسمعت نقاشات حادَّة في كل اتجاه. ووجدت نفسي مُستلقية على الأريكة الزرقاء ذات القماش الاسكتلندي التصميم في غُرفة مكتب القس ميكس. وقف القس محكِمًا قبضتَه على الكتاب المقدَّس الوردي الكبير وصرخ في رجل كان شديد النحافة حتى إنه يَحتاج إلى ضِعف حجمِه كي يُلقي بظلِّه على الأرض. قال القسُّ ميكس وهو يَضرب على الكتاب المُقدَّس الوردي الكبير بيدِه بقوة: «هذا … هذا! ليس هذا ما طلبته!» تلعثَمَ الرجل النحيف وانتفضت كتِفاه: «لست ﺳ… سوى عامل توصيل يا سيدي.» كان عامل التوصيل يَرتدي بدلةَ عملٍ وقميصًا بياقة مُزرَّرة وربطةَ عنق وردية متَّسخة. وكانت هناك قرنفلةٌ ذابلة مُثبتة على الحمَّالة اليُسرى لبدلةِ عمل الرجل الذي كان ذا شَعر خفيف مُصفَّف يغطِّي رأسَه الأصلع كالدثار. بدا وجهه طيبًا حزينًا — كوجه كلب تائه — وكان يحمل حافظةً أمامه كالدرع. لكن لا الحافظة ولا وجه الرجل الحزين يمكن أن يَقيَه من صراخ الواعظ العالي. قال القس ميكس غاضبًا: «عندما وافقت على طلب الكتب المُقدَّسة لم يُخبرني أحد من شركة «هارت لاند» لتوريد الكتب المقدَّسة أنها ستكون وردية اللون! ماذا تحسبُنا؟ أترانا كنيسة مليئة بالمخنَّثين المُدللين؟» انتفضت كتِفا عامل التوصيل مرةً أخرى كما لو أنه يحاول منْعَ حمَّالات بدلته من السقوط. لكن كل ما استطاع قولَه هو: «حسنًا يا سيدي …» أو «لا يا سيدي …» أو «إن وقَّعت هُنا فحسب يا سيدي …» قبل أن يُقاطعه الواعِظ مرةً أخرى. وفي الجانب الآخر من الغُرفة، انهمك فيش في جداله مع السيدة روزماري، أمام مكتب ضخم من خشب البلوط، وفي أثناء ذلك كان جَدِّي بومبا جالسًا أمامها يومئ برأسه من مقعد القس الجلدي الكبير. ظل فيش يقول وهو يحاول انتزاعَ الهاتف من يد المرأة: «لا تحتاج ميبس إلى طبيب يا سيدة روزماري. كلُّ ما تحتاجه هو العودة إلى البيت. وأن تفعل ذلك في الحال!» تحرَّكت رياح فيش بقوة في غرفة المكتب، وبعثَرَت الأوراق من فوق المكتب، ودفعَتْ بشعور الحاضِرين إلى التمايل فوق رءوسهم؛ وتخطَّفت شَعر عامل التوصيل الخفيف مثل غطاء سرير مبسوط على حبل غسيل. أصرَّت السيدة روزماري، وهي تُحاول نزْعَ أصابع فيش عن الهاتف: «هذا أمرٌ يُقرِّره البالغون أيها الشاب.» لكن مع تشتُّت انتباهها بالأوراق المتطايرة والرياح الغامضة التي هبَّت بقوة عبْر الغرفة، لم يكن لديها أيُّ فرصة حقيقية في إبعاد الهاتف عن فيش. صاحت السيدة روزماري في زوجها: «روجر! روجر! أيُمكنك نسيانُ الكتبِ المقدَّسة تلك لحظةً واحدة وتُساعدني من فضلك؟» لكنه كان مُستغرِقًا في انزعاجه من صناديق الكتب المقدسة المخنَّثة؛ ومِن ثمَّ لم يُعِرها أدنى انتباه. صاح فيش: «إن كنتِ بحاجة إلى رجل بالغ ليبتَّ في الأمر، دعي جَدِّي يبدي رأيه!» وتمكَّن في نهاية المطاف من إبعاد الهاتف عن زوجة الواعظ واندفع فوق مكتب القس ميكس مطيحًا بإطارات الصور وثقَّالات الأوراق على الأرض بينما يَمضي في طريقه. ووقف بجوار جَدِّي بومبا الذي ظلَّ جالسًا مُنحنيًا في المقعد الجلدي. ورفع الهاتف فوق رأسه عاليًا كأنه يتحدَّى السيدة روزماري للقدوم وإمساك الهاتف إن استطاعت. وقال: «أخبِرها يا جَدِّي.» ولسُوء الحظ كان جَدِّي قد غفا بسببِ كبرِ سنِّه وأخذ يغطُّ بصوتٍ منخفض. أمالت السيدة روزماري رأسَها في ظفَرٍ ووضعت يدَيها في خَصرها. وارتفع صوتها بحدة: «روجر! أنا بحاجة إلى مساعدتك!» وأدركتُ أن الأمور ستسُوء جدًّا بالنِّسبة إلينا، صغارَ بومونت، مقارنةً بذلك الوقت حينما سكب فيش وروكيت عصيرَ الفواكه الأحمر في جميع أنحاء السجادة في قاعة احتفالات الكنيسة. جلست على الأريكة، وبي بقيةٌ من دُوَارٍ. وكأنَّ شجارين غير كافيَين، تقاطع معهما شِجارٌ ثالث بلا سابق إنذار. لم أَستطِع تحديدَ مصدر الأصوات الأخرى من مَكاني، فوق الأريكة الاسكتلندية الزرقاء. لكنَّني شعرت بالحزن والقلق عندما أدركت بما يُشبه اليقين أنها مُنبعِثة من داخل رأسي. وبدا كأنَّ لديَّ فتاتَين سيئتَي المِزاج حانقتَين عالقتَين وراء حدقتَي عينيَّ. قال الصوت الأول المُتذمِّر الخَنِين: «أتعلمين أن هذا خطؤك يا كارلين؟» ردَّ الصوت الآخر بحدة: «هذا ليس خطئي؛ فابنك بليد الذِّهن يا روندا — أيتها العجوز البغيضة.» كان هذا الصوت خافتًا أجشَّ شابًّا مُقارَنةً بالصوت الأول. قلَّبت بصري في أرجاء الغرفة. لم أرَ أحدًا آخرَ هناك. تردَّدت الأصوات داخل جمجمتي مثل الكرة. قال الصوت الأول: «لا، أنتِ مَن جعلتِه يَعمل في توصيل الكتب المقدَّسة عند ابن عمِك لاري بدلًا من قبول تلك الوظيفة وبيع القهوة في محطة الحافلات. القهوة مشروب سيشتريه الناس.» ردَّ الصوت الثاني: «أوَلا يشتري الناس الكتبَ المقدَّسة؟» قال الصوت الأول: «لن يَشتريَ أحدٌ الكتب المقدسة الوردية!» دارت رأسي من الأصوات التي بدَت لا صاحب لها. احتضنتُ رأسي بين يدي، وأنا لا أزال جالسة على الأريكة، أتعجَّب مما دهاني. تذكَّرت أنني دخلت إلى مطبخ الكنيسة ورأيت وشْم بوبي. كما أنني رأيتُه يتحرَّك. وسمِعته يتحدث. ماذا قال؟ «إنها تشعر بوحدة شديدة، كما تعلمين …» حاولت تحليلَ ضوضاء الأصوات المتشاحنة الكثيرة داخل وخارج رأسي. ولم أفهم أيًّا منها. لم يبدُ ما يجري صائبًا. ماذا جرى لهِبَتي الخارقة؟ كان جَدِّي نائمًا، وأنا أسمع الأصوات. حملقت بشدة، والهلع يَتنامى داخلي، إلى جَدِّي بومبا النائم في مَقعَد الواعظ. وبكل ذرَّة من تركيزي أردتُ أن يستيقظ جَدِّي. لكن غمرتني الضوضاء في الغرفة وعجزتُ عن التركيز. لم أستطِع لمَّ شتات تفكيري. ولم أَستطِع التفكير. ربما لو صمَتَ الجميع فحسب، لتمكَّنت من تشغيل هِبَتي الخارقة. وضعتُ يديَّ على أذني، في محاولةٍ غير مجدية، لحجبِ جميع الضوضاء. احتجت إلى الابتعاد عن المكان. احتجتُ إلى الذهاب إلى مشفى «هوب» في سالَينا. احتجت إلى العثورِ على أبي حتى تُسجِّل هِبَتي الخارقة موعدَ وصولها وتبدأ العمل على الفور. أبي بحاجة إليَّ. لم يلحظ أحدٌ من الموجودين في الغُرفة أنني أفقتُ. كان القس ميكس مُوليًا ظهرَه إياي. وانهمك في قذفِ الكتب المقدَّسة الوردية في صناديق من الورق المُقوَّى ودفعها عبْر الأرضية صوب عامل التوصيل. كانت السيدة روزماري وفيش يدوران حول مكتب الواعظ مرةً تلو الأخرى، ويتشاجران بشأن الهاتف. ولعبت أصوات المرأتين في رأسي مباراةَ تنس من العتاب المستمر أبدًا، وراحت تضرب مثل الدم في أذني. استرقَ ويل الابن النظرَ عبْر شقٍّ في الباب. وعندما رأى أنَّني عدتُ إلى الوعي، ابتسم وتنفَّس الصعداء. كلُّ ما أردتُ فعله هو مغادرة الغرفة. رغِبت في الهرب من هذا المكان. وانتظرت اللحظة المُناسبة للهرب، انتظرت حتى تأكَّدت أنه لن يَرانيَ أحد وأنا أثبُ على قدمي بسرعة وأتسلَّل من غرفة مكتب القس، تاركةً كل هذه النقاشات الحادة خلف ظهري. وبينما أفرُّ من الغرفة، شعرت بالامتِنان لأن أصوات المرأتَين غير المرئيتَين، كارلين وروندا، بدأت تتلاشى. أيًّا كانت المرأتان — أو مهما كانت ماهياتهما — لم تَتبعاني. وخارج الباب، وضع ويل الابن يدَه على كتفي مرةً أخرى؛ لكنني لم أستغرب هذه المرة. كان قد حلَّ زرَّ قميصَه الأعلى، فذهبت عنه هالةُ البالغين قليلًا، وصار أكثرَ شبهًا بفتًى في الرابعة عشرة. وأمسك بمجموعة الأقلام، هدية عيد ميلادي السعيد المغلَّفة، التي أسقطتها عندما سقطت مغشيًّا عليَّ. سأل ويل وعيناه السوداوان مَليئتان بالقلق: «هل أنتِ بخير يا ميبس؟» قلتُ بنَبرة يائسة: «يجب أن أرحلَ من هُنا. عليك مساعدتي في الخروج من هذا المكان.»
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/8/
الفصل الثامن
«يجب أن أذهب إلى سالَينا يا ويل.» سأل ويل مرةً أخرى، ويده لا تزال على كتفي: «هل أنتِ مُتأكِّدة من أنكِ بخير يا ميبس؟ لقد فقدتِ وعيك للتو، ألا تدركين ذلك؟ ربما تعانين بعضَ الارتباك.» نظرتُ في عينَي ويل الابن مُباشرة. وقلتُ: «أرجوك يا ويل. لستُ مُرتبكة. ساعدني في الخروج من هُنا فحسب. أحتاج إلى الذهاب إلى سالَينا.» نظر ويل الابن إليَّ في حزن وعصر كتفي. وقال: «لا بدَّ أنك تَشتاقين إلى أمكِ وأبيك كثيرًا لأن اليوم عيد ميلادك وما شابه.» دفعتُ يده عنِّي واستدرتُ ناحيةَ الباب. وكرَّرت: «يجب أن أذهب إلى سالَينا.» أنشأ ويل يَعرض المساعدةَ، وهو يُلاحقني: «ربما تُوصِّلك أمي …» «لا يا سيدي. يجب أن أذهب إلى هُناك بنفسي.» أدركت أنني أتحدَّث بغير عقلانية. لقد أتممت الثالثة عشرة للتو، وظننتُ أنه يُمكنني بطريقةٍ ما السفر مسافة ٩٠ ميلًا إلى سالَينا، بكنساس، بمُفرَدي. لكنَّني سألتمس ركوب السيارات مجانًا إن اضطُررتُ إلى ذلك. سأسير على قدمي. لا أملِك خيارًا آخر. لا أستطيع تخيُّل الذهاب إلى أي مكان مع زوجة الواعظ إن كنت أسمع أصواتًا في رأسي. فكما قال فيش: الكنيسة ليسَت مكانًا ملائمًا لي. يجب أن أرحلَ من هنا، ولا بدَّ أن أفعلَ ذلك في الحال. يجب أن أعثر على أبي وأستخدم هِبَتي الخارقة لإيقاظه. هذا كلُّ ما في الأمر. اتجهتُ مباشرة ناحية أبواب الكنيسة المزدوَجة المفتوحة. كان يمكنني سماعُ جلبة وضوضاء خلفي، في قاعة الاحتفالات، وكنتُ واثقة أنني سمعت ضحكةَ أشلي بينج المكتومة مَتبوعة بضحكة إيما فلينت المقلَّدة. ونظرت بينما يمرُّ أمامي فتيَانِ من مدرسة الأحد التي يذهب إليها سامسون راكضَين وعلى فمهما بقايا الكعكة. لقد بدأ الحفل بغيابي. وأظنُّ أنه يجب أن ينتهيَ مثلما بدأ. خرجتُ من الكنيسة، على استعداد للعَدْو حتى سالَينا، لو كانت هذه هي الطريقة الوحيدة لبلوغها. كان ويل الابن يجري في أعقابي. قال ويل: «مهلًا، على رِسْلك يا ميبس! انتظريني.» وصلنا إلى ساحة انتظار السيارات، ونظرت حولي. كان هناك بضعة أطفال يلعبون في النجيلة، لكن كانت الأغلبية داخل الكنيسة. حلَّقَت سُحبُ فيش الكثيفة فوق الكنيسة منذرة بهطول الأمطار. بدأت أجتاز السيارات الواقفة واحدةً تلو الأخرى كي أخرجَ إلى الطريق. لكن فور أن دنوتُ من حافلة شركة «هارت لاند» الوردية لتوريد الكتب المقدَّسة، توقَّفت. وبينما سمِعت همسَ غناءٍ شديدَ الخفوت مرةً أخرى خلف أذني، رأيت بوبي تستند إلى الحافلة وحيدة، تمضغ علكتها وتُفرقعها مثل مُتمرِّدة متحفِّظة. رأيتها مُتمردة نوعًا ما وهي في تلك الحالة، فما بالك بحاجبِها المثقوب والوشم، وفكَّرت أنه ربما يكون الملاكُ الصغيرُ صاحبُ الذيلِ العابثِ محقًّا؛ ففي تلك اللحظة، بدت بوبي، مع ما هي فيه، وحيدةً أكثرَ مما تخيَّلت أن يحدُث لشخصٍ مثلها. جذبَ انتباهي الكتابة الموجودة على الحافلة بينما حاولتُ تجاهلَ الهمسات في رأسي. كانت الحروفُ الكبيرة التي تُشير إلى شركة «هارت لاند» لتوريد الكتب المقدَّسة سوداءَ، وتقشَّر لون الطلاء الوردي عائدًا إلى الون الأصلي لحافلة المدرسة وهو البرتقالي. ورأيت أسفلها حروفًا أخرى سوداء صغيرة تُشير إلى عنوان الشركة ورقم هاتفها. توقَّفت فجأة مُندهشةً من حظي السعيد. لم تأتِ شاحنة هارت لاند لتوريد الكتب المقدَّسة من مكانٍ آخر في العالم إلا من سالَينا، في كانساس؛ وتنصُّ على ذلك بوضوح شديد في الجانب، باللون الأسود الصارخ، كي يراه الجميع. وبوضع ذلك في الاعتبار، فكَّرت أنه إذا كانت الحافلة قدِمت من سالَينا فلا بد أنها ستعود إلى هناك. ربما شملني الرب برعايته على أيِّ حال. شكرت السماء بسرعة، وتجاوزتُ بوبي وفقاعة علكتها الوردية الكبيرة، وتحسَّست بإصبعي هيكلَ الحافلة الوردي البارد المصنوع من الفولاذ، ورسمت خطًّا تحت كلمة «سالَينا» في العنوان، مُزيلة الغبار تحتها، كأنَّني أبرمتُ صفقةً للتو. أما ويل الابن، الذي لم يتوقَّف عن ملاحقتي، فرفع حاجبيه عاليًا عندما رأى الكلمة التي وضعتُ خطًّا تحتها على الحافلة. لكنه لم يقُل شيئًّا، وأنا أتخطَّى بوبي وأصعد أولَ درجة سُلَّم إلى داخل باب الحافلة. فكَّرت كم كنتُ مخطئةً عندما ظننت أنني ركبت الحافلةَ بالأمس للمرة الأخيرة، لفترة من الزمن، وأثناء ذلك تجاهلت صوتَ أمي في رأسي وهي تُحذِّرني من الركوب مع الغرباء، وتجاهلتُ صوت أبي وهو يُخبرني ألا أنسى إبلاغ شخص بالغ بمَكاني، من أجل سلامتي. وحاولتُ مرارًا وتكرارًا أن أتجاهلَ حديث ملاك بوبي في رأسي. ولكن تبيَّن أن ذلك أكثر صعوبةً مما ظننت. «إنها تتساءل عما إذا كنتِ على ما يرام.» قالت بوبي دون أن يظهرَ في صوتها أدنى قلق: «ماذا تظنِّين نفسكِ فاعلة يا طفلة عيد الميلاد المزعجة؟» لا يبدو ذلك الملاك على معرفة جيدة ببوبي حقًّا. قال ويل الابن على نحوٍ أدهشَني وشقيقته: «اغربي يا بوبي. دعينا وشأننا، وإلا سأُخبر أمي وأبي بشأن درجة «مقبول» التي حصلتِ عليها في اختبار الكيمياء.» كان ويل مُمسكًا باب الحافلة بكلتا يدَيه وواضعًا قدمًا واحدة على أول درجة كأنه يخطِّط لاتباعي إلى الداخل مُباشرةً. أدارت بوبي عينَيها في مَحجِرَيهما كأنها تعرَّضت للتهديد من قِبل هاوٍ. وقالت بصوت كالشخير: «سيَكتشِفان الأمر على أيِّ حال. ولن يتفاجآ بالتأكيد.» واصل ويل الكلام: «حسنًا. سأُخبرهما إذن عن كيفية خداعك لسكرتيرة المدرسة بانتحال شخصية أمي على الهاتف، كي تَحصُلي على الإذن متى أردتِ التغيُّب عن المدرسة.» تحدَّته بوبي قائلة: «أتظنُّ أنني أكترث بذلك؟» قال الصوت الخبيث: «إنها تكترث»، وتخيَّلت وشْم الملاكِ وهو يدير ذيله الشيطاني العابث. أضاف: «ستكره أن تخسرَ سلاحها السري.» أخرجت بوبي كتلةَ العلكة الوردية من فمها، وألصقتها بجانب الحافلة، ولطَّخت حرف «الدال» من كلمة «الكتاب المقدَّس» بالكُتلة اللزجة، وسألت: «ما الذي تنويان فِعْله أنتما الاثنان على أي حال؟» ثم تحرَّكت لتحتل مكان ويل في المدخل بعدما صعدنا داخل الحافلة. رأيت فيش من الزجاج الأمامي خارجًا من الكنيسة، بوجه مُكفهِر وهائج، يبحث عني. قال ويل الابن لبوبي: «يجب أن تذهبَ ميبس إلى سالَينا، وسأصحبُها إلى هناك للتأكد من وصولها سالمة.» قالها كما لو أنَّ الله الجبار ودولة نبراسكا العظيمة كلَّفاه بهذه المُهمَّة، وكما لو أن القس ميكس والسيدة روزماري لن يَضرباه ضربًا مُبرحًا لرحيله المفاجئ دون أن يتركَ لهما خبرًا. صرخت بوبي في أخيها: «مَن تظن نفسك؟ هل أنت حارس ميبس الشخصي؟ ألا يَكفي وجود شرطي واحد في العائلة؟» ولوهلة، بدا ويل على وشْك الانفجار. ولو لم يفكَّ ويل الزرَّ الأعلى من قميصه لانقلع من مكانه؛ إذ انتفخت أوداجه. قال ويل: «اخرسي يا بوبي. إن سالَينا على بُعد ٩٠ ميلًا فحسب. وسنَصل إلى هناك في لمح البصر.» وفي الجانب المقابل مِن مكان انتظار السيارات، رآنا فيش وكان في طريقه إلى الحافلة الوردية، وتموَّجت الحشائش المُجاورة لرصيف المشاة وتسطَّحت من حوله كأنها تحت شفرات مروحية دوَّارة. كان فيش في قمة الغضب. قلتُ وبوبي لويل الابن في آنٍ واحد: «لن تذهب إلى سالَينا.» ثم تبادلت أنا وبوبي نظرةَ غضبٍ وحَنَقٍ طويلة، وكانت هي لا تزال واقفةً على الأرض أمام دَرج الحافلة، وأنا في قمته بجوار مقعد السائق، وويل الابن على بُعد مسافة مُتساوية بيننا، وفيش يقطع المسافةَ الفاصِلة بينَنا وبينه بسرعة. تكدَّست غالبية المَقاعد المُهترئة داخل الحافلة بالصناديق ذات الأغطية وغيرها، وبدا كأنه أُزيلت المقاعد الخلفية لإفساح المكان لمزيد من صناديق التخزين. اتجهت ناحية مُؤخِّرة الحافلة، مُتجاهِلة بوبي وويل الابن، وفكَّرت أنه يُمكنني الاختباءُ هناك جيدًا حتى تَصِل الحافلة إلى كنساس. اتبعني ويل الابن وفي أعقابه بوبي. قالت بوبي وهي تَصعد الدَّرج المؤدِّي إلى الحافلة بخطوات قوية، مستحضرةً معها شجاعةَ وتردُّد فتاة في السادسة عشرة: «حسنًا، لن تَذهبا إلى أي مكان دوني. لو اختفيتُما، مَن سيتحمل المسئولية إذن؟ مَن سيَقع في ورطة؟ بالطبع أنا سأتحمَّل المسئولية. وإذ كنتُ سأقع في ورطة، فالأفضل أن يحدُث هذا لأمرٍ يَستحق. سأذهب معكما.» أنشأ ويل يجادل: «مُستحيل يا بوبي.» لكن بوبي رفعت إصبعها في وجه أخيها لإسكاته. وقالت: «لا بدَّ أن يتعهَّدكما أحدٌ بالرعاية يا أطفال. سيَقتلني أبي وأمي إن تركتكما تذهبان بمفردكما.» قال ويل: «سيَقتُلانك على أيِّ حال. بل سيقتلاننا.» سأل فيش وقد صعد أيضًا دَرَج الحافلة مُستعينًا بيديه ورجليه: «ماذا يجري هُنا؟» صحتُ في أخي من وراء ظهري، وأنا أتسلَّق الصناديق المكدَّسة في الممر: «لن أعودَ إلى البيت يا فيش. سأذهب إلى مشفى «هوب» في سالَينا. سأذهب إلى كانساس وسأجد أبي.» سأل فيش بضحكة هازئة: «أبهذه الحافلة ستَذهبين؟» قالت بوبي: «أجل»، باستهزاء بدا مُبهجًا في تمرُّده، جعلها تبدو كأنها تقف في صفي. وأردفت: «سنذهب جميعًا إلى سالَينا أيها الفتى فيش. إن كنت خائفًا جدًّا من السباحة ضد التيار مع بقيتنا، فالأجدر بك أن تنزل من الحافلة.» ألقت بوبي نظرةً سريعة مُباغتة فوق كتف فيش، وإلى خارج نافذة الحافلة الأمامية، ثم قالت: «لكن احسم أمرك بسرعة لأنَّني أظنُّ أن سائق الحافلة خارج من الكنيسة الآن.» استدَرنا جميعًا لنرى أن ما قالته بوبي ليس كذبًا. كان عامل التوصيل الحزين يخرج من الكنيسة، حاملًا صندوقين ثقيلين من الكتب المقدسة الوردية ومطأطئ الرأس. تبادلتُ أنا وويل الابن وبوبي وفيش النظرات، وترقَّبنا مَن سيندفع من الحافلة أولًا، ومَن سيتحلَّى بالشجاعة لخوض التحدي والبقاء في الحافلة. كاد عامل التوصيل يبلغ الشاحنة عندما ظهرت السيدة روزماري بين الأبواب المُزدوجة المفتوحة للكنيسة وفتَّشت ساحةَ انتظار السيارات بعينيها مثل حارس سِجن. صاحت بوبي: «بسرعة! اختبئوا! لا نُريدها أن ترانا!» تملَّكهم الرعب وتبعوني مُتسلِّقين الصناديق بأيدهم وأرجلهم للوصول إلى مؤخرة الحافلة، وراحوا يتعثَّرون وينزلِقون ويرتطِمون بالصناديق، فأوقعوا الكتبَ المقدسة الوردية على أرضية الحافلة مثل الأحجار التي تُداس عند عبور الماء. وفجأةً شعرتُ أنني غير واثقة تمامًا من هذه الخطة. ربما كنت مُتسرعةً جدًّا. ربما كان من الأفضل أن أسيرَ كلَّ هذا الطريق إلى سالَينا. همس الملاك في أذني: «إنها خائفة.» في تلك اللحظة، لم أكن بحاجة أن يُخبرني الوشم عن شعور بوبي. كنا نتشارك الشعور ذاته ولم يكن لدينا وقتٌ للتظاهر بعكسه. وقبل أن أفكِّر في الأمر مليًّا تسبَّبت في حبس الجميع في الحافلة الوردية الكبيرة. صِرنا مسافرين متهربين إلا إذا حملت الشجاعة أحدنا — أو الجنون — على النزول من الحافلة أمام عامل التوصيل والسيدة روزماري وإفساد الأمر على الجميع. لكن لم يحاول أحدنا الهروب، وكنتُ ممتنة لذلك. غطسنا خلفَ كومة صناديق الكتب المقدَّسة الوردية في مؤخِّرة الحافلة، مختبئين، نتساءل عما إذا كنا مستيقظين أم إننا في حُلم، بينما صعد عامل التوصيل إلى الحافلة. واندهشنا عندما وجدنا في نهاية الحافلة سريرًا نقَّالًا، وحقيبةَ نوم محشورة بين الصناديق، بالإضافة إلى حقيبةِ سفر مُهترئة يتناثر منها جوارب غير مُتطابقة وبدل عمل إضافية. وإلى جانب ذلك، كان على الأرض كيس من رقائق البطاطس المقلية نصف فارغ، وبضع وجبات خفيفة من «سلِم جِمز»، وكومة مقلوبة من مجلات «ناشونال جيوجرافيك»؛ بعضها مُنثنية أوراقها باهتة الألوان، والأخرى حديثة جديدة. لكن كانت المفاجأة الكبرى هي وجود سامسون. تكوَّر سامسون في هيئة كرة تحت السرير النقَّال، مثلما تضمُّ سُلحفاته جسدها تحت قوقعتها. كان يتطلَّع إلى الصور في إحدى المجلات القديمة جدًّا، وعيناه الداكنتان مَفتوحتان على آخرهما وهو يُطالع مقالًا بعنوان «عادات غريبة للعُثَث المألوفة» عندما اقتحمنا مَخبأه. لكنه لم يَحمل نفسه على النظر إلينا حتى سمع الضوضاء المجلجِلة المدوية للمحرك ترجرج الحافلة. رفعت إصبعي إلى شفتي في تنبيهٍ غير ضروري لسامسون بالتزام الصمت، ونسيت لوهلة أن أخي المزاجي الكئيب دائمًا ما يكون صامتًا، وسيتطلب الأمر ما هو أكثر من ارتفاع صوته كي يُمكن سماعه وسط صوت زمجرة محرك الحافلة القديم. بدأت العجلات في الدوران، فتشبَّثنا بما يمكننا التشبُّث به حتى لا نرتطم أو نثب في الأرجاء بينما تغادر الحافلة ساحةَ انتظار سيارات الكنيسة باتجاه الطريق السريع. لكن الحافلة الوردية الكبيرة بلَغَت طريق ٨١ السريع وانعطفت يسارًا لا يمينًا، واتجهت شمالًا لا جنوبًا، ووجدنا أنفسنا فجأة نبتعد عن كنساس بدلًا من الاقتراب منها.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/9/
الفصل التاسع
فورَ أن أدركتُ وفيش أننا نَقترِب من نبراسكا أكثرَ فأكثر، نهَضْنا على ركبنا بسرعة كي نسترِق النظر من النافذة. نظر إليَّ فيش بعينَين مُلتاعتَين صارمتين كأنهما تُلمِّحان بنبرةٍ لاذعة إلى أن فكرتي كانت غبية وتقول: «ماذا عسانا نفعل الآن؟» استرختْ بوبي على الفراش النقَّال مثل كليوباترا، تسُند جسدها بمِرفقها، في لا مُبالاة واضحة، وتترك ثِقَلها يضغط على سامسون الذي ظلَّ مُتكورًا تحت السرير بهدوء. وأخرجت لفَّة كبيرة من علكة «بابِل تيب» واقتطعت منها قطعة طويلة وحشرتها في فمها. ثمَّ التقطت إحدى إصدارات «ناشونال جيوجرافيك» الحديثة من أعلى الكومة وشرعت تتفحَّص صفحاتها بفتور. احتوى غلاف المجلة على صورة قلب بشري، بدا مجرَّد بطيخة كبيرة لا أكثر، تتشعَّب فيها جذور باهتة؛ وفي ظني أن الصورة جعلت قلبَ المرء يبدو هشًّا للغاية على عكسِ ما تعلَّمت في المدرسة من أنه عضلة قوية. حينها نظرت إلى بوبي وأدركت أنها قد تكون على نفس الشاكلة؛ قوية وهشة في نفس الوقت. كانت تتمدَّد على ذلك السرير النقَّال كأنها على أريكتها بمنزلها. ولولا همسات الملاك في رأسي يُخبرني عن كيفية شعورها بالتوتر مثل بقيتنا، لظننت أنه ليس هناك ما يقلقها البتَّة، وأنها فتاة قوية في السادسة عشرة من عمرها. حطَّ فيش على السرير، ووضع مرفقيه على ركبتيه، محاولًا الابتعادَ عن بوبي قدْر الإمكان، ما آل به إلى الجلوس عند قدمَيها في طرَف السرير. حاول فيش الحفاظ على توازنه على طرَف مفرش السرير المعدني، وشعرت بعينَي أخٍ مسئول تخترقاني. كنتُ أعلم أنه في قمَّة الغضب. وأعلمُ أنه يشعر بالقلق. وتخيَّلت أنه يسمع صوتَ أمي وأبي في رأسه أيضًا، ويشعر أنه الشخص المسئول أمامهما. وفوق ذلك، أعلم أنه يتذكر الإعصار الذي تسبَّب به وما نجم عنه مِن أضرار؛ وذلك لأنه أتمَّ الثالثة عشرة بالمكان الخطأ. جلست على الأرضية واثقةً تمام الثقة أن الحافلة ستُغيِّر اتجاهها وستعود إلى سالَينا بكنساس في لمح البصر. ألصقت ركبتي بصدري، وشددتُ تنورتي الصفراء الناعمة حتى وصلت إلى كاحلي: ودغدغَت الزهرةُ الأرجوانية الكبيرة وجنتي كما لو أنها تُريد دفعي إلى الابتسام. جلس ويل الابن على الأرضية بجواري رغم تلويثها لسرواله. جلس، تكاد تلمس يدُه يدي، واستقرَّت في حجره مجموعةُ الأقلام، هدية عيد ميلادي السعيد، التي لا تزال مغلَّفة بورق هدايا عيد الميلاد. وبينما تُقعقع الحافلة مُبتعِدة عن كنساس، وعن أبي في المشفى، وعن أمي وروكيت في النُّزل مع الصابون والمناشف البيضاء، كان يُمكنني سماعُ النميمة الخافتة لملاك بوبي في رأسي. وحاولت أن أتجاهلها وأتظاهر بعدم سماعها. تذكَّرت أنني عندما كنا نعيش في الجنوب، رأيتُ رجلًا مجنونًا ذات مرة، يترنَّح ويَهيم على وجهه على رصيفٍ في وسط المدينة، لا يَتحدَّث مع أحد سوى نفسه؛ كان يتحدَّث ويصفع جانب رأسه كأنه يُحاول إخراج شيءٍ ما من الجانب الآخر. وبدا كأنه يُعاني من وجود حشرة في أذنه أو أنه يسمع أصواتًا في رأسه. وتساءلت ماذا لو أن هذا مَصيري؟ لكنَّني حدثت نفسي قائلة إن ما حدث بسبب الإجهاد، والقلق بشأن أبي، والتوتُّر بسبب مُحاولتي لاكتشاف هِبَتي الخارقة والتأكُّد من عملها على النحو السليم. فالتوتُّر يدفع عقولَ البشر إلى فعلِ أشياءَ غريبة. حاولت تجاهُل همهمة الملاك ودندنته بنفس الطريقة التي تجاهلتُ بها الهمسات المُزدرية لأشلي وإيما وجميع الأطفال الآخرين في مدرسة هيبرون الإعدادية، بالأمس وفي الأيام السابقة، بل وفي كل الأيام منذ قُدومي للعيش في كنساسكا-نبرانساس. لكن بينما أدفع بذلك الصوت إلى الخلفية في رأسي، بنفس الطريقة التي دفعت بها فُتات الطعام تحت الموقد عند عدم انتباه أمي، أدركت أنه يتردَّد وراء صوت الملاك، وضجَّة الحافلة، وخشخشة الصناديق، صوتُ السيدتين المُتعاركتين من مكتب القس ميكس في رأسي من جديد. قالت كارلين بصوتها الرخيم الخشن: «هذا الرجل لا يَستخدِم المقدار القليل من الذكاء الذي حباه الله به. كما أنه أَخفق في التوصيل بالطريقة المناسبة. ما مدى صعوبة تسليم صندوق من الكتب المقدسة؟» قال صوت روندا الذي ينمُّ عن كِبَر سنِّها في غضب: «إنَّ بيعَ القهوة سهل. كان من الأفضل له أن يبيع القهوة. لم تَعرفي قط كيفيةَ العناية بابني. لا أدري ما الذي رآه فيك.» وبدا أن الأصوات انجرفت مِن مُقدمة الحافلة إليَّ، عبْر نظام اتصال داخلي متَّصل بعقلي مباشرة. كنت على يقينٍ أنه لم يركب الحافلة إلا عامل التوصيل ونحن الأطفال، ولم يساورني أدنى شك في أنه لا أحد غيري يسمع ما أسمعه. ألقيت برأسي على ركبتي وهززت رأسي يَمْنة ويَسْرة، في محاولة للتركيز على ملمس القماش الأصفر الباهت لفستان المناسبات الخاصة على بشَرتي، ولتجاهل جدال المرأتين البغيضتين ولوم إحداهما الأخرى على حظ عامل التوصيل العاثر. لم يكن لديَّ أدنى فكرة كم مضى من الوقت والحافلة تُصلصل وتُجلجل في الطريق السريع. شعرتُ كأنَّ عدَّة ساعات مرَّت. رأيت السماء عبْر نَوافذ الحافلة مِن فوقي وهي تَسير معنا، وشاهَدْت صفًّا لا يَنتهي من أعمدة الهاتف يمرُّ بسرعة كبندول الساعة. وحدَّدَت صوامعُ الغلال وأبراج الماء المسافاتِ بين البلدان المُحاذية للطريق السريع، لكنَّني في كل مرة أنهض فيها بما يَكفي لأتطلَّع خارج النافذة لا أرى سوى المشهد الخامل المستمر للأبد على ما يبدو؛ لا أرى إلا حقلًا تلو الآخر من سيقان الذُّرة البُنية الميتة الباقية من فصل الصيف الماضي، وصفوفًا من معدات الري الهيكلية الهامِدة بانتظار استيقاظ الأرض مع الربيع وطلبها شربة ماء. بدأ الخَدَر يسري في مُؤخِّرتي، وشدُّ العضل يَنخَز في ساقي، بينما مالت شمس آخر النهار تحت الأفق لفترة طويلة ساطعة عبْر نوافذ الحافلة مُلقية بظلال صناديق الكتب المقدسة المستطيلة الكبيرة على الأرض. آنذاك شعرت بوبي بالضجر. فرفعت قدَمها وركلت فيش مِن على طرَف السرير النقَّال بابتسامة ماكرة بغيضة. فقَدَ أخي صوابه، وانقبض وجهه، وأطلق العِنان لهِبَته الخارقة؛ إذ عجز عن السيطرة عليها بسبب حَنَقه وتوتُّره. تطايرت المجلات في الهواء مثل سربٍ غاضب من الطيور الفوضوية الصفراء الأجنحة وجد نفسه عالقًا في تيار الهواء المتصاعِد الناجم عن حَنَق فيش. تأرجحت أغطية الصناديق الورقية ورفرفت، وعلا البخار نَوافذ الحافلة واهتزَّت بقوةِ عاصفةِ فيش المُمطرةِ الجنونية. غطَّت بوبي رأسها بذراعَيها، والمجلات تَطير مِن فوقها مُتوعِّدة بالسقوط عليها، والحرارة تَرتفِع داخل الحافلة حتى صارت استوائية تمامًا. تصوَّرتُ أن بوبي ستُمزِّقها القصاصات الورقية من المجلات المُتطايرة الخفَّاقة، وقفزتُ مِن فوق الأرضية لأمسك بفيش الذي ركَّز نظراته الحارقة على بوبي دون أن يحُول عنها. أخذت أخي من كتفَيه وهزَزتُه هزًّا عنيفًا. وظننتُ للحظة قاتمة جدًّا أنني قد أُضطرُّ إلى صفعِه أو لكمِه أو قَرصِ أذنَيه أو إلى فعل أي شيء من شأنه إيقافه عن إثارة العواصف. همست باسمه: «فيش!» وهززته مرةً أخرى في يأس. وفجأة وجدت سامسون واقفًا بجواري. ووضع يده الشاحبة على ذراع فيش بهدوء شديد دون أن يَبتسِم أو يَعقد حاجبيه أو يطرِف بعينيه. ولم يعصر ذراعه أو يقرصها أو يضربها أو يُقيِّدها. اكتفى سامسون بلمس رُسْغ أخيه بأنامله المُغبرة فسكنَت الزوبعة. أشاح فيش نظرته المُلتهبة عن بوبي وتطلَّع إلى سامسون، وهو يهزُّ رأسه بضع مرات كأنه يزيل بقايا نوبات الغضب من عقله. قال: «آسف»، وبدا مُنزعجًا مُرتبكًا خجلًا في اعتذاره لسامسون أو لبوبي أو لنفسِه. كان ويل الابن قد نهَض من فوق الأرضية أثناء انفعال فيش، وأسقط مجموعة الأقلام من حِجره، وركلَها تحت الفراش النقَّال على سبيل الخطأ، وهو يتصارع مع المجلات المُعتدية. ونظر وشقيقتُه إليَّ وإخوتي كما لو أننا كائنات فضائية خضراء شريرة هبطت في فنائهما الخلفي. وساد الصمت الأرجاء بالمعنى الحرفي للكلمة. واستغرقت لحظة كي أستوعب كم كانت الأجواء هادئة … كم كانت ساكنة. توقَّفَت الحافلة. وأوقف السائق المُحرِّك. وسكنت القرقعة والرجرجة. ووقف عامل التوصيل في الممر واضعًا يديه على خاصرته، وراح يُحدِّق بنا جميعًا، وتبدَّلت نظرته الحزينة بأخرى منزعجة أو على الأحرى غاضبة جدًّا. قال ملاك بوبي في أذني: «إنها تعلم أنها في ورطة الآن.» وحدَّثت نفسي قائلة إنها ليسَت وحدها.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/10/
الفصل العاشر
في صمتٍ يُصِمُّ الآذان، نظر عامل التوصيل إلينا، حائرًا فيما يفعل بشأن عُثوره على فئرانٍ صغيرة تعشش بين كُتبِه المقدَّسة؛ هل يُسمِّمها أم يُغرقها؟ هل يُطعمنا للقطط أم يَصطادنا بمصيدة؟ نظر إلينا، ونظرنا إليه بدورنا، لا نجرؤ على التنفس تقريبًا. كان الرجل قد أزال زهرةَ القرنفل الذابلة وأرخى ربطة عنقه الوردية. كما طوى كمَّيه عند الرُّسغ، وعندما عقَد ذراعيه على بدلتِه الباهتة التي تُغطي صدره الغائر النحيل، كشفت المرأتان المتخاصمتان الوقحتان، كارلين وروندا، عن وجهَيهما — أو دعنا نقول — عن مكانهما. كانت كارلين مرسومة بحروف مُزخرفة على ذراع الرجل الأيمن، فوق زهرة سوداء ذات أشواك كالمسامير. أما روندا فكانت مرسومة على ذراعه الأيسر، تحت قلب أحمر، قد حُفرت داخله كلمة «أمي». نظرت، وحروف كل اسم تدور وتتمايل؛ وشعرت بالغثيان والخطوط تُعيد رسْم نفسها على شاكلة وجوه نسائية. وبدأتا تتجادَلان من جديد. «أنتِ أمُّه يا روندا. ماذا فعلتِ كي يَشبَّ لِيستر ضعيفًا على هذا النحو؟ إنه لا يُظهِر مقاومة من أي نوع.» «لا تلوميني! فليستر يُشبه والدَه الأحمق العديم الفائدة، ذلك الرجل الضعيف. لكن ربما لو لم تُصرِّي يا كارلين أن يُعطيَك ابني كلَّ قرش يحصل عليه من توصيل تلك الكتب المقدَّسة لابن عمك فقد يَحظى بفُرصة الادخار، لمرة واحدة في حياته، بدلًا من تكبُّده المشاقَّ لتغطية نفقاتك.» شاهدتُ المرأتين وقد عادتا إلى الحياة من خطوط أسمائهما كأنَّ الرسوم الكاريكاتيرية في طرائف يوم الأحد قد دبَّت فيها الحياة، وشعرت بالتشوُّش والدُّوار مرَّة أخرى. تراجعت خطوة للوراء، مُضطربة تعجز ساقاي عن حَملي، وأخذت أُذكِّر نفسي أن هذه ليست موهبتي المتفرِّدة. وما يحدُث هو مجرَّد حيَلٍ ماكرة يمارسها عقلي. ما أزال مُضطرَّة إلى الذهاب إلى أبي وإيقاظه لأن هذا ما يجب أن يحدُث. أردت أن أجلسَ على السرير النقَّال، قبل أن تستسلم ساقاي الهلاميَّتان، لكن كانت بوبي لا تزال مُستقرَّة هناك، وويل الابن يقف حجرَ عثرة في طريقي. ثم رأيت سامسون يقف في زاوية عيني كالشبح، وبلمسته الرقيقة يَمسح ظهري. لم أَعُد أشعر أنني سأفقد وعيِيَ، وتمكَّنت من تجاهُل المرأتين المتحدثتَين بصوتٍ عالٍ، وبدأت أُخفِض صوتَيهما قليلًا، عبْر الاسترخاء والتنفُّس بعمق. قال عامل التوصيل: «ماذا تفعلون في حافلتي يا أ… أطفال؟» قالها عابسًا بنَبرة عالية، لكنها عذبة مدهشة كمُغنٍّ غربي قروي يُغني بصوتٍ مُختلف الطبقات مِن فوق نبتة صبار. لم يَقُل أحد شيئًا، لا ندري ماذا نقول أو مَن يجب أن يتطوَّع بالإجابة. قال الرجل: «لا أريد تكرار السؤال»، بنَبرة لا تزال موسيقية لكنها مُتوتِّرة كأن التحدُّث إلى الأطفال يُصيبه بالتوتر. قالت روندا من فوق ذراعه الأيسر: «رائع يا ليستر. أرِهم شجاعتك.» قالت كارلين بازدراء: «هذا لو أنه يتحلَّى بالشجاعة. سيكون استعراضه قصيرًا للغاية قبل أن تتداعى شجاعته. وهؤلاء الأطفال سيقودون هذه الحافلة وسيُخبرونه بمكان جلوسه في أقل من عشر دقائق.» ابتلعتُ ريقي بصعوبة، وخطوت تُجاه الرجل بحذر وبطء. وسألت: «هل ستعود إلى كانساس قريبًا يا سيدي؟ نحن نُحاول الذهاب إلى سالَينا.» نظر إليَّ ليستر، وكان لا يزال يَعقد ذراعَيه فوق صدرِه ويُقاوم للحفاظ على بقاء كتفَيه في مكانهما، باذلًا غاية جهده للثبات على موقفِه. تحرَّك فمُه كأنه يَمضغ شريطًا من علكة بوبي، يُحاول أن يمنع الكلمات الخاطئة من أن تتكوَّن داخله. وتنبَّهت إلى أنه ربما تدور تروسه ببطء نوعًا ما مُقارنة بالأناس الآخرين أو أن قبَّعة تفكيره انكمشت في المغسلة ولم تَعُد تَستوعب حجمَ مخِّه. قال الرجل أخيرًا، وهو يُشير بإصبعه نحونا باسطًا ذراعه: «لا يُمكنكم الوجود على متن هذه اﻟ… الحافلة أيها اﻟ… الأطفال.» لكن اهتزَّ إصبع ليستر، وسط ضحكات كارلين وتوبيخيات روندا، سُخرية من محاولاته للتحلي بالإصرار والشجاعة، كما لم تحمل نظراته أيَّ حقد حقيقي أو غيظ. خطوت خطوة أخرى تجاهه قائلة: «أرجوك يا سيدي. نحن نُحاول بلوغ سالَينا فحسب. لن نتسبب في أي مشكلات ولن نُعيق طريقك. وبالتأكيد لا ضرر من انتقالنا بالحافلة معك مجانًا. فلديك الكثير مِن الأماكن. ستعود إلى هناك، أليس كذلك؟ فاللافتة على حافلتك تقول …» تلعثم ليستر، وهو يخطو خُطوة للوراء، ويدُسُّ سبَّابته تحت إبطه الرطب، كما لو كان لا يثق به، قائلًا: «قد أقع في أزمة ﻛ… كبيرة جدًّا بوجود أ… أطفال في حافلتي. ربما لن يرُوق الأمر لرئيسي على الإطلاق. وسيَطرُدني من عملي بالتأكيد. هل تعلم عائلتكم أين أنتم؟» قلتُ: «إنَّ أمي وأبي في سالَينا الآن. وأبي يَرقُد في المشفى. ستُسدي إليهما خدمة جليلة إن أوصلتنا إليهم. أقسم لك»، ورفعْت يدًا في الهواء كأنني أقطع عهدًا؛ ومع وجودي وسط كل هذه الكتب المقدَّسة ظننت أن عهديَ سيكون له وزن. تحرَّك ليستر جَيئةً وذهابًا، وكتفاه لا تزالان تهتزان، وترُوسه لا تزال تدور بعد كلامي. قالت كارلين: «ها قد بدأ. هذا هو ليستر سوان. انظري إليه وهو يُذعن لفتاة صغيرة كالأحمق.» طقطقت روندا، بلسانها المرسوم، بخيبة أمل معهودة من الأمهات. وقالت: «لم يتطلَّب الأمر أكثرَ من لمسة خفيفة كي يُطرح ابني ليستر أرضًا. ليته صار مثلي. حينها، كنت سأُلقِّن هؤلاء الأطفال درسًا.» خفضت يدي، وخطوت خطوة أخرى إلى الأمام؛ أما ليستر فقد تراجع إلى الخلف خطوة أخرى، كأنه يخشى أن أعَضَّه إن دنوتُ منه أكثرَ من اللازم. وقلت: «أتسمَح بنقلِنا يا سيدي؟» مرَّر ليستر يدَه اليمنى في شَعره الخفيف، وحكَّ رأسه الأصلع، فانتصبَت خصلات شعره المتبقية مثل ريش بطة صغيرة قبيحة؛ أدارت كارلين عينَيها الكاريكاتيريتَين المرسومتَين في مَحجِرَيهما، وهي تهتز للأعلى والأسفل، وتَنقلِب رأسًا على عقب مع حركة يده. ولوهلة، ظننت أن ليستر سيلقي بنا من الحافلة مباشرة، ويَتركنا على جانب الطريق السريع، وسط المجهول. لكن بعد فترة صمتٍ غير مريحة، مرَّت هذه اللحظة، وانخفض ليستر ليجلس على حافةِ أقربِ مقعد له، بعد أن تهدَّلت كتفاه وارتخيتا بصورة زائدة. سأل بنَبرة رجل حزين يُدرك أنه خسِر آخرَ قطرة من شجاعته: «حسنًا، من أين جئتم جميعًا؟»
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/11/
الفصل الحادي عشر
تبيَّن أن ليستر سوان يستمتع بتجاذب أطراف الحديث مع الآخرين. فبعد أن أفرغ الصفوف الأمامية من المقاعد المُهترئة البالية، ألحَّ علينا جميعًا للجلوس في المقدمة، وهو يقود الحافلة. جلس ويل الابن وبوبي في نفس الجانب من الحافلة، وراء مقعد السائق مُباشرة، غير واثقين فجأةً منَّا، صغار بومونت، والأشياء الغريبة التي تَجري حولنا. جلستُ وفيش في الجانب المقابل عبْر الممر، مُشتاقَين إلى العودة لطريقنا. وفضَّل سامسون الانعزال في مُؤخِّرة الحافلة، وانسلَّ أسفل السرير النقَّال مرة أخرى، ومعه كيس رقائق البطاطس المقلية ووجبات «سلِم جِمز» الخفيفة وكومة المجلات في متناول يده. قاد ليستر الحافلة الوردية الكبيرة وأسهب في الحديث عنها قائلًا: «قد تُعاني هذه العجوز بعض اﻟ… المكابس المَعطوبة ويَحتاج اﻟ… الكربراتير إلى الاستبدال، لكنها لا تزال قادِرة على السير أميالًا عديدة.» كان يتحدَّث عن الحافلة كأنها سيدة أنيقة مُرهَفة الحس تحتاج إلى اهتمامه وعنايته دائمًا. قال: «وبالطبع، أحرص ألا أنسى ألا أتخطى ٥٤ ميلًا في الساعة»، وعبس ليستر وتغيَّرت تعابير وجهه كأنه يستحضر كلَّ الأوقات التي نسيَ فيها هذه الحقيقة. أضاف: «إذا تخطيت هذه السرعة، فستتوقف هذه اﻟ… الحافلة القديمة عن العمل. أتذكَّر ذات يوم عندما …» قاطعَ فيش ثرثرةَ ليستر بفروغ صبر مُتسائلًا: «كم سيستغرق الوقت للوصول إلى سالَينا؟ أبي في حالةٍ يُرثى لها. يجب أن نذهب إلى هناك في أسرعِ وقت ممكن.» خفق قلبي وشعرت بالألم يعتصر مَعِدتي عندما تذكَّرت كلمات أمي: «يقول الأطباء إنه يجب أن نَنتظِر ونرى ما سيحدث.» تحرَّك ويل وبوبي في مقعديهما بتوتر؛ إذ تذكَّرا أيضًا السبب الذي من أجله تسلَّقنا تلك الحافلة في المقام الأول. قال ليستر مُرتبكًا من القلق الذي أثاره تغيير الخرائط العقلية في منتصف الجملة: «حسنًا، دعوني أفكِّر. يجب أن أبلُغَ مدينة بِي ﻗ… قبل الخامسة.» وبينما يضع يدًا واحدة على عجلة القيادة، أخرج ليستر ساعةَ يدٍ ذات جلدة مقطوعة من جيب بدلته. هتف: «تبًّا!» وكاد يَنحرف عن الطريق وهو يُحملق إلى الساعة. تابع: «لقد تأخَّرت.» ارتفعت الحافلة وارتجَّت إذ ضغط ليستر على دوَّاسة البنزين بقوةٍ أكبر. ما إن تذكَّرت وفيش كلَّ ما أخبرَنا به للتوِّ عن تعطُّل الحافلة الوردية الكبيرة عند سيرها بسرعةٍ كبيرة، راقبْنا مؤشرَ السرعة، من فوق كتفِ ليستر، عن كثَب بتوتُّر. أردف فيش: «وماذا بعد؟ أين ستذهب بعد بِي؟ هل ستعود إلى سالَينا بعد ذلك؟» نظر ليستر إلى فيش دون تركيز كأنه لا يصغي السمع: «همم؟ بعد بِي؟ يجب أن أذهب إلى وايمور ثم سأعرِّج سريعًا على مانهاتن ﻟ… لدفع بعض المال إلى صديقة، لاري ر… رئيسي هو ابن عمها وهي تثور إن لم أحضر لها المال. وبعد ذلك، سنعود إلى سالَينا.» كانت بوبي قد انزلَقَت إلى طرف مقعدها آنذاك؛ تُحدِّق بانتباه إلى الحاجز الفاصل بينها وبين الجزء الخلفي من مقعد ليستر، وتَنظر إلى عامل التوصيل في عبوس. وسألت: «كم سيستغرق كل هذا؟ متى تخطِّط للرجوع تحديدًا؟» أجاب ليستر بذهنٍ شارد، وهو يَخرج من الطريق السريع الرابط بين الولايات، مُتوغلًا شمالًا بعيدًا عن سالَينا، ويَدخل في طريق سريع ريفي صغير: «أوه، أظنُّ أنني لن أتأخَّر عن ظهيرة الغد.» صِحنا جميعًا: «الغد؟ الغد؟» هتفت: «هذا وقتٌ طويل للغاية!» قال ليستر وهو يُحاول جاهدًا إنهاء المحادثة: «حسنًا، ما باليد حيلة. لا أَحتمِل أن أفقد وظيفتي. إن عُدت الآن فسأَخسر عملي بلا شك. حينها لن يكون هناك كتب مُقدَّسة، ولا ﺣ… حافلة، ولا مُستقبل لليستر العجوز المسكين.» ابتلعت ريقي بصعوبة، وشعرت أنني بين السَّنْدان والمِطرقة، وأدركت تمامَ الإدراك مدى صعوبة الموقف حقًّا. كيف لي أن أطلب من رجلٍ لا أعرفه البتَّة المخاطرة بلقمة عيشه من أجلي؟ لكن كيف سأنتظر يومًا آخرَ حتى أصل إلى أبي؟ استدارت بوبي في مَقعدها ونظرت إليَّ بعينين جاحظتين عاجزةً عن تصديق هذه الأجواء غير المعقولة قائلة: «غدًا؟ رائع.» كرَّرت مرةً أخرى: «غدًا» وهي تُومئ برأسها وتَستنِد بظهرها على مقعدها. وأضافت: «هذا مذهل.» نظر فيش وويل الابن ناحيتي أيضًا. انكمشتُ، وغُصت في مقعدي، شاعرةً بالبؤس والاضطراب من وضعنا الجديد. وما أثار دهشتي أن ويل غمز ناحيتي، وعلت شفتَيه ابتسامةٌ جانبية، فشعرت بالتحسُّن قليلًا. من بين كل الموجودين في الحافلة، بدا ويل الوحيد الذي ربما يَحظى بوقتٍ مُمتع. ••• كانت بلدة بِي المتناهية الصغر، في نبراسكا، في حجم نحلة مخطَّطة صفراء تقريبًا؛ قد تئزُّ بجانبك ولا تكاد تراها إن طرفتَ بعينَيك ببُطء كافٍ. وكأن الوضع ليس سيئًا بما يكفي بالنسبة إلينا، فاستحال توحُّشًا وجنونًا فورَ أن وصلنا إلى تلك البلدة الصغيرة. كانت هناك كنيسة واحدة في بِي. وقد شُيدت على هيئة صندوق بزوايا مثل أكورديون، لكن كانت نوافذها مُعتمة وأبوابها موصدة بإحكام. نقل ليستر سوان بصره من ساعة يده إلى الشمس — التي كانت قد اختفت تحت الأُفق تقريبًا — بينما يعبث بمقابض الباب ويَقطع النجيلة الصناعية الخضراء الزاهية الموصلة إلى الباب الجانبي جَيئة وذهابًا. ثم جلَس على دَرَج الكنيسة الأسمنتي وفرَك رأسه. ابتعدتُ عن ليستر كي أتجنَّب سماعَ تأنيب كارلين وروندا وتذمُّرهما بشأن حماقة ليستر الأخيرة. كانت هاتان المرأتان تُصيبانني بالقُشَعْريرة من فرط فظاعتهما. تذكَّرت أمي، وشعرتُ بالأسف نحو ليستر. كان صوت روندا أبعدَ ما يكون عن صوت الأم الحاني. بالطبع، كانت أمي فريدةً بشكل خاص؛ لذا حرصت ألا أنسى هذه الحقيقة. كانت أمي مثالية. تذكَّرت أمي وهي تقول لي ذات يوم: «لقد استغرق الأمر عدةَ شهور حتى اكتشفت هِبَتي الخارقة عندما كنتُ في نفس عمرك.» كنا في المطبخ، أنا وأمي وجيبسي، وأثناء ذلك كانت أمي تُحاول تعليمي كيفيةَ إعداد فطيرة مثالية. لكن كانت فطيرتي أبعدَ ما تكون عن المثالية. أما جيبسي فقد انهمكت في حشرِ أصابعها في أعماق كُتلتها الصغيرة من العجين الناعم، وتَقتَطِع منها قِطعًا صغيرة وتأكُلُها، عندما تُدير أمي رأسها. كانت فطيرتي تتفتَّت وتتشقَّق أو تَلتصِق بيدي وتتمزَّق؛ فكنتُ أُعيد جمْعها من جديد وأحاول ترقيقَها مرةً تلو الأخرى، بينما ارتفعت فطيرةَ أمي بسلاسة وسهولة وانسابت أسفل صينية الخبز بمرونة ونعومة كالحرير، في قوام مثالي غاية المثالية. سألتُ أمي والطحين يُدغدغ أنفي وينهمر مثل الثلج من فوق حافة الطاولة حيث وقفت حاملةً مرقاق العجين الكبير: «كيف عرفتِ يا أمي؟ كيف اكتشفتِ هِبَتك الخارقة؟ متى عرفتِ أنك مثالية لأول مرة؟» نظرت أمي إلى الفوضى التي أحدثتُها على الطاولة وضحكت؛ كان صوتها مثل أجراس كنيسة هيبرون ذات صباح مشرق. ظننت في البداية أن أمي تضحك على كتلة العجين المتعبة والجريحة في يدي، ثم تذكَّرت أنها لن تَفعل مِثل هذا الشيء أبدًا. سحبت أمي أحدَ مقاعد المطبخ بالقرب مني وجلست عليه، ووضعت مِرقاق العجين جانبًا، ثم احتضنت يديَّ المغبَّرتين والمغطاتَين بالطحين في يدَيها. وابتسمت إليَّ بعذوبة. قالت: «لستُ مثالية يا ميبس. لا أحدَ خالٍ من العيوب. كلُّ ما في الأمر أنني بارعة في وضع الأمور في نصابها. قد يبدو ذلك مثاليًّا في بعض الأحيان. إلى جانب»، وواصلت كلامها بينما فترت ابتسامتها قليلًا وهي تعتصر يديَّ: «ستَندهشين عندما تعلمين أن كثيرين يَضيقُون ذرعًا بقضاء الوقت مع الأشخاص الذين يفعلون كلَّ شيء ببراعة طَوال الوقت. أن يكون المرء هكذا ليس أمرًا سهلًا.» أومأت برأسي بينما أحاطتني أمي بذراعَيها. لم أَقدِر على تخيُّل شخص لا يرغب في تمضية الوقت مع أمي. قالت أمي: «نحن، أفراد عائلة بومونت، نُشبه الآخرين بصفة عامة»، وتركت يديَّ وأضافت المزيدَ من الطحين إلى العجين الخاص بي، وتلت الكلمات التي سمِعتها مرات كثيرة من قبل. «فنحن نأتي إلى الحياة ونموت في وقت لاحق. وفيما بينهما نسعَد ونحزن، ونحبُّ ونخاف، ونأكل وننام ونتألم مثل الآخرين.» فكَّرت في أمي وأنا أدور حول الكنيسة وأسير في الطريق المُترَب المختصر المليء بالحُفَر، وغشَّتني الراحة عندما خفتت الأصوات داخل رأسي وبدأت فرقةٌ من صراصير الليل الإحماءَ لعرضِها المسائي — ربما أيقظتها من نومها، هكذا حدَّثت نفسي. عبرتُ الطريق، وأنا أركُل الصخور، باتجاه منزل قديم آيل للسقوط، مُغطَّاة نوافذُه بالألواح، بدا كأنَّ شاحنة مليئة بالطلاء الأبيض ألقت بحُمولتها عليه، من أعلاه إلى أسفله، في وقتٍ ما بالماضي. مكث فيش في الحافلة بصُحبة سامسون؛ كان فيش لا يزال غاضبًا مُتذمرًا، والآن صار هادئًا نكِدًا كشقيقنا الصغير. كانت بوبي تقف خارج الحافلة، تلوك بفمها قطعةً جديدة من العلكة وتَلعن بخفوت؛ لذا تركناها وشأنها. صعدت إلى شُرفة المنزل القديم بخطوات حذِرة، وفكرت أن هذا المكان كان يَنقُصه أرجوحة ليصير مثاليًّا في الزمان الماضي. ولأننا لم يكن لدينا أرجوحة في كنساسكا-نبرانساس، كان أبي يصحبنا إلى أكبرِ أرجوحةِ شُرفةٍ في العالم في منتزه هيبرون. كانت تلك الأرجوحة تستطيع حمل خمسة عشر شخصًا في المرة الواحدة. فكان أبي يَحمل العائلة كلها في السيارة العائلية، ويدع شرارة روكيت تقودنا إلى هناك، أيام الآحاد في فترةِ ما بعد الظهيرة، كي نَجلس معًا على تلك الأرجوحة المجنونة الطويلة التي لا شرفة لها. وكلما تذمَّرت من أن أرجوحة الشرفة لا بدَّ وأن تكون ملحقة بشرفة كان أبي يقول: «استخدمي خيالك يا ميبس فحسب. أغلقي عينَيك وتخيَّلي منزلًا فاخرًا يَليق بأرجوحة شرفة بهذا الحجم.» وكنت أمتثِل لما يقول، لكن المكان الوحيد الذي استطعت تخيُّله هو بيتنا. قال أبي لي: «كلُّ بيت ريفي مُريح لا بد أن يحتوي على مكان يجلس فيه المرء ويتأمَّل ويُشاهد السُّحب وهي تمرُّ في السماء.» لذا أراد أبي أن يَبني لنا أرجوحة، واحتلَّ هذا الأمر تقريبًا قمةَ قائمة الأشياء المهمة التي يريد أن يفعلها. أعلم أنني لا بد أن أذهب إلى أبي في القريب العاجل. لا يمكنني المخاطرةُ بحدوث شيء له، مع عدم انتهاء تلك القائمة بعد؛ فهو لن يُريد أن يتخلى عن أحلامنا. سيُريد بناء تلك الأرجوحة حتى يمكننا الجلوس معًا فوقها. انبعث صوت صرير وأنين من أرضية الشرفة. استدرتُ ووجدت ويل الابن يقف في الشرفة خلفي. لم يُحاول الاقترابَ مني كما فعل في المرة السابقة. كان يَضع يدَيه في جيبَيه ويَنظر إليَّ نظرة فتًى لم يرَ فتاة من قبل. سأل ويل: «ما الخطْب يا ميبس؟» أجبتُ وأنا أتحاشى النظرَ إليه مباشرة: «ماذا تعني؟» قال ويل جونيور وهو لا يزال يتفحَّصني بعينَيه: «أعني، ما رأيك أن تبدئي بالحديث عما جرى في الحافلة مع فيش وتلك الزوبعة؟» مرَّرتُ يدي على درابزين الشرفة، وبشُرود مسَّدت الطلاء المتقشِّر الذي يغطي الخشب الرمادي القديم مثل الشظايا المزينة بالشرائط، ولا أزال أتحاشى النظر إلى عينَي ويل جونيور مباشرة. قلت، وأنا أشعر بالزيف والكذب؛ إذ كنتُ أعلم ما يُريد سماعَه تحديدًا وأدرك أنني لا يُمكنني إخباره بما يُريده أبدًا: «لا أعلم ما الذي تتحدَّث عنه.» وعندما استجمعتُ شجاعتي للنظر إلى وجهه، لاحظت أن عينَي ويل لامعتان تَفيضان فضولًا، مثل طفل صغير يترقَّب ظهور موكب استعراضي. قال ويل الابن: «دائمًا ما أحسست أن ثمة شيئًا مختلفًا بكِ، يا ميبس بومونت، وبأشقائك أيضًا.» هززتُ كتفي دون أن أوافق على كلامه، ولكن دون أن أقول أي شيء. أضاف ويل بإحراج، وهو يَدنو مني قليلًا: «لا تُسيئي فهْمي؛ فقد أحببت هذا بكِ.» وقفتُ في الشرفة وقد انعقد لساني من الدهشة والإحراج حتى صار الصمت مزعجًا غيرَ مريح. ووسط بحثي اليائس عن طريقةٍ لتغيير الموضوع، التفتُّ بالكامل ناحيةَ ويل الابن، وسألته بارتباك: «ما السبب في تسميتِك ويل الابن على أيِّ حال؟ فأبوك ليس اسمه ويل الأب. كما أن اسمه ليس حتى ويليام، بحق السماء.» ابتسم ويل ابتسامة ماكرة. قال: «ربما لستِ الوحيدة التي لديك أسرار يا ميبس.» نظرت إلى ذلك الفتى، من قمة رأسه إلى أخمص قدمِه، ولسببٍ مجهول لم أَستطِع منْع نفسي من الابتسام رغم اشتعال وجنتي حمرةً. قلتُ في نهاية المطاف كأننا توصَّلنا إلى اتفاقٍ نوعًا ما: «أظن أنني أستطيع التعايشَ مع ذلك.» ستبقى أسرارنا على حالتها. أخرج ويل الابن إحدى يدَيه من جيبه. كان يَحمل مجموعةَ أقلام عيد الميلاد السعيد المُغلَّفة. هذا بعد أن التقطها من أرضية الحافلة، وها هو ذا الآن يمدُّ يدَه إليَّ كي آخُذَها. كان ورق التغليف الزاهي مُمزقًا من الجانب وفي حالة مُزرية نوعًا ما. قال: «لا يزال اليوم عيد ميلادك كما تعلمين.» تناولتُ الهدية من ويل واتسعت ابتسامتي أكثر. لقد كان محقًّا. لا يزال اليوم عيد ميلادي ولم أفتح هديةً واحدة مِن هَداياي. دسستُ أصبعًا في المَزْق الجانبي وانتزعت ورقَ التغليف كاشفة عن صندوقٍ رفيعٍ ذي مفاصل. دفعت زوبعة — كنت آمُل ألا يكون فيش له علاقة بها — بورق التغليف من يدي، فحلَّق في الهواء، وعبَر إلى الطرف المقابل من الطريق، بعيدًا عنَّا. فتحت العلبة ووجدت قلمَين فاخرَين أنيقين من الحبر الجاف، امتاز كلٌّ منهما بمسكة فضية لامعة وغطاء مُستدير. وضعت الصندوق فوق درابزين الشرفة وأخرجت قلمًا واحدًا. قلت: «كنتُ سأُجرِّب كتابة شيء لو لم يَطِر الورق بعيدًا.» مدَّ ويل الابن ذراعه أمامه في إيماءة نبيلة، قبل أن يركعَ على الألواح المُتشظية المتشقِّقة عند قدمي، مثل رجل راشد يعرض الزواج على امرأته. قدَّم يده إليَّ، باسطًا راحة يده، كي أكتب عليها. تناولتُ يده في ارتباك. تدفَّق الحبر الأزرق بسلاسة وسهولة على بشرة ويل الابن، وسرعان ما رسمت شمسًا باسمة. وفي اللحظة التالية، قفزت للخلف، وتعثرت في لوحٍ خشبي ناتئ، فسقطت على مؤخرتي؛ إذ رأيت الشمسَ الباسمة تَطرِف بعينَيها وتبلع ريقها كأنها استيقظت من نومها للتو. بدتْ كأنها استيقظت من نومها للتو، والآن لديها ما تقوله.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/12/
الفصل الثاني عشر
قبل أن تتفوَّه الشمس الزرقاء بكلمة، نهضتُ من مكاني وهربت من ويل الابن والمنزل المتداعي. تجاوزتُ ليستر سوان الذي كان جالسًا وقدماه على العُشب الصناعي، وبوبي التي كانت تنفخ فقَّاعةً بعلكتها. وتسلَّقت الدَّرج، ومنه إلى الحافلة، وركضت متجاوزةً فيش الذي كان يجلس مُقرفصًا ومُتذمِّرًا في المقعد الأمامي. ولم أتوقَّف حتى حشرتُ نفسي تحت السرير النقَّال في مؤخرة الحافلة، وزاحمت سامسون، الذي أفسح مكانًا لي دون سؤال أو كلمة، كأنه كان يتوقَّع قدومي. أغلقت عيني بشدة وشرعت أهمهم. باءت محاولتي بالفشل. فلا أزال أسمع الأصوات كلها. عندما صعد ليستر وبوبي إلى الحافلة للاطمئنان عليَّ، كان يمكنني سماع أصوات كارلين وروندا والملاك الصغير ذي الذيل العابث المستدق داخل رأسي. لكن انضمَّ إلى هذه الأصوات صوتٌ آخر جديد، وهو صوت الشمس الزرقاء الباسمة، وقد بدا كصوت جرس آتٍ من الأعماق أخذ في الارتفاع عندما صعد ويل الابن على متن الحافلة. «سرٌّ في مقابل سرٍّ … لدى ويل سرٌّ. أتُريدين معرفة سرِّه؟» لم أَدرِ ماذا أفعل، فصحتُ: «اغسل يدك يا ويل الابن!» وإن كنت أعلم أن كلامي يبدو غبيًّا، حتى بالنسبة إليَّ، بينما تردَّد صوتي عبْر الحافلة الهادئة مشوِّشًا على ضجيج الأصوات الأخرى في رأسي. لم أرغَب في معرفة سرِّ ويل. فأنا لا أريد معرفة الأشياء التي لا يَنبغي لي أن أعرفها. صاح ويل، وهو يشقُّ طريقه عبْر ممرِّ الحافلة: «ميبس؟ هل أنت بخير؟» وعلا صوت الشمس الزرقاء الصاخب كلما اقترب من مكاني أكثرَ فأكثر. «لدى ويل سرٌّ …» صرخت في ويل: «لا تقترب مني!» رآني فيش مُنزعجة، فلم يُحاول معرفةَ ما حدث، وطوَّق ويل الابن وأداره على عقبِه قبل أن يعالجه بلكمةٍ قوية سريعة في عينه مباشرة. تلقَّى ويل الضربةَ وتعثَّر للخلف في ممر الحافلة، وانضمَّت بوبي إلى الشجار فتسلَّقَت المقاعد وانقضَّت على فيش وخدشت وجنتَه بأظفارها. تجاهل فيش بوبي، واندفع نحو ويل، وسأله: «ماذا فعلت بشقيقتي؟ ماذا فعلت بها؟» «لدى ويل سرٌّ … أتريدين معرفة السر؟» «اغسل يدك ويل جونيور!» صرختُ في ويل مرة أخرى بصوتٍ عالٍ، كي يَتمكَّن مِن سَماعي فوق أصوات الشجار وصوت تهشم الزجاج. ازداد ضغط أخي، فطفقت النوافذ القريبة منه تتشقَّق مُصدِرة أزيزًا وأخذت شُروخها تتشعَّب وتزداد اتساعًا مثل شبكة عنكبوت، بينما ازدادت زوابع فيش وعواصفُه سرعة وقوة. صرخت بوبي وصاح ليستر عندما تحطَّمت النوافذ واحدة تلو الأخرى. قفز ليستر وتمايل، وانقبَضَ وجفل مع كل نافذة تَنفجِر، حتى أمسك بالصبيين من ياقتهما، وراح يَدفعهما ويَسحبهما ويجرهما خارج حافلته، وبوبي في أعقابهم. «سرٌّ في مقابل سرٍّ …» راحت الشمس المرسومة بالحبر الأزرق تُثرثر في رأسي لكن بخفوت الآن. اندفعت من تحت السرير النقَّال واسترقت النظر إلى الخارج من أقربِ نافذة مكسورة. صحت، وأنا أُدرك أن ويل لن يَفهم كلامي: «أرجوك، يا ويل، اغسِل الحِبر الذي على يدك!» خارجَ الحافلة، هبَّت رياح فيش عبْر ساحة انتظار السيارات وبين الأشجار المحيطة بالكنيسة. وبدأت سحابة سوداء تتشكَّل فوق رءوسنا، وشرعت زخات المطر تنهمر بغزارة على الأرض. ولحسن حظنا أننا لم نكن على مقربةٍ من أي كُتَل مائية كبيرة، وإلا لنافست عاصفةُ بلدة بِي عاصفةَ عيد ميلاد فيش الأسوأ. بينما يسحق فيش بقدميه قطعَ الزجاج المكسورة المُبعثَرة في ساحة انتظار السيارات، توقَّف فجأة عن مقاومة ليستر سوان، ونظَر إلى وجهي المُطل من النافذة. ونظر إليَّ، وأنا أصرخ وأسدُّ أذني بيديَّ وتَنهمِر دُموعي على وجنتي كما يَنهمِر الماء من صنوبر المطبخ؛ لقد فهِم ما حدث أخيرًا وأنصت إلى كلامي. أدار فيش ظهره إليَّ بحدة، كي يَنظر إلى ويل الابن، كأنه توصَّل إلى نتيجةٍ لا يصل إليها عامةُ الناس بالمُعطيات الموجودة. سكنت العاصفة تدريجيًّا، وأمسك ويل من رُسغه، لينظر إلى الشمس المرسومة بالحبر الأزرق على راحة يده. ثم نظر نظرةً أخيرة إلى الرسمة البسيطة قبل أن ينقلَ بصره إلى وجهي المُثير للشفقة داخل النافذة المكسورة. أدرك فيش ما يجب عليه فِعله بعد أن فهِم أن انزعاجي له علاقةٌ مباشرة بالأشياء غيرِ المتوقَّعة التي تحدُث ببلوغ أفراد عائلة بومونت الثالثة عشرة. ظلَّ فيش مُتشبثًا برُسغ ويل، وراح يجمع ريقَه في فمه لحظةً، قبل أن يَبصُق بصقةً ضخمة ثخينة كبيرة في يد ويل الابن مباشرة. صاح ويل باشمئزاز: «ماذا دهاك يا رجل! هذا مُثير للاشمئزاز!» وحاول أن يُحرِّر يده، لكن ظل فيش محكِمًا قبضته عليها، وأخذ يَدهن البُصاق في أرجاء راحة يده كي يَدمُجه بالحبر، حتى لم يتبقَّ شيء سوى بُقعة غير واضحة كبيرة، تُشبه الكدمة السوداء الضاربة للزرقة التي بدأت تتشكَّل حول عينِ ويل بفعل لكمةِ فيش. قال ويل بلهجة آمرة بينما يُوسِع فيش ضربًا بقبضتِه الطليقة: «دعني وشأني!» ومع بصقة فيش، راح الصوت الجديد يُقرقر ويُغمغِم بكلماتٍ غير مفهومة في رأسي، قبل أن يتبدَّد ويَختفي تمامًا كما يختفي الماء في البالوعة، دون أن يكشفَ عن سرِّ ويل الابن، وخلَّف وراءه ثلاثة أصوات في رأسي فحسب. بذل ليستر سوان غايةَ جهده لفضِّ اشتباك الصبيَين والتخلُّص من بوبي، بينما كان يتدحرج وينزلق فوق قطعِ الزجاج المكسورة. فور أن رأى فيش انبساطَ عضلات وجهي، وعودةَ كتفي إلى وضعهما الطبيعي، وأمارات الارتياح في عيني، تَراجع للوراء بعد أن تحرَّر من قبضة ليستر وابتعد عن لكمات ويل. ربما كان فيش لا يعلم السببَ الذي دفعه لإزالة رسمة الحبر مِن يد ويل الابن تحديدًا، لكنه كان واثقًا أن الأمر مُهمٌّ بالنسبة إليَّ؛ لذا شعرتُ بالامتنان نحوه. أن يَحظى المرء بأشقاءَ أكبرَ منه سنًّا لهو أمرٌ رائع في بعض الأحيان. مسح ويل الابن يدَه المتَّسخة المبللة في سرواله في اشمئزاز وارتياب. كان قميصُه قد خرَج من سرواله تمامًا، وشعره انتشرَ وتبعثَرَ فوق عينه المسودَّة. انتبهتُ إلى أنني لا أزال أقبِض على القلم الفضِّي الفاخر الأنيق الذي أهداني إياه ويل. شعرت بثِقله في يدي كأنه مصنوع من الرصاص. وضعت الغطاءَ على طرَف الكتابة ثم دسسته في جيبٍ عميق من جيوب تنُّورتي؛ فقد تركت الصندوقَ والقلم الآخر في المنزل المتداعي. كنتُ أشعر بالإنهاك والتعب، ولا أظنُّ أنني أحببت أن أصبح مُراهقة لهذه الدرجة. بعد أن استسلم آخر شعاع من أشعة الشمس لسيطرة اللون الأزرق الداكن المسائي، غُصت على أرضية الحافلة وتجنَّبت التفكير أو الاستماع إلى أي شيء مرة أخرى. تمتمت كارلين خلف مُقلتي: «ما الذي أقحم ليستر نفسَه فيه هذه المرة؟» أجابت روندا باستياء: «المشاكل المعتادة بالطبع. المشاكل المعتادة.»
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/13/
الفصل الثالث عشر
انهمك ليستر سوان في إعادة الآخرين إلى الحافلة، وخصَّص لكل واحد منهم مقعدًا بعيدًا قدرَ الإمكان عن الآخر وأخذ يتفحَّص الدمار الذي لحِق بالنوافذ في أسًى، أما أنا فحاولت عقْدَ صفقة مع الله. أقسمت أنني سأتناول الفاصوليا الخضراء دون تذمُّر، وسأصير فتاةً مطيعة، ولن أحصل إلا على نصف الكَعكة المحلاة بمسحوق السُّكر بعد مدرسة يوم الأحد. هذا لو توقَّفت عن سماع الأصوات عندما يكون أحدٌ في الجوار ذو وشم على بشَرته، خاصة تلك الأصوات التي تُصرُّ على مشاركة أسرار أصحابها ومشاعرهم التي يرغبون في إخفائها عن الآخرين. لم أبكِ منذ وقوع حادثة أبي، لكن بعد أن انفجرت باكية، في الحافلة الوردية الكبيرة، لم أستطِع التوقُّف. شعرتُ أنني محطَّمة يائسة. ماذا لو ذهبت كلُّ هذه الجهود هدرًا؟ ماذا لو كانت حالة أبي قد تحسَّنت بالفعل والآن يجلس في فراشه يَضحك ويتجاذَب أطراف الحديث مع أمي وروكيت؟ أو ماذا لو كانت حالة أبي قد ساءت؛ ماذا لو كان … بكيت بحُرقة وحاولت طرْدَ أسوأ مخاوفي من عقلي. زحف سامسون من أسفل السرير النقَّال مع كيس البطاطس المقلية الفارغ تقريبًا، وأغلفة وجبات «سِلم جِمز». وجلس على الأرض بجواري وقدَّم لي فُتات البطاطس المُملَّحة، دون أن يَنبِس ببنت شفة، ووضَع يده على ذراعي بلُطف. ثمَّة شيء مجهول مُرتبط بسامسون الغامض الخجول يجعل المرء يَستجمِع نفسه بمجرَّد لمسة منه. كان هذا الشيء يحدُث من حين إلى آخر، وأعلم أن بعض الأشخاص يحظَون بهِبَاتهم الخارقة مُبكِّرًا عن العادة. فلدى خالي أوتري فتاتان توءمان، في سنِّ الخامسة، كانتا تَستطيعان رفْع مُهرَيهما البلاستيكيِّين بضع بوصات عن الأرض أثناء اللعب، وتُحركانهما للأعلى والأسفل مثل خيول العجَلة الدوَّارة. لكن باستثناء بنات خالي، كان حدوث مثل هذا الأمر نادرًا. قد يكون الاستثناء في هذه الحالة لأن الفتاتين توءمان، وبدا أنهما تقتسمان الهِبَة الخارقة فيما بينهما. ربما كانت لمسة سامسون الداعِمة سحرًا بشَريًّا عاديًّا، من ذلك النوع الذي يُولد عندما يَقلق شخصٌ على آخر بإخلاص وصدْق. وبصرف النظر عن السبب، مع وجود يدِ سامسون الصغيرة على ذراعي، سرعان ما بدأت الدموع تجف في عيني. قالت روندا من فوق ذراع ليستر الأيسر: «ما الذي يُفكر فيه ذلك الغبي الأحمق؟ لا بدَّ من فحص رأسه. كيف يَصير لي ابنٌ مهزوز الشخصية لهذه الدرجة؟» قالت كارلين من فوق ذراعه الأيمن: «كان من الأجدر به أن يتركَ أولئك الأطفال المشاغبين على قارعة الطريق، مثلما تخلَّصت من كلبِه الأجرب الذي أكل حذائي المفضَّل الأحمر. لكن الغبي يُضمِّد جراحهم ويُربِّت على رءوسهم.» أدركت أنني لا أكترث كثيرًا بأمِّ ليستر روندا، وتيقنت أنني لا أكترث البتَّة بكارلين. لكن لا بد أن ليستر لديه مَشاعرُ قوية تجاه المرأتين وإلا ما رأى حاجةً لوشم اسميهما على جسمه مباشرة. بالنسبة إليَّ، أرى أن هاتين المرأتين عبءٌ عندما يحملهما المرء في الأنحاء. وقفت على ركبتي، واسترَقت النظر من فوق المقاعد والصناديق، أُضيِّق عيني عبْر الضوء الخافت، لأراقب ليستر، وهو ينقِّب تحت مَقعد السائق، قبل أن يَنهض، ونظرات الانتصار على وجهه وهو يَحمل صندوقًا معدنيًّا قديمًا صدئًا عليه صليب الإسعافات الأولية الأحمر. ناول ليستر الصندوقَ لبوبي التي نظرت إليه كأنه أعطاها فأرًا ميتًا. سألت بوبي: «ماذا تُريد مني أن أفعل بهذا الصندوق؟» تلعثم ليستر وهو يُشير إلى صندوق الإسعافات الأولية. وقال: «ما رأيكِ بعلاج جروح اﻟ… الصبيَّين ليتسنى لي ﺗ… تغطيةُ بعض هذه النوافذ ومتابعة رحلتنا؟» قالت بوبي بتذمُّر وسخرية انعكست على حركة شفتيها: «لن أعالجَ أحدًا. ماذا تظنُّني؟ مُمرِّضة؟» ابتسم ليستر ابتسامةً فاترة، وإن انتفضَت كتفاه حتى كادتا تَبلُغان أذنيه هذه المرة، وأجاب: «لا، لكنكِ تَبدين أكبرهم سنًّا.» وعقد ذراعَيه ثم أرخاهما، لا يدري ماذا يفعل كي تستجيبَ لكلامه. قالت بوبي وهي تُعيد صندوق الإسعافات الأولية إلى ليستر: «هذا خطأ ميبس. فلتعالجهما هي.» جفَل ليستر. وانتفض. ثم تناوَل الصندوق من بوبي، وقلَّب بصره في أرجاء الحافلة، حتى التقت عيناه بعيني بينما كنتُ أَختلِس النظر مِن وراء المقعد الأخير. ورغم عتَمَة الليل إلا أنني يُمكنني تمييزُ نظرة رجل غريق عندما أراها. لم أتحمَّل الاستماع إلى ضحكات كارلين وروندا واستهزائهما بليستر لغرقِه في خضمِّ أمواج أسلوب بوبي. ربما كانت هذه فرصتي لأُري الله كيف يُمكن أن أصبح فتاةً صالحة، وأنني أستحقُّ إعادةَ النظر في شأني، فربما كان يَنبغي لي أن أحصل على ما هو أفضل مما حصلت عليه حتى الآن في أهم أيام حياتي. بدا ليستر مُمتنًّا للغاية عندما نهضَت من مكاني، ومشيت إلى مقدمة الحافلة، وتناولت صندوق الإسعافات الأولية بتنهيدة صغيرة وابتسامة مُعتذرة مُرتبكة. فقد كانت بوبي محقَّة عندما قالت إن هذا الموقف العصيب هو خطئي. فلولا عيد ميلادي، والقرارات التي اتخذتها بسبب عيد ميلادي، لربما اختلفَت الأوضاع. وبدأت أكتشف أن من الصعب على المرء، في بعض الأحيان، أن يَتنبأ بعاقبة اختياره أو يتحكَّم فيها، شأنها في ذلك شأن أي هِبَة خارقة جديدة. فتحت صندوق الإسعافات الأولية، وحاول ليستر عبثًا تغطيةَ النوافذ المكسورة؛ فقد تهشَّمت ثلاثة ألواح زجاجية تمامًا، أما الرابع فيَنتظِر السقوط من إطاره مع أول رجَّة في الطريق. بدا ليستر على وشْك البُكاء، فتوقَّف في نهاية المطاف عن محاولةِ حشْر الورق المقوى في الثقوب الفارغة، وشغَّل المُحرِّك، الذي فشل بضوضائه في خفض الأصوات التي كانت لا تزال تدوي في رأسي. قالت روندا: «ليستر هذا …» قالت كارلين: «الرجل الغبي …» قال ملاك بوبي في ضجر: «هي ليست متأكِّدة هل تحبُّكِ أم تظنُّ أنكِ غريبة الأطوار.» قلت: «لست غريبةَ الأطوار يا بوبي»، وأنا أخرِج الشاش والمناديل المضادة للجراثيم التي جفَّ منها سائلها فأضحت عديمةَ الفائدة من صندوق الإسعافات الأولية بعناد. أدارت بوبي عنقَها لتنظر إليَّ وقالت: «ماذا؟ ماذا قلتِ للتو؟» بلعتُ ريقي بصعوبة ولم أقُل شيئًا، وأدركتُ أنني تحدَّثتُ بصوتٍ عالٍ، عندما كان من المفترض أن أُبقيَ فمي مغلقًا بإحكام. أخرجتُ كِمَادة بارِدة مُغبرة من صندوق الإسعافات الأولية، وكانت من ذلك النوع الذي يتطلَّب ثنيه كي يسريَ مَفعولُه وركَّزت على ما أفعله. شعرت بعينَي بوبي تُراقبانني وتُحاولان تشريحي كأنني ضفدعة فارغة الأحشاء ممدَّدة على طاولة التشريح. ثنيت الكِمَادة، مُحدثةً صوتًا، وشعرت ببرودة تَنتشِر ببُطء عبْر الكِمَادة البلاستيكية الصغيرة. استدرتُ، وتحرَّكتُ للخلف مسافةَ ثلاثة صفوف؛ حيث جلس ويل الابن بعينه المسودَّة. تدفَّق نسيم الربيع المسائي عبْر نوافذ الحافلة المكسورة؛ إذ انعطف ليستر بحدةٍ وبسرعة شديدة جعلت الحافلة تتمايل وتصِرُّ — وهو يُعيدنا إلى الطريق السريع — ودفعتُ بالصناديق والمجلات والكتب المقدَّسة إلى الانزلاق. تعثَّرت وسقطت على المقعد المجاور لويل، وناولته الكِمَادة الباردة لعينه المتورمة بقوةٍ أكبرَ مما نويت، حتى إنني كدتُ ألكمه بها في أنفه. قلتُ وأنا أحاول العودةَ بسرعة إلى ممر الحافلة التي تَقفز وترتجُّ: «أنا آسفة.» لكن ويل الابن أمسك بيدي وسحبني لأجلس في المقعد المُجاور له. وضع الكِمَادة الباردة على عينه بحذرٍ فارتسم الألم على ملامحه. وظل ممسكًا بيدي، ونظر إليَّ مباشرةً بعينه السليمة. قال: «لستُ غاضبًا يا ميبس.» هل قصد أنه ليس غاضبًا من الطريقة التي دفعتُ بها الكِمَادة الباردة بالقرب من أنفه أم أنه ليس غاضبًا بشأن البقية وبشأنِ ما حدث في مدينة بِي، لا أدري. لكنني كنت آمُل أنه يقصد الأمر الثاني. قلتُ: «لستُ غريبةَ الأطوار.» فقال: «لم أقُل إنكِ كذلك.» أجبت: «بلى، لكن ربما كنتَ تُفكِّر في ذلك.» توقَّف ويل، وسقطت الكِمَادة البلاستيكية في حجره، ونظر نظرةً سريعة إلى شقيقتِه، ثم تفحصُني بعينَيه كأنه يُحاول سَبر أعماقي وصولًا إلى حمضي النووي. سأل: «هل كانت بوبي تفكِّر في ذلك؟» قلتُ وأنا أحاول تجاهلَ سؤال ويل والنهوض من مكاني: «يجب أن أنظفَ تلك الخدوش التي أحدثتها بوبي في فيش.» سأل ويل: «هل كانت بوبي تفكِّر في ذلك؟ هل كانت تُفكِّر أنكِ غريبة الأطوار؟» قلتُ: «ربما.» سأل ويل: «كيف عرفتِ ذلك يا ميبس؟» اكتفيتُ بهز كتفي. عاد ويل يسأل: «كيف عرفتِ بالأمر؟ أخبريني، يا ميبس، ماذا حدث عندما رسمتِ تلك الصورة على يدي؟ لماذا فقدتِ صوابك؟ كيف تسبَّب فيش في أن تعصف الرياح على هذا النحو؟ أعلم أنه المسئول عنها، بلا شك.» ودنا مني. وأضاف: «أريد أن أعرف …» وعادت تلك النظرة المتلهِّفة إلى وجه ويل مرة أخرى. كان يتحرَّق لمعرفة سرِّي. قال: «أخبريني يا ميبس. أخبريني ما الذي يُميِّز أفراد عائلة بومونت عن غيرهم؟»
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/14/
الفصل الرابع عشر
ما الذي يُميِّز أفراد عائلتي عن غيرهم؟ كلُّ ما أعرفه أن هذا التميُّز يسري في عروقنا. هذا ما شرحه لي جَدِّي بعد وفاة جَدَّتي دالاب، منذ سنوات كثيرة، وقبل انتقالنا إلى كنساسكا-نبرانساس. كان قد أخذني للتجوُّل على الشاطئ، وأمسك يدي بيده البارزة العظام، وأخبرني أن هِبَات عائلتنا الخارقة ورِثناها عن أسلافنا. حكى جَدِّي قصصًا عن أسلافنا وأقاربنا الذين تجمعنا بهم صلةُ رحم قريبة وبعيدة. ولأن «بومونت» هو لقبُ عائلة أبي، تضمَّنت حكايات جَدِّي أسماءَ عائلات مثل ياجر أو مندلسون أو باين أو دانزينجر أو أوكونيل أو بيتشام. قصَّ جَدِّي قصصًا عن أبناء الأخوال والخالات وأبناء الإخوة وبناتهم، مَن استخدم منهم هِبَاته الخارقة في أعمال الخير والبِر، ومَن سلك مَسلكًا مختلفًا مثل شقيقة جَدَّتي الصغرى جوبلي التي تميَّزت بقُدرتها على فتْح أي قفل واستغلتها في الاستيلاء على مُمتلكات الآخرين. قال جَدِّي: «ليست الهِبَة الخارقة علَّة أو مرضًا يا ميبس. وليست سحرًا أو شعوذة. بل تَسري في عروقك. وتَنتقِل إليك بالوراثة مثل عينَيك العسليتَين أو أصابع أقدام جَدَّتك الطويلة أو موهبتها في الرقص على موسيقى البولكا.» لقد أحبَّت جَدَّتي إيقاعات موسيقى البولكا، وعبَّأت منها أوعيةً كثيرة قبل وفاتها؛ ولا تزال أمي تَمتلِك بعضًا منها بين الأوعية القابعة على سطح خِزانات مطبخنا في كنساسكا-نبرانساس. وهذه الإيقاعات تحديدًا تحبُّ جيبسي الرقص عليها مع أصدقائها الخياليين. لكنَّ الحديث عن جَدَّتي دالاب دفع جَدِّي إلى التوقُّف عن السرد ذلك اليوم على الشاطئ. فلا تزال ذكرياتُه عنها قاسية وحارقة من لوعة الفراق. ولو لم أتَّخذ حِذري في التعامل مع مشاعره حينها، لدمدمتِ الأرض، وانبعجتِ الأرصفة، وتزحزحتْ تماثيل حدائق الجيران إلى أفنية الحدائق المجاورة. تظاهَرتُ أنني لم أرَ دموع جَدِّي على خدَّيه أثناء سيرنا على الشاطئ. لكنني احتضنت يده بيدي بحرارة وشددت عليها حتى عُدنا إلى البيت. قالت أمي ذات مرَّة إن كثيرًا من الأشخاص العاديين لديهم هِبَات خارقة لكن الغالبية لا تَنتبِه لوجودها ببساطة. قالت: «يُدرك البعض اختلافهم عن الآخرين يا ميبس. لكن الغالبية لا تستطيع تحديدَ سببِ هذا الاختلاف. فهناك شخصٌ يَصنع مُربى الفَراولة بمهارةٍ تجعل الآخرين لا يشبعون منها من فرطِ حلاوتها. وآخرُ قد يعلم الوقت المناسب لزراعة الذرة حتى تصبح كثيرة العصارة حلوةَ المذاق مثل السُّكر في أشد أيام الصيف قيظًا. ضحِكت أمي، حينها، وحِرت هل كانت تخبرني بالحقيقة أم إنها تخدعني. ثم أضافت: «هناك أشخاص لا يتلطَّخون بالوحل بعد العواصف الممطرة أو يتعرَّضون للقرص من الناموس أثناء الصيف على الإطلاق.» شببتُ عن الطَّوق وعلمتُ أن الهِبَة الخارقة ليست سوى نوع مختلف من الخبرات. فبعض الأشخاص يُطلَق عليهم عباقرة أو أفذاذ لأنَّهم يَبرعُون في حلِّ الألغاز أو عزف الموسيقى على نحوٍ أفضلَ ممَّا يَستطيع أيُّ شخص، أو يستطيعون سردَ قيمة العدد المُتسامي ط، ٣٫١٤١٥٩٢٦٥٣ … من الذاكرة إلى ما لا نهاية لعدَّة ساعات دون توقُّف. وهناك مَن يُمكنهم العدْوُ بسرعة والفوز بالميداليات، وآخرون يَستطيعون إقناعَ أي شخص بشراء أي شيء. هذه الهِبَات هي خبرات مِن نوع خاصٍّ لا أكثر. حسنًا، نحن، أفرادَ عائلة بومونت وأسلافنا، لا نَختلف عن الآخرين اختلافًا كبيرًا. ما يُشكِّل الفارق هو أننا نُعطي تسميةً لمواهبنا، وتكهُّنات تقريبية للوقت الذي ستَظهر فيه تَرِكَتنا وخبراتنا، وكان علينا أن نتعلَّم كيفية تخفيف وقْعِها؛ أي كيفية استخدامها أو السيطرة عليها. لذا عندما سألني ويل الابن سؤالًا مُباشرًا وصريحًا، كرصاصة من مسدَّس هوائي، عن ماذا يميز عائلتي لهذه الدرجة، أخبرته بما اعتاد أقاربي أن يقولوه للآخرين، لعدة أجيال، عندما يتعرَّضون لأسئلة لا مفرَّ من إجابتها. أجبت بكلمات مُتلعثِمة خالية من الروح، مِن ذاكرتي، كأنَّني أُردِّد قَسَم الولاء: «نحن، أفرادَ عائلة بومونت، لا نختلفُ عن الآخرين يا ويل. فنحن نأتي إلى الحياة ونمُوت في وقتٍ لاحق. وفيما بينهما نسعد ونحزَن، ونُحبُّ ونخاف، ونأكُل وننام، ونتألَّم مثل الآخرين.» سأل ويل حتى لا يدَعني أتهرَّب من سؤاله المباشر بسهولة: «ثم ماذا؟» أجبت: «ثم ماذا … لا شيء. كلُّ ما في الأمر أن لدينا خبراتٍ تَختلِف في مَذاقها عن الأغلبية.» سأل ويل وهو يَدنو مني أكثر: «ما هي «خبرتكِ» إذن يا ميبس؟» أجاب فيش: «حسنًا، من الأفضل أن تكون لديها خبرة في إحضار بعض الضِّمَادات بسُرعة لإسعافي.» كان فيش يقف فوق رأسَينا، مُتشبِّثًا بظهور المقاعد القابعة أمامنا، كي يُحافظَ على توازنه ووقوفه مُنتصبًا على متن الحافلة التي تتمايَل وتَقفِز على الطريق. كان يَنظر إليَّ، كعاصفة وشيكة الحدوث، بعينَين تَنقل مقصده. كان يقول لي: لا تُخبريه بأيِّ شيء. لا تتفوَّهي بكلمة واحدة! نظرتُ إلى فيش بحدة. وجدتني عالقةً بين الفتيَين، وبين مخاوفي من أن أشارك أو لا أشارك أسراري، فهززتُ كتفي بلا اكتراث. وفي نهاية المطاف، استدرتُ إلى ويل، وقلتُ: «ليس لديَّ ما أقوله لك أكثرَ مما قلت.» تنص قوانين عائلتنا على التزام الصمت. ويجب ألا نَكشفَ أسرارنا لأحد إلا عند الاضطرار أو في حالة الزواج؛ أي عند إنشاء عائلة جديدة. وفي الحالة الثانية يُستحسن أن نخبرَ مَن سنشاركه حياتَنا أن أطفالنا قد يُطوِّرون هِبَة السير عبْر الجدران أو عزف بيانو الجيران في الطرف المقابل من الشارع دون لمسه. كان أبي يَعمل بالبحرية، ويتمركز في بلدة جولف بورت، بمدينة مسيسيبي، عندما التقى بأمي في أحد مهرجانات عيد العمال بالشارع بالقُرب من الشاطئ. لم تكن أمي تَخطَّت السابعة عشرة من عمرها بعدُ، وكانت تزور الساحل برُفقة شقيقتها الكبرى، دينا. لم تكن خالتنا دينا مثالية كأمي. لكنَّها كانت تملِك هِبَةً تجعل الآخرين يفعلون ما تقوله أيًّا كان بطريقةٍ ما. فبكلمة واحدة منها يتوقَّف الأطفال الرُّضَّع عن البكاء. وبالطبع يُحسِن الفتيانُ المُراهقون التصرُّف ويُعانقون أمهاتهم. بل قد تَدفع أكثرَ العَجائز ثِقلًا وكآبة إلى أن يرقصَ رقصةَ الجيج متى شاءت. وقالت لنا أمي، ذات مرة، إن خالتي دينا أحبطت مُحاولةَ سرقة أحد البنوك بعدما أمرت السارقَ بالجلوس وعدم التحرُّك حتى تحضُرَ الشرطة. أحبَبنا خالتي دينا جميعًا، لكنَّنا بلا شك شعرنا بالامتنان أنها ليسَت أمنا. في يوم المهرجان ذاك، كان أبي لا يعلم شيئًا عن أصحابِ الهِبَات الخارقة، مثل أمي ودينا. وقد كان هو ورفاقه في البحرية يُمضُون عطلتهم في التبختُر ببدلاتهم الرسمية ومغازلة الفتيات. لكنه فورَ أن وقعت عيناه على أمي، وقع في غرامها؛ كان أبي يستطيع تمييزَ الفتاة المثالية بمُجرَّد رؤيتها. التقيا عند لعبةِ رمي الأطواق. لم تَرغب أمي في اللعب وأصرَّت أنه ليس عدلًا المشاركةُ في هذه اللعبة؛ إذ كانت تعرف أنها تستطيع قذفَ الطَّوق على وتدٍ متحرك متمايل بصورة مثالية، في كل مرة، كما أنه ليس صائبًا التباهي بموهبتِها الخارقة بهذه الصورة الواضحة أو على الملأ. لكن خالتي دينا ألحَّت على أمي باللعب، وهي تَضحك، وانتهى الأمر بأن وافقت بالطبع. وسرعان ما تجمهر الناس حول أمي، يُشاهدُونها وهي تفوز مرةً تلو الأخرى، وكان أبي ورفاقه من بينهم. وبعد مُشاهدة أمي تفوز بخمس عشرة رمية مُتتالية، شقَّ أبي طريقه وسط الحشد وانسلَّ ليقف بجوارها. همَس أبي في أُذنها بابتهاج وهو يَفرُك ذقنه بظهر يده: «سأقول لك شيئًا، إن فزتَ في الرمية التالية، فسأشتري خاتمًا وأتزوَّجك.» ارتسمت على وجه أمي ابتسامةٌ خبيثة ذات مغزًى والتقطَت طوقًا آخر، واختارت هدفًا بحذرٍ ودقَّة. ثم صوَّبت على وتدٍ بعيد، وأدارت الطوقَ بشكلٍ احترافي. ساد الصمتُ الحشدَ، وراح الطوق المعدني الرفيع يُحلِّق ناحية الصفوف البعيدة من الأوتاد المُهتزَّة المُتحرِّكة، ثمَّ أخطأ الهدف، وارتطم بالأوتاد في جلبة، وسقط على الأرض. وهكذا أخطأت أمي الهدف على نحو مثالي. رفعت أمي حاجبها، وهزَّت كتفَيها بلا مُبالاة، رافعةً راحتَي يديها للأعلى وكأنها تقول له إنها ليست آسفة على ذلك. وأمرَت دينا أبي بالابتعاد، مُستغلةً هِبَتها الخارقة، لكنه ابتسم فحسب. لم يكن أبي مِن النَّوع الذي يستسلِم بسهولة ولو كان خَصمه هو خالتي دينا. في الحقيقة، إذا عزم أبي على أمر، فإنه لا يتركه أبدًا، وقد أخبر أمي ذلك حينها. عندما طلب أبي مباركة جَدِّي بومبا وجَدَّتي دالاب على الزواج بأمي، علِم أن بعض الأشخاص قد يخالف ظاهرهم حقيقتهم. وفي ذلك اليوم مدَّ جَدِّي لأمي وأبي ستة فدادين من الأرض لبناء منزل فوقها، ونقل جميع جيرانهم الجدد شرقًا وغربًا، كما عبأت جَدَّتي أغنيةً رومانسية في وعاء، حتى يستمعا إليها متى شاءا. واحتفظ أبي وأمي بهذا الوعاء على رف المدفأة، يفتحان غطاءه من حين لآخر، حتى تملأ الأغنية الأبدية المنزلَ. كلما استمعت إلى هذه الأغنية، اهتزَّت روحي طربًا، وتمنيت وأنا جالسة في تلك الحافلة لو أنها معي. أما فيش وويل فكانا يَتبادلان النظرات النارية، كأنهما يلعبان كرةَ القدم، وخشيت أن يتقاتلا مرةً أخرى على الفور. كنت على وشْك أن أخبرَ فيش بالعودة إلى مقعده، عندما ضغط ليستر على دوَّاسة المكبح فجأة. قفزَتْ حافلة الكتب المقدَّسة الوردية الكبيرة واهتزت، مثل حوت أُمسك به من ذيله، فترنَّح فيش وسقط على ظهره على الأرض وسط سيل من الكتب المقدَّسة والصناديق. دوَّى صوت بوق غاضب، بينما تجاوزت سيارة حافلتنا التي توقفت بغتةً وسط الطريق السريع الريفي المظلم. أشعل ليستر الأضواء الحمراء، وضغط على المقبض الذي يَبسط إشارة التوقف الحمراء، ما أدى إلى توقف السيارات القليلة المُسافرة عبْر الطريق السريع الموحش. ثم فتح الباب الذي يُصدر صريرًا، ووقف دون أن ينبِس ببنت شفة أو يَنظر إلينا نظرة واحدة، ودسَّ قميصه في بدلته، وغادر الحافلة.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/15/
الفصل الخامس عشر
نهض فيش بنفسه من فوق الأرض، وراقَبْنا جميعًا ليستر ينزل من الحافلة، مُتسائلين عن السبب الذي دفعه لإيقافها بغتة. تسلَّلتُ وفيش وبوبي وويل إلى مقاعد الطرَف المقابل من الممر كي نتطلع خارج النوافذ المشروخة أو المكسورة لنرى ما الذي يُخطِّط له ليستر. ولوهلة ظننت أنه تجاوز سرعة ٥٥ ميلًا في الساعة فتعطَّلت الحافلة، لكنني عندما رأيته يتحدَّث إلى سيدة طويلة واقفة بجوارِ سيارةٍ رُفع غطاءُ مُحرِّكها وأُشعلت أضواء الإنذار بها، أدركت أنه قد توقف لتقديم المساعدة فحسب. كانت المرأة تَرتدي سترةً طويلة، في طول المعطف، مُغلَقة بحزام وتتجاوز حافة زي النادلات العتيق الطراز ذي اللونين الأخضر والأبيض الذي تَرتديه تحتها. واتَّسمت المرأة بكِبَر حجمها وبكتفَيها العريضتَين، مقارنةً بليستر ذي الصدر النحيف والكتفين المتهدلتَين، فبَدَوَا مُثيرَين للضحك أثناء وقوفهما معًا هناك. تحرَّك ليستر حول سيارة المرأة، وأجرى بعض الإصلاحات تحت غطاء المحرِّك المفتوح، لفترة زمنية وجيزة. ومن حين لآخر تقترب سيارة من الحافلة رغم إشارة التوقُّف المشرعة والأضواء الحمراء المشتعلة. لكن في نهاية المطاف، اعتدل ليستر واقفًا، وهزَّ رأسه، وأشار إلى الوراء. تأمَّلت المرأة حافلةَ شركة «هارت لاند» لتوريد الكتب المقدَّسة. وعندما رأت وجوهنا تُطلُّ من النوافذ المكسورة، ابتسمت مثل فتاة صغيرة في جسد امرأة كبيرة، ولوَّحت بيديها إلينا. نظر ليستر إلينا أيضًا، وانفرج وجهُه عن ابتسامة عريضة مُفاجئة مضحكة تفصح عن أنه، رغم الشجار والعِراك والدمار الذي لحِقَ بحافلته، كلما زاد العدد زاد المرح. وتخيلت لو كان له ذيل لاهتز طربًا من فرحته. لكنه بدلًا من ذلك لفَّ إبهامَيه حول حمَّالتَي بدلة العمل، وأخذ يَتمايل بجسده للأمام والخلف. ركلت المرأة سيارتها البالية المُعطَّلة ركلةً قوية مُرضية، ثم تركت ليستر يقودُها عبْر درجات الحافلة الوردية الكبيرة الثلاث، ويُقدِّمها إلينا كأنه تزوَّج للتو. قال: «أُحب أن أعرِّفكم إلى الآنسة لِيل كايتلي وﺳ… ستركب معنا إلى مدينة إميرالد.» نقلنا بصرنا من ليستر إلى لِيل إلى أحدنا الآخر دون أن نَنبِس ببنت شفة. أما فيش فهزَّ رأسه وتجهَّم. كنتُ أعلم ما الذي يدور في خَلَده؛ لأنني كنتُ أفكِّر في الشيء نفسه: ها هو ذا شخص بالغ آخر يتدخَّل في شئوننا ويُؤخِّر وصولنا إلى أبي. فترَت ابتسامة ليستر، وقفزَت كتفُه اليمنى حتى حاذَت أذنه تقريبًا، وهو يستوعب عدم فرحتنا برؤية لِيل. بلع ريقَه وشدَّ ربطة عنقه الوردية المُلتوية المُرتخية. ساد الصمت الحافلة. حسنًا، كاد يسود. قالت روندا بازدراء من فوق ذراع ليستر: «عجبًا! شخص ضالٌّ آخر …» ردَّت كارلين من فوق الذراع الأخرى: «إن ليستر لا يجد بأسًا في استضافة ضبع مسعور حتى بعد أن يعضَّه.» زمجرت روندا: «أنتِ الأدرى بذلك بالطبع.» قالت كارلين بنبرة قاسية للغاية: «يا لكِ من عجوز شمطاء يا روندا.» ردَّت روندا غاضبة: «حسنًا، لتتعرَّفي على أحدهم، لا بدَّ أن تكوني مثله، على ما أعتقد.» قالت لِيل وهي تُلوِّح إلينا مرة أخرى: «مرحبًا، هل أنتم جميعًا أبناءُ ليستر؟» زمجرت بوبي وعادَت إلى مقعدها الأساسي في سخطٍ غير مُكترث. وقالت «لا بد أنكِ تمزحين. أفضِّل أن يكون والداي ذئبَين على أن يكون ليستر هو أبي.» أجاب ليستر غيرَ منتبه لما قالته بوبي تقريبًا: «لا، هؤلاء الأطفال …» قاطعتُه قبل أن يقولَ إننا أطفال مُتهربون: «نحن أصدقاء قديمون لليستر. أعني أنه صديق عائلتنا. وهو يُوصلنا إلى مكانٍ ما بحافلته، أليس كذلك يا ليستر؟» ابتسم ليستر ابتسامةً فاترةً، وفرك جانبَي رأسه في آنٍ واحد، على أملِ أن يحفز ذلك عقله ويساعده على مواكبةِ ما يحدُث؛ إذ أخذتْه مقاطعتي السريعة على حين غِرة. نقلت لِيل بصرها من ليستر إليَّ، ويمكنني القول إنها لاحظت ارتباكَ ليستر. لكنها لم تَقُل شيئًا؛ لذا ابتسمت فحسب. أطلقت سيارةٌ أخرى نفيرَها، تُريد المرور؛ إذ كانت الحافلة لا تزال واقفة وسط الطريق السريع، مُشعلةً أضواء الإنذار بها وباسطة إشارةَ التوقُّف. زادت الضوضاء والإزعاج الجديدان من ارتباك عقل ليستر وخجلت من نفسي لتضليل عامل التوصيل بهذه السهولة. تبدَّدت ابتسامتي وأشرتُ بإصبعي لي ولفيش. وقلتُ للِيل والقلق يعتصر مَعِدتي: «أبونا في المشفى في سالَينا.» نظرت إليَّ لِيل، التي كانت أذكى من ليستر كثيرًا بلا شك، نظرةً فاحصة. فتابعت كلامي وأنا أحاول ألا أتحاشى النظرَ في عينَيها مباشرة: «لقد حضر السيد سوان حفل عيد ميلادي اليوم. كان الحفل قد عُقد في كنيستنا بهيبرون.» ونطقتُ الكلمات الأخيرة ببطء كي أشجِّع ليستر على الكلام، لكنني لم أكن واثقةً من أنه فهِم رسالتي. قاطعتني بوبي بنبرةٍ شبه مُبتهجة: «أجل، كان ليستر العجوز الصالح يتحدَّث إلى أبي — قس كنيسة هيبرون — إذ كان يُسلِّمه بعض الكتب المقدسة، و…» أشار ويل بإصبعه إلى نفسه وإلى بوبي، وقال مُحاولًا تقديم المساعدة أيضًا، لكنه سارَ في خطانا الاحتيالية بلا تحمُّس كشقيقتِه: «وعندما عرف أبونا … حسنًا، عندما عرف أن صديقنا العزيز ليستر سيعود إلى سالَينا …» أنهى فيش الجملة بنَبرة قاطعة مباشرة كي يضع حدًّا للحديث فيما يبدو: «قال إن ليستر ينبغي أن يصحبنا معه.» نظرت لِيل إلينا بارتياب. وفهمتُ مِن نظرتها أنها لم تُصدِّقنا تمامًا. أما ليستر فقد تنفَّس الصُّعداء كأن الأمر صار منطقيًّا له فجأة، مفسرًا سببَ وجودنا على متن حافلته، وإن لم يتذكَّر تفاصيلَ الواقعة على هذا النحو. بذل ليستر جهده لتقديمنا إلى لِيل بصفتِه صديقَ عائلتنا وما شابه. لكن لسوء الحظ، أساء التمثيل، ونادى فيش ﺑ «تروتة»، وويل الابن ﺑ «بِل الابن»، وأنا ﺑ «ميدج». ونطق اسم بوبي بطريقة صحيحة، لكنه نسيَ أمرَ سامسون، أو ربما لم يتذكر أنه منعزل تحت السرير النقَّال. ردَّت لِيل ببطء في ارتياب: «يُسعدني التعرُّف عليكم جميعًا.» جلسَت جانبيًّا في مقعدها، تحاذي بساقيها المقعدَ الأمامي القريب من ليستر، وقد تركت حذاءها الرياضي الأبيض الكبير يتدلَّى مِن طرف المقعد كالطفلة، وأسندت ظهرها إلى النافذة كي يتسنى لها مراقبتنا جميعًا. وبينما كان ليستر يَسحب إشارة التوقُّف ويغلق أضواء الإنذار، اتجهت عينا لِيل إلى وجه فيش المُخربش ثم إلى عين ويل المسودة. وقالت، وهي تنظر إلى النوافذ المكسورة، بضحكة متوترة صغيرة لا تَتناسب مع حجمها: «يبدو أنكم جميعًا بحاجة إلى الاغتسال والاعتناء بمظهركم. أأنتم واثقون أن هذه الحافلة ليست خاصة بالأطفال الأشقياء؟» قالت بوبي: «لا، إنها خاصة بغريبي الأطوار.» ابتسمت لِيل قائلة: «إذن فأنا الشخص المناسب للركوب معكم.»
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/16/
الفصل السادس عشر
لا أعلم تحديدًا ما الذي جذَبني إلى لِيل كايتلي لكنَّني أحببتها على الفور. بل أحببناها جميعًا. حتى بوبي بدت كأنها تخلَّت عن غطرستها قليلًا؛ فقد ضبطتُها تضحك بضع مرات عندما كانت لِيل تثرثر وتمزح معنا. كانت لِيل سيدة ضحوكة بلا وشوم على جسدها. وتعمل بالليل نادلةً في مطعم مَوقف شاحنات على الطريق الواصل بين الولايات بالقرب من إميرالد، وكانت في طريقها إلى عملها، عندما قرقرت سيارتها المؤسِفة المُنبعجة المُتصدِّعة الصدئة وغرغرت واختنقت بآخر قطرة من البنزين قبل أن تتعطَّل عن العمل. لذا جلست في سيارتها على جانب الطريق السريع ما يقرُب من عشرين دقيقة تُقلِّب في عقلها إبرازَ إبهامها، كي يُوصلها أحد مجانًا إلى مكان عملها الذي يبعد نحو خمسة وعشرين ميلًا عن موقعها الحالي، إلى أن رآها ليستر سوان وأوقف الحافلة. وبينما اهتزَّت الحافلة في الطريق السريع باتجاه الطريق الواصل بين الولايات، نهضت لِيل من مكانها لتُساعدني في تنظيف وجه فيش دون أن تسأل أبدًا عما حدث. وجد ليستر صعوبة في إبعاد عينيه عن لِيل والتركيز في طريقه. ومن حين لآخر كانت سيارة تطلق بوقها طويلًا كأنها تصرخ به لانحرافه عن حارته ودخوله في حارتها بسبب التفاته إلى لِيل. ومع وجود لِيل، بدا الأمر كأنَّ معنا أمًّا على متن الحافلة. فقد أولَت عنايتَها لكل واحد منَّا بالتناوب، ونظَّفت جروح فيش وضمَّدتها، وتفقَّدت عين ويل المتورِّمة. قالت لي لِيل: «اسمحي لي بإصلاحها لكِ يا صغيرتي»، وشدَّت شرائطَ الزهرة الأُرجوانية لفستان المناسبات الخاصة بلطف، فحلَّتها ثم أعادت تثبيتَها على كتفي عاليًا. لقد تجعَّدت الزهرة الحريرية وانحرفت عن مكانها الأصلي بعد شجار اليوم، وصار فستاني متَّسخًا ومكرمشًا. تابعت لِيل وهي منهمكة بإعادة تنسيق الشرائط: «هذا الفستان الذي ترتدينه في غاية الفخامة.» قلتُ وأنا أتذكَّر النظرةَ الراضية على وجه أبي وهو يُشاهدني أتمايل بالفستان في أرجاء غرفة المعيشة: «لقد انتقاه لي أبي بمُفرده.» وابتسمت عندما تدفَّقت هذه الذكرى إلى عقلي، ثم تبدَّدت ابتسامتي، حيث بدأت شفتاي ترتعشان. حثَّت الحافلة السيرَ عبْر الظلام، وأثناء ذلك أخبرت لِيل مطولًا عن أبي: كيف اشترى فستاني ولم يفقد الأملَ إلى أن عثَر عليه؛ كيف قدَّمه لي في صندوقٍ أبيضَ كبير مُغلَق بشريط ذهبي مطاطي، ما أضفى لمسة خاصة جدًّا على الهدية. وآلَمني قلبي وأنا أُخبرها عن أكبر أرجوحة شرفة في العالم، وعن الحادثة التي وقعت في الطريق السريع والسيارات التي تكوَّم بعضُها فوق بعض مثل فطائر يوم الأحد. ثم حكيتُ لها عن أمي وروكيت، وأنهما بصُحبة أبي في مشفى «هوب» بسالَينا، في الوقت الحالي. أنصتَت لِيل إلى قصتي كلها دون أن تُقاطعني ولو مرة واحدة. لكن بدا من وجهها أنها تُصغي إلى كل كلمة أقولها، حيث تغيَّرت ملامحها من ابتسامة دافئة إلى ضحكة عالية وفي النهاية إلى قلق يتقطَّر شفقة وحنانًا. ختمت كلامي مُوجِّهة حديثي إلى نفسي أكثر من لِيل: «أبي بحاجة إليَّ. إنه بحاجة إلى ذهابي إلى سالَينا. وهو هناك يرقد مثل الجميلة النائمة ينتظر أن أوقظه.» تجاهَلتُ نظرةَ القلق التي ارتسمت على وجه لِيل بوضوح عندما تفوَّهتُ بهذه الكلمات. كنت أعلم أنها ترى أن الأمل قد ذهب بي بعيدًا حتى جعَلَني أُفكِّر أنني أستطيع مساعدة أبي. لكنها كانت مخطئة؛ لذا تجاهلت نظرتها. تجاهلتها مثلما تجاهلتُ كل الأصوات في رأسي، الأصوات التي يُفترض أن أسمعها وتلك التي لا يفترض أن أسمعها. سأحل أمرَ هذه الأصوات لاحقًا، بعد أن يعودَ أبي إلى البيت بكامل صحته وعافيته. لا وقت لديَّ للاستماع إليها الآن. قالت لِيل برقة: «يبدو أنَّ أباك في غاية الحنان يا صغيرتي. وهذا الفستان في غاية الأناقة.» ملأني مديحها بالفخر في البداية. لكنني نظرت إلى النسيج الأصفر والشرائط المتعرِّجة البيضاء، ولم أستطِع منْع نفسي من الشعور بالخجل، عندما تذكَّرت ضحكات الفتيات الهازئة في الكنيسة. هززت كتفي، وأنا أشعر بالإحباط من شعوري بالخجل، كأنني بشكلٍ ما خيَّبتُ أملَ أبي بالتشكيك في تفرُّد فستان المناسبات الخاصة، وأجبتُ: «أجل، أظن ذلك.» توقَّفت قليلًا، ثم اختلست النظر إلى بوبي، وسألت لِيل: «أتظنين أن هذا الفستان يجعلني أبدو كفتاة صغيرة؟» نظرت لِيل إليَّ نظرة فضولية. وسألت بهدوء: «هل يجعُلكِ تشعرين أنكِ فتاة صغيرة؟» قلتُ وأنا أحاول أن أشرحَ ما يجول بعقلي: «فقط عندما أكون بجوار بوبي. إنها في السادسة عشرة من عمرها.» كشف وجه لِيل عن ابتسامة عريضة ونظرت إلى بوبي أيضًا. وقالت ضاحكة: «أتدرين؟ أنا أيضًا أشعر أنَّني فتاة صغيرة بجوار بوبي. لكن دعيني أُخبرك بسرٍّ يخصُّ سنَّ السادسة عشرة»، وواصلت كلامها وهي تَنحني لتهمسَ في أذني. وقالت: «تبدو سن السادسة عشرة أكبرَ وأكثر رعبًا من سنِّ الثانية والأربعين التي هي عمري. أعتقد أن بوبي حادَّة المِزاج فحسب؛ لذا لا تَعبئي بتصرفاتها. وفستانك مثالي تمامًا.» أشعرني كلامها بالارتياح. حاولت تنعيم التجاعيد التي أصابت تنُّورة فستاني منذ أن ارتديته في كنساسكا-نبرانساس، وأنا في غاية الارتباك من شعوري بنظرات ويل التي تراقبني. نقلت لِيل بصرها مني إلى ويل بدَهاء. وقالت وهي تبتسم وتَنكزني بمرفقها: «حسنًا، أليس فتاكِ هذا لعوبًا صغيرًا؟» تلعثمتُ مُحتجَّةً وشعرتُ بوجنتيَّ تشتعلان خجلًا: «ماذا؟ إن ويل ليس … إنه فقط … فهو ليس …» واصلَت لِيل كلامها، وهي تَضحك ضحكة صغيرة وتُربِّت على ساقي على نحوٍ جعلني أشعر أننا صديقتان قديمتان للغاية، وقالت: «هذا الفتى لا يستطيع منْع نفسه من التحديق إلينا، وهو لا ينظر إليَّ بكل تأكيد. من الواضِح أنه مغرم بكِ. أترَين يا ميبس؟ لستِ فتاةً صغيرة. لديك بالفعل فتًى وسيم يتطلع إليكِ.» لم أعلِّق على كلامها. فقد تذكَّرت كيف حملقت أشلي بينج إلى وِيل في كنيسة هيبرون. كما تذكَّرت أنني لم أحبَّ الطريقة التي نظرتْ بها إليه. وتخيَّلت صوت أشلي في رأسي وهي تقول: «لقد حظيت ميسي-بيسي بحبيب»، وإيما تُردِّد وراءها: «حبيب!» قالت لِيل: «لا تَقلقي يا صغيرتي. ثقي بي؛ فبعد سنوات قليلة من اليوم، سيَصير ويل الابن أصغرَ همومك.» وأحاطَت كتفي بذراعها وألصقتني بها مثلما كانت ستفعل أمي لو أنها هُنا. ولبُرهة فكَّرت أنها ربما كانت ملاكًا أُرسل لرعايتنا بينما نترجرَج على الطريق السريع في حافلة الكتب المقدَّسة الوردية الكبيرة، ملاكًا يختلف عن وشم بوبي ذي الذيل العابث أو الملاك الكثيف العطر ذي الابتسامة البلهاء المُتدلي من النافذة الأمامية لشاحنة السيدة روزماري الصغيرة. هي ملاك حقيقي. كما أنها ملاك ضخم القدمين.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/17/
الفصل السابع عشر
في وقتٍ لاحق، ظهر سامسون الغامض بجوار فيش دون أن يصدِر صوتًا، ونحن نقترب من أعتاب إيمرالد. كان يقبض بشدة على كيس رقائق البطاطس الفارغ. وتلألأت عينا لِيل بالأضواء الصفراء الوامضة للإشارات المرورية المُنبِّهة لعبور الطريق واتسعتا في دهشة، ثم نظرت إليَّ بتساؤل مشيرة إلى سامسون الذي جلس هامسًا لفيش. سألت لِيل بخُفوت كأنها تتحدَّث عن مخلوق بري خجول قد خرج للتو من مخبئه: «ومَن هو ذاك المخلوق؟» قلتُ مُفسِّرة: «إنه شقيقٌ آخرُ لي. واسمه سامسون. إنه في السابعة وهو لا يتحدَّث كثيرًا.» قالت لِيل بعطف: «هل هو من النوع الصامت القوي؟ مرحبًا يا سامسون.» نظر سامسون إلى لِيل بهدوء ولا مبالاة، بنفس الطريقة التي تَنظر بها الحيوانات إلى المرء وهو يشاهدها في حديقة الحيوان. ثم صوَّب بصره إلى فيش مرةً أخرى، ونكزه في أضلاعه بمرفقه الرفيع، وطقطق بالكيس الفارغ. وضَّح فيش: «يَشعُر أخي بالجوع يا سيدتي. فنحن لم نتناول سوى القليل من الطعام منذ وقت الغداء، ولا بد أنه قد مرَّ وقتُ العَشاء منذ وقت طويل.» نظرت ليل إلى ساعة يدها، مُقرِّبة إيَّاها إلى وجهها، في ضوء الحافلة الخافت. ثم تنهَّدت تنهيدةً طويلة. وقالت: «أنت محق يا سيد فيش. لقد مرَّ وقتٌ طويل على العشاء، ووقتٌ أطول على موعد بدء ورديَّتي في المطعم. إذا كانت لديَّ مَوهبة — موهبة حقيقية — فستكون التأخُّر.» ونظرت إلينا جميعًا وابتسمت ابتسامةً مُتحسِّرة حزينة. وبدا أن ارتيابها بشأننا في البداية قد تبدَّد بعدما أخبرتها عن أبي والحادثة. وبينما كنتُ أتحدَّث، عاجزة عن إخفاء موجات الخوف والأسف التي اضطربت داخلي، تجاوبت معي لِيل بإشفاق. وأظن أنه ليس هناك ما يستحوِذ على قلبِ سيدة رقيقة مثل فتاة مَفطورة القلب ذات قصة حزينة. تابعت ليِل: «لكن دعوني أُخبركم بأمر. إذا وصلت إلى العمل، وكنت لا أزال مُحتفظة بوظيفتي، ولم يَطردني رئيسي على الفور لتأخُّري عن العمل كثيرًا … مرة أخرى»، وتنهَّدت قبل أن تضيف: «سأتأكَّد من حصولكم جميعًا على وجبة عشاء فاخرة. بل سأضمن أن يحصل كل واحد منكم على شريحة فطير هديةً مني، قبل أن تنطلقوا في طريقكم من جديد.» سأل سامسون: «ألديك كِريمة الموز؟» استدار الجميع لينظروا إلى سامسون، مُندهشِين من سماعه يتحدَّث بصوتٍ أعلى من الهمس. كان صوته الإنشادي مبحوحًا من عدم الاستخدام والغبار الموجود تحت السرير النقَّال لكنه عذبٌ كعادته. حاولت أن أتذكَّر آخرَ مرة سمعتُه فيها يتحدَّث بصوتٍ عالٍ، ولا أدري هل كان ذلك منذ يوم؟ أم أسبوع؟ أم شهر؟ هكذا كان الحال مع أخي الكئيب. ابتسمتُ إلى سامسون؛ فلم أعلم من قبل محبَّته لفطيرة كِريمة الموز. غمغمت بوبي: «يا إلهي، إنه يتحدَّث.» وبينما جلس سامسون بوجه جامد صارم، دوَّت قهقهة جذلة عبْر صفوف المقاعد، آلت إلى ضحك هستيري، تبدَّد بها توتُّر الصباح، كأمواج تتكسَّر على الشاطئ. لو أنني أستطيع نسيان السبب وراء وجودي على الحافلة لشعرت بالبهجة حينها. وشعرت للمرة الأولى أنني، رغم كل هذه الفوضى، لا أمانع تكوين صداقات جديدة، حتى مع بوبي. ••• اتَّبع ليستر تعليمات لِيل لدخول مدينة إيمرالد. قبعت استراحة ومطعم موقف شاحنات إيمرالد في الطرف الأقصى للمدينة، وأُضيئت لافتتها بنيون أخضرَ خافت. اخترق ضوء فلوريسنت أبيض ساطع ظلامَ الليل، وانسكب عبْر الباب الزجاجي، عند واجهة المطعم. كانت هناك درَّاجات نارية قوية وصلبة مُتوقِّفة بالقرب من الطريق. وامتلأ الموقف بشاحنات ومقطورات صغيرة متراصة جنبًا إلى جنب، مثل عربات القطار، في ساحةٍ خلف المبنى. اضطُرَّ ليستر إلى إيقاف حافلة الكتب المقدَّسة الوردية الكبيرة وراء تلك الشاحنات والمقطورات، في زقاق خلفي، يعجُّ بحاويات القُمامة الكريهة الرائحة، وأكوام من ألواح التحميل الخشبية المتشقِّقة، وصناديق الكرتون المتعفنة القديمة. قال ليستر بنبرة مُعتذِرة، وهو يساعد لِيل على الهبوط من الحافلة، كأنها أميرة من الأميرات: «ﻟ… ليتني أنزلتكم عند واجهة المبنى.» قالت لِيل وهي تجُول ببصرها في الزقاق الضعيف الإضاءة: «سيروا بالقرب منَّا يا صغار.» هبط بقيتنا من الحافلة، خلف ليستر ولِيل، وخطونا جميعًا فوق جرائد وأكياس بلاستيكية متسخة وممزَّقة، راحت تحفُّ وتُطقطق وسط نسيم المساء. لم أستطِع الجزم إن كان هذا النسيم من صنْع الطبيعة أم من صنْع فيش الذي كان قلقًا بشأن أبي؛ فقد كان وجهه غامضًا، ونحن نسير في الزقاق المهجور. أمسكت لِيل بيد سامسون الذي سار بينها وبين ليستر دون تذمُّر كأنه يفعل هذا كلَّ يوم. واندهشتُ برؤية سامسون يعتاد على الغرباء بهذه السرعة الشديدة. وإن كنت أعلم، من جمود فكِّه وتخشُّب جسده، أنه يشعر بالخوف والحنين إلى أمي وأبي مثلي ومثل فيش، وأن لِيل وليستر ثاني أفضل اختيار بالنسبة إليه. سار فيش أمام الجميع، مثل فتَى كشَّافة، كي يَضمن سلامة الطريق؛ ومشَت بوبي خلفه بخطوات متثاقلة، وبقيتُ أنا وويل في المؤخرة. آنذاك رأيت شيئًا أصابني بالهلع. توقفتُ في نهاية ساحة انتظار السيارات، خلف مطعم موقف شاحنات إيمرالد، حيث يقود الزقاق إلى الشارع. في مكانٍ ما، وراء حاوية مهملات كريهة الرائحة محاطة بتلال من أكياس القمامة المكتظَّة، برزت يدٌ متسخة من تحتِ ما بدا أنه كومة من الملابس القديمة. كانت اليد مقلوبة على ظهرها، والأصابع ممدودة، كأنها تطلب مني المساعدة. أمسكت بذراع ويل، وجذبتُه نحوي، لا أجرؤ على التنفُّس تقريبًا. أما الآخرون فساروا إلى الأمام، غير منتبهين لليد المتسخة أو لتخلُّفي وويل عن الرَّكْب، كي نُحملق إلى اليدِ وصاحبها. تبادلت وويل نظراتٍ خائفة في الضوء الغريب المنبعث من المصباح الوحيد بالجوار. أمعنَّا النظر، ورأينا جسدًا ممدودًا بلا حَراك، لرجل عجوز مشرَّد مُلتحٍ متَّسخٍ، تفوح منه رائحة الخمر واليأس. حاول ويل إبعادي. وأشار برأسه ناحية زجاجات خمر فارغة كثيرة مُبعثَرة على الأرض بجوار الرجل. وقال بنَبرة آسفة لكنها صارمة، كأنها صادرة عن رجل شرطة يُباشر تفريقَ حشد المتفرِّجين في موقع الحادثة: «ليس هناك ما يُمكننا فِعله من أجله يا ميبس. هيَّا، يا ميبس، لنذهب.» وسحبني من ذراعي بلطف مرةً أخرى، لكنني لم أتزحزح من مكاني. قلت هامسة: «ماذا لو كان ميتًا؟» كان قلبي يَخفق بقوة. شاهدتُ الرجل المستلقي على الرصيف بلا حَراك، ولم أستطِع منْع نفسي عن التفكير بأبي، وهو يَرقد هامدًا بلا حَراك في سالَينا، وكاد قلبي يَنفجِر مِن شدَّة ضرباته. قال ويل بتوتُّر؛ إذ كان لا يُريد البقاءَ أكثر، ويَرغب في الرحيل واللحاق بالآخرين: «ربما أفرط الرجل في شُرب الخمر وفقَدَ وعيه فحسب يا ميبس.» لكنَّني لم أستطِع سماعَه أو الشعور بلمسةِ يده على ذراعي تقريبًا. كلُّ ما رأيته هو ذلك الرجل البائس. وسيطر على تفكيري أنه قد يكون هناك ما يُمكنني مساعدته به. ربما يُمكنني إيقاظه. ربما أستطيع إيقاظه بالطريقة التي سأوقظ بها أبي عند وصولي إلى سالَينا. لم أعُد أسمع الأصوات السخيفة في رأسي؛ فقد آنَ أوان عمل هِبَتي الخارقة الحقيقية كما يجب. لا بد أن تعمل في الحال. خطوتُ ناحيةَ كومة اللحم الهامدة التي كانت يومًا ما رجلًا يَسير ويتحدَّث ويرجو ويحلُم؛ رجلًا كان ابنًا أو صديقًا لشخصٍ ما … أو ربما حتى أبًا. همس ويل: «ميبس!» وحاول أن يسحبني للخلف، لكنني أبعدْته عني. انحنيت على الرصيف لا أكاد أشعر بالحصى التي انغرست في ركبتي. وجلست على مسافة ذراع من الرجل الممدَّد على الأرض، ووضعت إصبعًا مُرتعشًا وَجِلًا على باطن رُسغ الرجل، كأنني أتحسَّس نبضه. نقَّبت في أعماقي، أبحث عن ذلك الشيء أو تلك الشرارة أو العاصفة القوية الخاصة بي؛ كنت أبحث عن منبع هِبَتي الخارقة وحشدتُ كاملَ قوَّتي لإيقاظ الرجل الممدَّد على الأرض أمامي. استيقِظ. استيقِظ. أرجوك. استيقِظ. كرَّرت هذه الكلمات في عقلي، وهمستُ بها بخفوت، مثل ترنيمة. فكَّرتُ بهذه الفكرة بقوة مثلما لم أفعل من قبل. وصببتُ تركيزي على إيقاظ الرجل حتى بدأت عيناي تسيلان دمعًا وأسناني تتألم من طحن بعضها بعضًا. ضغطتُ بإصبعي على الرُّسغ الهزيل البارد أكثرَ فأكثر. وأحسستُ بنبضاته تحت الجلد بطيئةً تكاد تكون مُتردِّدة. ولمدة دقيقة، لم يحدُث شيء. وفجأةً اندلع صوتٌ عالٍ خَشِن داخل رأسي دفعني إلى الخلف زاحفة على الرصيف. «لا أريد أن أرى أيَّ شيء … أو أشعر بأي شيء. اتركيني أموت … لقد رأيت الكثير … الكثير!» كان الصوت داخل رأسي زاخرًا بتيارٍ معاكس يائس لا قرارَ له. وشعرتُ بألم الرجل المُغمى عليه وحسْرتِه خلفَ عينيَّ يهزَّان عقلي بعنفٍ مثل شظايا قنبلة. لكن الرجل لم يستيقظ: «لقد رأيتُ الكثير! دعيني وشأني …» لم أستطِع إيقاظه. حينها علمتُ، على الفور، وبلا أدنى شك، أنه ليس هناك ما يُمكنني فِعله على الإطلاق لمساعدة أبي. شعرتُ كأن شخصًا ما لكَمَني في مَعِدتي، واقتلع عظامي كلَّها، مُحوِّلًا إياي إلى كتلة عديمة الفائدة ومثيرة للغثيان من الجيلي. تحرَّك الرجل المُحطَّم على الأرض، دون أن يستيقظ، وقلَب يدَه لتكشف عن وشمٍ باهت لعُقاب مُحلِّق، مرسوم على ظهرها، منذ سنوات كثيرة مضت. وبينما أنصتُّ إلى صراخ الصوت الحزين اليائس داخل رأسي، خفَق العُقاب وصاح ورفرف بجناحيه، كأنه جُنَّ جنونه، كأن جُلَّ ما يُريده الآن هو التحرُّر من معقله والفِرار. أدركت في ذلك الوقت أن المصادفة، لا الهِبَة الخارقة، هي التي أيقظت جيبسي من نومها ذلك الصباح، وأن سُلحفاة سامسون الأليفة الميتة خدعتني واستيقظت من سباتها الطويل في ذلك اليوم المهم، دون أي اعتبار للهِبَات الخارقة أو الآمال أو إساءة الفهْم. لقد قامت الطبيعة بعملها ببساطة، وأنا مَن أخطأ قراءةَ ما حدث. ولأول مرة، منذ أن كبِرت ووعيت معنى الهِبَة الخارقة، ومنذ ذاك اليوم الذي بدأتُ فيه أتخيل ماهية هِبَتي، تمنَّيت لو أنني مثلُ أبي ولم أحظَ بأيِّ هِبَة خارقة على الإطلاق. لا أريد هِبَة خارقة تُسبِّب لي الحزن. لا أرغب في هِبَة خارقة تبعث فيَّ الأمل ثم تتركني عديمة الحيلة.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/18/
الفصل الثامن عشر
قال ويل بهدوء: «هيَّا، يا ميبس. لنذهب. الجميع في انتظارنا»، بينما ساعدني في النهوض على قدميَّ وتنظيف يديَّ من الوسخ والحصى. ثم أبعَدني عن الرجل الفاقد الوعي. لكنه لم يكن على علمٍ بما سمعتُه. ولا بما رأيته. كان الأمر أسهلَ على نفسه؛ إذ لم يُضطرَّ إلى الاستماع لذلك الصوت مثلي. كانت ساقاي خائرتين، لا تَقدِران على حملي، فبدا من المستحيل أن أغادر المكان. لكن عندما أمسك ويل بمرفقي بخجل، تركته يقودُني ناحية الوميض الصادر عن استراحة ومطعم موقف شاحنات إيمرالد. كان الآخرُون في انتظارنا أمام المطعم. أمسك ليستر بابَ المطعم، حتى ندلِف إلى الداخل. وجدنا المطعم يعجُّ بأشخاصٍ كثيرين، وفهمت بمرارة كيف كان روكيت مخطئًا، عندما قال إن الفتيات لا يحظَين إلا بالهِبَات الخارقة الراقية الهادئة. كان كلُّ ما حصلت عليه هو الضوضاء فحسب؛ عندما دخلت إلى ذلك المطعم، لم يكن «هادئًا» على الإطلاق، كما كانت الأصوات والأفكار المُدوِّية في أذني أبعدَ ما تكون عن الأدب. كان السير إلى مَطعمٍ مليء براكبي الدرَّاجات النارية وسائقي الشاحنات ذوي الوشوم، يشبه تشغيلَ راديو صاخبٍ داخل رأسي؛ راديو ذي قرصٍ دوَّار يتنقَّل، بأزيزٍ وصوتٍ عالٍ، من محطة إلى أخرى بلا توقُّف. كنت لا أزال أشعر بالدُّوار من مواجهتي مع الرجل المشرد، فزاد الهجوم الجديد من أفكار أولئك الأغراب ومشاعرهم وأسئلتهم وأجوبتهم من شعوري بالغثيان وشعرت أنني سأتقيَّأ. ضربتْني موجة من الدُّوار جعلت الغُرفة تتمايل، فتعثَّرت خطواتي، وبذلتُ محاولات غير مجدية لتغطية أذني والحفاظ على توازني. أمسكني فيش من جانب وويل من الجانب الآخر، وراح أحدهما يَرمق الآخر بنظرات نارية بينما يحاولان الحفاظ على توازني وإبقائي واقفة على قدمي. قال ليستر: «آه، يا إلهي …» ودسَّ يدَيه في جيبَيه، وتراجع خطوة إلى الخلف، لا يدري كيف يتصرف مع الفتيات المغشيِّ عليهن. سألت لِيل، وهي تستدير وتبادر لنجدتي: «هل أنتِ بخير يا عزيزتي؟» وقد فعلت هذا متجاهلةً امرأة تَرتدي زيًّا ذا لونين أبيض وأخضر يُشبه زيَّها تمامًا. كانت المرأة الأخرى حمراء الشعر متجهِّمة، تحاول دفْع أباريق القهوة والماء باتجاه لِيل، وهي تتذمَّر، كقطة مُبتلَّة، لتأخُّر لِيل عن العمل. أجاب فيش لِيل في توتُّر واندفاع: «أظنُّ أن أختي مكثت في الحافلة وقتًا أطولَ من اللازم.» كان يحاول التستُّر عليَّ، والتستُّر على هِبَتي الخارقة، وإن كان لا يدري بعدُ ماهيةَ الشيء الذي يتستَّر عليه تحديدًا. شعرت بالامتنان نحو أخي، والخجل أيضًا. كنت أعلم أنني مضطرة إلى إخباره بكل شيء يتعلَّق بالأصوات، وكيف أنني أقحمتُ الجميعَ في هذه الفوضى الكبيرة بلا طائل. قالت ليل: «حسنًا، ربما ينبغي أن تتمدَّد ميبس في الغرفة الخلفية لتَنال قسطًا من الراحة.» اجتازت ليل — بخطوات عريضة سريعة اضطُرَّ بقيتُنا إلى القفز لمواكبتها — مكان النادلة الحمراء الشَّعر المتذمِّرة الحادة الصوت، والمقصورات والطاولات المليئة بالزبائن وأفكارهم التي تُصِمُّ الآذان. وقادتنا أمام طاولة طويلة يجلس إليها الزبائن على مقاعدَ مُستديرة دوَّارة يتناولون حلقات البصل ويحتسُون القهوة، وعبرَت بنا «باب دخول الموظفين فحسب» المجاورَ للمطبخ. وجدنا أنفسنا في غرفة تخزين ضيقة تفوح منها رائحة الكاتشب والمخلل والخردل. نزعت لِيل سُترتها وعلَّقتها على مِشجبٍ على الباب. امتدَّت على جوانب الغرفة أرففٌ عالية مكدَّسة بلفافات الخبز وأوعية المايونيز وصفائح ضخمة من البقوليات والطماطم، ذكرتني بقبو منزلنا، في المسيسيبي، وأوعية جَدَّتي دالاب الصاخبة. وفي المساحة الوحيدة الفارغة من أرفف المؤن كان ثمَّة خزانات ملفات، ومكتب غير مرتَّب، بالإضافة إلى أريكةٍ مهترئة. قبعت كومة من الجرائد على الأرض بجوار باب خلفي، كُتب عليه «باب الطوارئ»، وكانت هناك طاولة منخفضة أمام الأريكة مبعثر فوقها فُتات طعام وعلب صودا فارغة. قبع تلفازٌ أبيض وأسود فوق إحدى خِزانات الملفَّات، وكان الهوائي مائلًا وزينتُه عُقد من ورق الألمونيوم المجعَّد. وقد شغَّل أحدهم التلفاز، وبثَّت صورته، الباهتة السيئة الجودة، أخبارَ المساء. نقل مراسلٌ أخبارًا من مكانٍ ما بكِنساس، مُغطيًا حوادثَ انقطاع تيار كهربائي غريبة وتلف الشبكات الكهربائية في أماكنَ كثيرة من الطريق السريع ٨١، خاصة في كِنساس، ومرورًا بمدينة سالَينا. تبادلت وفيش نظراتٍ ذات مغزًى، واثقين تمام الثقة، أن روكيت له علاقة بهذا الأمر. أمرت لِيل الفَتيَين، فيش وويل، أن يجعلاني أستريح على الأريكة، بينما خفضَت صوت التلفاز قليلًا، لكنني تجاهلت أوامرهم مثل ذباب مُزعج يطنُّ. فمجرد وجودي في الغرفة الخلفية حسَّن من حالتي. كان رأسي ينهشه الألم ومَعِدتي تُريد أن تقفز وترقص رقصة الجاز والتويست. كنت لا أزال أسمع جميع الأصوات، لكنها انخفضت مثل صوت التلفاز، لانزوائي في غرفة التخزين. جلست على حافة وسائد الأريكة المنسولة الخيوط، أُحدِّق إلى الأرضية، وأحاول ألا أسترِق السمعَ للأصوات، وأن أدَعَ الأصوات داخل رأسي وخارجه تمتزج مكوِّنة صرخة أبدية قاسية، تنتحب على تبدُّد آمالي المتعلِّقة بهِبَتي الخارقة وبأبي. ووسط كل هذا الضجيج في رأسي سمعت فيش يُخبر الآخرين: «إنها تحتاج إلى بعض الخصوصية فحسب.» قالت لِيل مُعتذِرة: «لا بد أن أذهب إلى العمل»، وعلَّقت يدها بذراع ليستر الذي كان واقفًا بجوارها. وأردفت: «ربما حالفني الحظ اليوم كما تعلمون. لم أرَ أوزي القوي العظيم عندما دخلنا إلى المطعم.» وبدَت مُسترخية، وضحكت ضحكتها الصغيرة، ثم خبطت ليستر بخاصرتها فكادت تطرحه أرضًا. قالت: «أوزي هو المدير هنا، وكان سيُلقِّنني درسًا قاسيًا، إن أمسك بي وأنا أدخل المطعم في هذه الساعة. هلا مكثت مع أختك يا سيد فيش، وسأجعل الآخرين يُحضرون لكما الطعام هنا في لمح البصر.» أومأ فيش برأسه علامة الموافقة دون أن يُشيح ببصره عني. سحبت لِيل ليستر إلى داخل المطعم، وتبِعتهما بوبي وويل الابن الذي نظر إليَّ من وراء ظهره نظرة قلقة، تعرب عن عدم رغبته في تركي. نظرت حولي أبحث عن سامسون. أنشأت أسأل: «أين …؟» أجاب فيش وهو يهز كتفيه بلا مبالاة: «الله أعلم. أنت تَعرفين سامسون. سيظهر.» ثمَّ نحَّى علب الصودا جانبًا وأزال بعض فُتات الطعام قبل أن يجلس على المائدة المنخفضة أمامي مباشرة، في تململ، عاقدًا ذراعيه أمام صدره. ثم قال: «أخبريني.» كان فيش يريد معرفةَ روايتي الكاملة عن هِبَتي الخارقة. كان يريد التفاصيل. ويريد معرفتها في الحال. حملقت إلى الصور المشوَّشة على شاشة التلفاز في الغرفة، لأنني كنت أريد أن أتحاشى النظر إلى وجه أخي المتجهِّم؛ كان هناك الكثير من التشويش، وبدا الأمر كمُحاولة مشاهدة التلفاز عبْر فقاعات مشروب غازي؛ كما كان الصوت مُنخفضًا جدًّا وعسيرًا على السمع. انتهَت تغطيةُ خبر انقطاع الكهرباء، وأدار مُذيع الربط الجالس خلف مكتب الأخبار مقعده إلى زاوية جديدة أكثرَ درامية، وبدَت على وجهِه أمارات الجدية. بدأ رقم هاتف يسير، على نحوٍ غير مُنتظِم، أسفل الشاشة، بينما حرَّك مُذيع الربط شفتَيه بصوت مكتوم. حرتُ فيما أقوله لفيش. كنتُ واثقة غاية الثِّقة في هِبَتي الخارقة. ولولا ثقتي في قدرتي على إعادة أبي إلى البيت في كنساسكا-نبرانساس ما كُنا نَجلس الآن في غرفة التخزين في استراحة ومطعم موقف شاحنات إيمرالد. لكن كان واضحًا شفافًا، شفافية أواني أمي الكريستال الممنوع لمسُها وإلا فستَنال ما تستحقُّه، أنَّ هِبَتي الخارقة لها خططٌ أخرى، وكنتُ في غاية الأسف، مليئة بالتعاسة والرهبة، من مجرد التفكير في إخبار أخي بكل شيء. قلتُ في نهاية المطاف: «إنه الوشم يا فيش»، وأنا لا أزال أفضِّل التركيزَ على التشويش الأبيض والأسود للتقرير الإخباري عن النظر في عيني أخي مباشرة. سأل فيش: «عن أي وشم تتحدَّثين يا ميبس؟» أجبتُ: «أي وشم، حسبما أعتقد، ما دام على بشَرة شخصٍ ما.» ضيَّق فيش عينيه وقال: «تابعي الحديث.» حرتُ في كيفية شرح الأمر له. فلم أرغب في التنقيب في عقلي عن الكلمات الصحيحة كي أضعها في الجُمل الصحيحة مثل قِطَع لعبة تركيب الصور. كانت هذه العملية صعبةً للغاية. وتملَّكني شعور بالتعب والجوع. والآن، بعدما علمت أنه ليس بيدي ما أفعله لمُساعَدة أبي، أردت العودة إلى البيت فحسب. أردت العودةَ إلى جَدِّي بومبا وجيبسي. رغِبت في العودة إلى الوحل الذي خلَّفته أمطار فيش. أردتُ الخضوع للتعليم المنزلي، وتعلُّمَ كيفية زراعة الطحالب في أوعية المخلل، وكيفيةَ السيطرة على هِبَتي الخارقة حتى تَعلمَ قدْرَها الحقيقي. قال فيش بلهجة آمِرة: «أخبريني يا ميبس.» انتزعت عيني عن التلفاز الصغير، حيث كان مذيعٌ يجري مقابلة مع رجلٍ وامرأة يشبهان، عبْر التشويش الأبيض الناجم عن الإرسال الضعيف، القسَّ ميكس والسيدة روزماري. التقت عيناي بعيني فيش وتنهَّدت مرة أخرى. أخرجت من جيب تنُّورتي القلم الفضِّي الذي أهداني إياه ويل الابن في عيد ميلادي قائلة: «ربما ينبغي لي أن أريك كيف يجري الأمر. ابسط يدَك وفكِّر في أي رقم. لكن اجعل الرقم صعبًا.» قطَّب فيش حاجبَيه في حذَر. قال: «ما الذي ستَفعلينه يا ميبس؟» أجبت بنفاد صبر: «هذا ليس إعصارًا يا فيش. وهو ليس ديناميتًا. ثِق بي.» دفع فيش يده نحوي بتحفُّظ، وزمَّ شفتيه بشدة، حتى صارتا خطًّا مستقيمًا مشدودًا. أدركت أنني أثرتُ غضبه؛ فقد طار شعري بعيدًا عن وجهي، وحفَّت الجرائد القابعة عند الباب، ورفرفت. وضعت حافةَ القلم على راحة يد فيش ثم توقَّفت. سألته بحدَّة: «هل فكَّرت في رقم؟ فأنا لا أريد سماع أي شيء غير رقم.» كان آخر شيء أريده هو أن أسمع ما يجري داخل رأس أخي. انتابتني قشعريرة. يا للقرف. ضيَّق فيش عينيه مرة أخرى، ثم أومأ بخشونة وجدية وعبوس. وقال: «فكَّرت في رقم.» قلتُ: «فكِّر في هذا الرقم مرارًا وتكرارًا»، وضغطت على القلم كي أرسمَ بسرعة دائرة صغيرة يقطعها عينان وفم، عبارة عن وجهٍ مبتسم ابتسامةً لا هي عريضة ولا هي فاترة. تموَّج الفم في عبوس وطرَفت العينان مرتين. قالت الرسمة: «ألفان، ومئتان، واثنان وعشرون ونصف. ألفان، ومئتان، واثنان وعشرون ونصف، ألفان، ومئتان …» بصقتُ بسرعة على يد فيش، ومسحت الوجه، قبل أن تحظى أفكارُه بفرصة التجول إلى مكان آخر. لم يتحرَّك فيش، وجلس ينظر إليَّ كأنني قارئة حظٍّ محتالة مَعتوهة، تجلس في مهرجان المقاطعة وتقرأ كفَّه وتخبره بعدد الأطفال البكائين الصارخين الذين سيَحظى بهم عندما يبلغ سنَّ الرشد. كرَّرت الرقم: «ألفان، ومئتان، واثنان وعشرون ونصف. أليس كذلك؟» نكَّس فيش رأسه دون أن يُعرب عن مشاعره، وبدا جادًّا لكنه هادئ. سأل: «أيُمكنك سماع أفكاري؟» أجبت: «أفكارك أو مشاعرك حسبما أظن.» علا صوتٌ رخيم فوق الصراخ الرتيب والهمهمة داخل رأسي: «أيُمكنكِ قراءة العقول؟» كانت بوبي تقف داخل غرفة التخزين، على وشْك إسقاط السلال البلاستيكية التي تفيض بشرائح الهامبرجر والبطاطس المقلية، من بين ذراعيها المُمتلئتَين عن آخرهما. سألت: «أنتِ تقرئين العقول، أليس كذلك؟»
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/19/
الفصل التاسع عشر
نظرت بوبي إليَّ وفيش. لقد رأت وسمعت كلَّ شيء. قالت وهي تَضع سلال الهامبرجر على المكتب وتَتراجع بضع خطوات ناحية الباب: «كنتُ أعرف. كنتُ أعرف. كنتُ أعرف أن ثمَّة شيئًا ما بعقلك. لن يصدِّق ويل ذلك أبدًا.» وغادرت غرفة التخزين قبل أن أتمكَّن أنا أو فيش من النطق بكلمة واحدة. وثَب فيش من مقعده على الطاولة المنخفضة. وقال: «لا بد أن أوقفَها!» قلتُ، وأنا أقفز من فوق الأريكة لأمسك بذراع أخي كي أمنعه من القيام بأي عمل غبي: «ليس هناك ما يُمكنك فِعله يا فيش.» لكن لم يكن هناك داعٍ لذلك. فقد تجمَّد فيش في مكانه فجأةً وحملق إلى التلفاز الصغير القابع فوق خزانة الملفات. نظرت إلى ما كان ينظر إليه وشهِقتُ. هناك، عبْر الشاشة البيضاء والسوداء المشوَّشة، كانت صورنا — أنا، وبوبي، وويل، وفيش، وسامسون — تُعرض على الشاشة بسرعة مع كلمات «تنبيه!» «مفقودون!» «تنبيه!» في شريط الرسائل أسفل الشاشة ورقم «٨٠٠» للاتصال في حالة العثور علينا. شاهدنا صورَنا تُعرض على الشاشة وتهتزُّ، عبْر إرسال التلفاز الصغير السيئ الجودة، ثم انتقلت النشرة الإخبارية إلى مراسلٍ آخر يُجري حوارًا مع القس وزوجته أمام الكنيسة. بدت السيدة روزماري حزينة قلقة؛ أما القس ميكس فكان متحفظًا مُتوترًا ثائرًا. كزَّ فيش على أسنانه، وتشنَّجت عضلاته. وتمتَمَ دون أن يُشيح ببصرِه عن التلفاز: «لدينا مشكلاتٌ أكبر يا ميبس.» نقلت بصري من التلفاز إلى الباب المؤدِّي إلى منطقة الطعام، وبلعت ريقي بصعوبة، أحاول تصوُّر ماذا يمكن أن يُصيبنا بعدُ في هذا اليوم. فقد استحالت الأوضاع من سيئ إلى أسوأ، وراودني شعور بأنَّ وضعنا لن يتحسن في المستقبل القريب. فورَ أن مدَّ فيش يده لإغلاق التلفاز، انفتح باب الطوارئ الخلفي على مصراعَيه بصريرٍ عالٍ — نتَج عن احتكاك المعادن بعضها ببعض — أثارَ الرعب في قلوبنا، فقفزنا للخلف. ووجدنا رجلًا عريض الصدر، يَرتدي كنزة رياضية ذات قلنسوة وسروالًا قصيرًا ضيقًا أخضر اللون، يَنظر إلينا بتجهُّم عند مدخل الغرفة. وكان يَلبَس سلسلةً ذهبية حول عنقِه وخاتمًا من الذهب الخام في كل يد. لا بدَّ أن هذا أوزي، مدير استراحة ومطعم موقف شاحنات إيمرالد. أخرج الرجل عود أسنان من بين شفتَيه، وألقى به وراء ظهره، تجاه ساحة انتظار السيارات. ثم دلف إلى الغرفة، وانقضَّ عليَّ وفيش، مثل ثور هائج. سأل الرجل بفمٍ يفوح منه مزيج قوي من الوعيد وأجنحة الدجاج المقلية: «ماذا تفعلون هنا يا أطفال؟ ألا تستطيعون القراءة؟ هذه المنطقة مخصَّصة للموظفين فحسب. هيَّا! اغربوا عن وجهي!» ثم تقدَّم نحونا مُلوِّحًا بيديه مثل عملاق مفتول العضلات يُروِّع الدجاج. وقال: «اعثرا على والدَيكما، أو اذهبا والعبا بصندوق الموسيقى أو ما شابه.» صحتُ بصوتٍ رفيع وهو يَدفعنا إلى الخلف تجاه الباب المؤدِّي إلى منطقة تناول الطعام: «نحن هُنا مع لِيل. لقد قالت إننا يُمكننا البقاء هُنا.» لكن هذا لم يمنع أوزي من دفعنا إلى الأمام. بل زاد من سوء الوضع في الحقيقة. قال بنَبرة خشنة استعراضية مثل جرسٍ طنَّان في برامج المسابقات: «طااااااااان! إجابة خاطئة! لِيل على رأس قائمتي في الوقت الراهن. في الحقيقة، إنها على وشْك الطرد من عملها.» ثم دفعني وفيش خارج غرفة التخزين. وجدت نفسي وسط هذه الأصوات الصاخبة الفوضوية، فحاولت أن أحمي نفسي من الارتباك، وأن أعثر على طريقة يمكنني بها تخفيف وقْع هذه الأفكار المدوية التي هي ملك للآخرين وحدَهم، لكن كان هذا أمرًا صعبًا يتطلَّب سنوات — سنوات طويلة مرعبة من هذه الهِبَة الخارقة الغبية — وليست لدي أدنى فكرة عن كيفية تحقيق ذلك. وقفت عند حافة الغُرفة قدْر استطاعتي، أحوم حول أقرب جدار للمطبخ، بجوار طاولة الطعام الطويلة. كنتُ أسمع صوت صُحون ترتطم بأختها في المطبخ، وصوت اصطدام الفضيات بالأسطح، وطقطقة الهامبرجر المَقلي وأزيزه. لكن طفَتِ الأصوات الصاخبة في رأسي فوق هذه الأصوات العادية مثل سفن حربية مُتقاتلة في محيط مضطرب. لم أستطِع تحديد هل كانت الغرفة هي التي تدور أم أنا، ومرَّ المشهد التالي أمامي بسرعة مثل لقطات سريعة لمزيجٍ فوضوي مدوٍّ من أفكار الآخرين ومشاعرهم. دخل أوزي غرفة الطعام، ولِيل تقف خلف الطاولة الطويلة وثلاث فطائر متراصَّة أمامها، وكانت تأخُذ الفطيرة الأولى وتضعها في كريمة الموز بسكِّين الفطائر المثلث الشكل. وجلس ليستر بالقرب منها على مقعدٍ مُستدير، يتناول شطيرة ثخينة من الهامبرجر، بينما ينسكب الخردل على ربطة عنقه المائلة. سمعت فيش يَهمِس في أذني: «بوبي واقفة مع ويل الابن عند صندوق الموسيقى.» نظرت إلى زاوية الغرفة، ورأيت بوبي تتحدَّث إلى ويل وتُشير باتجاهنا. قال فيش بتشاؤم: «لا بد أنها تُخبره بكل شيء.» لاحظت أن ويل يَنقل نظراته بين شقيقتِه وبيني، لكن في تلك اللحظة كان رأسي يُؤلمني بشدة فلم أعبأ بردَّة فِعله. آنذاك، بدأ أوزي يَصيح من جديد. مشى أوزي إلى لِيل، والتقط فطيرة كريمة الموز، وانتزع السكِّين من يدها. ثم قال وهو يُلوِّح في الهواء بسكِّين الفطائرِ المغطَّى بالكريمة المخفوقة، مُشيرًا بجنون، وهو يضرب ليستر على رأسه بشريحةٍ شاردة من الموز: «لقد انتهى أمرُك يا ليل. لقد اختبرت صبري بما فيه الكفاية. لو كنتِ تحضرين إلى عملك في الموعد المناسب، لكنتِ نادلة جيدة، لكن طفح الكيل. هذه هي المرة الأخيرة التي تأتين فيها إلى هُنا مُتأخِّرًا، والمرة الأخيرة التي تقطعين فيها الفطائر في مطعم موقف شاحنات إيمرالد.» أنشأت لِيل تعترض: «لكن، يا أوزي …» صرخ أوزي، بسرواله الضيق، مُستمتعًا بنغمة صوته بلا شك، والاهتمام الذي ناله من النادلة الحمراء الشعر: «أريدكِ أن تُغادري المكان حالًا يا لِيل كايتلي.» آنذاك، توقَّف كلُّ مَن في المطعم عن الكلام والتفت لمراقبة المشهد المُتطوِّر بين أوزي ولِيل. كما انتهت الأغنية في صندوق الموسيقى كأنه هو الآخر يُنصت إلى ما يحدث. أسقط ليستر الهامبرجر من يده، ومسح كريمة الموز من شَعره الخفيف ببطء. دنا ويل وبوبي من الطاولة الطويلة، لكنَّهما توقَّفا مكانهما عندما رأيا أوزي يُلوِّح بالسكِّين في الهواء. كان انتباه الجميع مُنصبًّا ومركزًا على أوزي القوي العظيم حتى الأصوات في رأسي هدأت في حضرته. وضع أوزي السكِّين في حوضٍ أسفل الطاولة الطويلة، وهو لا يَزال ممسكًا بالفطيرة، كأنه لا يثق بلِيل بما يكفي ليضعَها بجوارها. وبينما أشاهده، رأيت سامسون يجلس بلا حَراك وبهدوء تحت الطاولة، في الفراغ المكشوف عند حوض الصحون، قاتمًا وغامضًا للغاية، حتى إن أوزي لم يَنتبه لوجوده. حاولت لِيل أن تتحدَّث مرةً أخرى: «أوزي، دعني فقط …» أحدث أوزي ضوضاءَ برامج المسابقات المزعِجة نفسها مقاطعًا لِيل: «طاااااااان! لقد خسرتِ يا لِيل!» استدار أوزي، مُمسكًا الفطيرة بيده اليسرى؛ وبيده اليُمنى فتح صندوق المدفوعات. ثم أخرج رِزمة من الأوراق المالية، وتمادَى في استعراضه بأن ألقاها إلى لِيل، التي بدَت من كل النواحي أنها على وشْك إطلاق فيضان من الدموع لو أنها فقدت السيطرة على نفسها وسمحت للسد بأن ينهار. قال أوزي والأوراق النقدية تسقُط على الأرض عند قدمَي لِيل الكبيرتين: «خُذي هذه. يمكنك الحصول على التعويض المناسب؛ هذا المبلغ يُفترض أن يغطي راتبك الأخير.» رأيتُ كيف ابتسمت النادلة الحمراء الشعر ابتسامةً ماكرة للِيل التي انحنت بكل ذرة كبرياء استطاعت حشدها كي تلتقط المال من فوق الأرض. لو أفلح أوزي في كبْح جِماح نفسه قليلًا لكان خيرًا للجميع. لكنه عندما ضحك بقسوة، على لِيل المسكينة المنحنية على الأرض لتلتقط راتبها الأخير، أطلق العِنان لفوضى عارمة وجلبة حقيقية. قال ليستر وهو يضرب بقبضته الطاولة الطويلة ضربةً قوية، وأدَّى انتفاضه إلى ارتفاع كتفه وهبوطه على شاكلة المكابس داخل مُحرِّك حافلته: «هذه ليست طريقة تُعامل بها امرأة مهذبة يا سيدي.» قال هذا، ودفع بصحنِه جانبًا، ونهض على قدميه، ثم دار حول الطاولة، كي يساعد لِيل في جمْع مالها. في اللحظة نفسها، خرج سامسون من مخبئه خلف الطاولة الطويلة، وعضَّ أوزي القوي العظيم في ساقه عضَّة قوية. صرخ أوزي مثل فتاة صغيرة، وطارت فطيرة كريمة الموز من بين يديه، لتسقط مقلوبة بشكل مقزز على الأرض أمامه. قبض أوزي على ساقه المتألمة، ووثب على قدمه السليمة، وأخرج سكِّين الفطائر من الحوض متوعدًا: «أيها الصغير …!» هتفت: «لا!» عندما رأى ويل وبوبي «سامسون» ينبثقُ من خلف الطاولة الطويلة، ويصبح قريبًا من الرجل الغاضب وفي يده سكِّين الفطائر، اندفعا عبْر أرضية المطعم. وحاولا انتزاعَ السكِّين من الرجل، من فوق الطاولة الطويلة، بينما انطلق سامسون من خلفها، وفرَّ باتجاه غرفة التخزين. تقدمتُ وفيش، ودفعنا أوزي في منتصف ظهره المفتول العضلات دفعةً قوية، أدَّت إلى ترنُّحه وتعثُّره في الفطيرة المُلقاة على الأرض. تزلَّج الرجل الضخم على قدمٍ واحدة على كريمة الموز والكاسترد، بينما اجتاحت رياح فيش الغاضبة المَطعم، فاختلَّ توازنه أكثر. وانقلب أوزي على ظهره وارتطم بالأرض بقوة. صرخت النادلة الحمراء الشعر، وهبَّ الزبائن واقفين على أقدامهم، حائرين لأي الطرفَين يَنحازون ويقدِّمون المساعدة، أو غير واثقين ممَّا إذا كانوا سيُقدمون المساعدة من الأساس. صرخت بوبي، وهي تلفُّ حول الطاولة الطويلة عَدوًا، كي تساعد لِيل وليستر في جمع بقية المال: «لنذهب من هُنا!» قادَ ويل الابنُ وبوبي البالغَين المحبَطَين الغاضبَين بعيدًا عن أوزي المتخبِّط البذيء، باتجاه الباب الخاص بالموظفين، كي يَهربوا هُروبًا اضطراريًّا من باب الطوارئ، وتبعتُهما مع فيش في الحال. أثناء عُبورنا من غرفة التخزين، جذبت لِيل سترتها من فوق المِشجَب، ونظرت إلى بقيتنا، وهي تهزُّ رأسها. كان وجهها أحمر، وحذاؤها الأبيض مُلطَّخًا بآثار فطيرة الموز. قالت هامسة بينما نتَّجه إلى الباب: «أعتذر إليكم جميعًا. يبدو أن الأطفال الأشقياء والغريبي الأطوار عليهم الانطلاق من جديد.» وأشارت إلى السلال القابعة على المكتب حيث تركتها بوبي سابقًا. وقالت: «أحضروا شطائرَ الهامبرجر هذه أيها الصغار. يمكنكم تناولها في الحافلة.» ونظرَت إلى سامسون الذي تناول يدَها في حزن. وأضافت بصدق: «أنا آسفة لأنك لم تَتناول فطيرة الموز أيها الطفل.» توقَّف ليستر في مكانه فجأة. وقال: «انتظروا جميعًا لحظة.» أوقفَتنا نبرةُ ليستر القاطعة في أماكننا. ودون أن يتوقَّف لحظة، رفع إصبعًا في الهواء، كإشارة للهجوم، واستدار واندفع عبْر الباب إلى منطقة الطعام. ظننت لوهلة أنه فقدَ ما تبقَّى من عقله وركض في الاتجاه الآخر بسبيل الخطأ. لكنه عاد، بعد لحظة، حاملًا فطيرةَ كريمة ثانية فوق رأسه عاليًا، كأنها كأسُ النصر. وقطع الغرفة في سباق محموم باتجاه باب الخروج، بينما وجَّهت لِيل للأريكة المُهترئة ركلةً أخيرة وقوية، مثلما فعلت مع سيارتها المعطَّلة. ثم دفعت بقيتنا خلف ليستر، وخرجنا مُتدافعين من الباب الخلفي، إلى ساحة انتظار السيارات خلف المطعم، بعيدًا عن أوزي واستراحة ومطعم موقف شاحنات إيمرالد.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/20/
الفصل العشرون
اندفعنا خارجين وكانت ليلة من ليالي الربيع؛ حيث الهواء المنعِش البارد، تتخلَّله أبخرةُ الديزل وأصابع الدجاج المقلية. بعد كل هذا الهرَج والمرَج والضجَّة الصاخبة داخل المطعم، كان الخروج مُريحًا للنفس وسط الصمت المهدئ للأعصاب للسماء والرصيف. وتمكَّنت من سماع أصوات السيارات العابرة في الطريق أمام المطعم، التي بدت كأمواجٍ تتكسَّر على الشاطئ لا أكثر. لم يتحدَّث أحد أثناء قفزنا فوق النُّقَر بسرعة على ضوء المصباح الوحيد في الشارع، وتعرَّجنا عبْر الشاحنات والمقطورات، قاصدين الركنَ القصيَّ من ساحة انتظار السيارات، ومتجهين ناحية الزقاق. راقبنا عن كثَبٍ الطريق خلفنا تحسبًا لقيام أوزي أو أي شخص آخر بملاحقتنا. لكن لم يبدُ أن أوزي يجري في أعقابنا، سواء أكان ذلك بسبب استلقائه على ظهره وسط بقايا فطيرة الموز أم بسبب شعوره بالعار. وسط كل هذه الجلبة داخل المطعم، نسيتُ أمرَ ذلك الرجل المشرَّد عند حاوية القُمامة. كدنا نتخطاه مرةً أخرى، وذلك قبل أن تمنعني العودة الصاخبة للصوت «لقد رأيت الكثير …» من نسيان أنه لا يزال راقدًا هناك. أثقَلَني الحزن وتأنيب الضمير، وأدركتُ أنه إذا عجزتْ هِبَتي الخارقة عن فعلِ شيء لمساعدة ذلك الرجل المحطَّم اليائس، فلست عديمة الحيلة تمامًا. تخلفت عن الآخرين، ووضعت سلَّة الهامبرجر الخاصة بي على الأرض بجوار اليد الممدودة. ثم نزعت الزهرة الأرجوانية المصنوعة من الشرائط والمُثبتة على كتفي من فستان المناسَبات الخاصة ووضعتها جانب شطيرة الهامبرجر، على ثقة بأن أبي سيتفهَّم تصرفي. وباستثناء القلم الفضي، كانت الزهرة كلَّ ما يُمكنني هِبَته وفِعله كي أعرِّف الرجل أنني قد رأيته. وأنني سمعت نداءَه. كان الجميع في طريقهم إلى الحافلة، لاهثين مُضطربين من الحادثة داخل المطعم، وحده وِيل مَن انتبه لعطائي البسيط، ونظر إليَّ نظرةً دافئة عطوفة، وهو يَنتظرني كي ألحقَ بهم. بعد أن ابتعدتُ عن الأصوات الكثيرة داخل المطعم وصوت الرجل المشرد، شَعرت بالإحباط — لا الاندهاش — من عودة أصوات ملاك بوبي وروندا وكارلين إلى رأسي، بكامل حدَّتها وصخبها، كأنها صاحِبة المكان دون سواها. «لقد ورَّط ليستر نفسه في مشكلة كبيرة …» «لا بدَّ أن الرجل بارع في هذا الأمر.» سعى ليستر إلى فتح باب الحافلة، وهو يَحرص ألا تسقط الفطيرة المسروقة من يده في الوقت نفسه، وأثناء ذلك أسندنا ظهورنا إلى جانب الحافلة كي نَلتقط أنفاسنا. ورغم كلِّ ما حدث، ظلَّت بوبي تحدِّق إليَّ شبهَ هادئة، عاقدة ذراعيها أمام صدرها، بنظرة مُتسائلة وفي الوقت نفسه حَذِرة. ووقَف ويل الابن وراءها، وقد ارتسم على وجهِه تعبيرٌ مُبهم. غنَّى الملاك الصغير على ظهر بوبي في رأسي: «حدِّثيني عمَّا أفكِّر فيه. هل تدرين بمَ أفكِّر؟» ذهبت أصوات روندا وكارلين وراء الستار، خلف صوت ملاك بوبي، وبدت انتقاداتهما المستمرة لليستر مثل مقاطعَ غنائيةٍ ارتجالية لأغنية بوبي الجديدة. «حدِّثيني عما أُفكِّر فيه. هل تَدرين بمَ أُفكِّر؟» هاجمتني بوبي بأفكارها، بصوتٍ أخذ يعلو أكثرَ فأكثر. «حدثيني عما أفكِّر فيه. هل تَدرين بمَ أفكر؟» «حدثيني عما أفكِّر فيه. هل تدرين بمَ أفكر؟» كادت تقودُني إلى حافة الجنون. تمكَّن ليستر من فتح الباب في نهاية المطاف، ووضعت يديَّ في أُذني وبدأت أدندن النشيد الوطني الأمريكي بأعلى صوت مُمكن للدندنة. لكن فيش أدارني لمواجَهته، وأخرج إصبعي من أذني اليمنى، هامسًا بجِدية: «ماذا تسمعين يا ميبس؟» همست: «بوبي لديها وشمٌ على ظهرها، وهو لا يتوقَّف عن الحديث بصوتٍ عالٍ. لقد كشفت هِبَتي الخارقة، يا فيش، أم أنك نسيت؟» نظر فيش إلى بوبي نظرة سريعة. كانت الفتاة تستند إلى جانب الحافلة، وترقُبني بعينَيها كقطة تترصَّد فأرًا؛ قطة تحب أن تلعب بفريستها قبل أن تلتهمها. أما ويل الابن فإنه وقف خلف شقيقته نوعًا ما، وقد علا الاضطراب وجهه، لا يدري هل فهِم المغزى من الدعابة أم لا. لم تُعِر بوبي اهتمامها لفيش؛ كانت منشغلة باختراقي بنظراتها الحارقة. «حدثيني عمَّا أفكر فيه. هل تدرين بمَ أفكر؟» «حدِّثيني عما أُفكر فيه. هل تَدرين بمَ أفكر؟» قال فيش: «توقَّفي يا بوبي»، وقد رفع يده محكِمًا قبضته، بينما صعد ليستر ولِيل على متن الحافلة مع سامسون. قالت بوبي بنَبرة تتقطَّر عُذوبة بريئة مزيفة: «أتوقَّف عن ماذا؟» ردَّ فيش بغضب وهو يُلقي شطيرة الهامبرجر خاصته على الأرض: «أنتِ تعلَمين ماذا أقصد.» طيَّرت زوبعة من الرياح شَعر بوبي حول رأسِها في فوضى، وأحالت الهواء رطبًا ساخنًا. لم تعُدْ بوبي تستند إلى جانب الحافلة واعتدلت في وِقفتها. وضيَّقت عينَيها في ظل إنارة الشارع الخافتة صوب فيش، وراحت تَبصُق خصلات الشعر التي التصقت بعلكتها، قبل أن تُلقي بشطيرتها هي أيضًا كأنها تَقبل تحدِّي فيش للقتال. قالت: «أنا أُفكِّر فحسب. هل تُريد مني أن أتوقَّف عن التفكير؟» كانت زوبعة فيش التالية أشدَّ قوة، فطيَّرت شَعر بوبي للخلف وألصقت ثيابها بجسدها، كأنها تَنظُر إلى العاصفة مباشرة. تراجع ويل الابن للخلف، وأعطى ظهره للعاصفة، كي يَحمي عينَيه وشطيرة الهامبرجر؛ إذ ارتفَع الوسخ والحصى من الرصيف المتداعي بفعل عاصفة فيش، وانجرف ناحيته وبوبي. تحرَّكت مِزقٌ غير مُتناسِقة من الأكياس البلاستيكية وطقطقت عبْر الزقاق مثل جموع من الأشباح الشاحبة الجامحة. وفجأةً هطلت زخَّات مطر لاسعة، ارتطَمت بجانب الحافلة، كارتطام مياه رشاشٍ بسياج من الأسلاك. شكَّل فيش أمامي درعًا يَفصِل بيني وبين ويل وبوبي ميكس. ووقف بقدمين راسختين على الأرض، وعلَّق ذراعَيه على خَصره، متَّخذًا وضعية الأولاد الخارقين في الكتب الهزلية، ورفرف شعره للأعلى بجنون، بينما راح يُولد عواصفَ قوية من الرياح والأمطار، رجَّت الحافلة وقذفت ببوبي إلى الوراء فاصطدمت بأخيها. أخرج ليستر رأسه من الحافلة، فرفرفت خصلات شعره المُمشَّطة بجنون، كأنها كيس بقالة مُعلَّق على سياج من الأسلاك الشائكة. وكان كلُّ ما رآه هو هرج ومرج أهوج لعاصِفة مُتصاعِدة. لكن لم يَلحظ ليستر أن هذا الاضطراب مَنشؤه فيش، وأنني أقف خلفَه دون أن تتحرَّك خُصلة من خصلات شعري أو تتزحزح تنُّورتي من مكانها؛ بدا الأمر كأنَّني أقف في بؤرة إعصار هادئة ساكنة. لكن شاهدَ ويل الابن وبوبي ما حدث وفهِما الأمر تمامًا. الآن تأكَّدت شكوكهما تمامًا. لم يَعُد لدى ويل وبوبي أدنى شكٍّ في اختلاف صغار بومونت عن غيرهم. وأنهم غير طبيعيِّين على نحوٍ مخيف واستثنائي. لكن بعد كلِّ ما قيل، عندما صارت الأمور على المحك، أدرك ويل وبوبي أننا مُدهشون للغاية.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/21/
الفصل الحادي والعشرون
قالت أمي لفيش وروكيت، عندما جعلتهما يَرسمان صورًا معها، ذات صباح شتوي قبل موسم الأعياد: «إنَّ تخفيف وقْع الهِبَة الخارقة يُشبه دهن طبقة خفيفة من الطلاء على جسدك.» آنذاك، كنتُ أمكث بالمنزل ولم أذهب إلى المدرسة بسبب اعتلال صحتي، واستمتَعت بالاستلقاء على الأريكة، ومُشاهَدة شقيقيَّ يَرسُمان أمواج المحيط الهائجة من الذاكرة. أرهفت السمع عندما بدأت أمي تتحدَّث عن كيفية تخفيف وقْع الهِبَة الخارقة وأوليت كلامها اهتمامًا شديدًا. تابعت أمي: «إذا لم تَستخدِم طلاءً كافيًا، فستَنبعِث هِبَتك الخارقة بقوة شديدة، وتتسبَّب في مشكلات كبيرة لك ولبقية العالم.» ضحكتْ أمي؛ إذ عبس فيش وروكيت لأنهما كانا يعرفان تمام المعرفة تلك المشكلات المُشار إليها بالذكر. أضافت أمي: «وعلى النقيض من ذلك، إن استخدمت الكثيرَ من الطلاء، فلن تحجُب هِبَتك الخارقة فحسب، بل سيَصير كلُّ ما في الحياة باهتًا ومُملًّا بالنِّسبة إليك أيضًا. فلا يُمكنك التخلُّص من الشيء الذي يُميِّزك عن غيرك وتُواصل العيش بسعادة.» التقطت أمي فرشاةَ الرسم وغمسَتها في لونٍ أفتح كثيرًا من لون لوحتها. وطلَت اللونَ الداكن بلونٍ فاتح، حتى غطَّتْه تمامًا. لكن اللون الفاتح لم يَحجُب اللون الداكن كليةً. بدلًا من ذلك، كان للون الباهت لمسةٌ مُتناغمة ناعمة نسَّقت الدرجة الداكنة مع بقية الرسمة. قالت أمي مُحاضِرة: «وهكذا فإنَّ هِبَة خارقة جيِّدة التخفيف تمنحك وضوحًا في الرؤية وشعورًا بالسيطرة. لا بدَّ أن تدَعَ خبرتك الخاصة ولونك الفريد يَظهران بوضوح كنوع من التفرد الذي لا يستطيع الآخرون سبْر غوره.» جعلت أمي الأمر يبدو في غاية السهولة. لكنَّ إحراز مثل هذا النجاح مع هِبَة خارقة ليس مهمَّة سهلة، بل هو أقرب إلى المشي على الحبل. وبناءً على الشخص ونوعية الهِبَة الخارقة، قد يَستغرق الأمر سنوات وسنوات لإحكام السيطرة بما يَكفي للاختلاط مع بقية العالم، كما لا تقدِّم مرحلة النضج أيَّ ضمانات لحدوث مثل هذا التوافُق بصورة سهلة. ولهذا كان التعليم المنزلي في كنساسكا-نبرانساس أوسعَ بكثير جدًّا من مجرَّد القراءة والكتابة والحساب. ••• عتَت رياح فيش عبْر الزقاق المُظلم أكثرَ فأكثر. لا أذكر أن فيش حرَّك الرياح بهذه القوة، منذ ذلك الإعصار الذي دفَعنا لحَزم حقائبِنا. بعد أن بلغ فيش الثالثة عشرة، لم ينفكَّ عن الكدح ليدع لونه الفريد يُزهر عبْر سُحُبه العاصفة السوداء. فهِبَة خارِقة قوية، كتلك التي يمتلكها، كانت تُشبه الاستيقاظَ بمزاج وحشي؛ لذا كانت تتطلَّب جهدًا مُضاعفًا وصبرًا للسيطرة عليها. هناك في إميرالد، بعيدًا عن البيت، مع تَحريك فيش للرياح وإذلال أوزي القوي العظيم داخل المطعم، بدأت أشعر بالكآبة وشكَكتُ في قُدراتي العقلية وشجاعتي. لم نَعُد أنا وفيش في كنساسكا-نبرانساس، وليس لدينا أي طوب أصفر يُرشدنا إلى الطريق، بل مجرَّد حافلة وردية كبيرة وخطوط صفراء في الطريق السريع فحسب. صرخت عندما رأيت لافتةً رباعيةَ الأسهم مُدوَّنًا فيها «ممنوع الوقوف في أي وقت» تَنقلِع من مكانها وتدور في الهواء وسط الرياح الحلزونية. طارت اللافتة ناحيةَ بوبي وويل، فصرخت: «انتبه!» انتبه أخي للافتة التي تَسقط بسرعة شديدة ودار على عقبَيه. وفي غمضة عين غيَّر مسار اللافتة المُندفِعة برياحٍ مُتغيِّرة الاتجاه مُحكَمة السيطرة. مُحكَمة السيطرة. لقد سيطر فيش على رياحه، بل تمكَّن من توجيهها كما يريد. سقطت اللافتة من الهواء على الأرض، مُحدِثةً قعقعة، مثلما تهبط طائرة ورقية على الأرض بسرعة شديدة فور أن تسكن الرياح. تراجع فيش للخلف مُندهشًا، وتوقَّفت عاصفته بوتيرةٍ أسرعَ مما بدأت. ونظر إلى يديه. وبدا أنه عثر على اللون المناسب لطلاء هِبَته الخارقة بحيث تبدو زاهيةَ اللون. قال فيش بأنفاسٍ متقطِّعة: «رائع.» ثم استدار صوْب صندوق من الكرتون يستقر على الأرض على بُعد عشرة أقدام. نظر إلى الصندوق، وضيَّق عينَيه، حتى انعقد حاجباه فوق أنفه من شدة تركيزه. وبعد لحظة، ارتفع الصندوق قليلًا، ثمَّ سقط في الزقاق، بعد أن حملته زوبعةٌ مُوجَّهة. ابتسم فيش، ثم التفت إلى بوبي وويل، وقد بان القلق على وجهه بعدما ذهب الغضب أدراجَ الرياح. سأل فيش وهو يخطو نحوهما بتردُّد: «هل أنتما بخير؟» ولأول مرةٍ انعقد لسان بوبي؛ حتى إنَّ ملاكها الصغير لم يكن لديه ما يقولُه. وخلفها، كان ويل الابن يَبتسِم لنا ابتسامةً عريضة، كأنه فهِم الدُّعابة أخيرًا. قال ويل بضحكة راضية: «ممتاز.» كان ليستر سوان لا يزال مُتدليًا من الحافلة يتطلع في القمر العالي والسماء الهادئة الصافية. وتمتم: «بلد الأعاصير»، غير مُنتبهٍ لحقيقة الطقس الفوضوية. وقال: «هيَّا يا أطفال. ليصعدِ الجميع إلى الحافلة. حان وقت مواصلة الرحلة.» صعدنا على متن الحافلة، وجلس ويل بجواري، بابتسامةٍ لا تزال مُرتسمة على شفتَيه، وقد لصق ساقه اليسرى بساقي اليُمنى. أما بوبي فإنها جلست بجوار فيش، ما أصابني — بل أصاب الجميع — بالدَّهشة. التقط ويل الحصى من البطاطس المَقلية في سلة الهامبرجر قبل أن يقدِّمها للجميع. فباستثناء سامسون، الذي كان يَجلس بسعادة، يَغمس إصبعه في منتصف الفطيرة المسروقة القابعة على ركبتي لِيل، كان ويل هو الشخص الوحيد الذي يمتلك وجبةَ عشاء؛ إذ تناثرت بقية الوجبات على طول الطريق الفاصل بين المطعم والحافلة. أشارت لِيل وهي تتطلع من النافذة بقلق: «يُستحسَن أن نبتعد عن إيمرالد يا ليستر.» أومأ ليستر برأسه، وأدار المحرِّك؛ وبدا أنه مُتعبٌ من بطولاته الاستثنائية، وسعيدٌ بوجود شخص آخر يخبره بما يفعله. قال ليستر، وهو يَنظُر إلى الوراء ليُخرِج الحافلةَ من الزقاق القابع خلف المطعم: «إلى أين تُريدين الذهاب يا لِيل؟» ردَّت لِيل: «حسنًا، لا أظنُّ أنني سأرغب في العودة إلى البيت الآن. فأوزي يعرف أين أعيش، وبعد ما فعلناه به …» وتوقَّفت عن الكلام وسرَت قشعريرة في جسدها قبل أن تتابع: «كنتَ في طريقك إلى سالَينا، بصحبة أولئك الأطفال، يا ليستر. ربما ينبغي أن نذهب إلى هناك. أنتم لا تُمانعون أن أذهب معكم، أليس كذلك؟» نظرت لِيل إلى كل واحدٍ منَّا على حِدة. هززنا جميعًا رءوسنا والتزمنا الصمت. لم يَجرُؤ أحد على رفض ذهابها معنا. وهذا لأنَّنا أنفسنا لم نحصل على الإذن قبل صعودنا إلى تلك الحافلة. سألت لِيل: «وأنت يا ليستر؟» لم يكن ليستر بحاجة إلى إجابة المرأة الضَّخمة. لقد كان في غاية السعادة أنها تريد السفر معنا حتى إن عينيه اغرورَقتا بالدموع. أجاب ليستر: «سأُوصلك أينما تُريدين يا لِيل كايتلي.» قفز قلبي عندما فكَّرت في أننا سنَذهب إلى سالَينا، وسنرى أبي أخيرًا. كنتُ أعلم، بعدما رأيت النشرة الإخبارية على التلفاز في المَطعم، ما قد تَعني الأضرار الكهربائية التي أحدثها روكيت لأبي؛ لذا لا بدَّ أن أخي في غاية القلق من تسبُّبه في هذه الفوضى الهائلة. ولو لم أقدِر على فعلِ أي شيء لمساعَدة أبي، فأنا أريد أن أمسك يده، وأُقبِّل وجنته، وأدعه يعلم أنني هناك وأنَّني أُحبه. ••• قاد ليستر الحافلة، وبدأت كتفاه تَنتفضان بشدة أكثرَ من ذي قبل، وتلوَّى بجسدِه النحيل في مقعده مثل طفل صغير. لاحظت لِيل توتُّره، فسألته قائلة: «ما الأمر يا ليستر؟» قال بتردُّد وجبن: «حسنًا، يجب أن أُوصل طلبية إلى وايمور، في الصباح، وسيغضب ر… رئيسي كثيرًا إن فوَّتها.» وأضاف مُكشرًا: «لقد أفسدت بالفعل بقيةَ طلبيات اليوم، وإذا أ… أخفقت في واحدة أخرى … حسنًا، قد أخسر وظيفتي. ربما أخسر حافلتي.» ضحكت كارلين باستهزاء: «أوه، يا لكَ مِن مسكين يا ليستر. ليستر الغبي المسكين. كيف سيَتدبَّر أمره دون حافلته الثمينة؟» قالت روندا باستهزاء: «سيبيع القهوة في محطة الحافلات، هذا ما سيفعله.» أنشأنا نعترض: «لكن …!» توسلتُ إلى ليستر: «يجب أن نذهب إلى مَشفى «هوب» في سالَينا يا سيد سوان! لا بد من بُلوغنا هذا المكان!» لكن ليستر كان قد عقَدَ عزْمه على الذهاب، حتى إنه رفض أن ينظر إلينا. طفق ليستر يردِّد بهدوء لكن بحزم، كأن كل تروسه تعشَّقت في مكانها: «لا أطيق خسارة ﺣ… حافلتي.» بدت لِيل مُرتبكة. قالت لِيل، وهي تتنهَّد وتتأمَّل زيَّ النادلات الأخضر بحزن: «من المؤسف أن تخسر وظيفتك أنتَ أيضًا. لكن ماذا عن الصغار يا ليستر؟ ماذا عنهم؟ ماذا عن سالَينا وأبيهم؟ لا بدَّ أن عائلات أولئك الأطفال بانتظارهم هناك، أليس كذلك؟» لم يُجبها أحد. انتفَضَ ليستر. وشعر بقيَّتُنا بالقلق والتوتر. ضيَّقت لِيل عينَيها وهي تنظر إلينا جميعًا داخل الحافِلة الخافتة الإضاءة. تظاهرَت بوبي بالانشغال بفردِ آخِر قطعة من العلكة. وراح فيش يُصفِّر بهدوء. واكتفى ويل الابن بالتحديق إلى ركبتَيه والعبث في شَعره المجعَّد بيده، أما أنا فأخذت أشدُّ قطعةً مُتدلية من شريط الزخرفة الأبيض على كُم فستاني. وحدَه سامسون مَن حاول ألا يبدو مذنبًا بوضوح، وهو يجلس بجوار لِيل يتناول شطيرةَ الهامبرجر والفطيرة بالتناوب، يَقتطِع قطعةً من هُنا وأخرى من هناك. تجمَّدت لِيل في مكانها وعقدت ذراعَيها أمام صدرها. وسألت: «حسنًا، ماذا يَجري هُنا؟» ربما كنتُ موهوبة في التأخُّر على مواعيدي، لكنني في العادة لا أتأخر كثيرًا في استيعابِ ما يجري حولي. على أحدٍ أن يشرح لي ما أقحمت نفسي فيه تحديدًا. وليبدأ بفعل ذلك في الحال.»
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/22/
الفصل الثاني والعشرون
أخبرنا لِيل بفعلتنا ونحن في غاية الخِزي. اتَّجه ليستر إلى الشرق، كي يَرحل عن إيمرالد، وأخذ يشق الظلام بحافلته، بينما قصصنا على لِيل بالتناوب كيف تسلَّلنا إلى حافلة ليستر، على اعتقاد أنه سيعود إلى سالَينا. أخبَرناها كيف اتَّجه ليستر إلى اليسار بدلًا من اليمين، وللشمال بدلًا من الجنوب، وكيف وجدنا أنفسنا نَبتعِد عن سالَينا والمشفى وأبينا. لم تتغيَّر تعابيرُ وجه لِيل، ونحن نقصُّ عليها ما حدث، ولا بعدما انتهَينا من حديثنا، لعدة دقائق، وغرقت الحافلة في صمتٍ مشحون. واستمر الصمت لا يَخترقه سوى الطَّرقات والأزيز المُنبعث من المحرِّك والأصوات التي في رأسي. كرَّر وشم بوبي مثل دقات قلب مُتوتِّرة: «لقد انتهى أمرنا، لقد انتهى أمرنا.» جلست لِيل بلا حَراك لمدة طويلة للغاية. كان سامسون قد انتهى من تناول شطيرة الهامبرجر خاصته، وحفر حفرة كبيرة في الفطيرة، والآن يُحاول مدَّ يده لسرقة بعض البطاطس المقلية من سلَّة ويل. أما نحن فلم نلمس محتوى هذه السلة. فقد فقدنا شهيتنا جميعًا. وفي نهاية المطاف، تنهَّدت المرأة الضخمة تَنهيدةً بطيئة طويلة، بصَوت يُشبهُ صوت نزول ملاك من سحابة لأخرى. قالت لِيل، موجِّهة حديثَها إلى نفسها لا إلينا على الأغلب: «أرى أنَّني خبيرة بلا شك بإقحام نفسي في المُشكلات. فاليوم خسرت سيارتي ووظيفتي. والآن يبدو أنني فقدت عقلي أيضًا.» واصلنا مراقبةَ لِيل، يحدونا أملٌ حذر ألا تقوم بتسليمنا. رفعت لِيل صوتها الرفيع فوق صوت المحرِّك الصاخب: «أنصِتوا إليَّ جميعًا. سأخبركم بما سنفعله.» ابتسم ليستر. بدا أنه مُغرم بالنساء اللواتي يخبرنه بما يجب أن يفعله، لكن على الأقل لم يكن هناك ثمَّة تشابُه بينها وبين كارلين أو روندا. وضعت لِيل الناموس الذي سنَسير عليه. ونصَّت خطَّتها على مُواصَلة السير شرقًا باتجاه لينكون للعثور على نُزلٍ، ما يُبعدنا عن إيمرالد، لكنه في الوقت نفسِه يُخرجنا من الطريق السريع بشكلٍ عاجل. كانت لِيل لا تُحبِّذ القيادة على الطريق السريع أثناء الليل، كما أرادت أن نتَّصل بآبائنا كي نُبلغهم أننا في صحة وعافية، وسنتَّجه إلى سالَينا في الصباح. وفيما يتَّضح لي فإن لِيل كانت تجتهد لمعرفة الصواب الذي يَجب أن نفعله، لا تَدري مدى الفوضى التي قد تحدُث في اليوم. فكَّرت في ذلك لحظةً من الزمن. كان آخر ما أُريده هو أن يُواجه ليستر ولِيل موقفًا عصيبًا بسبب الفِكرة الغبية التي وردَتني، وهي أنني أستطيع شقَّ طريقي إلى سالَينا. أدركت أن مهمَّتي هي العناية بهذين الشخصَين البالغَين الآن. لا بدَّ أن أحافظ على سلامتهم وأُبعدَهم عن المشكلات، ولو تطلَّب ذلك الانتظار إلى الصباح حتى أصلَ إلى أبي، فلا أمانع بسير الأمور على هذا النحو، مهما كان شاقًّا على النفس. لم تَمضِ سوى ساعات قليلة منذ أن صعدنا على متن تلك الحافلة حتى صِرنا جماعة غريبة الأطوار مِن المنشقِّين. وعَدنا لِيل أننا سنتَّصل بعائلتَينا بمُجرَّد أن نصل إلى النُّزل، لكنني رجوت الله في قرارة نفسي أن يغفر لي هذا الكذب. كان واضحًا للعِيان أن ليستر يشعر براحة البال لوجود شخصٍ آخر يتولى عنه مسئولية أخذ القرارات؛ وبدا أنه استنفَدَ آخر قطرة من مَخزونه الضئيل من أعصابه لتُتابع الحافلة مسارها الأصلي لتوصيل طلبياته. لم تَعُد لِيل تتحدَّث عن خسارة وظيفتها ولم يأتِ أحدٌ على ذكر هذا الموضوع. أحصت النقود التي دفَعَها لها أوزي القوي العظيم، وضيَّقت عينَيها بينما تفعل ذلك على ضوء الحافلة الخافت. أعلنت لِيل بفتور: «حسنًا، يا صغار، أظن أنه لديَّ ما يكفي من المال كي أحجز غرفتين في نُزُل. هل يُمكنكَ العثور على مكان بعيدًا عن الطريق السريع يا ليستر؟» أجاب ليستر: «كما تُريدين يا لِيل.» شاهدتُ لِيل تُحدِّق في ليستر بحبٍّ. وأستطيع القول من الطريقة التي نظرت بها إليه إنها رأت فيه شيئًا تحبُّه. ربما كان ذلك لأن ليستر أوقف الحافلة لإنقاذها عندما تعطَّلت سيارتها، أو لأنه ساعدها في جمْع مالها مِن فوق الأرض، أو لأنه سرق الفطيرة من المطعم دون تفكير. قد لا يبدو ليستر بطلًا من الوهلة الأولى، لكن أظنُّ أن المرء يحتاج إلى بعض الوقت ليكتشف نُبل الرجل. قاد ليستر الحافلة لبعض الوقت قبل أن يَعثر على النُّزل المناسِب. احتوى نزل «لينكون سليبي ١٠» على القليل من السيارات في ساحة انتظار السيارات الخاصة به، وطَنَّت لافتة الغرف الشاغِرة وومضت مثل مصباح صعْق الحشرات. قبع «لينكون سليبي ١٠» في أقصى المدينة، أمام متجر «ميجا ميجا مارت»، وعدد من مطاعم الوجبات السريعة الصفراء والحمراء الصاخبة المُتراصة. مَكثنا جميعًا في الحافلة التي أوقفها ليستر بعيدًا عن النُّزل بمسافة مناسبة، وحجز غرفتين باستخدام نقود لِيل. بعدما رأيت وجهي على التلفاز في مطعم موقف شاحنات إيمرالد، لم أتلهَّف لجلب نظر العامة إليَّ، ما دامت الحاجة لا تستدعي ذلك؛ لذا انتظرت بسرور مع البقية على متن الحافلة. أخبرت لِيل ليستر أن يحجز غرفتَين، رغم أنه أصرَّ على النوم في حافلته كي «ﻳ… يحمي بضائعه.» كنتُ آمُل أن يكون النُّزل مُزوَّدًا بقِطَع صابون بيضاء رقيقة ملفوفة في ورق، وقنانٍ صغيرة من الشامبو، ومناشفَ بيضاءَ منعشةٍ مطوية بعناية في الحمام؛ إذ من شأنها أن تجعلني في قمة السعادة. قال ليستر وهو يُناول لِيل مفتاحَي الغرفتَين ويُراقب نزولنا من الحافلة: «ستجدون غرفتَيكم في الطابق الثاني.» كان مُتوترًا عصبيَّ المزاج كعادته، وبدا حزينًا لأنَّنا تركناه هناك. ولوهلة، خطر لي أنه قد يُصاب بالهلع ويلوذ بالفِرار وسط الليل؛ وتصوَّرت أن هذا الأمر ليس بعيدًا عن الأبطال الأكثر قوة. لكن الطريقة التي نظر بها ليستر إلى لِيل جعلَتْني أشكُّ في ذلك. ناديت على ليستر قبل أن يُغلق باب الحافلة: «أتعدُني أنك ستكون هُنا في الصباح يا سيد ليستر؟» أمال ليستر رأسَه مثل كلبٍ يُرهف السمعَ ونظر إليَّ باستغراب. وسأل: «أين عسايَ أذهب؟» وكانت هذه هي الإجابة التي احتَجتها. رافقتنا لِيل إلى الدَّرج الذي يقود إلى غرفتَينا. تشمَّم فيش الهواء أثناء مرورنا أمام باب مُوصد في الطابق الأول ذي نافذة واحدة. أعلنت اللافتة بجوار الباب «مسبح — للنزلاء فقط». قال فيش ببساطة: «ماء.» قبع المسبح فارغًا وساكنًا، وانعكس ضوءُه الأخضر المُتراقص على الجدران وسقف الغرفة الصغيرة. لو كُنا في وقتٍ آخر، لكان الاقتراب من هذه الكمية الكبيرة من الماء سيُصيب فيش بالعصبية والاضطراب، لكنَّني عندما استرقت النظر إليه وجدته في غاية الهدوء. لم يَفُت لِيل الطريقةُ التي نظرنا بها جميعًا إلى ذلك المسبح، عبْر نافذة الباب، لكنَّها أمرتنا أن نصعد الدَّرج أمامها، كأنها رقيب تدريب في لباس تَمويه أبيض وأخضر. عندما وصلنا إلى الطابق الثاني، تولَّت لِيل القيادة، مُمسكة بسامسون بإحدى يدَيها، أثناء بحثِها عن غرفتَينا، وعابثة بمفاتيح الغرفتَين باليد الأخرى. وتخلف عنها بقيتُنا. همستُ لويل: «لا يُمكننا الاتصال بمنازلنا.» نقَل ويل بصره مِن لِيل إليَّ وتعابيرُ الاستفهام على وجهِه. كانت لِيل قد تَقدَّمت عنَّا كثيرًا واجتازت مسافةً طويلة من الممر الطويل. مددت يدي، وشددت ظهر قميص بوبي، فلاحظتُ هيئةَ جلوس الملاك في الوشم الموجود على ظهرها، مستندًا على مرفقه، طاويًا جناحيه، ومنهمكًا في تنظيف أسنانه بطرف ذيله المستدق بلا مبالاة. قلتُ لها: «لا يُمكننا الاتصال بالمنزل يا بوبي.» أجابت: «حقًّا!» وأدارت عينيها في مَحجِرَيهما. قال الملاك: «إنها تعرف ذلك بلا شك.» لكنَّني تجاهلته. سألت: «فيش؟» ردَّ هامسًا: «أعرف، أعرف. لا يمكننا الاتصال بالبيت. لكن كيف تظنين أننا سنخرج من هذه الأزمة؟» قلتُ: «لديَّ خطة.» قالت بوبي: «يا إلهي، لديها خطة.»
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/23/
الفصل الثالث والعشرون
ستدور الخدعة حول التوقيت. كان إقناع ليستر صباح اليوم مهمةً سهلة على نحو مُدهش، لكنَّني كنتُ أعلم أن خداع لِيل سيكون أصعبَ من ذلك بكثير؛ يجب أن تصدِّق، بلا أدنى شك، أننا اتَّصلنا بمَنازلنا وإلا لن تشعر بالرضا. تذكَّرت بوبي عندما قلَّدت أمها أثناء تناول رغيف اللحم على مائدة العشاء في الليلة السابقة، وكيف تحدثت حينها كالسيدة روزماري تمامًا. تذكرت أيضًا كيف هدَّد ويل الابن أخته بإخبار والدَيهما عن اتصالها بالمدرسة، وتقليدها لصوت أمها، ليسمحوا بغيابها عندما تتغيب عن دروسها. ومع وجود الغرفتين بمحاذاة بعضهما بعضًا، تصورت إمكانية تنفيذ خطتي بنجاح. رحت أكرِّر لنفسي أن هذه الخطة لمصلحة لِيل لا أكثر. لا بد أن أبعدها وليستر عن المشكلات. لو اتَّصلنا بالمنزل الآن، مَن يدري ما قد يحدث. لكننا إذا ابتعدنا عن الأنظار، حتى نصل إلى مشفى «هوب» في سالَينا غدًا، فربما يُواصل ليستر وليل طريقهما دون أن يعلم أحد بمُساعدتهما لنا أو يلومهما ظلمًا على نقلنا بالحافلة. تفحصت لِيل الغرفتَين قبل أن تُخصِّص غرفة للأولاد والأخرى لنا. مكثت وبوبي في الغرفة رقم ٢١٤، مع لِيل، وأقام الأولاد الثلاثة في الغرفة رقم ٢١٥. همست لأخي قبل أن نَنفصل: «أجب الهاتف عندما يرنُّ الجرس يا فيش. التَقطِ السماعة ولا تَقل شيئًا. ابقَ على الهاتف، ودعْ بوبي تدخل الغرفة عندما تطرُق الباب. علينا أن نعتمد على بوبي الآن.» أومأ فيش برأسه علامة الموافَقة، وهو يختلس النظر إلى بوبي بارتياب، ثم تبِع سامسون وويل الابنَ إلى الغرفة ٢١٥. فور أن دخلنا الغرفة المقابلة للمَمر، أشارت لِيل إلى الهاتف، قائلة: «اتَّصلي بوالدَيك يا بوبي رجاءً وأخبريهما بمكانك. لا بدَّ أن هذين المسكينَين في غاية القلق.» نظرت إليَّ بوبي نظرةً ملتاعة، كأنها تسألني «ماذا عساي أفعل الآن؟» ومشت إلى الهاتف ببطء. التقطَت بوبي السماعة، ببطء شديد كأنها تَسبح في الماء، وراقبت لِيل وهي تخلع سُترتَها وتُعلِّقها على مقبض خزانة الملابس. كنت سأقفز من الفرح عندما أشعلت لِيل مصباح الحمَّام وأوصدت الباب خلفها. ربما لا تَمتلك بوبي هِبَة خارقة من ذلك النوع الذي تمتلكُه عائلة بومونت، لكن آنَ أوان أن تستغلَّ مهارتها الفريدة. قبل أن تعود لِيل، هُرعت إلى جانب بوبي، وأخبرتها بما يجب أن تفعله تحديدًا. ونظرت إليَّ كأنني فقدت صوابي. غنَّى الملاك في رأسي: «إنها تظنُّ أنكِ مجنونة.» همست بوبي بحدة: «لا يُشبه هذا الأمر الاتصال بالمدرسة لخداع السكرتيرة يا ميبس. ماذا لو فشلت هذه الخطة؟» لكنَّنا كنا نسمع لِيل تغسل يديها في الحمَّام، ولم يكن هناك متَّسع من الوقت للجدال. قلت وأنا أشير إلى الرقم المطبوع على هاتف النُّزل: «افعلي ما قلت فحسب.» طلبت بوبي الرقم، وهي تَختلِس النظر إلى باب الحمَّام من وراء ظهرها، بينما تعقد اتصالًا بين الغرفتين. فتحت ليل باب الحمَّام، ودلفت إلى الغرفة، وهي تُعدِّل تنورتها وتفرك بقايا الفطيرة الجافة من مقدمتها. وتطلَّعت إلى بوبي التي بدأت تتحدَّث عبْر الهاتف. قالت بوبي: «مرحبًا يا أمي، معكِ بوبي.» وكانت بوبي تنظر إليَّ بغضب أثناء تظاهرها بالحديث إلى أمِّها، وعلى الطرف الآخر من الخط بقيَ فيش صامتًا في الغرفة المقابلة عبْر الممر. لكن بوبي كانت مُمثلة بارعة؛ حتى إنني أثناء محادثتها القصيرة الأحادية الجانب، كنتُ أنسى أحيانًا أنها مزيفة، بينما انهمكت هي في الشرح للفراغ الصامت عن مكاننا، وكيف وصلنا إليه، وكيف سنذهب إلى مشفى سالَينا في اليوم التالي. قالت بوبي بإلحاح: «لا، يا أمي، نحن بأمانٍ تمامًا. أعِدك! أجل، يا أمي، يمكنك التحدث إلى ميبس. إنها هنا …» أدارت بوبي عينيها وأرخت كتفَيها بصورة درامية بينما تُناولني سماعة الهاتف. نظرتُ إلى لِيل بوداعة وتناولتُ السماعة من بوبي، على أملِ أن أبلغ نصف براعة بوبي في التظاهر. ألصقت السماعة بصدري لحظة، كأنَّني أبحث عن الشجاعة لأرفعها إلى أذني. قالت بوبي، وهي تَلتقط مفتاح الغرفة، وتنهض لمغادرة الغرفة: «سأذهب لأتفقد الفتيان. تريد أمي التحدُّث إليك، يا لِيل، بعد ميبس»، ثم فتحت الباب وصفعته خلفَها. شحب وجهُ لِيل. وراحت تَقضم ظفر خنصرها وهي تتنفَّس نفسًا عميقًا. لم يُساورني شكٌّ في أنها لم تتطلع إلى الحديث مع زوجة القس، وغشاني شعورٌ بالخزي والأسف لأنني خدعتُها. رُحت أذكِّر نفسي بأنني أفعل ما أفعل لأجل مصلحتها، ثم رفعت سماعةَ الهاتف إلى أذني، في اللحظة التي سمعت فيها بوبي تطرُق الباب في الطرف المقابل للممر. أنشأت أقول: «السيدة روزماري؟ إنه أنا، ميبس. أنا آسفة …» أخذت أحصي سكتاتي، بينما تحدَّثت بتردُّد في الهاتف، أُحاول أن أجعل الأمر يبدو كأنني أتلقَّى التوبيخ من السيدة روزماري. كانت هناك جلبة في الطرف الآخر من الخط. قالت بوبي: «ستَذهبين إلى الجحيم مباشرة يا ميسيسبي بومونت»، بصوتٍ يشبه صوتَ السيدة روزماري كثيرًا حتى كدتُ أُسقِط سماعةَ الهاتف من يدي من هول الصدمة. وضحكَت ضحكة مَكبوتة. ثم قالت: «أعطني تلك النادلة. وتضرَّعي.» كانت بوبي في غاية البراعة في هذا الأمر. رجوتُ في نفسي أن تتساهل مع لِيل المسكينة. مددت سماعة الهاتف للِيل وابتعلتُ ريقي بصعوبة. قلتُ: «إنها تريد التحدُّث إليك.» حبست أنفاسي طيلة الوقت الذي تحدَّثت فيه لِيل على الهاتف مع بوبي/السيدة روزماري. لم أكن واثقة تمامًا مما قالتْه بوبي؛ لكنني التقطت كلمة أو كلمتين من كلام بوبي عندما كان صوتها يزداد حدَّة وعلوًّا ويتسرَّب من السماعة. لكن لِيل بذلت غاية جهدها في التأكيد على أن جميعنا في صحة جيدة وعافية وبين أيادٍ أمينة معها وليستر. وأعطَتْها اسم النُّزُل ورقم الهاتف. قالت لِيل بتوتُّر: «من دواعي سرورنا أن نُعيد الصغار إلى منازلهم أو إلى مشفى سالَينا، يا سيدة ميكس، إلا إذا كنتِ تُريدين الحضور وأخذهم مباشرة.» شعرتُ أن رئتيَّ على وشْك الانفجار. وددتُ لو يُمكنني سماعُ إجابة بوبي؛ فهذه الفتاة سريعة البديهة عندما يأتي الأمر إلى الخداع، وتردَّدتُ هل أُعجَب بها أم أشعرُ بالأسف نحوها لامتلاكها مثل هذه الهِبَة. وأخيرًا، أشرَفَت المحادثة على نهايتها. قالت لِيل: «لا بأس يا سيدتي. إذن نلقاكم في سالَينا غدًا. أجل، سيدتي … شكرًا لكِ يا سيدتي … ليباركك الرب أيضًا يا سيدتي.» تصوَّرت بوبي في الغرفة المقابلة للممر، وهي تقول «ليباركك الرب» للِيل، بصوت السيدة روزماري الحازم. هززتُ رأسي، أدعو ألا تَتمادى بوبي في الأمر، وتمنَّيتُ أن تغلق الهاتف في الحال. وضعت لِيل سماعةَ الهاتف أخيرًا، وبدأ اللون يعود إلى وجنتَيها الشاحبتَين. قالت لِيل بابتسامة صغيرة: «لقد مضَت المحادثة على نحوٍ أفضلَ مما توقعت. تبدو السيدة روزماري تلك امرأة قوية صالحة. ستتصل بعائلتك وتُخبرهم أنكِ وأشقاءَكِ بخير يا ميبس.» قلتُ بلا حماسة: «عظيم»، وأنا أشعر بدناءة شديدة من احتيالنا المزدوج. سمعت المفتاح يدور في الباب وانفتح الباب. مشى بوبي وويل وفيش إلى الغُرفة بتُؤَدة، كمجموعة من القطط انتهت للتوِّ من الْتهامِ سربٍ كامل من عصافير الكناري. ولحسن الحظ، كانت لِيل تشعر بالراحة لأنها أغلقَت الهاتف، فلم تلحظْ ذلك.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/24/
الفصل الرابع والعشرون
قالت لِيل: «إن كنتُ سأتولَّى مسئوليتكم أيها الصغار إلى الغد، فيُستحسَن أن أشتري لنا بعض المُؤَن.» كانت لِيل في غاية الفرحة، على اعتقاد أنها حسَمَت الأمور ورتَّبتها مع عائلاتنا، حتى إنها بدَت أصغرَ من عمرها الحقيقي بخمس سنين وأكثر طولًا بثلاث بوصات. وسألتنا: «أيودُّ أحدُكم عبورَ الطريق معي؟ لقد رأيتُ متجر «ميجا ميجا مارت» بينما تتَّجه الحافلة إلى النُّزل ولديَّ بعض النقود المتبقية.» هززنا رءوسنا علامة الرفض دون أن نقول شيئًا. وفكرتُ أنه من الأفضل أن نبقى بمنأى عن الأنظار. فرغم كل شيء، لا يزال الآخرون يبحثون عنَّا. قالت ليل بصوتِها الرفيع: «لا أحد؟ حسنًا، لا بأس. لمَ لا تَجلسون في أماكنكم وتُشاهدون التلفاز إلى أن أعود.» وتحرَّكت لِيل لالتقاط جهاز التحكم عن بُعد، من فوق المكتب بجوار الهاتف، لكن فيش قفَز من مكانه، وانتزعه قبل أن تتمكَّن من الوصول إليه. لم يأمر البالغون الصغارَ بالذهاب لمشاهدة التلفاز دائمًا كما لو أننا لا نَملك شيئًا أفضل نفعله؟ قال فيش: «أمسكت به»، وهو يرفع جهاز التحكم عن بُعد في يده، ويبتسم ابتسامةَ فيش الجانبية الفريدة. نظرت لِيل إلينا، نحن الأربعة، ونحن منتشرون على الفُرُش والمقاعد في الغرفة. وسألت: «أين …؟» قال فيش متوقعًا سؤالها: «سامسون بخير. إنه في الغرفة الأخرى. نحن بخير. يمكنك الذهاب للتسوق؛ وسنكون على ما يرام.» وابتسم ابتسامته الفريدة مرة أخرى. قالت لِيل مرتبكة قليلًا: «حسنًا، لا بأس.» ونظرت نظرةً أخيرة إلينا قبل أن تغادر الغرفة كأن شيئًا مريبًا لا يزال يَستنفِر حواسَّها. وأضافت: «سأعود في لمح البصر؛ لن يستغرق الأمر أكثرَ من ٢٠ أو ٣٠ دقيقة.» فورَ خروج لِيل من الغرفة، التقَطنا أنفاسنا، كما لو أننا كنَّا نَحبس أنفاسنا منذ أن بلغنا النُّزل. قالت بوبي: «لا أصدِّق أنَّ خدْعتَنا نجَحَت.» قال ويل: «ذكِّريني ألا أفشيَ سرَّك لأمي.» قال فيش: «لدينا مشكلة أكبر»، وأفسد شعورنا الضئيل بالانتصار، عبْر تشغيل التلفاز والانتقال إلى قناة الأخبار المحلية. استغرق الأمر أقلَّ من دقيقة قبل أن تظهر صورنا على الشاشة بسرعة مُلحَقة بكلمات «تنبيه!» «مفقودون!» «تنبيه!» في الشريط السفلي من الشاشة، كما رأينا على شاشة التلفاز الصغير في مطعم إيمرالد. تأوَّهَت بوبي التي لم تكن قد رأت نشرة الأخبار في المطعم مثلها مثل وِيل: «لا بد أنكم تمزحون!» حدَّق ويل وشقيقتُه في الشاشة بفمٍ فاغر. أخذ فيش يرمي جهاز التحكم عن بُعد بيدٍ ويلتقطه باليد الأخرى، في استِسلام وتعاسة، كأنه يمسك بثمرة بطاطس ساخنة بيديه العاريتين. قال ويل، وهو يهزُّ رأسه بعبوس، بينما تُعرض صورته على الشاشة: «يا إلهي نحن في ورطة. ربما كان يجدر بنا أن نتَّصل بالمنزل فعلًا.» قالت بوبي: «من الحكمة أننا لم نفعل ذلك. هل تريد حقًّا أن تجتاح قوات الشرطة النُّزل الليلة؟ تعلمُ أننا لو اتصلنا بالمنزل، لاتصلت أمي بأخينا الأكبر، ولأتى إلى هنا في غمضة عين؛ كان سيأتي هو وجميع أفرادِ الشرطة المتمركزين ابتداءً من هُنا إلى توبيكا. ماذا سيحدث لليستر ولِيل حينها في اعتقادك؟ سيقعون في مشكلة كبيرة.» أدار ويل رأسه بحدة وفجأة. تابعت بوبي: «إن بِيل شخص مُفرط في الحماية نوعًا ما.» قال ويل: «سيجنُّ جنونه»، وللمرة الأولى منذ أن بدأنا رحلتنا، بدا ويل تعيسًا حزينًا متألمًا. أسكت فيش الجميع بزوبعة جيدة التصويب عنيفة، وبدا فَرِحًا بنفسه لوهلة، وقال: «صه!» ثم رفع صوت التلفاز. «… وفقًا لمصدر قريب من العائلة فإنَّ والد الأطفال الثلاثة المفقودين هو أحد ضحايا حادث تكدُّس السيارات العشر الأخير على الطريق السريع ٨١ خارج سالَينا بكنساس. وقد أصيب الرجل بجروح بالغة ولا يزال فاقدًا الوعي ويَرقُد في حالة حرجة بمشفى «هوب» في سالَينا.» ارتمَيت على غطاء السرير الزهري، وغطَّيت وجهي بيديَّ. قال الصوت الغنائي داخل رأسي: «ستكون الأمور على ما يرام.» نظرتُ إلى بوبي، ورأيتها تنظر إليَّ باهتمام. أومأت لي بوبي برأسها إيماءة واحدة. كرَّر صوت الملاك: «ستكون الأمور على ما يرام.» ابتسمَت لي بوبي ابتسامة حنونة صغيرة؛ ظهرت على شفتيها ثم اختفت بسرعة كوميض شرارات روكيت. نهضت الفتاة الأكبر سنًّا وأغلقت التلفاز. قالت: «يَنبغي أن يظلَّ هذا مُغلقًا» وهي تنقل بصرها مني إلى ويل ثم فيش. أومأنا برءوسنا جميعًا علامة الموافقة، وشاهدناها وهي تنزع القابس من المقبس على سبيل الاحتياط. وقالت بوبي لنا جميعًا: «ستكون الأمور على ما يرام.» عادت لِيل بعد مرور ساعة تقريبًا، بابتسامة عريضة تتلاءم مع جسدها، والعديد من أكياس «ميجا ميجا مارت». أفرغت لِيل محتويات الأكياس على أقرب فراش لها. قالت، ونحن نتفقَّد كومة الأغراض والدهشة تعلو ملامحنا من كثرتها: «اليوم يوم حظكم السعيد يا صغار.» كان هناك جبل من ألواح الشيكولاتة، والتيشرتات، والبطاطس المقلية، ومُلمِّع شفاه باللونين الوردي والأحمر، وحلوى «بوب تارتس»، وأوراق اللعب، والمجلات، وأعواد تنظيف الأذن، وطلاء الأظافر، وأقلام الشمع الملونة، وشريط لاصق مُقوًّى، وحقيبة إسعافات أولية جديدة، وربطة عنق نظيفة جديدة من أجل ليستر، ولعبة الزنبرك، وسبع فُرَش أسنان، وستة أقدام من علكة «سنابي بابل تِيب» بطَعم الفراولة من أجل بوبي، وخمسة أزواج من الشباشب، وأربع عبوات صغيرة من مزيل العَرق، وعلبة أمشاط، والمقرمشات المالحة على هيئة حيوانات، وملابس داخلية، وملابس سباحة. ضحكت لِيل. وقالت: «لقد واصلتُ التسوق حتى تأكَّدتُ من إنفاق كل الدولارات التي جعلني أوزي ألتقطها من الأرض. كانت هذه النقود بغيضة للغاية، مثل ذلك المطعم، فلم أشأ التعلُّق بها.» ثم قذفت إلى فيش لباس سباحة. وأضافت: «اضطررتُ إلى تخمين المقاسات كلها؛ لذا قد لا تكون المقاسات مناسبة تمامًا.» سألت، وأنا أمسك لباس سباحة أرجوانيَّ اللون بشرائط صفراء بدا كأنه صُنع خصيصًا لي: «أيمكننا السباحة؟» قالت لِيل: «الأطفال والمسابح … حسنًا، مثل الطيور والسماء، أليس كذلك؟ وفوق ذلك، حتى الأطفال الأشقياء من حقهم الاستمتاعُ في بعض الأحيان.» حدَّقنا جميعًا في لِيل مندهشين. ضحكت لِيل مرةً أخرى: «حسنًا، هيَّا، توقفوا عن التحديق فيَّ كما لو أنني سقطت من السماء، وغيِّروا ملابسكم. ما فائدة وجود المسبح بلا أطفال داخله؟ سأذهب إلى الحافلة لأتفقد ليستر؛ فلديَّ بعضُ الأفكار التي قد تنفعه بشأن توصيل كل هذه الكتب المقدَّسة الوردية. أظن أنه يحتاج إلى نهجٍ مختلِف. يجب أن يثقَ ليستر بمهاراته الخاصة.» ولوَّحت بالشريط اللاصق في الهواء. ثم عقَّبت: «إنه بحاجة أيضًا إلى بعض المساعدة في تغطية كل النوافذ المكسورة في حافلته.» وضعت لِيل بَكْرة الشريط اللاصق حول رُسغها مثل سوار فضِّي كبير والتقطت ربطة العنق الجديدة، لكنها لم تكن ورديةً وإنما زرقاء وبها بعض الخطوط الخضراء. ملَّست لِيل على ربطة العنق الحريرية بأناملها، وهي تَبتسِم لنفسها؛ لم يكن ليستر الوحيد الذي يستخدم جاذبيته هُنا. ربما قد تُثمر هذه الفَوضى الكبيرة التي تسبَّبت بها خيرًا على أي حال.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/25/
الفصل الخامس والعشرون
عاد الفتيان إلى غُرفتهم في الطرف المقابل عبر الممر، لارتداء ملابس السباحة الزاهية الألوان التي انتقتها لِيل من أجلهم. دخلت بوبي الحمَّام، وهي تحمل بسعادة لباس سباحة، لونه أحمر قانٍ. بدَّلت ملابسي بأقصى سرعة مُمكنة، وارتديت لباس السباحة الأرجواني المكوَّن من قطعة واحدة، وقد تملَّكني الإحباط لأنه كان فضفاضًا للغاية، رغم وجود مختلف الشرائط والأربطة التي بذلت غايةَ ما في وسعي لربطها على النحو السليم. لم أشعر بالخجل وأنا أرتدي زي سباحة قبل ذلك اليوم، لكن كانت الأشياء تتغيَّر في حياتي بوتيرة سريعة عجزت عن مواكبتها؛ لذا شعرت بالخجل قليلًا من التعرِّي بزي سباحة يلائم فتاة تكبرني سنًّا. شرعت أرتدي تيشرت كبيرَ المقاس عندما ظهرت بوبي من الحمام نحيفةً وجذابة وشابة يانعة في ثوب السباحة الذي يُناسبها تمامًا. لوت بوبي أنفَها عندما نظرت إليَّ. سألت: «لمَ تَرتدين تيشرت؟» أجبت: «زي السباحة خاصَّتي فضفاض.» قالت: «أريني إياه.» خلعتُ التيشرت وتركتُ بوبي تُصلح الأربطة الصفراء. وعندما انتهت، احتضن زي السِّباحة جسمي على نحوٍ أفضلَ بكثير. قلت بضعف، ولا يزال بي بعض الخجل من تنحية التيشرت جانبًا: «شكرًا لك.» هزَّت بوبي كتفَيها. وقالت: «لا بأس.» غادرنا الغرفة، وتأكدنا أنه لم يرَ أحد ذهابنا أو إيابنا، وانضمَمنا إلى الفتيان في المسبح بالأسفل. بدا جوُّ الغرفة ساخنًا ورطبًا، وغطَّى جدرانَها بلاط أخضر مُصفَرٌّ، وزيَّنتها الأشجار والنباتات الصناعية المغبرة. كان المسبح صغيرًا، على هيئة حبة فاصوليا، لكن ذات حجم مناسب يسع أربعة أطفال. كان سامسون مختفيًا، لكن لم يَقلق أحدٌ بشأنه؛ لقد اعتاد الجميع اختفاءه بعد كل هذا الوقت. وجدت وِيل في المسبح، وقد تبلَّل شعره، وراح يتقاطر على عينه المسودَّة. أما فيش فقد وقف على حافة المسبح بذراعَين معقودتين فوق صدره، يُحدِّق في الماء بنظرة عازمة، أضفَتْ لمسةً قاسية على وجهه المخدوش. سألتُ أخي بحذر: «هل ستَدخل المسبح؟» وراقبت بوبي — حيث ارتعش الملاك على ظهرها وأمسك بذيلِه العابث المستدق بإحدى يدَيه بينما امتدت يده الأخرى للإمساك بهالته — أثناء دخولها إلى الماء أمامي. ضحك فيش ضحكته الجانبية وأومأ برأسه. قال ببساطة: «أنا بخير.» أجبت: «رائع.» «أشعر بالبرد … بالبرررد.» أحاط الماء بصورة الملاك الصغير أثناء غطس بوبي في المسبح، وازداد صوته الواهن في رأسي خفوتًا وتشوشًا. انبثق ويل الابن من الماء فجأة، وأمسك برُسغي، وسحبني إلى المسبح بجواره، ناثرًا الرذاذ في الأنحاء. حاولت إعادةَ رأسي إلى السطح، وإبعاد الشَّعر عن عيني، لأجد وجه ويل قريبًا من وجهي، ويده لا تزال تمسك برُسغي بلطف تحت الماء. اقترب مني ويل، ولمس شفتيَّ بشفتَيه لمسةً بنكهة الكلور والملح بسرعة وإحراج، كأنه انزلق وارتطم بهما بسبيل الخطأ. وحدث الأمر بسرعة شديدة، لدرجةِ أني لم أَجد ما يكفي من الوقت للتجاوب، لأجد قُمعًا متراقصًا من الماء يصطدم بقوة بجانب رأس ويل. أفلت ويل رُسغي من قبضته، وهو يسعل ويبصق الماء، مُحاولًا التعافي من الماء الذي اندفع في أنفه. ثم نظر إلى فيش الذي كان لا يزال واقفًا بملابسه الجافة تمامًا بجوار المسبح، عاقدًا ذراعيه فوق صدره، وقد حُفرَت على وجهه ابتسامةٌ ماكرة مختالة ومغرورة. قال فيش: «لن يحدث مثل هذا الأمر مع أختي.» في البداية، ظننتُ ويل سيَنفجر غاضبًا، وهيأت نفسي لشجار آخر. لكنه ابتسم لي ابتسامة شقيَّة، ثم تحرَّك ناحيةَ فيش على نحوٍ مُباغت، وضرب الماء أمامه براحتَي يدَيه بقوة، فنثره على أخي. سأل ويل: «أَخبِرني فحسب. كيف تفعلها؟» أخذ فيش نفسًا عميقًا جدًّا، كأنه يزيح عن كاهله عبء سنة كاملة من الخوف، وقفز في الماء مثل قذيفة مدفع رشاش كبيرة، وانخرط الصبيَّان في حرب مائية ودية لكنها قوية للغاية؛ وكان لفيش فيها اليد العُليا بلا شك. أما أنا، فكنتُ لا أزال أشعر بالدُّوار من قُبلة فيش العذبة-المالحة السريعة، فحُمتُ في الماء مُمسكة بحافة المسبح الأسمنتية، وراقبت الماء حولي يرتفع ويزيد، بينما تكسَّرت الأمواج فوق الفتيَين وتناثرت على جانبي المسبح. أصدرت أوراق الأشجار الصناعية المتراصة في الغرفة حفيفًا نتيجةً لتيارات الهواء، وانقلبت سلال أشجار التين ونخيل الصالون الاصطناعية على أرضية الغرفة المُبتلَّة. لكن سيطر فيش على الوضع جيدًا ولم يتسبَّب في أضرار دائمة. تصوَّرت كم سيكون أمي وأبي وجَدِّي بومبا فخورِين عندما يجدون فيش قد صارع هِبَته الخارقة وخرَج منتصرًا، وتساءلت ما إذا كان فيش سيَرغب في العودة إلى مدرسة هيبرون الآن؛ لكن ألن يشعر روكيت بالانزعاج والغيرة الشديدة؟ ربما ستَنقطِع الكهرباء في منزلنا لمدة أسبوع بسبب اكتئاب روكيت. ازدادت حدَّة الحرب المائية، وسحبَتْني بوبي إلى الماء الهادئ عند الطرف الضحل من المسبح، وجلسنا على دَرَج المَسبح، يُغطِّي الماء نصفَنا ويَنحسِر عن نصفنا الآخر، ورحنا نراقب الباب ونُشاهد شقيقَينا يكاد يُغرِق أحدهما الآخر مرةً تلو الأخرى. صار صوت ملاك بوبي في رأسي مكتومًا ومُتقطِّعًا كثيرًا، وخفتت حدَّته شيئًا فشيئًا في غرفة المسبح المدوية الصاخبة. ومِن حين إلى آخر، كان ويل يُرسل لي ابتسامة، لكنَّني تردَّدت بين رغبتي في مبادلته الابتسام والغطس تحت الماء. قالت بوبي وهي لا تزال تُشاهد الفتيَين: «إن ويل يُحبك كثيرًا. أعتقد أنه وقع في غرامك منذ اليوم الأول الذي حضرتِ فيه إلى الكنيسة.» ورغم معرفتي بهذه المعلومة، فإنَّ وجهي احمرَّ واشتعل خجلًا؛ إذ أربكَني إعلان بوبي هذه الحقيقةَ بصوتٍ عالٍ، وشعرت أني صغيرة جدًّا وكبيرة جدًّا في الوقت نفسه. تذكَّرت أبي وهو يُهديني فستان المناسبات الخاصة منذ بضعة أيام. قال: «فكَّرت أن ابنتي الصغيرة تَستحِق فستانًا جميلًا وجديدًا كي ترتديه في عيد ميلادها الخاص.» دائمًا ما يناديني أبي بابنته الصغيرة. لكنني لم أعُد تلك البنت الصغيرة بعد الآن. صرتُ مُوقِنة بذلك الآن. سألت بوبي: «إذن هل تُحبِّين وِيل؟» لم يكن عقلي قادرًا على الإجابة بشكل حاسم، واستحالت وجنتي من اللون الوردي إلى اللون الأحمر. هززت كتفيَّ هزَّة تركتهما في وضعية أعلى مِن وضعيتَيهما السابقة بمقدار بوصتين، فاندست رأسي بينهما مثل سلحفاة سامسون غير الميتة، وقلتُ: «لا أدري. ربما.» نظرت بوبي إليَّ، ومما أثار دَهشتي أنها ابتسمت. لكنَّها لم تَبتسِم تلك الابتسامة الماكرة التي تزحف إلى شفتَيها عادةً أو الابتسامة السرية السريعة التي تركتها تتسلَّل إلى شفتَيها في غرفة النُّزل. لا، كانت هذه الابتسامة بعينها، ابتسامةً فرِحة وطويلة، من ذلك النوع الذي يُعطيه الصديق لصديقه في وقت الشدَّة. قالت بوبي: «لا بأس. لا تَقلقي. صدِّقيني، خذي ما يكفيك من الوقت.» شعرت أن هذا الكلام مُضحك لأنه صدر مِن بوبي التي بدت، رغم كونها في السادسة عشرة، على أُهبة الاستعداد للجري. وكما لو أنها تُريد أن تُعطي لما قالته مزيدًا من التأكيد، أطلقت تنهيدةً حزينة قصيرة، ونقرت سطح الماء بإصبعها. ثم قالت: «من المؤسف أن روكيت ليس هنا. ففي كل مرة يأتي فيها إلى الكنيسة، تبدو الغرفة وكأنها مشحونة بالكامل. أظنُّ أنه سيكون من الممتع تقبيله.» نظرتُ إلى حاجبِ بوبي المثقوب ولباسِ السباحة الأحمر القاني ذي القطعتَين وحاولت أن أتخيَّلها وهي تُقبِّل أخي وما سيَحدث مِن شرارات وما شابه. وسألتها: «علامَ كلُّ هذه العجلة؟» زمجرت بوبي مزدرية. وأجابت: «يُمكنك قراءةُ العقول. لذا جاوبيني أنتِ.» صببتُ تركيزي على بوبي، وحاولت الإنصات إلى أفكارها. حاولت الاستماعَ إلى ما تُفكِّر به، حاولت إصاخةَ السمع لوشمها الملائكي داخل رأسي، لكنه كان صامتًا … مُختفيًا تمامًا. كل ما استطعت سماعَه هو صوت التناثُر الصاخب للماء وأصداء ضحكات الفتيين تتردَّد بين الجدران. قلت بعد هُنيهة: «لا أستطيع. ولا… لا أدري السبب.» ثم تذكَّرت أول كلام قاله لي الصوت الموسيقي. لقد مرَّت بضع ساعات فحسب على هذه الحادثة — في مطبخ الكنيسة في هيبرون — لكنها بدت مثل عُمرٍ بأكمله. «إنها تشعر بوحدة شديدة حقًّا، كما تعلمين …» سألتُ بعد تفكير: «هل من الصعب أن تكون ابنة واعظ؟» نظرت بوبي إليَّ بحدة. وسألت: «ماذا تعنين؟» قلتُ وأنا أفكِّر في أمي وهِبَتِها الخارقة: «أتصوَّر أنه قد ينتظر الآخرون منكِ التصرُّف بمثالية طيلة الوقت، حتى وإن كنتِ تُريدين التمتُّع بحرية الخطأ، مثلكِ في هذا مثل غيرك. وأتوقَّع أنكِ ربما تشعرين بالوحدة أحيانًا.» لم تَقُل بوبي أيَّ شيء؛ لذا واصلتُ الكلام بجرأة أكبر، واسترخَت كتفي مِقدار بوصة، فبرز رأسي كما يخرج رأس السلحفاة من صدفتها. وأضفتُ: «قد يُفسر هذا رغبتَك في المضي قُدُمًا بسرعة وإبعاد الآخرين عنكِ. ربما لا تُريدين الاضطرارَ إلى ضرب مثال الواعظ الذي لا تشوبه شائبة.» قالت بوبي، وهي تُقرِّب ركبتَيها إلى صدرها على دَرَج المسبح، وتحتضنهما بذراعَيها بقوة: «ظننتُ أنكِ قلتِ للتوِّ إنك لا تستطيعين قراءة عقلي.» أجبت: «حسنًا، هذا مجرَّد تخمين. فملاكك الصغير لا يتحدَّث كثيرًا في اللحظة الراهنة. ربما كان ذلك بسبب الماء.» نظرت بوبي إليَّ بتساؤل وقالت: «ملاكي؟» قلتُ: «الوشم. أقصدُ وشمَ الملاك ذي الذيل العابث. ذلك الوشم الذي رسمتِه على ظهرك. هذه هي الطريقة التي أسمع بها الأصوات — لا بدَّ أن يكون هناك وشمٌ أو حبر مرسوم.» ردَّت: «أتعنين أنك تستطيعين قراءةَ عقلي لأنَّني حصلت على وشمٍ مؤقت هذا الصباح؟» كررت: «مؤقت؟» نهضت بوبي، واستدارت في محاولةٍ غير مجدية لرؤية الوشم، وقالت: «حسنًا … أجل. هل ظننتِ هذا الوشم حقيقيًّا؟» عندما نظرت، اندهشتُ إذ وجدت بضع لطخات من الألوان على بشَرتها كأنها نَمش، مكان الملاك، بينما انمحَت بقية صورته تمامًا، بواسطة الماء والمواد الكيميائية في المسبح. ولوهلة شعرت بالحزن قليلًا؛ إذ أدركت أن صوته قد ذهب للأبد. لكن غشاني شعور بالراحة عمومًا. وتنفَّست الصُّعداء لأنه يمكنني التعرُّف على بوبي الآن بالطريقة الطبيعية، أو لا أتعرَّف عليها على الإطلاق، إنَّ قرَّرنا ذلك. تنهَّدت بوبي، وهي تَجلِس بجواري على دَرَج المسبح. وسألت: «ميبس، هل خطر ببالك من قبل أن حياتك مجرَّد حُلم غريب ستستيقظين منه يومًا ما وتجدين نفسك شخصًا آخر تمامًا؟» ثم نزلت درجة حتى غطَّى ماء المسبح فمَها وكاد أن يبلغ أنفَها. وصنعت فقاعات من الهواء صغيرة أمامها وأغلقت عينَيها. اهتززنا وتمايلنا في الماء المُضطرِب بسبب معركة الفتيَين المائية. فكَّرت في سؤالها مدةً طويلة. شعرت أن شَعري بدأ يجف، وأطراف أصابعي وقدمي تتغضَّن وتتجعَّد. لو قال لي أحدٌ الكلمات نفسَها بالأمس، لربما لم أُلقِ لها بالًا. لكن الكثير من الأمور تتغيَّر في غضون يوم. الكثير حقًّا.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/26/
الفصل السادس والعشرون
عُدنا إلى غرفنا، ووجدنا سامسون مُتكوِّرًا في استكانة كحشرة، تحت الطاولة في غرفة الفتيان، غاطًّا في النوم ولاصقًا لعبة الزنبرك من «ميجا ميجا مارت» بوجهه، على نحوٍ سيترك أثرًا مُضحكًا على وجهه في الصباح بلا شك. كان سامسون قد انتزع أحدَ أغطية السرير الزهرية الخاصة بالنُّزل، وأسدلها فوق المائدة مثل الخيمة، تاركًا السريرَين لويل وفيش، لكنه أخذ الوسائد كلها. أما في غرفة الفتيات، فقد استأثرَت بوبي بسريرٍ لنفسها، وتقاسمتُ أنا السرير الآخر مع لِيل وقدمَيها الملائكيتَين الكبيرتَين وشخيرها المُدوِّي. قبل أن تغطَّ لِيل في النوم، تنهَّدت. وقالت بهدوء: «لا يستطيع المرء الجزمَ متى تتحول الابتلاءات إلى ألطاف»، وفي البداية، لم أَعرِف هل كانت تخاطب نفسها أم تخاطبني. لم أستطِع النوم بسهولة في تلك الليلة. كانت حشيَّة السرير غليظة، ومَلمس الأغطية خشنًا على وجنتيَّ. طاردَتني كلمات لِيل، وجعلَت عقلي يركض، كفأر في عجلة دوَّارة. فكَّرت في الفتيان في الجهة المقابلة عبْر الممر، وفي قُبلة ويل في المسبح. فكَّرت في ليستر على سريره النقَّال في الحافلة، وفي لِيل التي تنام بجواري حالِمة به. فكَّرت في بوبي وكيف أنها بدت أشبه بصديقة إلى حدٍّ كبير. ثم انتقلت أفكاري إلى الرجل المشرَّد خلف المطعم وأبي القابع في سريره في مَشفى «هوب» بسالَينا، وتساءلت هل سيجد أيٌّ منهما اللطفَ في هذه الابتلاءات التي حلَّت بهما. قبل حادثة أبي، كانت أكبر نازلة نزلت بي في حياتي هي وفاة جَدَّتي دالاب. تذكَّرتُ كيف وقفتُ بجوار أبي في جنازة جَدَّتي عندما كنت في العاشرة من عمري. لم يَترك أبي يدي طيلةَ الوقت حينها. وفي المقبرة، دُفنت جَدَّتي في مَثواها الأخير، مُحاطة بالزهور والأقارب. وتكدَّست أوعية أغانيها الإذاعية المفضَّلة على نعشها وحوله وداخله، كما لو كانت جَدَّتي من فراعنة مصر، وتأخُذ كنوزها معها. كانت هناك الخالة دينا وخالي أوتري بصُحبة عائلتَيهما، بالإضافة إلى عدد من خالات أمي وأعمامها المُتبقين على قيد الحياة، وأبناء العمومة من الدرجة الثانية الذين تمكَّنوا من القدوم إلى الجنوب. كما حضرت شقيقةُ جَدَّتي ذاتُ اليد الخفيفة، جوبلي، لكن حرصت أمي على إخفاء كل مجوهراتها ومراقبة الفضيات عند قدومها إلى منزلنا من أجل العزاء. لم يكن هناك مثيل لجنازة جَدَّتي. جلست أمي وخالتي دينا، جانبَي جَدِّي، مثلما يحيط الغلاف القوي بكتاب، وعانق ذراعاهما ذراعيه، كي تمُدَّاه بالدعم أثناء إلقاء الواعظ لخطابه وتلاوة صلواته. لكن عندما بلغ الواعظ كلمة «آمين» الأخيرة، أطلق الحزن والأسى عِنان هِبَات الصغار والكبار على حدٍّ سواء. فضربَ برقٌ شجرةً مُجاورةً. واحتشدت اليعاسيب والنحل الطنَّان في الهواء المتاخم للنعش، مُتمايلًا ومندفعًا مثل مصفوفة من الألعاب النارية الحيَّة. واشتدَّ العشب على سُوقه تحت أقدامنا ونما، وتفتَّحت الأزهار في براعمها وراحت تملأ الجو بعبَقِها المُسْكر. وانطلقت الرشاشات تحت الأرض مثل نوافير المياه المُتراقصة، وأحاطتنا جميعًا بعرض كبير من فوَّهات المياه المتراصَّة، ومع ذلك لم تسقط قطرةُ ماء واحدة على المعزِّين. في النهاية، عندما انهمرت دموع جَدِّي بومبا على وجنتَيه، بدأت الأرض تتزلزل. اهتزَّت شواهد القبور والمقاعد القابلة للطي وارتجَّت للأمام والخلف مع الجالسين فوقها الذين راحوا يتشبَّثون بها بإحكام. وارتجَّت الأرض بعنف، وبدأت أوعية جَدَّتي الزجاجية تَنقلِب رأسًا على عقب وتتهشَّم، فامتلأت الأجواء بأصوات صاخبة. تسرَّبت إلى الجو موسيقى الأرجن وجوقات الإنجيل والأغاني الشعبية الغربية الريفية وإيقاعات البولكا مثل نِثار الحفلات الزاهي الألوان. وحطَّت الأصوات العظيمة على النسيم بكلمات عَذبة وحادة، وخطابات مؤثرة وقوية. كانت هناك كلمات مثل «الحُلم» و«الحريَّة» علِقت بالهواء عبْر أصوات النساء والرجال والأطفال. أحاطني أبي بذراعَيه، وأغلقنا أعينَنا، وأنصَتنا معًا إلى عرض الأصوات، وموكب النغمات، وموجات الراديو المُتبدِّدة من هِبَة جَدَّتي دالاب الخارقة. هذه الذكريات وغيرها تدفَّقَت في عقلي، وأنا أتقلَّب في سرير النُّزل، خارج لينكون. رُحت أُذكِّر نفسي أن هذا الهرب والصخب والعناء من أجل أبي. كل ما حدَث هو مِن أجل أبي فحسب. لكنْ ثمَّة شيء ما، بخصوص هذه الفِكرة، أزعجني؛ ثمَّة شيء ما أربكني في أعماق أعماق مَعِدتي وأصابني بالتشنُّج والاضطراب. لقد هربت من أجل أبي … أليس كذلك؟ لقد فررتُ من كنيسة هيبرون، وأنا أعتقد أنني مُضطرة إلى هذا الأمر؛ كنتُ على ثقة من قدرتي على إيقاظ أبي وإعادة الأمور إلى نِصابها. لكنَّني الآن، وأنا مُستلقية في غرفة النُّزل «سليبي لينكون ١٠»، بتيشرت «ميجا ميجا مارت» الذي لا تزال رُقعة السعر ملتصقة به وتحُكُّ بعنقي، خطر ببالي أنه ربما لا يكون أبي السببَ الوحيد وراء هربي من الكنيسة. أن تهرُب يعني أنك تفرُّ من شيءٍ ما. عندما خرجتُ من كنيسة هيبرون، كنتُ أهرب لأبي، لكن ربما — ربما — كنتُ أهرب من شيء آخر. ربما كنت أهرب من هِبَتي الخارقة التي لم أتمنَّها وأتَتني على حين غِرَّة. ربما كنتُ أهرب من حقيقة أنني أكبر في العمر وأن حياتي تتغيَّر بسرعة وحتمية وإثارة ورُعب مثل شرارات روكيت أو أعاصير فيش أو حتى قُبلتي الأولى. وهكذا سلبت هذه الأفكار النومَ من عيني حتى وقتٍ متأخِّر من الليل. دخل الفتيان إلى غرفتنا، بعدما دقَّت الساعة التاسعة في صباح اليوم التالي، وهم يُحاولون ألا تسقط من أيديهم صحون الفلين الأبيض التي تحتوي على حلوى الوافل المقرمشة الثخينة وأكواب عصير البرتقال البلاستيكية التي أحضروها من مائدة الإفطار بالطابق السفلي. كان ويل الابن يرتدي تيشرتًا طويلًا أسودَ اللون من «ميجا ميجا مارت» وشعره أشعثَ متشابكًا. منذ هروبنا من هيبرون، أهمل ويل تمامًا ذلك المظهر الجاد جدًّا الذي كنتُ أراه به دائمًا. قالت لِيل، وهي تَفتح الستائر، حتى كادت تُصيبني بالعمى بأشعة الشمس الصباحية: «لقد تأخَّر الوقت. لقد تركتكما تنامان فترة طويلة.» قال ويل دافعًا بحلوى الوافل اللزجة المحُلاة بالشراب نحوي: «حان وقت الاستيقاظ أيتها الجميلة النائمة.» همستُ بحرص حتى لا تسمعني لِيل: «هل نزلت إلى الطابق السفلي؟ هل رآك أحد؟» انحنى ويل بالقُرب من أذني، وهمس: «لم يرَنا أحد يا ميبس»، قبل أن يَجلس على حافة السرير بجوار فيش الذي شرَع في تناول وجبة إفطاره. كانت بوبي في الحمَّام، وقد مكثت وقتًا طويلًا للغاية تتجهَّز للرحيل، بينما تجادلت لِيل مع سامسون وعبثَت، تُحاول أن تمشط شعرَه الداكن الكثيف بالمشط قبل أن يُفلت من قبضتها ليختبئ في تجاويف خزانة النُّزل الفارغة. وفي الطرف المقابل لي، جشَّأ فيش تجشئةً مدعاة للفخر، وأطلَقَ ويل الابن تَجشئةً تُطابقها في الطول والحدَّة، كأنه يحاول تحطيم الرقم القياسي العالمي. نظرت إليهما بازدراء بينما انشغلت بتقطيع حلوى الوافل. قلتُ بنبرة توبيخية، أُحاول ألا أكشف أنني لا أزال مُضطربة من قبلتِه في المسبح: «ظننتك تُريد أن تُصبح مثل أبيك يا ويل الابن عندما تكبر.» لكنه ابتسمَ لي وغمز بعينِه. وقال: «هذا ما أريده.» أطلق فيش شخيرًا هازئًا، ونكز ويل في أضلاعه بمرفقِه، وتقاطر الشراب المُحلَّى مِن شوكتِه على الأرض. ثم قال بفم مَليء بالوافل: «لا تَقُل لي إن القس ميكس يستطيع التجشُّؤ على هذا النحو.» أجاب ويل بابتسامة عريضة عديمة الحياء: «لا يَستطيع القس ميكس فِعل ذلك.» اختارت لِيل هذه اللحظة بعينِها لمُحاوَلة تشغيل التلفاز وتفقُّد حالة الطقس. فاستدرنا إليها جميعًا صارخين: «توقفي!» حتى كادت المرأة المسكينة تبسط أجنحتها وتطير من فرط رعبها. وقَف فيش بسُرعة بالغة، فسقط صحن الوافل الخاص به على الأرض. وارتطم بويل، الذي دفَع بمرفقه كوب عصير البرتقال البلاستيكي القابع على طاولة السرير بجواره، فانسكب وسال داخل الدُّرج بما احتوى عليه من كتاب مقدَّس ودليل الهاتف وقسائم خصم توصيل البيتزا. فتحت بوبي باب الحمام ودلفت إلى الغرفة في الوقت المناسب كي نتسارع للحصول على المناشف والماء. طرق ليستر الباب عندما بدأت الأمور تعود إلى نصابها. كان يَلبس ربطة العنق الجديدة التي اشترتها له لِيل، مع قميص نظيف وبدلة عمل جديدة. قال ليستر بابتسامة عريضة خصَّ بها لِيل وحدها: «حان وقت الذهاب.» عدَّلت لِيل عقدة ربطة عنقه، وبادلته الابتسام، ومسحت بيدِها على صدره برفق. قالت لِيل بابتسامة مُشرِقة: «تبدو جذابًا يا ليستر.» كان البقية على استعداد للرحيل؛ لذا ارتديت ملابسي بأقصى سرعة في الحمام. فرَّشت أسناني ومشَّطتُ شعري. ووضعت ملمعَ شفاه أحمر به بعض اللمعة، كانت بوبي قد تركته على المنضدة، قبل أن أعدل عن الأمر وأمسحه بمنديل ورقي. قبل أن أُغادر الحمام، دسست بابتهاج قِطعة صابون مُغلفة بالورق في جيب فستاني الذي كان لا يزال يَحمِل القلم الذي أعطاه ويل لي في عيد ميلادي. ثم انضممتُ إلى الآخرين، واجتَزنا جميعًا الممر بنعال «ميجا ميجا مارت» الجديدة، تحت قيادة لِيل وليستر، باتجاه الطابق السُّفلي، ناحية حافلة شركة «هارت لاند» لتوريد الكتب المقدَّسة، مثل سرب من فراخ الإوز المسطَّحة الأقدام، ورُحنا نراقب الأجواء كي نتأكَّد من عدم وجود عيون مُتطفِّلة. كانت لِيل تسير أمامي مُعلَّقة يدها الضخمة بذراع ليستر، وحاولت ألا أصيخ السمع إلى ثرثرة كارلين وروندا المُسهبة بشأن حبيبة ليستر الجديدة؛ وإن بدَت أصواتهما اليوم أقل صخبًا وبذاءة من عادتها. قالت روندا: «اعتقدتُ أن بُنيَّ لن يجد لنفسِه امرأة لائقة أبدًا. أظن أنه سيفسد الأمر.» «امرأة لائقة؟ وماذا عني أنا؛ ألا أليق به؟ ليس خطئي أن ليستر لا يرى الخير ولو كان نصب عينيه.» أجابت روندا غاضبة: «لطالما رأى ليستر الخير في كل شيء. ولكنك يا كارلين لست سوى عجوز عجفاء لا خير فيها.» فكَّرت في السيدتَين وتذمُّرهما وشكواهما، وتزاحمت برأسي الأسئلة. إذا كنت أستطيع أن أستنتج أفكار ليستر ومشاعره من خلال الاستماع إلى تلك الأصوات في رأسي، فلماذا تتحدث هاتان المرأتان دائمًا عنه كأنه ليس موجودًا؟ ولماذا تَجرحان مشاعره بصفة مستمرة؟ لا بد أن لهاتين السيدتين تأثيرًا قويًّا عليه؛ لذا فإنه لا يسمع إلا أصواتهما بصوتٍ عالٍ للغاية. هل استمد ليستر تعريفه لنفسه من ثرثرتهما البغيضة؟ لا ريب أن الرجل يتلعثم ويَرتعش. وفكَّرت أنه ربما كانت هذه حالة الجميع. ربما تَسري أصوات الآخرين في رءوسنا طيلة الوقت على نحوٍ فوضوي. تذكَّرت كيف كنتُ أسمع صوت أبي وأمي في رأسي، في كثير من الأحيان، وهما يُساعدانني في تمييز الصواب من الخطأ. تذكَّرت كيف كانت أصوات أشلي بينج وإيما فلينت تَسري تحت جلدي، لتُضايقني وتُشعرني بالإحباط، حتى وإن لم يكونا في الجوار. وبدأت أدرك صعوبةَ عزل كل هذه الأصوات لسماع الصوت القوي الوحيد القادم من داخلي. صعدتُ حافلة «هارت لاند» لتوريد الكتب المقدَّسة الوردية الكبيرة، في صباحٍ دفيءٍ مشرق، وحاولت تجاهل أصوات كارلين وروندا؛ وأرهفت السمع لعلَّني أجد بقية من صوت ليستر نفسه داخله. وكلما شاهدته واستمعت إليه، اتضح لي بجلاء أنه ما إن تَبتسِم لِيل له أو تتحدَّث إليه أثناء سفرنا عبْر الطريق السريع، تَفقد أصوات كارلين وروندا سيطرتها ونفوذها. أنارت لِيل حياة ليستر مثل الشمس. وعلى ذراعيه، حيث رفع كمَّيه، تبدَّد وجها المرأتين العابستَين واستحالا خطوطًا سوداء رفيعة في وشوم هامدة. راوَدَني شعور أنه ربما كانت لِيل ملاكًا؛ ربما كانت ملاكًا أُرسل إلى ليستر من السماء لإزالة الأصوات من رأسه. أشحتُ بنظري عن لِيل وليستر، واخترت مقعدًا عند إحدى النوافذ القليلة التي سلِمت من الشروخ أو الورق المقوَّى أو الشريط الفضي اللاصق. تطلَّعت من النافذة، والحافلة ترتجُّ وتشقُّ طريقها نحو وايمور ونقطة توصيل ليستر التالية، ورحت أتأمَّل المساحات اللامتناهية من حقول الذُّرة الشهباء. كانت الأرض تَتثاءب، وتتمدَّد، وتسلَّل اللون الأخضر إلى نهاية القصبات المكسورة والبُنية لحصاد السنة الماضية. كان الربيع قد حلَّ وبدأ العالم بأسرِه يعود إلى الحياة. تمنَّيت لو أن أبي يعود إلى الحياة هو أيضًا.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/27/
الفصل السابع والعشرون
وصَلنا إلى وايمور وقد شارفت الخدمة الثانية على الانتهاء، في الكنيسة القُرميدية الكبيرة، البعيدة عن شارع عشرة. أوقف ليستر الحافلة أمام الكنيسة، وانتظر حتى عدَّلت لِيل ربطة عنقِه مرة أخرى، وأزالت فُتات الطعام من قميصِه. تهلَّلت أسارير الرجل لاهتمام لِيل المُبالغ فيه بأمور النظافة، ولم تَرتفِع كتفاه أو تَنتفِض. تابعت لِيل بنَبرة تشجيعية: «لا تنسَ حديثَنا. تأكَّد من توصيل هذه الكتب المقدَّسة إلى زوجة القسِّ مباشرةً. فالغالب أن تنظر المرأة بعين الرضا إلى أيِّ شيء وردي اللون.» أومأ ليستر للِيل، ووقف بثِقَة، بينما تُقبِّله على وجنته. قالت لِيل: «أتمنَّى أن تجلِب هذه القُبلة الحظَّ لك»، فتَضرَّج وجه ليستر خجلًا. وأضافت: «ستبلي بلاءً حسنًا.» تحرَّك فمُ ليستر كأنه يَمضغ قطعة كبيرة من علكة «بابل» الخاصة ببوبي؛ وبدا كأنه يُريد قول شيء للِيل لكنه لا يستطيع تحريك شفتَيه بالشكل الصحيح. وبعد لحظة، مدَّ يدَه وصافح يد لِيل بارتباك، كأنهما عقدا صفقةً للتو. خطا ليستر خارج الحافلة، يتأبَّط كتابًا مُقدَّسًا ورديًّا كبيرًا، ويتلبَّس ثِقَة جذابة تُلائمه مثل حذاء جديد. ومشى بتحفظ لكن بفَخر يفوق قدرته حسبما اعتقدت. قضمت لِيل أظفرها بينما تُراقب ليستر من النافذة. منذ أن تركنا لينكون، انهمكت لِيل في تعليم ليستر وإعطائه نَصائح حول كيفية التحدُّث إلى الآخرين، وتقديم نفسه على أنه رجلُ أعمال بدلًا من عامل توصيل يَسهُل التنمُّر عليه وإراقة ماء وجهه. والآن حان دورها كي تشعر بالقلق والتوتُّر. تبادل فيش وويل إلقاءَ الكرات الملفوفة من الورق الممزَّق من كومة مجلات ليستر، وتحركتُ وبوبي كي نَجلِس بجانب لِيل. لم أكن بحاجة إلى رسم وشمٍ على بشرة لِيل، بقَلمي الفضي اللامع، كي أعرف أنها واقعة في الحب. لم أفهم الأمر أنا نفسي، لكن أظن أن النهايات السعيدة تأتي بكل الأشكال والأحجام. في غضون فترة وجيزة، عاد ليستر إلى الحافلة بابتسامة، كادَت تَشطر وجهَه إلى نصفين. وبينما يَصعد درجات الحافلة الثلاث، أطلق صرخةَ فرحٍ وصاح. ثم انحنى، راقصًا على عقبَيه، واحتضنَ وجهَ لِيل بين يدَيه، وقبَّلها قبلة حارَّة طويلة على شفتَيها. ألقت لِيل ذراعَيها حول عنقه وقبَّلته على الفور بنَشوة وحماسة، دفعَتْنا إلى النظر بعيدًا، والتركيز على أي شيء آخر، مهما كان. أخرجت بوبي لسانها، وانتابتْها قشعريرة ساخرة، والتفتَت بعيدًا عن الثنائي السعيد، وجلست في مقعد عبر الممر، ومع ذلك لاحظتُ ابتسامتها التي ظهرت واختفت في لمح البصر مثل صدع عاطفي في درع مُراهقَتِها. بعد أن انتهى ليستر من تَقبيل لِيل، شدَّ قامته وأعلن: «لقد تسلَّم القسُّ هذه الطلبية، وفوق ذلك تَرغب نقابة نساء وايمور في شراء ثلاثة صناديق إضافية من كتب «هارت لاند» المقدسة.» صفَّقت لِيل بيدَيها، مثل شقيقتي جيبسي، بفرح وحماسة. قال ليستر بارتياح، وهو يُربِّت على ظهر مقعد السائق، كأن حافلته نجت ونجا هو معها: «هذا يعوِّض طلبيات اﻟ… الكتب المقدسة التي لم أوصلها أمس.» استعان ليستر بفيش وويل لمساعدته في حمْل الصناديق من الحافلة إلى الكنيسة. خفض الفَتيان رأسَيهما، ورفعا الصناديق عاليًا، كي يُخفيا وجهَيهما قدْر المستطاع، حتى لا يتعرَّف عليهما أحد من النشرات الإخبارية «تنبيه! مفقودون! تنبيه!» وعندما عادوا، كان ليستر يَحمل النقود، أما فيش وويل فقد حملا ملء كفَّيهما كعكات مُحلاة بمسحوق السكر مقطَّعة إلى أرباع. نفضَ ويل السُّكَّر الأبيض عن قميصه الأسود، وهو يناولني قطعة من الكعكة، ولعِق بقايا السُّكر على أصابعه، بينما جلس ملاصقًا لي تقريبًا. ورغم الكعكات، كان وجه فيش مُكفهرًّا مثل سحابة عاصفة، وهو يَجلس في مقعده عبر الممر، بينما غطَّت سحابةٌ صفحةَ الشمس. نقل ويل بصره من فيش إلى ليستر ثم إليَّ وبدت على وجهِه أمارات القلق. أنشأ ويل: «يقول ليستر إن أمامنا محطة أخيرة قبل ذهابنا إلى سالَينا يا ميبس. أظن أن عليه إعطاء جزء من أموال بيع هذه الكتب المقدسة إلى سيدةٍ ما، وهذه المحطة في طريقنا. لكنه وعد أن يُوصلنا إلى المشفى قريبًا؛ أعني في غضون بضع ساعات لا أكثر.» كان ويل يحاول بثَّ الطمأنينة في قلبي. فهو يَعلم حاجتنا الماسة، أنا وفيش وسامسون، للذهاب إلى أبي، ولم يكن واثقًا البتَّة مما قد يحدث إن ازداد استياؤنا ونفَد صبرنا. أمسكتُ حصتي من الكعكة بين إصبعيَّ بحرص ورحت أراقب مسحوقَ السُّكر يتساقط في حجري، بينما قرقعَ محرك الحافلة وهدر عائدًا إلى الحياة. سيَستغرِق الأمر وقتًا طويلًا قبل أن نصل إلى أبي؛ فلا ريب أن بضع ساعات من هذا الغموض والرهبة تبدو مثل أيام أو شهور أو سنوات من الهموم اليومية العادية مثل كيفية التصرُّف مع الفتى المجعَّد الشعر. أنهى ويل كعكته، وعَبَس وجهه، وبدا مُنزعجًا متوترًا. مدَّ يده تحت فخذِه، وأخرج كرة ملفوفة من ورق مجلة كان يَجلس فوقها. ثمَّة شيءٌ ما بالكرة الورقية اللامعة لفَتَ انتباهي. دسست قطعة الكعكة في فمي، وتناولت الكتلة الورقية من ويل، بعد أن أصابني استِنشاق مسحوق السكَّر بسُعال خفيف. ألنتُ تجاعيد الكرة وسويَّتُها على حِجري، مُتجاهلة أن ركبتَي ويل واصلتا الارتطام بركبتي. كانت الصورة مأخوذة من غلاف مجلة، وهي لقلبٍ بشري بدا مثل كرة طرية كبيرة من البطيخ تتشعَّب فيها عروقٌ باهتة دقيقة لا أكثر. عندما رأيت هذه الصورة للمرة الأولى، راوَدَني شعور أنها صوَّرت قلب المرء مثل شيء هش للغاية، على عكسِ ما درست من أن القلب البَشري عبارة عن عضَلة قوية. والآن أدركت أن القلب هشٌّ وقويٌّ في آنٍ واحد. وبناءً على ذلك، استدرتُ لمواجهة وِيل، وقلبي يَخفق بقوة بين أضلعي. أردت أن يعيرني كامل انتباهه. ابتعدت عنه قليلًا، واضعةً الصورةَ المجعَّدة بينَنا، ثم مددت يديَّ واحتضنت وجهه بنفسِ الطريقة التي احتضنَ بها ليستر وجه لِيل. كان الإمساك برأسِ شخصٍ مثل كرة سلة لا يبدو محرجًا مثلما توقَّعت، على الرغم من شعوري بالخجل عندما شاهدت لِيستر يُعانق لِيل بنفس الطريقة. لكن، على عكسِ ما حدث بينَهما، لن يكون هناك تقبيلٌ هذه المرة. بدلًا من ذلك، نظرت إلى عيني ويل مُباشرة، مُتجاهلة تحديقَ فيش بنا من فوق المقعد المقابل عبْر الممر. نظر ويل إليَّ مندهشًا، لكني قوَّيتُ قلبي، شاعرة بشيءٍ ما يهتزُّ بداخلي، مثل بُرعُم زهرة أخضر فاتح يتفتَّح لتوِّه لحلول موسم الربيع. ولكن بصرف النظر عن ماهية هذا الشيء، كان في مراحله الأولى وغير مُستعدٍّ للتفتح بعد؛ كان بحاجة إلى وقتٍ ليتجذر في الأرض. في المستقبل القريب، سأتفتَّح بلا قيود، وسيكون لديَّ ما أحتاجه لأقف بشموخ. قلتُ: «أنا أحبُّك يا ويل. وربما أحبُّك مثلما تُحبُّني. لكني لستُ مُستعدَّة لتبادل القُبلات بعدُ، حسنًا؟» كان قلبي يدقُّ بقوة، بسبب التوتُّر المحموم الناجم عن هذا الاعتراف، حتى شعرت أنه قد يَنفجِر في أيِّ لحظة. كنتُ على ثِقة أن قلب ويل يتمتَّع بالقوة الكافية؛ لذا ظننتُ أنه لن يَستحيل إلى كرة بطِّيخ طرية لأنني لستُ مُستعدَّة لتقبيله. لكننا أصدقاء الآن ولم أشأ أن أُفسد ذلك. أخليتُ سبيلَ وجه ويل، وتوقَّف هو عن خبطِ ركبته في ركبتي. مالتِ ابتسامتُه إلى الجانب، وأضْفَت عينه المسودَّة لمسةً مُشاكسة عنيدة على وجهه لم أفهمها البتَّة. قال: «حسنًا يا ميبس. فقط أعطِني القلم الذي أهديتُه لكِ.» سألتُ بدهشة وتماسُك أقل قليلًا: «أتقصدُ هديةَ عيد ميلادي؟» رفع ويل حاجبَيه على نحوٍ ذي مَغزًى ومدَّ يده إليَّ. اضطربت مَعِدتي وبدأت شفتِي السفلية تَرتعِش. شعرت أنني أصغر سنًّا بكثير مما أنا عليه، وأن كل النمو والنضج الذي حقَّقتُه للتو بدأ يضيع، بينما دسست يدي في جيب فستان المناسبات الخاصة. تجاوزَتْ أصابعي قطعةَ الصابون المغلَّفة بالورق التي خبَّأتُها بسعادة ذاك الصباح في جيبي، لكن للأسف وجدتها منقسمة إلى نصفين. مددتُ يدي أكثر والتفَّت أصابعي حول القلم الفاخر الأنيق هديةِ عيد ميلادي السعيد بمَسْكتِه الفضية وغطائه المدوَّر اللامع. لم أستطِع النظر إلى ويل وأنا أمدُّ يدي بالقلم إليه. تطلَّعت خارج النافذة بدلًا من ذلك، متجاهلةً النظرة الراضية التي ارتسمَت على وجه فيش وهو يجلس في الطرف المقابل عبر الممر، أُحاول أن أمنع شفتَيَّ من الارتجاف، وأُذكِّر نفسي أنني مُتردِّدة سخيفة لشعوري بالهجر رغم أنني مَن بدأتُه. شاهدت التلال المتماوجة، تختفي خلفنا وتنحدر مثل أمواج من المروج، خارج نوافذ الحافلة. شعرت بويل يَلتقِط القلم من يدي، وسمِعته يُزيل غطاءه بطقطقة معدنية سريعة. في اللحظة التالية، ملأ صوتٌ يُشبه صوتَ جرس رخيم رأسي، أخذ يتردَّد ويُدوي في أذنيَّ. يمكنني الانتظار. يمكنني الانتظار. يمكنني الانتظار. التفتُّ ناحيةَ وِيل الذي جلس رافعًا يده اليمنى ناحيتي كأنه يَقطع عهدًا أو يطلب الإذن؛ ورأيت شمسًا زرقاء اللون تَبتسِم إليَّ من فوق راحة يده. قال بصوتٍ عالٍ: «لا تَقلقي يا ميبس.»
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/28/
الفصل الثامن والعشرون
بعد أن انتهينا من وايمور، اتجهنا جنوبًا، تاركين نبراسكا خلفنا، لنجد أنفسنا في الطرف الأقصى من كِنساس، لكن لا تزال هناك أميالٌ كثيرة تفصل بينَنا وبين سالَينا. ورغم توسلات صغار بومونت للاتجاه إلى مَشفى «هوب» في سالَينا مباشرة، تشبَّث ليستر بخططه وخرج عن المسار للمرة الأخيرة. لذا تَناولنا حلوى «بوب تارتس» والبطاطس المَقلية وألواح الشيكولاتة من «ميجا ميجا مارت»، وشاهدنا المنظر الطبيعي يمر وراءنا خارج الحافلة، نحاول ألا نفكر في أبينا الراقد محطَّمًا في المشفى، نحاول ألا نتخيل الأسوأ. كنَّا في شمال مانهاتن، عندما انطلقت صَفَّارة إنذار، وومضت المصابيح خلفنا. تحفَّزنا جميعًا مثل زنبرك الساعة المشدود، وتكوَّرنا في مقاعدنا، خافضين رءوسنا، بينما حرَّك ليستر الحافلة إلى جانب الطريق السريع، مع بقية السيارات التي تَسير بسرعة منخفضة في يوم العطلة. وبارتياح كبير شاهدنا سيارةَ الشرطة الزرقاء والبيضاء، وهي تجتازنا بسرعة إلى مكانٍ آخر، وأدركنا أنها ليست في أعقابنا. لكن لم يُلاحظ ليستر ولِيل شيئًا تقريبًا؛ إذ كان كلٌّ منهما منشغلٌ بالآخر. في غضون فترة وجيزة، بينَما اتخذ ليستر منعطفًا طويلًا في الطريق السريع، نهَض فيش على قدميه، وتحرَّك نحو مقدمة الحافلة، ووقف على بُعد مسافة قصيرة من الخط الأصفر المَدهون على الأرضية. أمعن فيش النظر في الطريق السريع أمامه، وابيضَّت براجمُه من شدَّة تشبُّثه بظهر مقعد ليستر. نهضت من مكاني بجوار ويل، واجتزته بصعوبة، كي أذهب إلى فيش. لا بدَّ أن هناك خطْبًا ما. سألت فيش بصوتٍ عالٍ كي يُغطِّي على ضجيج الحافلة: «ماذا يَجري يا فيش؟» نظر الآخَرون إلينا بفضول. قال فيش: «أشمُّ رائحة الماء. بل أشمُّ رائحة الكثير منه.» ألقيتُ نظرةً سريعة إلى لِيل التي كانت تجلس بجوارنا وتنظر إلينا بتساؤل. كما أدار ليستر رأسه أيضًا. قال ليستر لفيش: «لديك حاسة شم ﻗ… قوية. نحن على مَقرُبة من بحيرة «تاتل كريك». وهي بحيرة كبيرة في الحقيقة.» وضعت يدي على كتفِ فيش. ورحتُ أذكرُه بهُدوء: «أنت تُبلي بلاءً حسنًا يا فيش. ليس هناك داعٍ للقلق … أليس كذلك؟ أنت تُسيطِر على الأمور بشكل جيد. تستطيع التحكُّم في هِبَتك الخارقة.» أومأ فيش برأسه بعد كل عبارة أقولها، بعزمٍ وعُجالة، كأنه يُؤكِّد على ما أقوله. قلتُ له: «أنت بخير. لقد أخبرتَني ذلك بنفسك عندما كنَّا في مسبح النُّزل، ألا تذكر؟ إنها مجرد كتلة مائية.» أومأ فيش مرة أخرى. وافقني فيش، في نهاية المطاف، قائلًا: «أنا بخير»، وارتخت قبضة يده على مقعد ليستر. كنت أعلم أنه بالرغم من الثِّقَة التي عثر عليها حديثًا، فإن ذكريات إعصار عيد ميلاده الثالث عشر الذي بلغ ذروته ستُطارده لفترة طويلة جدًّا. كانت ذكرى يصعب على المرء نسيانها في الحقيقة. قال ليستر: «أوشكنا على الوصول. تعيش كارلين في هذا المكان أمامنا مُباشَرة. فور أن أ… أدفع لها أموالها، يُمكنُنا التوجُّه إلى سالَينا. ﺳ… ستعودون إلى عائلاتكم قريبًا.» هتفتُ بصوتٍ عالٍ قبل أن أتمكَّن من إيقاف نفسي: «كارلين؟ لا، ليس كارلين!» انحرف ليستر بالحافلة باتجاه السيارات القادِمة، من فرط دهشتِه، ونجح في تفادي الشاحنة ببُوقها المُدوِّي بشِق الأنفس، قبل أن يَستدير لينظر إليَّ باستغراب. وسأل باندهاش: «ماذا تَعرفين عن كارلين يا آنسة؟ لا أ… أظن أنني أتيت على ذكر اسمها من قبل. إنه ابن عمِّها، لاري، صاحب شركة «هارت لاند» لتوريد الكتب المُقدَّسة. لقد ساعدتني في الحصول على هذه الوظيفة.» قلتُ بسرعة وأنا أُحاول التستُّر على خطئي الفادح: «أنا … أنا … أليس هناك وشم لكارلين على ذراعك؟» نكزتُ فيش في صدره بمِرفقي. وفتح أخي عينيه على اتساعهما عندما أدرك أنني كنتُ أسمع أشياء عن ليستر لا يَسمعُها غيري وحاوَل التدخل لمساعدتي. قال فيش: «هذا صحيح. لديكَ وشوم على ذراعَيك، أليس كذلك؟» تمتم ليستر: «حسنًا، لقد فعلتُ ذلك منذ وقت طويل مضى»، وحاول فردَ كمَّي قميصه وتزريرهما، كي يستر وشمَيه، بينما يُواصِل القيادة. وراحت كتفه اليمنى تَرتفِع وتهبط، كأنها تحاول منْع طائر لحوح أو نحلة من الحطِّ فوقها. أشاحت لِيل ببصرها عنه، وراحت تتفرَّس تفاصيل حذائها. عاد صوت روندا يتدفَّق في رأسي مثل الخل: «ماذا يفعل ليستر مع هؤلاء الأطفال البغيضين؟» تدخَّل صوت كارلين: «ليسَت لدَيه ذرة عقل، هذه هي المشكلة.» شعرت بالإحباط لعودة هاتَين السيدتين. كان عقل ليستر ملآنَ بلِيل، لبعض الوقت، فلم يَسمح بدخول صوتَيهما؛ لذا شقَّ على نفسي أن أراه يَستدعيهما من جديد. «ليستر الغبي.» «ليستر الأبله.» «ليستر الأحمق.» «ليستر …» هتفت: «توقف!» فتوجَّهت أنظار الجميع إليَّ. أدركت أنني أضع يديَّ على أذنيَّ، وباستثناء الضوضاء المنبعثة من الحافلة، كانت الأجواء هادئة. سألت: «لمَ تستمع إليهما يا ليستر؟ لقد تركَتْ كارلين كلبك على قارعة الطريق لأنه مضَغ حذاءها الأحمر المفضَّل!» لم أَستطِع التحمُّل أكثر من ذلك. ضغط ليستر على الفرامل بقوة، موجهًا الحافلةَ مرةً أخرى إلى جانب الطريق قبل أن تَتمايل بسبب وقوفها المفاجئ. لم ينظر إليَّ ولم يتحرَّك. بدلًا من ذلك، جلس هناك، يحدِّق خارج النافذة الأمامية، تاركًا محرك الحافلة دائرًا. قلتُ: «كارلين هذه امرأة سيئة الطباع»، ثم أغلقتُ شفتيَّ بإحكام، على علمٍ أنَّني قلتُ بما فيه الكفاية. قالت لِيل بهدوء: «عزيزتي ميبس، ربما يجبُ أن تعُودي وفيش إلى مقعدَيكما.» قال ليستر: «لا، يا لِيل»، وارتعش فمُه بسبب الغضب أو الأسف أو كلَيهما. وتابع: «الفتاة محقَّة. لا أدري كيف عرفت بالأمر أو لماذا، لكنَّها على صواب.» ثم أخذ نفَسًا سريعًا ومسح أنفه في كمِّه. وأردفَ قائلًا: «كنتُ أعلم طيلة الوقت أن ﻛ… كارلين تخلَّصت مِن كلبي وكذبت بشأن ذلك. كلُّ ما في الأمر أنَّني … أنها … حسنًا، لقد وفَّرت لي هذه الوظيفة على أي حال.» ومسَّد عجلةَ القيادة أمامه بإصبع من أصابعه. ثم أضاف: «لقد أعطتني هذه الحافلة.» «ليستر البكَّاء.» «ليستر العاطفي.» «ليستر …» كرَّرت لِيل بلطف: «اذهبي واجلسي يا ميبس.» أمسكني فيش من ذراعي وقادني إلى أحد المقاعد. فرقعت بوبي فقاعة صنعتْها من علكتها ورفعت حاجبَيها نحوي، دون أن تقول شيئًا، لكنها بدتْ مُتعاطِفة مع محنتي. أما ويل فقد جلس على حافة مقعده، وأمسك المقعد أمامه بكلتا يدَيه، وكأنه على استعداد للقفز لمساعدتي. ترك ليستر مقود الحافلة دائرًا على جانب الطريق لعدة دقائق. بذلتُ غاية جهدي لتجاهُل إهانات كارلين وروندا المُؤلِمة لليستر. شعرت بالغثيان من استعداده للسماح بذلك النوع من الحديث في رأسه، وأقسمتُ ألا أسمح لأشلي بينج أو إيما فلينت أو غيرهما بأن يَحظيا بمثل هذه السيطرة عليَّ. لن أسمح لأصوات المُتنمِّرين أو الحقراء أو الأشخاص الذين لا يَعلمون عني شيئًا تقريبًا بأن تشقَّ طريقها إلى عقلي فلا تغادره أبدًا. في نهاية المطاف، استدار ليستر للِيل، وبدا رجلًا محطَّمًا يطلب الرحمة. وقال: «يجب أن أُسوِّي الأمورَ معها يا لِيل. أنا بحاجة إلى د… دفع الأموال التي جنَيتُها من اﻟ… الكتب المقدسة لكارلين، ولن يكون لي تعامُلٌ آخر معها، وسأكُون لكِ — إن كنتِ تريدينَني — هذا كل ما في الأمر.» ابتسمت لِيل ابتسامةً ضخمة تضاءلت ضخامةُ جسدها أمامها. وقالت: «بالطبع أريدك يا ليستر»، فتغيَّر تعبير وجه ليستر كليَّةً. وبدا كرجل عثر على ملاكه الحارس أخيرًا. «سأكون رجلًا سعيدًا إذن.» ملأ الصوت رأسي. وكان هذا هو صوت ليستَر نفسه.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/29/
الفصل التاسع والعشرون
اتَّضح أن كارلين امرأة كبيرة في جسدٍ ضئيل. كان لديها شَعر كبير، وأسنان كبيرة، وأظفار طويلة كبيرة، ونعلٌ وبَريٌّ كبير، لكن بقيتها كان غائرًا ومُنكمشًا ونحيلًا. بدت كساحرة ترتدي ملابسها كبطلة فيلم يُصور عيد الهلع. عندما قاد ليستر حافلة الكتب المقدسة الوردية الكبيرة إلى داخل منتزه «تاتل تيراس» للمنزل المتحرِّك، كانت كارلين تَجلِس بالخارج في مَقعَدٍ قابل للطيِّ. وكانت مُنهمِكة في قراءة جريدة «سانداي»، لا تَرتدِي شيئًا سوى فستان من الساتان اللامع، وتضع طلاءَ شفاه ورديًا صارخًا، تسرَّب إلى تجاعيدها المُنتشِرة حول شفتَيها، فبدَتا خشنتَين غير مُتناسقتَين. جلست المرأة، وقدماها خارج نعلَيها، فلاحظت أن أظفارَ قدمَيها سميكةٌ وطويلة ومطلية بنفس لون طلاء شفتيها. عندما رأت الحافلة قادِمة نحوها، طوت الجريدة، وعقدَت ذراعَيها فوق صدرها، دون أن تزعج نفسها بالنهوض من مكانها. لاحظتُ أنها تُضيِّق عينَيها، عبْر ضوء الشمس المنعكس على النوافذ المكسورة، لتنظر إلى بقيتِنا، مُندهشة بوضوح من نقل ليستر للركاب على متن الحافلة. قال ليستر وهو يتهيأ للنزول من الحافلة: «ﻳ… يستحسَن أن يبقى الجميع هُنا». لكن قبل أن يفعل ذلك، ظهر سامسون بجواري، وراح يتلوَّى ويهتز ويهمس في أذني. عبستُ لفيش الذي كان ينظر إلينا، ثم نادَيتُ ليستر وهو يفتح باب الحافلة. قلت: «يريد أخي الذهابَ إلى الحمام يا سيد سوان.» ضرب فيش جبهته براحة يده. وزمجرت بوبي في ازدراء، أما ويل فقد ضحك ضحكةً مكتومة. بدا ليستر مُرتبكًا قلقًا وهو يشاهد سامسون يتمايل بصمت في ممرِّ الحافلة. قالت لِيل كما لو أنهما زوجان قديمان: «يجب أن تأخُذَه معك يا ليستر.» فازداد ليستر بؤسًا فوق بؤسه. فاجأت بوبي الجميع قائلة: «سأصحبُه أنا»، ونهضت من مقعدها لتُمسك يد سامسون. وتابعت: «لا بد أن يُنقذ أحدٌ ذلك الفتى من تعاسته.» تناول سامسون يدَ بوبي بلا تردُّد، ومرَّا أمام ليستر، مُتجهَين ناحية باب الحافلة. لم نكن واثقين مما سيَحدُث لاحقًا؛ لذا تحركتُ وفيش وويل لفتح النوافذ المواجهة لمنزل كارلين المتحرِّك بحذر، ليتسنَّى لنا متابعة ما يجري بالخارج على نحوٍ أفضل. قادَت بوبي سامسون عبْر درْج الحافلة وتوقَّفا أمام مقعد كارلين. سألت بوبي بوضوح: «أتسمَحين لنا باستخدام حمَّام منزلك المتحرِّك يا سيدتي؟» صاحت كارلين: «ليستر!» في تجاهُل لبوبي الواقفة أمام المقعد، وألقت بالجريدة على الأرض، ودسَّت قدمَيها في نعلها الوبري. ثم هتفت: «ليستر أيها الغبي العديم الإحساس! تعالَ على الفور، وفسِّر لي ما يَحدث هنا! مَن هم هؤلاء الأطفال؟» كان سامسون يَرقُص في مكانه، ويشدُّ ذراع بوبي بقوة. فألحَّت بوبي: «هلا سمحت لنا بالذهاب يا سيدتي؟» لوَّحت كارلين إلى بوبي إشارةً لها بالانصراف، كأنها تَصرف ذبابة عن وجهها، واستدارت لتنقضَّ على ليستر وهو يَنزل من الحافلة. فسَّرت بوبي تلك الإشارة على أنها تأذَن لهما بالدخول، سواء أكان ذلك حقيقة أم لا، ودفعت بسامسون على عجالة، كي يَدخل إلى المنزل المتحرك ليبحثا عن الحمام. شعرتُ بتوتُّر شديد وأنا أشاهد سامسون وبوبي يختفيان في المنزل، كأنهما هانسل وجريتل أبطال قصة الأطفال الشهيرة «بيت الحلوى» ويخطوان إلى فرنٍ ضخم دون أن يدركا ذلك. ولا بد أن فيش وويل راودهما نفس الشعور أيضًا؛ إذ نظرنا إلى بعضنا قبل أن نندفع خارج الحافلة بسرعة، مُتجاوزين كارلين وليستر، ولحقنا ببوبي وسامسون داخلَ المنزل المتحرك، تاركين لِيل وحدَها في الحافلة تَنتظر ما ستئول إليه الأمور. كان منزل كارلين من الداخل مُعتمًا ومعبَّأ بالدخان؛ إذ كافحت أشعةَ شمسِ ما بعد الظهيرة لتلتمسَ طريقها للداخل عبر الستائر الشاشية الثخينة التي غطَّت جميع النوافذ. ملأت رائحة النفتلين النفَّاذة والشموع العِطرية أنفي وحلقي، وأصابتني بالسعال. كان أثاث كارلين مبهرجًا وقبيحًا، واكتظَّ كلُّ رفٍّ أو زاوية بالحلي والأغراض الرخيصة وغيرها من الأشياء الحقيرة الرديئة. انتهى سامسون من قضاء حاجته، تبِعتْه بوبي ثم أنا على الترتيب. خرجت من الحمَّام في اللحظة التي رأيت فيها سامسون يَنزلق تحت مفرش طويل يكاد يبلغ الأرضية ويَنسدِل على طاولة صغيرة، أمام حاجز لوحي يفصل بين غرفة المعيشة والمطبخ. كان يفعل ذلك، محاولًا التسلل للاختباء في مخبئه الجديد كعادته، لكنَّني أمسكت به من كاحله وسحبته إلى الخلف من تحت المائدة. قلتُ: «ليس الآن يا سامسون. ليس هذا هو المكان المناسب. ابقَ تحت أنظارنا، حسنًا؟» نظر سامسون إليَّ، بوجه مُتحجِّر جامد كعادته، لكنني لاحظت رغم ذلك كيف تهدَّلت كتفيه قليلًا. كنتُ سأطمئنه أننا سنُغادر قريبًا، وسنبلغ أمنا وروكيت في سالَينا في القريب العاجل، وسنَلتقي بأبينا، لكن في تلك اللحظة، اقتحمت كارلين المنزل المتحرِّك وليستر في أعقابها. كانت كارلين تَصيح وتُغطِّي أذنَيها بيديها. أما ليستر فكان يُحاول تسليمها رِزمة من النقود مشبوكةً بمشبك، لكنها لم تُعِره انتباهها. وراحت تتذمَّر عن افتقاره إلى الذكاء وحمقِه بصفة عامة، بينما أبعدت فيش عن رفٍّ مليء بتماثيلَ صغيرةٍ للحيوانات مصنوعةٍ من خليط من المعكرونة الجافة، وانتزعت من بين يدي ويل الابن كرةً ثلجية لمدينة «ميامي» المُشمِسة نصف فارغة ويتقاطر منها سائلها. صرخت كارلين وهي ترمق بارتياب بوبي التي كانت تَقف عند الأريكة ببساطة: «لن آخذ ذلك المال يا ليستر. لن آخذه لأنه ليس كافيًا بالمرة. عُد إلى هُنا عندما تَجني ضِعفه.» توقَّفَت كارلين عن الكلام فترة طويلة، لتجول ببصرها في أنحاء الغرفة وتنظر إلينا جميعًا، ووجهها مُلتوٍ ومنقبض، كأنها تحاول تذكُّر شيءٍ ما، ربما ذكَّرناها به. قال ليستر: «حسنًا يا ﻛ… كارلين. لا تأخُذي المال. ﻟ… لكن اعلمي أنني لن أ… أعود إلى هُنا، سواء أخذتِ هذا المال أم لا. سأمضي في طريقي.» صاحت كارلين وهي تُشيح ببصرها عنَّا وتَخطِف رِزمة المال من يد ليستر بجشع: «كيف تجرؤ على التحدُّث إليَّ بهذه الطريقة!» استشاطت المرأة غضبًا، وألقت بالكرة الثلجية المتقاطرة على رأس ليستر مباشرة. لكنه خفَّض رأسه، وانثنى في مكانه، ليتفادى الأغراض التي قذفتها كارلين نحوه؛ راحت التماثيل والصحون العتيقة تطير عبْر الغرفة، لترتطم بالحائط أو المصباح أو المائدة، بينما يُحاول ليستر تجنُّبها. كانت كارلين الواقفة أمامي بشَحمِها ولحمِها وكارلين التي في رأسي تَصرُخان وتصيحان بصوتٍ عالٍ حتى إن روندا عجزت عن التحدُّث جانبهما إلا بصعوبة. وبَّخته روندا: «ظننتُ أنني أحسنتُ تربيتَك أيها الفتى الغبي. ما لكَ وللشجار مع النساء!» زمجرت كارلين بينما طارت كلاب البودل المصنوعة من المعكرونة في الهواء: «يا لكَ مِن فاشل يا ليستر! كم أنتَ عديم النفع تمامًا!» «ليستر الأبله …» «ليستر …» «اخرسي!» حان دور ليستر ليُغطِّي أذنَيه ويَصرُخ، ويأمُر كل الأصوات بالتزام الصمت. وزأر بشجاعة داخل مقطورة كارلين قائلًا: «هذا يكفي! لقد سئمتُ منكِ يا كارلين. لا أبالي إن حرمتِني من وظيفتي؛ فسوف أجدُ طريقةً لأحافظ بها على حافلتي. لا أ… أكترث بابن عمِّك لاري، ولا أبالي بكِ!» ساد صمتٌ مُطبِق الغرفةَ. ولوهلة لم يتحرَّك أحدٌ من مكانه. وكبَح الجميع أنفاسَهم. ولم يتحدَّث أحد، بل لم يُفكِّر أحد. أنشأت روندا تقول: «حسنًا، لن …» ثمَّ خبا صوتُها بسرعة. ألقى صوت كارلين إهانتَه الأخيرة: «الأحمق …» في رأس ليستر قبل أن يخبو هو الآخر مثل ألسنة لهب مُحتضرة. أما كارلين الحقيقية، فتوقَّفت عن قذف أغراض الغرفة، وحملقَت إلى ليستر، عاجِزة عن الكلام للمرة الأولى، لكنها تذكَّرت فجأةً أن هناك جمهورًا يشاهدها، فتحركتُ أنا وبوبي وفيش وويل في أماكننا في توتُّر. انتابني شعور سيئ في أعماقي، وسرى وخزٌ في شعري الصغير خلف عنقي. نقلَت كارلين بصرها بيننا عدة مرات، ولاحظتُ أنها بدأت تتعرَّف علينا ببطء. لقد آن أوان الذهاب. قالت كارلين بخفوت وببطء مثل ثعبانٍ سامٍّ يُصدِر فحيحَه التحذيري: «يا … إلهي. هؤلاء هم الأطفال على التلفاز يا ليستر.» نقل ليستر بصَرَه من كارلين إلى بقيتِنا في ارتباكٍ واضح. كرَّر: «عن أيِّ تلفاز تتحدثين؟» تابعت كارلين وهي تتنحَّى جانبًا دون أن تُبعِد ناظرَيها عنَّا: «قصدت التنبيه على التلفاز … تنبيه الأطفال المفقودين. بحقِّ السماء يا ليستر! هل ساعدت أولئك الأطفال على الهرب؟» تلعثم ليستر: «ﻣ… ماذا؟ ﻟ… لا، أعني نعم. أقصد أنني ساعدتهم دون تعمُّد يا كارلين. د… دعيني أشرح لك!» لكن كانت كارلين تُحاوِل الوصولَ إلى الهاتف. وقالت: «يُمكنك شرْح الموقف للشرطة أيها الأبله المُختل.» وضغطت على أزرار الهاتف بأحد أظفارها الحادة الطويلة. «اﻟ… الشرطة؟» صحتُ وأنا أركض من مكاني بزاوية الغرفة: «لا نُريد الشرطة يا ليستر!» قبضت على ذراع ليستر وحاولت دفعه ناحية الباب. قلتُ: «يجب أن نذهبَ إلى سالَينا يا ليستر! سيكون كل شيء على ما يُرام عندما نبلغ سالَينا، لكن يجب أن نتحرَّك الآن!» انضمَّ إليَّ بوبي وفيش وويل في إخراج ليستر من المنزل المُتحرِّك ودفعه صوب الحافلة. صرخنا ونحن نحثُّه على الجلوس في مقعد القيادة: «يجب أن نُغادر يا ليستر!» بينما سَحب ويل ذراع التحكم ليغلق بابَ الحافلة خلفنا. تحرَّك ليستر ببطء، كأنه في غيبوبة، وشغَّل مقود الحافلة وهيَّأها للتشغيل بلا وعي تقريبًا. كان عقله لا يزال يستوعب ما حدث، ويحاول الحكمَ على إن كان ما يفعله صوابًا أو خطئًا. سألت لِيل مُستفسِرة: «ماذا يجري؟» وكانت قد مكثت في الحافلة كي تفسح لليستر المجال لخوض معاركه الخاصة. لكنَّنا لم نهدِر الوقت في شرح الأمر لها. صاحت بوبي: «هيَّا!» في الوقت الذي خرجت فيه كارلين من الحافلة، وهي تلصق هاتفها اللاسلكي بأذنها، وتلوِّح بيدها وتُشير، كأن الشرطي في الطرف الآخر من الخط يستطيع رؤيتنا أثناء فرارنا. عُدنا إلى الطريق السريع، وليستر يتصبَّب عرقًا، ولِيل مُنقبِضة مُحتارة قلقة. جلسنا متأهبين، نراقب الطريق من النوافذ، تحسبًا أن يكون هناك أيُّ وميض تحذيري أو صفارة إنذار في أعقابنا. تذكَّرت مرةً أخرى أن ما حدث هو خطئي وحدي، وأنَّنا ما كنَّا لنُصبحَ هُنا لولا ما فعلتُه، ولولا هِبَتي الخارقة التي جاءت وألقت بي في اليمِّ مباشرة. تأزَّم الموقف أكثرَ، عندما توقَّف عقلي عن التفكير في مدى تعاستي وبؤسي، وأدركت شيئًا أكثر إثارة للرعب وللألم المفاجئ كأنني أُصبتُ بشلل في الدماغ. نهضت على قدمي، وبحثت حولي، وقلبي ينبض بسرعة. سألتُ: «أين سامسون؟»
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/30/
الفصل الثلاثون
كرَّرتُ سؤالي في هلع: «أين سامسون؟» تعثرتُ، وأنا أتَّجه إلى مؤخِّرة الحافلة، وقلبت سرير ليستر النقَّال رأسًا على عقب. انضم الآخرون إليَّ، فأفرغنا الصناديق الكبيرة، وتفقَّدنا أسفل المقاعد كلها. لكن ذهبت جهودنا سدًى. لم يكن سامسون مُختبئًا بأي مكان. ببساطة لم يكن على متن الحافلة. شرعنا نَصيح: «يجب أن نُغيِّر مسارنا! لا بدَّ أن نعود!» لكن كانت أصابع ليستر مُلتصقة بعجلة القيادة بينما نظر إلى الطريق السريع أمامه نظرةَ رجل يتقبَّل حقيقةَ انتهاء حياته وأنه ربما سيقضي ليلته في السجن لمحاولة فعل الشيء الصحيح بالطريقة الخطأ. أحسستُ بالذنب، وأنا أتذكَّر العهد الذي قطعته على نفسي، بالحفاظ على سلامة لِيل وليستر وإبعادهما عن المشكلات. لكن لا يمكنني التضحية بأخي من أجلهما؛ لا مفرَّ من الرجوع، ولو كانت الشرطة في طريقها إلى هُناك. نهضت لِيل من مقعدها، ووقفتْ بشموخ بيننا وبين ليستر، الذي واصل القيادة بعيدًا عن منتزه «تاتل تيراس» للمنزل المتحرك. سألت لِيل مُستفسِرة، بنبرة هادئة لكنها صارمة كنَبرة أي أمٍّ: «ماذا يجري هُنا يا صغار؟» هتف فيش: «سامسون غير موجود في الحافلة!» وهبَّت زوبعةٌ طيَّرت شَعر لِيل عن وجهها وتسبَّبت في ارتفاع الحرارة والرطوبة داخل الحافلة على نحو ملموس. كزَّ أخي على أسنانه، وكوَّر قبضتَيه، وهو يُحاول مُصارعة هِبَته الخارقة قبل أن يُواصل الكلام. وقال: «لا بدَّ أن سامسون في مقطورة كارلين. يجب أن نعود!» اتَّسعت عينا لِيل ونظرت إلينا في صَدمة. وسألت: «هل تركنا الطفل خلفنا؟» أومأنا لها في صمت. فدارت على عقبَيها واتَّجهت ناحية ليستر. وقالت: «عُد بالحافلة يا ليستر!» تلعثم ليستر: «ﻟ… لكن … لقد اتَّصلت كارلين بالشرطة.» وضعت لِيل يدَها على كتفِه المُرتجفة المتشنجة لتبث الطمأنينة في قلبه قائلة: «لا يهمُّ يا ليستر. يجب أن نعود.» واصل ليستر تقدُّمه للأمام ربع ميلٍ قبل أن يعلن استسلامه. ثم انعطف بحدَّة وسرعة شديدة لا تليق بحافلة مدرسية قديمة، ولوهلة ظننت أن الحافلة الوردية الكبيرة ستنقلب لا مفر. لذا تشبثنا بما وجدناه، حتى نتجنَّب السقوط، بينما تدحرجت صناديق الكتب المقدَّسة وانزلقت. لمَّا دنونا من منتزه المنزل المُتحرِّك سمعنا صوت صَفَّارة إنذار قادمًا من بعيد. شحَب وجه ليستر — وهو يُمسك بعجلة القيادة — مثل أشباح جيبسي الخيالية. كانت الشمس وقت العصر قد انزلقت خلف السُّحُب الداكنة الكثيفة المتصاعدة في الأفق، وبدأت السماء تصطبغ بلون أخضر رمادي غريب. تذكَّرت كم كنا قريبين من الكتلة المائية الكبيرة، بحيرة «تاتل كريك»، ونظرت إلى فيش نظرة تحذيرية. صاح فيش وهو يكزُّ على أسنانه: «أنا بخير.» لكنني ظللتُ أراقب هذه السُّحب. وشعرت أن ثمة أزمة تلوح في الأفق. وفي تجاهلٍ لصفَّارات الإنذار انعطف ليستر إلى المنتزه. ولم يكد يفتح باب الحافلة، حتى اندفعنا جميعًا، ومعنا لِيل، خارج الحافلة كما لو كنا نركب رياح فيش. تبعنا ليستر، وهو يتفقَّد تغيُّر الطقس، كانحناء الأشجار وتمايلها، وقرقعة مقعَد كارلين في الشارع مع النُّفايات الأخرى التي حملتها العاصفة الوشيكة. كانت كارلين واقفة في مدخل منزلها المُتحرِّك. وصاحت بصوتٍ عالٍ فوق هدير الرياح بينما ركضنا نحوها وسط بشائر المطر الأولى: «الشرطة في طريقها إلى هُنا يا ليستر.» سألتُ عندما بلغت مكان المرأة: «أين سامسون؟» كنت ألتقط أنفاسي بصعوبة من شدة الهلع. كرَّرت سؤالي: «أين أخي؟» لا بدَّ أن سامسون بالداخل. فلا يذكر أحدٌ رؤيته يُغادر المقطورة. تحرَّكت بوبي ولِيل صوب الباب، لكن كارلين أعاقت تقدُّمهما بذراعيها النحيلتين المفرودتين. قالت كارلين، وقد التصق أحمر الشفاه الوردي بأسنانها عندما رفعت شفتها العليا في استهزاء: «هذا منزلي، وأنتم الآن تقتحمونه.» كانت صفَّارات الإنذار تقترب من المكان. فابتسمت كارلين. ثم أضافت: «هل تركتُم أحدًا وراءكم؟ حسنًا، الطفل بخير وسلامة، وهو مُحتجَز حتى تصل الشرطة إلى هُنا.» سألت لِيل بصوت مدوٍّ كالسماء الراعدة فوق رءوسنا: «محتجز؟ أتقولين إنه محتجز؟ إنه مجرد طفل!» سأل ليستر دون تلعثُم أو تأتأة: «أين هو يا امرأة؟» أظلمت السماء أكثرَ فأكثر، وتحرَّكت الرياح في كل اتجاه، تَحمِل أصوات صفَّارات الإنذار القادمة في ذهابها وإيابها. لكن كارلين اكتفت بالنظر إلينا، بغرور وعناد، والسخرية منَّا بعينيها. قالت: «لن تجدوه أبدًا. فهذا الطفل بارع في الاختفاء حسبما أرى.» قال ليستر: «أنتِ تعرفين مكانه، أليس كذلك؟» بنَبرة مَن ينصُّ على الحقائق لا مَن ينتظر الإجابة. فهزَّت كارلين كتفَيها بلا مبالاة. وشدَّت لِيل قامتها متوعدة، وحلَّقت فوق المرأة الصغيرة مثل مُنتقِم سماوي؛ كانت نظرة عينيها قاسية مثل العاصفة المتصاعدة من البحيرة التي يبذل فيش غايةَ وسعه حتى لا تَندلِع بكامل قوَّتها. لكن كان الأمر يفوق قُدرة أخي. تمكَّن منه غضبُه وقلقه، فأطلق جِماح هِبَته الخارقة، وصوَّب زوبعةً ناحية كارلين، قذفت بها إلى الجدار البعيد في المدخل. تَدحرجنا داخل المنزل المُهتز، وقفزنا أمام كارلين، لنبحث عن سامسون في كل مكان. كان أول مكان فكَّرت في البحث فيه هو أسفل فراش المائدة الطويل عند حاجز المطبخ. لكن لم يكن سامسون هناك. انتشرنا في كل مكان وبحثنا تحت السرير وخلف الأثاث. تفقَّدنا خِزانات الثياب والصحون. وأفرغنا سلة الغسيل، ونظرنا خلف الستائر وستارة الحمَّام. كما ذهب بي الأمر إلى تفقُّد الموقد تحسبًا لاختبائه هناك. وأثناء ذلك الوقت، ثارت رياح فيش الغاضبة داخل وخارج المنزل المتحرِّك، فتمايلت الستائر ورفرفت، وتطايرت جميع الأوراق غير المثبتة وذرات الغبار الرمادية في الهواء، بل كاد سقف المنزل القديم ينخلع من مكانه. انهمكتُ في تفتيش الخزانة القابعة عند المدخل عندما اخترقت أول عربية شرطة ستار المطر لتتوقف وراء حافلة الكتب المقدسة الوردية في ضجة فوضوية متعدِّدة الألوان. حينها خطرت لي فكرة. وعلمتُ كيف أُجبر كارلين على إخباري بمكان سامسون. كان كلُّ ما أحتاج إليه هو قلمي.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/31/
الفصل الحادي والثلاثون
مددتُ يدي أسفلَ جيب تنُّورتي، أبحث عن هدية عيد ميلادي السعيد الفضية الفاخرة، لكنني وجدت قطعة صابونة مغلفة مكسورة عديمة الفائدة. وتذكَّرت أن ويل الابن استعاد القلم سابقًا. كان ويل لا يزال يبحث في غرفة النوم في مؤخرة المنزل، وأدركت أن كارلين بصحبتِه؛ إذ سمعت صوت صراخها كي يتوقَّف عن نزع الأغطية عن سريرها. راقبت المشهد بالخارج، عبْر نافذة رفيعة مُثبتة في الباب الأمامي، ورأيت شرطيين يخرجان من سيارة الدورية ويندفعان، عبْر المطر، تجاه المقطورة. أغلقت مزلاج الباب بسرعة، ووضعت مقعدًا ثقيلًا أمامه كي يُعطيَنا مزيدًا من الوقت، على أملِ أن نجد مخرجًا من ذلك المأزِق. ركضت في الممر الضيق، قاصدة غرفة النوم، ومررت بالآخرين في طريقي إلى هُناك. كان ليستر ولِيل في المطبخ يفتِّشان خِزانات الصحون مرةً أخرى. وانهمكت بوبي في تفقُّد الغسالة والمجفِّف. أما فيش فقد كان يجلس على أرضية الحمَّام واضعًا رأسه بين يدَيه ومُغلقًا عينيه بإحكام. كان يناضل للسيطرة على العاصفة بالخارج. هتفتُ، وأنا أمرُّ بجانب أخي، كي أبثَّ الطمأنينة في صدره: «ستكون الأمور على ما يرام يا فيش! أعلم ما يجب أن أفعله!» هبَّ فيش واقفًا، ولحِق بي إلى غرفة نوم كارلين، تلاحقه بوبي. صحتُ: «ويل! أريد قلمي!» أوقف ويل لعبةَ شدِّ الحبل العنيفة التي كان يلعبها مع كارلين بغطاء السرير، وفجأة ترك طرف الغطاء الذي كان يمسك به، فسقطت المرأة العجفاء على ظهرها وانطرحت في سلة الغسيل الفارغة الآن، وتخبَّطت ذراعاها وساقاها وتصارعت، وانخلع أحد نعليها الوبريَّين وحلَّق الآخر في الهواء ليرتطم بالسقف فوق رأس بوبي مباشرة، لكنها خفَّضت رأسها في اللحظة المناسبة فتفادت الضربة. كان الوقت قد نفد منَّا تقريبًا. وسمعت صوت طرقات الشرطة على الباب الأمامي. مددت يدي، مثل جرَّاح يَطلب مِشرطًا من مساعده، وهتفت: «ويل! القلم!» دسَّ ويل يده في أعماق جيبه، وأخرج القلم الفضِّي ووضعه في يدي بسرعة؛ إذ كان يعلم ما الذي أنوي فِعله تحديدًا. انقضَضنا على السرير، مُتجمهرين حول المرأة في السلة، نُحاول أن نبقيَها في مكانها. أنشأت كارلين تصرخ صراخًا مزبدًا حادًّا صاخبًا، كأنَّنا نحاول الإمساكَ بقطة برية. طرقت الشرطة البابَ مرةً أخرى وأدركت أنه لم يَعُد لديَّ وقت. صرخت كارلين: «ساعدوني! أنقذوني!» فضربها فيش بسوطٍ آخر من الرياح، فانتفضت وأمالت رأسها إلى الجانب، لكن هذا لم يُوقفها عن المواء. «ساعدوني! هناك مَن يهاجمني!» أخرجت بوبي لفافة «بابل تيب» من جيب بنطالها الجينز، من أجل إسكات المرأة، وسحبت مقدار ذراع وقطعته. لفَّت بوبي الشريط الطويل على هيئة كتلة مُحكمة في يدها، ثم انحنت للأمام ودسَّت تلك الكتلة الكبيرة داخل فم كارلين الصاخب المفتوح، فكتمَت صرخاتها ولو لفترة قصيرة. نزعتُ غطاء القلم وأمسكت بإحدى قدمي كارلين التي تركل الهواء؛ إذ كانت الجزء الوحيد من جسدها الذي يمكنني الاقتراب منه. قالت المرأة: «اتركيني!» بصوتٍ مكتوم، لامتلاء فمِها الضخم بعلكة «بابل تيب» ذات العُصارة الكثيرة اللزجة، وحاولتْ بصْق العلكة، لكنَّها عجزت عن اقتلاعها من أسنانها. ركلتني مرةً أخرى، محرِّرة قدَمها من قبضتي، وانتشر شَعرها الكبير حول رأسها مثل لُبدة، كأنَّ القطة الغاضبة بدأت تتحوَّل إلى أسدٍ. صرختُ: «حاوِلوا تثبيتَها، لا أحتاج سوى ثانية واحدة!» حاول فيش وبوبي تثبيتَ ذراعَي كارلين، أما ويل فقد أمسك بقدمَيها. ركلت كارلين ويل في صدره بقوة، فألقتْه إلى الوراء وارتطم بالسرير، لكنه نهض بسرعة وأمسك قدمَيها بإحكامٍ أكبر. استغرق الأمر أقلَّ من ثانية لوضعِ نقطة ونقطة أخرى ثم خطٍّ طويل بما يَكفي لرسم وجهٍ بسيط أسفلَ قدمِ كارلين اليُسرى الخشِنة المتشقِّقة. سألت: «أين أخي؟» وأنا أحاول إسكات جميع الأصوات الأخرى داخل رأسي عدا صوت كارلين، لكن وجدت صعوبةً في تجاهُل صوتِ الطَّرقات على الباب الأمامي الذي أخذ يعلو أكثرَ فأكثر، ونقرات قطرات المطر على هيكل المنزل المتحرِّك الخارجي المعدني. كرَّرت سؤالي: «أين هو؟» صارخة في كارلين، ثم توقَّفتُ كي أُنصت إلى صوت أفكارها الوحيد. أجاب صوتُ كارلين في رأسي: «لقد دخل إلى هُناك بنفسه ذلك الجرو المتطفِّل القذر»، بينما طرَفَت النقطتان اللتان تمثِّلان عينَي الوجه المرسوم على قدمِها. أضاف الصوت: «كلُّ ما فعلته هو أنني أغلقت اللوح حتى لا يتمكَّن من الخروج.» سألت: «عن أي لوح تتحدَّثين؟ أين هو؟» ولوهلة توقَّفت كارلين عن المقاومة، ونظرتْ إليَّ في اندهاش. كرَّرتُ سؤالي: «إلى أين دخل سامسون بنفسه؟» في نهاية المطاف، بصقت كارلين العلكة اللزجة الثخينة من فمها وألقت بها، فهبطت على السجادة قريبًا من فيش كأنها قطعة لحم ممضوغة. لكنها لم تتفوَّه بكلمة واحدة. بل نظرت إليَّ بمكرٍ وفضول. سأل الوجه المرسوم على قدم كارلين في رأسي: «كيف علمت الفتاةُ بشأن اللوح؟» وضاقت عيناها وهي تَفحصُني بإمعان. أصابتْني المرأة بالقشعريرة. بدا الأمر كأنها تقرأ عقلي تقريبًا، فساوَرَني الخوف لحظة. ماذا لو اكتشفَ شخص سيئ مثل كارلين سرَّ عائلة بومونت والأشياء التي تدعهم هِبَاتهم الخارقة يفعلونها؟ لكن قبل أن أقلق بشأن ذلك، جذب انتباهي صوتٌ جديد تمامًا داخل رأسي بدا مكتومًا وبعيدًا مثل جرسٍ مخفيٍّ لا يدقُّ إلا نادرًا. ذكرني ذلك الصوت ﺑ… «سامسون!» قال الصوت في رأسي: «أنا في الحائط.» ثم تضاعف الصوت. «أنا في الحائط … أنا في الحائط.» أرهفت السمع، ومرَّت الثواني وأنا لا أزال أتجاهل صوتَ كارلين والآخرين، وتضاعف صوت سامسون مرةً تلو الأخرى، حتى تداخل مع نظرائه الكثير من المرات، وتحوَّلت الكلمات إلى ثرثرة مشوشة رنَّانة. أنا في الحائط. أنا في الحائط … أنا في الحائط. أنا في الحائط … أنا في الحائط … أنا في الحائط. أنا في الحائط … أنا في الحائط … أنا في الحائط. أنا في الحائط … أنا في الحائط. أنا في الحائط … أنا في الحائط. أنا في الحائط. رفعتُ يدي كأنني أحاول إسكاتَ بعض الأصوات، على وعي أن الآخَرين، بما فيهم كارلين، يُراقبونني بفضول شديد. قلتُ: «إنه سامسون. يُمكنني سماعه. يقول إنه موجود في الحائط. ماذا يعني ذلك؟» نقل الجميع أنظارهم منِّي إلى كارلين في صدمة وحيرة. صاح فيش في كارلين، فطيَّر لُبدتها الكثَّة الشقراء للوراء، وجعلها تضيِّق عينيها أمام زوبعته العاصفة. وهتف: «أخبرينا بمكانه!» لم أنتظر إجابة كارلين. ألقيت بقلمي وقدمِ كارلين القبيحة في الأرض، وقفزت واقفة في مكاني ثم اندفعت خارج غرفة النوم بسرعة البرق، ألاحق صوتَ سامسون كأنني ألعب معه لعبة التخمين، حتى وجدتُ نفسي أقف مرةً أخرى أمام الطاولة التي حاول سامسون الاختباء تحتها في وقت سابق. ففي ذلك المكان علا صوته لأقصى درجة، لكنَّني تفقدت هذا المكان بالفعل … أنا في الحائط. أنا في الحائط … أنا في الحائط. أنا في الحائط … أنا في الحائط … أنا في الحائط. أنا في الحائط … أنا في الحائط … أنا في الحائط. أنا في الحائط … أنا في الحائط. أنا في الحائط … أنا في الحائط. أنا في الحائط. نظرت إلى الحاجز اللوحي خلف الطاولة مُباشرة ولاحظت أن ألواحه غير مُستوية ومتراكبة أحدها فوق الآخر مثل أبواب خزانة ملابس صغيرة جرَّارة. لم يَخطر ببالي من قبلُ أنه يُمكن فتْح هذه الألواح. تبعني الآخرون إلى غرفة المعيشة وراقبوني أركع على الأرض عند الحاجز وأطرق على الألواح، وأنا أنادي سامسون بينما أبحث عن طريقة لأفتح بها الألواح. لم يَستغرِق الأمر مني سوى ثانية للعثور على المزلاج وفتح اللوح الأول. هتفت: «إنه هُنا! إنه هُنا!» كان سامسون جالسًا بالداخل مُتكوِّرًا — ملصقًا ركبتَيه بصدره — وسط تشكيلة من النُّفايات والحُطام. وقد تكدَّست حولَه ملفاتٌ قديمة وصناديقُ أحذية مغبَّرة داخل منطقة التخزين المَخفية، بالإضافة إلى أكياس من الملابس القديمة وبضع مَقَالٍ وأوعيةٍ مكسورة المقابض. طرَف سامسون بعينَيه إلينا من مُحتجَزه المخفي كأنه لم يحدُث شيء خارج عن المألوف. وكانت يده قابضة على قلم حبر بلاستيك أسود، لا بد أنه وجده في وحدة التخزين واستخدمه كي يرسم على جميع أنحاء جسده. كانت هناك خربشات ورسومات عابثة تهتز أعلى ذراعيه وأسفلها، وزيَّنت بشَرتَه وجوهٌ سعيدة ونجوم وسفن صاروخية وروبوتات وحشرات، راحت تنتقل وتتحرَّك وتُثرثر في جوقة مجلجلة فوضوية داخل رأسي. أخرجت سامسون من الجدار، وحضنتُه بشدة، وحاولت الإنصات إلى أفكاره. بعد أن سُمح لي بالدخول إلى عالَمه الداخلي، تمنَّيت لو أنه لم يملأ جسدَه بكلِّ هذه الرسومات؛ لأنَّني لا أستطيع فهْم كل هذه الضوضاء. لكنَّني كنتُ سعيدة برؤيته؛ لذا لم أكترث بالبقية. وبدا مزيج أصوات سامسون داخل رأسي مثل موسيقى جميلة. فور العثور على سامسون، احتشد الجميع حولنا فجأة … ظهرت لِيل وليستر من المطبخ وعلى وجهَيهما أمارات الارتياح … خرجت كارلين من غرفة النوم، تلوِّح بمِقشَّة ناحيتنا كأنها تُخطِّط لكَنسنا جميعًا خارج بيتها، أو ربما تُفكِّر في اعتلاء المِقشَّة واقتحام العاصفة … وفوق ذلك، اختارت الشرطة هذه الدقيقة تحديدًا لتحطيم الباب.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/32/
الفصل الثاني والثلاثون
كانت الساعة التالية عبارة عن فوضى تامَّة. وصلَت سيارات شرطة إضافية إلى مسرح الأحداث، في غضون ثوانٍ من وصول الأولى، واقتحم أفراد الشرطة بملابسهم المبتلة التي تقطُر ماءً منزلَ كارلين. وتدفَّق المُحقِّقون إلى المنزل وحافلة «هارت لاند» لتوريد الكتب المقدسة. ونظرًا لتوقُّف الأمطار وصفاء السماء، تناثَر الجيران الصاخبون في الشارع، فَرِحين بالحصول على بعض الترفيه الحقيقي في هذا الوقت الهادئ من يوم الأحد، كي يُشاهدوا انتهاء العاصفة وما ستئول إليه الأحداث الدرامية. أخذ شخصٌ ما المِقشَّة من يد كارلين، واصطُحب الراشدون الثلاثة — ليستر ولِيل وكارلين — إلى الخارج للتحدُّث مع الشرطة. أشرفت على رعايتنا وحمايتنا اختصاصية اجتماعية من هيئة رعاية الأطفال، وكانت امرأةً في مُنتصَف عمرها ترتدي سروالًا رسميًّا رماديًّا وحذاءً بلا كعب. تكلَّم الحاضرون حولنا، لكن كانت أصواتهم خارج رأسي؛ لذا كان يمكنني تجاهلها؛ كنت أستطيع إسكاتها والتركيز على سامسون. كان بوبي وويل وفيش يجلسون جنبًا إلى جنب على أريكة كارلين. استلقَت بوبي على الوسائد، في تظاهُر مثالي بملل المُراهِقين، تَنفخ قطعة علكة جديدة وتُفرقعها، ما أثار استياء الاختصاصية الاجتماعية بوضوح، بينما راقب ويل الضباط القادمين والذاهبين بانتباه. أما فيش فقد شحَب وجهه؛ بعد أن هدأت عاصفته بمُجرَّد العثور على سامسون، لكن محاولات السيطرة على العاصفة، تركته تعبًا منهكًا. جلستُ وسامسون على الأرض أمام الآخرين، وأسندنا ظهرَينا إلى مقدمة الأريكة. قبعت يد سامسون المليئة بالرسومات في يدي؛ وكان لا يزال قابضًا على قلم الحبر بإحكام. ومن حين إلى آخر، كنتُ أفهم كلمة أو عبارة من خليط أفكاره، ورغم عدم منطقية هذه الأصوات وعذوبتها إلا أنها سرعان ما آلَت إلى لحن هادئ في الخلفية. بعد فترة وجيزة، انضم المسعِفون إلى الحشد، وقدَّموا لنا أغطية وماءً، واطمأنُّوا على كل واحد منَّا على حدة؛ وطرحوا علينا الكثير من الأسئلة، والتقطوا صورًا لعين ويل المسودَّة ووجه فيش المليء بالخدوش. حاولنا أن نَشرح لهم ما حدث مرارًا وتكرارًا، وانهمك المسئولون في تدوين الملاحظات في أوراقهم. حاولت أن أخبر الضباط والاختصاصية الاجتماعية والمُسعفين أن ما حدث هو خطئي وحدي. حاولت أن أحدِّثهم عن أهمية ذهابنا إلى أبي في القريب العاجل! فكلُّ هذه الدقائق الثمينة التي تمرُّ كان من الأولى بنا أن نقضيَها معه. كرَّرت في انفعال: «أنا المسئولة! والذهاب إلى سالَينا هو فكرتي أنا. أنا مَن خطر له التسلُّل إلى الحافلة. وأنا مَن وردتني فكرةُ خِداع لِيل حتى تظنَّ أننا اتصلنا بالمنزل.» أنصت إليَّ الراشدون بطريقتهم الخاصة، وأَوْمَئوا برءوسهم. لكنَّني شككتُ أن يكون أحدٌ صدَّق كلامي … رغم أنني لم أتعرَّض في الحديث إلى هِبَتي الخارقة. شعرت أن وضع ليستر ولِيل يتأزَّم بسرعة، وقلقت كثيرًا بشأنهما، وغشاني شعور بالخِزي من أكاذيبنا والخدع التي مارسناها عليهما. لم أعتنِ بهما كما يجب. لم يكن مُستقبل كارلين مبشرًا أيضًا؛ لأنها احتجزت سامسون في مخزنها وما شابه. لكنني لم أكترث لأمرها كثيرًا. فهي امرأة فاسِدة بغيضة. سألتُ الاختصاصية الاجتماعية التي كانت ترتدي سروالًا رسميًّا رماديًّا، على أمل أن يكون وردها أيُّ معلومات: «أسمعتِ شيئًا عن حالة أبي؟ هل سنَذهب إليه قريبًا؟» لكن كل ما فعلتْه هي أنها ابتسمت ابتسامةً آسِفة كان من الواضح أنها مُتمرِّسة عليها. وكلما سألتُ أحدًا، أجاب: «لا نعلم بعدُ»، أو «جاري حاليًّا تسويةُ الأمر»، أو الأسوأ من ذلك: «اجلسي من فضلك بهدوء ودعي الشرطة تقوم بعملها.» كانت الجلبة أبعدَ ما تكون عن الانتهاء. فقد بدأ أفراد شرطة كِنساس يتوافدون على المكان، وانضمَّت سيارتان إضافيتان إلى الشارع المُكتظ المُوحل. من مكاني تمكَّنتُ من مُراقبةِ ما يحدُث عبْر الباب المحطَّم. وبدأت أُفكِّر أننا لن نبلغ سالَينا أبدًا. فقد بدا الأمر كأنَّ هناك ترتيباتٍ لانتظارِ وصول القس ميكس والسيدة روزماري، وأخذنا جميعًا من مانهاتن، ثم إعادتنا إلى هيبرون. لن أسمح بحدوث ذلك. لقد قطعنا شوطًا كبيرًا لدرجةِ أننا لا يمكن أن نعود إلى البيت الآن. خرج أحد ضباط الشرطة من سيارته الفضية اللامعة في عُجالة، حتى إنه لم يعبأ بارتداء قبَّعته المنبعجة المضحكة. وقطع الممشى القصير راكضًا باتجاه المنزل المتحرك. كان شَعره الداكن قصيرًا، وقد صفَّفه بعناية شديدة، ووجهه الغض مُنقبضًا من التوجُّس. بدا الضابط مألوفًا وأدركت أنه النسخة الكبيرة الحليقة المفتولة العضلات من ويل الابن. لا بدَّ أن هذا الشاب هو بيل أخو ويل وبوبي. لم أرَ نظرةَ ارتياح من قبلُ كتلك التي رأيتُها على وجه بيل عندما وجدنا جميعًا جالسين في غرفة المعيشة سالمين معافين. صرختْ بوبي: «بيل!» وقفزت مِن مكانها مع ويل، فور أن رأياه قادمًا نحوهما. اندفعت بوبي لتُحيط صدرَ أخيها الكبير بذراعيها. وتَراجع ويل للخلف محرَجًا نوعًا ما. سأل بيل: «هل أنتِ بخير يا روبِرتا؟» أجابت: «نعم، أنا بخير»، وأرْخت ذراعيها وتراجعَت للخلف. بمجرد أن حرَّر بيل بوبي، جذب ويل في عناق حارٍّ، وبدا كأنه لا يخطِّط لإطلاق سراحه مطلقًا. وواصلا على ذلك الحال. وسمعتُه وهو يَهمِس لويل بمحبة: «ما الذي كنتَ تُفكِّر به يا صغيري؟ هل تبحث عن المشكلات مثلما فعل أبوك؟ لا تُحاول أن تتصرَّف مثلي يا ويل. أنتَ أذكى من ذلك بكثير.» استغرق الأمر لحظةً كي أفهمَ ما يجري حولي. بدا أنني كنتُ مُخطئة للغاية عندما ظننت أن ويل الابن أخو بوبي. كان لدى ويل سرٌّ. والآن عرفت سرَّه. أدركت أن بيل كان حديث السن عند ولادة ويل بلا شك. وتصوَّرت السيدة روزماري، وميلها لوضع كل الأمور في نصابها والقيام بكل شيء على أكمل وجه، وهي تأخُذ على عاتقها مسئولية تربية حفيدها. هذا يجعل اسم ويل الابن منطقيًّا على أي حال. أطلق بيل ابنه من بين ذراعَيه، وهو يُكفكف دموعه ويبذل غاية جهده لاستعادة الهدوء اللائق بالشرطي، وحينها رأيتُ أن فرصتي قد حانت أخيرًا لأحكي قصتي لشخصٍ قد يعيرها انتباهًا. هتفتُ، وأنا ليست لديَّ أدنى فكرة بمَ أنادي هذا الرجل: «أيها الضابط ميكس؟ … أوه، يا سيد … بيل … سيدي؟» لكنه عندما التفتَ إليَّ، رُحت أصارع نفسي؛ إذ كنت أعلم أنه لا بد لي من الدفاع بكل قوَّتي عن لِيل وليستر، حتى أُخرجهما من المأزِق الذي أقحمتُهما فيه. تابعتُ: «يجب أن تصدقني يا سيدي؛ فما حدث هو خطئي وحدي! أردت رؤية أبي فحسب!» ثم انفجرتُ باكيةً.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/33/
الفصل الثالث والثلاثون
انفجرتُ باكية، وأنا أجلس على أرضية غرفة المعيشة الخافتة الإضاءة، على بُعْد ستين ميلًا من مشفى «هوب» في سالَينا وأبي وأمي وروكيت، ولم أستطِع التوقُّف. ولم يكن بكائي رقيقًا جميلًا. بل كنتُ أنوح بشدة، ويسيل المخاط من أنفي، وآخذ أنفاسًا مُتحشرجة، وأهذي بكلام غير مفهوم. خطا وِيل مُبتعدًا عن أبيه كي ينحنيَ جانبي ويتناول يدي بيده. مال سامسون عليَّ. وسارت الاختصاصية الاجتماعية إلى الحمَّام وأحضرت علبة مناديل، لكنني كلما أخرجت منديلًا، فاحت منه رائحة النفتلين وكارلين، وبكيت بحرقة أكبر. قال بيل بلُطف: «لا بد أنكِ مسيسيبي بومونت.» أتى ويل لنجدتي، وأصرَّ قائلًا: «إنها تحبُّ أن يُناديَها الآخرون «ميبس» يا أبي.» سحب بيل مقعدًا على مقربةٍ مني وجلس على حافته. وسأل: «هل هذا صحيح يا ميبس؟» أومأت وسط النشيج، وأنا أحاول أن أستعيد رِباطة جأشي، حتى لا أعطيَ أسوأ انطباع مُمكن في أول لقاء. لاحظت أن بيل يَنظر إلى يد ويل القابعة فوق يدي، ولوهلة، بدا الضابط ميكس في ذروة شبابه. قال بيل بلُطفٍ، جعَلني أرغب في أن أبكيَ أكثر: «لقد عانَيت الكثيرَ في الأيام الأخيرة. أَعلم أن أباك في مَشفى سالَينا، وأعلم أنكِ كنتِ ترغبين في الذهاب إليه، أليس كذلك؟» أومأتُ باكيةً مرة أخرى. قال بيل: «إذن أعتقد أننا ينبغي أن نُحقِّق لكِ ما تُريدينه.» نظَر الجميع إلى بيل ميكس كأنَّهم يشكُون في صحَّة ما سمعُوه. كما تطلَّعت إليه الاختصاصية الاجتماعية بدَهشة. أنشأت الاختصاصية تقول: «لا يُمكنك أيها الضابط …» لكنها توقَّفت عندما نظر إليها بصرامة. طلب بيل من الاختصاصية أن تَمنحنا بعضَ الخصوصية كي نتجاذبَ أطراف الحديث. أراد بيل أن يُنصت إلى قصتنا من بدايتها إلى نهايتها بنفسه. تشاركنا جميعًا في حكاية القصة بينما تراجعت الاختصاصية إلى مقعدٍ عند الجدار. استمع إلينا بيل باهتمام، ودون أن يقاطعنا، وكان من حين لآخر يُمرِّر يده في شَعره القصير المُهذَّب بآلة الحلاقة. عندما انتهَينا من حكايتنا، جلس بيل هُنيهة، دون أن يَنبس ببنت شفة. سأل صوتٌ صغير، كان مثل سقوط حصاة صغيرة في مياه عميقة، فقطَع الصمت ونشَر التوتُّر في الجو: «هل أبي على ما يرام؟» ومع التدفُّق الفوضوي لأفكار سامسون المُختلطة في عقلي، مكثتُ لحظة حتى أدركت أنه كان يتحدَّث بصوتٍ عالٍ. حاولت أن أَبلع ريقي، لكنَّني وجدت حلقي جافًّا ومُنقبضًا بشدة، بينما ترقَّبت إجابة بيل. هزَّ الضابط ميكس رأسه. وقال: «لم أَسمع آخرَ التطورات عن حالة أبيك، لكني سأرى ما يمكنني فعله كي أحصل على المعلومات. يجب أن أتحدث إلى المسئولين هُنا وأُفكِّر في الخطوة التالية. انتظروني هُنا يا صغار. وسأعود في غضون دقائق.» وابتعد ليتحدَّث إلى الضباط في الخارج. تابعته بعيني أثناء ذهابه، وتساءلت هل صار شَعره مُموَّجًا مثل ابنه أو لا، وسقطت آخرُ قطرة مِن دموعي أسفل ذقني، وخلَّفت وراءها احتقانًا في العين وألمًا في الرأس. رأيت بيل يتحدَّث إلى ليستر، ثم إلى لِيل، وفي النهاية انتقل إلى الحديث مع كارلين. سمعت ساعةً تدقُّ ببطء في مكانٍ ما بالمطبخ، كأنَّ بطاريتها قاربت على النفاد أو أنها تَحبِس أنفاسها هي أيضًا، في ترقُّبٍ لما ستئول إليه الأمور. بعد أن أنهى بيل حديثَه مع كارلين، وتحدَّث إلى ضباط آخرين عدَّة، قضى وقتًا طويلًا للغاية في مكالَمة هاتفية، قبل أن يعود إلى المقطورة بملامحَ قاسية صارمة. لم يعُد إلى المقعد، لكنه حامَ فوق رءوسنا بدلًا من ذلك، وبدا رزينًا نزيهًا، بزيِّه الرسمي المُهندَم وشارته وبُندقيته ونظراته الشرطيَّة. تحدَّث إليَّ أولًا، ثم إلى فيش، وإلى سامسون، بنَبرة عمَلية رسمية، لكنَّها كانت تتقاطَر شفقة وعطفًا. قال: «آسفٌ أن أُخبركم أن حالة أبيكم لم تتحسَّن. إنه — حسنًا — يحتاج إلى وجود عائلته بجواره الآن. يجب أن نُوصِّلَكم إلى سالَينا في أسرعِ وقت.» انزلق فيش من مكانه على الأريكة، ليَجلس على الأرضية، على الناحية الأخرى من سامسون. وقال وهو يَضع ذراعه حول أخينا الصغير ويشدُّ على كتفي أثناء ذلك: «يَجب أن نكون أقوياء من أجل أبي.» كان أخي يشعر بالإنهاك الشديد؛ لذا هبَّ نسيم خفيف عبْر الغرفة، لم يَلحظه أحد لتحطُّم باب المقطورة. اكتفى سامسون بالإيماء في صمت، لكن صار صوته المُتداخِل في رأسي محمومًا وأقل عُذوبة، مثل سربٍ مِن الإوَز المتوتِّر. كانت أفكار أخي الأصغر مُختلطة بشدة، رغم أن أفكاره كانت مسموعة بالنِّسبة إليَّ؛ ولذا عجزتُ عن سَبر أغوار عقلِه، بل عجزت هِبَتي الخارقة نفسها. توقَّف بيل ميكس قليلًا قبل أن يُواصل الحديث. وعندما تحدَّث مرةً أخرى، وجَّه كلامه إلينا نحن الخمسة. قال: «لقد تسبَّبتم بمُشكلة كبيرة في آخر أربع وعشرين ساعة أيها الأطفال. وقضى الكثيرون وقتًا كبيرًا وجهدًا مُضنيًا للبحث عن مكانكم، كما أصبتُم عائلاتكم بالذُّعر الشديد.» نظر بيل إلينا نظرةً طويلة صارمة، جعلتنا على استعداد للزحف تحت المنزل المتنقِّل والبقاء هناك. ثم أخذ نفسًا عميقًا عبْر أنفِه وابتسم إلينا بشفقة، وألقى ناحية ويل غمزة مُتآمِرة سريعة، قبل أن يُواصِل كلامه بنَبرة مُنخفِضة، وهو يَختلِس النظر إلى الاختصاصية الاجتماعية الجالسة عند الجدار. قال: «أعلم سهولة اتخاذ قرارات خاطئة والوقوع في مَواقف صعبة، لكن لا تأخُذ الأمور مُنحنًى سيئًا بصفة مستمرَّة. سيكون هناك نتائجُ لما حدث، بالتأكيد، لكن لم يتعرَّض أحد للأذى ولم يُضمِر أحدٌ نيةَ سوء. لذا، حسبما أعلم، لن يُوجه أحدٌ تُهمًا ضد هذَين الشخصَين. ربما اتخذ السيد سوان والآنسة كايتلي بعض القرارات غير السديدة، لكنَّهما أحسنا العناية بكم، وحافَظا على سلامتِكم جميعًا.» قلتُ وأنا أنظر إلى والد ويل: «ألن يَذهب ليستر ولِيل إلى السِّجن؟» أجاب بيل: «كلا يا ميبس، لن يَذهبا إلى السِّجن.» واتَّسعت ابتسامته. وأضاف: «في الحقيقة، أنا بحاجة إلى مساعدتهما الآن نوعًا ما.» سألت بوبي: «حقًّا؟» أجاب بيل: «حسنًا، أنا بحاجة إلى مَن يَصحبُكم جميعًا إلى سالَينا، أليس كذلك؟ كما أن سيارة الشرطة لن تسعَ كلَّ هذا العدد، ويبدو أن ليستر ولِيل يَرغبان حقًّا في توصيلِكم إلى هناك.» غشاني شعور بالراحة حتى كدتُ أبكي مرةً أخرى. سيكون ليستر ولِيل بأمان وسألتقي بعائلتي قريبًا. أردتُ أن أشكر بيل ميكس من أعماق قلبي القوي الرقيق، لكني حرتُ في الكلمات المناسبة. ولأول مرة، تمنَّيت لو أن هِبَتي الخارقة تعمل على نحوٍ معكوس. وددتُ لو أمكنني رسمُ وجه مُبتسم على أيِّ مكانٍ بجسدي، حتى يعلم الآخرون كيف أشعر دون أن أُضطرَّ إلى قول كلمة واحدة. لكن مِن الطريقة التي نظر بها بيل إليَّ، شعرت أنه يعلم ما أريد قوله على أي حال. لم تكن الاختصاصية الاجتماعية واثقة تمام الثقة أن خطة بيل آمنة؛ لذا أصرَّت على ركوب حافلة الكتب المقدَّسة الوردية معنا، وطلبت أن يَصحبنا شُرطي مسلح أيضًا. رحَّب ليستر بعودتنا إلى حافلته، بلا ضغينة، لكن أصابتْه فكرة وجود ركاب رسميِّين إضافيِّين على متن حافلته بالتوتر. حاولَت لِيل تهدئته قائلة: «سيكون الأمر على ما يرام يا ليستر. سأبقى بجوارك في المقعد الأمامي. ويُمكننا أن نتحدَّث عن طلبيتك التالية إذا كنت ترغب في ذلك. بل ربما نتناقش في فكرة إنشاء مشروعك الخاص لبيع الكتب المقدَّسة.» قال ليستر مُندهِشًا وقد تشتَّت انتباهه بوضوح عن فكرة صعود ضابط شرطة إلى حافلته: «هل قلتِ مشروعي الخاص يا لِيل؟» قالت: «بالطبع يا ليستر. أعلم أنك تَستطيع فِعلها.» سأل ليستر مُتنهدًا، وهو يهزُّ رأسه، ويُحملِق إلى قدمَيه: «لماذا تأخَّرتِ في دخول حياتي إلى هذا الحدِّ يا لِيل؟ ليتَني التقيت بكِ منذ سنوات كثيرة.» ضحكت لِيل: «أنا أتأخَّر دائمًا يا ليستر. إنها مَهارة لا أستطيع الفَكاك منها.» شاهدتُ لِيل تُهدِّئ مخاوف ليستر، وفكَّرت كم هي امرأة صالحة وحنون، وكيف تسبَّبت لها في كثير من المشكلات. ورغم أن لِيل لم تَحقِد علينا لاحتيالنا عليها في النُّزل، إلا أنها أرادت أن تعرف كيف دبَّرنا هذه المكيدة. قالت لِيل بعد أن قدَّمنا لها اعتذاراتنا وشرحنا لها كيفية تظاهُرنا بالاتصال بالسيدة روزماري: «أنتم شديدو الذكاء لدرجةٍ قد تُعرِّضكم للخطر يا صغار.» وعانقَتْنا جميعًا واحدًا تلو الآخر. وأضافت: «يُستحسَن أن يَحذر منكم العالَم. فستُصبِحون مشاكلَ كبيرة في المستقبل.» كان من المُخطَّط أن يتقدَّم بيل بسيارته حافلة «هارت لاند» لتوريد الكتب المقدَّسة ويُرافقنا إلى سالَينا، وعرض على ويل الركوب معه. تأمَّل ويل المسكين سيارة الشرطة وبدا مُمزقًا تتخطَّفه رغبتان متعارضتان. تصوَّرتُ أنه سيُحبُّ كثيرًا الركوبَ في مقدمة هذه السيارة، مع أبيه، كأنه رجل شرطي. لكنه نظر إليَّ. قال ويل لأبيه بابتسامة خجول: «أيُمكننا أن نفعلها المرة القادمة؟» ضحك بيل وقال: «اذهَب مع أصدقائك»، وعبَث بشَعر ويل الابن، قبل أن يَجذبه نحوه في ضمة أخرى، ويُربِّت على ظهره. قلتُ لويل ونحن نَجلس في مقاعدنا: «أظنُّ أنكَ اشتقك كثيرًا إلى أبيك أيضًا.» هزَّ ويل كتفَيه واعتصر يديَّ بقوة. وقال: «لا تسير الأمور كما نشتهي دائمًا يا ميبس.» فكَّرت في ذلك، وفي أبي الراقد في المشفى. ونظرتُ إلى هِبَتي الخارقة التي لم تَعمل بالشكل الذي تمنَّيته، وإلى رحلتنا إلى سالَينا بتقلُّباتها وتحوُّلاتها. ثم تذكَّرت ما قالته لِيل قبل أن تغطَّ في النوم في النُّزل في الليلة السابقة. «لا أحد يَدري متى يُثمِر الشر عن خيرٍ.» أدركت أن الخير والشر كانا دائمًا حاضرَين ودائمًا مُختلطَين في تشابك. وإن كنت لا أعرف، في هذه اللحظة، إن كانت هذه الفكرة جعلتْني أشعر بأي تحسُّن أم لا.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/34/
الفصل الرابع والثلاثون
كلَّما اقتربنا من سالَينا، ازداد العالم اخضرارًا، وتحوَّلت النِّجاد الجرداء إلى أراضٍ زراعية ريَّانة وافرة. فور أن عَثرنا على سامسون خلف الجدار اللوحي في منزل كارلين المتنقِّل، انقشعَت عاصفة فيش عن بحيرة «تاتل كريك». وأضاءت أشعة الشمس الربيعية المُنعِشة السماء مرة أخرى. لكن رغم أشعة الشمس، والمظهر الطبيعي الأخضر الخلَّاب، كانت أفكاري قاتمة وقاحلة وكئيبة. ولم أستطِع التفكير إلا في أبي. جلستُ وويل الابن بالقُرب من مقدمة الحافِلة حتى يستطيع ويل مُشاهَدة سيارة أبيه، وجلس فيش وبوبي في الجهة المقابلة عبر الممر، مُتجاهلَين الاختصاصية الاجتماعية التي جلسَت خلفهما مباشرة. انهمَكَت بوبي في مضغ علكتها وطلاء أظفارها، بطلاء الأظافر الأحمر من «ميجا ميجا مارت»، وكانت تُطلق السِّباب بهمس، كلَّما ارتجَّت الحافلة في الطريق، أما فيش فقد أسند رأسه إلى النافذة مُغلِقًا عينَيه. كنتُ أعلم أنه ليس نائمًا. وأحسستُ أنه يُفكِّر في أبي مثلَما أُفكِّر. لم أستطِع إخراج كلمات الضابط ميكس من رأسي. ولم أستطِع نسيان ما قاله عن أبي. «إنه يحتاج إلى وجود عائلته بجواره.» بدَت هذه الكلمات مُفزِعة بالنِّسبة إليَّ. كما بدتْ يائسة. تكوَّر سامسون في المقعد الأمامي مع لِيل، لعَجزِه عن تخطِّي الضابط المُتمركز في مُؤخِّرة الحافلة، ووضع رأسه في حَجْرها. استخدمت لِيل كل المناديل المُبلَّلة بالكحول من صندوق الإسعافات الأولية الجديد لإزالة الوشوم السوداء مِن فوق ذراعَي سامسون ويدَيه. اضطربت الوشوم وارتعشت أثناء انفكاكِها عن جلده، وخفضت الفَوضى التي في رأسي، مُخلِّفة صوتًا ثاقبًا وحيدًا، اخترق قلبي، قبل تبدُّده. كُن قويًّا من أجل أبي … كُن قويًّا من أجل أبي … تبقَّى أمامنا طريق وحيد بين الولايات لاجتيازه، وبدأ العدُّ التنازُلي للأميال والمخارج ببطء، وأمسكت لساني رغمًا عنِّي حتى لا أسأل: «كم تبقَّى؟ كم تبقَّى؟ كم تبقَّى؟» انقضَت ساعة، بدت كالدهر، قبل أن يتَّبع ليستر سيارة بيل ميكس منحرفًا عن الطريق الواصل بين الولايات، ويأخذ مخرج ٢٥٢، مرورًا بلافتة دُوِّن عليها حرف «إتش» بالإنجليزية بحجم كبير وباللون الأبيض، إشارة إلى أنَّنا نسير في الاتجاه الصحيح ناحية المشفى. سرَت في جسدي قشعريرة وأنا أنظر إلى الحرف الأبيض المُصفَر. فهو يَعني أننا وصلنا إلى وجهتنا تقريبًا، وأننا كِدنا نَبلُغ أبي أخيرًا. انعطَفنا يَسارًا، أدنى الطريق السريع، باتجاه شارع تسعة، في أعقاب بيل الذي قادَنا إلى داخل مدينة سالَينا. وكلما مررنا بتقاطع طرق، كنا نجد مصابيح إشارات المرور مُهشَّمة، كأنها صفوف رأسية من محاجر عيون فارغة. سارت السيارات ببُطء وزحفت عبْر الشوارع المُزدحِمة، واحتقنت حركة المرور، على الرغم من أننا كنا في وقت العصر من العطلة الأسبوعية. وانتشَرت الفِرَق لمُحاولة استبدال الزجاج المكسور لإشارات المرور بألوانها الحمراء والصفراء والخضراء، وكانت المدينة لا تزال تتعافى من آثار عاصفة روكيت الكهربائية. ابتلعتُ ريقي بصُعوبة؛ إذ لم أرَ روكيت يتسبَّب في مِثل هذه الفَوضى مِن قبْل. وارتجفَ جسدي أكثر. ربما لم تكن فكرة اصطحابِه لأمي إلى سالَينا صائبة على أيِّ حال. تمنَّيت لو أن المشفى لديه مَصابيح احتياطية كثيرة، وأن روكيت لم يكن قريبًا من المعدَّات اللازمة لإنقاذ الحياة. جلسنا جميعًا مُتأهبين، وذهبت آثار النعاس جميعها، فور أن ابتعدنا عن الطريق السريع بين الولايات. ولولا أنَّنا نسير في أعقاب بيل، لاستغرقنا وقتًا طويلًا للغاية، في شقِّ طريقنا عبْر الشوارع المزدحمة. لكن بيل شغَّل صَفَّارة الإنذار، حتى إنه خرج من سيارته بضع مرات، لتوجيه الحافلة عبْر التقاطعات، عندما لم يسمح السائقون المستاءون لنا بالعبور. كانت السماء قبل الغروب ضاربةً إلى الزُّرقة مثل وردة الذرة قبل وصولنا، لكنها الآن صارت ملبَّدة بالغيوم. وتجمَّعَت قطرات المطر من أنحاء الغلاف الجوي على هيئة سحابة عاصفة داكنة صغيرة فوق الحافلة مباشرة. لكن فيش تحكَّم بهِبَته الخارقة بقوَّة ومهارة، فظلَّت السحابة تُحلِّق فوقنا بإصرار، دون أن تُسفر عن رذاذ أو مطر خفيف. لا بدَّ أن بيل أبلغ عن وصولنا مقدمًا؛ إذ فور أن تَبِعت حافلة «هارت لاند» لتوريد الكتب المقدَّسة الوردية الكبيرة سيارةَ بيل إلى ساحة انتظار المشفى وتوقَّفت أمام الأبواب الزجاجية المُنزلقة الكبيرة مُباشرة، وجدنا عائلتَينا في انتظارنا. بدا أن القسَّ ميكس والسيدة روزماري تَتنازعهما مشاعر الارتياح والغضب؛ إذ لانَ وجهاهما ثمَّ تجمَّدا؛ وابتسما ثم انقبضا. كان روكيت وأمي هناك أيضًا، وبدوا مُتعبَين ولم يذُوقا طعم النوم. وللمُفاجأة، كانت أمي تُمسك بجيبسي التي تُحاوِل الإفلات من قبضتِها، وجَدِّي بومبا يستند إلى ذراع روكيت بينما يتشبَّث بأحد أوعية جَدَّتي دالَاب. لا بد أن القس وزوجته أحضرا بقيَّة العائلة وشعرتُ بالامتِنان نحوهما. فمن الجيد أن يجتمع جميع أفراد العائلة مرة أخرى. فور أن فتح ليستر باب الحافلة، أنزلت أمي جيبسي على الأرض، وأمسكَت يدَها واندفعتا معًا نحو الحافلة، بينما شرعنا نهبط درجات الحافلة الثلاث. سألت أمي بصوتٍ باكٍ: «أين كنتم بحق السماء؟ فيمَ كنتُم تُفكِّرون؟» وجذبتني وفيش وسامسون، وتشبَّثت بنا بقوة، واحتضنَتْنا مع جيبسي، كأننا باقة أزهار كبيرة، في عِناق مثالي. وعندما أخلَت سبيلنا أخيرًا، قادتنا إلى الداخل، وفحصت كلَّ واحد منَّا على حدة، كأنها تتأكد من عدم وجود أصابع ناقصة في الأيدي أو الأرجل. قال روكيت: «لم أكن قلِقًا»، وكان وجهه مقطبًا وقاسيًا؛ لذا لم أُصدِّقه. اعتصر روكيت كتفي من الجانب، وسَرَت صعقة كهربائية غير مقصودة في جسدي، جعلتني أنتفِض من مكاني. وتهدَّج صوته وهو يقول: «تُحدِث أعيادُ الميلاد التي تظهر فيها الهِبَات الخارقة جلبةً دائمًا.» ثم لكم فيش في ذراعه، وعبث في شعر سامسون، فانتصب وطقطق بفعل الكهرباء الساكنة. لم يخطر ببالي من قبل أن روكيت كان قلقًا بشأننا؛ إذ خِلته قلِقًا على أبي فحسب. واجتاحني شعور بالذنب، حتى كاد يسحقني تحت وطأتِه، وفهمت لمَ أحدث روكيت كلَّ هذه الأضرار. وقف جَدِّي بومبا، وتلطَّخ وجهُه المجعَّد بالدموع، وهو ينظر إلينا واحدًا تلو الآخر. كان يمسك بالوعاء الزجاجي ذي اللاصقة الباهتة بين عضدِه وساعده، ولم يكن من الصعب تخمين محتوياته. ألقيتُ ذراعَيَّ حول جَدِّي العجوز، وعانقتُه بأقصى قوة تَحتملها عظامُه الواهنة. وقلتُ: «لا بأس يا جَدِّي. لقد اجتمعنا مجددًا كما ينبغي أن نكون.» أطلقت سراح جَدِّي، واستدرتُ إلى أمي. كان سامسون يقف بجانبها، ويشدُّ قميصها بقوة. تجاهلَت أمي محاولةَ جيبسي للإفلات من قبضتِها، وانحنَت كي يهمس سامسون في أذنها. كانت عينا سامسون متسعتَين وداكنتَين وهما تتطلَّعان في وجه أمي، ورأيت شفتَيه تُشكلان الكلمة التي كانت تدور في أذهاننا جميعًا. «أين أبي؟» أطرقت أمي برأسها، واختفَت ابتسامتها الدافئة التي حيَّتنا بها، لمدة نصف ثانية، قبل أن تحلَّ محلَّها ابتسامةٌ من نوع آخر تمامًا، تولَّدت من مشاعر الحب والشفقة والرغبة في حمايتنا جميعًا من أسوأ مخاوفنا. قالت أمي برقَّة: «من الجيد أنكم هنا الآن. لقد أخطأت عندما لم أُحضِركم معي من البداية.» قلتُ: «لكنَّك، يا أمي، لا تَقترفين الأخطاء.» احتقن وجهُ أمي وانقبَض وهي تُحاول أن تحبس دموعها. وقالت وهي تجذبني ناحيتها مرة أخرى: «أوه، يا ميبس، يُمكنني اقترافُ أخطاءٍ مثالية للغاية.» خفض روكيت رأسَه وحملق إلى الأرض، وقد ابيضَّت مفاصل أصابعه وانطبقت أسنانه بعضها على بعض بقوة، بينما خفتَت مصابيح غرفة الانتظار وتذبذبت لكنها لم تحترق أو تتهشم. قالت أمي وهي تخلي سبيلي وتمسح دموعها: «سأترككم تُودِّعون رفاقكم. ثم نذهب إلى رؤية أبيكم.» توسَّل إليها فيش، وهو يحمل جيبسي من فوق الأرض ويجذب ذراعها: «دعينا نذهب الآن.» لكن تسمَّرت أمي في مكانها بعناد. ومسَّدت شَعر فيش المنكوش دون تركيز قائلة: «لن يتغير شيء في الدقيقتَين التاليتين يا فيش. ودِّع أصدقاءك.» جذب بكاءٌ كالعويل انتباهي. بجانِبنا، وجدتُ السيدة روزماري واقفة، تُحاول كبْح دموعها المنهمرة. كفكفَت دموعها بمنديل أبيض، وتناوبَت على مُعانقة ويل وبوبي بقوة، بينما أبقى القس ميكس عينَيه مُغلقتَين ويدَيه مُشبكتين، كأنه يشكر الرب بحرارة وصمت. انضم إلينا بيل في منطقة الانتظار، وتلكأ في الخلف قليلًا حتى لا يقاطع لمَّ الشمل العاطفي، وشاهد باهتمام السيدة روزماري وهي تفحص عينَ ويل المسودَّة بحنان الأم. لكن عندما أنهى القس ميكس ثناءه على الرب وفتح عينَيه، مدَّ يده إلى بيل وصافحه بقوة ثم جذبه إلى الجماعة مربِّتًا على ظهره بكل احتفاء وود. فصلت بوبي نفسها عن أمِّها، فور أن تمكَّنت من ذلك، وانسلت إلى روكيت بابتسامة على وجهها وتأملت التصاقَ قميصه بجسده بفعل الكهرباء الساكنة. لاحظ روكيت ابتسامةَ بوبي بسرعة شديدة، وابتسم لها رغم كل شيء ابتسامةً لطيفة بسيطة. تذكَّرت كيف حكت بوبي عن أخي في المسبح وترقَّبت لأرى ما قد تفعله. قالت بوبي وهي تبعد شَعر ناصيتها عن عينَيها وتَميل على إحدى ساقيها: «مرحبًا يا روكيت.» أجاب روكيت بإيماءة: «مرحبًا بوبي»، وطقطقت شرارة زرقاء شاردة على أطراف أصابعه. وحدها بوبي مَن لاحظت هذه الشرارة. واتَّسعت ابتسامتها، ورفعت حاجبيها، قبل أن تخرج العلكة من فمِها وتلصقها بظهرِ أقربِ مقعد لها، دون أن تُبعِد عينيها عن أخي الأكبر، كأنها تتجهز لتقبيلِه على الفور متى سنحت لها الفرصة. لكن قبل أن تتفوَّه بكلمة أو تفعل شيئًا، جذبتها السيدة روزماري من ذراعها وأبعدتها عن بقيتنا. توقَّفت دموع السيدة روزماري مثل صُنبور ماء يُغلق ووبَّخت ابنتها قائلة: «أنتِ في ورطة كبيرة يا روبرتا بالفعل، فلا تَزيدي الطين بِلَّة.» ثم نظرت إلينا، كأننا ملائكة الشيطان أُرسلنا لإبعاد أطفالها عن الطريق القويم. كانت الشاحنة الصغيرة الذهبية اللامعة مُتوقِّفة بالخارج، وكل ما أرادت السيدة روزماري فِعله هو وضْع حياتها في نصابها الصحيح، والرحيل إلى هيبرون، بصحبة بوبي وويل. كان ليستر ولِيل واقفَين في مدخل الحافلة المفتوح، يَسترقان النظر إلى اللقاء العائلي، عبْر أبواب المشفى الزجاجية المنزلقة، وقد ارتسمت على وجهَيهما ابتسامةٌ واسعة. وقف ليستر خلف لِيل واضعًا يدَيه على كتفيها، وعندما نظرتُ إليهما علمتُ أنهما سيكونان على ما يرام. لكنني رجوتُ الله كثيرًا أن أحظى بفرصةِ لقائهما مرةً أخرى في يوم من الأيام. فلن يكون من الصواب ألا أفعل. وصلتُ إلى سالَينا؛ وبلغتُها أخيرًا. لكنَّني أحسست كأنَّ قلبي ينفطر ويتحوَّل إلى كرة بطيخ كبيرة لا أكثر، قد تستحيل إلى ماء في أي لحظة. شعرت بقلبي ينخلع من مكانه وينقلب رأسًا على عقب لفراق أصدقائي الجُدد دون سابق إنذار. كلُّ ما أمكنني فِعله هو التلويح لبوبي وويل بينما كانت زوجة الواعظ تجرهما خارج المشفى. قبل أن تنزلق أبواب المشفى لتَنغلِق، علقت عينا ويل بعيني، وغمز لي بسرعة. أدركت أنني سأراه مجددًا يوم الأحد القادم أو هذا ما كنتُ آمُلُه — كنت آمُل ألا أُطرد من الكنيسة بسبب القرارات الخاطئة أو إدراكي أنني ربما كنتُ سأتَّخذ نفس القرارات مرةً أخرى إن تكرر الأمر. رجوت الله أن يتفهَّمَ أسبابَ قيامي بمثل هذه التصرُّفات على نحوٍ أفضل من السيدة روزماري. قبل أن يَتبع القس ميكس زوجته خارج المشفى، صافح أمي. كما صافح جَدِّي أيضًا. وقال وهو يومئ لبقيتنا بصرامة: «ستكونون في صلواتنا دائمًا.» أجابت أمي الواعظ: «شكرًا لك أيها القس ميكس»، وكانت تُحاول منْع ابتسامة حزينة من التسلل إلى شفتَيها؛ إذ امتلأ شَعر الرجل بكهرباء روكيت الساكنة، ووقف مُنتصبًا فوق رأسه. فور أن تأهَّب الرجل العجوز للرحيل، تقدَّم الضابط بيل ميكس ناحيتنا. وقال: «ابقوا سالمين وابتعدوا عن المشاكل، يا أطفال، حسنًا؟» ثم صافح كلَّ واحد منَّا على حدة، ومعنا جيبسي، قبل رحيله. وعندما وصل إلى الباب، نظر إليَّ مِن وراء ظهره وأومأ ناحيتي مرةً أخرى، قبل أن يتبع الواعظ خارج المشفى. شاهدت بيل، عبْر الأبواب الزجاجية الشفافة، يتوقَّف لفترة وجيزة للحديث مع ليستر ولِيل، قبل أن يخطو خُطوة واسعة لإلقاء تحية الوداع على بوبي وويل، وهما يصعدان إلى الشاحنة الصغيرة. أحببتُ بيل ميكس، وتهلَّلت أساريري لرغبة ويل في أن يُصبح مثل هذا الأب تمامًا. وعلى متن حافلة «هارت لاند» لتوريد الكتب المقدَّسة، بدأت كتفا ليستر تَنتفضان. لقد حان الوقت ليَمضي في طريقه. أرسلت لِيل لنا قُبلة في الهواء ولوَّحنا، أنا وفيش وسامسون، إليها. أخيرًا آنَ أوانُ الذهاب للقاء أبي.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/35/
الفصل الخامس والثلاثون
داخل المصعد، في طريقنا إلى وحدة العناية المركَّزة في الطابق الرابع من مشفى «هوب» في سالَينا، عانقتْنا أمنا بحرارة مرةً أخرى، وقبَّلت رءوسنا واحدًا تلو الآخر. كان كلُّ ما قالته أمي وهي تُحاول ألا يتهدَّج صوتها: «لقد قلقنا عليكم للغاية.» وشبَّكت ذراعها بذراع فيش وتناولت يدي بيدها، أما روكيت فقد اعتنى بكلٍّ من جيبسي وجَدِّي بومبا، بينما ضمَّت هي سامسون تحت جناحها، كأنها إذا أبقَتْنا بالقرب منها فلن نختفي من أمامها مرة أخرى. رمَقني روكيت بنظرة طويلة كأنه يَفحصني بحثًا عن بقعٍ أو خطوط جديدة. ومسَحَني بعينَيه من مقدمة رأسي إلى أخمص قدميَّ مرةً أخرى. ثم سأل في نهاية المطاف: «كيف وجدتِ عيد ميلادك الثالث عشر يا ميبس؟» في الوقت الذي انفتحَت فيه أبواب المصعد في الطابق الرابع. ولوهلة لم يتحرَّك أحد منَّا. كنا نعلم أن روكيت لا يتحدَّث عن كعكة عيد ميلادي، أو الحفل، أو رحلة هروبي عبْر حافلة «هارت لاند». تطلعت إليَّ أمي في قلقٍ لأنها في خضمِّ مخاوفها الأخرى قد نسيَت كلَّ ما يتعلَّق بهِبَتي الخارقة تقريبًا. بدأ باب المصعد يَنغلِق مرةً أخرى، ونحن لا نزال بالداخل جميعًا، لكنني مددت يدي وأمسكته. أجبتُ روكيت كأنني لم يمسسني سوء مطلقًا: «كان جيدًا يا روكيت. أرى أنني والعالم سننجو من هِبَتي الخارقة عندما أتكيَّف معها قليلًا، هذا كلُّ ما في الأمر.» قالت أمي وهي تَختلِس النظرَ إلى استراحة المُمرضات في الطرف المقابل من الرَّدهة: «أريد أن أسمع كل التفاصيل.» وأضافت بهدوء: «أريد أن أعرف كلَّ ما يتعلَّق بهِبَتك الخارقة يا ميبس. كما أرغب في الاطلاع على ما جرى لكم منذ آخِر لقاء لنا. أنتظر منكِ — بل منكم جميعًا — أن تُخبروني بالقصة كلها، من بدايتها إلى نهايتها.» همس سامسون وهو يجذب كمَّ أمي مرة أخرى: «هل يُمكننا رؤية أبي أولًا؟» ارتسمَت على شفتي أمي ابتسامةً حزينة لم أرَها من قبل. كانت ابتسامتها تَفطر القلب على نحوٍ مثالي. لكنها لم تقدر على الإجابة، فاكتفت بإيماءة من رأسها، وفاضت عيناها الزرقاوان بالدموع. ثم خرجَت من المصعد، وقادتنا ناحيةَ استراحة الممرضات. رفعت جميع الممرضات أعينهن عن أكواب القهوة والملفات التي في أيديهن، وابتسمن إلى أمي وجَدِّي وبقيتنا، كأنهن يُعربن عن أسفهن البالغ لإصابة أبي وكسره. كانت هناك مُمرضة ترتدي ملابسَ جراحة زرقاء زاهية منقوشة بأقواس قُزَح صغيرة، وسألت أمي: «هل هؤلاء بقية أطفالك يا سيدة بومونت؟» أجابت أمي: «نعم». وأومأت برأسها بسرعة ناحيتي وفيش وسامسون. ثم أضافت: «هؤلاء هم المُشاغِبُون الثلاثة أو المغامرون الشاردون.» قلتُ بنبرة حزينة: «كنَّا نحاول الوصول إلى هُنا فحسب يا أمي. كان لا بدَّ أن أرى أبي. لا أملك إلا أن أفعل.» أومأت أمي. وقالت: «أعلم يا ميبس.» ثم التفتت إلى الممرضة وسألتها: «أيُمكنني اصطحاب أطفالي لرؤية أبيهم الآن؟» لأنني لا أستطيع التنبؤ حقًّا بما قد يحدث إن لم يروا أباهم قريبًا.» أجابت الممرضة بإيماءة حنونة: «أجل يا سيدة بومونت. يُمكنكِ اصطحابهم للداخل.» قادتنا أمي عبْر الرَّدهة، باتجاه باب مُنفرِج نصف انفراجة، ومرَرنا بعامل صيانة على سُلَّم متحرك يسبُّ بصوت خافت أثناء استبداله مِصباح فلوريسنت طويل في السقف. وقفت أمي، وأصابعها مُلتفة حول مقبض الباب، ونظرت في عين كل واحد منا، كأنها تجذبنا ناحيتها وتحاول ضمَّنا إليها بنظرتها. قال فيش: «أمي؟ ألم يَستيقِظ أبي بعد؟» وهبَّت ريحٌ خفيفة أبعدت خصلات شَعره عن عينَيه. أجابت أمي: «ليس بعدُ يا فيش. ليس بعد.» ثم تبادلت نظرةً مقصودة حزينة مع جَدِّي، وأخذت نفسًا عميقًا، قبل أن تواصل كلامها ببطء وتنتقي كلماتها بحرص. وقالت: «لقد قال الأطباء — حسنًا، لقد قالوا إنه قد لا يستيقظ أبدًا.» ثم أضافت على عجل: «ولكنَّنا سنظلُّ نأمُل أن يفعل ونُصلي من أجل ذلك؛ لأن هذا هو ما نستطيع القيام به جميعًا، وليس في أيدينا شيءٌ آخر.» شعرت كأن الأرض ستنشق وتبلعني داخلها، وتعجَّبت هل اهتزاز الأرض من فِعل جَدِّي أم إن ساقيَّ ترتجفان. نظرت أمي إلى فيش بسرعة، تُهيئها خبرتها السابقة، لعاصفته. لكن بصرف النظر عن المطر الخفيف المتساقط على النوافذ، وراء استراحة الممرضات، كان فيش يسيطر على هِبَته الخارقة جيدًا. ربما أصابته كلماتُ أمي بالخِدر من فرط صدمتها وثبَّطت هِبَته الخارقة، أو أن هذا ناجم عن إمساكه ليد سامسون، أو ربما تكون هذه هي قوَّته الجديدة، لكنه وقف هناك خارج غرفة أبي، دون أن يتحرك الهواء أدنى حركة. عندئذٍ نقلَت أمي بصرها إلى روكيت. طمأنها قائلًا: «سأكون بخير، يُمكنني الدخول هذه المرة. أتسمَحين لي يا أمي، أرجوك؟ سيسوء الأمر إن أجبرتِني على البقاء بالخارج.» جالت أمي ببصرها من الرجل الواقف على السلَّم الخشبي، إلى قِطع الزجاج المبعثرة التي لم تنجح عمليةُ الكنس الأخيرة للبلاط في تنظيفها، ولم يبدُ أنها اقتنعت بكلامه. لكن نظر روكيت إليها بتوسلٍ، فأذعنت له؛ أدركتُ أنها تريد اجتماع عائلتنا كلها على أي حال. في نهاية المطاف، وقعت عيناها عليَّ. وسألت: «هل هناك ما تُريدين إخباري به يا ميبس قبل أن نذهب إلى الداخل؟» هززت رأسي نافية. وهمست: «لا. لا يوجد شيء.» لقد رجوت كثيرًا أن تأتي هذه اللحظة، وأن أجد القوة الكافية لإيقاظ أبي، وإنقاذِه، وإعادته إلى بيتنا في كنساسكا-نبرانساس. لكن لا قول للمرء في نوعية هِبَته الخارقة مثلما لا اختيار له في لون عينيه أو حجم قدميه. وليس بوسعي فِعل أي شيء لأبي، مثلي مثل الآخرين تمامًا. ألقت أمي على عائلتها الاستثنائية نظرةً أخيرة، ثم دفعت باب غرفة أبي على مِصراعَيه، وتسللنا للداخل في صف بهدوء، لنَجد أبي راقدًا على سريره، بلا ثمَّة تشابه بينه وبين الأميرة النائمة على الإطلاق.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/36/
الفصل السادس والثلاثون
في البداية لم نتعرَّف على أبي. كان رأسه ملفوفًا بالضمادات بالكامل. واتصلت بجسده الأسلاك والأنابيب والآلات لتساعده في أداء جميع وظائفه الحيوية، وكان وجهه شاحبًا مُتهدِّلًا. استند كلٌّ منَّا إلى رفيقه أثناء تقدمنا نحو سرير أبي. كانت إحدى ذراعَي أبي موصولة بأنبوب، والأخرى مُلتفة بكفَّة جهاز قياس ضغط الدم. انتشرت الأسلاك وأجهزة الاستشعار على جميع أنحاء جسده، وبدت سبَّابته كأن فوقها مشبك غسيل ضخم؛ وانبسطت راحتا يديه، كأنه يطلب المساعدة. شعرت كأنني نسيت كيفيةَ التنفُّس. واستحالت الوظيفة البسيطة الطبيعية من ملء الرئتين وإفراغهما إلى مهمَّة شاقة لا فِرار منها. خشيت أن أبلع ريقي، مخافةَ أن أطلق العِنان لفيضان الدموع، التي شعرت بوخزها خلف حدقتَي عيني. وجد جَدِّي بومبا صعوبةً في فتح الوعاء الذي بين يدَيه العجوزَين، وعجزت أصابعه الهزيلة عن إحكام قبضتها على الغطاء بينما يحاول فتحه. تناول روكيت الوعاءَ من جَدِّه برقَّة، وطرق غطاءه في طاولة السرير مرةً أو مرتين بحذر. ثم فتح الغطاء نصف فتحة، فانسكبت أغنية أمي وأبي الرومانسية الأبدية في الغُرفة بصوتٍ عالٍ. التقطت أمي الوعاء من روكيت، وأغلقت غطاءه قليلًا، كي تخفض الصوت، وتمنع اندفاع الممرضات إلى الغرفة لإسكاتنا. لكن ارتعشت يداها بينما تفعل ذلك. فركتُ ظهر كفي في ذقن أبي برقَّة، وشعرت بلحيته الخفيفة الخشنة على ذقنه غير الحليق؛ ثم انحدرت يَدي إلى ذراعه. مرَّرت يدي المرتجفة على ذراعه بخفة، وضغطت إصبعي في باطن رُسغه، كأنني أتفقَّد نبضه. حينها، تذكرت رغمًا عني الرجل المشرد، القابع عند حاويات القمامات الموجودة خلف استراحة ومطعم موقف شاحنات إيمرالد. هذا الرجل كان نائمًا أيضًا. كان نائمًا ووحيدًا تمامًا. كما كان يائسًا تمامًا. لم يكن لديه أحد يُشغِّل الأغاني من أجله، أو يستمع إليه، أو يَكترث بأمره. لكن لدى أبي نحن، ولن نتخلَّى عنه أبدًا. قال فيش بصوتٍ مُنخفِض ولكنه كافٍ لكي أسمعه: «ميبس». نظرتُ إلى أخي، الذي ربَّت على ساعده على نحوٍ ذي مَغذًى، ثم أشار برأسه إلى أبي. وهمس: «لا تنسَي الآنسة حورية يا ميبس. ماذا عنها؟» عندئذٍ نظر سامسون إليَّ أيضًا، واتسعت عيناه الداكنتان. لا أُصدِّق أنني نسيت الأمر. كيف نسيت وشم البحرية الباهت على ذراع أبي؟ كيف سقطت الآنسة حورية من عقلي؟ قلبت ذراع أبي برِفق، حتى لا أنزع أيَّ أنابيب أو أسلاك هامة. كانت الآنسة هناك، تلتفُّ حول المرساة، وتغمز بعينِها من تحت الشَّعر الذي يغطي ذراع أبي. لكن وا أسفاه، بدا وشم أبي محطَّمًا وخاليًا من الحياة هو أيضًا، كأنَّ حورية البحر ذات الشعر الطويل قد تفادت الغرق في البحر لينتهي بها الأمر بالغرق على اليابسة. أرهفت السمع بحثًا عن صوت حورية البحر في رأسي. وتتبَّعت ذيلها الأخضر الطويل برأس إصبعي. ثم أغلقت عيني بإحكام، وحاولت الإنصات إلى أفكار أبي أو مشاعره أو أحلامه أو آماله. وواصلتُ الاستماع بلا توقُّف. لكن لم يكن هناك أيُّ شيء. لم أسمع أيَّ صوت في رأسي. ليست هناك ثمَّة أثر لأبي. وسمعت صوت احتكاك شيء معدني بزجاج؛ إذ مدَّ فيش يده، بوجه مليء بالدموع، لإغلاق غطاء وعاء جَدَّتي دالَاب، فتوقَّفت الأغنية الرومانسية الأبدية. لا أستطيع الجزْم هل فعلَ فيش ذلك لمساعدتي كي أسمع صوت أبي، أم إنه أراد أن يحمي قلوبنا من التحطُّم. بعد أن توقَّفت الأغنية، ساد صمت ثقيل على الغرفة، وشعرت أنني محطَّمة ومكتئبة كمصابيح روكيت المهشَّمة. أدركت أن فيش وسامسون لا يزالان ينظران إليَّ، وهما يَحبسان أنفاسهما تقريبًا. كانا يُراقبانني، وأنا أنصت إلى صوت الحورية. كانا يرغبان في معرفةِ ما أسمعه أو ما لدى الآنسة حورية من معلوماتِ بشأن أبي، ومتى يخطِّط للاستيقاظ من نومه. لم يكن روكيت وأمي يعلمان بعْدُ، بأمري مع الوشوم المرسومة على الجلد، وقدرتي على الاستماع إلى المشاعر والأفكار، وربما لم يكن هذا هو الوقت المناسب لإخبارهما؛ لأن عدم سماعي أيَّ صوت ليس أمرًا سارًّا على الإطلاق. كان فيش وسامسون يعلمان بالأمر. كانا على دراية بموهبتي، وكانا ينظران إليَّ، ليحصلا على ما يمكنهما من معلومات. هززتُ رأسي ببطء. استدار فيش، دون أن يحدِث زوبعةَ رياح أو نسيم، وخرج من الغرفة. سألت أمي بقلق: «فيش؟» وتبِعته إلى الرَّدهة، بصحبة جيبسي، كي تطمئنَّ أنه على ما يرام. حاول روكيت تهدئة سامسون، لكنه وقف عند سرير أبي جامدًا كالتمثال. كان من المستحيل تصديق أن غرفةً، بكلِّ ما فيها من هِبَات عائلة بومونت الخارقة، تعجز عن مساعدة أبي. كلُّ ما أمكنني فِعله هو أن أنصت بلا جدوى. لكنني لم أتوقَّف عن الإنصات. أنصتُّ حتى طنَّت أذني من الصفير والهمهمة والأزيز الهادئ المنبعث من الآلات المحيطة بأبي. أنصتُّ حتى شعرت بألمٍ في رأسي، ووخزٍ في عينَي بسبب الدموع الكثيرة التي لم أستطِع إطلاقها من فرط شعوري بالخواء. راقبني روكيت وراقب سامسون بانتباه، نيابةً عن أمي التي كانت في الرَّدهة مع فيش وجيبسي. ارتمى جَدِّي بومبا في مقعدٍ عند نهاية سرير أبي، وبدا يائسًا وأكبرَ سنًّا مما هو عليه في الحقيقة. انحنيت فوق سرير أبي بعناية بالغة وهمست في أذنه. قلتُ: «أنصِتْ إليَّ الآن يا أبي. آن أوانُ أن تسمع صوتي في رأسك. ربما تظن أنك بلا هِبَة خارقة، يا أبي، لكنك مخطئ في ذلك. أنت لديك هِبَة خارقة. وهذا لا شك فيه.» تأمَّلت كلَّ ما أعرفه عن أبي. تذكَّرت حكايةَ لقائه بأمي ومغازلتها، دون أن يتوقَّف عن المحاولة، حتى وافقت أمي على الزواج منه أخيرًا، حتى بعد أن أمرته خالتي دينا بالانصراف. فكَّرت في أكبرِ أرجوحة شُرفة في العالم، وكيف تعهَّد أبي دائمًا ببناء واحدة خاصة بنا. وتذكَّرت كيف عاد أبي للمنزل من عمله في وقت متأخر من الليل، لأنه عزم على انتقاء أفضل فستان للمناسبات الخاصة يمكنه العثور عليه. كرَّرت على مسامعه: «لديك هِبَة خارقة يا أبي. أؤكد لك ذلك. أنت لا تيئس أبدًا يا أبي. هذه هي هِبَتك الخارقة. أنت لا تعرف الاستسلام أبدًا.» أغلقت عيني، وتمنَّيت أمنية عيد ميلادي، وإن كان الوقت قد تأخَّر كثيرًا. تمنَّيت أن يسمعني أبي. وددتُ لو أن أبي ينصت إلى حديثي. ثم انحنيت وقبَّلت جبينه. سمعت صوتًا شديدَ الخفوت في رأسي يقول: «… تيئس.» فتحت عينيَّ. كانت يد سامسون قابعة على كتف أبي بخفة. سمعت الصوت من جديد: «… لا … تيئس»، لكنه كان عاليًا نسبيًّا هذه المرة. نظرتُ إلى سامسون. لا أذكر أنني رأيت أخي الصغير يبكي من قبل، فقد كان بارعًا في إخفاء مشاعره وكل شيء، لكنه يَبكي الآن بلا نشيج أو صوت. انسابت دموع سامسون الهادئة الكبيرة على وجنتيه وانهمرت مثل أمطار فيش على صدر أبي. ربما كانت تلك كلمات سامسون أو كلماتي أو أمنيتي … أو ربما معجزة. أو ربما جرى مع أبي مثلما جرى مع سلحفاة أخي الأليفة الميتة، ربما تكون الطبيعة قد أخذت مجراها فحسب، وآن أوانُ شفاء أبي واستيقاظه ببساطة. لن نَعلم السببَ حقًّا. فبعض الأمور تبقى غامضة حتى مع وجود هِبَة خارقة. «… لا تيئس.» ارتجفت الآنسة حورية، وهزَّت ذيلها قليلًا، كأن ذلك يتطلَّب منها جهدًا كبيرًا. «لن … أيئس.» كان الصوت في رأسي أعلى الآن. صحتُ: «أبي!» بعد أن تأكَّدت أن ما سمعته حقيقةً وليس مجرد آمال. كان الصوت آتيًا من أبي والآنسة حورية. قلتُ: «أبي، هذا صحيح! أنت لا تعرف اليأس! هل يمكنك سماعي يا أبي؟ هذه أنا، ميبس!» وضع روكيت يديه على كتفيَّ، وحاول إسكاتي، لكني تملَّصت منه. نهض جَدِّي من مقعده بملامح صارمة. هتفتُ مرةً أخرى: «أبي! أيُمكنك سماعي؟ لا تستسلم!» قال روكيت: «توقَّفي عن الصراخ يا ميبس. نحن في المشفى.» أجبتُ: «يُمكنه سماعي يا روكيت! أعلم ذلك. كما أنني أسمعه أيضًا.» رفع روكيت صوته الآن، وقد بدا متعبًا منزعجًا: «أبي غائب عن الوعي يا ميبس.» لكنَّني تجاهلته وواصلت الصراخ في أذن أبي. صاح روكيت: «ميبس!» وحاول إبعادي عن أبي مرة أخرى. وفجأة، جنَّ جنون أجهزة المراقبة والآلات، بضجيجها وطنينها وأزيزها. وومضت المصابيح وانطلقت أجهزةُ الإنذار. وتطايَرت شرارات من المعدات وصار خط النبض الصاعد والنازل على شاشة جهاز مراقبة القلب مُستقيمًا، ودوت منه صفَّارة مُرعبة رتيبة. شحب وجهُ روكيت تمامًا. وانقبضت ملامحه من الارتياع، وبدأ يتقهقر من الغرفة، حتى ارتطم بفيش وأمي اللذَين سمعا كلَّ هذه الجلبة، فقَدِما راكضَين إلى الغرفة. تبِعتهم الممرضة بزي الجراحة المنقوش بأقواس قُزح. قالت الممرضة: «ليُخلِ الجميع الغرفةَ في الحال.» صرخت: «لا! إن أبي بحاجة إليَّ! يمكنني سماعه!» قالت أمي: «أرجوكِ يا ميبس …» لم أستطِع السماح لهم بإخراجي من الغرفة. يجب أن أمكث وأنصتَ إلى أبي. يجب أن أُعلِمه أنه حان وقت استيقاظه، وأنه سيجدني هناك ما إن يفعل ذلك. خفضتُ صوتي، وانحنَيت بالقرب من أذن أبي مرة أخرى، متشبِّثة بسريره متجاهلة كل محاولات الآخرين لإبعادي عنه. قلتُ: «أبي الحنون الطيب، آن أوان استيقاظك وعودتك إلى بيتنا. حان وقت رجوعك إلى منزلنا وبناء أرجوحة الشرفة، حيث يمكننا الجلوس معًا وتأمل السماء ومشاهدة مرور السَّحاب. وعندئذٍ سأحكي لك كلَّ ما حدث أثناء نومك، كلَّ ما يتعلَّق بالحافلات والقُبلات والأصوات وكل شيء. لا تستسلم يا أبي. لا تستسلم!» تدفَّق المزيد من الممرضات إلى الغرفة، وبذلن محاولاتٍ غير مثمرة في تتابع، لإفلات أصابعي المتشبِّثة بسرير أبي، بينما شقَّ طبيب طريقه عبْر تجمهرنا ليتفقد نبضه. «ميبس؟» «أجل! يا أبي! أنا هُنا.» شددتُ على يد أبي. يُمكنه سماعي. أبي يعلم أنني هُنا. «ميبس؟» «أنا أسمعك يا أبي. أنا ميبس. ابنتك …» أوقفت نفسي قبل أن أقول «ابنتك الصغيرة». لا أشعر أنني صغيرة بعد الآن. لقد كبرت. «هذه ميبس، يا أبي. أنا هُنا.» انتفضَت أصابع أبي وارتعش جفناه وانفتحا، فابتسم الطبيب، وبكت أمي. كان روكيت يتنفس بصعوبة وسط دموعه، أما فيش فقد شهق وأطلق صيحةَ فرح. تحسستُ يد سامسون في يدي وأيقنتُ أن كل الأمور ستسير على ما يرام.
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/37/
الفصل السابع والثلاثون
استغرقَ أبي فترةً طويلة للغاية كي يستردَّ عافيته على نحوٍ كافٍ يُمكِّنه من العودة إلى بيتنا في كنساسكا-نبرانساس. لكن لم تَعُد الأمور كما كانت قبل وقوع الحادثة أبدًا. عندما يقع لك حدثٌ جلل، مثل حادثة أو ظهور هِبَة خارقة أو تبادل أول قبلة، تأخذ الحياة منحنًى جديدًا ولا يمكنك العودة إلى ما مضى. كل ما يُمكنك فِعله هو المُضي قُدمًا وألا تنسى ما اكتسبته من خبرات. كان عيد ميلادي الرابع عشر ساطعًا ومُشرقًا، بلا أحداث خاصة أو مهمة تميِّزه، بخلاف أنني ازددت عمرًا. وصل موسم الربيع مرةً أخرى، وكانت أمي في المطبخ تُعدُّ كعكةَ عيد ميلادي. كانت نفس الكعكة التي تُقْتُ إلى الحصول عليها السنة الماضية، تعلوها عجينة سكَّر صفراء ووردية، ومزينة بأزهار مثالية من السكَّر، لكنها لم تَعُد ذات أهمية بالغة بالنسبة إليَّ، مقارنةً بغيرها من الأشياء. جلستُ وأبي في الشرفة، نتأرجح بأرجوحتنا الخاصة، التي شيَّدها لنا الخريف الماضي بمساعدتي وروكيت وفيش وسامسون، لكننا أدَّينا غالبية المهمة؛ إذ كان رأس أبي لا يزال متأثرًا بالحادثة. لكننا لم نستطِع التخلِّي عن حُلُم الحصول على أرجوحةِ شرفةٍ مِلْكنا وحدنا؛ لذا باشرنا تحقيقه بكل سرور. لم تكن أرجوحتنا أكبرَ أرجوحة في العالم، كالتي في هيبرون، كما لم تكن أجملها. بل لم تقرب لهاتين الصفتين أدنى اقتراب. لكن وأنا أجلس فوقها مع أبي، أفكِّر وأنصت، بينما أراقب معه مرور السِّحاب، أدركت أن أرجوحتنا هي أفضل أرجوحة في العالم. فقد كانت أرجوحتنا حقيقية، مُلحقة بشرفة حقيقية، ومُستندة إلى منزل كامل مليء بالحب. كان جَدِّي ينام في مقعد كبير من الخوص في الطرف الآخر من الشرفة، يحلُم بالأيام التي كان لا يزال فيها قادرًا على تحريك الجبال، وكان فيش جالسًا على الدَّرج بجوارنا، يُنصت إلى حديث جيبسي لنفسها، وهي تلتقط زهور سن الأسد في الفناء، بقدمين عاريتين، وثياب ترتديها على نحوٍ معكوس. انهمك فيش في مراقبة أخته الصغيرة عن كثَب وتوبيخها في كل مرة تحاول وضع زهرة سنِّ الأسد في فمها. قال فيش: «توقفي يا جيبسي»، بينما قرَّبت زهرة صفراء من لسانها في استفزاز. وأضاف متوعدًا: «إذا وضعت عشبة ضارة أخرى في فمك، فسآخذك إلى الداخل.» قال صوتٌ في رأسي: «دعي فيش يدفع الأرجوحة قليلًا …» حفَّت الآنسة حورية ذيلها عندما نظرتُ إلى ذراع أبي. رفعت عينَي إلى وجه أبي، ووجدته يفرك ذقنه بظهر كفه مبتسمًا. لقد تعرف عليَّ ذلك اليوم. كان الأمر رائعًا. عندما عُدنا إلى البيت من مشفى «هوب» في سالَينا، كان أبي لا يستطيع تحديدَ اليوم الذي نحن فيه من الأسبوع، أو تذكُّر ما إذا كان يحب التوت الأزرق في فطائره المحلاة أم لا. كما لم يستطِع تذكُّر هل كنَّا نعيش في نبراسكا أو كِنساس، ولم يفهم مِن أين لنا العيش في هذين المكانين في آنٍ واحد، وكيف حدث هذا بدايةً. وفي أيامه العصيبة كان يعجز عن تذكُّر كلماتٍ مثل «جريدة» أو «قهوة» أو «مربَّى» أو «آسف». لكن، في أيامه الجيدة، أو أفضل أيامه، كذلك اليوم الربيعي الذي جلسنا فيه في الشرفة وتسللت رائحةُ إعداد الكعك إلينا من النافذة، كان أبي ذلك الرجل الذي ألِفته — بلا شَعر على رأسه ليغطي الندوب الناجمة عن الحادثة — لكنه طيِّب ولطيف كسابق عهدنا به. هتفت: «يا فيش. بابا وأنا نريدك أن تدفعَ الأرجوحة.» صرف فيش انتباهه عن جيبسي وزهور سن الأسد. وقطَّب جبينه لحظة، ثم أرسل إلينا هِبَةً من الرياح، هزَّت أرجوحة الشرفة بقوة ونحن عليها، حتى كِدنا نسقط من فوقها. ضحكْتُ: «يا إلهي! ليس بهذه القوة!» قال فيش بضحكة عابثة: «آسف»، ودفعنا بهِبَة أخرى، لكنها كانت أقلَّ حدَّة هذه المرة. سمعنا صرير الباب الشبكي قبل أن ينفتح بصوتٍ مدوٍّ، ومنه دلفت أمي إلى الشرفة، بمئزر نظيف تمامًا ووجنتين متوردتَين من الطهي في المطبخ. ونظرت أمي إلينا جميعًا. «أين …؟» أجبتُ: «سامسون في الطابق العلوي. إنه يُساعد روكيت في حزمِ حقائبه.» تمتم فيش: «وفقًا لمعرفتي بسامسون، لا بد أنه اختبأ في إحدى حقائب روكيت. ولن يُدرك أحدٌ ذلك حتى يصل روكيت إلى مزرعة خالي أوتري.» روكيت، الذي بلغ من العمر الثامنة عشرة وصار حرًّا ليشق طريقه في الحياة بنفسه، عزم على ركوب الحافلة الذاهبة إلى وايومينج، في صباح اليوم التالي، ليقضي فصل الصيف، وربما فترة أطول من ذلك، مع شقيق أمي وعائلته في مكانٍ أقربَ إلى المجهول من كنساسكا-نبرانساس. في مزرعة الخال أوتري، يستطيع روكيت إطلاقَ العِنان لشراراته الكهربائية، كيفما شاء دون أن يبالي. فليس هناك جيران لعدة أميال؛ لذا لن يهتم أو يكترث أحدٌ بما يحدث. حاول جَدي وأمي إقناعَ روكيت بأنه يُبلي بلاءً حسنًا، وأنه يمكنه تخفيف وقْع شراراته، مِثله في ذلك مثل أي شابٍّ آخر، وأنه بمزيد من الجهد وعدَّة سنوات أخرى سيعالج هذا الأمر تمامًا. لكنه لم يعُد لحالته القديمة بعد ذلك اليوم في مشفى «هوب» في سالَينا في العام السابق. لقد فقدَ ثقتَه بنفسِه وتباهيه. ومنذ ذلك اليوم لم يَعُد يتفاخر بهِبَته الخارقة أو يزعجني بشأن هِبَتي الخاصة، ولو لمرة واحدة. وشاهد فيش وهو يسيطر على عواصفه، بفخر أخوي وغبطة، لكن وايومينج ستمنحه مساحاتٍ واسعة مفتوحة للعمل بالخارج والنوم تحت النجوم والتخفُّف من أعباء هِبَته الكهربائية. سألتُ روكيت عندما أعلن عن دعوة الخال أوتري له بالذهاب والإقامة بمزرعته: «كيف سنُشغِّل سيارتنا العائلة في غيابك؟» ضحِك روكيت وفرقع بضع شرارات عابثة. وقال: «أرى أن يُفكك أبي هذه السيارة البالية، التي تُشبه علبةً معدنية قديمة، ويزودها ببطارية جديدة.» سيكون غياب روكيت غريبًا، خاصة مع سيطرة فيش على هِبَته الخارقة بمهارة، ما يسمح له ببدء المدرسة الثانوية في هيبرون في الخريف. وقريبًا سأباشر زراعةَ الطحالب في أوعية المخلل وحدي، وسأرسم الألواح مع أمي، وسأدرس منزليًّا. ليس بمقدور هِبَتي الخارقة إيذاءُ الآخرين أو إحداث الضرر، لكنني وأمي ارتأينا الدراسة بالمنزل على أيِّ حال، تحسبًا لأي مفاجآت. قالت أمي: «لن يضيرك عامٌ أو عامان لاكتساب قوَّتك وتعلُّم كيفية التعامل مع هِبَتك الخارقة. وبعد ذلك ستَصيرين جاهزة لمواجهة العالم.» كانت أمي لا تعلم أنني واجهت العالم، وفزتُ في المواجهة. لقد تكيَّفت مع كل الأصوات داخل رأسي، وبدأت أميز الأصوات التي يجب أن أعيرها انتباهي من غيرها. وينطبق الأمر على الأصوات خارج رأسي أيضًا، ولا بدَّ أن قوَّتي الجديدة ظهر أثرُها عليَّ، كأن هناك علامة على جسدي، لأنه في المرة التالية التي قابلت فيها أشلي بينج وإيما فلينت في هيبرون لم يتفوَّها بكلمة واحدة، ولم أسمع منهما «ميسي-بيسي» ولو مرة. قاطعت الآنسة حورية أفكاري بشأن رحيل روكيت سائلة: «هل سيأتي صديقك إلى الحفل؟» أجبتُ: «نعم يا أبي. سيَحضُر ويل بعد الغداء.» تبيَّن أنه لن يُعاقبني الربُّ ولا السيدة روزماري على اختياراتي الخاطئة لفترة طويلة بعد هروبنا في تلك الحافلة الوردية الكبيرة. فقد عُدنا لحضور خدمات الكنيسة، مع القس ميكس وعائلته، وأصبح ويل وبوبي من الزوار المنتظمين لكنساسكا-نبرانساس. قاطعتني الآنسة حورية مرة أخرى: «وتلك الفتاة …؟» أجبتُ ضاحكة: «ستأتي بوبي أيضًا يا أبي. فهي تُريد أن تودِّع روكيت قبل رحيله.» تمتم أبي في استياء صاخب: «هراء»، بينما حرَّكت الآنسة حورية ذيلَها بغضب. دائمًا ما تظاهر أبي بنفوره من ويل وبوبي. وكنتُ أظنُّ أنه لم يكن يريد أن يرانا نحن أطفاله نكبر أمام عينيه. ولكن بسبب الآنسة حورية وهِبَتي الخارقة، كنت على درايةٍ بما يفكر فيه أبي دائمًا، وعلِمت أنه مسرور بأصدقائنا الجدد الذين يعلمون عن هِبَات عائلتنا الاستثنائية دون أن يؤثِّر ذلك في حبهم شيئًا. مع انتقال روكيت، وكون سامسون وجيبسي لا يزال بينهما وبين عيدي ميلادهما المهمين سنين طويلة، بدا أن الأمور ستبقى مستقرة وهادئة لبعض الوقت. لكنني كنت أعلم سرًّا — كان من المفترض ألا أعرفه — من شأنه إثارة الأوضاع مرة أخرى، بحلول الشتاء. كانت أمي مثالية، لكن هذا لا يعني عدم نسيانها بعضَ الحقائق أحيانًا. لذا عندما كانت تتحدَّث مع السيدة روزماري على الهاتف، في وقتٍ مُبكِّر من هذا الأسبوع، كي تحصل على الوصفة المثالية لفطيرة المارشميلو، عثرت على قلم لكنها لم تجِد الورق، ونسيت كل شيء عن الوشوم والهِبَات الخارقة والمشاعر والاستماع ودوَّنت الوصفةَ على ظهر يدها. لقد دوَّنتها بحبرٍ أحمرَ جذاب. كان الحبر أحمرَ جذابًا وصاخبًا. بهذه الطريقة عرفتُ أن أمي تشكُّ في أنها حامل، وأنه قد ينضمُّ إلى عائلة بومونت مولود جديد عما قريب. لكن ذلك اليوم، في أرجوحة الشرفة، بشمسه الساطعة وكعكته المثالية، لم يكن مناسبًا لإفشاء الأسرار؛ لذا أبقيت فمي مغلقًا وواصلت التأرجح مع أبي. تمنَّيت لو كانت هِبَتي الخارقة تعمل على نحوٍ معكوس مرةً أخرى … لكنها لم تكن الأخيرة. وددت لو أرسم شمسًا باسمةً على ظهر يدي، فيعلم الجميع كيف أشعر، وكم أنا سعيدة، في هذه اللحظة المثالية. لكن في الوقت الحالي، كانت الأوضاع هادئة، وستبقى هكذا لفترة طويلة جدًّا. ولن تتغيَّر حتى يبلغ سامسون الثالثة عشرة على الأقل … تُرى ماذا سيحدث حينها؟
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/48080736/
هِبات خارقة
إنجريد لو
تبقَّت أيامٌ قليلة على احتفالِ «ميبس بومونت» بعيدِ ميلادها الثالث عشر، وهذه ليسَت مناسَبة عادية لدى عائلة «بومونت»؛ فثَمة أفرادٌ في العائلة يتمتَّعون بقوًى خارقة، خاصةً حينما يَبلغون الثالثة عشرة؛ فجَدُّها لأمِّها يحرِّك الجبال، وأخواها الكبيران يخلقان الأعاصير ويُحدِثان شَرارات كهربية … والآن جاء دور «ميبس»، التي تترقَّب ذلك اليومَ بمشاعرَ متضاربةٍ من الخوف واللهفة.وكأنَّ الترقُّب والانتظار وحدهما لم يكونا كافيَين، فتلقَّت العائلة أنباءً سيئة قبل يومَين من عيد ميلاد «ميبس»؛ إذ وقَع حادِث فظيع لأبيها رقَد على أثره في المستشفى فاقدَ الوعي وفي حالةٍ خطِرة. ظنَّت «ميبس» أن هِبَتها الخارقة الجديدة ستُمكنها من إنقاذ أبيها، فوضَعَت في ذهنها هدفًا واحدًا، وهو أن تذهب إليه في المستشفى الذي يقع على بُعد أميال. ومن هنا تَخُوض «ميبس» مُغامَرة تكتشف فيها هِبَتها ونفْسَها، ويزداد نُضجها وتتحوَّل من طفلة إلى شابة يافعة. فهل تُفلِح في مساعدة أبيها على الشفاء، أم سيكون للقَدَر كلمةٌ أخرى؟
https://www.hindawi.org/books/48080736/38/
أسئلة نقاشية
صِفْ ميبس وعائلتها الفريدة. أترغب في أن تكون جزءًا من آل بومونت أم لا؟ ولماذا؟ صِفْ عَلاقة ميبس بوالديها وأشقائها. كيف تعقَّدت علاقتها معهم بسبب هِبَاتهم الخارقة؟ أتظن أن وراثة هِبَة خارقة نعمة أم نقمة؟ لماذا؟ ما الذي ورِثته عن عائلتك؟ سُردت الرواية من منظور البطلة وعلى لسانها؛ هل ستختلف القصة لو رواها شخص آخر بخلاف ميبس؟ أتظن أنَّ تغيير منظور الرواية أمرٌ جيدٌ أم سيئ؟ ولماذا؟ لماذا كان وصول لِيل كايتلي مهمًّا بالنسبة إلى ليستر؟ كيف ساعدت في عملية تغييره ونضجه على المستوى الشخصي؟ خمِّن ما سيكون عليه مستقبل هذين الشريكين. كيف تغيَّرت علاقة ميبس بويل وبوبي خلال مغامرتهم معًا؟ مَن مِنْ هؤلاء الثلاثة طرأ عليه تغيراتٌ أكثر في اعتقادك؟ ولماذا؟ حذَّرت السيدة بومونت ابنتَها قائلة: «لا يُمكنكِ التخلص من الشيء الذي يميزك عن غيرك وتواصلين العيشَ بسعادة؟» ما الذي يمكننا استنتاجه من مقولة الأم؟ أتتفق معها؟ أعطِنا بعضَ الأمثلة من القصة للتصديق على كلامها. أكمِل هذه النقاط: «هذه رواية عن …» بخمس كلمات تصِف بها رواية «هِبَات خارقة». وفسِّر اختياراتك. عندما تحدَّثت بوبي إلى ميبس عن مشاعرَ ويل الواضحة تجاهها، قالت ميبس: «شعرت أني صغيرة جدًّا وكبيرة جدًّا في الوقت نفسه.» لمَ راودها هذا الشعور؟ هل راودَك هذا الشعور يومًا؟ كيف تعاملت ميبس مع هذه المشاعر؟ وكيف تتعامل أنت معها؟ قالت ميبس في تأمُّل: «ربما كانت هذه حالة الجميع. ربما تسري أصوات الآخرين في رءوسنا طيلةَ الوقت على نحو فوضوي … وبدأت أدرك صعوبةَ عزل كل هذه الأصوات لسماع الصوت القوي الوحيد القادم من داخلي.» ما الذي يمكن للقارئ استنتاجه من مقولتها؟ قالت ميبس: «ثم تذكَّرت ما قالته لِيل قبل أن تغطَّ في النوم في النُّزل في الليلة السابقة. لا أحدَ يدري متى يثمر الشر عن خيرٍ. وأدركتُ أن الخير والشر كانا دائمًا حاضرَين ودائمًا مختلطَين في تشابك. كيف تعكس هذه المقولةُ نضْج ميبس؟
إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة. إنجريد لو: روائية أمريكية وفنَّانة وشاعرة، فازت بجائزة «نيو بري» لأحسن قصة أدبية أمريكية للناشئين، وجائزة «جودي لوبيز»، وغيرهما، وتُرجمت رواياتها للناشئين إلى لغات عديدة.
https://www.hindawi.org/books/42848294/
دودة فراشة الحرير
مأمون عبد اللطيف الرحال
«أنا الدودة التي بذلَت ما في وُسْعها، وقدَّمت نفسَها رخيصة، وتفانَت في سبيل إسعاد وخدمة الآخَرين من بني البشر.»أنا ملِكة الأنسجة بلا مُنازِع؛ فمن خيطِ شَرنقتي التي أحتمي بها يصنع البشرُ الحرير، الذي يُعَد أغلى الأنسجة ثمنًا، وأقواها مَتانة، وأكثرها نُعومةً ولمعانًا. تعالَ معي لتعرف عني أكثر!
https://www.hindawi.org/books/42848294/1/
دودة فراشة الحرير
يدعوني العلماء ملكة الأنسجة بلا منازع، ويسمُّون خَيطي الذي أغزله ملك الألياف الطبيعية وأقواها على الإطلاق؛ فهو ذو مرونة عالية، ونعومة فريدة، وبريق مميَّز لا يُجاريه خيط آخر. أمي فراشة تنتمي إلى فصيلة القزِّيات، من رتبة قشريات الجناح، ذات جسم سميك تغطِّيه أشعار كثيفة لونها أبيض مصفَر، وذات قرون استشعار مشطية عريضة. وضعتني أمي في فصل الربيع بيضةً ضمن مجموعة من مئات البيوض على شجرة توت جميلة، أوراقها كثيرة شهية، غضة طرية، كانت قد تفتَّحت للتو. فقست عني البيضة بعد أن مكثتُ فيها عشرة أيام، وخرجت منها يرقةً صغيرة سوداء اللون، لا يتجاوز طولي نصف سنتيمتر، ورحت أتنعَّم في هذه الخضرة بين الأوراق، أتناول منها بشهية كبيرة دون شعور بالشبع أو الملل. ويومًا بعد آخر كان جسمي ينمو وطولي يزداد، فأُضطَر إلى تبديل جلدي بين فترة وأخرى بعملية تُسمَّى الانسلاخ؛ ليتناسب مع حجم جسمي الجديد. وما إن مرَّ خمسة أسابيع انسلختُ فيها من جلدي أربع مرات حتى اكتمل نمو جسمي، وأصبح طولي يزيد عن سبعة سنتيمترات بقليل، وتحوَّل لوني إلى الرمادي المصفَر، مُشيرًا إلى اقترابي للدخول في مرحلة انتقالية بين الدودة والفراشة هي مرحلة التشرنق. عندما رحت أبحث عن مكان آمن كي أبدأ ببناء شرنقة أسكنها دون حراك، طيلة تلك الفترة، أنسجها بنفسي من ذلك الخيط الحريري الناعم الطويل، الذي أغزله بمساعدة زوج من غدد الحرير، وهي الغدد اللعابية في فمي، والتي تقوم بإفراز سائل لزج، ما إن يلامس الهواء حتى يتصلَّب. تستغرق عملية نسج شرنقتي ثلاثة أيام، وربما امتدَّت حتى عشرين يومًا، أكون خلالها قد غزلت خيطًا حريريًّا متصلًا قد يصل طوله حتى ١٥٠٠ متر يلف كامل جسمي، يغطِّيه ويستره. أبقى داخل هذه الشرنقة دون حراك مدة أسبوعَين بعد أن تحوَّلتُ داخلها إلى عذراء. أتحوَّل في نهاية مرحلة العذراء إلى فراشة كاملة. أخرج من مقدِّمة الشرنقة بعد أن أقوم بقطع خيوطها المتينة بواسطة مادة سائلة أُفرزها من فمي تُذيب خيوط الحرير، مشكِّلةً فتحةً أخرج منها، مادَّةً رأسي في ساعات الصباح الباكر على فضاء رحب تحيط به الخضرة والجمال. أخرج بكامل جسمي المبلَّل الرطب فراشةً كاملة مطوية الأجنحة، وأتوقَّف لحظات أُجفِّف نفسي، وأفرد أجنحتي، وأستجمع نشاطي قبل أن أفكِّر بالطيران. وما إن تجف أجنحتي وأستجمع قواي حتى أطير لنلتقي مع بقية أخواتي الفراشات للتزاوج وإنتاج البيوض، خلال فترة حياتنا القصيرة التي لا تتعدَّى أسبوعَين، نضع خلالها البيوض ثم نموت بعد أن نكون قد أدَّينا رسالتنا تجاه مجتمعنا. وكما ترَون أعزائي الأطفال فأنا الدودة المدلَّلة الوحيدة التي يهتم بتربيتي وإكثاري بنو البشر، ولكن إلى حين، ولمصلحتهم الخاصة؛ فبعد أن يقدِّموا لي أوراق التوت ليل نهار لأتغذَّى عليها وأنمو، حتى إذا نسجتُ شرنقتي وسكنت داخلها سارعوا إلى جمع شرنقاتنا أنا وإخوتي ونقعوها في الماء الساخن أو عرَّضوها لبخاره أو لأشعة الشمس عدة ساعات؛ للإجهاز علينا داخلها والتخلُّص منا قبل أن نقطع خيوط الشرنقات ونخرج منها فراشاتٍ كاملة. فيأخذون الخيط الكامل الذي تعبنا في غزله وينسجون منه أجود أنواع الأقمشة وأغلاها ثمنًا؛ كالبروكار والدامسكو والصايا والأغباني والكريب والشيفون والساتان والأورجنزا، ويخيطون منها الملابس الشهيرة؛ كالكيمونو وربطات العنق والشال الحريري وملابس السهرة والمطرَّزات، ويصنعون منها الخيوط الجراحية ومظلات الطائرات وغيرها الكثير. أنا الدودة التي بذلت ما في وسعها، وقدَّمت نفسها رخيصة، وتفانت في سبيل إسعاد وخدمة الآخرين من بني البشر. ويكفيني فخرًا أن يكون الحرير هو لباس الفائزين في الآخرة، وأن يكون الحرير الذي تصنعونه من خيط شرنقتي التي أحتمي بها هو أغلى الأنسجة ثمنًا، وأقواها متانة، وأكثرها نعومةً ولمعانًا في هذه الحياة الدنيا. أنا صديقتكم وصديقة آبائكم وأجدادكم من قبلكم. أنا دودة القز، دودة الحرير، إليَّ يُنسَب ذلك الطريق التاريخي الحيوي الذي ربط حضارات عريقة، وشعوبًا عديدة على مرِّ الأزمنة والدهور. الطريق الخالد؛ طريق الحرير الذي يتجاوز طوله عشرة آلاف كيلومتر، تشمل شبكةً من الطرق البرية والبحرية ربطت بين الصين وأوروبا، مرورًا بالشرق الأوسط؛ فقد اشتُهر الشعب الصيني بتربيتي والعناية بي والاستفادة من خيطي، فكانت تجارة الحرير سببًا في تنشيط القوافل التجارية وانتشار تجارة البضائع الصينية الأخرى التي برع فيها الصينيون؛ كصناعة الورق والبارود وأحبار الطباعة، الأمر الذي أدَّى إلى انتقال الذهب إلى الصين لتمتلك بذلك أكبر مخزون من الذهب العالمي في تلك الفترة، وكل ذلك بسب خيطي الذي أدهش كل من رأى نعومته وبريقه ومتانته وجمال ألوانه.
مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها.  بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية.  أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية. مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها. بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية. أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية.
https://www.hindawi.org/books/40635716/
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
أحمد فؤاد الأهواني
«نحن في حاجةٍ إلى القديمِ والجديدِ معًا؛ لأننا لا نستطيع قَطْع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولغته، لا يزال دِيننا الإسلام، وكِتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجةٍ اليومَ إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم، ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادُنا منذ ألف عام يُعلِّمونهما؛ فقد يُفيدنا ذلك في موقعنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابةَ والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي موضع تفكير علماء التربية.» في القرون الإسلامية الأولى بلغت الحضارة العربية أوْج عظمتها، وانتشرت لأقاصي الشرق والغرب، حيث انتقلت إلى أوروبا التي كانت تموج في بحرٍ مُظلم جرَّاء التدهور والانحلال. وهذه الحضارة العظيمة تأسَّست على العِلم، ولا عِلم بغير تعليمٍ وتربية. ولأجل التعرُّف على أحوال التعليم في تلك العصور الزاهية، يأتينا هذا الكتاب ﻟ «أحمد فؤاد الأهواني»، حيث يُقدِّم فيه دراسةً وافية عن حياة «أبو الحسن القابسي» الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وكِتابه البالغ الأهمية؛ إذ قام «القابسي» فيه بمُعالجةٍ تفصيلية ودقيقة لكل ما تعلَّق بشئون التعليم في عصره، وخصوصًا تعليم الصبيان، وكذلك حل مشكلات التعليم. وقد أُلحِق بهذا الكتاب رسالة «ابن سحنون» المُعنونة ﺑ «آداب المُعلمين»، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث الهجري ولا يعرفها سوى القليل، وتُعَد من الرسائل النادرة عن التربية.
https://www.hindawi.org/books/40635716/0.1/
مقدمة
موضوع التعليم ومناهجه موضوع جليل الشأن في كل العصور، وفي كل الأمم. وقد عُنِيَ به الباحثون من العلماء والفلاسفة، فَألَّفوا فيه الرسائل، وكتبوا فيه الكتب، منذ عهدٍ بعيد، ولا يزال مَوضع اهتمام المفكرين والمصلحين. ولا غروَ فإنَّ العلم أساسُ كل إصلاح، وتاج كل نهضة. والتعليم ليس إلا السبيل إلى نشر العلم، وتثقيف العقول به وتهذيب النفوس. والمُسلمون لم يتخلَّفوا عن غيرهم في ميدان هذا البحث؛ فقد كتَب في التعليم أئمتُهم ومفكروهم منذ القرون الأولى. وكانت لهم أنظار طريفة لم يُخْلِقْ تطاوُلُ الزمن جِدَّتَها. على أن كثيرًا من مؤلفات القُدامى ضاع فيما ضاع من آثار السلف الصالح، وكثيرًا من مؤلفات القُدامى ظلَّ مُتواريًا عن الأنظار في زوايا دور الكتب، بين أكداس المخطوطات، لا يهتدي إلى مكانه إلَّا المُولَعون بالبحث والتنقيب. وهذا أثر من تِلكم الآثار القيمة هو كتاب تفصيل أحوال المُعلمين والمُتعلمين، لأبي الحسن علي بن محمد القابسي المُتوفَّى ٤٠٣ هجرية، ١٠١٢ ميلادية، ينهض لنشرِه الباحث المجتهد الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، وينشُر معه بحثًا في «التعليم في رأي القابسي من علماء القرن الرابع». ومن البحث والنص المخطوط تتألَّف الرسالة، التي نال بها إجازة الدكتوراه من كلية الآداب. أما كتاب القابسي فهو كتاب جليل الفائدة للباحثين في التعليم وتاريخِه عند المسلمين، وهو يُصوِّر حالة التعليم في عصره من نواحٍ قلَّما فطن لها مؤلفو ذلك الزمان. وقد عُنِيَ الأستاذ الأهواني في بحثه القيم، بأن يُترجِم للقابسي ثم يعرض موضوعات كتابه عرضًا جديدًا، فراعى فيه تنظيمها وتوضيحها، وردَّها إلى أصولها، وربطها بمذاهب الفقهاء، ومقالات المُتكلمين. وعُنِي الدكتور الأهواني أيضًا بأن يُبرز ما في آراء المؤلف من طرافة، وما هو منها عُرضة للنقد، وأن يوازِن بين مذهب القابسي وبين المذاهب الحديثة في التربية والتعليم. نال أحمد فؤاد الأهواني برسالته، حين قدَّمَها إلى كلية الآداب، إجازة الدكتوراه؛ وهو إذ ينشُر اليوم هذه الرسالة في الناس، جدير أن ينال التشجيع كله، والثناء الجميل. وإن كان تلميذنا الأهواني من العلماء المُخلِصين، لا يبتغي في سبيل العلم وخدمته جزاءً ولا شُكورًا.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/40635716/
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
أحمد فؤاد الأهواني
«نحن في حاجةٍ إلى القديمِ والجديدِ معًا؛ لأننا لا نستطيع قَطْع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولغته، لا يزال دِيننا الإسلام، وكِتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجةٍ اليومَ إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم، ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادُنا منذ ألف عام يُعلِّمونهما؛ فقد يُفيدنا ذلك في موقعنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابةَ والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي موضع تفكير علماء التربية.» في القرون الإسلامية الأولى بلغت الحضارة العربية أوْج عظمتها، وانتشرت لأقاصي الشرق والغرب، حيث انتقلت إلى أوروبا التي كانت تموج في بحرٍ مُظلم جرَّاء التدهور والانحلال. وهذه الحضارة العظيمة تأسَّست على العِلم، ولا عِلم بغير تعليمٍ وتربية. ولأجل التعرُّف على أحوال التعليم في تلك العصور الزاهية، يأتينا هذا الكتاب ﻟ «أحمد فؤاد الأهواني»، حيث يُقدِّم فيه دراسةً وافية عن حياة «أبو الحسن القابسي» الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وكِتابه البالغ الأهمية؛ إذ قام «القابسي» فيه بمُعالجةٍ تفصيلية ودقيقة لكل ما تعلَّق بشئون التعليم في عصره، وخصوصًا تعليم الصبيان، وكذلك حل مشكلات التعليم. وقد أُلحِق بهذا الكتاب رسالة «ابن سحنون» المُعنونة ﺑ «آداب المُعلمين»، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث الهجري ولا يعرفها سوى القليل، وتُعَد من الرسائل النادرة عن التربية.
https://www.hindawi.org/books/40635716/0.2/
مقدمة الطبعة الثانية
تلقَّى الجمهور هذه الرسالة التي طبعتها عام ١٩٤٥م لقاءً حسنًا، فنفدت الطبعة في نهاية ذلك العام، وتهافت الطلَب على هذا الكتاب، وبخاصة من المُشتغلين بالمسائل الإسلامية وتاريخها. وكنتُ أفتش في أوراقي، فرأيتُ خطابًا من الدكتور سارتون أرسله إليَّ عام ١٩٤٧م يطلُب نسخة من هذه الرسالة، ولم أستطِع تلبيةَ طلبه لنفاد الكتاب. وفي هذا العام تقابلتُ مع المستشرق الدكتور كلفرلي الذي جاء يُلقي محاضرات في الفلسفة والتصوُّف الإسلامي بالجامعة الأمريكية، ورأيتُ أنه مُهتم بالتربية في الإسلام، وجاء ذكر رسالة القابسي، وعجبتُ أنه لم يطلع عليها مع أهميتها. وقد أرشدني إلى مقالةٍ كتبها الأستاذ جولدزيهر في دائرة المعارف عن التربية الإسلامية، وعرض فيها للقابسي، وقال إنه كان يودُّ العثور على رسالته. ومنذ عامَين التقيتُ في مؤتمر ابن سينا بمعالي الأستاذ علي أصغر حِكمت الذي كان وزير الخارجية بإيران، وتحدَّثْنا في أهمية تعليم المسلمين في الوقت الحاضر وكيف كان العرب في أوج حضارتهم يباشرون هذه المهمة وينشرونها بأيسرِ سبيل. ورغَّب كذلك في الاطلاع على رسالة القابسي. هؤلاء بعض مَنْ لقيتُ منهم العناية الفائقة بهذا الفن، ولمَستُ منهم الرغبة الصادقة في اقتناء كتاب القابسي عن التعليم. ومِن أجل ذلك رأيتُ أن أدفع بالرسالة إلى المطبعة لتشهد النور مرةً أخرى بعد عشر سنوات. ولم أكن قد قدَّمتُ لهذه الرسالة — وهي رسالة الدكتوراه — اكتفاءً بتقديم أُستاذي المغفور له مصطفى عبد الرازق الذي كان له الفضل في توجيه نظَري إلى أهمية هذا الموضوع، وإلى المُضيِّ في بحثه. وكانت عناية مصطفى عبد الرازق بالبحوث الإسلامية في شتَّى نواحيها عظيمة، صرَف إليها جهده، وحثَّ تلاميذه على كشف غوامِضها، مع الاهتمام بنشر التراث العربي القديم، وإحياء مجد العروبة والإسلام. وقد أحدثتُ تعديلاتٍ طفيفة في هذه الطبعة الثانية، وأضفْتُ في آخر الكتاب رسالة ابن سحنون «آداب المُعلمين»، وهي أيضًا من الرسائل النادرة في التربية، نشرَها الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب باشا في تونس عام ١٣٥٠هجرية، ونفدَتْ طبعتُها منذ زمنٍ طويل، ولا يعرفها إلا عدد قليل. وترجع أهمية رسالة القابسي إلى أنها الوحيدة — فيما نعلم — التي تُفصِّل أحوال تعليم الصبيان تفصيلًا فنيًّا دقيقًا، على حين أن سائر ما كتبَه العرب في التربية لا يتجاوز نصائح، أو مبادئ عامة، أو شذراتٍ متناثرة في بطون الكتب الأدبية والتاريخية، لا تكفي في إلقاء الضوء على هذا الجهاز عظيم الخطَر في الحضارة، وهو الذي نُسميه بالتربية أو التعليم؛ لهذا السبب كان البحث كله، أو يكاد، دائرًا حول القابسي وآرائه. ولا نِزاع في أن العرب قد بلغوا في القرون الأولى الإسلامية درجةً عظيمة من الحضارة انتشرت من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. ولا حضارة بغَير علم، ولا عِلم بغَير تعليم، ولا تعليم بغير نظام مُعين يُرتب الصِّلة بين المُعلمين والتلاميذ، ويُفصل المناهج وطرُق التربية وسائر ما يتصل بالتعليم من أدوات. وقد انتهت الحضارة الإسلامية التي كانت مُزدهرة ومُنتشرة ومتفوِّقة على الحضارة الأوروبية إلى الضعف والانحلال، وعمَّ الجهل، وانتشرت الأُميَّة، وأصبح الشرق في موقفه اليوم أشبَهَ بأوروبا في العصر الوسيط حين كانت تعتمِد على العلوم المُنتشرة عند العرب في حياتها الثقافية. ولكن الشرق العربي أخذ يتنبَّه ويستيقِظ منذ نصف قرن حتى يستعيد مجدَه السابق. واتَّجهت النهضة وِجهتَين: الأولى تأخُذ بالحضارة الأوروبية تنقلها كما هي وتعتمد عليها في ثقافتها، والثانية تلتفِتُ إلى الماضي تسعى إلى إحيائه ومعرفة الأساليب القديمة التي اتَّبَعها أجدادنا في تثقيف أبنائهم. ونحن في حاجةٍ إلى القديم والجديد معًا؛ لأنَّنا لا نستطيع قطع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولُغته. لا يزال ديننا الإسلام، وكتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجة اليوم إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم. ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادنا منذ ألف عام يُعلمونهما، فقد يُفيدنا ذلك في موقفنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابة والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي مَوضع تفكير علماء التربية. وقد رأيتُ أن أُضيف إلى عنوان الكتاب في طبعته الأولى عنوانًا جديدًا هو التربية في الإسلام؛ لأن الحديث لم يقتصِر على القابسي وحدَه، بل تجاوزَه إلى غيره كذلك. والله الموفق إلى ما فيه الخير والصواب.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/40635716/
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
أحمد فؤاد الأهواني
«نحن في حاجةٍ إلى القديمِ والجديدِ معًا؛ لأننا لا نستطيع قَطْع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولغته، لا يزال دِيننا الإسلام، وكِتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجةٍ اليومَ إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم، ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادُنا منذ ألف عام يُعلِّمونهما؛ فقد يُفيدنا ذلك في موقعنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابةَ والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي موضع تفكير علماء التربية.» في القرون الإسلامية الأولى بلغت الحضارة العربية أوْج عظمتها، وانتشرت لأقاصي الشرق والغرب، حيث انتقلت إلى أوروبا التي كانت تموج في بحرٍ مُظلم جرَّاء التدهور والانحلال. وهذه الحضارة العظيمة تأسَّست على العِلم، ولا عِلم بغير تعليمٍ وتربية. ولأجل التعرُّف على أحوال التعليم في تلك العصور الزاهية، يأتينا هذا الكتاب ﻟ «أحمد فؤاد الأهواني»، حيث يُقدِّم فيه دراسةً وافية عن حياة «أبو الحسن القابسي» الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وكِتابه البالغ الأهمية؛ إذ قام «القابسي» فيه بمُعالجةٍ تفصيلية ودقيقة لكل ما تعلَّق بشئون التعليم في عصره، وخصوصًا تعليم الصبيان، وكذلك حل مشكلات التعليم. وقد أُلحِق بهذا الكتاب رسالة «ابن سحنون» المُعنونة ﺑ «آداب المُعلمين»، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث الهجري ولا يعرفها سوى القليل، وتُعَد من الرسائل النادرة عن التربية.
https://www.hindawi.org/books/40635716/1/
حياة القابسي
في صدر الرسالة التي يتناولها هذا البحث أنَّ المؤلف هو: «أبو الحسن علي بن محمد بن خَلَف المعروف بالقابسي الفقيه القيرواني». فجميع الذين ترجَموا له لا يختلفون في أن اسمه هو: «أبو الحسن علي بن محمد بن خلف»، ولكن الخلاف بينهم على وصفه المعروف به، أهو القابسي، أم ابن القابسي؟ وإذا كان قابسيًّا فلماذا سُمِّيَ المعافري، كما ذكرَه بعضهم، ولماذا يُنسَب إلى القيروان؟ قال القاضي عياض: «ولم يكن أبو الحسن قابسيًّا، وإنما كان له عَمٌّ يشدُّ عمامته شدَّ القابسيين فسُمِّيَ بذلك، وهو قيرواني الأصل.» وهذا موافق لما ذكرَه الصفدي أيضًا إذ يقول: «وسُمِّيَ القابسي؛ لأن عمَّه كان يشدُّ عِمَّته شَدَّة قابسية.» ونقد صاحب مَعالم الإيمان هذا القول، فقال: «وهذا فيه نظر، وظاهر قولِهم «المعروف بابن القابسي.» يقتضي أن والِدَه كان من أهل قابس، فإمَّا أن يكون أتى القيروان وتزوَّج بها، وإما أن يكون أُتيَ به صغيرًا.» ثم أضاف: «ولمَّا وَلِيتُ قضاء قابس، وجدتُ بقُربها قريةً خالية تُسَمَّى «بالمعافريين» وفيها مسجد يقصد الناس الصلاة فيه تبرُّكًا به، يُقال له مسجد «سيدي علي» ولا يدرون من يكون عليًّا. فلمَّا خطبت خطبة العيد، انجرَّ في كلامي أنه ينبغي للإنسان أن يُكثر من زيارة قبور الصالحين، وأن يُوصي بالدفن في جوارِهم. ثم ذكرتُ الحكاية الآتية وهي: أنَّ الشيخ أبا الحسن القابسي لمَّا دُفِنَ بالقيروان، رأى رجلٌ في منامِه كأنَّ رجلًا خرج من قبره فقال: لي اليوم في العذاب أربعون سنة، فلمَّا دُفِن هذا الشيخ أبو الحسن عندنا غفر الله لي ولجميع من في المقبرة. فسألني بعضُهم من أي بلدةٍ هو؟ قلت: هو يُنسَب للمعافريين. فجزموا من مَحبتهم في ذلك المسجد، وفرحهم بالحكاية المذكورة أنه صاحِب ذلك المسجد. فزاد تبرُّكهم وصلاتهم به، وجدَّدوا ما اختلَّ من بنائه، وقالوا: لمَّا كان الشيخ اسمه علي، ويعرف بابن القابسي، وبلده المعافريين، وهذا المسجد بالمعافريين، وسُمِّيَ بالتواتُر سيدي علي، فهو المُراد لا غيره.» ونقل صاحب مَعالم الإيمان عن القاضي عياض الرواية الآتية: «ذكر ابن سعدون أن أبا الحسن لمَّا جلس للناس، وعُزِم عليه في الفتوى، تأبَّى وسدَّ بابه دون الناس، فقال لهم: اكسروا عليه بابه؛ لأنه قد وجَب عليه فرض الفُتيا، هو أعلم مَنْ بقِيَ بالقيروان.» وقال عياض: «كان أبو الحسن من صُلَحاء فقهاء القيروان.» نخرُج من هذا العرْض بأنَّ نِسبته إلى القيروان نسبة ولادة وإقامة وعمل؛ لأنه وُلِد بها وأقام فيها، وأفتى. وأن أصل بلدته «المعافريين» وهي قرية بالقُرب من قابس، أو قُل إنها ضاحية من ضواحيها. أما القابسي فهي النسبة التي اشتُهر بها في الكتب نسبةً إلى بلدة قابس بالقُرب من القيروان، كما جاء في بعض كتُب الناقِلين عنه. وبعض أصحاب التراجِم لا يعرفونه إلا أنه القابسي. انظُر إلى السيوطي كيف بدأ بهذا اللقب أوَّل كل شيء، ثم ترجَم له بعد ذلك. وقد وردتْ قصة على لسان أبي الحسن نفسه في كتاب (نَكْت الهميان) للصَّفدي، تُثبت أولًا أنه «القابسي» لا «ابن القابسي». وتثبت ثانيًا أن هذه النسبة إلى قابس مكذوبة عليه. وتُثبت ثالثًا أنه قيرواني. وهذا نصُّ كلام الصفدي: «قال أبو بكر الصقلي: قال أبو الحسن القابسي: كُذِبَ عليَّ وعليك، فسَمَّوني القابسي، وما أنا قابِسيٌّ، وإلَّا فأنا قيرواني. وأنت دخل أبوك مُسافرًا إلى صقلية فنُسبَ إليها.» وعن ابن خلكان: والقابسي بفتح القاف وبعد الألف باء موحدة مكسورة، ثم سين مُهملة، هذه النسبة إلى قابس، وهي مدينة بإفريقية، بالقُرب من المهدية، ولمَّا فتحها الأمير تميم بن المُعز بن باديس، قال ابن محمد خطيب سوسة قصيدة طويلة أولها: وفي القاموس وشرحه: «وقابس كناصر: بلد المَغرب، بين طرابلس الغرب وصفاقُس، منه أبو الحسن علي بن محمد القابسي، صاحب المُلخَّص وغيره.» ذكر ابن خِلكان مولده فقال: «وكانت ولادة أبي الحسن المذكورة في يوم الاثنين لستٍّ مَضَين من رجب سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.» واختتم القاضي عياض ترجمته بذِكر مولده «في رجب لستِّ ليالٍ مَضَيْنَ منه سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.» أما السيوطي، وابن العماد الحنبلي، وابن فضل الله العُمري، والصَّفدي، وعبد الرحمن، فلم يُعينوا يومَ مولده، ولكنهم اكتفَوا بذكر السنة التي وُلِد فيها. وهم جميعًا مُتفقون على أن العام الذي وُلِد فيه هو أربع وعشرون وثلاثمائة للهجرة. ويُوافق مولده بالتاريخ الميلادي سنة ٩٣٥م، في الحادي والثلاثين من شهر مايو. ذكر ابن خلكان رحلته إلى المشرق، ثم عودته إلى القيروان، فقال: «وحجَّ سنة ثلاثٍ وخمسين. وسمِع كتاب البخاري بمكة من أبي زيد، ورجع إلى القيروان، فوصلَها غداة الأربعاء أول شعبان أو ثانِيَه، سنة سبع وخمسين. كذا قال أبو عبد الله بن وهب.» وفي (معالم الإيمان) ما يتَّفق مع ما ورد في (الوفيات)، مع ذكر إقامته بمصر، قال: «ثم رحل إلى المشرق سنة اثنتَين وخمسين وثلاثمائة، وحجَّ سنة ثلاث وخمسين، ثم عاد إلى مصر، فأقام بها يسمع الحديث، فسمع بالإسكندرية من أبي الحسن جعفر الثابياني … ثم عاد إلى القيروان سنة سبع وخمسين.» وظاهر هذا القول أنه رحل قبل الحجِّ بعام، وهو طبيعي على الأخصِّ في تلك الأيام. كما أن زيارته لمصر طبيعية؛ إذ كان لا بدَّ لطالب الحجِّ من المغرب إلى المشرق أن يمرَّ بها؛ لأنها في الطريق. وذكر القاضي عياض ما يؤيد ذلك، قال: ورحل فحجَّ وسمع بمصر ومكة من حمزة بن محمد الكناني، وأبي الحسن الثابياني، وأبي الحسن بن هلال … وكانت رحلته إلى المشرق سنة اثنتَين وخمسين. قال القاضي عياض: «سمِع من رجال إفريقية: أبي العباس الإبياني، وأبي الحسن بن مسرور الدباغ، وأبي عبد الله بن مسرور العسال، وأبي محمد بن مسرور الحجاج، ودراس بن إسماعيل الفاسي والسدري.» وقال: «وعليه تفقَّه أبو عمر الفاسي، وأبو القاسم اللبيدي وغيرهما. وروى عنه أبو بكر عتيق السوسي، وأبو القاسم بن الحساري، وابن أبي طالب العابد، وأبو عمرو ابن العتاب، وأبو حفص العطار، وأبو عبد الله الخواص، وأبو عبد الله المالكي، ومكي الفاسي. وروى عنه من الأندلسيين المُهلب بن أبي صفرة، وحاتم بن محمد الطرابلسي، وأبو عمرو المغربي.» قال صاحب (معالم الإيمان): «وسمع منه خلق كثير» وعدَّد جماعة، منهم مَنْ ذكرهم القاضي عياض، ومنهم منْ لم يذكرهم. والمشهور أنه أخذ عن الدباغ والكناني. جاء في (شذرات الذهب): «أخذ عن ابن مسرور الدباغ، وفي الرحلة عن حمزة الكناني وطائفة.» وننقل إليك بعض ما وقع إلينا من كلام القابسي في شيوخه. عن السيوطي في (طبقات الحفَّاظ) أنه «كان حافظًا للحديث والعِلل، بصيرًا بالرجال، عارفًا بالأصلَين، رأسًا في الفقه، ضريرًا، زاهدًا، ورعًا.» وعن ابن خلكان: «كان إمامًا في علم الحديث ومُتونِه وأسانيده، وجميع ما يتعلق به، وكان للناس فيه اعتقاد كثير.» وجاء في (شذرات الذهب): «وكان مع تقدُّمه في العلوم حافظًا، صالحًا، تقيًّا، ورعًا، حافظًا للحديث وعِلَله منقطع القرين.» وذكره صاحب (معالم الإيمان) قال: «كان عالمًا عاملًا، جمع العِلم والعبادة، والورَع والزهد، والإشفاق والخشية، ورقَّة القلب، ونزاهة النفس، ومَحبة الفقراء. حافظًا لكتاب الله ومَعانيه وأحكامه، عالمًا بعلوم السنة والفِقه واختلاف الناس، سلَّم له أهل عصره ونظراؤه في العلم والدين والفضل، كثير الصيام والتهجُّد بالليل والناس نِيام مع كثرة التلاوة، وكانت فيه خصال لم تكمُل إلا فيه: منها القناعة، والرفق بأهل الذنوب، وكتمان المصائب والشدائد، والصبر على الأذى، وخدمة الإخوان، والتواضُع لهم، والإنفاق عليهم، وصِلتهم بما عنده.» وأطال القاضي عياض في ذكر مَناقبه، وقد استهلَّ ذكره بما يأتي: «كان أبو الحسن من الخائفين الورِعين، المُشتهرين بإجابة الدعوة، سلك في كثيرٍ من أموره مسلك شيوخه من صُلَحاء فقهاء القيروان، المُتقلِّلين من الدنيا، البكَّائين المعروفين بإجابة الدعاء، وظهور البراهين.» وقال ابن فضل الله العُمَري في (مسالك الأبصار): «رجل نُوِّرت بصيرته، وسرَّت سريرته، وظهرت بزيادة نور الباطن خِيرته، فلم يكن ضررًا عماه، ولا عادمًا فضل البصر ونُعماه؛ ولم تزل نكبات الأيام عنه ناكبة، ونوائب الحدثان على أعدائه مُتناوبة؛ اختلج بحرًا لا تسَع مثله الصدور، وأخرج دُرًّا لا تولد شبهَهُ البحور، فما تكلم إلا امتدَّت إليه يدُ الالتقاط، وضاق به فسيح الفضاء والبحر في سَمِّ الخِياط؛ ولم يزل على طرُق العلم راصدًا، ولسُبل الحلم قاصدًا، إلى أن قُطِّعت حِباله، وغاصت أبحُرُه الزواخر ودُكَّتْ جباله.» ثم قال: «وكان حافظًا للحديث والعِلل، بصيرًا بالرجال، عارفًا بالأصلَين، رأسًا في الفقه. وكان ضريرًا، وكتُبُه في نهاية الصحة، كان يضبطها له ثِقات أصحابه. وكان زاهدًا ورِعًا يقظًا، لم أرَ بالقيروان أحدًا إلا مُعترفًا بفضله.» ونُحِب أن نقف قليلًا عند مَناقبه العلمية، فقد أجمع الذين ترجَموا له على أنه كان مُحدِّثًا حافظًا فقيهًا. ويؤيد ذلك أن صاحب (مسالك الأبصار) ذكرَه في (طبقات المُحدِّثين). وذكره السيوطي في (طبقات الحفَّاظ)، وفي هذا دليل على بلوغه مَرتبة الحُفَّاظ من أئمة المُحدِّثين. وما جاء في رسالته التي بين أيدينا من الأحاديث المُسنَدَة، يُبين أن القابسي كان حقًّا من علماء الحديث. وكتابهُ «المُلخَّص» دليل على رسوخ قدمِه في الحديث. وفي ابن خلكان: «وصنَّف في الحديث كتاب «المُلخَّص» جمع فيه ما اتَّصَل إسناده من حديث مالك بن أنس رضي الله عنه في (كتاب المُوطأ)، رواية أبي عبد الرحمن بن القاسم المصري، وهو على صِغَر حجمه، جيد في بابه.» من الذين أطالوا في ذكر مؤلفاته القاضي عياض، وابن فرحون، وعبد الرحمن. ذكر ابن فرحون خمسة عشر كتابًا، وعياض أربعة عشر، وعبد الرحمن عشرة. واتَّفق المترجِمُون الثلاثة على تسعة كتُب نذكُرها كما جاءت في «ترتيب المدارك» للقاضي عياض، مُتجاوِزين عن ذكر الخلاف اليسير في نص العنوان. وهي: كتاب «المُمهِّد في الفقه وأحكام الديانة»، وكتاب «المُبعِد من شبه التأويل»، وكتاب «المُنبِّه للفطن من غوائل الفِتَن»، و«الرسالة المُفصلة لأحوال المُتعلمين والمُعلمين»، وكتاب «الاعتقادات»، وكتاب «مناسك الحج»، وكتاب «مُلخص الموطأ»، و«الرسالة الناصرية في الرد على البكرية»، وكتاب «الذكر والدعاء». وذكر الصفدي ستة من هذه الكتب فقال: «ومن تصانيفه المُمهِّد في الفقه وأحكام الديانات، والمُبعد من شبه التأويل، والمنبه للفِطن من غوائل الفتن، ومُلخَّص الموطأ، والمناسك والاعتقادات.» واتفق القاضي عياض وابن فرحون في خمسة كتب: «رسالة كشف المقالة في التوبة، وكتاب رُتَب العلم وأحوال أهله، وكتاب حُسن الظن بالله تعالى، رسالة تزكية الشهود وتجريحهم، رسالة في الورع.» أما الكتاب العاشر الذي جاء في (معالم الإيمان) فهو كتاب «أحمية الحصون» ذكره ابن فرحون في (الديباج)، وأغفَلَه القاضي عياض في (ترتيب المدارك). وبحَثْنا عن هذه المؤلَّفات في (كشف الظنون)، وفي بروكلمان لنهتدي إلى الموجود منها. وذكر بروكلمان أيضًا كتاب «المُفصلة لأحكام المُعلمين» المخطوط الموجود في باريس، وهو موضوع بحثنا هذا. هذه النسخة محفوظة في المكتبة الأهلية بباريس برقم ٤٥٩٥. وهي النسخة الوحيدة في العالم، على ما نعلم. وقد طلبتُ من دار الكتب المصرية في القاهرة أن تُحضِر صورةً شمسية لها، فأحضرَتْها. وهي محفوظة برقم ١٥٩٢ تعليم. وتاريخ النسخ الموضوع على المخطوطة هو سنة ٧٠٦ هجرية. عنوان الكتاب كما جاء في فهرست المكتبة الأهلية بباريس هو: «أحوال المُتعلمين، وأحكام المُعلمين والمُتعلمين». والواقع أن المكتوب في صدر المخطوطة عنوان في سطرَين: في السطر الأول كلمة «الفضيلة» أو «المُفصلة» كما سنُبَيِّن فيما بعد، وفي السطر الثاني «لأحوال المُتعلمين وأحكام المُعلمين والمتعلمين». وقد قرأتُ الكلمة الأولى من العنوان على أنها «الفضيلة»، ولذلك حين أحضرَتْ دار الكتب المصرية بالقاهرة النسخة الشمسية — بناءً على طلبي — سجلتُ عنوان الكتاب في فهارسها «الفضيلة» كما ذكرتُ للدار. وقراءة هذه اللفظة على النحو السابق أدخل في ذهن الناظر إليها من أول وهلة. والحقيقة غير ذلك لما سنُبيِّنُه من أسباب. والواضح ألف، ثم لام ثم فاء منقوطة، ثم صاد، ثم لام، ثم هاء مربوطة ليست منقوطة. وإذْ جرى الناسخ على إهمال النقط في أغلب الأحيان، وكانت السِّنَّة التي عقبت الصاد مُنحنية إلى أسفل، مما يُوحي بأنها ياء، فقد قرأت الكلمة «الفضيلة». واتفق صاحب (ترتيب المدارك)، وصاحب (معالم الإيمان)، وهما يُترجِمان لحياة أبي الحسن، أن من ضِمن مؤلفاته كتابًا اسمه «الرسالة المُفصَّلة لأحوال المُتعلمين». وبالرجوع إلى الأصل المخطوط، تَبيَّن لنا، أنه بالرغم من أن حرف الميم ساقط من اللفظة، فإن قراءتها على أنها «المُفصلة» أرجح؛ لأنه هو العنوان المعروف بين العلماء، المذكور في كتبهم، ولأن قراءة الكلمة «الفضيلة» يجعلنا ننقط الصاد ونُضيف ياء بعدَها ليست موجودة. وعلى ذلك يكون عنوان الكتاب: «المُفصلة لأحوال المُتعلمين وأحكام المُعلمين والمتعلمين» وفيما ذكره ابن فرحون في الديباج عن عنوان هذا الكتاب تصحيفٌ ظاهر لا يحتاج منَّا إلى إقامة دليل، فقد جاء في سياق مؤلفاته: «والرسالة المُفصَّلة لأحوال المُتقين وكتاب المُعلِّمين والمُتعلمين.» ولا شك أن لفظة المُتقين مُصحَّفة عن المُتعلمين، وأن الرسالة والكتاب ليسا إلا كتابًا واحدًا، هو الذي نُجري عليه هذا البحث. ونُشير إلى ترجمة العنوان التي وردت في فهرست المكتبة الأهلية بباريس؛ إذ فيها تحريف كثير. فالترجمة تقول: «قواعد السلوك للمُعلِّمين والمتعلمين». وليست هذه القراءة صحيحة، ولا تنطبِق على ما جاء في الأصل. لا خلاف بين أصحاب الكتب السابقة التي أخذْنا عنها في الترجمة للقابسي أن عام وفاته هو ٤٠٣ هجرية. ولم يذكُر القاضي عياض الشهر الذي تُوفي فيه، وكذلك ابن العماد الحنبلي. وذكر السيوطي الشهر دون اليوم. وحدَّد ابن خِلكان ليلة وفاته قال: «وتُوفِّيَ ليلة الأربعاء ثالث شهر ربيع الآخر سنة ثلاثٍ وأربعمائة.» وعن (معالم الإيمان): «وتُوفِّيَ رحمه الله ليلة الأربعاء، ودُفن يوم الخميس صلاة الظهر لثلاثٍ خلَوْن من ربيع الآخر سنة ثلاثٍ وأربعمائة.» وقال ابن خِلكان: إنه دُفن يوم الأربعاء لا الخميس. قال: «ودفن يوم الأربعاء وقت العصر بالقيروان، وبات عند قبره من الناس خلق كثير، وضُرِبت الأخبية، وأقبلت الشعراء بالمراثي، رحمه الله تعالى.» وبذلك يكون القابسي قد عَمَّرَ ثمانين عامًا. وتاريخ وفاته الهجري يوافق ١٠١٢ بالتاريخ الميلادي في زمن الحاكم بأمر الله الفاطمي.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/40635716/
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
أحمد فؤاد الأهواني
«نحن في حاجةٍ إلى القديمِ والجديدِ معًا؛ لأننا لا نستطيع قَطْع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولغته، لا يزال دِيننا الإسلام، وكِتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجةٍ اليومَ إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم، ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادُنا منذ ألف عام يُعلِّمونهما؛ فقد يُفيدنا ذلك في موقعنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابةَ والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي موضع تفكير علماء التربية.» في القرون الإسلامية الأولى بلغت الحضارة العربية أوْج عظمتها، وانتشرت لأقاصي الشرق والغرب، حيث انتقلت إلى أوروبا التي كانت تموج في بحرٍ مُظلم جرَّاء التدهور والانحلال. وهذه الحضارة العظيمة تأسَّست على العِلم، ولا عِلم بغير تعليمٍ وتربية. ولأجل التعرُّف على أحوال التعليم في تلك العصور الزاهية، يأتينا هذا الكتاب ﻟ «أحمد فؤاد الأهواني»، حيث يُقدِّم فيه دراسةً وافية عن حياة «أبو الحسن القابسي» الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وكِتابه البالغ الأهمية؛ إذ قام «القابسي» فيه بمُعالجةٍ تفصيلية ودقيقة لكل ما تعلَّق بشئون التعليم في عصره، وخصوصًا تعليم الصبيان، وكذلك حل مشكلات التعليم. وقد أُلحِق بهذا الكتاب رسالة «ابن سحنون» المُعنونة ﺑ «آداب المُعلمين»، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث الهجري ولا يعرفها سوى القليل، وتُعَد من الرسائل النادرة عن التربية.
https://www.hindawi.org/books/40635716/2/
بيئة القابسي الدينية وطريقته في التأليف
القابسي صورة للعصر الذي عاش فيه، بل صورة للإقليم الذي أظلَّتْه سماؤه. وإذا أردْنا أن نفهمه، فعلَينا أن نفهم البيئة التي نشأ فيها. فالإنسان مُتصل بالبيئة يتأثَّر بها ويؤثر فيها. وعندنا أن تأثير البيئة في الفرد أقوى من تأثير الفرد فيها. وبعض المُفكرين يسبقون عصرهم وهؤلاء هم قادة الفكر، وهم قِلة إلى جانب أغلبية المجتمع. وقد يمرُّ عصر — بل عصور — دون أن يجود الزمان بهؤلاء الأحرار الذين يستطيعون التخلُّص من سلطان المُجتمع ليُفكروا دون تقييدٍ أو جمود، وليحكموا عقولهم في سبيل إصدار الحُكم الصحيح الخالِص من أثر الأهواء والتعصُّب للشائع المعروف. فهذا أرسطو وهو المُعلم الأول، ألَّف في جميع العلوم، لم يسلَم من ربقة البيئة وسُلطان المجتمع. فقد أجاز نظام الرقِّ وعَدَّ الأرقاء أقلَّ في الطبيعة الإنسانية من غيرهم، والطبيعة البشرية واحدة في جميع الناس. كانت البيئة السائدة في القرن الرابع بيئةً دينية، إسلامية في الشرق، ومسيحية في الغرب، أهمُّ ما يُميزها خضوع الناس في مناحي تفكيرهم وأحوالهم لسُلطان الدين. هذه سِمة العصر كله. ويحسُن أن نتتبع نشأة هذه البيئة الدينية منذ ظهورها إلى أن اتَّخذَت لونًا خاصًّا في شمال أفريقيا، وفي القيروان على وجه الخصوص، وهي المدينة التي وُلِد القابسي ونشأ فيها، إذ كان هذا التحوُّل لازمًا لفَهم البيئة التي نتحدَّث عنها. جاء في كلام الله تعالى المُنزَّل على نبيه محمد ﷺ أن الدين الإسلامي هو الدين الذي يجب اتباعه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ (آل عمران: ١٩)، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (آل عمران: ٨٥)، ولذلك كانت غاية المُسلمين أن ينشروا دينَهم في جميع البلاد. وكانت وسيلتُهم إلى تحقيق هذه الغاية الدعوة والغزو. وقد عمل النبي ﷺ والذين آمنوا معه من العرب بهذه العقيدة الدينية والسياسية؛ لأنهم كانوا يعملون في سبيل الله، ويؤمنون بما جاء على لسان رسوله. وقد قوَّتْ هذه العقيدة عزائم المُسلمين، وحفَّزتهم إلى دعوة الشعوب المختلفة إلى اعتناق الإسلام، بل دفعتهم إلى غزو هذه الشعوب، وإلى فرض الدين الإسلامي على أهلها. ذلك أن الشروط التي اتَّبعها الغزاة من العرب في فتوحاتهم هي قبول الإسلام أو الجزية أو القتال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (التوبة: ٢٩). وانتهى بذلك كثير من الشعوب المختلفة إلى الدخول إلى الإسلام. وامتدَّت الفتوحات شرقًا وغربًا في دائرةٍ مركزها جزيرة العرب: فسقطت دولة الفرس، وغُلِبت الروم، وأخذت العرب فلسطين والشام. وبذلك استقرَّ المُسلمون في تلك البلاد استقرار مَنْ يلتصق بالأرض ويتَّخِذها له وطنًا. فإذا قُلنا إن كبراء العرب عادوا إلى وطنهم، فإن هذا الخلق الذي خرج من المدينة ومن حولها، لم يعُد منهم إلا القليل، على حين مكَث أغلبهم وبنى واستقر؛ ذلك أن المعيشة في جزيرة العرب لا تسهُل حتى على أهلها، لقلَّةِ مواردها وقسوة الجو فيها. وبقيت أئمة المُسلمين وكبار الصالحين رمزًا قويًّا للصدر الأول من الإسلام، وتبعث في الخلَف روح الاستمرار على الاقتداء بالأوائل، وبث تعاليم الإسلام، والتمسُّك بأهداب الدين القويم. على أن استتباب الأمر، ونشر الإسلام، وتمكين الدين واللغة العربية من النفوس شغل الدولة الأموية كلها. ذلك أنَّ الثورات لم تنقطِع في عهد الأمويين كما رأينا، بسبب قُرب العهد بالشعوب المفتوحة من تقاليدها وعاداتها الموروثة. بذلك تمَّ إسلام البربر، وأصبحت لُغتهم هي العربية، كما حدث للفُرس وغيرهم من الشعوب غير العربية. وعُني العباسيُّون بتثبيت الإسلام بعد ان انقضى نحو قرنٍ من الزمان على الفتح، نسِيَ خلاله البربر — وهم أهل شمال إفريقية — تاريخهم ودينهم. وأقبلوا على الدين الجديد، وتشبَّعوا منه، وأُشرِبوا حبه وتثقَّفوا بثقافته، وأصبحوا ركنًا من أركانه يَذودون عنه باللسان والقلم والسيف. انقضى نحو قرنٍ من الزمان منذ الفتح حتى إسلام البربر، وانقضى نحو قرنٍ آخر تفقَّه فيه أهل شمال إفريقية، حتى برز منهم علماء يُشار إليهم ويُعتدُّ بهم، منهم علي بن زياد، وابن أبي حسان، وابن غانم، وابن أشرس. ولم يكن في المغرب من أئمة العلماء من يأخذ الناس عنهم. ولم تكن حلقات العِلم في مساجدها مما يُشبع نهَم طلاب التبحُّر في العلم. وإنما كان سبيل طلاب العلم أن يرحلوا إلى مواطِنِه يُثقِّفون أنفسهم، ويُشبعون نهمَهم، ويَروون غُلتهم. والطريق الطبيعي الذي لا بد لأهل المغرب أن يسلكوه إذا أرادوا طلَبَ العلم هو الرحلة إلى مصر، ومنها إلى البلاد الشرقية خصوصًا الحجاز، فقد كانت مصر مركزًا من مراكز العلم، ظهر فيها الشافعي، وهو أحد الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب الذين يَأتمُّ بهم المُسلمون، ويعتمِدون عليهم في الفقه وتفسير العقائد والعبادات. وانتشر أيضًا مذهب مالك، وكان له في مصر تلاميذ كثيرون نذكُر منهم أشهب، وابن القاسم، وأصْبغ بن الفرج. أما البلاد الشرقية الأخرى التي كان المغاربة يتوجَّهون إليها فهي مكة والمدينة. وكانوا يذهبون إليهما بحكم الضرورة: في مكة الكعبة التي يحجُّ إليها كافة المسلمين ليؤدوا فريضة الحج التي أمر الله بها، وفي المدينة قبر النبي ﷺ، يزوره الحُجَّاج، ويشهدون مهبط الوحي، والبيئة الأولى التي ينبع منها الدين. في مصر ومكة والمدينة من العلماء المُتمكِّنين في العلم غنية لمن يطلُب التوسُّع في أسرار الدين، والتفقُّه في أحكام المُعاملات والعبادات والتشريع. وسحنون هو الذي نشر مذهب مالك بالمغرب. سمع سحنون من ابن القاسم وابن وهب وأشهب وابن عبد الحكم وسفيان بن عيينة. قال سحنون: «خرجتُ إلى ابن القاسم وأنا ابن خمسٍ وعشرين، وقدِمتُ إلى إفريقية ابن ثلاثين سنة.» وكان سحنون ثقةً حافظًا للعلم، اجتمعت فيه خلال قلَّما اجتمعت في غيره من الفقه البارع، والورَع الصادق، والزهادة في الدنيا. صنف سحنون «المدونة»، وعليها يعتمِد أهل القيروان، وعنه انتشر علم مالك بالمغرب. وتُوفي سحنون سنة ٢٤٠ للهجرة. كان محمد إمامًا في الفقه، ثقةً عالمًا بالذَّبِّ عن مذاهب أهل المدينة، عالمًا بالآثار. وكان الغالب عليه الفقه والمناظرة. وكان يُحسن الحجة والذبَّ عن أهل السُّنَّة والمذهب. وكان ابن سحنون إمام عصره في مذهب أهل المدينة بالمغرب جامعًا لخلالٍ قلَّما اجتمعت في غيره من الفقه البارع، والعِلم بالأثر والجدل والحديث، والذبِّ عن مذهب أهل الحجاز. على يد هؤلاء انتشر مذهب مالك في المغرب خلال القرن الثالث، وأصبح هو المذهب السائد في تلك الأنحاء، واتَّبعَه الفقهاء جيلًا بعد جيل. ولهذا لم يكن من الغريب أن ينشأ القابسي مالكيًّا؛ لأنه وُلِد في المغرب فتأثر بالبيئة الغالبة في عصره، وهي بيئة تَبنِي الفقه الإسلامي على أساسٍ من القرآن والحديث، ولذلك اصطلح العلماء على تسميتهم بأهل الحديث. ولم يكن بين المسلمين في القرن الأول من الهجرة خلاف كبير على أحكام المُعاملات والعبادات، لبُعدهم عن الحضارة، ولبساطة المعيشة بما يُشبه فطرة العرب في البداوة، وقربهم من عصر الرسول، وإدراكهم للصحابة الذين صحبوه وسمِعوا عنه، وشهِدوا أفعاله في شتى المناسبات، ووعَوا آثاره عن سلوك المسلم الكامل الإسلام. فلمَّا توغَّل المسلمون في الحضارة، وتفرَّعت مطالب الحياة، وظهرت ألوان من المعاملات لم تكن معروفة في عهد النبي، تصدَّر الأئمة للحُكم عليها من الناحية الشرعية بما يتفق مع الدين، ويتأثر هَديَ الرسول الأمين. هذه الأحكام الجديدة تُسمَّى في الفقه بالاجتهاد، ويُسمَّى الأئمة الذين يُصدرونها بالمُجتهدين. قال صاحب (المِلَل والنِّحَل): «ثم المجتهدون من أئمة الأمة محصورون في صنفَين لا يعدوان إلى ثالث: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي. وأصحاب الحديث وهم أهل الحجاز، هم أصحاب مالك بن أنس وأصحاب محمد بن إدريس الشافعي، وأصحاب سفيان الثوري، وأصحاب أحمد بن حنبل، وأصحاب داود علي بن محمد الأصفهاني. وإنما سُمُّوا أصحاب الحديث؛ لأن عنايتهم بتحصيل الأحاديث، ونقل الأخبار، وبناء الأحكام على النصوص، ولا يرجعون إلى القياس الجلي والخفي ما وجدوا خبرًا أو أثرًا. وقد قال الشافعي: إذا وجدتُم لي مذهبًا، ووجدتم خبرًا على خلاف مذهبي، فاعلموا أن مذهبي ذلك الخبر. ومن أصحابه أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، والربيع بن سليمان الجيزي … وهم لا يزيدون على اجتهاده اجتهادًا، بل يتصرَّفون فيما نقل عنه توجيهًا واستنباطًا، ويَصدرون عن رأيه جملة، ولا يُخالفونه البتة. وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي يتَّفِقان في الاعتماد على الكتاب، أي القرآن؛ لأنه الأصل الأول من أصول الفقه، ولا وجهَ للخلاف فيه لأنه تنزيل العزيز الحكيم. ولكنهما يفترِقان عند الأصل الثاني، أي السنة، فأصحاب الحديث وعلى رأسهم مالك يأخذون بالحديث، وأصحاب الرأي لا يعتمدون عليه كثيرًا. وهناك بعض الفقهاء لم يجوزوا القياس، واكتفوا بالكتاب والسنة والإجماع، وهم أهل الظاهر. قال الشهرستاني: «ومن أصحاب الظاهر مثل داود الأصفهاني وغيره ممَّن لم يجوِّز القياس والاجتهاد في الأحكام، وقال: الأصول هو الكتاب والسنة والإجماع فقط، ومنع أن يكون القياس أصلًا من الأصول … وظنَّ أن القياس أمر خارج عن مضمون الكتاب والسنة.» أما مالك فلم يكن يلجأ إلى القياس إلا قليلًا، والأغلب اعتماده على الكتاب والسنة وعمل أهل المدينة والإجماع. «قِيل لمالك قولك في الكتاب الأمر المُجتمع عليه، والأمر عندنا وببلدِنا، وأدركتُ أهل العلم، وسمعتُ بعض أهل العلم. فقال: أما أكثر ما في الكتاب فرأي فلَعَمري ما هو برأيي، ولكن سماعٌ من غير واحد من أهل العلم والفضل والأئمة المُهتدى بهم الذين أخذتُ عنهم. وهم الذين كانوا يتقون الله، فكثر عليَّ، فقلتُ رأيي. وذلك رأيي إذ كان رأيهم رأي الصحابة الذين أدركوهم عليه، وأدركتهم أنا على ذلك. فهذا وراثة توارَثوها قرنًا عن قرنٍ إلى زماننا. وما كان رأيًا فهو رأي جماعة ممَّن تقدَّم من الأئمة. وما كان فيه الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعِلم لم يختلفوا فيه. وما قلتُ الأمر عندنا، فهو ما عمل به الناس عندنا وجرَتْ به الأحكام، وعرَفَه الجاهل والعالم. وكذلك ما قلتُ فيه ببلدنا، وما قلتُ فيه بعض أهل العلم، فهو شيء استحسنتُه من قول العلماء. وأما ما لم أسمع منهم، فاجتهدتُ ونظرتُ على مذهب مَنْ لقيتُه، حتى وقع ذلك موقع الحق أو قريبًا منه، حتى لا يخرج من مذهب أهل المدينة وآرائهم. فهذا كلام مالك نفسه يتَّضِح منه مذهبه. وبعد أن استقرَّت المذاهب الفقهية، سرى كل مذهب في جهة من الجهات: «فغلب مذهب مالك على أهل الحجاز والبصرة ومصر وما والاها من بلاد إفريقية والأندلس؛ صقلية والمغرب الأقصى إلى بلاد من أسلم من السودان حتى وقتنا هذا.» أي إلى زمن ابن فرحون صاحب (الديباج) في القرن الثامن. ونشأ القابسي بالقيروان، فوجد مذهب مالك هو المذهب السائد في بيئته. وأخذه عن شيوخ كلهم مالكيُّون. ثم رحل إلى مصر والحجاز فسمع عن المالكيين، ثم عاد فقيهًا مُحدِّثًا مالكيًّا مُتبعًا لمذهب مالك، وكتابه في التعليم الذي بين أيدينا شاهد على ذلك؛ لأنه يجري فيه على طريقة المالكية، يعتمِد على الكتاب، ثم السنة، ثم عمل أهل المدينة، ثم الإجماع ثم القياس. أطلْنا الكلام عن منهج أصحاب الحديث، وفصَّلنا القول في طريقة المالكية التي تعتمِد على الكتاب والسنة وعمل أهل المدينة والإجماع والقياس، لِما لذلك من صلةٍ كبيرة بالموضوع الذي نُناقشه، وهو موضوع التعليم الذي عالجَه القابسي. وإذا أردْنا أن نحكم على القابسي حكمًا صحيحًا، فينبغي أن نبدأ أولًا بالنظر في منهجه الذي اتبعه في بحث موضوع التعليم، وهو المنهج الذي سار عليه فعلًا، وارتضاه لنفسه؛ لأن الصلة بين المنهج والموضوع صِلة بالغة الأهمية في إخراج الموضوع على نحوٍ مُعين. ومن المُسلَّم به أن كل علمٍ من العلوم لا يمتاز عن غيره باختلاف موضوع العِلم فقط، بل المنهج الذي يُتبَع أيضًا في دراسة هذا العلم. فالمنهج السليم يؤدي إلى نتائج سليمة في الموضوع، والمنهج الخاطئ، يؤدي إلى نتائج خاطئة. ونعني بالمنهج السليم أن يكون مُلائمًا للموضوع. فهل كان المنهج الذي اتَّبعَه القابسي هو المنهج السليم الذي ينبغي اتِّباعُه في معالجة موضوع التعليم؟ نأتي أولًا بشواهد من رسالة القابسي تثبت أنه اتبع منهج أصحاب الحديث، ومنهج المالكية على الخصوص، ثم تبيَّن بعد ذلك الأثر الذي أدَّى إليه اتباع ذلك المنهج. «ومن حسن رعايته لهم أن يكون بينهم رفيقًا، فإنه جاء عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: اللهم من ولِيَ من أمر أُمتي شيئًا فرفق بهم فيه، فارفق به.» ٥٤-أ. وقال في تعليم الشعر: «وقد ثبتت الرواية عن رسول الله ﷺ أنه قال: إنما الشِّعر كلام، فحَسَنُه حسن وقبيحه قبيح.» ٤٤-ب. وقد أوضح القابسي نفسه المنهج الذي اتَّبعَه، فأغنانا بذلك عن محاولة الكشف عما استتر في نفسه، وكيف جرى تفكيره، فقال: «فقد بيَّنتُ لك ما جاء في فضل مَنْ تعلم القرآن وعلمه، كل ذلك عن كتاب الله عز وجل، وعما جاء عن النبي ﷺ تسليمًا.» ١٩-ب. والقابسي مُحَدِّثٌ ثقة، له كتاب «مُلخَّص المُوطأ» جمع فيه ما صح إسناده من أحاديث «الموطأ»؛ لهذا كان لا يروي إلا الأحاديث القوية، أما الأحاديث الضعيفة السند فلا يرويها. ولا يتحرَّج من الشك في صحة الحديث إذا ضعَّفَه. قال: «وسألت عما ذُكر من أن القرآن في صلاةٍ خير من القرآن في غير صلاة … فاعلم أني سمعتُهُ سماعًا هكذا، ولم أقف على صحَّتِه بهذا المعنى.» ٢٣-ب. ومن أصوله بعد الكتاب والسنة عمل أهل المدينة. قال في أجر المُعلم: «عن ابن وهب في مُوطَّئه عن الجبار بن عمر قال: كل مَنْ سألتُ بالمدينة لا يرى لتعليم المُعلمين بالأجر بأسًا.» ٣٣-ب. وهاك مثلًا يُبيِّنُ اعتماده على الإجماع، قال: «وأما إمساك الصبيان المصاحف وهم على غير وضوء، فلا يفعلوا ذلك، وليس كالألواح. وما في نهيهم عن مسِّ المصاحف الجامعة — وهم على غير وضوء — خلافٌ، من مالك، ولا ممَّن يقول بقوله.» وكذلك لجأ القابسي إلى القياس الشرعي، ومثال ذلك الحُكم على الوالد بتعليم ابنه القرآن قال: «جاء أن رسول الله مرَّ بامرأة في مَحفَّتها فقيل لها: هذا رسول الله؛ فأخذت بعَضُد صبي معها وقالت: ألِهذا حَجٌّ؟ فقال رسول الله: نعم ولكِ أجر. فهل يكون لهذه المرأة أجر فيما هو لصبيِّها حَج إلا من أجل أنها أحضرته ذلك الحج. والذي يناله الصبي من تعليمه القرآن هو عِلم يبقى له بحوزه، وهو أطول غناء.» ٢٦-أ. وهذا قياس آخر في تعليم الوالد لابنه: «إنَّ حُكم الولد في الدين حُكم والده ما دام طفلًا صغيرًا. أفيدَعُ ابنه الصغير لا يُعلمه الدين، وتعليمه القرآن يؤكد له معرفة الدين.» ٢٨-أ. والأصل في هذا القياس هو الحديث الذي ذكره القابسي وشرحه: «كل مولود يُولَد على الفطرة فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصرانه … فقالوا: يا رسول الله، أفرأيتَ مَنْ يموت وهو صغير؟ فقالوا الله أعلم بما كانوا فاعلين.» ٢٨-أ. فإذا لم يجد القابسي نصًّا من القرآن، أو حديثًا من السُّنَّة، أو إجماعًا في الرأي، أو قياسًا على أصل من الأصول السابقة، فإنه يحكُم في المسألة بما يرى فيه فائدة المُعلم والمُتعلم، أو يحكُم بالعُرف إذا كان العُرف حسَنًا، وإذا كان العُرف سيئًا لم يُجِزْه. وبيان المصلحة في سلوك الإنسان، يقتضي التأمُّل في قوانين النفس الإنسانية إذا كان السلوك فرديًّا، والنظر إلى القوانين الاجتماعية إذا كان سلوك الإنسان مُتصلًا بغيره من الناس. واتباع العُرف، على الأخص إذا كان حسنًا، من الأمور الاجتماعية التي لا يستطيع الباحث أن يصرِف النظر عنها. لذلك اتبع المُشرعون التقاليد. قال القابسي: «وكذلك المعلمون عندي في هذه العادات — إذا كانت مُستحسنة في الخاصة — فانتشارها على ما وصفنا يُوجبها.» ٧٤-أ. وهكذا نرى القابسي يتأمَّل النفس الإنسانية، ويفحص عن سلوك الناس في المجتمع، ويعتمد على العُرف السائد، كلَّما أراد أن يُصدِر حُكمًا جديدًا لا يستند إلى أصلٍ من الكتاب أو السنة أو الإجماع. ومن أمثلة الحُكم القائم على معرفةٍ بالنفس ما جاء عن وجوب الرفق في معاملة الصبيان وعدم العبس. «فكونه عَبوسًا أبدًا من الفظاظة المَمقوتة، ويَستأنِس الصبيان بها، فيجترِئون عليه. ولكنه إذا استعملها عند استئهالهم الأدب، صارت دلالة على وقوع الأدب بهم ويأنسوا إليها.» ٥٤-أ. وذكر في مكان آخَر أنه ينبغي أن يتجنَّب المُعلم الشتم؛ لأن «الألفاظ القبيحة إنما تجري من لسان التَّقي إذا تمكَّن منه الغضب وليس هذا مكان الغضب.» وقد يذكر حُكمًا من غير بيان الأسباب التي تدعو إلى القول بهذه القاعدة. مثال ذلك ما جاء عن الحفظ حيث قال: «ومن الاجتهاد للصبي ألا ينقُلَه من سورة حتى يحفظها بإعرابها وكتابتها.» ٥٩-أ. ومن المسائل التي تدلُّ على بصر بالأمور الاجتماعية ما ذكره عن الجمع بين الجنسَين في التعليم، وعن الاحتراس من البالِغين. فقال: «ومن صلاحهم ومن حُسن النظر لهم ألا يُخلَط بين الذكران والإناث.» وقال: «إنه لينبغي للمُعلِّم أن يحترس بعضهم من بعض إذا كان فيهم مَنْ يُخشى فساده.» ٥٧-أ. وقد أجاز القابسي العُرف في مواضع كثيرة كما جاء عند الكلام في البطالة: «وأما تخلية الصبيان يوم الخميس من العصر فهو يجري أيضًا عُرف الناس.» ٥٧-أ. «وكذلك بطالة الأعياد على العُرف المُشتهر المُتواطأ عليه.» ٦١-ب. أما إذا كان العُرف غير مُستحسَن فإنه يُنبِّه على وجوب الابتعاد عنه. ومثال ذلك ما ذكره عن صنيع المُعلمين الذين يبعثون الصبيان في مناسبات الزواج والولادة لطلَب الهدايا، إذ: «لا يحلُّ للمُعلم أن يُكلف الصبيان فوق أُجرته شيئًا.» ٦٢-ب. فأنت ترى أن ابن خلدون ينصُّ على أن الفقهاء الذين جاءوا بعد الأئمة «لم يكن لهم سبيل إلى الاجتهاد والقياس.» وإنما كان سبيلهم «التنظير والتفريع.» والقابسي يجري على هذه النظرية كما يُصرح بذلك قال: «فقد بيَّنتُ لك وجوهَ جواز أخذ الإجارة على تعلُّم القرآن، وما يجوز أن يُعلَّم بالأجر، وما يُكرَه من ذلك للمُعلم والمُتعلم، وما اختلف أصحابنا فيه من كراهية له أو توسعة.» ٤٧-ب. أما الجمود فهو نتيجة التقييد ومنع حرية الرأي. ذلك أن المجتمع يتطوَّر مع الزمن، وتتغيَّر عقليته، وتختلف أساليب مَعيشته. وهذه هي سنة الحياة: التطوُّر والتغيُّر والحركة. إذَنْ فلا بدَّ من منهج عقلي يختلف عن ذلك المنهج النقلي ليُلائم مظاهر الحياة الاجتماعية الدائمة التغيُّر. ولكن منهج أصحاب الحديث بما يعرضه من أصول ثابتة ينتهي إلى الوقوف عن مُسايرة الحياة. وهذا هو الجمود. وينبغي ألا يغيب عن بالنا أن طريقة التعليم في الكتاتيب كما وصفها القابسي في كتابه ظلَّت متبعة في أغلب تفاصيلها إلى عهدٍ قريب في كثير من أقطار المُسلمين، ولم يشرع المُسلمون في تغييرها إلا حديثًا عندما اشتدَّ الاتصال بين الشرق وأُمَم الحضارة الغربية. ومَنْ يقرأ كتاب (الأيام) للدكتور طه حسين، يلمح التشابُهَ الشديد بين وصف حياة الكتاب المصري، وعلاقة الصبيان بمُعلم الكتاب، ووصف تلك الحياة والعلاقة كما ذكرها القابسي. ومحور تلك الحياة هو الختمة أو حفظ شيءٍ من القرآن كما هو معروف. ونعود إلى ذكر بعض الشواهد التي تؤيد الرأي الذي نقول به، وهو أن اتباع منهج أهل الحديث يؤدي إلى التقييد والجمود. وجاء عن مِحور الألواح: «… وحدَّثني موسى عن جابر بن منصور، قال: كان إبراهيم النخعي يقول: من المروءة أن يُرى في ثوب الرجل وشفتَيه مداد. قال محمد: وفي هذا دليل أنه لا بأس أن يلعط الكتابة بلسانه. وكان سحنون ربما كتب الشيء ثم يلعطه.» ٦٠-أ. وفي هذا وصف لِما كان يفعله أهل ذلك الزمان في محو ألواحهم. وقد أجاز القابسي تلك الطريقة؛ لأنه يعتمد في أحكامه على آراء الفقهاء من شيوخه، ولا يحيد عنها إلا بالتنظير والتفريع. ومحو الألواح من الأمور المُتعلقة بالنظافة والقذارة لا بالنجاسة والطهارة. ولا حاجة لِمن يريد الاستدلال على طريقة محوها إلى الاعتماد على آثار السابقين؛ إذ إنه من القذارة أن يلعط الإنسان الكتابة باللسان، وأن يقع أثر المداد على أثواب الرجال، فهو مفسدة للثوب، ولا مروءة فيها؛ لأن المروءة تتعلق بالعطف على الناس ومساعدتهم. وإذا نظرنا إلى هذه المسألة على أنها مظهر من مظاهر العُرف المألوف، فمن العُرف ما هو حسن، ومنه ما هو قبيح. وقد أجاز القابسي من العرف ما رآه حسنًا، وقبح ما استهجنه كما رأينا. ومثال آخر لهذا التقييد مسألة تعليم المُسلم النصراني أو العكس: «قال ابن وهب سمعت مالكًا سُئِلَ عن الذي يجعل ابنه في كُتَّاب العجم، يُعلمه به الوقف، فقال: لا. فقيل له: فهل يُعلم المُسلم النصراني؟ فقال: لا. فقيل فيُعلم أبناء المشركين الخط؟ فقال: لا.» ٤٧-ب، وفي تعليق القابسي على ما سبق أن: «الكافر نجس، ولذلك يُنهى أن يعلموا الخط العربي، والهجاء العربي؛ لأنهم يصِلون بذلك إلى مسِّ المصحف إذا أرادوه.» ٤٨-أ. هذه الآراء بدأت منذ عهد مالك أو قبله بقليل، واستمرت إلى عصر القابسي الذي قَبِلَها كما قَبِلَ آراء مالك كلَّها. ومع ذلك فهذه الأحكام عُرضة للمناقشة والنقد. فقد قبل النبي فداء بعض المشركين في غزوة بدر بأن يُعلِّموا عشرة من أبناء المسلمين الكتابة. وظلت صناعة الكتابة وتدوين الدواوين في أيدي الفرس والروم إلى أواخر الدولة الأموية. فلمَّا تمَّ إسلام أهل البلاد المغلوبة، أصبح من الحرام أن يُعلِّم المُسلم النصراني أو يُعلِّم النصراني المُسلم. ولماذا لم يكن هذا حرامًا قبل ذلك؟ وإذ فهِمنا أن النصراني لا يُعلِّم أبناء المسلمين خشية أن يُحوِّلهم عن دينهم، فلماذا يحرم على المسلمين تعليم أبناء النصارى في سبيل نشر الدين الإسلامي؟ وأغرب من ذلك النهي عن تعليم الخط العربي والهجاء العربي الذي إذا تم على ما يشتهون، انقطعت الصلة بين المسلمين وبين غيرهم من أبناء الديانات الأخرى، مما هو مُخالف لطبيعة العمران، وما هو معروف من قوانين الاجتماع. وسلطان الحياة أقوى من سلطان الآراء. وليس أبلغ في دحض حُجة القابسي مما نفعله في العصر الحاضر، من الأخذ عن المستشرقين، وإرسال البعوث الأزهرية إلى شتى أنحاء العالَم لنشر الدين وتأليف لجنة لترجمة معاني القرآن الكريم. هل المنهج الذي اتبعه القابسي يصلُح في كشف حقائق هذا العلم؟ هل هذا المنهج يُعتبر من مناهج العلوم الاجتماعية ومظاهر الحياة الإنسانية في الماضي والحاضر، سواء أكانت صادرة عن شعور أم عن لا شعور؟ التعليم هو دراسة الإنسان لا الطبيعة أو الرياضة. فهو فرع من العلوم الاجتماعية. ويُتَّبع في بحث العلوم الاجتماعية طرُق ثلاث. طريقة الاستقراء التي تبدأ بالمشاهدة الخارجية وتنتهي بكشف القوانين، كما نفعل في بحث العلوم الطبيعية. منهج علم النفس الذي يعتمد على الاستقراء من جهة، وعلى التأمُّل الباطني من جهةٍ أخرى، وعلى مناهج تجريبية وإحصائية من جهة ثالثة. المنهج القياسي لنستمد النتائج من المُقدمات التي نحصل عليها بالطريقتَين السابقتَين. فلا سبيل للباحث في تربية الصبيان وتعليمهم إلا اتباع الطرق السابقة إذا شاء أن يصل إلى نتائج صحيحة. لأننا لا نعلم سلوك الصبيان وأحوالهم وتدرُّجهم في النمو العقلي والجسماني إلا بالمشاهدة، وهي الطريق الأول للمعرفة. ولا نقول إن الأقدَمين كانوا لا يُبصرون ولا يشهدون، ولكننا نقول إنهم لم يُهذبوا طريقة المشاهدة، ولم يضعوا لها القواعد التي تضبطها، وجهلوا طرق التجربة التي تُقرِّر الحقائق العامة، ولا يكون تحقيق الفروض المُوصلة إلى القوانين إلا بها. ولا بدَّ لنا من موازين تُضبط بها أمثل الطرُق في التعليم، والتجربة هي الميزان والنتائج العملية أصدق لسان وأنطق من كل برهان، وأحكم من الجدل العقلي الذي لا ينتهي إلى نهاية. أما القابسي فإنه عكس الطريق، فبدأ من حيث كان ينبغي أن ينتهي؛ لأنه يعتمد على أصول ثابتة من الكتاب أو السنة أو الإجماع يُفرِّع عليها ما يريد من أحكام، والأصح أن ينظر إلى أحوال الصبيان لينتهي بعد ذلك هذه الأحكام. ولا نلوم القابسي على سلوك هذا المنهج الخاص، وإنما اللوم على العصر كله، فمن العسير أن يتخلَّص المرء من البيئة العقلية التي شبَّ فيها ونشأ عليها. وقد صوَّرْنا هذه البيئة لبيان طبيعة التكوين العقلي للقابسي. وكان الفكر مُقيدًا بالأغلال من ناحيتَين: منطقيًّا ودينيًّا. فمن الناحية المنطقية انصرف العلماء عن بحث الطبيعة والإنسان بالاستقراء، وهو الطريق الصحيح للمعرفة. والمنهج الديني يخضع صاحبه لمبادئ لا يستطيع أن يحيد عنها، خشية الخروج على تعاليم رجال الدين، وما يجرُّه ذلك من الاتهام بالكفر والزندقة، فكان العلماء يرَون من السلامة لأنفسهم أن يتقيَّدوا بما ذكر الأوائل حرفًا بحرف، فهو طريق مأمون سليم العاقبة. ونحن نرى أن القابسي لو تجرد من قيود هذا المنهج، وانطلق في حرية البحث كما فعل في بعض الأجزاء اليسيرة من كتابه، لكان لبحثه شأن غير هذا الشأن.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/40635716/
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
أحمد فؤاد الأهواني
«نحن في حاجةٍ إلى القديمِ والجديدِ معًا؛ لأننا لا نستطيع قَطْع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولغته، لا يزال دِيننا الإسلام، وكِتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجةٍ اليومَ إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم، ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادُنا منذ ألف عام يُعلِّمونهما؛ فقد يُفيدنا ذلك في موقعنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابةَ والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي موضع تفكير علماء التربية.» في القرون الإسلامية الأولى بلغت الحضارة العربية أوْج عظمتها، وانتشرت لأقاصي الشرق والغرب، حيث انتقلت إلى أوروبا التي كانت تموج في بحرٍ مُظلم جرَّاء التدهور والانحلال. وهذه الحضارة العظيمة تأسَّست على العِلم، ولا عِلم بغير تعليمٍ وتربية. ولأجل التعرُّف على أحوال التعليم في تلك العصور الزاهية، يأتينا هذا الكتاب ﻟ «أحمد فؤاد الأهواني»، حيث يُقدِّم فيه دراسةً وافية عن حياة «أبو الحسن القابسي» الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وكِتابه البالغ الأهمية؛ إذ قام «القابسي» فيه بمُعالجةٍ تفصيلية ودقيقة لكل ما تعلَّق بشئون التعليم في عصره، وخصوصًا تعليم الصبيان، وكذلك حل مشكلات التعليم. وقد أُلحِق بهذا الكتاب رسالة «ابن سحنون» المُعنونة ﺑ «آداب المُعلمين»، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث الهجري ولا يعرفها سوى القليل، وتُعَد من الرسائل النادرة عن التربية.
https://www.hindawi.org/books/40635716/3/
تعليم الصبيان في القرن الرابع الهجري
نستطيع أن نجعل كتاب القابسي الأساس الذي نعتمِد عليه في الكلام عن تعليم الصبيان في القرن الرابع الهجري، دون أن يمنعنا ذلك من استقصاء آراء المُسلمين الذين تقدَّموه أو تأخَّروا عنه. على أن يكون المحور الذي ندور حوله ونعود إليه، هو كتاب القابسي؛ لأنه محدود وكامل، ومرآة للعصر الذي عاش فيه. فقد كان في أواخر حياته مشغولًا بإنجاز هذا الكتاب في الفقه، ولم يكن عنده من سَعة الوقت ما يجعله ينصرف إلى الاهتمام بتصنيف كتابٍ في تعليم الصبيان وأحكام المُعلمين. على أن عام وفاته لا يبتعِد عن القرن الرابع الهجري إلا بثلاث سنوات، إذا تجاوزنا عنها، نستطيع أن نقول إن كتابه في التعليم أُلِّفَ في القرن الرابع. ثم إن عالمًا يُولَد في سنة ٣٢٤ﻫ، ويتوفى في سنة ٤٠٣ﻫ، لجدير أن يُعَد من علماء القرن الرابع لا الخامس؛ لأن مُعظم حياته، وفتوَّة شبابه، وبأس رجولته، واكتمال علمه وعقله وعمله، وقع في ذلك القرن. وظهر في عالم التأليف في الإسلام من الفصول في التربية ما ترتفع قيمته من الناحية العلمية والفنية، وما يجعل أصحاب هذه الآراء من رجال التربية البارزين. ونخصُّ بالذكر ابن مسكويه، المُتوفَّى سنة ٤٢١ﻫ، والغزالي المُتوفَّى سنة ٥٠٥ﻫ، وابن خلدون المُتوفَّى سنة ٨٠٨ﻫ. ولكنهم جميعًا متأخرون عن القابسي، ولو أنه كان مُتأخرًا عنهم لتضاءل شأنه بالنسبة إليهم، ولاقتضاه الزمن أن يأخذ عنهم، وينقل عنهم. أما وقد سبقهم فلَهُ فضل السبق ومزية التقدُّم. فقدَّم الزرنوجي (المُتوفَّى ٥٧١ﻫ) على القابسي؛ لأنه مُتقدِّم عليه في الزمن في رأيه الذي دحضناه. والذي نراه أن كتاب «تعليم المُتعلم طريق التعلُّم» للزرنوجي، ليس من الكتب ذات القيمة الكبيرة في التربية كما سنذكُر فيما بعد. ولذلك لا يصحُّ أن يُقرَن بالقابسي. ولو أن الدكتور إبراهيم سلامة صَحَّحَ تاريخ وفاة القابسي لرفع من شأنه أكثر ممَّا فعل، فهو أكملُ كتاب في التربية والتعليم، جاء بعد كتاب «آداب المُعلِّمين» لابن سحنون. وكتاب «آداب المُعلِّمين» مما دوَّن محمد بن سحنون المتوفَّى سنة ٢٥٦ﻫ عن أبيه صغير الحجم، يبلغ ربع كتاب القابسي أو أقل، وهو خاص بتعليم الصبيان، اعتمد عليه القابسي كثيرًا، ونقل عنه، واسترشد به، وترسَّم خطاه. وتبلغ صفحات هذا الكتاب المطبوع ٦٤ صفحة، منها ٣٨ صفحة مُقدمة الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب في شئون التعليم. فكأنَّ كتاب ابن سحنون نفسه عبارة عن ستٍّ وعشرين صفحة لا غير من الحجم الصغير. ما جاء في تعليم القرآن العزيز. ما جاء في العدل بين الصبيان. باب ما يكره محوُه من ذكر الله. ما جاء في الأدب وما يجوز في ذلك وما لا يجوز. ما جاء في الختم وما يجب في ذلك للمُعلم. ما جاء في القضاء بهدية العيد. ما يجب للمُعلم من لزوم الصبيان. ما جاء في إجارة المُعلم ومتى تجِب. ما جاء في إجارة المُصحف وكتُب الفقه. وبالرجوع إلى نص الكتاب، نجد أن ما نقله القابسي عنه يكاد يكون بلفظه في بعض المواضع، وباختلافٍ يسير في مواضع أخرى، كحذف السند عن رأي فقيه، أو تغييرٍ في العبارة دون إخلال بالمعنى. على أن القابسي لم يكتفِ بما أخذَه عن كتاب «آداب المُعلمين»، بل نقل عن الفقهاء الذين أخذ عنهم سحنون وابنه، كابن القاسم وابن وهب وغيرهما. فإذا كان لابن سحنون فضل الصدارة في تحرير كتابٍ خاص في تعليم الصبيان، فللقابسي مزية التوسُّع في هذا الموضوع، والإفاضة في أبوابه المُختلفة، والترتيب الذي يدلُّ على استقرار فكرة التعليم في الذهن والعمل على بيان السُّبل المختلفة المؤدية إلى تحقيق الغاية المنشودة منه. فالقابسي يُسجل في كتابه أحوال تعليم الصبيان في القرن الرابع، وابن سحنون يدوِّن هذه الأحوال في القرن الثالث. يختصُّ كتاب القابسي بالبحث في شئون التعليم المُتعلقة بالصبيان فقط. ويتعرَّض كذلك للمكان الذي يتلقَّون فيه العِلم وهو الكُتَّاب. ولو أن المؤلف جعل عنوانه «الرسالة المُفصَّلة لأحوال المُتعلِّمين من الصبيان» لكان ذلك منه فضلًا في الإيضاح والبيان. وللصبي سِن يبدأ عندها في دخول الكُتَّاب، وسِن ينتهي بعدها من التعلُّم في ذلك المكان. ولكن القابسي لم يُحدِّد سِن الدخول، أو عدد السنين التي يقضيها الصبي، وهي مدة الدراسة في الكُتَّاب. ونستطيع مع ذلك أن نتلمَّس زمن ابتداء التعليم ووقت انتهائه فيما يختصُّ بالصبيان من ثنايا ما كتبه. يقول الدكتور إبراهيم سلامة: «إن الطفل بعد أن يتلقَّى التعليم في المنزل يذهب إلى الكُتَّاب في السابعة من عمره. والحديث المُتَّبع عند المسلمين: «علِّموا أولادكم الصلاة إذا كانوا بني سبع، واضربوهم عليها إذا كانوا بني عشر.» ثم ذكر في الهامش ما يأتي: «كان هذا هو الأغلب، وهناك حالات كان الأطفال يُدفعون إلى المُعلِّمين في سِنِّ الخامسة والسادسة — انظر طبقات الأطباء، الجزء الثاني، ص٩٩، والتبر للسخاوي، ص٢٤٢.» ويقول القابسي: «وينبغي للمُعلم أن يأمُرهم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين ويضربهم إذا كانوا بني عشر. وكذلك قال مالك.» ٤٣-ب. ونص الحديث كما أخرجه أبو داود: «مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر.» من حديث عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده. ولا يُستنتَج من ضرب الأولاد على الصلاة إذا كانوا بني سبع سنين، أن سِن التعليم تبدأ منذ ذلك الوقت، وأن يُرجِّح الباحث هذه السن دون غيرها. ونحن نرجِّح أن هذه السن لم تكن مُحددة، وإنما كانت تشمل مرحلةً بين الخامسة والسابعة، تبعًا لاختلاف نُضج الصبيان وتقدُّمهم في الفهم والتمييز. جاء عن القابسي: «سُئل مالك عن تعليم الصبيان في المسجد، فقال: لا أرى ذلك يجوز؛ لأنهم لا يتحفَّظون من النجاسة.» وفي موضع آخر: «وإن كان صغيرًا لا يَقَرُّ فيه ويعبث، فلا أحب ذلك.» ٦٧-ب. فالطفل الذي لا يتحفَّظ من النجاسة ولا يستطيع الاستقرار، وهو طفل دون السابعة في الغالب. أما السن التي ينتهي عندها تعلُّم الصبي في الكُتَّاب، فلم تُذكَر صراحةً كذلك، على أنه جاء أن المُعلم ينبغي أن يحذَر من الصبيان إذا بلغوا الاحتلام. ٥٦-أ. و«إنه لينبغي للمُعلم أن يحترس بعضهم من بعض إذا كان فيهم من يخشى فساده، يُناهز الاحتلام، أو تكون له جرأة.» ٥٧-أ. والشرط السابق يدل على أن أغلبية الصبيان لا يصِلون إلى مرحلة البلوغ، وأن بعضهم فقط هم الذين كانوا يظلُّون في الكُتَّاب حتى سِن الاحتلام. وهذه السن تتراوح عند الذكور بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة. على أن أكثر الصبيان لم يكونوا يمكُثون في الكُتَّاب حتى سِن الاحتلام. وسبب ذلك أن أهمَّ ما كان يُعلَّم هو حفظ القرآن. فإذا بدأ الصبي تعلُّمه في سِنِّ السادسة مثلًا فإنه يحتاج إلى أربع سنوات أو خمسٍ ليُتِمَّ حفظ القرآن، وهو المعروف بالختمة. ولا نأخُذ النابغين مقياسًا في الحُكم على العامة وأوساط الناس. فإذا قدَّرْنا أن المُمتاز النابه يحفظ القرآن في العاشرة، فإن المتوسط العادي يحفظه في الثانية عشرة. وأما المُتأخِّرون فإنهم يحتاجون إلى زمنٍ أطول، وهذا هو السرُّ في تخلُّف بعض الصبيان عن الكتاتيب حتى سِن الاحتلام. ولم يكن حفظ القرآن جميعه واجبًا على كل الصبيان، بل جرى العُرف أنَّ من أحبَّ استظهار القرآن كله بقِيَ مع المُعلم، ومن أحبَّ أن يترك الكُتَّاب قبل استكمال جميع القرآن، فله الحرية. عن القابسي: «وأما الصبي عُلِّم حتى تدانى من الختمة فأراد الخروج من عند المُعلم إلى مُعلم آخر أو إلى صنعةٍ أو إلى ما أحبَّ الانتقال.» ٣٢-أ. لهذا نستطيع أن نقول: إن الصبي — في الأرجح — كان يبقى في الكُتَّاب في سِن الثانية عشرة أو ما دون ذلك. فإذا اعتبرنا سِن الالتحاق بالكتَّاب في المتوسط هي السادسة، وسِن الخروج هي الحادية عشرة، فإن هذه المرحلة من التعليم كانت تشغل خمس سنوات. تعليم الصبي أول مرحلة من مراحل التعليم. وقد اقتصر القابسي على بحث هذه المرحلة، ولم يتعرَّض لما بعدَها. ولم تأتِ إشارة كذلك إلى تعليم الصبي دون السادسة؛ لأن هذا اللون من التعليم، الذي أُنشِئت له مدارس الحضانة ورياض الأطفال، لم يلقَ عناية علماء النفس والتربية إلا في العصر الحديث. وقد تصدَّى المؤلِّف للنواحي المختلفة في تعليم الصبيان، فتعرَّض لأغراض التعليم والمناهج والعقاب وطرُق التدريس، وأحكام خاصة بالمعلم، وبمكان التعليم وهو المعروف بالكُتَّاب. ومرحلة تعليم الصبيان من المراحل الثابتة في حضارات الأمم، يُشاد عليها بنيان الثقافة في الأمة فيما بعد. وتتغيَّر اتجاهات التعليم التي يتلقَّاها الشباب والذين فاتوا دور الشباب، ويظلُّ تعليم الصبيان هو الدعامة الثابتة التي لا تتحوَّل والأساس الذي لا يتعدَّل. ونبسط في إيجازٍ مراحل التعليم عند المسلمين، ليتَّضِح لنا مصائر الصبيان، بعد الانتهاء من الكُتَّاب. وقد تغيَّرت هذه المراحل مع تغيُّر الحضارة الإسلامية، واختلاف العصور، وتقدُّم الدول وتأخُّرها، وتبايُن الجهات. ونذكر هذه المراحل إجمالًا، لنشهد البناء الكامل، الذي يُعتبَر تعليم الصبيان فيه اللبنة الأولى. ومن الشائع عند المسلمين أيضًا الرحلة في طلب العلم. وفضل الارتحال أن العالِم يطوف بدولٍ كثيرة، فيشاهد أحوال الشعوب، وتقاليد الناس وعاداتهم، واختلاف طبائعهم، ثم يتَّصِل بشيوخٍ بأعيانهم يأخُذ عنهم ويتلقَّى العلم عليهم، مما يؤدي إلى كثرة الاطلاع، ووفرة الثقافة، واتساع دائرة الفكر، وأُفق الذهن. وقد رأينا في ترجمة القابسي أنه رحَلَ فحجَّ وسمِع من علماء كثيرين. ثم تطوَّر التعليم من حلقات المساجد، إلى مدارس منظمة، حُبست عليها الأوقاف لضمان حياتها. وبدأ ذلك التطوُّر في القرن الرابع الهجري في زمن الفاطميين، وازدهرت المدارس في عصر الدولة الأيوبية والمَماليك، ثم تدهورت بعد ذلك. المكتب أو الكُتَّاب. الجامع. مجلس العِلم أو مجلس الأدب. يخرج المرء من قراءة كتاب القابسي بصورة واضحة عن حالة تعليم الصبيان في القرن الرابع الهجري أو العاشر الميلادي. وهي صورة واضحة، وتُعتبَر كثيرة الجلاء بالنسبة لِما كتبه غير القابسي من المُؤلفين في هذا الموضوع؛ لأنه أسهب حين أوجزوا، وذكر ما لم يذكُروا، وجمع شئون تعليم الصبيان في كتابٍ واحد. يُبعث الصبي إلى الكُتَّاب إذا عقَل. هذه الكتاتيب مُنتشرة في أنحاء المدن والقرى، قد تكون إلى جوار المساجد، وقد تكون بعيدةً عنها، ولا تكون بداخلها على أي حال. وليس الكُتَّاب دارًا كبيرة فيها فصول كثيرة كما هي الحال في المدرسة الأولية المعروفة الآن، وإنما هو مكان مُتواضع، يتَّسِع لهذا العدد من الصبيان الذين يشرف عليهم مُعلم واحد، قد يكون حانوتًا، وقد يكون بضع حجراتٍ في منزل. ويذهب الصبي مُبكرًا إلى الكتَّاب، فيبدأ بحفظ القرآن، ثم يتعلَّم الكتابة، وعند الظهر يعود إلى المنزل لتناوُل الغداء، ثم يرجع بعد الظهر ويظلُّ حتى آخر النهار. وبطالة الصبيان من بعد ظهر يوم الخميس، وسحابة يوم الجمعة، ثم يعودون صباح السبت. يتعلَّم الصبي مدة دراسته التي قد تستمرُّ إلى وقت البلوغ أو بعده بقليل، القرآن والكتابة والنحو والعربية. وقد يتعلم الحساب والشِّعر وأخبار العرب. على أنَّ أهم ما يَدرُس الصبي هو حفظ القرآن على الطريقة الفردية أو الجمعية؛ إذ يبدأ المُعلم أو العريف بآية يُردِّدها الصبيان من بعده. ولكل صبي لَوح يكتب فيه، يُثبِت فيه ما يُريد أن يحفظه، ثم يمحوه ليكتُب شيئًا جديدًا، ولم يكن من اللازم أن يحفظ الصبي القرآن كله، إلا إذا كانت تلك رغبة أبيه. فإذا أخطأ الصبي في الكتابة والهجاء والحفظ، أو أهمل أو انصرف إلى اللعب والعبث دون الدرس والعلم، أو هرب من الكُتَّاب، عاقَبَهُ المُعلم بالنصح تارةً، والعزل والتهديد مرة أُخرى، والضرب تارةً ثالثة إن لم تفلح النصائح ولم يُجْدِ التهديد. وإذا أتمَّ الصبي مرحلة التعليم في الكُتَّاب، جاز امتحانًا فيما حفِظ من القرآن وفي الكتابة. واختبار حفظ القرآن كله يُعرَف بالختمة. وعندئذٍ إما أن ينقطع عن التعليم ويتَّجِه إلى الصناعة التي يريد أن يُزاولها لكسب المعاش، وإما أن ينصرِف إلى مرحلةٍ أُخرى من التعليم أرقى من التعليم في الكتَّاب. هذه هي الصورة التي نُدركها من الاطلاع على كِتاب القابسي على وجه الإيجاز، وأركان هذه الصورة التي تتركَّب منها أربعة: هي الكُتَّاب والمُعلم والصبي والقرآن. هذه العُمُد الأربعة هي الأساس الذي يقوم عليه التعليم الأوَّلِي كما وصفه القابسي. وعلينا أن نبحث بعد ذلك أهذه الصورة مُستمدَّة من الواقع أم يصِف فيها ما ينبغي أن يكون، ثم نتبيَّن إذا كان هذا النوع من التعليم إقليميًّا أم عامًّا. عنوان كتاب القابسي يُرشِدنا إلى الاتجاه الذي سلكَه في معالجة مشكلة تعليم الصبيان، فهي الرسالة المُفصلة لأحوال المُتعلمين، وأحكام المُعلمين والمُتعلمين، والأحوال والأحكام كلاهما مُستمَد من الواقع لا من المثال. فقد ينصرف الذهن إلى أن هذه الصورة المذكورة عن الصبيان وما يتلقَّون من مواد مختلفة، وعن طريقة تعليمهم وتأديبهم وسلوكهم، وعن صِلة المُعلم بهم، ليست مُنتزعة من الواقع، بل هي المثل الأعلى الذي ينشُده القابسي في التعليم. وليس غريبًا أن يسلُك بعض المُفكرين والفلاسفة طريقةً مثالية في كتابتهم عن التربية. في الزمن القديم كتب أفلاطون عن التربية في (الجمهورية). وفي العصر الحديث أخرج روسُّو كتاب (إميل) في تربية الطفل. وكِلاهما مِثالي لم يصِف حقيقة الحال ولم يأخُذ الناس بجميع آرائهما بعدهما. وكثيرًا ما يخرج المفكرون في مُثُلهم عن حدود القوانين الطبيعية والاجتماعية، مما يجعل تطبيق نظرياتهم العقلية ضربًا من المستحيل. فقد أراد روسو أن يعود بالإنسان إلى نوع من المعيشة البدائية الفطرية لا يستقيم مع حال الحضارة ولا يتفق مع طبيعة العمران. ولم يكن القابسي مِثاليًّا من طراز هؤلاء المُربِّين، وإنما كان يصف الواقع، لا ما ينبغي أن يكون. ثم هو لا يتعدَّى في أحكامه القوانين الاجتماعية. اتخذ القابسي الواقع أساسًا له فيما كتب، وصوَّره، ثم بيَّن بعد ذلك الأسباب التي تجعله يُجيز ما كان سائدًا، وكل ذلك بأحكامٍ شرعية. وهو يُصور الواقع بما لا يعدو حدود الوصف بكل ما في أحوال التعليم من خيرٍ وشر وحُسن وقُبح. والمظاهر الاجتماعية فيها الصالح وفيها الفاسد في كل زمانٍ ومكان. أما الصالح فإن القابسي يُقِرُّه، ويأمر به، ويُجيزه ويستحسِنُه. وأما الفاسد فإنه ينهى عنه، ويزجُر المُعلمين عن الإتيان به، ويَستقبحه وينصح بالابتعاد عنه. وهو حين يحكُم على شيءٍ بأنه حسَن، فهو يتبع طريقة الفقهاء التي ذكرناها، وهي الاستناد إلى أصولٍ من الكتاب والسنة والإجماع. والمصلحة التي يذكُرها هي المصلحة الشرعية أو الدينية. فتعليم «الأنثى القرآن والعِلم حسَن، ومن مصالحها.» لأن ذلك هو السبيل إلى معرفة الدين وتأدية الصلاة المفروضة على المؤمنين والمؤمنات. ولم تكن هناك حاجة إلى النص على وجوب فصل الجنسَين، خشية ما يلحق من فساد، لولا الجمع بين الذكور والإناث في الكتاتيب. والصورة واقعية؛ لأن كثيرًا من المسائل تجري مع العرف الذي أجاز القابسي أغلبه. فوجوب الختمة للمُعلم تكون على قدرِ يُسر الأب وعُسره، وليس في ذلك حدٌّ مؤقت، إنما هو ما يرى أنه واجب في عادات الناس في مثل هذا المعلم. والعطية في العيد مُستحسنة، ولم يزل ذلك مُستحسنًا فعله في أعياد المُسلمين. ولا ننسى أن الكتاب دار على أسئلةٍ وجَّهها سائل إلى القابسي، فأجاب عنها. وأسئلة السائل هي وصف لأحوال التعليم في عصره، أتتفق مع مبادئ الشرع، أم لا تتفق؟ ولذلك فزع إلى الفقيه يطلُب رأيه فيها. ويُجيب القابسي بقوله: «وأما وصفك لِما جرى عندكم من صنيع مُعلِّميكم إذا تزوَّج رجل …» ٦٢-ب، فيبعث المعلم صبيانه في طلب طعام وما أشبه بمناسبة الزواج، ويتبطَّل الصبيان يومًا أو بعض اليوم، فطلب الهدية على هذا النحو حرام، وينبغي أن يترك المُعلم هذا العمل؛ لأنه من العادات المُستقبحة، والعُرف المذموم. وقد يقتضي الأمر في بحث مسألة من المسائل أن يرُدَّها إلى أصولها التاريخية، ويتتبَّع تطوُّرها إلى أن تبلُغ زمانه. فالحاضر وليد الماضي. مثال ذلك: مسألة أجر المعلم، ففي عصر القابسي كان المُعلمون يتناوَلون الأجر على التعليم، ولم يكن الأمر كذلك في زمن الصحابة، فما الحاجة التي ألجأت الناسَ إلى تغيير أحوالهم، والخروج على أفعال الصحابة والتابعين؟ وأفعالهم كما تعلم هي الصراط المُستقيم الذي ينبغي أن يسير الناس عليه من بعدهم. إنها حاجة الدين، وحاجة العصر والزمان. وهذا الذي فعله في مسألة الأجر فعله في جميع المسائل الأخرى، فهو يصِف ما يجري عليه المُعلمون في أحوالهم، ثم يُفسِّرها في ضوء التاريخ، لهذا رجع إلى مالك، وإلى ابن وهب وإلى ابن القاسم، وإلى ابن سحنون في كتابه الذي دَوَّنه عن سحنون. ولم يتطوَّر العالم الإسلامي كثيرًا في طريقة تعليم الصبيان منذ عصر سحنون إلى زمن القابسي. الواقع إذَنْ هو الصورة التي يدور حولها القابسي، فيؤيد ما يَستحسِنه ويذُم ما يستقبِحُه وما ذكره ابن خلدون في مُقدمته خاصًّا بطريقة التعليم بإفريقية ينطبق على الوصف الذي ذكره القابسي من أن الصبي يتعلم القرآن، والكتابة والخط، وبعض النحو والإعراب. على حين أن الحساب والشِّعر والنحو والعربية والغريب، ليس تعليمها لازمًا إلا إذا تطوَّع المعلم. رأيٌ واحد هو الذي نستطيع أن نعتبره من النظريات المثالية التي تمنَّى القابسي ذُيوعها، وهو الرأي القائل بإلزام التعليم. فقد أوجب تعليم الصبي من مال أبيه أو وصيِّه أو أحد أقاربه أو من مال أحد المُحسنين، أو يُعلمه المُعلم احتسابًا. ولم يكن جميع صبيان المُسلمين يتلقَّون التعليم ويعرفون القراءة والكتابة، ولكنه رأيٌ رغب القابسي في أن ينتشِر، فسبق بذلك عصره، ودلَّ على بُعد نظره. من هذا كله نخرج بالنتيجة الآتية، وهو أن موضوع التعليم الذي ذكره القابسي كان وصفيًّا يُقرَّر فيه الواقع، ويُحيطنا بلَونٍ من ألوان البيئة العقلية في أحد جوانبها، وهي بيئة المُعلمين في الكتاتيب. وتختلف هذه الصورة عما كان معهودًا عن حال التعليم في الصدر الأول من الإسلام، وتختلف أيضًا عن صورتها بعد عصر القابسي، إلى جانب اختلافها في المكان مما سنذكره فيما بعد، في أن هذا اللون من التعليم الذي بين أيدينا هو تعليم إقليمي وليس عامًّا. وهذا التغيير في الزمان طبيعي؛ لأن المجتمع لا يدوم على حال، بل يتطوَّر وينمو ويزدهر وقد ينحطُّ ويتدهور، كما هي سنة الكائنات الحية جميعًا. ولم يكن هذا التطوُّر خافيًا عن ذهن القابسي، فقد أشار إليه في مناسباتٍ عدة وذكر أن المُسلمين الأوائل لم يعرفوا المُعلمين المُنقطِعين إلى هذه الصناعة التي يتناولون عليها الأجر، ويجعلونها مصدر الكسب وعماد المعاش. فإذا انتفى وجود المُعلمين فقد اختفت صورة التعليم المنظمة الداخلة بين جدران الكتاتيب، واختفى معها أوقات الدراسة، وطرُق التعليم، ومناهج العِلم، وأدوات التأديب. وإنما نشأ هذا كله بعد النبي وبعد عصر الصحابة. حتى إذا بلَغْنا القرن الرابع قدَّم إلينا القابسي هذه الصورة التي سادت في شمال إفريقية. وتغيَّرت أحوال التعليم بعد القرن الرابع الهجري، ولكنه ليس تغييرًا عظيمًا يختلف عن الجوهر المألوف، بل هو تغيير شكلي. فقد انتظمت الكتاتيب نوعًا ما، واستقرَّت لعناية أُولي الأمر بها، ورصد الخيرات من مال الأوقاف للصرْف عليها. وبذلك ضمِنَت البقاء والحياة. هل الوصف الذي بسطه القابسي يختصُّ بالإقليم الذي يعيش فيه، أم هو وصف لحالة التعليم والمُعلمين في جميع أنحاء العالم الإسلامي؟ هذه مسألة لا بدَّ أن نرجع فيها إلى التاريخ، للموازنة بين رأي القابسي وآراء غيره. والعالَم الإسلامي ينقسِم على وجه العموم إلى قسمَين كبيرين: الشرق ويشمل بلاد العرب وفارس والعراق والشام ومصر؛ والغرب ويشمل شمال إفريقية والأندلس. وقد وصف حالة تعليم الصبيان في هذه الأقطار المختلفة ابن خلدون في مُقدمته وأبو بكر ابن العربي في بعض كتبه. ونجد شذرات مُتفرقة خلال كتب التاريخ والفقه والأدب تُفيد في الحُكم على طريقة التعليم في المشرق والمغرب. أما الخلاف فيقع في طريقة التعليم، أو في المنهج الذي يدرُسه الصبيان، وفي ترتيب العلوم التي يبدءون بتعلُّمها. وقد يقع الخلاف أيضًا في سياسة الصبيان وعقابهم، وفي أمور فرعية تتَّصِل بوقت الدراسة والبطالة وأشباه ذلك من الأمور الخاصة بالتعليم. ولكن الكتُب التي عالجت مثل هذه المواضيع لم تشمل كثيرًا من التفاصيل. أما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الذي يُراعونه في التعليم، إلا أنه لمَّا كان القرآن أصل ذلك، وأُسَّهُ، ومنبع الدين والعلوم، جعلوه أصلًا في التعليم، فلا يقتصرون لذلك عليه فقط، بل يخلطون في تعليمهم الوُلدان رواية الشِّعر في الغالب والترسُّل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتابة. ولا تختصُّ عنايتهم بالقرآن دون غيره، بل عنايتهم بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة. وأما أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب … إلا أن أكثر عنايتهم بالقرآن واستظهار الوُلدان إيَّاه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءته ممَّا سواه، وعنايتهم بالخط تبَعٌ لذلك. وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلُغنا، ولا أدري بمَ عنايتهم منها، والذي يُنقَل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العِلم وقوانينه في زمن الشبيبة، ولا يخلطونه بتعليم الخط، بل لتعليم الخط عندهم قانون ومُعلمون له على انفرادٍ كما تُتَعلَّم سائر الصنائع، ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان. ونخلص من هذا إلى أن جميع الأقطار تبدأ بتعليم القرآن، ثم أهل المغرب يقتصِرون عليه، ويخلط أهل إفريقية القرآن بالحديث والخط، ويهتمُّ أهل الأندلس مع القرآن بعلوم العربية والخط، ويخلط أهل المشرق أيضًا في التعليم فيُضيفون إلى القرآن بعض العلوم، ولا يهتمُّون بالخط في الكتاتيب. وفي تعليق ابن خلدون على كلام ابن العربي ما يدلُّ على أن هذه الطريقة غير مُتبعة، قال: «وهو لَعَمري مذهب حسن، إلا أن العوائد لا تساعد عليه.» وعن أبي بكر ابن العربي يصِف التعليم بالمشرق. «وللقوم في التعليم سيرة بديعة؛ وهي أن الصغير منهم إذا عقل بعثوه إلى المكتب، فإذا عبر المكتب أخذوه يتعلَّم الخطَّ والحساب والعربية. فإذا حذقه كُلَّهُ أو حذق منه ما قُدِّر له خرج إلى المُقرئ فلقَّنَه كتاب الله فحفظ منه كل يومٍ ربعَ حزبٍ أو نصفه أو حزبًا، حتى إذا حفظ القرآن خرج إلى ما شاء الله من تعليمٍ أو تركه.» من هذا يتضح لنا أن تعليم القرآن في المشرق كان هو المبدوء به؛ لنفعه في الصلاة مع ما كان يصحبه من تعلُّم الكتابة. أما الطريقة التي أرادها ابن العربي فهي طريقة مثالية وليست واقعية. فهذه كلها وصايا خاصة تُفصِح عن مزاج أصحابها، ولكنها لا تدل على شيوع هذه المبادئ. ولم يكن مُعلم الكتَّاب هو المخصوص بتعليم الرماية والسباحة، ولا يتعلَّم الصبي الرماية في سنِّ السادسة أو السابعة فسنُّه أصغر من تعلُّم هذه الصناعة. ولم يكن صبيان العامة يُؤخَذون بتعلم مثل هذه الأمور، وإنما هي نوع من الترَف في التعليم لا يتلقَّاه إلا أبناء الخاصة على أيدي مُعلمين ومُدربين خاصين بذلك. والنتيجة التي ننتهي إليها هي أن الطريقة المذكورة في رسالة القابسي تصِف التعليم في شمال إفريقية. وأبرز ما في هذه الطريقة البدء بتعليم القرآن واتِّباع أشهر المُقرئين في حفظه والعناية بالخط والهجاء، ويَصحَب ذلك بعض النحو والعربية. أما الحساب وهو من المواد المُهمة اللازمة للكسْب والعمران، فلم تكن العناية بدرسه ضرورية، إن لم يكن مُهملًا. وقد اتضح لنا من كلام ابن خلدون أنه أثبت اختلاف طريقة التعليم في الأقطار المختلفة، ويُشبه ما ذكرَه عن التعليم في إفريقية والمغرب ما نص عليه القابسي. وإذا كان القابسي قد وصف طريقة التعليم بما جرى به العُرف في بلاده، فالغالب أن بقية الأبحاث المُتعلقة بالتعليم والتربية، هي التي كانت مُتبعة في موطنه. وإذا رجعْنا إلى نصِّ المخطوط وجدْنا أنه كثيرًا ما يحكم بما اشتُهر بين الناس، وبما جرى به العُرف. وهو يقصد من العُرف ما جرى عليه الناس في بلاده. لكل هذا نقول: إن التعليم الذي وصفه القابسي إقليمي وليس عامًّا.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/40635716/
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
أحمد فؤاد الأهواني
«نحن في حاجةٍ إلى القديمِ والجديدِ معًا؛ لأننا لا نستطيع قَطْع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولغته، لا يزال دِيننا الإسلام، وكِتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجةٍ اليومَ إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم، ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادُنا منذ ألف عام يُعلِّمونهما؛ فقد يُفيدنا ذلك في موقعنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابةَ والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي موضع تفكير علماء التربية.» في القرون الإسلامية الأولى بلغت الحضارة العربية أوْج عظمتها، وانتشرت لأقاصي الشرق والغرب، حيث انتقلت إلى أوروبا التي كانت تموج في بحرٍ مُظلم جرَّاء التدهور والانحلال. وهذه الحضارة العظيمة تأسَّست على العِلم، ولا عِلم بغير تعليمٍ وتربية. ولأجل التعرُّف على أحوال التعليم في تلك العصور الزاهية، يأتينا هذا الكتاب ﻟ «أحمد فؤاد الأهواني»، حيث يُقدِّم فيه دراسةً وافية عن حياة «أبو الحسن القابسي» الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وكِتابه البالغ الأهمية؛ إذ قام «القابسي» فيه بمُعالجةٍ تفصيلية ودقيقة لكل ما تعلَّق بشئون التعليم في عصره، وخصوصًا تعليم الصبيان، وكذلك حل مشكلات التعليم. وقد أُلحِق بهذا الكتاب رسالة «ابن سحنون» المُعنونة ﺑ «آداب المُعلمين»، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث الهجري ولا يعرفها سوى القليل، وتُعَد من الرسائل النادرة عن التربية.
https://www.hindawi.org/books/40635716/4/
الكتاتيب في الإسلام
نُريد أن نقصُر الكلام على التعليم الأوَّلي أو التعليم في الكُتَّاب، ولا شأن لنا بأنواع التعليم الأخرى؛ لأن المؤلِّف لم يتناولها بالبحث. ولم يكن القابسي مُشَرِّعًا في هذا الفن، بل مُؤرِّخًا وصفَ ما انتهى إليه حال تعليم الصبيان في عصره، من قعود مُعلم في الكتَّاب يذهب إليه الصبيان فيحفظون عليه القرآن، ويتعلمون القراءة والكتابة وبعض النحو والعربية والحساب. وكان الحال كذلك في القرن الثالث الهجري كما وصف ابن سحنون في كتابه، وهو الكتاب الذي اعتمد عليه القابسي كثيرًا. والتعليم ظاهرة اجتماعية، يخضع — كغيره من الظواهر الاجتماعية — لقوانين الحياة من النمو والازدهار، والتراجُع والموت. ولم تنشأ الكتاتيب منذ ظهور الإسلام؛ فالمعروف أن بلاد العرب في عهد النبي لم يكن فيها تعليم مُنتظِم، والمشهور أن العرب أُميُّون. ولو أن هناك أخبارًا تدل على غير ذلك. في تاج العروس قصة يتَّضِح منها أن الكُتَّاب كان موجودًا في زمن عمر بن الخطاب، قال في صدد كلمة أبجد: «ويُذكَر أن عمر بن الخطاب رضِيَ الله عنه لقِيَ أعرابيًّا فقال له: هل تُحسِن أن تقرأ القرآن؟ قال: نعم. قال: فاقرأ أُمَّ القرآن. قال: والله ما أُحْسِنُ البنات فكيف الأم؟ قال: فضربه. ثم أسلَمَهُ إلى الكُتَّاب، فمكث فيه، ثم هرب وأنشأ يقول: ونستدل من كلام ابن حزم ومن القصة السابقة على أن ظهور الكتاتيب أو المكاتب ليتعلَّم فيها الصبيان كان في عصر الفتوحات الإسلامية العظيمة، وهي الفرس والشام ومصر وجزيرة العرب كلها. أما قبل ذلك فقد كان الإسلام لا يزال يُجاهد في نشر العقيدة في جزيرة العرب التي كان مركزها مكة ثم المدينة. على حين كان الفرس على حضارةٍ تخالف الحضارة الإسلامية، وأهل الشام ومصر يتَّبِعون الحضارة الرومانية. فماذا كان حال التعليم في بلاد العرب وفي الفرس وفي الشام ومصر؟ ونخلُص من هذا إلى أن الإسلام حين ظهر في عهد النبي، لم تكن في بلاد العرب كتاتيب مُنتشرة، يذهب إليها الصبيان. وأن الذين عرفوا القراءة والكتابة هم بضعة نفَرٍ من الطبقة الرفيعة، تعلَّموا الكتابة بحُكم صِلتهم بغيرهم من الدول المجاورة كالفرس والروم، ولحاجتهم إليها في التجارة. وذلك في مكاتب مُعظم الروايات تدل أنها كانت لليهود. كيف يتعلم الصبيان في فارس؟ أكانوا يذهبون إلى مدارس أو كتاتيب يتلقَّون فيها القراءة والكتابة ومبادئ العلوم حتى إذا فتح العرب بلاد الفرس وجدوا أمامهم هذه النُّظم فنقلوها عنهم، أم أن نظام الكتاتيب نظام إسلامي ابتكرَهُ المسلمون؟ كان الفرس أهل حضارة زاهرة يعلو مُستواها بكثيرٍ عن الحضارة العربية. وكان العرب أهل بداوة لا نستطيع أن نصِفَهم بالحضارة. لذلك لمَّا أخضع المسلمون الفرس والروم، اضطرُّوا إلى اقتباس نظُمهم في الإدارة والحضارة، فكانت الدواوين تكتب بالفارسية أو الرومية. وليس غريبًا أن تظل الدواوين في أيدي كتبة الفرس باللغة الفارسية طول هذه المدة؛ لأن العرب كانوا يجهلون هذه النظُم الإدارية لبَدَاوتهم، ولا بدَّ من فترة انتقالٍ يتم فيها تعلُّم العرب هذه الصناعة، وتعريب الفرس. ثم نسأل: أكانت الكتابة عامةً في جميع الفرس أم خاصة بطبقةٍ مُعينة؟ أما أبناء الأشراف فيتلقَّون طائفةً من المعارف على أيدي مُرَبٍّ أو اثنين ولا يذهبون إلى المدرسة الأوَّليَّة التي تُخصَّص لهم، وفيها يتعلمون العلوم المقدسة والآداب والموسيقى والرياضة البدنية واستعمال السيف. ويتعلَّم الطفل مبادئ الدين عن أبيه. فإذا لم يتسنَّ للأب أن يُعلمه لضيق الوقت، فليُرسِله إلى أقرب مَعبد حيث تُوجَد المدرسة، ليتعلم القواعد الدينية، والتاريخ المُقدس، والتقويم، وأسماء الشهور والأيام، والأدعية، والواجبات الدينية. وطريقة التعليم هي أسئلة وأجوبة، وإليك نماذجَ منها: أيها الطفل مَنْ تكون؟ من أين جئنا وإلى أين نذهب؟ أتنتسِب إلى يزدان أم إلى أهرمن؟ أإِلى خالقٍ خَيِّر أم شرير؟ ما الخير والشر؟ … إلخ. ويحفظ الطفل الإجابات عن هذه الأسئلة عن ظهر قلب، وتُفسَّر هذه الإجابات شيئًا فشيئًا بعد الاطلاع على أسرار الدين. ونستنتِج من هذا أن التعليم في فارس كان مقصورًا على طبقةٍ مُعينة هي طبقة الكتاب والأشراف، أما عامة الشعب من زُرَّاع وصُنَّاع فعِنايتهم بالمهنة. أما التعليم الديني العام، فلم يكن الغرَض منه التعليم لذاته، أو معرفة القراءة والكتابة، بل تلقين أسرار الدين الفارسية، وهي ديانة ثَنَوية تُخضِع العالم لإلهَين أحدُهما للخير والثاني للشر. وكان الأطفال يتلقَّون هذه المبادئ في داخل المعابد، ولم تكن هناك مدارس مُنفصلة عنها. ولم يكن الأطفال يتلقَّون مبادئ القراءة والكتابة؛ لأنها مخصوصة بطبقة الكتَّاب. لهذا لم تعرِف الفرس نظام الكتاتيب. لأن الكُتَّاب في الإسلام مكان يتعلَّم فيه الصبيان الكتابة والقراءة إلى جانب القرآن الكريم، على حين كانت الكتابة صِناعة خاصة بطبقةٍ مُعينة عند الفرس. والمدارس الدينية مُختلفة في نوعِها عن الكتاتيب لأنها مُلحَقة بالمعابد، وأساس التعليم فيها هو معرفة الطقوس الدينية ومزاولتها. وننظُر الآن إلى البلاد التي كانت خاضعة للروم وهي الشام ومصر لنرى أكان فيها نظام لتعليم الصبيان يُشبه الكتاتيب. ونقصد بهذا النظام أنه عام لجميع أفراد الشعب، وأنه مُنفصل عن المساجد، وأن الصبيان كانوا يتعلَّمون فيه القراءة والكتابة. في الوقت الذي فتح فيه العرب هذه البلاد، كانت الحضارة السائدة فيها مُضطربة منقسمة على نفسها، خاضعة لتيارات مختلفة مُتعارضة. فإلى جانب حضارَتَي الرومان واليونان الوثنيتَين، جاهدت المسيحية للقضاء عليهما، ومع ذلك احتفظت المسيحية بكثيرٍ من تراث الرومان والإغريق. ومن أبرز أسباب سقوط الحضارة الرومانية الترَف الذي ساد الحاكِمين بعدما أصابوا من أسلاب الدول المغلوبة على أمرها، لذلك انصرفوا إلى الملاذِّ والاستمتاع بمباهج الدنيا. وركَنوا إلى حياة الكسل والترَف. ومن قبل ذلك قضى الرومان على الحضارة الإغريقية بالسيف، وانتقلت الثقافة اليونانية من أثينا إلى الإسكندرية في القرنين الأول والثاني للميلاد، وظلَّت زاهرةً زمنًا، ثم تدهورت لِمَا أصاب العالَم من انحطاط. ووجد الناس في المسيحية الدِّين الذي يلتئِم مع نزعات النفس الجديدة، فهو دين يدعو إلى تطهير النفوس من الأدران، وإلى الزُّهد في الحياة المادية التي سئمها الناس. وفي أيام المسيحية الأولى انصرف المسيحيون إلى تطهير أنفسهم من أدران العالَم المليء بالشرور، ولم يتَّصِلوا بالحكومة على أي وجه، كما لم يكن بين الكنيسة والدولة صِلة. فلمَّا قويَ نفوذ الكنيسة وأصبحت دولةً داخل الدولة، برز فيها رجال عُرفوا بالدهاء السياسي فجعلوا للكنيسة نفوذًا مَدنيًّا إلى جانب النفوذ الديني. ولم تُعجِب هذه السياسة كثيرًا من المسيحيين الزاهدين في النظر إلى الأمور الدنيوية والاتصال بالعالَم المملوء بالآثام والشرور. فانصرفوا إلى الصحراء والجبال والغابات، واتَّخذوا من الكهوف والمَغاور مأوًى يحميهم من رذائل الناس. وتتلخَّص مبادئهم في المعيشة الأخوية، والزُّهد عن العالَم والفقر والعفَّة والطاعة وشغل البدن بأشقِّ الأعمال حتى تصفو الروح وتسمو. ويعيش الأعضاء في خلوةٍ فلا يجتمعون إلا عند تناول الطعام والدعاء. والرهبنة هي الجانب المُتطرف في الدين المسيحي. وهي ردُّ فعل لحياة الترف والاستمتاع التي سادت في ذلك العصر. هذا ما كان من شأن المسيحية في الشرق، تسلح بعض رجالها بعلوم اليونان والرومان للدفاع عن مبادئ العقيدة المسيحية، ونزل البعض الآخر إلى ميدان السياسة لتعليم المذهب المسيحي الذي قُدِّر له الانتصار حتى أصبح دينًا رسميًّا للدولتَين، واعتصم فريق منهم بالزُّهد والرهبنة في الصوامع والأديرة. ونشأ في الغرب صراع بين المسيحية وبين الشعوب المُتبربرة، تغلَّبت فيه المسيحية كما تغلَّبَت في الشرق. ولكن الشعوب الجرمانية كانت فتية مملوءة بالحياة، طافحة بالطموح، فكيف قبِلَت المسيحية التي تنادي بالحرمان والزهد؟ في القرون الوسطى تناقُض كبير بين الحياة الواقعية التي يقبل فيها الناس على اللَّذَّات، وبين الحياة المثالية التي تُصوِّرها الأخلاق المسيحية بما فيها من تضحيةٍ وزهد وقسوة في المعيشة وتقييدٍ لأسباب الحياة. ومع ذلك فهناك جانب في المسيحية اتفق مع مطامع المسيحيين. هو دين العامة والبسطاء والفقراء. وقد سمَتِ المسيحية بفضيلة التواضُع ونشدت بسطة القلب والعقل. ولمَّا كان الجرمان شعبًا في دَور الطفولة فهُم أهل بساطة وتواضُع، وهم أيضًا فقراء لأنهم كانوا يعيشون عيشة البداوة، لذلك قبِلوا مع السرور هذا المذهب الجديد الذي يُمجِّد الفقر والبساطة. وقد حارب الجرمانيون الحضارة الوثنية الرومانية كما حاربها المسيحيون. وهذا يُفسِّر لنا المودة التي توثَّقَت عُراها بين الكنيسة والمُتبربرين، وكيف وجدت المسيحية أرضًا خصبة بين الشعوب الجرمانية. والسِّر في هذا يرجع إلى أن مبادئ المسيحية حقَّقتْ آمالهم، ووجدوا فيها الراحة الخُلُقية التي لم يعثروا عليها في مكانٍ آخر. ومن ناحية أخرى كانت أصول المسيحية ترجع إلى جذورٍ يونانية ورومانية لم يكن من السهل التخلص منها. ولا يغيب عن بالنا أن المسيحية نشأت ونمَتْ في العالم الروماني، فحملت معها — برغم إرادتها — كثيرًا من حضارة الرومان ووثنيَّتِهم. وكانت لُغة المسيحيين هي اللغة اللاتينية في الغرب واليونانية، ثم السريانية في الشرق. وكانت غاية المسيحية الخلاص بالإنسان من الإثم والنجاة به من الرذيلة، وقد خشِيَت إقبال الناس على دروس آداب الرومان واليونان وفنونهم وعلومهم، وهي ثقافة في مجموعها لا دينية قد تصْرِف الناس عن الإيمان الصحيح. وقد عجزت الكنيسة عن التخلُّص من ثقافة الرومان واليونان؛ لأن اللغة اللاتينية والإغريقية هُما اللغتان المُقدَّستان اللتان صُبِغت بهما عقائد الدين. وأين يتعلَّم الناس اللغة اللاتينية واليونانية إن لم يتَّجِهوا نحو آداب الرومان واليونان. وديانة الرومان واليونان شعائر عملية مُمتزِجة بالأساطير، على عكس المسيحية القائمة على نظام يتركَّب من مجموعةٍ من العقائد. وليس المسيحي مَسيحيًّا لأنه يُقيم بعض الشعائر الدينية فحسب، بل لأنه يؤمن بعقيدةٍ خاصة ويعتقد في آراء مُعينة. وسبيل تعلم الشعائر الدينية قد يُكتَفَى فيه بالقليل من التدريب، أما اعتناق الآراء فلا يتمُّ إلا بواسطة التعليم سواء اتجه هذا التعليم إلى العقل أو إلى القلب. لهذا السبب اصطنعت المسيحية منذ نشأتها طريقةَ التعليم والوعظ. ولكن التعليم لا بدَّ أن يستند إلى أساسٍ من الثقافة، ولم تكن هناك ثقافة إلا ثقافة الرومان واليونان اللاتينيين، فاضطرت المسيحية إلى اصطناعهما، ثم إن المُعلم أو الواعظ يحتاج إلى دلالة اللسان وسِحر البيان وقوة الحجَّة والإقناع والبصَر بأحوال الناس، والمعرفة بتاريخ البشر. ولم تكن هذه المعارف المختلفة موجودةً إلا في آثار الأقدمين. وكانت حاجة المسيحيين شديدة إلى هذه الثقافة لفَهم الكتابات المقدسة فهمًا جيدًا، فلا بدَّ من التبحُّر في اللغة والتمكن منها، ولا بدَّ من معرفة التاريخ لتحديد الحوادث في سجل الزمان. وكانت الحاجة إلى البلاغة أشدَّ لأنها سلاح المؤمن الذي يدفع به أخطاء الرذيلة. تلك هي الضرورات التي ألجأت الكنيسة إلى افتتاح المدارس لتعليم هذه الألوان المختلفة من الثقافة. ونشأت باكورة هذه المدارس في أحضان الكنائس والأديرة. وكان الطلبة يُنفقون حياتهم منذ الصغر في الأديرة لإعدادهم لحياة الكهنوت. وهي حياة زُهد وتقشُّف يسودها طابع الروح المسيحي. وتمتاز هذه المعيشة المسيحية عن تصوُّف الهنود. فالبوذية ترمي إلى فَناء الفرد ليصِل إلى معرفة الحقيقة الكاملة. أما المسيحي فلم يكن يسعى إلى خلاص نفسه فقط، بل إلى خلاص الإنسانية كلها. لهذا السبب لم ينصرِف الرهبان في عُزلتهم إلى التأمُّل فقط، بل كانوا ألسنةً تذيع العقيدة وتُبشِّر بالدين. ولهذا السبب أيضًا ظهرت المدارس في داخل الأديرة تُهيئ الطلبة إلى معيشة الدير. ولم يجد المسيحيون حرَجًا في قبول جميع الصبيان من كل طبقة وصناعة يبثُّون فيهم الدين والعلم. هذه المدارس الكنسية هي الخلية الأولى التي تفرَّع منها بنيان التعليم في أوروبا، فنشأت عنها الجامعات والكليات. ومن هذا يتَّضِح لنا السرُّ في احتضان الكنيسة للمدارس، وفي خضوع التعليم للدين. ولم يخلُ المنهج الذي كان مُتبعًا في تلك المدارس من تناقُضٍ في نظامه، فهناك علوم مدنية تُدرَّس إلى جانب مبادئ الدين؛ لأن عنصر الدين مُستمَد من المسيحية، والجانب المدني مُشتق من الحضارة القديمة. والجديد الذي جاء مع هذه المدارس المسيحية هو لزوم الطلبة أُستاذًا بعينه ومكانًا بعينه. ذلك أن الطالب في الأزمنة القديمة كان يتلقَّى العلم على مُدرِّسِين مُختلفِين لا رابطة بينهم، فهو يذهب إلى مُعلم اللغة يتلقَّى عليه قواعد النحو والبيان، وإلى عازف القيثارة يتعلم منه الموسيقى، وإلى مُعلم الخطابة يتعلَّم فن الفصاحة، وهكذا. لذلك كان الطالب يحشد فنونًا من المعرفة لا صِلة بينها. أما المدارس المسيحية فلأنها انتظمت في مكانٍ ثابت واحد فإنها خضعت لتأثيرٍ واحد، واتجهت وجهةً خلقية واحدة. وممَّا يميز هذه المدارس أيضًا الصِّلة الدائمة بين الأستاذ وتلاميذه؛ لأن معيشة التلاميذ كانت معيشةَ رهبنة داخل الدير. ولمَّا كان التلميذ في اليونان والرومان يتلقَّى علومه على مُدرِّسين مُتباينِين لا تجمعهم صلة، وكان كل مدرسٍ يقوم بالتعليم في داره على طريقته الخاصة، لهذا تنافرَتِ المعرفة في ذهن التلاميذ ولم تتَّجِه إلى هدفٍ واحد. فواحد يُعلمه القراءة، وآخر يُقوِّم لسانه، وثالث يُلقنه الموسيقى، ورابع آداب السلوك، بينما المدرسة المسيحية تتعهَّد التلميذ تعهُّدًا كاملًا. ولم يكن التلميذ في حاجةٍ إلى مُبارحة المدرسة، فهو يجد فيها كلَّ ما يطلُب، ويقضي فيها حياته، يأكل وينام ويؤدي طقوسه الدينية. وهذا النظام الداخلي من أخصِّ مُميزات هذه المدارس الكنسية. بهذا خضع التلميذ لتأثيرٍ واحد وانصرف نحو تيَّارٍ واحد. ••• حلَّت المدارس المسيحية مكان التعليم اليوناني والروماني، وذلك بعد جهاد طويل. كانت المدارس الكنسية مُلحقة بالأديرة والكنائس والمعيشة فيها داخلية. الغرض من هذا التعليم هو التأثير في الشخصية، وطبْعُها بالطابع المسيحي، وإعداد التلاميذ لحياة الرهبنة. لم تكن هذه المدارس عامة لجميع أفراد الشعب، بل اقتصرت على طبقة الكهنوت. ومن الواضح أن هذا النوع من التعليم يختلف عن الكتاتيب الإسلامية؛ فالكتاتيب الإسلامية عامة لجميع أفراد الشعب، ولم يكن من الضروري وجودها بالمساجد، ولم يكن يعيش الصبيان فيها معيشة داخلية. ولم تكن صِلة مُعلم الكتَّاب بالصبيان صِلة الراهب بتلاميذه يقتحِم شخصياتهم ليطبعها بطابع المسيحية. ذلك أن مُعلم الكُتَّاب مُلقِّن ومُرشِد وليس واعظًا يسعى إلى بثِّ آراءٍ مُعينة، فهو يُعلمهم القراءة والكتابة، ويُحفِّظهم القرآن الكريم، وهو الجزء الأساسي من تعليمه. ولو أن المسلمين أخذوا نظام الكتاتيب عن الفرس والروم، ونقلوها عنهم، لظهرت منذ بدأت الدعوة الإسلامية. ولكن الواقع يدلُّنا على أنها لم تظهر إلا بعد تمام الفتوحات، وبعد دخول الناس في الإسلام. من أجل ذلك قُلنا إنها قد نمَتْ وتطوَّرت مع نمو الإسلام وانتشاره. أما في عهد النبي فكان تعليم الدين الإسلامي شاملًا للجميع، صبيانًا ورجالًا ونساءً. وكان الغرض منه أن يحفظ الناس شيئًا من القرآن، وأن يتعلَّموا ما يلزمهم في العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر الفرائض الإسلامية. واتبع المُسلمون كافة السُّبل في الوصول إلى نشر دعوتهم فعملَّوا في دورهم، وفي المساجد، وفي كل مكان. ولم يفُتْهُم الحث على تعلُّم الكتابة. ولمَّا انقضى هذا الدور الأول في نشر الدعوة بكافة الطرُق، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وكثُر عدد المسلمين، وأصبحت غالبية السكان على الدين الإسلامي، انصرفوا عن نشر الدين إلى النظر في أمور المعاش وإلى تنظيم الدين وضمان العبادة الصحيحة. ويقتضي النظام الاجتماعي أن يكون البدء في تعليم الأجيال عن طريق تربية الأطفال حتى إذا شبُّوا أصبحوا مَطبوعِين بطابع الجيل الجديد. وقد تطوَّع المسلمون الأوائل بالتعليم بدافع الروح الجديد. فلمَّا انتشر الإسلام تعذَّر أن يقوم التعليم على التطوُّع، وظهرت صناعة التعليم، وتناول المُعلمون الأجر، وأفتى الفقهاء بجواز ذلك. وكان بعض المُعلمين يقوم بمهمَّتِه في المساجد، ولكن عبث الصبيان الصغار الذين لا يتحفَّظون من النجاسة جعل الفُقهاء يمنعون تعليم الصبيان في المسجد، فظهرت الكتاتيب مُنفصلة عن المساجد، وخاصَّةً بتعليم الصبيان.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/40635716/
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
أحمد فؤاد الأهواني
«نحن في حاجةٍ إلى القديمِ والجديدِ معًا؛ لأننا لا نستطيع قَطْع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولغته، لا يزال دِيننا الإسلام، وكِتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجةٍ اليومَ إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم، ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادُنا منذ ألف عام يُعلِّمونهما؛ فقد يُفيدنا ذلك في موقعنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابةَ والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي موضع تفكير علماء التربية.» في القرون الإسلامية الأولى بلغت الحضارة العربية أوْج عظمتها، وانتشرت لأقاصي الشرق والغرب، حيث انتقلت إلى أوروبا التي كانت تموج في بحرٍ مُظلم جرَّاء التدهور والانحلال. وهذه الحضارة العظيمة تأسَّست على العِلم، ولا عِلم بغير تعليمٍ وتربية. ولأجل التعرُّف على أحوال التعليم في تلك العصور الزاهية، يأتينا هذا الكتاب ﻟ «أحمد فؤاد الأهواني»، حيث يُقدِّم فيه دراسةً وافية عن حياة «أبو الحسن القابسي» الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وكِتابه البالغ الأهمية؛ إذ قام «القابسي» فيه بمُعالجةٍ تفصيلية ودقيقة لكل ما تعلَّق بشئون التعليم في عصره، وخصوصًا تعليم الصبيان، وكذلك حل مشكلات التعليم. وقد أُلحِق بهذا الكتاب رسالة «ابن سحنون» المُعنونة ﺑ «آداب المُعلمين»، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث الهجري ولا يعرفها سوى القليل، وتُعَد من الرسائل النادرة عن التربية.
https://www.hindawi.org/books/40635716/5/
الدين والتعليم
كان الصراع بين المسيحية والوثنية حادًّا عنيفًا منذ القرن الأول للميلاد، ولقِيَ المسيحيُّون كثيرًا من ألوان التعذيب والمِحَن إلى أن اعتنق الإمبراطور قسطنطين الديانة المسيحية وأصبحت الدينَ الرسميَّ للدولة. ومنذ القرن الرابع الميلادي وصروح الوثنية تنهار وتَضيق دائرتها وينتشِر الإيمان بالله خالِق كل شيءٍ في أوروبا وفي غرب آسيا وفي شمال إفريقية، وهي جُملة العالم المعروف في ذلك الزمان. وبقِيَت جزيرة العرب يعبُد أهلها الأوثان ويسجدون للأصنام، وظلَّت ربوع فارس تستضيء بهياكل النار. وشهد العالَم في مُستهل القرن السابع ظاهرة جديدة شيَّعت وثنيةَ العرب ومجوسية الفرس إلى الفناء الأخير، تلك الظاهرة هي الديانة الإسلامية بما حملت معها من هدْم للآلهة المصنوعة وتوحيد لله الواحد القهَّار. ولكن الإسلام ببساطته وروحه العملي واتجاهه الواقعي كان سريع الانتشار، فلم يمْضِ زمن طويل حتى كانت أجزاء العالم المعروف تخضع للأديان الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية. ولم يكن من السهل أن ينتقل الناس من عهدٍ إلى عهد دون حاجة إلى ما يُثبتهم في العهد الجديد، ويهدِم العهد القديم. والانتقال من القديم إلى الجديد هو الثورة بعَينها، تحمل بين طيَّاتها معاول الهدم وبذور البناء. وفي النفس حنين فطري إلى الماضي الذي يُمثل بنيان الحياة الأولى، وسُلطان التقاليد هو سلطان الزمان. لهذا قضى الناس زمنًا طويلًا يلتفِتون إلى الماضي، ويعودون إلى الذكريات الغابرة فيتمَّثلون الآلهة في أوثانها، فينهض المؤمنون لإخفات أصوات المُلحِدين وآراء الزنادقة الكافرين، واستعمل أهل الإيمان في حربهم سلاحَين: لسان الحق يُزهِق الباطل ويشيد بآيات اليقين، ويقيم الحجَّة على المُخالفين وأهل العناد، والسلاح الثاني سيف القوة يُكمِّم الأفواه ويعذِّب الكافرين. بذلك كان الدين في الغرب والشرق هو الشغل الشاغل للأذهان، واستمرَّت المسيحية والإسلام في حربهما للكفر والإشادة بالإيمان طوال القرون الوسطى. وأخذ المسلمون كما أخذ المسيحيون يُلقنون أبناء الأجيال أسرار الدين وحِكمة العقيدة ويطبعون الناشئة على الدين الجديد عن طريق التعليم. تلك هي البيئة الاجتماعية التي استنارت بضوء الدين، ونور الإيمان واليقين؛ فخضع الناس في كل عملٍ من أعمالهم الظاهرة، وفي كل نزعةٍ وكل اختلاجة باطنة لتعاليم الدين. ما الدين الإسلامي وما عقيدتُه وأسراره، ودعوته وأعماله، وما الديانة المسيحية علمًا وعملًا؟ هذا هو الذي شغل أذهان المُفكرين في ذلك العصر. واختلف رجال الدين وأصحاب الرأي وقادة الفكر في النظر إلى الدين وشرْح أصوله وبيان مُختلف مناحيه. لذلك نرى أن كلَّ مُفكر في الإسلام بدأ يعرض العقيدة الإسلامية على النحو الذي يعتقِد أنه الحق والصواب. فلا يخلو كتاب في الفقه أو الحديث أو التاريخ أو الآداب أو الفلسفة من مُقدمة تُفصِح عن عقيدة صاحب الكتاب، وقد تطُول هذه الخطبة وقد تقصُر، ولكنها على أي الحالات تبدأ بالبسملة والحمد، فتذكُر اسم الله الرحمن الرحيم، شهادةً بالتوحيد واعترافًا بالإيمان والتسليم. وهكذا بدأ القابسي بذِكر اسم الله، ثم أخذ في شرح الإيمان والإسلام. والكلام في الإيمان والإسلام هو بيان لِما يَفهمُه القابسي عن الديانة الإسلامية، وشرح للعقيدة الإسلامية على طريقة أهل السُّنَّة. وفي ضوء هذه الحدود ينبغي للصبيان أن يفهموا الدين، وينبغي للمُسلمين أن يقوموا بالتعليم. ولم يكن تفصيل القول في الإيمان والإسلام أثرًا من التقليد الأعمى الذي يقوم به بعض الكُتَّاب مُقتفِين أثر السابقين وعادة الأوائل، كما كان يفعل الشعراء في الإسلام من ابتداء قصائدهم بالبكاء على الأطلال والدِّمَن كصنيع الشعراء في الجاهلية، ولكن القابسي اضطر إلى إعلان الرأي عن الإيمان والإسلام لِما بين الدين والتعليم من صِلة وثيقة، بل صلة ضرورية، هي علاقة الأصل بالفرع والغاية بالوسيلة. وهي صِلة لم يصنعها القابسي، ولم يفرضها على التعليم فرضًا، ولكنه استمدَّها من الحياة نفسها، حيث كان الدين سائدًا في عصره — كما أسلفنا القول — كلَّ لونٍ من ألوان الحياة الاجتماعية. غير أن ماهية الدين كانت مَوضع خلافٍ بين المسلمين، وقد استطارت الفِتَن بين أهل المذاهب المختلفة إلى درجة أنهم كانوا يُكفِّر بعضهم بعضًا. وعقيدة الديانة الإسلامية كما يفهمها القابسي، وكما يُريدُها وكما ينبغي أن تذيع في الناس عن طريق التعليم تتلخَّص في خمس: الإيمان، والإسلام، والإحسان، والاستقامة، والصَّلاح. فالدين عنده نظَر ينتهي إلى عمل. وليس الدين هو الإيمان فقط أو الإسلام فقط، أو الإحسان والاستقامة والصلاح فحسْب، وإنما هو كل ذلك مُجتمعًا. فالشخص الذي ينتحِل الإسلام ينبغي أن يكون مُؤمنًا ومُسلمًا ومُستقيمًا ومُحسنًا وصالحًا. هذا الطريق في فهم الدين يختلف عن رأي كثيرٍ من أصحاب الفِرَق الإسلامية الذين نظروا إلى المُسلم من جانبٍ واحد لا من هذه الجوانب مؤتلِفة. وعندنا أن القابسي لم يضع العقيدة الدينية أو مبادئ الدين في ناحيةٍ وأداء المُسلم لها في ناحيةٍ أخرى، ولكنه مزج بينهما ونظر إلى الدين في سلوك المُسلم، أو نظر إلى سلوك المسلم في دينه، وهذا الاتجاه في التفكير هو الذي يجعله يدمج الإيمان في الإسلام ولا يفصِل بينهما. هذه النظرة تركيبية لا تحليلية. فهي تركيبية؛ لأنه يجعل سلوك المرء وحدةً لا تتجزأ، بل أكثر من هذا يُوحِّد بين سلوكه الخارجي الظاهر، وبين إيمانه الباطن وعقيدته الداخلية، بين التصديق بالقلب وعمل الجوارح، بين الإيمان والإسلام. أما غيره من المُتكلمين والفقهاء فقد حلَّلوا المعاني المنطوية تحتها أعمال المُسلم في ظاهره وباطنه، وقسَّموا الأعمال المختلفة إلى كبائر وصغائر فيما يختصُّ بالمُحرَّمات، وتجاوزوا عن الصغيرة وكفَّروا مُرتكب الكبيرة، واختلفوا فيما بينهم على هذا التقسيم اختلافًا كبيرًا. وعندنا أنهم بهذا التحليل قد جزَّءُوا شخصية المسلم، وتكلَّموا لا عن شخصٍ يعمل، بل عن معانٍ منفصلة لم يرتفعوا بها إلى الوحدة التركيبية الواجبة بعد التحليل الجدلي. فالقابسي على هذا الرأي الذي يجعل من الدين وحدة، ومن الإيمان والإسلام جملةً لشيءٍ واحدٍ. والإيمان والإسلام جاء بيانُهما في حديث الرسول المشهور، فالإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ولقائه ورسُله والبعث الآخر، والإسلام هو العبادة التي تجتمِع في إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت. على أي شكلٍ تكون هذه العبادات؟ إنها مفروضة على أي الحالات، ولا مَحلَّ للبحث في تاركها. وإنما السؤال أيؤديها المُسلم كيفما اتفق، أم يُقبل عليها ويُنفق فيها حياته؟ يطالب القابسي أولًا بإحسان عبادة الله في كل ما يتعبَّد الإنسان، وذلك يكون بالإخلاص في هذه الأعمال، على أن يذكُر الإنسانُ اللهَ حين العبادة كأنه يراه، فإن لم تكن تراه أيها العبد فإنه يراك. وهذا هو المقصود الصحيح من ذِكر الله لا كما يفعل المُسلمون في العصر الحاضر في حلقات الأذكار يُرَدِّدون فيها اسم الله ترديدًا آليًّا، وينسَون بعد ذلك المعنى السامي من ذكر الله وهو الرقابة على الأعمال. فالغرض من الإحسان هو نوع العبادة التي يؤديها المرء خالصة لله تعالى. أما الاستقامة فهي مُداومة المُقام في الدين، ولا يُنكِّب عنه يمينًا ولا شمالًا، ولا يلتزِم منه ما لا يُطيقه، فالدين يُسر. والقابسي يجري مع روح الإسلام الواقعي الذي ينشد التوسط، ويلتزم الحدود البشرية، وللإنسان بعد ذلك أن يزيد في العبادة بما يطيق، وهذه هي صفة الصالحين، وقد رتَّبَهم القابسي درجاتٍ أدناها أن يَسْلَم العبد من الخطايا، وأوسطها الاقتصار على أداء الفرائض واجتناب المحارم مع حُسن العبادة، وأرفعها أداء النوافل بعد استكمال الفرائض وهؤلاء هم الأولياء. «فما سَلِم العبد من الخطايا فهو من الصالحين، وما زاد بعد ذلك من طاعة ربه زاد خيرًا.» ١٤-أ. فنحن نرى أن القابسي يشرح الدين بما يلائم المجتمع بأسره، ويتفق مع الطبيعة الإنسانية دون مغالاة أو إسراف. فمذهب الأشاعرة يوفِّق بين رأي المعتزلة العقلي وبين رأي أهل السُّنَّة النقلي، ذلك أن المعتزلة في مسائل الاعتقاد لم يقبلوا ما جاء في الكتاب والسُّنَّة قبولًا أعمى بل أثبتوا الوحدانية والصفات لله بالعقل، ثم تكلَّموا في القضاء والقدر كلامًا أثبتوا فيه الحرية للإنسان، وأن أفعال العباد مخلوقة لهم، وهذا ما دعا الأشاعرة أن يُخففوا من هذا التطرُّف العقلي، ويقِفوا من إرادة الله موقفًا وسطًا، وأن ما يُصيب الإنسان فمِن الله. ونحن نرى ألفاظًا جديدة دخلت إلى الإسلام هي المُجاهدة والمُشاهدة والغيب والشهادة، وهذه كلها من مصطلحات المُتصوفة التي استحدثوها ممَّا لم يكن للمُسلمين الأوائل عهدٌ بها. وقد انتهى أمر المُتصوفة فيما بعد إلى فَهم الإسلام على نحوٍ مُعقد بلغ من درجة تعقيده أنهم أوجبوا معرفة الطريق على قُطب من أقطابهم، وذلك لصعوبة الوصول من غير مُرشِد يأخُذ بيد المسلمين، ويرتفع بهم في درجات المقامات، ومُختلف الأحوال. تقدَّم المعتزلة والأشاعرة وأهل السُّنَّة والمتصوفة إلى الشعب يعرضون بضاعتهم العقلية، فوجد العامة أن ما يُلائمهم منها هو بضاعة أهل السُّنَّة لسهولة فهمها، وبساطة عرضها، وخُلوِّها من التعقيد والالتواء، ومُلاءمتها للطبائع البشرية جميعًا، ففيها العمق لمن يريد التعمُّق، والوسط لمن يرغب في التوسُّط، والحث على مُداومة العبادة لمن يريد الارتفاع إلى درجات الصالحين. ولا ننسى إلى جانب ذلك أنَّ شخصية الرسول حُجة في تدعيم الرأي، وأن الاعتقاد في الآراء يستنِد إلى شخصية قائلها إلى حدٍّ كبيرٍ إلى جانب ما في هذه الآراء من قيمةٍ ذاتية، فاستناد أهل السُّنَّة إلى الآيات القرآنية وإلى أحاديث الرسول قرَّبَهم من أفهام العامة وعقولهم وقلوبهم. والعمل في الحياة أسبق من الجدل، وأدعى إلى الفطرة السليمة، وأبعَثُ إلى الشعور بلذَّة طبيعية غير مصنوعة. والناس في حاجة إلى العمل في الدنيا لكسب المعاش، وإلى التفكير في الآخرة التي تُقرِّر أحوال المعاد، فهم يعملون لدُنياهم ودينهم. على أن الاستغراق في شئون الدنيا مما يصرِف عن الدين ويفقد المرء معه نعيم الآخرة. والانصراف التام إلى أمور الدين يُبعد الإنسان عن الدنيا فيعجز عن الكسب، بل يعجز عن الحياة. والطريقة المُثلى هي الجمع بين الدين والدنيا بما يُحقق المصلحة في الجانبَين. وسيرة الرسول نفسه خير شاهد على ذلك، فإنه إلى جانب التعمُّق في العبادة كان يرعى الأغنام ويشتغِل بالتجارة، وكذلك كان الصحابة. وفي القرآن إشارة إلى هذا الجمع بين شئون الدين والدنيا في أكثر من موضع: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا (القصص: ٧٧). وجدال المُتكلمين يُبلبل الأفكار، ولا ينتهي الجمهور منه إلى الاطمئنان الديني، وبعد فهو جدل لا نهاية له. وطريقة أهل التصوُّف تدفع إلى استغراقٍ في العبادات يصرِف عن الكسب. وأحوَجُ الناس إلى تحصيل القُوت هم العامة، فلا ضِياع لهم ولا مال موروث. فإذا مال العامة مع المُتكلِّمين أضاعوا دينهم، وإذا تصوَّفوا ضيَّعوا دُنياهم. أما مذهب أهل السُّنَّة فإنه يُثبتهم في العقيدة، ويقدِّم لهم الدين في صورةٍ بسيطة، ويضمَن لهم سلامة الدين. وهو إلى جانب ذلك لا يصرِفهم عن العمل بل يحثُّهم عليه ويُرتِّب لهم قواعد السلوك ووجوه الكسب الحرام والحلال. ولم نذكُر في هذا الصدد طائفةً أخرى من المُفكرين هم الفلاسفة فهؤلاء كانوا بعيدين كل البعد عن عقل الجماهير، وقد انطوَوا على أنفسهم، وقصَروا دراسة الفلسفة على فئةٍ خاصة، ولم يُحاولوا إذاعتها في الناس كافة لمَعرفتهم بصعوبة الآراء الفلسفية على الأفهام، ونستثني من الفلاسفة إخوان الصفا الذين تقرَّبوا إلى الجمهور برسالتهِم المعروفة. فسمَّوا مذاهب المُعتزلة العقلية، ومغالاة المُتصوِّفين في مسالكهم الروحية، وصعوبة الآراء الفلسفية، كل أولئك قرَّب بين أهل الحديث وبين العامة، وهي استجابة طبيعية لتأثير مذهب أهل الحديث المُلائم لنفوسهم. ولهذا كان تعليم الشعب في أيدي مَنْ يفهمون الشعب ويفهمون عقليته ونفسيته. وقد عُني الفقهاء من أهل السُّنَّة بالتعليم ليشبَّ العامة على معرفة الدين علمًا وعملًا؛ لأن معرفة الدين لا تتمُّ إلا بنوع من التعليم، سواء أكان هذا التعليم صادرًا من الوالد إلى أبنائه بالتلقين، أم أخذًا عن شيخٍ بعَينه يتطوَّع لتعليم الصبيان شئون دينهم. وفي كِلتا الحالتَين لا يتحقَّق نشر الدين بين الناس، لانصراف الآباء إلى أعمالهم، وقِلةٌ من يتطوعون بالتعليم. لهذا أجاز الفقهاء قيام المُعلمين للتعليم بالأجر. والتعليم الذي نقصده هو تعليم الصبيان، لأننا بصدَد الكلام عن تعليم الصبيان فقط. ونوع التعليم هو الدين لأنه المقصود في ذلك العصر. ولم يكن من السهل على المُتكلمين المُتعمِّقين في فهم العقيدة الإسلامية أن يقوموا بتعليم الصبيان، ولم يكن جدَلُهم ممَّا تستسيغه هذه العقول الناشئة، وطريق المُتصوِّفة وعر يصعُب سلوكه على الرجال، وهو مُستحيل على الصبيان. لهذا انتهى تعليم الدين الصبيان إلى أيدي أهل السُّنَّة. ولم يُحاول أهل السُّنَّة تغليب مذهبهم بالقوة أو العنف، أو يفرضوه فرضًا على الناس، وإنما نجحوا حين أخفق غيرهم، لقُرب مذهبهم من البداهة وبساطة الفِطرة. والتعليم على مذهبهم مُخالف بطبيعة الحال لألوان التعليم التي صوَّرها أصحاب المذاهب الأخرى، والتي نعرِض لها في فصلٍ آخر، لنُبين أن التعليم ظِلٌّ للمَذهب العقلي أو النقلي الذي يعتقده صاحبه. ويرجع السرُّ في وقوع تعليم الصبيان في أيدي أهل السُّنَّة إلى أسبابٍ كثيرة، منها أن كثيرًا من المُفكرين في الإسلام ترفَّعوا عن تعليم الصبيان، وتركوا هذا الأمر لغيرهم. وقد صرَّح بذلك أصحاب رسائل إخوان الصفا الذين بيَّنوا طريقة التعليم مُبتدِئين بالشباب في سِنِّ الخامسة عشرة. وأهم هذه الأسباب هو عُمق المذاهب الإسلامية الأخرى التي تدِقُّ على أفهام الصبيان. وإذا كان الغزالي قد عاب على المُتكلمين إسرافهم في مُطالبة العوام بمعرفة أسرار الإيمان بأدلةٍ عقلية عميقة يصعُب على أذهان العامة بلوغها لقصور أفهامهم، فإننا نَعيب على الغزالي وعلى المُتصوفة أن يَقصُروا طريق الإيمان على الكشف والصفاء، ممَّا لا يتيسَّر للدهماء. وقد نشأ عن وقوع تعليم الصبيان في أيدي أهل السُّنَّة نتائج كثيرة في الحياة العقلية للمُسلمين. فإذا شئنا أن نبحث في عِلة ركود الحركة العقلية عند المُسلمين بعد القرن السادس بعد أن ظلَّت هذه الحركة قوية مُزدهرة منذ القرن الثاني في التأليف والترجمة في شتَّى العلوم والمعارف، بما كان يُبشِّر بأن يحمِل المسلمون لواء العلم والحضارة في العالَم أجمع، فينبغي أن نتلمَّس أسبابها في بذورها الأولى عند الصبيان الذين انطبعت نفوسهم على طريقةٍ خاصة في فهم الدين يصعُب التحوُّل عنها. ومن النتائج التي ترتبت على اضطلاع أهل السُّنَّة بالتعليم العام جمود التعليم ووقوفه عند طريقةٍ لا يتطوَّر عنها، والسِّرُّ في ذلك أن غايتهم القصوى هي حفظ القرآن، وغرَضَهم هو تلقين أصول الدين، مع الابتعاد عن تعليم أي مسألةٍ من مسائل الدنيا إلا ما قضَتْ به الضرورة. ونقول: إنه انتهى الحال في الكتاتيب بصورة عَملية إلى حفظ القرآن والكتابة والقراءة فقط. ولطول العهد بهذه الطريقة التي دارت مع الزمان، واتَّبَعَها الناس قرنًا بعد قرن، آمنوا أنها الطريقة الوحيدة التي ينبغي اتِّباعها. ولَمَّا كان القرآن ثابتًا لا يتغيَّر، ولمَّا كان الصبيان لا يتعلَّمون في الأغلب إلا القرآن، فإنك قد تدخُل الكتاتيب في القرن الرابع، فلا تجِد فيها فارِقًا عن الكتاتيب في القرن الرابع عشر إلا في بعض أمور شكلية. الغرَض من تعليم الصبيان عند القابسي، وعند فقهاء أهل السُّنَّة جميعًا هو معرفة الدين، عِلمًا وعملًا. والقابسي ينظُر إلى الحياة، ولا يبتغي منها إلا وسيلة إلى الآخرة، فهو يُسرف في نظرته الدينية، ويجعل الإنسان يستغرِق جميع أوقاته، وجميع أعماله في سبيل الدين وباسم الدين. وليس هذا المَوقف غريبًا عن القابسي وهو التقي الصالح، الورِع الحافظ للقرآن والسُّنَن وأصول الدين وأصول الفقه. ولم يكن القابسي في حقيقة الأمر إلا مرآةً للعصر الذي عاش فيه، يصِف ما يفعل الناس ويُثبتهم في هذا العمل الصالح. وكان العصر كلُّه عصر دين تَغلَّبَ على النزعات المادية، وكان الناس قريبي العهد بالزمن الأول الذي عاش فيه الصحابة والتابعون فلم ينسَوا ما كانوا عليه من سيرة روحية ترمي إلى ابتغاء مَرضاة الله، والعمل للدار الآخرة. وتمييز الغرَض في الذهن ضروري لتحديد وسائل العمل، وكان الغرَض من التعليم واضحًا في ذهن القابسي، وفي ذهن مَنْ تقدَّموا من قبل منذ عصر النبي. كانوا يقصدون إلى تعليم المُسلمين الدين، مما لا يتيسَّر إلا بمعرفة بعض المبادئ التي تُكتَسَب بالتعليم. ومن هذه المبادئ القراءة والكتابة، لا على أنها غاية في ذاتها يُكمِّل الإنسان بها نفسه، بل على أنها سبيل إلى سهولة تحصيل عُنصر عام من عناصر الدين وهو القرآن، ولذلك افتدى النبي عشرةً من أسرى بدر بتعليم أبناء المسلمين القراءة والكتابة. والقرآن هو كتاب المسلمين الذي يجمع في آياته قواعد الدين، وأسرار العقيدة. وإذا كان لأصحاب الديانات المختلفة كتُب سماوية أو غير سماوية، فإنها لم تبلُغ مبلغ القرآن في تأكيده أنه كلام الله وتنزيل العزيز الحكيم، ممَّا يجعله أكثر قداسة، وأبعد عن الشكوك والرِّيَب، وأدعى إلى القبول. ومعرفة القرآن ضرورية لمعرفة الدين، حيث لا تتمُّ الصلاة إلا بقراءة شيءٍ من القرآن فيها. والصلاة مفروضة على المُسلمين لأنها ركن من أركان الدين، ولذلك يقول القابسي كما يقول الفقهاء: «وقد أُمِر المسلمون أن يُعلِّموا أولادهم الصلاة والوضوء لها.» ويقول أيضًا: «إن حُكم الولد في الدين حُكم والده ما دام طفلًا صغيرًا. أفيدَع ابنه الصغير لا يُعلمه الدين؟ وتعليمه القرآن يؤكد له معرفة الدين.» وهذا كله واضح الدلالة في أن الغرَض الأول من التعليم هو معرفة القرآن والصلاة، أي معرفة الدين علمًا وعملًا. غير أن القابسي لم يَبسط الموضوع على الأساليب الحديثة، التي تُقدِّم الأغراض ثم تسُوق الوسائل لخدمتها، ولكننا نتلمَّس الأغراض عندَه من خلال ما كتب، ونقول إنَّ تخصيصه فصلًا عن الإيمان والإسلام، لم يكن إلا نوعًا من تحديد الغرض للتعليم. ونتلمَّس أيضًا غرَضه مما كتب عن تعليم البنت، فهو يُريد أن يُعلمها القرآن والعبادات المُختلفة لأنها فُرِضت على المؤمنين ذكورًا وإناثًا. ولكنه إذ يقول إن سلامتَها من تعلُّم الخط أنجى لها، يُبين لنا أن غرَضه من التعليم هو الاقتصار على معرفة الدين ويُضحِّي بتعلُّم القراءة والكتابة إذا خشي فسادها. ومن هنا اتصل التعليم بالدين اتصالَ الوسيلة بالغرَض. ومن النتائج المُهمة التي ترتَّبت على هذه الصلة الضرورية، أن الديانة الإسلامية تُسوِّي بين العباد ولا تُفضل عربيًّا على أعجمي إلا بالتقوى، ولا تقصُر معرفة الدين على فئةٍ دون فئة؛ وقد حرص المسلمون من أول الأمر على نشر الدين، والمُساواة بين الناس في مقدار إنسانيتهم. فإلى جانب ما هو موجود في القرآن من النص على هذه المساواة، فإن سيرة النبي والصحابة والخلفاء الراشدين تُبين بطريقةٍ عملية امتناع التفاوت بين الناس في الأقدار والمنزلة الاجتماعية، على العكس من ذلك ساروا سيرة التواضُع والبساطة والإقلال، مما يجعلهم يقتربون من العامة لا من الخاصة أو أوساط الناس. كان النبي يخصف نعلَه ويرقع ثوبه، وقد ثارت فئة من المُسلمين على عثمان بن عفان لأنه ابتنى الدُّور والقصُور مما لم يُعهَد عن رسول الله، ذلك لأن حرص المسلمين كان على السَّبْق في المنزلة الدينية. فإذا كان الجميع سواء أمام الله، فأفضلهم عند الله أتقاهم. ودار الزمن وأثرى المسلمون، وأسلم كثيرٌ من الأعاجم، وأقبلت عليهم الدنيا، وبقِيَ هذا الروح الذي يُعبَّر عنه بالاصطلاح الحديث بالروح الديمقراطي قائمًا، لا يجرؤ أحد أن يُخالفه. ومما يساعد على انتشار هذا الروح ويمنع من تغيُّره ويعمل على بقائه وتثبيته، صلاة الجماعة التي يقِف فيها الغَني إلى جانب الفقير، والأمراء إلى جانب السُّوقة. لكل هذا لم يستطع أحد من المسلمين أن يدَّعي احتكار الدين لنفسه، يبيعه بعد ذلك لمن يريد طلبه، أو يكون واسطةً بين هؤلاء الطالبين وبين الله؛ ومع ذلك فقد درجت في الإسلام في عصور مُتقدِّمة ومتأخِّرة كثير من النظريات يبغي أصحابها احتكار العِلم والدين، مثل بعض فِرق الشيعة، وإخوان الصفا، ومُتأخري المتصوِّفة الذين اصطنعوا نظرية الأقطاب والأولياء يتوسَّطون بين المُريدين وبين الوصول إلى معرفة الله. ولكن جميع هذه التيارات وأمثالها لا تنفي أن يتعلَّم الناس جميعًا القرآن والعبادات الشرعية المفروضة كالصلاة والزكاة، وهي مذاهب يتحوَّل إليها المسلمون بعد مرحلة الشباب لا قبلها؛ لأن فهمها يحتاج إلى سَعة درْك وعُمق تفكير. ويبقى بعد ذلك أن الصبيان ينبغي أن يتعلموا القرآن والصلاة، وأن تعليمهم هذه المبادئ لا يتَّسِع معها الخلاف أو الجدل، وأهم من هذا كله أن الإسلام يتوجَّهُ إلى الجميع فلا بدَّ أن يتعلم الجميع. فالديانة الإسلامية في طبيعتها النظرية من حيث العقيدة، وفي روحها الذي درج على تفسيره رجال الدين في عصوره المختلفة، تدعو إلى نزعةٍ ديمقراطية وتنحو ناحية المساواة. وقد أثرت هذه النزعة في التعليم أثرًا كبيرًا، إذ إن تأصُّل فكرة الديمقراطية والمساواة الدينيتَين، انتقلتا إلى التعليم أيضًا. وقد تنبه المسلمون منذ عصر النبي إلى قيمة التعليم في معرفة الدين معرفةً صحيحة. وكان التعليم ضروريًّا في ذلك العهد لحاجة النبي والخلفاء من بعده إلى نشر الإسلام بين سكان جزيرة العرب الذين يدينون بالوثنية، وبين الفرس الذين يدينون بالمجوسية، وبين أهل الكتاب، فلمَّا أسلم أهل تلك البلاد المُختلفة في خلال قرنٍ أو قرنين من الزمان، لم تبطُل الحاجة إلى التعليم، لتفقيه الأبناء شئون دينهم المفروض عليهم. وكان التعليم في بَدء الأمر تطوُّعًا في سبيل الله. ثم انتظم التعليم في الكتاتيب والمدارس، وتناول المُعلمون الأجر. فأصبحت المسألة التي تُواجِهُ الفقهاء هي البحث في تعليم الصبيان أواجِبٌ هو أم لا؟ وإذا كان واجبًا، فمَنْ هم المُكلفون بذلك؟ وما هو نوع التعليم الذي ينبغي أن يكتسِبه الطفل؟ إلى غير ذلك من المسائل الطارئة في الإسلام، والتي لم يحكُم فيها فقهاء العهد الأول في الإسلام، وهم المُتَّبَعُونَ في الأحكام. والمعروف أنه بعد استقرار المذاهب الأربعة في الأمصار، أصبح باب الاجتهاد عسيرًا، بحيث يحتاج الفقيه إلى كثيرٍ من الجرأة في الفكر والاعتدال في الرأي ليخرج على الناس بحُكمٍ جديد. وقد كان القابسي، على الرغم من اتباعه الدقيق لشيوخه الفقهاء، جريئًا في مسألةٍ من المسائل الاجتماعية التي شقَّ بها الطريق لمن جاءوا بعده؛ تلك هي مسألة إلزام التعليم التي أحسن عرضَها، وساقَها في تطوُّرها مع التاريخ حتى وصل بها إلى العصر الذي يعيش فيه، إلى أن بسطَها الفقهاء الذين خلَفوه بسطًا جديدًا، ولكنه أحس بها إحساسَ مَنْ يلتمِسها التماسًا، ويدور حولها دوَران مَنْ يشعُر بغموض الفكرة. وإلزام التعليم خطاب للمجتمع بأسرِه لا لبعض الأفراد فيه. فالقابسي يريد أن يُعلِّم أبناء الشعب جميعًا؛ لأنه يريد أن يَنشُر الدين ولا يحرِم أحدًا. ولم يرد في القرآن نصٌّ على وجوب التعليم، ولا يُوجِب الحديث مثل ذلك، ولم يُعهَد عن الصحابة والتابعين أنهم أوجبوا على الناس تعليم أبنائهم وإرغامهم على إرسالهم إلى الكتاتيب، أو استحضار المُعلمين لهم، والكِتاب والسنة والإجماع هي الأصول التي يرجع إليها الفقهاء في أحكامهم. وليس غريبًا أن نجد القرآن خلوًا من نصٍّ على التعليم، فلم يكن في العهد الذي نزل به القرآن كتاتيب، إلى جانب أن التعليم في الكتاتيب من الأمور الدنيوية البحتة التي لا يتعرَّض لأمثالها القرآن وإنما يتركه لتصرُّف العباد. لذلك احتال القابسي للحُكم في هذه المسألة الجديدة التي لم يسبقه إليها أحد. وبين أيدينا كتاب ابن سحنون ممَّا دوَّن عن أبيه في التعليم، فلا نجد فيه ذكرًا لهذا الموضوع. وأدلة القابسي قوية أخَّاذة تنقلك من فكرةٍ إلى أخرى حتى ينتهي بك إلى أن تعليم جميع الصبيان ضروري واجب، وأن هذا الوجوب هو الوجوب الشرعي، على طريقة الفقهاء. ذلك أن معرفة العبادات واجبة بنص القرآن، ومعرفة القرآن واجبة أيضًا لضرورتها في الصلاة، وأن الوالد مُكلف تعليم ابنه القرآن والصلاة لأن حُكم الولد في الدين حُكم أبيه. فإذا لم يتيسَّر للوالد أن يُعلم أبناءه بنفسه فعليه أن يُرسلهم إلى الكُتَّاب لتلقِّي العلم بالأجر، فإذا لم يكن الوالد قادرًا على نفقة التعليم فأقرباؤه مُكلفون بذلك. فإذا عجز أهله عن نفقة التعليم فالمُحسِنون مُرَغَّبون في ذلك، أو مُعلم الكتَّاب يُعلِّم الفقيرَ احتسابًا أو من بيت المال. النتيجة التي يريد أن يصِل إليها القابسي هي تعليم جميع أبناء المسلمين؛ أغنياء وفقراء. وهذا هو التعليم الإلزامي بعينه أعلنَه القابسي في القرن العاشر الميلادي أي في صميم القرون الوسطى التي كان أهل أوروبا يعيشون فيها مع الجهل والظلام. وتختلف فكرة الإلزام التي نبسطُها عند القابسي عنها في الدول الحديثة؛ ووجه الخلاف راجع إلى تطوُّر النُّظُم الاجتماعية، وتطوُّر الفكرة عن الدولة ووظيفتها. والرأي الحديث أن الدولة مُكلفة تعليم جميع أبناء الشعب حتى سِن مُعينة دون أجر، فالتعليم واجب على الدولة تُنفق عليه من خزائنها. ومن ناحيةٍ أخرى على الشعب واجب العِلم، وهو واجب قانوني يُعاقَب صاحبه بالغرامة إذا لم يُؤدِّه. ولم تُفصَّل الحقوق والواجبات في العصور القديمة هذا التفصيل، وإنما كانت الحقوق والواجبات كلها دينية، والعقاب عليها مُستمدًّا من الدين، ويقوم الحاكم أو الوالي بتنفيذ هذه العقوبات. أشار القابسي إلى شيءٍ من ذلك إذ سأله سائل عن حالة الوالد الذي يمتنع عن إرسال ابنه إلى الكُتَّاب يتلقَّى الدين والعِلم «هل للإمام أن يُجبره؟» فأجاب القابسي أنْ ليس للإمام أن يُجبره، وإنما يُوعَظ ويُؤثَّم. وإذَنْ فقد عُرِضت المسألة على بساط البحث، وأوشكت أن تتمَّ أركان الإلزام من ناحية الدولة، لولا تردُّد الفقهاء في الحُكم؛ لأن عقاب الوالد في حالة الامتناع عن إرسال ابنه إلى الكُتَّاب يحتاج إلى دليلٍ شرعي من الكتاب أو السنة أو الإجماع، وليس فيها مثل هذا النص. على أن المسألة اتَّجهَت وجهةً أخرى هي تطوُّع الأغنياء والأمراء بالإنفاق على الكتاتيب وإجراء الأموال عليها لتستمرَّ على الحياة، وإذا تيسَّر افتتاح الكتاتيب وإقامة المُسلمين فيها بالأجر، فليس ما يمنع الناس من إرسال أبنائهم إليها، ويحلُّ عمل الأمراء محلَّ الدولة. هؤلاء هم المُحسِنون الذين أشار إليهم القابسي. وقد كانت هذه العادة مُتَّبعة فعلًا بتأثير حثِّ الفقهاء الناس على طلب العِلم والتعليم، والإشادة بفضل العلم. وفي كتب التاريخ والتراجِم إشارات كثيرة إلى المساعدات العظيمة التي قام بها الأمراء لافتتاح الكتاتيب. ولم يقِف الأمر عند هذا الحد، بل تطورت الفكرة إلى شيءٍ أسمى من ذلك وأكثر استقرارًا وأشدَّ ضمانًا لحياة الكتاتيب، وفي حياتها حياة لتعليم الصبيان، تلك هي رصد الأوقاف على الكتاتيب والمدارس، وبذلك تتمُّ حلقات هذه السلسلة الطويلة في تاريخ التعليم، والجهاد في سبيل نشره وإلزامه؛ إذ تبدأ بالتطوُّع ثم تَستقرُّ شيئًا فشيئًا مع الزمان حتى تنتهيَ إلى الوقوف عند الأوقاف المرصودة على التعليم. وتتمُّ هذه الحلقة في إلزام التعليم بإشراك البنت إلى جانب الولد في هذه الفضيلة. وقد أقرَّ القابسي هذا المبدأ لها، واعترف بحقِّها في التعليم وهو يُقرر ذلك في سبيل الدين؛ لأن المؤمنين والمؤمنات مُكلفون جميعًا بنص القرآن، ولا تتيسَّر معرفة الدين إلا بنوع من التعليم. ولم يكن تعليم المرأة في الإسلام بدعة، فالمعروف أن كثيرًا من النساء نبغنَ في العلم والأدب والشعر، وجاء ذِكرهن ونوادرهن في كتب الأدب والتاريخ، ولكن المسألة هي إلزام تعليمهنَّ لا على سبيل الزينة بل على الوجوب الديني. فإذا أفتى الفقهاء بوجوب تعليمهن بأسانيد دينية، فليس ما يمنع من تعليمهن كما يتعلم الصبيان، وليس ما يمنع من ذهابهن إلى الكتاتيب في الصغر. فانتشار التعليم في البنات روح جديد لم يكن معهودًا في الزمن الأول للإسلام. أما الذي كان معروفًا في بدء الإسلام، وقبل الإسلام، فهو أن عددًا قليلًا يُعَدُّ على أصابع اليد الواحدة من النساء كُنَّ يعرفن القراءة والكتابة؛ والأمر في ذلك يُشبه عدد الرجال الذين كانوا يقرءُون ويكتبون عندما أقبل الإسلام. عن البلاذري: «قال النبي للشفاء بنت عبد الله العدوية من رهط عمر ابن الخطاب، ألا تُعلِّمين حفصة رُقية النملة كما علَّمْتِها الكتابة؟» وكانت الشفاء كاتبةً في الجاهلية. هذا ما كان من شأن المُتعلمات في فجر الإسلام، وقد استمرَّت هذه السُّنة مُتبعة جيلًا بعد جيل، فكان الأمراء يُعلمون بناتهم في داخل القصر ويجلبون لهنَّ المُعلمين والمُؤدِّبين. ونستدل ممَّا كتبه القابسي أن البنات كُنَّ يتعلمن في الكتاتيب حيث قال: «ومن صلاحهم ومن حُسن النظَر لهم ألا يُخلَط بين الذكران والإناث، وقد قال سحنون أكرَهُ للمُعلم أن يُعلم الجواري ويخلطهنَّ مع الغلمان؛ لأن ذلك فساد لهنَّ.» ٥٧-أ. واختلاط الجِنسين في التعليم من المسائل الشائكة التي واجَهَها العالَم من قديم الزمان، ولا يزال يُواجِهها حتى الآن في العصر الحاضر. والأقوال في هذه المسألة مُتضاربة، هل نجمعهما في التعليم، أم نفصِل بينهما، وأي الأوقات أنسب لفصلهما؟ مما سبق يتَّضِح لنا أن معرفة الدين هي الغاية القصوى والمطلوب الأول، وتحقيقًا لهذه الغاية وجب التعليم ومعرفة القراءة والكتابة، لا في دائرة ضيقة، بل في أوسع دائرة بحيث تشمل جميع أفراد الأمة ذكورًا وإناثًا. ولم يذكر القابسي من الأغراض التي يبتغيها الإنسان حين يتعلَّم إلا الغرَض الديني. وكِلاهما يأخذ هذه الأغراض من شتَّى المؤلفات العربية، مثل تعليم المُتعلم للزرنوجي، وجامع بيان العلم لابن عبد البر، وإحياء العلوم للغزالي، وكشف الظنون لحاج خليفة، ومفتاح السعادة لطاش كبري زادة، ورسائل إخوان الصفا. والرأي عندنا أنه لا يُوجَد أغراض للتربية عند العرب تعمُّهم على وجه الإطلاق، وإنما الصواب أن نذكُر صاحب المذهب ثم نذكر الغرَض من التعليم الذي يُلائم هذا المذهب. فطريقة التعليم مُستمدَّة من مذهب صاحبها. والغرض من التعليم عند القابسي، وهو من فقهاء أهل السُّنَّة، غرض ديني يقصد منه إلى تعلم القرآن ومعرفة العبادات المفروضة. وقد أوجزْنا القول في فصلٍ آخر عن التربية عند العرب، وعرَضْنا هذه المذاهب المختلفة، لنُبين أن الاختلاف في أغراض التعليم ووسائله عند المُسلمين إنما يرجع إلى اختلاف هذه المذاهب العقلية. على أن القول بأن من أغراض التعليم عند العرب كسب المنزلة الاجتماعية قول جريء يحتاج إلى دليل. ولا نريد أن نستقصيَ جميع كُتَّاب المسلمين لتصحيح ما أخذه عنهم الباحثون في التربية، والرأي عندنا أنهم جميعًا جعلوا الغاية من التعليم غايةً دينية، وأكَّدوا هذه الغاية تأكيدًا لا يقبل الشك، وإذا كان بعضهم وجد أن التعليم يُحقق أغراضًا اجتماعية أو عقلية أو مادية، فإن هذه الغايات الأخيرة تأتي في المرتبة بعد الغاية الدينية، وليست مقصودة لذاتها، ولم يَفُتْهم النص على إيثار الدين على الدنيا في جميع الأحوال. هذا إلى أن البحث في التعليم عمومًا يختلف عن البحث في تعليم الصبيان، والغرَض من تعليم الصبيان هو معرفة الدين قبل كل شيء. ولذلك أوجبوا تعليمهم. وإذا نظرنا إلى المواد التي كان يتعلَّمُها الصبيان في الكتاتيب تَبيَّن لنا أن الغاية التي حددت هذه العلوم هي الغاية الدينية، وأول هذه العلوم هو القرآن الذي يحفظه الصبي قراءةً وكتابة، فالكتابة ليست مقصودة لذاتها من حيث فائدتها الاجتماعية أو العقلية أو المادية، بل لسهولة حفظ القرآن وتقييده، للرجوع إلى المكتوب المُقيَّد في أي وقتٍ يشاء الصبي، والنحو والعربية الغرَض منهما قراءة القرآن على الوجه الصحيح وحُسن فهمه. وقد نص القابسي على أن تعليم الحساب ليس بلازمٍ إلا إذا اشتُرط عليه. وقد بحث الفقهاء بعد هذا العصر في تعليم الحساب، والتمسوا له علةً دينية هي الفائدة في معرفة المواريث وقِسمتها كما هو وارد في الشرع، فإذا كانت هناك ضرورة لتعلُّم الحساب فهي إذَنْ ضرورة شرعية لا اجتماعية أو مادية. لقد بدأ القابسي كتابه بفصلٍ عن الإيمان والإسلام، واختتمه بفصلٍ في القراءات والكلام عن فضل المُقرئين، وبهذا يبدأ الصبيُّ مؤمنًا مُسلمًا وينتهي قارئًا للقرآن.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/40635716/
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
أحمد فؤاد الأهواني
«نحن في حاجةٍ إلى القديمِ والجديدِ معًا؛ لأننا لا نستطيع قَطْع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولغته، لا يزال دِيننا الإسلام، وكِتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجةٍ اليومَ إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم، ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادُنا منذ ألف عام يُعلِّمونهما؛ فقد يُفيدنا ذلك في موقعنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابةَ والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي موضع تفكير علماء التربية.» في القرون الإسلامية الأولى بلغت الحضارة العربية أوْج عظمتها، وانتشرت لأقاصي الشرق والغرب، حيث انتقلت إلى أوروبا التي كانت تموج في بحرٍ مُظلم جرَّاء التدهور والانحلال. وهذه الحضارة العظيمة تأسَّست على العِلم، ولا عِلم بغير تعليمٍ وتربية. ولأجل التعرُّف على أحوال التعليم في تلك العصور الزاهية، يأتينا هذا الكتاب ﻟ «أحمد فؤاد الأهواني»، حيث يُقدِّم فيه دراسةً وافية عن حياة «أبو الحسن القابسي» الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وكِتابه البالغ الأهمية؛ إذ قام «القابسي» فيه بمُعالجةٍ تفصيلية ودقيقة لكل ما تعلَّق بشئون التعليم في عصره، وخصوصًا تعليم الصبيان، وكذلك حل مشكلات التعليم. وقد أُلحِق بهذا الكتاب رسالة «ابن سحنون» المُعنونة ﺑ «آداب المُعلمين»، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث الهجري ولا يعرفها سوى القليل، وتُعَد من الرسائل النادرة عن التربية.
https://www.hindawi.org/books/40635716/6/
التربية الخُلقية
الدين والأخلاق حقيقتان لا تنفصلان في الديانة الإسلامية، كما تتلازَمان في جميع الأديان، وهناك أديان سادت في شعوب مختلفة وتبعها الناس زمانًا بعد زمان وجيلًا بعد جيل، وليس فيها من أصول الدين إلا نزر يسير لا يُلقى إليه بال، إلى جانب ما فيها من حكمة خلقية وفضائل نفسية. مثال ذلك ديانة الصين وهي الكونفوشيوسية، وهي مجموعة فضائل بثها حكيم الصين لخير الإنسانية، ولم تنزل إليه وحيًا من الله. فالأمة التي ينتشِر فيها الفساد يذهب ريحها وتُمحى من صفحة التاريخ هي ودينها إن كانت تدين بدين. ولم يكن القابسي في حاجة إلى النص على أنه يُريد من التعليم تهذيب الخلق، لأن تعليم الدين يحمل في طياته هذا التهذيب. فالإسلام يُفصل الكلام في المسائل الأخلاقية الرئيسة التي تناولها القدامى والمُحدثون: فيه بيان عن الأصل الأخلاقي للسلوك الإنساني، وفيه بيان عن البواعث الخلقية، كما ينظُر في الحكم الأخلاقي، وفي الغاية من الفعل الخلقي. وجماع هذه المبادئ الأربعة نجدها في القرآن، فهي مبسوطة وافية، ولكنها متناثرة في شتَّى آياته على الطريقة القرآنية، وهي ظاهرة لكلِّ من ألمَّ بالكتاب، ونظر فيه نظَرَ أولي الألباب. مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (الأنعام: ٣٨). لهذا جعل المسلمون القرآن حُجتهم ومرجعهم، ولهذا السبب ألزموا تعليمه ومعرفته. والفقهاء يعتبرون القرآن الأصل الأول من أصول الدين، ويعتبِرون السنة مُكملة للكتاب. قال القابسي: «ومُشتهر عند المسلمين أنه جاء عن النبي ﷺ أنه قال: تركتُ فيكم أمرَين لن تضلوا ما تمسَّكتم بهما: كتاب الله وسُنتي؛ فهو شيء لا بدَّ من تعلمه.» ٣١-ب. والأخلاق من العلوم المعيارية التي تبسط للناس مُثُلًا عُليا ينبغي اتباعها، وتختلف عما يكون عليه الإنسان في الواقع. ويرجع الأصل في الاختلاف بين الواقع والواجب إلى ظهور الدين والعُرف، وكلاهما سلطتان قاهرتان خارجتان عن الفرد، ويخضع لهما الفرد. وظلَّ الإنسان زمنًا طويلًا لا يُميز بين السلطتين؛ سلطة نفسه وسلطة الدين والعرف، الخارجتَين عنه. والطفل لا يُميز بينهما لقصور عقله؛ والعامة من الناس كذلك لا يُفرقون بين هذه الذاتية وبين السلطة الخارجية، وذلك لجهلِهم، وبُعدهم عن التفكير في أنفسهم. وأقدم الحضارات التي بيَّنَت في وضوح سلطة الدين على الأخلاق هي حضارة قدماء المصريين، التي آمنت بخلود الروح، والبعث والحساب والعقاب. وإنك لتجِد في أوراق البردي، والكتابات المُسجَّلة على جُدران المعابد كثيرًا من قواعد السلوك تُعتبر هدايةً إلى الخير، ومِيزانًا للعمل الصالح. لهذا السبب ارتقى العمران عند قدماء المصريين، واستمرَّت حضارتهم أحقابًا طويلة. أما أفلاطون فيُقابِل بين العالَم المحسوس والعالَم المعقول، ولا يجد الخير إلا في العالَم العلوي المعقول، حيث نجد المُثُل تتدرَّج نحو الإله الخيِّر الصانع. وقد أعجبت الأفلاطونية المسيحيين لِما فيها من روحانية تتَّفِق مع روح المسيحية. وتعتمد المسيحية على مبادئ ثلاثة: فكرة الذنب الموروث، والدعوة إلى محبَّة الناس كافة، والاعتقاد في الثواب والعقاب في الآخرة. فالأخلاق إلى عهد المسيحية كانت تسلك طريقَين: الأول محاولة الرُّقي بالإنسان نحو الكمال، والثاني التسليم بأن المعصية موروثة، وأن الخلاص منها بيد الله. وكِلا الطريقين يستند إلى وجود الله، ويعتبِر أنه تعالى الأصل في الأخلاق. ونظر الفلاسفة المُحدثون إلى مشاكل العالم والإنسان بالعقل الحُر الطليق من جميع الآراء السابقة، وقد وجدوا أن وجود الله ضرورة من ضرورات هذا العالم. فديكارت والمدرسة الديكارتية تصِل بين الأخلاق وبين ما بعد الطبيعة، وتجعل الله، وهو الكمال المُطلق، أصل الأخلاق. وهوبز الفيلسوف الإنجليزي ممن يعتبرون الدين وهو سلطة خارجية مصدر التشريع الخلقي، وأن الفعل الخلقي يُعتبر خيرًا لأن الله يريده، وبذلك يتَّفِق مع الإرادة الإلهية. فإذا كنَّا في العصر الحديث لا نزال نُفسح المكان للجانب الإلهي الذي يصدر عنه الخَلْق والخُلُق بل كل شيء، وعلى الرغم مما يسود العالم من حرية رأي، وجرأة فكر، وفلسفة مادية مُلحدة تحاول تفسير كل شيء، فليس من الغريب أن نجد فقهاء المُسلمين، ومن بينهم القابسي، يَردُّون كل شيء إلى الله، ويجعلون الواحد القهار الرحمن الرحيم، أصل الأخلاق، ومصدر الأعمال، وهو القائل في كتابه: وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (الصافات: ٩٦). كانت البيئة دينية؛ التفكير الديني يسُود فيها كل شأن من شئون الحياة. الأخلاق نظرية وعملية. ولم ينصَّ الإسلام على أخلاق نظرية مُنفصلة، يتبعها السلوك العملي، ويستمد قوَّته من تلك النظريات المُقررة. وإنما رسم للناس قواعد العمل الصالح الذي ينبغي أن يسيروا عليه. ومرجع المسلمين في ذلك هو القرآن أولًا، ثم السنة المُكملة للكتاب. والقرآن زاخر بهذه القواعد العملية التي تتناول أغلب أحوال الناس في معاشهم، وفي صِلاتهم بغيرهم من الناس، ومُعاملتهم بعضهم بعضًا. والإسلام دين السلام؛ سلام بين المرء ونفسه، وبين المرء وغيره. وهو أول دين يحمل الخير للإنسانية كافة، لا يقتصر على شعبٍ دون شعب، أو يُؤْثِر أمةً على أمة، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. فهو شريعة الله لنفع العباد: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ. أما الأديان الأخرى فإنها تُنسَب لأصحابها من الأنبياء والرسل والحكماء. ويفسر القابسي الإسلام تفسيرًا يؤكد به العمل المفروض على الناس من الله، على طريقة النظَّار من أهل السُّنَّة، لا على طريقة المُتأخرين، فالإسلام هو: «عمل الجوارح بما افترض عليها؛ لأنه يدل على استسلام من قال: أسلمتُ لله.» ٥-ب. وإذا لم يقترن الإسلام بالإيمان فهو النفاق. فالإسلام هو الإيمان بالله، يُضاف إليه العمل الصالح. هذا التفسير يتلاءم مع مبادئ الأخلاق؛ لأنه يجعل الإنسان مسئولًا عن أعماله، ويؤكد حرية إرادته، وسنرى كيف يوفِّق القابسي بين الإرادتَين: إرادة الله وإرادة الإنسان فيما بعد. أما مبادئ الإسلام فهي ثابتة مُقررة في القرآن. وإذا نظرْنا إلى القرآن نظر الباحث الذي يريد تحليل ما جاء فيه، وجدْنا أنه ينقسِم إلى أربعة أقسام: قسم للعقائد وما يتَّصِل بها، وقسم للتشريع وثالث للأخلاق، ورابع للقصص. وقسم التوحيد يدعو الناس إلى الإيمان بالله الواحد القهار، وذلك بأدلةٍ كثيرة منها ما هو عقلي يدعو إلى التفكير والنظر، ومنها ما هو وجداني يثير العواطف المختلفة، ويبعث الرغبة والرهبة، فيقع المرء تحت تأثير العاطفة ويسهُل عليه الانقياد. ويتصِل بهذا القسم القول في الوحي والآخرة والجنة والنار، وأشباه هذه المسائل التي تُعتبر جزءًا من العقائد، وتندرِج تحت ما وراء الطبيعة. ويتبع هذا القسِم أيضًا العبادات المُختلفة، وأولها الصلاة وهي ذكر الله؛ لأن معرفة الله لا تَتمُّ بالنظر، وإنما تُستكمَل بالعبادة والقُرب ودوام الذكر. وقسم التشريع يبسط القوانين التي ينبغي اتباعها وتطبيقها في المعاملات المختلفة. وبهذا يحلُّ القرآن كثيرًا من المشاكل الدنيوية وهي مشاكل خاصة بعلاقة الإنسان بالإنسان، وبحياته الاجتماعية والسياسية، وصِلته بأُسرته وزوجته وما ينشأ عن ذلك من طلاق وميراث. ويُشرِّع القرآن أيضًا تشريعًا يتَّصِل بتوزيع الثروة، فيحل مشكلة رأس المال والعمل؛ تلك المشكلة العويصة التي برزت في العصر الحاضر بروزًا واضحًا، ونشأت عنها نظرية الشيوعية والاشتراكية. والغرَض من القصص هو ضرب الأمثال للناس للعِبرة والقدوة كما قال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ (الكهف: ٥٤). ومخاطبة الخيال أوقع في النفس وأشدُّ تأثيرًا. وبذلك جمع القرآن بين خطاب العقل والعاطفة والخيال، فملَك على الناس مناحي تفكيرهم، وسلَب أفئدتهم، وكسَب قلوبهم، وأثَّر في نفوسهم. والقسم الخاص بالأخلاق ينظم أفعال المرء مع نفسه، وأفعال المرء مع غيره أي المجتمع. فهي أخلاق شخصية واجتماعية. على أنَّ هناك بعض المذاهب تَعتبِر أن الأخلاق جميعًا اجتماعية، وحتى الشخصية منها مَرجعها إلى المجتمع. وقد نصح الله الإنسان في أخلاقه الشخصية أن يقتصِد في المال كما يقتصد في تناول الطعام، لصلاح جسده وصلاح شأنه. وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ (الإسراء: ٢٩). وقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا (الأعراف: ٣١)، هذه فضيلة الوسَط بين الإفراط والتفريط، التي تتلاءم مع طبيعة الحياة الواقعية. وفي أخلاق الأُسرة كثير من الآيات. فالقرآن يحث على الزواج، ويُنفِّر من الزنا، ويُنظم العلاقة بين الزوج وزوجته على أساسٍ خُلقي من المودة والرحمة، كما يأمر الأولاد بالإحسان إلى الوالدين، والآباء أن ينظُروا في خير أبنائهم. وجماع الأخلاق الاجتماعية، أو الأخلاق الفاضلة على وجه العموم يلتقي في التفسير الذي بسطَه القابسي للاستقامة والصلاح بعد حديث الإسلام والإحسان. أما الاستقامة فهي: «القيام بما أمر الله به» ١١-أ. أما الصلاح: «فما تقدَّم وصفه (أي الإيمان والإسلام والإحسان والاستقامة) من وفَّى بجميعه وفاءً حسنًا، فقد استكمل صفة الصالحين.» ١٣-ب. وقد أمر الله المسلمين بالإيمان به، وأداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، كما جاء في حديث الإيمان والإسلام. ومن أراد أن يُحيط بجميع أوامر الله، فعليه أن يرجع إلى القرآن. وخلاصة هذه الأوامر تجتمع في أول سورة البقرة، ثانية سور القرآن بعد فاتحة الكتاب. الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. اعتقاد بالله، والآخرة، والوحي، ثم الصلاة والزكاة. والإنفاق ممَّا ملكَت اليد هو الصدقة بأوسع معانيها، أي العمل الصالح للناس جميعًا. ذلك أن الله لم يهب للإنسان المال وحدَه، بل وهب له كذلك عافيته وملَكاته. وقد جمع الله بين الصلاة والزكاة في غير آية من الكتاب، مما يدل على الصلة الوثيقة بينهما. فالصلاة تُهيئ الإنسان لخدمة الإنسانية. والاعتقاد في الله هو النواة التي يدور حولها الإسلام: ومن هذه النواة يتصِل الإنسان بالله عن طريق الصلاة. ولا خير في الصلاة إذا لم تؤدِّ إلى فعل الخير، كما قال تعالى في سورة الماعون: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (الماعون: ٤–٧). ورد في القرآن في مناسباتٍ شتَّى الحث على الإنفاق، والصدقة والزكاة؛ كما يؤكد كثيرًا من أفعال الخير كعِتق العبيد، وإطعام المسكين، والعناية باليتيم. وفي سورة البلد: فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (البلد: ١٣–١٦). والصدقة الظاهرة أو الخفية لها جزاؤها. في سورة البقرة: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (البقرة: ٢٧١). في بعض آيات القرآن دعوة إلى الابتعاد عن الدنيا وإيثار الآخرة: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (الأعلى: ١٦-١٧) وفي سورة النازعات: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى. (النازعات: ٣٧–٤١). والحقيقة أن دائرة الإسلام لا تشمل الآخرة وحدَها، بل الدنيا أيضًا، كما قال تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (القصص: ٧٧). والروح الصحيح للإسلام لا يتطلَّب الشدة، ولا يفرض القسوة على النفس. فالاستقامة في الدين كما يقول القابسي: «هو مداومة المُقام فيه، لا يُنَكِّب عنه يمينًا ولا شمالًا، ولا يلتزم منه ما لا يُطيقه.» ثم ذكر من أحاديث الرسول. «اكفلوا من الأعمال ما تطيقون.» وفي حديث آخر: «إن الدين يُسر.» من هذا نرى أن القرآن أكبر مرجع للمُسلمين، وأول أصلٍ من أصول الدين؛ والجانب الخلقي في القرآن عظيم. لهذا كانت معرفة الدين عند القابسي لا تتمُّ إلا بتعلُّم القرآن. ولعلَّ القابسي لم يُلزِم الأمة ذكورًا وإناثًا بالتعليم، إلا ليتعلَّموا القرآن. وهو ينص على ذلك في صراحة إذ يقول: «إن حُكم الولد في الدين حُكم والده ما دام طفلًا صغيرًا: أفيدع ابنه الصغير لا يُعلمه الدين؟ وتعليمه القرآن يؤكد له معرفة الدين.» ٢٨-أ. تبيَّن لنا أن الأصل في الأخلاق الإسلامية على مذهب أهل السُّنَّة يرجع إلى سلطة خارجية قاهرة هي سلطة الدين. وأساس هذا الدين القرآن الواجب تعليمُه وتعلُّمه. والصِّلة بين الدين الإسلامي والأخلاق عظيمة تبلُغ حدَّ التوحيد بينهما. فالدين وسيلة لتكوين الخلق، والأخلاق مُستمَدة من الدين. ولا غِنى لصاحب الأخلاق عن عقيدة تسمو على مطالب هذه الحياة الدنيا. إلى هذه العقيدة تتطلع النفوس وتذهب نحو الكمال. ولعل الذي يجعل الإنسان يتطلَّع في أُفق هذا العالم إلى شيءٍ بعيد يتلمَّسه ويرقبه ويستمدُّ منه العون، ويركن إليه في ساعات اليأس والمتاعب والنازِلات هو امتياز الإنسان بالشعور. والشعور النفساني هو المرآة التي تنعكِس عليها أعمال المرء، فيرى فيها تقدير هذه الأعمال ويتسنَّى له أن يحكُم عليها بالخير أو الشر. هذا الشعور النفساني هو الذي يُعبرون عنه في علم الأخلاق بالضمير؛ ذلك الذي يقف من المرء موقف الرقيب، يحثُّه على أداء الصالح، ويَنهاه عن فعل الضار؛ ويُعاوده بعد أداء الأعمال، فيؤديه مُستنكرًا ما أساء، ويَجزيه براحة الضمير أحسن الجزاء. ولا أخلاق بلا ضمير، سواء اعتبرنا أصل الأخلاق سُلطة خارجية دينية أو اجتماعية أو قانونية، أو اعتبرنا أصل الأخلاق هو هذه السلطة النفسية الصادرة عن النزعات الذاتية والأفكار الباطنة. فالشعور بالواجب الخلقي هو الذي يدفعنا إلى الأعمال الصالحة. والضمير هو الحد الفاصل بين الرغبات المطلوبة، والواجبات المفروضة في الطبائع الإنسانية يُدركها صاحبها بالبديهة. وبعضهم يَرجِع بالضمير إلى الكسب والخبرة، وبذلك ينشأ الضمير فينا بالتعليم والتطوُّر الاجتماعي. ومِن الواضح أن القابسي لا يقول بفطرة الضمير؛ لأنه أحال الأعمال الخلقية إلى سلطة خارجية هي السلطة الدينية. والضمير على رأيه مُكتسَب مُستمَد من الدين. والقابسي من المُوفِّقين يؤلفون بين شتَّى المذاهب، ويُلائمون بينها. فهو يُثبت أن الله يعلم ما في السرائر، ويعرف خبايا النفوس، وهو الذي يُراقب العباد، وفي الوقت نفسه يُثبِت أن الإنسان يعرف ما يعمل، وهو الذي يراقب نفسه؛ ثم يوفق بين مراقبة الله للأعمال وبين مراقبة صاحبها لها. والسبيل إلى ذلك هو إحلال الضمير الديني محلَّ الضمير الخلقي، بأن يَستمِدَّ الضمير الخلقي وجوده من الدين، وبذلك يتوحَّد الضميران. ويعتمد القابسي في هذا التأليف على حديث الرسول؛ سُئل النبي: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.» وقد ضرب القابسي في تفسير هذا الحديث المثَل بالسيد والعبد الذي يُجهد نفسه في حضرة سيده ليُرضيه بحُسن طاعته، فإذا خلا العبد من مُعاينة سيده له، فإنه قد يُقصِّر. وقياس حال الإنسان مع الله على حال العبد مع سيِّدِه قياس مع الفارق العظيم؛ لأن دائرة المُشاهدة عند السيد محدودة ويَخفى عنه الكثير، وبذلك يتسنَّى للعبد أن يستغفله. أما العباد فإنما يستغفلون أنفسهم إذا أرادوا الاستخفاء من الله. فالله يعلم كلَّ كبيرة وصغيرة، ولا يخفى عليه شيء. والقابسي يُمثل مذهب أهل السُّنَّة، وهو أن الله يعلم الكليَّات والجزئيات، لهذا ساق آياتٍ كثيرة من الكِتاب لتأكيد هذه المسألة، نذكر منها: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (يونس: ٦١). وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ (البقرة: ٢٣٥). وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ (ق: ١٦). وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الحديد: ٤). والأصل أن الضمير هو الذي يَطَّلِع على خافية الأنفس؛ لأن الإنسان كساكِن الدار لا يعلم ما يجري فيها على وجه التحقيق إلا صاحبها. والقابسي يُسلِّم للضمير بهذه القوة وهذه الوظيفة: قوة الحفز على العمل الصالح، والنهي عن ارتكاب السيئات، ووظيفة الاطلاع والرقابة على الأعمال. ولكنه في الوقت نفسه يؤمِن بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، وهو الذي يعلم السرَّ والجهر، فهو رقيب على الرقيب من نفس الإنسان، بل هو ضمير لضمير الإنسان والإنسانية. ولا خير في الضمير إن لم يكن حيًّا يقِظًا يؤدي وظيفته على وجهها الصحيح من الرقابة الصادقة والاطلاع الدقيق. فكثيرًا ما يتبلَّد الضمير مع الإلف والاعتياد، فيقع في سُبات لا يقوى معه على الشعور بالحُسن والقبيح. وإن شعر فإنه لا يقوى على شحذ الهمَّة إلى أداء الفضائل، أو حفز النخوة إلى الابتعاد عن الرذائل. لذلك قالوا عن صاحب الضمير المَيِّت: إنه شخص بلا ضمير. ولا أخلاق مع انعدام الضمير، والشرط أن يكون الضمير يقظًا مع الأخلاق. والرأي عند القابسي في إحياء الضمير يكون بوسيلتَين تتفرَّعان عن أصلٍ واحد. فالأصل هو الإيمان الخالص بالله القوي العليم الغفور، والسبيل الأول: «أن تعبد الله كأنك تراه، وأن هذا يلتزِمه العبد لله في أحوالٍ مُتقلِّبه ومَثواه … لأنه يُجدِّد للمؤمن إيمانه كلَّما ذكره.» ١٣-ب. والسبيل الثاني الاعتصام بالله؛ لأن الانزلاق الخُلقي مَرجِعه اتِّباع الشهوات، ولا عاصم للإنسان من نفسه الأمَّارة بالسوء إلا الله … «فإن همَّ به الشيطان أن يُلبِّس عليه شيئًا، فاستغاث ربه، واستعاذ به منه، فكفاه عدوه، وأعانه عليه … وإنما المعصوم مَن عصَمَه الله جل وعز.» ١٤-أ. الإيمان بالله، والتزام عبادته، والاعتصام به تعالى، هي الوسائل المؤدية إلى حياة الضمير، فتستقيم الأخلاق. وهذه أمور لا يعرفها الإنسان ويعمل بها بالبديهة والفطرة، وإنما تُكتسَب بالتعلم. فالمُعلم مُكلَّف بتلقين الصبيان الإيمان الصحيح، والعبادات المُختلفة والدعاء. وتمام يقظة الضمير، ومراقبة المرء لنفسه، ترفعه إلى مرتبة الصالحين، تلك المرتبة التي لخَّصَها القابسي فقال: «إن كمال ذلك كلِّه في قول الله عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (البينة: ٥)» ١٥-أ. ذلك أن العبادة ليست عبثًا في الدين، فالصلاة وهي الركن الركين في الإسلام عبادةٌ الغرَض منها معرفة الله، وذِكره في كل وقت، ودوام الذِّكر هو السبيل إلى يقظة الضمير. لهذا السبب نصَّ الفقهاء على وجوب انصراف المرء في الصلاة إلى ذكر الله مع عدم الاشتغال بأي أمرٍ من أمور الدنيا. والصلاة المفروضة على المسلمين يؤدُّونها في خمسة أوقات مُتفرقة من كل يومٍ لدوام الذِّكر. وقد طُلِب إلى المسلمين أن يأمروا أولادهم بتأديتِها وهم بنو سبعٍ ليسكنوا إليها ويألفوها ويتطبَّعوا بها، حتى إذا تأصَّلَت فيهم هذه العبادة، انطبعت شخصيتهم بها، فأصبح المِحور الذي تدور حوله الشخصية، ومنه تستمدُّ حياتها وكيانها، هو المِحور الديني. قد تزيد هذه الشخصية الدينية قوةً مع قوة الشعور بوجود الله ومعرفته والإقرار برقابته، بشرط أداء العبادة أداءً صحيحًا. وقد تضعف هذه الشخصية إذا كان صاحبها يُردِّد العبادات ترديدًا آليًّا ينعدِم معه الشعور بوجود الله، فتنعدِم الرقابة الدينية، ولكنها لا تُمحى تمامًا. هل الباعث على الأعمال الخُلقية هو العقل أم الوجدان؟ قبل أن نبحث حقيقة هذه البواعث الخلقية عند القابسي، لا بدَّ أن نرى رأيَه في حُرية الإرادة. ذلك أن الباعث إن لم ينطلِق عن اختيارٍ فلا سبيل إلى الحُكم الأخلاقي، ولا مَوضع للمسئولية أو التكليف. ومشكلة حُرية الإرادة من المشاكل الدقيقة التي جرى البحث فيها في شتَّى العصور. ولم يصِل المُسلمون حتى الآن إلى حلٍّ سليم يتَّبِعونه فيها، مع ما لهذه المشكلة من آثارٍ اجتماعية بعيدة الشأن في حياة المسلمين. والأصل في هذه المشكلة يرجِع إلى التوفيق بين حرية الإنسان والإرادة الإلهية؛ ولا بدَّ من حلِّ هذه المشكلة الدقيقة الشائكة ليستقيم أمر الأخلاق. فقد يستسلِم الناس إلى أمر الله استسلامًا أعمى فيركَنون إلى التواكُل، ويلجئون إلى التكاسُل. ويذهب بعض الناس إلى حدِّ ارتكاب المعاصي قائلين إن كل شيءٍ بأمر الله، أو هذا ما كتبه الله على العباد. وينتقِد أهل السُّنَّة الذين يُثبتون الحرية والإرادة للإنسان، بأن في خلق العباد لأفعال أنفسهم سَلبًا للقُدرة الإلهية. وفي ذلك يقول صاحب الإنصاف في تعليقه على تفسير الكشاف: «ويجعلون أنفسهم الخسيسة شريكةَ الله في مخلوقاته، فيزعُمون أنهم يخلقون لأنفسهم ما شاءوا من الأفعال على خلاف مَشيئة ربهم، مُحادَّة ومُعاندة لله في مُلكه، ثم يتستَّرون بعد ذلك بتسمية أنفسهم: أهل العدل والتوحيد والله أعلم بمن اتقى. ولَجبرٌ خير من إشراك؛ إن كان أهل السُّنَّة مُجبِرة فأنا أول المُجبِرين.» ولم يذكر القابسي حلًّا صريحًا لهذه المشكلة؛ لأن كتابه لم يتعرَّض لبحث المسائل الكلامية. وأهل السُّنَّة على وجه العموم لا يخوضون في بحث هذه المسائل الشائكة التي تدعو في نظرِهم إلى الانزلاق نحو الكفر، وإنما يقبلون ما فيها من تعارُض بإيمان العقيدة، لا بيقين العقل، كما كان يفعل السلَف. وقد أراد الأشاعرة أن يحلُّوا هذه المشكلة فما زادوها إلا تعقيدًا؛ ورأيهم في الكسْب دقيق، ولذلك يُضرَب به المثل، فيُقال: هذا أدقُّ مِن كسْب الأشعري. أما أهل السُّنَّة فقد كفَوا أنفسهم مَئونة هذا التحايُل على التوفيق، وقالوا إن الناس مُطالبون بالأمر لا بالقدَر. فالقابسي يُثبت القُدرة الإلهية، كما يُثبت الإرادة الإنسانية، ويُضيف إلى الإنسان الاختيار وبذلك يكون مسئولًا عن أعماله، مُحاسبًا عن أفعاله. والباعث إلى تحريك الإرادة نحوَ جهةٍ مُعينة باعث ديني. فإن قلتَ كيف يكون الباعث دينيًّا، والبواعِث تصدُر من باطن الإنسان وهي التي تُحركه؟ قُلنا: إن هذه المسألة ينطبق عليها ما ذكرْنا في الضمير. فكما تَوحَّد الضميران الخلقي والديني، كذلك تتوحَّد البواعث الإنسانية والدينية؛ ونقصد بالبواعث تلك الأوامر والنواهي التي وردت في القرآن، وطُلِب إلى الناس فِعلُها. فالزواج باعث إنساني لا شكَّ في ذلك؛ لأنه يرجع إلى الغريزة الجنسية. وهو باعث ديني أيضًا لأنَّ الله أمَرَ بالزواج. والباعث إلى الامتناع عن الرِّبا يكون باعثًا اجتماعيًّا ودينيًّا، فهو اجتماعي لما فيه من أضرار تَحِلُّ بالمجتمع، وهو دِيني لأن الله نهى عنه. والقابسي يرى أن البواعث يجب أن تكون دينية، أي أن يتبع المرء ما جاء عن الله والرسول. فإذا كان الأمر كذلك، فالتعليم واجب لأنه يُبصِّر المسلمين بأسباب الدوافع المُحركة للإرادة على اختيار الأفعال. ولا بدَّ أن ينتهي الأمر بالمرء إذا استغرق في الحياة الدينية، أن يتصوَّر مَنازِعه صادرة عن الدين، وأن يُوزِّع أعماله بين الحلال والحرام. فإذا بدأ الصبي الصغير في حفظ القرآن ومعرفة تعاليم الدين، اختلطت هذه التعاليم بشخصيته كلَّما نما وبلغ مَبلغ الرجولة، فتتَّحِد البواعث الدينية في نفسه مع الزمن مع البواعث الشخصية. فمرجع البواعث إلى الدين، وإلى القرآن. والقرآن كما ذكرْنا يُخاطب العقل والوجدان؛ لأن الطبيعة الإنسانية فيها التفكير والتدبير، وفيها المَحبة والكراهية؛ ويعمل الإنسان بدافع من الرأي والنظر كما يتحرَّك بقوة الخوف والغضب. ومذهب العقليِّين في الأخلاق — والفلسفة القديمة أغلبها على هذا المذهب — تُهمِل جانب الوجدان. وأصحاب هذه المذاهب يُغلِّبون الحِكمة والعقل على أهواء النفس، ويرَون في العقل أساس اختيار الفضائل. وسقراط وأفلاطون وأرسطو والرواقيُّون، وديكارت وليبنتز وكانط، وغيرهم كثيرون على هذا المذهب العقلي. وعند المسيحيين أن الباعث الأساسي إلى أفعال الخير هو الشعور بالمحبة. ويميل أغلب المُحدثين — على الأخص علماء النفس — إلى اعتبار الوجدان أساس الإرادة، ويعتبرون العاطفة أساس الاختيار الإرادي، وليس العقل. وبعض المُفسِّرين يُفسِّرون الآية الآتية من سورة الإنسان: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (الإنسان: ٨)، أي محبة الله. ولكن أهل السُّنَّة يأخذون بالجانبين جميعًا، بالبواعث العقلية والوجدانية. مثال ذلك ما جاء عن تعليم اليتيم الذي ليس له مال، فإنَّ المُعلم قد يُعلِّمه احتسابًا لله عز وجل، فهذا باعث وجداني يرجع إلى العاطفة الدينية. وجاء في تعليم الأُنثى أنها: «تُعَلَّم ما يُرجى لها صلاحُه، ويُؤمَن عليها من فتنته.» فالباعث إلى تعليمها عقلي؛ لأن القابسي ينظُر في مصلحتها، ولو أنه يقصد بالمصلحة المصلحةَ الدينية بطبيعة الحال. ولا نُريد استقصاء جميع الأمثلة التعليمية الواردة في كتاب القابسي، فكلُّها على هذا النمَط من الجمع في البواعث بين العقل والوجدان. يختلف المُفكرون اختلافًا كبيرًا في تحديد الغاية من الأفعال الخلقية. وعندنا أن مَرجع الخلاف هو إلى تبايُن الطبائع البشرية في المزاج والتفكير والإدراك والسلوك والشخصية. جعل القورينائيون في الفلسفة القديمة اللذَّة الحِسِّية غاية الأعمال الخلقية. وأنصار هذا المذهب قليلون؛ لأن الأخذ باللذَّات الحسية يؤدي إلى آلام كثيرة، كما يتعارَض مع تقدُّم الإنسانية، إلى جانب وجود لذَّات أشرف من اللذَّات الحسية. ومذهب السعادة أدنى إلى القبول؛ وسقراط وأفلاطون وأرسطو على هذا المذهب. وفي السعادة راحة النفس والضمير، وسرور الفرد وغبطة المُجتمع. وإذا كانت السعادة أشرف من اللذَّة الحسِّية لأنها فضيلة الحكمة واختيار الوسط العدل بين الإفراط والتفريط، ففي الإمكان التوفيق بين الارتياح الذي يشعُر به الفرد وبين السعادة العامة. بينما يصعُب التوفيق بين اللذَّة الشخصية وبين اللذة العامة التي يحسُّ بها الناس جميعًا؛ لأن تحقيق اللذَّة عند الغير يكون على حساب الفرد، بينما الاشتراك في إسعاد الآخرين لا يتنافى مع سعادة المجتمع. وهناك مذاهب أُخرى تنشُد غايات خارجية موضوعية، منها الكمال؛ فالذي يفعل الخير إنما يُريد أن يصِل إلى الكمال. والذين يقولون بالتطوُّر يرَون أن تاريخ الإنسانية صراع دائم نحو التقدُّم والرُّقي، وأن وجود هذه الغاية الأخلاقية، هو الذي يجتذِب الإنسان مع الخير إلى التقدُّم دومًا. ويعترِضون على المذهبَين السابقَين بأن الصفات الخلقية هي نفسها الكمال أو التطور، وهاتان الغايتان خاضعتان لغايةٍ أخرى. قالوا: إن الطبيعة هي الغاية الخلقية. فالحياة الموافقة للطبيعة هي الحياة الخيِّرة التي تجلب اللذَّة والسعادة، وروسُّو في المذاهب الحديثة عنوان على هذه الفلسفة الطبيعية. وهناك مذهب المنفعة الذي راج في الفلسفة الإنجليزية رواجًا كبيرًا. والمنفعة العامة إذا كانت رائد الأعمال الخلقية، والغاية منها، حقَّقت الخير لأكبر عددٍ من الناس. وقد تجنَّب بعض الفلاسفة الاعتراضات على المذاهب السابقة فقالوا بأن الخير واجب لذاته، يفعله المرء لأنه واجب. فالواجب الخُلقي هو الغاية، لا الكمال أو التطوُّر أو الطبيعة أو المنفعة. وكانط من أنصار مذهب الواجب في الأخلاق. ومذهب أهل السُّنَّة لا يرى رأيَ هؤلاء جميعًا؛ لأنه خرج بالغايات الخلقية من ميدان الدُّنيا إلى ميدان الآخرة. وبذلك يلتقي الناس جميعًا في غايةٍ واحدة، تتَّسِع لهم جميعًا، ولا يقع عليها خلاف، هي التمتُّع بنعيم الجنة في الآخرة. وقد وصف الله الجنة في أكثر من آيةٍ من القرآن؛ ليكون الناس على بصَرٍ بما يلقَون من جزاء. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (الغاشية: ٨–١٤). إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (النبأ: ٣١–٣٦). إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (المرسلات: ٤١–٤٤). من هذا الوصف للجنة يتبيَّن لنا أن الله وعَدَ المُتقين في الدار الآخرة متاعًا من اللذَّة الحسِّية والسعادة، فجمع بينهما. وإذا كانت الجنة غاية خارجية، ففيها تحقيق للغايات النفسية. وفي الوقت نفسه أوعد الله المُفسدين الذين يؤثِرون أنفسهم، بنار الجحيم، وفي ذلك يقول: إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (المدثر: ٣٩– ٤٤). والمنفعة من الغايات الأخلاقية الدنيوية، التي تخضع لغايةٍ أسمى هي الفوز بالدار الآخرة وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (البقرة: ١١). والمُسلم مُطالَب بالمعيشة وفق الطبيعة، والتمتُّع بالطعام والشراب والزوج. كلُّ ما في الأمر أن تكون هذه المعيشة الطبيعية مُلائمة لمَطالب الفرد ومطالب المُجتمع، لا إسراف فيها، كما تُحقِّق صلاحه وصلاح المجتمع وخيره. وهناك مصالح رفعها الله إلى مرتبة الواجبات، وفرضها على الناس، كالصلاة والزكاة. فالذي يؤدي الزكاة إنما يؤديها لأنها واجب ديني، وهي في الوقت نفسه واجب خُلقي. وبذلك تتوحَّد الواجبات الدينية والخلقية، كما رأينا في التوحيد بين الضمير الديني والخُلقي. والواجب الخُلقي في الإسلام يختلف عن الواجب عند كانط؛ لأن الواجبات الإسلامية ليست غاياتٍ في أنفسها، تُطلَب لذاتها، ولكن من ورائها الجنة تنتظِر مَنْ أحسن أداءها. أما الواجب الكانطي فهو غاية لذاته. وبذلك تجتمع الغايات المُختلفة التي نظَر إليها المُفكرون تحت رايةٍ واحدة، وغاية أسمى وأعلى هي الغاية الدينية. ولا يمنع السعي إلى الآخرة من التعلُّق بأهداب الدنيا، إذ لا تَعارُض بينهما. والقابسي ينشُد من الأخلاق الغاية الدينية، والسعادة في الدار الآخرة، وهو في الوقت نفسه لا يرى بأسًا في طلَب غاياتٍ دينوية؛ لأن الدين أقرَّها. من الغايات الدنيوية التي يُحققها الوالد من تعليم ابنه، أن يكون به سعيدًا، أو كما يقول القابسي: «فمن رغب إلى ربِّه أن يجعل له من ذُريته قُرَّة عين، لم يبخَل على ولدِه بما يُنفق عليه في تعليمه القرآن.» ٢٨-أ. أما الغاية الأصلية فهي رِضا الله: «فلعلَّ الوالد إذا أنفق ماله عليه في تعليمه القرآن، أن يكون من السابقين بالخيرات بإذن الله.» ٢٥-أ. والذي يُعلِّم ولدَه فيُحسِن تعليمه، ويؤدِّبه فيُحسِن تأديبه، فقد عمل في ولده عملًا حسنًا، يُرجى له من تضعيف الأجر فيه. كما قال الله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً (البقرة: ٢٤٥) ٢٥-ب. وصِفَة الصالحين عند القابسي هي حُسن العبادة، وأداء الفرائض واجتناب المَحارم، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (النساء: ١٢٤) ١٣-أ. ويتعلَّق بالغاية مذهبٌ آخر، هو القول بأن الخير هل يلحَق الفرد أو الجماعة؟ والإسلام على مذهب الجمعيين؛ لأنه ينشُد خير المجتمع، بل الإنسانية كافة. وقد رأينا في سورة القيامة كيف دخل المُجرم النار لأنه لا يُطعِم المسكين. ويؤثر القابسي خير الجماعة على خير الفرد، ويحضُّ باستمرارٍ على المصلحة العامة. مثال ذلك ما جاء عن المُعلم الذي يُعلم الصبيَّ الفقير احتسابًا: «فإذا آثره على نفسه، استأهل — إن شاء الله — حظًّا وافرًا من أجور المؤثِرين على أنفسهم.» تصِل أعمال المرء بعد زمنٍ إلى درجةٍ من الثبات والآلية، فتكون هذه الأعمال عنوانًا عليه، وتُنسَب إلى شخصه، ويُعبَّر عنها بالشخصية. وجزء من هذه الشخصية يكون خُلقيًّا، كالأمانة والصدق إذا عُرِفَت عن شخصٍ مُعيَّن. ومرجع الصفات الخلقية في تكوين الشخصية إلى المُجتمع؛ لأن الإنسان على أي الحالات كائن اجتماعي قبل كلِّ شيء. والمدرسة جزءٌ من المجتمع، بل هي عنصر مُهم، وعامل من أكبر العوامل في التأثير الاجتماعي، خصوصًا في المراحل الأولى من تربية الصبيان. وأول تأثير يتلقَّاه الطفل في حياته هو تأثير الأشخاص الذين يُحيطونه، وهم والده وأهله في المنزل؛ فإذا شبَّ قليلًا واشتدَّ ساعده، فإنه يختلط بغيره من الناس في ذلك المُحيط الضيق الذي يعيش فيه قريبًا من المنزل. ومنذ سِنِّ الخامسة أو السادسة أو السابعة، ينتقِل الطفل إلى بيئةٍ جديدة هي الكُتَّاب، حيث يبقى فيه إلى أن يُتمَّ حفظ القرآن بأكمله، أو يحفظ جزءًا منه، إلى جانب تعلُّمه القراءة والكتابة، وبعض النحو والعربية، وشيئًا من الحساب، وما إلى ذلك من الأمور التي كانوا يعتبرونها وسائل للإحاطة بالدين. في هذه البيئة يتَّصِل الطفل بغيره من الصبيان ممَّن هم في مثل سِنِّه، أو ممن يَكبُرونه قليلًا، ويتَّصِل أيضًا بالمُعلم الذي يقوم بتعليم الصبيان وتأديبهم. وأكبر الظن أن الصبي في مثل هذه السِّنِّ الصغيرة لا يزِن الأمور، ولا يُقدِّر مرامي الأعمال، وإنما يتصرَّف ويسلك تحت وحيٍ من المُحاكاة الفطرية في النفس. ومُحاكاة الحركات والأعمال أسبق من مُحاكاة المعاني والآراء. والشخصية الجديدة التي يتأثَّر بها ويُحاكيها لأنها أعظم الشخصيات بالنسبة للصبيِّ وبالنسبة لجميع الصبيان، هي شخصية المُعلم. فهم لا يجدون أمامهم إلا هو، يتعهَّدهم منذ الصباح الباكر سحابة النهار، وهو الذي يُعلمهم أو يُلقِّنهم هذه المبادئ المُختلفة، وهو الذي يُرشدهم إذا أخطئوا سواء السبيل. وهو الذي يَؤمُّهم في الصلاة إذا حضر وقتُها؛ وله عليهم سيطرة شديدة تسمَح له أن يضربهم في بعض الأحيان؛ فهو منهم بمنزلة القائد. والصبيان في هذه السِّنِّ الصغيرة اللَّيِّنة يكونون كالعجينة التي يسهُل تشكيلها. لهذا نجد الصبيان يُحاكون المُعلِّم في كل شيء. ومن هنا تنطبِع شخصية الصبيان بطابع المُعلم إلى جانب انطباعها بشخصية زملائهم في الكُتَّاب، بتأثير القرآن الذي يتعلَّمونه. على أن تصرُّف المُعلم لا يكون إلا في حدود هذه المعاني القرآنية. وقد يشذُّ بعض المُعلمين عن تعاليم القرآن الصحيحة، ولكنهم قِلة لا يُعمَل لها حساب. فالمرجع في سلوك الصبي يكون لتأثير المُعلم، وتأثير الصبيان الذين يختلط بهم، وتأثير آبائه في المنزل، والمَرجع لهؤلاء جميعًا هو القرآن في تلك البيئة الإسلامية. ومن صفات القرآن أنه كلام الله، لا مُبدِّل لكلماته. وهو صريح في كثيرٍ من المسائل الأساسية في سلوك الإنسان صراحةً لا تحتمِل التأويل. أما الخلاف بين الفِرَق الإسلامية، فهو خلاف في تأويل بعض النظريات العميقة في الإسلام. ولا يستطيع الصبيان لِقُصورِ عقولهم أن يفهموا مدى هذا الخلاف، أو ينزلوا إلى معتركه. على أن أهل السُّنَّة يأخذون الأمور على ظاهرها، ويتعمَّقون في التأويل إلى الدرجة التي تُبعِدهم عن الروح البسيط الموجود في القرآن. لذلك كان أهل السُّنَّة قريبين من قلوب العامة وأفهامهم، وقريبين من قلوب الصبيان وعقولهم أيضًا. فالسيرة الخلقية التي ينتهِجها الصبي، والشخصية التي يتركَّب منها في الفترة التي يقضيها في الكُتَّاب، ترجع في نهاية الأمر إلى شيءٍ واحدٍ هو القرآن، بالتفسير الذي يُقدِّمه المُعلم على مذهب أهل السُّنَّة. وفي القرآن، إلى جانب النصِّ على أخلاقٍ عملية مُعينة، أُسُس خلقية تُعَدُّ عمادًا للأخلاق الحسنة أو الفضيلة. والأخلاق في خُلاصتها مجموعة من الفضائل ترمي إلى الخير. والفضيلة والرذيلة، أو الخير والشر، طرفان مُتناقِضان لا يجتمعان؛ لأن الفضيلة هي الكمال، والرذيلة هي النقص. والإنسان يُحِسُّ نقصَه، وهو حين يرتكب الرذائل المختلفة إنما يُثبِت على نفسه هذا النقص. ولكن الإنسان يحاول التخلُّص من النقص، ويتطلَّع نحو الكمال. هذا التطلُّع هو الرقي بنفسه. والحياة كلها ترمي إلى الرُّقي والكمال، وقد يصِل الإنسان إلى شيءٍ من هذا، ولكنه لا يبلُغ النهاية ولا يصِل إلى الذروة، لأن الكمال لله وحده؛ ولذَّة الإنسان في هذا السعي، وفي هذا الرُّقي لتحقيق المُثُل العُليا. ولا يَتيسَّر الوصول إلى الفضيلة إلا بأمرَين: التعليم والقدوة. وسيرة الرسول هي قدوة المُسلمين كما قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (الحشر: ٧)، وقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ (الأحزاب: ٢١). لذلك كان تعليم سيرة الرسول ذا فائدة خُلقية عظيمة؛ لأنه يضرِب الأمثال للصبيان في الأخلاق الفاضلة. وكذلك تاريخ العرَب وهو المعروف بأيام العرَب وأخبارها، والذي نصَّ عليه القابسي وغير القابسي من المُربِّين مع المواد التي يتعلَّمُها الصبيان، إنما الغرَض منه سَوق العِبَر الفاضلة، والعظات الخلقية التي يقتدي بها الصبيان. وإذا كانت هذه السيرة بعيدةً عن أنظار الصبيان، لا يتم التأثر بها إلا بمقدار، فالمُعلم ينبغي أن يكون هو نفسه مثلًا حيًّا للسيرة الفاضلة، ليكون عنوانًا على الفضيلة. لهذا أوجب القابسي أن تكون صفات المُعلم حميدةً ليتأثَّر بها الصبيان، وتتمَّ بها الفائدة في التربية الخلقية. وهذا جانب من الطريقة السقراطية في الأخلاق؛ لأنه هو نفسه كان مثلًا حيًّا للفضيلة. والأمر الثاني المُفيد في كسب الفضائل هو معرفتها أو العِلم بها. فالإنسان يُحب أن يخضع لِما يعقل، أو لِما له سبب، فهو لا يذهب مذهبًا خُلقيًّا إلا بعد الإيمان بأنه مشروع. والإنسان يكون واثقًا من نفسه إذا سار على هُدًى من المعقولات، لا بدافعٍ من النزوات. لذلك نجد المُجرم يُبرِّر جريمته، ويُقنع نفسه بأن ما يعمله مشروع. لذلك كانت الأخلاق تحمِل في طيَّاتها جراثيم التعليم، سواء أكان تعليمها أو العِلم بها صادرًا من الشخص إلى نفسه، أم من شخصٍ آخر إليه؛ والبيئة التي تُريد أن تنشُر الفضيلة، لا بدَّ لها من تعليمها وبيان العِلَّة فيها. وقد أشار القابسي إلى هذا التعليم الواجب للفضيلة قبل الأمر بها، وقبل إنزال العِقاب على مُخالِفيها. قبل أن يلجأ المُعلِّم إلى الضرب، ينبغي أن يُنبه الصبي مرةً بعد مرةٍ إلى خطته. وقال في موضع آخر: «ويأخُذ عليهم ألا يؤذي بعضُهم بعضًا.» وحين تكلَّم عن التبايُع الذي يحصل بين الصبيان أوجب على المُعلم: «أن يُشدِّد عليهم في الأخذ ألا يعودوا إلى التبايُع فيما بينهم، ويُعرِّفهم وجه الرِّبا فيما صنعوا على ذلك، يُخبره بعَيبِه ويُقبِّحه عنده …» فنحن نرى القابسي يطلُب العِلم بالفضائل أولًا، أو المعرفة بها، على أن يكون هذا العِلم مُستمدًّا من القرآن والسُّنة بطبيعة الحال. والقرآن غني بالفضائل وأسبابها، زاخر بالتوجيهات الخُلقية، والدوافع إلى الخير. وتلك هي الطريقة السُّقراطية في جانبها الثاني، وهو العِلم بالفضيلة، بل إن سقراط وحَّد بين العِلم والفضيلة، فجعل العِلم شرطًا للفضيلة لا تتحقَّق إلا به، وجعل الذي يعمل الفضيلة عالمًا بها. وسبيل الوصول إلى الفضيلة عند سقراط هو الاستقراء والنظر إلى النفس، وفي ذلك يقول الحِكمة المأثورة: «اعرف نفسك بنفسك.» وفي القرآن إشارة إلى ذلك حيث قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (الذاريات: ٢٠-٢١) كما حث الله العباد على وجوب النظر والاستدلال. ولكن الصبيَّ الصغير لا يستطيع أن ينعطف على نفسه ليستخرج منها هذه المعاني الخُلقية بنفسه. لهذا اكتفى القابسي بما يفعله المُعلِّم من توجيه نظره وتفهيمه ما يجب عليه. هذا التفهيم مُستمَد من القرآن والسنة. وقد أشار القابسي إلى ذلك عندما أراد مُعالجة الولد العاق لوالدَيه فقال: «فاقرأ على ولدِه القرآن، وفهِّمْه ما عليه لوالده في لِينٍ ورفق لعلَّه يتذكَّر أو يخشى.» بذلك يكون الدين نفسه هو المحور الذي يدور عليه التعليم، والذي تدور حوله التربية الخُلقية. والنظريات الحديثة في التعليم والتربية تجعل الطفل نفسه هو المِحور الذي يدور عليه التعليم. هذا الانقلاب في وجهة النظر التعليمية لم يتمَّ إلا في عصرٍ مُتأخر، أما في العصر الذي نتحدَّث عنه فكان الدين مُستغرِقًا حياة الناس العقلية والخلقية والاجتماعية. ولهذا السبب كان أول شيءٍ يعرفه الطفل ويتعلَّمه هو القرآن، فيه كل ما يحتاج إليه الإنسان في حياته، كما قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ. (الأنعام: ٣٨). الفضائل حِلية الإنسان. وهي حسنة إذا عمل بها صاحبها؛ أما العِلم بها دون عمل، فلا فرق بين إنسانٍ يحملها، أو كتاب يحويها. وقيل إنَّ الإنسان مجموعة من العادات. وأغلب أعمال الإنسان عادات وهي توفِّر الوقت والمجهود، وتؤدي إلى الإتقان والسهولة، وتجعل صاحبها يتفرَّغ لأعمالٍ جديدة يُفكر فيها. فإذا كان الأمر كذلك فمن الخير للإنسان المُبادرة بتكوين العادات الفاضلة حتى تتأصَّل منه، وتنزل منزلة الطبع، ولأن الإقلاع عن العادات المَرذولة، إذا تمكَّنَت، يكون شاقًّا عسيرًا. لهذا كان من الواجب على القائمين بتربية النشء أن يزرعوا في أنفسهم الصفات الخلقية الحميدة منذ الصغر؛ ليشبُّوا عليها، ويألفوها مع الزمن. وقد فطن القابسي لهذه النتائج المُترتِّبة على تكوين العادة فقال بصدد تعليم الصلاة: «وقد أُمِر المُسلمون أن يعلموا أولادهم الصلاة والوضوء لها، ويُدرِّبوهم عليها، ويُؤدِّبوهم بها، ليسكنوا إليها ويألفوها، فتخفَّ عليهم إذا انتهَوا إلى وجوبها عليهم.» ٢٧-أ. وهناك فضائل أوحى القابسي بتوجيه الصبيان إليها، كما أنَّ هناك رذائل نصَّ عليها، ونبَّهَ المُعلم إلى وجوب الحذَر منها، وإبعادها عن طريق الصبيان. والنصُّ على رذائل خاصة، وذنوب بعينها، يدلُّ على ما كان يجري في ذلك العصر، ويُنبئ عن أسرار تلك البيئة الاجتماعية. من هذه الصفات الخُلقية التي ينبغي أن يتحلَّى بها الصبيان: الطاعة. وليست الطاعة واجبًا على الصبيان نحو المُعلم فقط، بل هي واجب المُسلمين كافة لأوامر الله والرسول، كما جاء في القرآن: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ (النساء: ٥٩). وفي القرآن آيات كثيرة تحثُّ على الطاعة بل تأمُر بها، فقد أمر الله المرأة أن تُطيع زوجَها، والابن أن يطيع أباه. وبذلك نجد الإسلام يضع الناس في درجاتٍ من السيطرة والخضوع، والأمر والانقياد. وفي قمَّة هذه الدرجات الله تعالى الذي أمر العباد بعبادته وتسبيحه وحمده، كما أمرَهُم بأنواع كثيرة من السلوك بينهم وبين أنفسهم، وبينهم وبين غيرهم. ويلي طاعة الله طاعة الرسول وأُولي الأمر، كل ذلك بنصٍّ في الدين. والوالد هو الوليُّ الشرعي لأبنائه، لذلك وجبت طاعة الأبناء للآباء بأمر الدين. والمُعلِّم يحلُّ محل الوالد، ومنزلته هي نفس منزلته، وفي ذلك يقول القابسي: «فإنما هو لهم عِوَض من آبائهم.» وبذلك تجِب طاعة الصبيان للمُعلم. هذه الطاعة إنما أوجبها الشرع على الناس لحِكمة؛ ذلك أنَّ خير المجتمع ومصلحته إنما تكون في الألفة بين الأفراد، والتعاون بينهم. وتتحقَّق مصلحة الصبيان بما يُمليه عليهم أولياء أمورهم، الذين قد سمَتْ عقولهم، واتَّسعَت مَداركهم، وكثُرت خبرتهم، وعرفوا الشرع والدين والحياة حقَّ المعرفة. فلا يتمُّ تعليم الدين، بل تعليم أي أمرٍ من الأمور، إلا بالتلقين الصادر من الكبار إلى الصغار؛ ولا يتحقَّق هذا التلقين إلا بالطاعة. المُعلِّم وهو يلقِّن الصبي إنما يُقدِّم إليه خُلاصة ما بلغت إليه الحضارة في أجيالٍ مُتلاحقة. ولو تركت الطفل يُحصِّل بمُفرده حقائق الحياة وأسرار الوجود، لوجب أن يطول عمره آلافًا من السنين ليبلُغ ما وصلت إليه المدنية الحاضرة. وعلى الصبيِّ حين يكبُر أن يُضيف إلى خبرة الأجيال الماضية خبرةً جديدة. ومن الصفات الخُلقية التي ينبغي أن يتعوَّدها: النظام. والنظام والطاعة صِنوان، فإذا كان خير المُجتمع في الطاعة، فإنها تستوجِب النظام، حيث كانت الفوضى مُفسِدة للمجتمع، ومُضيِّعة للتعاون الضروري للحياة الإنسانية؛ ولا دولةَ مع الفوضى. هذا النظام مطلوب من الصبيان في حضورهم إلى الكُتَّاب، وفي انصرافهم عنه، وفي استماعهم للدرس، وفي أعمالهم المدرسية. والعبادات في الإسلام تحمِل في طيَّاتها إلى جانب الطاعة والنظام كثيرًا من الصفات الخلقية الحميدة. فالصلاة عماد الدين. وتأديتُها في أوقاتها يُعلِّم النظام والدقة في حفظ المواعيد، حتى إذا شبَّ الطفل على إقامة الصلاة مع المحافظة عليها تعوَّد الإقبال على العمل في الوقت المناسب، والمبادرة إلى انتهاز الفرصة قبل ضياعها، وابتعَدَ عن التثاقُل، وامتنع عن التكاسُل. وفي الصوم من النتائج النفسية والخُلقية مثل ما للصلاة؛ لأن التعوُّد على الإفطار في ساعةٍ مُعينة هو النظام الدقيق، الذي يطبع المُسلمين بطابع الإحساس بالوقت، وحُسن الاستفادة منه. ولا تصحُّ الصلاة بغير وضوء؛ لأنه شرط للصلاة. والوضوء غُسل وطهارة ونظافة. والنظافة من الفضائل الشخصية العظيمة الأثر في الصحة، كما تنتقِل فائدتها إلى النفس فتُطهِّرها. ذلك أن الشعور بالنظافة الظاهرة، يُهيئ الإنسان إلى النظر في المعاني بنفس الأسلوب، فيُعِف اللسان ويُطهِّر الفكر. فالطفل مُطالب بطهارة الجسم، كما هو مُطالَب بطهارة القلب والنفس. ولذلك ينبغي أن يكون صادقًا، عفيفًا، أمينًا، حافظًا للعهد. والمُعلم مُكلَّف تعليم الصبيان الوضوء، والصلاة مع تأديتها في أوقاتها؛ وهو في هذا التعليم الديني لهذه العبادة، إنما يُلقِّنهم في نفس الوقت الطاعة والنظام والنظافة والعفَّة والطهارة. ومن الدواعي التي تبعَث الصبيَّ على الانصراف عن المُعلم والعِلم: اللعب. ومن طبيعة الأطفال اللعب، ففي هذه السِّن الصغيرة تشتدُّ حيويَّتُهم، وتكثُر حركتهم ويُقبلون على اللعب بدافعٍ من الفطرة، وقد نصَّ القابسي على أن اللعب من الذنوب التي تستوجِب العقاب. فاللعب عندَه من الرذائل. والمُعلم معذور إذا حاول أن يزجُر الصبيان عن اللعب؛ لأنه يُريد الهدوء وينشُد النظام المؤدي لحُسن سَير الدرس والتحصيل، ولم تكن الدراسات النفسية للأطفال قد بلغت في ذلك الزمان مَبلغ ما وصلت إليه الآن. لذلك كانوا يعتبرون الطفل رجلًا صغيرًا يُعامَل معاملة الرجال، أما التربية الحديثة فإنها تنظُر إلى حياة الطفل نظرة تختلف عن الكبار. لهذا سايرَت التربية الحديثة مُيول الطفل وغرائزه، فاستغلَّت اللعب في مصلحة التعليم. وبذلك وفَّقَت بين طبيعة الطفل وحاجة المجتمع. فقامت المدارس الخاصة بالأطفال على اللعب في الظاهر، بينما الغاية المقصودة هي تعليم الأطفال. وعندئذٍ تتحقق المصلحتان، مصلحة الطفل في الترويح عن نفسه، واستغراق الحيوية الفائضة في كيانه المُتدفِّق نشاطًا في هذه السن الصغيرة، كما تتحقق مصلحة المجتمع من تثقيف الصغار على الوجه المطلوب القائد إلى التقدُّم والرُّقي. هذا الجهل بطبيعة الطفل، واعتبار ميله إلى اللعب، ونزوعه إلى الحركة، من الرذائل التي ينبغي أن تُحارَب، أدَّت إلى كراهية الصبيان للكُتَّاب. ومن شأن الإنسان إذا أحبَّ شيئًا أن يُقبل عليه، وإذا كره شيئًا أن ينصرف عنه، ويبتعِد منه. فليس غريبًا أن نرى الصبيان في ذلك العصر يتحوَّلون عن المكان الذي يكرهونه، ولا يجدون فيه المجال الواسع للحركة واللعب، وهو الكُتَّاب، لهذا السبب كان الصبيان يهربون من الكُتَّاب بل يديمون الهرَب منه، كما يُنبئنا القابسي في صراحة: «فإن اكتسب الصبي جُرمًا من أذًى، ولعب، وهروب من الكُتَّاب وإدمان البطالة …» مما يُفصح عن عادة تأصَّلت في نفوس بعض الصبيان. وكان المُعلمون في ذلك الزمان يُعانون مَشقَّة هذه الرذيلة، ويحاولون علاجها، ولكنهم لم يفطنوا إلى أصل العِلة وهو منع الطفل من اللعب. إلى جانب هذه الرذائل وهي اللعب، والهروب من الكُتَّاب، وإدمان البطالة نجد رذائل أخرى تشيع في الواقع في كل جوٍّ مدرسي أو في كل بيئةٍ اجتماعية يشترك فيها عدد من الصبيان أو الشباب، وهم الذين لم تتأصَّل في نفوسهم بعد مشاعر احترام الغير، وضبط النفس، وكبح الأهواء الجامحة والنزوات الطائشة. فالصِّلة بين الصبيان تؤدي إلى التنافُس فيما بينهم، ومحاولة ظهور بعضهم على بعض، وسيطرة أحدهم على غيره. والسيطرة والظهور من أقوى الطبائع المُحركة للهِمَمِ الباعثة على العمل، ولا تتهذَّب طريقة السيطرة، ولا يسمو الإنسان بالمَيل إلى الظهور، إلا بعد تعلُّمٍ طويل، وثقافة عريضة، بل العامة، وأهل الشعوب المُتأخِّرة، يظلُّ فيهم المَيل إلى الظهور والسيطرة على الصورة الأوَّلية من البطش والقوة والاعتداء البدَني، والغلَبة الجسمية لا العقلية. فليس غريبًا أن تبدو على الأطفال هذه النزعات الفطرية التي لم تُهذِّبها الحضارة وتُحوِّلها الثقافة نحو الخير والسمو. بل ينبغي أن تظهر لأنها عنوان الحيوية ودليل النشاط والقوة. ومُهمة المُعلم أن يُنظم مثل هذه النزعات، وأن يُمهد لها الطريق السوي المؤدي إلى التقدُّم والرُّقي. لذلك كانت مُهمة المُعلم شاقة، تحتاج إلى كثيرٍ من الحِكمة والبصر النافذ في أخلاق الناس عمومًا، وطبائع الأطفال بوجهٍ خاص. وقد سجَّل القابسي فيما ذكر من طبائع الصبيان: إيذاء بعضهم بعضًا، وشكاية بعضهم أذى بعض، بل واستفاضة الأذى في بعض الأحيان. وعندنا أن هذه الرذيلة التي عَدَّها القابسي كذلك هي من فضائل الحياة، بل لا ينبغي اعتبارها رذيلة أو فضيلة؛ لأنها طبيعة الطفولة ومظهر الفتوَّة، ودليل التوثُّب. وكان الواجب أن نُعالج هذه الطبيعة نحو الخير والنفع بتوجيهِ قوى الطفل في أمورٍ تستغرق نشاطه، ويبدو فيها المَيل إلى التفوُّق العلمي والغلبة العقلية. وهذه هي الطريقة السليمة، وقد نصح بها القابسي وأجازها في بعض الحالات، كما نذكُر عند الكلام على طرُق التعليم. وأشار القابسي أيضًا إلى نقيصةٍ خلقية كثيرًا ما كانت تقع بين الصبيان وهي التبايُع فيما بينهم، كأن يبيع بعضهم من بعض: «كسرة بزبيب، أو زبيبًا برُمان، أو تفاحًا بقثاء.» وهذه الظاهرة ملحوظة في تلاميذ المدارس من كلِّ جيلٍ وفي كل شعب، فهي طبيعة الناس إذا اجتمعوا. وقد نظر القابسي إلى هذه المسألة نظرًا دينيًّا فحرَّمَها لِما فيها من ربًا، وطلب إلى المُعلم أن ينهاهم عن هذا التبايُع. والحقيقة أنه إلى جانب الرِّبا المذكور في كتب الفقه، فإن التبايُع بين الصبيان صَرفٌ لهم عن طلَب العلم، وشغل لأذهانهم عن التحصيل، فضلًا عن إشاعة الفوضى وسُوء النظام، وظهور الحقد والغضب والحسد والبغضاء، ممَّا يؤدي إلى إيذاء بعضهم بعضًا رغبةً في الانتقام، وشفاءً للنفس مما أصابها من الغلِّ والحسد. ومن الرذائل الفاشية في كل مجتمع، وخاصة بين الشباب، ما ذكره القابسي في هذه الجملة: «وإنه لينبغي للمُعلم أن يحترِس بعضهم من بعض إذا كان فيهم مَنْ يُخشى فساده، يناهز الاحتلام، أو يكون له جرأة.» وهو تعبير وجيز العبارة، لطيف الإشارة، يدلُّ على عفَّةٍ في نفس المؤلف، تحمِله على الابتعاد عن الإطالة في مواطن الفحشاء والمنكر. وهذا الإيجاز لا يحلُّ هذه المشكلة الخطيرة؛ فهي المشكلة الجنسية التي اجتهد الناس أجيالًا في إخفائها، ووضع الرقابة الاجتماعية والخُلقية والدينية في سبيلها، إلى أن تبيَّن لعالِم النفس «فرويد» أنها أساس السلوك عند الإنسان في كل ناحيةٍ من نواحي الحياة، بل إنها أصل الشذوذ والأمراض العصبية والنفسية. وترجع هذه المشكلة إلى أن الرغبة الجنسية إذا ظهرت في أكمل صورِها عند الاحتلام، فلا بدَّ لهذه القوة الغريزية من الانسياب. ولكن الدين يقِف عقبةً في سبيل تحقيقها، وكذلك المجتمع. فإذا استمع الشابُّ لوازع الدين، وأوامر التقاليد، تراجعَتِ الغريزة في نفسه، وانحبست هذه القوة، مما قد يؤدي إلى انفجارها بعد زمن. والغالب أن دافع الغريزة يكون أقوى من رادع الدين ووازع الضمير، فيُحقِّق نداء الطبيعة، ويُلبي صوت الغريزة ويحمِله تيار الفطرة الجارف إلى هذه الألوان من الفساد الجنسي. والحلُّ الطبيعي الذي يتَّفِق مع أوامر الدين ونواهيه، واصطلاح العُرف والتقاليد الحسنة هو الزواج؛ وهو الحلُّ الوحيد. وفي ذلك يقول القرآن: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ (النور: ٣٣). ولكن زواج طفلٍ حديث البلوغ لا يتيسَّر لأسباب صحية واقتصادية واجتماعية. وعندئذٍ تظلُّ المشكلة قائمة، وكل عِلاج يوصَف لها ليس إلا من قبيل المُلطِّفات الوقتية، وما يُدرينا ما يجري في الخفاء بين هؤلاء الصبيان، أو بين الصبي ونفسه. ولم يكن للقابسي من حيلةٍ إلا أنه نصح المُعلم باتخاذ الحذَر والاحتراس، ليكون يقظًا لما عساه يحدث بينهم. ولو أن القابسي أطال الكلام في هذا الموضوع، لحدَّثنا عن أثر الفضيلة التي اكتسبَها الصبي بالتلقين والعادة في صراع الرذيلة. فالطفل الذي يحفظ القرآن إنما يحفظ آيات الخير؛ لأنه كتاب لا رَيب فيه هدًى للمُتقين. والطفل الذي يؤدي الصلاة، إنما يذكُر الله ويعبده، ويتقرَّب إليه، ويقِف بين يدَيه ويستعين به على صراع الشر.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/40635716/
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
أحمد فؤاد الأهواني
«نحن في حاجةٍ إلى القديمِ والجديدِ معًا؛ لأننا لا نستطيع قَطْع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولغته، لا يزال دِيننا الإسلام، وكِتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجةٍ اليومَ إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم، ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادُنا منذ ألف عام يُعلِّمونهما؛ فقد يُفيدنا ذلك في موقعنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابةَ والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي موضع تفكير علماء التربية.» في القرون الإسلامية الأولى بلغت الحضارة العربية أوْج عظمتها، وانتشرت لأقاصي الشرق والغرب، حيث انتقلت إلى أوروبا التي كانت تموج في بحرٍ مُظلم جرَّاء التدهور والانحلال. وهذه الحضارة العظيمة تأسَّست على العِلم، ولا عِلم بغير تعليمٍ وتربية. ولأجل التعرُّف على أحوال التعليم في تلك العصور الزاهية، يأتينا هذا الكتاب ﻟ «أحمد فؤاد الأهواني»، حيث يُقدِّم فيه دراسةً وافية عن حياة «أبو الحسن القابسي» الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وكِتابه البالغ الأهمية؛ إذ قام «القابسي» فيه بمُعالجةٍ تفصيلية ودقيقة لكل ما تعلَّق بشئون التعليم في عصره، وخصوصًا تعليم الصبيان، وكذلك حل مشكلات التعليم. وقد أُلحِق بهذا الكتاب رسالة «ابن سحنون» المُعنونة ﺑ «آداب المُعلمين»، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث الهجري ولا يعرفها سوى القليل، وتُعَد من الرسائل النادرة عن التربية.
https://www.hindawi.org/books/40635716/7/
العقاب
لا يَفصِل القابسي في العقاب بين الطفل والبالغ، أو بين الصبيِّ والمُعلم، أو بين الرجل والمرأة. كلهم أفراد من البشر وإن اختلفت صفاتهم وتباينَت أعمارهم. فالصَّبي في الكُتَّاب يُوقَّع عليه العقاب إذا استحقَّ العقاب، ويُعاقَب المُعلم إذا أهمل في أداء عمله. والولد العاق يستأهِل التأديب من والده، وللزَّوج على زوجته حق التأديب الذي يصِل إلى حد الضرب. فهؤلاء جميعًا قد ضمَّهم العقاب، وجمعَتْهم الذنوب التي تصدُر عنهم. والإنسان في شتَّى مراحل حياته طفلًا ويافعًا، ورجلًا وكهلًا، وذكرًا وأنثى، عُرضة لارتكاب الشر، والوقوع في الإثم، والانزلاق في الخطأ والذنب. إنما الكمال لله وحده، فهو الموجود الواحد الكامل. والخلائق بعد ذلك تندرِج في مراتب تنحدِر من الكمال إلى النقص، ومن الخير إلى الشر، ومن الطُّهر والتقوى إلى الدنس والفجور. والنبي عند المُسلمين في أعلى مراتِب البشر وأقرب الدرجات إلى صفات الكمال، فهو كما وصفه الله في كتابه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم: ٤). ولا مطمع لإنسانٍ أن يرتقي إلى درجة الألوهية والكمال إلا إذا فقد الصفات البشرية وما فيها من نقص الخلال، والطبيعة البشرية تحمِل في ثناياها بذور النقص والهوى وسوء الخصال. والحياة صراع بين الخير والشر. وكل جماعةٍ من الناس تتصوَّر الخير على نحوٍ من الأنحاء، وتريد أن تُنشِّئ عليه الناشئة، وتطبع عليه أجيال المُستقبل. والجماعة الإسلامية كغيرها من المُجتمعات التي نشأت وازدهرت، وكغيرها من المجتمعات التي لا تزال تعمُر الأرض، لها مُثُلها العُليا وعندها تعاليم الخير. وقرآن المسلمين تنزيل من رب العالمين، ليكون هُدًى للمُتقين، فُصِّلت فيه آيات تدعو إلى الخير وتَنهى عن الشر، وفيه تفصيل طويل لكثيرٍ من أحكام السلوك، وبيان للناس عن أحوال المُعاملات الواجبة فيما بينهم وبين أنفسهم، وفيما بينهم وبين غيرهم. وفي الفصل السابق تفصيل للمبادئ الخلقية الداعية إلى الفضيلة عند المسلمين، وعلى الناس أن يأخذوا بهذه الأحكام لخير أنفسهم وخير المجتمع. فإذا أصرَّ المخالفون على اتباع غير طريق المؤمنين الصالحين، واستمرُّوا في عنادهم، وآثروا الاستماع إلى هوى نفوسهم، مُتنكِّبين السبيل التي أمر الله باتباعها، فلا بدَّ من إنزال العقاب، ومُحاسبة مثل هؤلاء القوم أشدَّ الحساب، حتى يثوبوا إلى رُشدهم، ويَرعَوُوا عن غيِّهم. قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ (البقرة: ١٧٩) وهذه هي بلاغة الإيجاز، والغاية في الإعجاز. ولا غروَ فقد جمعت الآية بين الموت والحياة، وأخرجت الحيَّ من الميت. وليس هذا بغريبٍ عن عالَم الطبيعة كما هو مُشاهد ومعروف، فلا غرابة أن تكون حياة المجتمع وقفًا على موت بعض الأفراد، والتضحية بعناصر الفساد؛ وليس وراء القتل وإهدار الحياة عقاب، جزاءً وفاقًا لمن يستحقُّ العقاب. فالإسلام يشرع مبدأ العقاب، ويبسط ألوان العقوبات المختلفة باختلاف الجرائم. فجزاء القتل القتل، وجزاء السرِقة قطع اليد، وحدُّ شارب الخمر الجلد. وهكذا نجد لكل جريمةٍ عقابًا مُقررًا ينبغي تنفيذه دون شفقة، كما قال تعالى في الزانية والزاني: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ (النور: ٢). فنحن نرى إذَنْ إقرار العقوبة ليس من الأمور المُتَّفَق عليها عقلًا أو شرعًا؛ لأن التقابُل بين العقاب والتسامُح هو تقابل الأضداد، بينهما غاية البعاد. وأنصار التسامُح لهم وجهة نظرهم، وعندهم كثيرٌ من الحُجَج على صحة مَبدئهم. وليس مجالنا أن نبسط آرائهم، ولكننا نقول إنهم يبغون من وراء ذلك الخير الأسمى. والقائلون بالعقاب يرمون إلى غايةٍ بعيدة هي الخير أيضًا. وعندئذٍ يلتقي أصحاب التسامُح وأنصار العقاب عند الغاية، وإن بعُدَت الوسيلتان، فقصدهما هو الخير لبني الإنسان. ونعود إلى القول إن مبدأ العقاب كما يُقرِّره الإسلام ينطبق على جميع الأفراد، والصبيان، يدخلون تحت راية هذا المبدأ فتشملهم العقوبة كما تشمل غيرهم من الناس. والقابسي يفرِض العقوبة على الصبيان، ويُبيِّن حدودها، ويُفصِّل مراتبها كما هو مُقرر في الإسلام، مما هو ثابت في كلام الله، وأحاديث الرسول. ومع أن الإسلام شرع العقاب، فقد نصح الله العباد بالعفو عند المقدرة. وفي القرآن عدة ألفاظ تُعتبَر من قبيل المُترادفات للعفو: كالصفح والرحمة والمغفرة. والصبر مطيَّة العفو. والعفو والصفح والمغفرة تختلف عن التسامح المسيحي؛ ذلك أن التسامُح لا يردُّ أذًى بأذى، بل هو قبول الأذى، والتجاوز عنه، والصبر عليه. أما العفو فهو اعتراف بوجود الأذى، ووجوب ردِّه، ثم التفضُّل بالصفح. وفي ذلك يقول الله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (النحل: ١٢٦). وهو القائل: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (الشورى: ٤٠). فالعدالة في الإسلام تقتضي ردَّ الأذى، وعقاب الجريمة. والعفو عنها إنما هو قدْر زائد على العدالة. ثم ينصح الله عباده بالمغفرة والصفح لعلَّةٍ سامية. فالله الذي خلق الإنسان أعرف بطبيعته، وهو أعلَمُ بدوافع الفطرة التي تُحمَل على الهوى وتُزَيِّن الشر، وفي هذا قال تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التغابن: ١٤). فالعلة في ارتكاب الشرِّ هي الاستماع إلى أهواء النفس، وهي أهواء فطرية يُعبِّر عنها علماء النفس المُحدثون بالغرائز. لهذا صحَّت نسبة الشر إلى الإنسان، لأن غرائزه تحمِله على سوء الهوى، فهو مُضطر إلى ذلك اضطرارًا. ولهذا السبب أفاض الله الرحمة والغفران، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (الشورى: ٣٠). والعفو وسيلة إلى غايةٍ عُليا هي اجتذاب القلوب، وولاء النفوس، والألفة بين الناس، وكل أولئك داعية إلى الاجتماع والعمران والصلاح. لقد أُوذي النبي في دعواه أذًى شديدًا، وهو اعتداء يقتضي الحزم في ردِّه، ولكن الله أمر نبيَّه بالرحمة والصبر، ودرء السيئة بالحسنة، والدعوة بالتي هي أحسن فإذا الذين بينهم وبينه عداوة كأنهم أولياء. ولو كان النبي فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حوله. على أن للصبر نهاية، وللعفو أمدًا وغاية. وإن الله ليُملي للظالم حتى يأخُذه أخذَ عزيزٍ مقتدر. فالعفو أسبق من العقاب، والصبر مُقدمة الحساب. أخذ القابسي بهذه القاعدة فأمر المُعلمين بالرفق مع الصبيان. وإذا كان العفو مع المُذنبين من الكبار محبوبًا، أغرى به الله وحثَّ عليه، فهو مع الصبيان واجب لصِغَر سِنِّهم، وطَيش أعمالهم، وضِيق عقولهم، وقِلة مَداركهم. وعلى المُعلم أن يلجأ مع الصبيان الذين يرتكبون الذنوب إلى الرفق، كما جاء في وصيته للمُعلم قائلًا: «ومن حُسْن رعايته لهم أن يكون بهم رفيقًا.» ٥٤-أ. ويعتمِد القابسي في هذه النصيحة على المأثور من سِيرة الرسول، وعلى الحديث: «إن الله يُحب الرفق في الأمر كله، وإنما يرحَم الله من عباده الرحماء.» ٥٤-أ. والأطفال: «تدخُل في هذه الوصية المتقدمة.» ٥٤-أ. فنحن نرى أن القابسي يُنزِل الصبيان منزلة الكبار البالِغين المُكلفين يشملهم العفو والرفق، كما يجري عليهم الحساب والعقاب. على أن القابسي ينظُر إلى الصبيان نظرةً خاصة تُلائم طفولتهم. واستعمال لفظ الرفق بدل العفو دليل الشعور بما بين الأطفال والبالِغين من فروق. فالرفق عكس التشديد. والعفو في مُقابل العقاب. وقد يجتمع الرفق والعقاب، ولا يجتمع العفو والعقاب. والغرَض من الرفق إلى جانب اتِّباع أمر الرسول في الحديث السابق، هو حُسن السياسة، ونفع الرياضة. والقابسي يُنزِل المُعلم من الصبيان منزلة الوالد، فهو المأخوذ بأدبهم القائم على زجرِهم، وهو الذي يُوجِّههم إلى ما فيه مصلحة أنفسهم. وهذا التوجيه يحتاج إلى سياسةٍ ورياضة؛ حتى يصِل المُعلم بالطفل مع الزمن إلى معرفة طريق الخير، وهي طريق لا تُدرَك بالبديهة بل بالرياضة والتعليم. وكلَّما أخطأ الصبي مُتنكبًا الطريق السوي، راضه المُعلم مُبينًا له السبيل التي ينبغي سلوكها، وأول سبل الرياضة الإفهام والتنبيه؛ لأن الطفل مهما يكن من شيءٍ فهو عاقل يمتاز عن الحيوان بالنطق والإدراك، ومعرفة العِلَل والأسباب، ولو أن إدراكه لا يزال قاصرًا لا يصِل إلى حدِّ الكمال. هذه السياسة القائمة على الرفق في المعاملة، والعناية ببيان أسباب السلوك وإفهامه للصبيان، من شأنها أن تجعل الصبيَّ يكبُر على العمل الصالح من تلقاء نفسه، دون حاجةٍ إلى عصًا تسوقه، فتثمر الرياضة في نفسه ثمرة صالحة. ثم إن الشدة الدائمة، كأن يكون المُعلم عبوسًا أبدًا: «من الفظاظة المَمقوتة ويستأنس الصبيان بها فيجترئون عليه.» ٥٤-ب. فالقابسي يقصد من الرفق العدالة في العقاب، وعدم التشديد فيه، والابتعاد من المُغالاة في الضرب أو أي وسيلةٍ أخرى من وسائل الرياضة والتأديب؛ وعلَّة ذلك نفسانية؛ لأن معنى استئناس الصبيان هو الاعتياد الناشئ عن التكرار، ومن أثر العادة إماتة الشعور، وبذلك ينعدِم التأثير المطلوب من العقاب، فضلًا عن ذهاب سُلطة المُعلم وعدم هيبة الصبيان من سطوته عليهم. ومن الرفق ألا يُبادر المعلم إلى العقاب إذا استأهل الطفل ذلك، وإنما يُنبه الطفل مرةً بعد مرة، فإذا لم يستمع لهذا التنبيه، ولم يأخذ بهذا التوجيه، لجأ المُعلم إلى وسائل العقاب المنصوص عليها. حرمان الأطفال الطعام والشراب عقوبة معروفة مشهورة؛ وهي عقوبة شديدة الأثر في نفس الطفل؛ لأن همَّهُ في الحياة تناوُل الطعام واللعب. ولا صبرَ له على الجوع حتى يشبع، فإذا شبع لعِب، ولا زاجر له عن اللعب حتى يتحرك. وحرمان الطعام واللعب عقوبتان مَعيبتان، وحرمان الطعام أشدُّ عيبًا لأن في ذلك ضررًا بصحة الطفل، وكبتًا لأقوى غريزةٍ وأولها عند الإنسان، فينشأ الطفل على الشرَه في مستقبل حياته، وقد تمتدُّ يدُه إلى السرقة لإشباع حاجة نفسه مما يُحرِّمه عليه أهله والقائمون بأمر تعليمه من ألوان الطعام. لهذا نصَّ القابسي على أنَّ مِن الرفق بالصبيان الإذن لهم بالانصراف إلى تناول الغداء، وعدم منعهم من الطعام والشراب. ذلك أن العادة كانت جارية في ذلك الزمان أن ينصرِف الصبيان مع الظهر إلى دُورهم لتناول الغداء ثم يعودون بعد ذلك إلى الكُتَّاب. العقوبة على أربعة مذاهب حسب الغاية منها، فهي انتقامية أو رادِعة أو واعِظة أو مُصلِحة. وأول أنواع العقوبات ما كان الغرَض منه الانتقام من صاحب الذنب. والانتقام فِطري في الإنسان؛ لأنه يتَّصِل بغريزة الغضب. والمعروف أن الإنسان إذا اعتُدِيَ عليه غضِب وثار وحاول أن يردَّ الاعتداء. وفي سَوْرة الغضب يُحطِّم الإنسان كل شيء، ويعتدي على كل شيء؛ لأن المُحرك له قوة الكفاح والمُقاتلة، لا ميزان الحكمة وتقدير العقل والمصلحة. والمتوحِّشُون على هذه الصورة الأوَّلية من الاندفاع وراء الانتقام، وشفاء غليل النفس مما تشعُر به من الثورة. وقد أخذت الحضارة بيَدِ الإنسان في طريق الخير، وهذَّبَت مُيوله الفطرية وغرائزه الحيوانية، ناظرةً في ذلك إلى نفع المُجتمع بأسرِه. هذا التهذيب يقتضي ضبط النفس عند ظهور النوازع الفطرية، ليرى صاحبها: أمِنَ المصلحة أن يستجيب لنداء هذه الدوافع أم يَكُفها وينهاها؟ على أي الحالات ينبغي أن يُسيطر الإنسان على نفسه فيوجِّه أمره على ضوء العقل، فلا يخضع لكل دافع، أو ينساق وراء كل نازع. وكثيرًا ما يفقد الإنسان الحكمة والبصيرة، ويعود إلى الطَّور الحيواني من الاندفاع الأعمى، ويكون ذلك في أحوال الغضب الشديد، وما يَصحبُه من غَيظ وكمَد. ولكن المرء لا يُكمِل معاني الإنسانية الذاهبة نحو السمو، إلا إذا استطاع ضبط النفس، وحبس الغيظ. وفي القرآن إشارة إلى هذه الفضيلة الواجبة حيث قال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران: ١٣٤). وإذا كان كظم الغيظ والعفو عن الناس مرغوبًا فيه مع الكبار، فهو أوجب مع الصبيان الذين يقَعُون من المُعلم موقع الولد من الوالد. وهم إلى ذلك في مجال التهذيب والتأديب لا في مجال التشفِّي والانتقام. لهذا كله نهى القابسي المُعلِّم أن يضرب الصبيان وهو في ساعة الغضب، حتى لا يكون «ضرب أولاد المسلمين لراحة نفسه، وهذا ليس من العدل.» ٥٥-ب. القصة التي ذكرَها القابسي عن عُمر بن عبد العزيز الذي أمر بضرب إنسان، ثم قال اتركوه بعد أن أُقيم للضرب؛ لأنه كرِه أن يضربه وهو غضبان، في هذه القصة دليل آخر على أن العقوبة في الإسلام لا ينبغي أن تكون انتقامية. والتربية وعِلم النفس الحديثان لا يُقرِّران جديدًا يختلف عما قرَّره القابسي، وما هو ثابت عند فقهاء المسلمين. وقد جاء وصف آثار الغضب النفسية والجسمية، وما يؤدي إليه من شهوة الانتقام في كثيرٍ من الكتب الفقهية. ونُثبت ما ذكره الغزالي في ذلك، فهو يُفصِّله تفصيلًا لا يحتاج بعدَه إلى جديد. هذه المشاهدات النفسية الصحيحة لآثار الغضب التي تلحق بالإنسان، سبَق إلى مُلاحظتها القابسي فأثبتَها في صدَد غضب المُعلم، وما يصدُر عنه من كلامٍ بذيءٍ في حق الصبيان وشتمِهم وسب أعراضهم. كل ذلك لأنه: «إنما تجري الألفاظ القبيحة من لسان التقيِّ إذا تمكَّن الغضب من نفسه، وليس هذا مكان الغضب.» ٥٤-أ. فالغاية التي يُريد أن يصِل القابسي إليها هي رياضة الصبيان، ولا بأس بالعقاب بشرط ألا يكون انتقامًا، ولا يكون الانتقام إلا إذا ثار الغضب في النفس، وتمكن منها. وليس هذا موضع الغضب والانتقام، وإنما هو موضع التأديب والتهذيب. أما الأغراض الأخرى من العقاب وهي الإصلاح والوعظ والزجر، فهي وسائل تؤدي إلى غاية مطلوبة هي صلاح المُذنب أو صلاح المُذنبين وخير المجتمع. وأول هذه الأغراض هو إصلاح المُذنب، ويُعبرون عن هذا الإصلاح عادةً بالتهذيب، ووسيلته الرياضة والتأديب. ويكون هذا الإصلاح بالترغيب والترهيب، والرجاء والخوف، والنصيحة والتهذيب. والطفل مهما يكن من شيءٍ فهو حَدَثٌ صغير، لا يعرف ما ينفعه ولا يُميز ما يضره، ولا يستطيع أن ينظُر إلى مصلحته البعيدة في المستقبل. وما دام الأمر كذلك، فإن الأطفال يَظلُّون أمانة في عنق آبائهم ومُربيهم يُطبعونهم على ما يريدون. لهذا كانت إشارة القابسي إلى واجب الآباء إشارةً سديدة صحيحة؛ حيث قال بصدد تعليم الصبيان القرآن: «وعلى ذلك يُربونهم وبه يَبتدونهم، وهم أطفال لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا ولا يَعلمون إلَّا ما علَّمهم آباؤهم.» والطفل الصغير لا يفهم معاني القرآن، ولا يدري لماذا يُكَلَّفُ حفظه، فإذا انصرف عن درسه وآثَر اللعب بدافع الفطرة المطبوع عليها، فليس لنا أن نعجب، وإنما نعجَب إذا رضِيَ أن يُقيَّد في الكُتَّاب طول النهار، وأن يُديم النظر إلى هذه الحروف التي يُسَطِّرُها في الألواح. فنحن نُريد للطفل شيئًا، وهو يريد لنفسه شيئًا آخر. ولا سبيل إلى فرض إرادة المجتمع على الطفل إلا بوسائل الرياضة وألوان العقاب؛ ويَعتبرون أنَّ انصراف الطفل من تنفيذ رغبة المجتمع ذنب. فإذا كان المجتمع الإسلامي يريد من الطفل أن يحفظ القرآن وأن يُقيم الصلاة، ثم رفض الطفل، فهو في نظَر المُعلم مُذنب. والطريقة التي نجتذِب بها الصبيان إلى تأدية ما نُريد هي الترغيب والترهيب. والخوف يكون أحيانًا من أقوى المُؤثِّرات التي تمنع الإنسان عن أداء الأعمال التي يخاف منها. والخوف فِطري في النفس، يصحبه الهرَب مما يُثير الخوف، والابتعاد عن مصدره. وكل فطرة في النفس فهي من الطبائع الموروثة التي لا أمل في اقتلاعها، وإنما يُراعى فيها حُسن التوجيه نحو الخير المقصود. ولو أنك جنَّبت الطفل كل مصادر الخوف، وحُطتَه بالأمن والرعاية فإنه ينشأ مُدللًا لا شُجاعًا. فإذا صادف في الحياة عقبةً أو شرًّا اعتقد أنه مَهول وانقلب الخوف في نفسه رُعبًا، والتدليل خورًا وجُبنًا. والذين يَنصحون بعدم إخافة الصبيان، يعودون إلى القول بضرورة تعريضهم للمَخاوف الطبيعية لينشأ الصبيُّ صُلب العُود قوي العزيمة صادق الإرادة على مُجابهة الأخطار، والوقوف أمام الصعاب. وأصحاب المذاهب الحديثة في التربية يقصدون من هذا اللَّون من ألوان التربية أن يُكثِر الأطفال من الرياضة البدنية كالسباحة، ولعب كرة القدم، وتسلُّق الجبال، وركوب الخيل وما إلى ذلك من أنواع الرياضة البدنية التي يتدرَّب فيها الصبيان والشباب على مواجهة الأخطار، والتغلُّب على المخاوف الطبيعية. وغرَضُهم من ذلك أن يتعلَّموا بأنفسهم من ظروف الحياة، وأن تُؤدِّبهم صُروفها. والمعروف أن الشعب الإنجليزي ينحو هذا النحوَ في التربية؛ وقد أخذ عنهم هذه الطريقة كثيرٌ من الشعوب في العصر الحاضر. ومع ذلك فهذا الأسلوب في التربية والتأديب لا يُعتبر حديثًا، وإنما هو عَود إلى القديم؛ إذ المعروف أنَّ اليونان والرومان كانوا يُعنَون عنايةً كبيرة بالرياضة البدنية. وقد عُنِي العرب كذلك بالرياضة البدنية والفروسية كالسباحة وركوب الخيل ممَّا هو ثابت في وصايا الخلفاء والأُمراء لمُؤدبي أبنائهم. وجاء في كتاب (تهذيب الأخلاق) لابن مسكويه إشارة إلى تعليم الصبيان الرياضة حيث قال: «ويُعَوَّد الصبي المَشي والحركة والركوب والرياضة.» وقد نقل ابن مسكويه هذا الفصل الخاص بتأديب الأحداث عن «بروسن»، وهي رسالة معروفة عند العرب، ذكرَها الغزالي في كُتبه. ولكن عناية القابسي اتجهت إلى التربية في الكُتَّاب، لا إلى التربية عمومًا في الكُتَّاب وفي خارج الكُتَّاب. ولا ننسى أن الذين كانوا يُزاولون الرياضة البدنية في العصور القديمة هم طبقة النبلاء الذين يَصطفُون لأبنائهم المُؤدِّبين والمُربِّين، ولهم من فراغ الوقت وسَعة العيش ما يُيسر لهم توجيه أبنائهم على ما يشتهون. على حين أن القابسي وصف طريقة تأديب أبناء الشعب، وأغلبهم من العامة الذين لا يستطيعون أن يتفرغوا لتربية أطفالهم بطريق الرياضة البدنية. وسواء أكان الأطفال من أبناء النبلاء أم من أبناء الدهماء. فهل نأخذهم بالشِّدة أم باللين، وهل نُعاقبهم بالتخويف أم ننصرف عن هذا الطريق؟ وجاء في وصية سحنون الفقيه لمُعلم ابنه: «لا تؤدِّبه إلا بالمدح ولطيف الكلام، وليس هو ممَّن يُؤدَّب بالضرب والتعنيف.» فنحن نرى أن المُربِّين في الإسلام كرهوا التشديد على الصبيان، ونصحوا بالرفق واللين. وقد وقف القابسي بالسؤال الذي أجاب عنه ابن خلدون وسحنون، وأجاب عنه بمِثل ما أجابوا فقال: «فقَولُك هل يُستحبُّ للمُعلم التشديد على الصبيان أو ترى أن يرفق بهم … فهو يسُوسُهم في كل ذلك بما ينفعهم، ولا يُخرجه ذلك من حُسن رفقه بهم، ولا من رحمته إيَّاهم، فإنما هو لهم عِوَض عن آبائهم.» ٥٤-أ. وقد فصَّلنا الكلام عن الرفق والعفو السابقَين على العقاب فلا نعود إليه. أما الطريقة العملية في سياسة الصبيان التي يصحبها الرفق، البعيدة عن الشدة، فهي الثناء على أفعالهم المحمودة، وذمُّ أعمالهم المكروهة. وجميع المُربِّين في الإسلام يتبعون هذه القاعدة. كتب شمس الدين الإنباني — وهو من المُتأخِّرين — في سياسة الصبيان ما يأتي: «ثُم مهما ظهر منه خلق جميل، وفعل محمود، فينبغي أن يُكرَم عليه، ويُجازى عليه بما يفرَح به ويُمدح به بين الناس. فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرةً واحدة، فينبغي أن يُتغافَل عنه ولا يُهتك سترُه؛ فإن إظهار ذلك عليه ربما يُفيده جسارة حتى لا يُبالي بالمُكاشفة. فعند ذلك إن عاد ثانيًا ينبغي أن يُعاقِبه سرًّا، ويعظم الأمر فيه، ويقول له إيَّاك أن تعود بعد ذلك لِمِثل هذا فتفتضح بين الناس. ولا يُكثر عليه المَلامة في كل وقتٍ فإنه يُهوِّن عليه سماع الملامة وركوب القبائح. وهذا ما نصح به القابسي إذ لفت نظر المُعلم إلى أن يغبط الصبي بإحسانه إذا أحسن في غير انبساط إليه، ولا مُنافرة له، ليعرِف وجه الحُسن من القُبح، وإذا أخطأ الصبي أخبره بهذا الخطأ، ثم «يُقبحه عندَه، ويتواعده بشدَّة العقوبة عليه إن هو عاوده ليتدرَّج على مُجانبة الخطأ.» ٥٨-ب. أما إذا نبَّه الصبي مرةً بعد مرة، ولم يُنتج التنبيه فائدة، فعلى المُعلم أن يلجأ إلى العذل والتقريع بالكلام من غير شتم. والعذل والتقريع بالكلام من العقوبات التي ترمي إلى استغلال الخوف الأدبي ليحفظ المرء كرامته بين أفراد المجتمع. والدافع إلى حفظ الكرامة دافع فِطري، فطِن إليه الأقدمون، فكتبوا عنه إجمالًا كما رأينا، وفصَّله المُحدثون تفصيلًا طويلًا، وكتب فيه زعيم من هؤلاء المُحدثين هو عالم التحليل النفساني «أدلر» الذي يَعتبِر أن المحرك لأعمال الإنسان منذ أن يُولد طفلًا إلى أن يشبَّ رجلًا؛ أي خلال حياته كلها، هو النزعة إلى السيطرة والتطلُّع إلى السلطان، ويُقابل ذلك، إذا فشل المرء في تحقيق ما يتطلع إليه، الشعور بالضعة والقلة والمذلَّة والصَّغار. وميزان ذلك كله المجتمع الذي يعيش فيه الطفل، فإذا تسنَّى له أن يُحقق مَطمعه من الشوق إلى التسلُّط والسيطرة رضِيَت نفسه وامتلأت بالغبطة والسعادة، وإذا صدمته قوى غيره من الأطفال والكبار الذين يحتكُّ بهم كوالدَيه ومُعلميه، وفشل في تحقيق مطعمه هبط تحت مستوى المجتمع. فهذان اتجاهان مُتقابلان أحدهما إلى فوق والآخر إلى تحت، والارتفاع فوق هامات المجتمع هو التسلُّط والسيطرة، والانخفاض تحت أقدام الناس هو الضعة والصَّغار. والعذل والتهديد والتقريع من العقوبات التي تُؤدي إلى هبوط مركز الطفل، وهي تُثير في نفسه الخوف من هذا الضياع، وتهيب به أن يتجنَّب ما يدعو إلى تحقيق إخافته وإيلامه. وهذه الوسيلة الأولى من وسائل العقاب تجمع بين الخوف والرجاء، وتُنير أمام الصبي طريق الكرامة والاعتزاز والسلطان. فهو إذا أحسن لقِي الجزاء بالإحسان، وإذا أساء أدَّبه المُعلم بالتعنيف والتشهير. ولا تقبل الطبائع البشرية أن تنزل درجتها في المجتمع وهي راضية، وعندئذٍ يجري الطفل وراء ما يُحقق له شَوقه إلى السلطان، وذلك بالامتناع عمَّا يُسيء، والابتعاد عما يضر، والإقبال على أداء ما هو مطلوب منه حتى إذا خالَف هواه، فيتم تهذيب الطفل بأيسر الوسائل، وهذه هي أفضل الرياضات المؤدية إلى الإصلاح. إذا لم تُفلح العقوبة السابقة وهي الإخافة الأدبية والتهديد والعذل والنصح والتقريع، لجأ المُعلم إلى نوعٍ أعنف وأقوى من هذه العقوبات. هذه العقوبة الجديدة القوية ليست مُصلِحة فحسب، وإنما هي عقوبة رادِعة زاجرة، لأنها تترُك ألمًا مُباشرًا في نفس المُذنب فيرتدِع عن ارتكاب الذنب. هذه العقوبة تكون عادةً بدنية. وفي الإسلام ألوان كثيرة من العقوبات البدنية تُناسب شتَّى الجرائم، فجزاءُ القتل القتلُ، وجزاء السرقة قطع اليد، وحدُّ شارب الخمر الجَلد. فمبدأ العقوبة البدَنية مُقرَّر بنصٍّ من القرآن. لهذا لا يتنازع الفقهاء في بحث هذا الأصل، وإنما يُطبِّقونه بما يُلائم الأحوال والظروف؛ فلا نستطيع أن نُلغي القتل في القصاص، أو قطع اليدِ في السرقة، وإلا اعتُبر هذا تهاونًا بل خروجًا في تنفيذ ما أمر به الشرع. وإذا كنَّا الآن في البيئات الإسلامية — ما عدا الأقطار الحجازية — لا نطبق عقوبة قطع اليد في السرقة؛ فذلك لأنَّ الشريعة الإسلامية غير سارية، وحلَّ محلها القانون الأهلي. والحالة في عقاب الصبيان لا تصِل بطبيعة الحال إلى حدِّ القتل وقطع اليد؛ لأن الصبيان لا يزالون قاصِرين غير مُكلفين، والعقوبة التي تُوقَّع عليهم هي الضرب ضربًا غير مُبرِّح لمَصلحتهم وسياستهم ورياضتهم. وقد جاء الأمر بضربِهم صريحًا في المأثور عن النبي، وكما ذكر القابسي، أنه ينبغي أنْ يأمُرَهم بالصلاة إذا كانوا بني سبع، ويضربهم عليها إذا كانوا بني عشر. هذا يَدلُّنا على أن الطفل قبل سنِّ عشر سنوات لا يجوز ضربُه لصغر سِنه وما يتْبع ذلك من انعدام مسئوليته. والأصل في ضرب الصبيان في الدِّين لحَملِهم على أداء فريضة هي رُكن من أركان الإسلام وهي الصلاة؛ ليأنس إليها الصبيان ويتطبَّعوا بها وتنزل منهم منزلة العادة. وإذا كان الفُقهاء قد أجازوا الضرب في حالة ترك الصلاة، بل أُمِروا بالضرب، فقد أُمِروا بالضرب أيضًا في جميع الحالات التي يحتاج الوالد أو المُعلم إليها في تأديب الصبيان، وهي عدم حِفظ القرآن، واللَّعِب والأذى، والهرَب من الكُتَّاب، وما إلى ذلك من أنواع الذنوب الخُلقية والمدرسية التي سبق أن ذكرناها تفصيلًا. ولم يكن الفقهاء في حاجةٍ إلى التفكير؛ هل الضرب مشروع أو غير مشروع، وهل هذه العقوبة البدنية مما يصحُّ أن يوقعها أولياء الأمور على من يستحقونها أم لا؟ ذلك أن الله في كتابه العزيز جعل الزوج يُعاقِب زوجته بعد الوعظ والهجر في المضاجع بالضرب. فالضرب مشروع بالنسبة للرجال والنساء بنصٍّ من الدين. وقد أجازه مالك كما رأينا بالنسبة للصبيان. سُئل القابسي هل يُؤدِّب الرجل امرأته؟ فأجاب: إن أدَبَه إيَّاها مأخوذ من كتاب الله، ثم أورد الآية: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ (النساء: ٣٤). ذلك أن القابسي فقيه قبل أن يكون مُربِّيًا. وهو يستمدُّ مبادئ التربية من أصول الفقه، ومن مَعين الدين، ومن كلام الله الذي يقيس عليه المسائل المُختلفة التي تعرِض له. فالزَّوج يؤدِّب الزوجة، والوالد يؤدِّب الولد، والمُعلم يؤدِّب الصبي. والزوج والوالد والمُعلم مأمورون بالتأديب؛ لأن مصلحة الزوجة والولد والصبي في عُنقهم، وهم القوَّامون عليهم. والغرَض مِن التأديب في الأحوال الثلاث واحد، وهو المصلحة. فالزوج يؤدِّب زوجته: «كأدب المُعلم لصبيانه سالمًا من العطب والحميَّة؛ لأنه إنما يؤدِّبها لمصلحتها له ولنفسها.» ٩٣-ب. على أنَّ القابسي وغيره من الفقهاء قرَّروا الضرب عقوبة، ثم أحاطوا هذه العقوبة بسياجٍ من الشروط، حتى لا يخرج الضرب من الزجر والإصلاح إلى التشفِّي والانتقام. ألا يُوقِّع المُعلم الضرب إلا على ذنب. أن يُوقِّع المُعلم ضرب «بقدر الاستئهال الواجب في ذلك الجرم.» أن يكون الضرب من واحدةٍ إلى ثلاث، ويُستأذَن القائم بأمر الصبي في الزيادة إلى عشر ضربات. أن يُزاد على العشر ضربات إذا كان الصبيُّ «يُناهز الاحتلام، سيئ الرعية، غليظ الخُلق، لا يُريعه وقوع عشر ضربات عليه.» أن يقوم المُعلم بضرب الصبيان بنفسه، ولا يترك هذا الأمر لأحدٍ من الصبيان «الذين تجري بينهم الحميَّة والمُنازعة.» أن صفة الضرب ما يؤلِم ولا يتعدَّى الألم إلى التأثير المُشنِّع أو الوَهَن المُضر. أنَّ مكان الضرب في الرِّجْلين «فهو آمن وأحمَلُ للألم في سلامة.» وليتجنَّب رأس الصبي أو وجهه، إذ قد يُوهَن الدماغ أو تُطرَف العين. أن آلة الضرب هي الدَّرَّة أو الفلقة، «وينبغي أن يكون عُود الدَّرَّة رطْبًا مأمونًا.» فهذه الشروط كلها تُحيط الضرب بسياجٍ من الأمن حتى لا يَحدث للصبي ضرر، ولا يخرج الضرب عن معنى التأديب الموضوع له. وفي هذه الشروط المُقيِّدة للضرب مُراعاةٌ لمصلحة الصبي إلى أقصى الحدود، واقتصاد شديد في هذه العقوبة البدَنية المَرذولة. فالمُعلم لا يلجأ إلى الضرب إلا بعد أن يستنفِد جميع وسائل الوعظ والتنبيه والتهديد والتخويف. فإذا استحقَّ الصبي الضرب بعد ذلك كله فلا بأس من الضرب. وإذا زاد على ثلاث ضربات فلا بدَّ من استئذان ولي أمر الصبي. هذه هي العدالة، ولكنها إلى الرِّفق أمْيَل منها إلى الشدة. ويُلاحَظ في هذه العقوبة التدرُّج من الرفق إلى الشدة. فقد أُحيط الضرب بسياجٍ من القيود تمنع أذى الصبي، ولا تُوقِع به إلا الألَم المقصود من التأديب. هذا كله يُبين لنا أن الضرب لم يكن يُوقَّع على جميع الصبيان، وإنما على مَنْ يستحقُّه منهم. وهؤلاء هم الذين لا تُجدي معهم وسائل التأديب الخُلقية، وألوان الوعظ والإرشاد. عقوبة الضرب التي ذكرناها عن القابسي لا تختلف في شيءٍ عند غيره من المُفكرين في الإسلام، لا قبل زمانه، ولا بعد عصرِه. فجميع المُربين في الإسلام يُقرُّون الضرب كما قرَّره القابسي، ويُحيطونه بنفس القيود التي تُخفِّف من وطأته. ولا غرابة في هذا فجميعهم — وهم المُربُّون الفقهاء فقط — ينهلون من نبعٍ واحد هو الحديث الوارد في ضرب الأولاد على الصلاة. وقد أراد ابن خلدون أن يتحرر من مبدأ الضرب، فعاب الشدة على المُتعلمين كما رأينا، ولكنه عاد في آخر الفصل الذي عقدَه فأجاز الضرب حيث نقل عن محمد بن أبي زيد في كتابه الذي ألفه في حُكم المُعلمين والمتعلمين: «لا ينبغي لمؤدِّب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئًا … ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدَّم به الرشيد لمُعلم ولده الأمين … وقوِّمه ما استطعت بالقُرب والمُلايَنة، فإنْ أباها فعليك بالشدة والغلظة.» ونذكر ما نصَّ عليه أحد الفقهاء وهو شمس الدين الإنبابي في وصف الضرب لترى معي أن الصورة لم تتغير عند المتأخرين عما كانت عليه عند المتقدمين. قال في كيفية ضرب الصبي: «أن يكون مُفرَّقًا لا مجموعًا في محل واحد. وأن يكون في غير وجهٍ ومقتل، وأن يكون بين الضربتَين زمن يَخفُّ به ألم الأولى. وأن يرفع الضارب ذراعه لينقل السوط لا عضده حتى يُرى بياض إبطه، فلا يرفعه لئلَّا يعظُم ألمه، ولا يضعه عليه وضعًا لا يتألم به.» ويجب في السوط أن يكون مُعتدل الحجم، فيكون بين القضيب والعصا؛ وأن يكون معتدل الرطوبة، فلا يكون رطبًا يشق الجلد لثقله، ولا شديد اليبوسة فلا يؤلِم لخفته. ولا يتعيَّن لذلك نوع بل يجوز بسوط وهي سيور تُلوى، وبِعُود، وخشبة، ونعل، وطرف ثوب بعد فتلِه حتى يشتد.» والجديد في هذا الكلام هو في بعض التفاصيل، وأما مبدأ الضرب وعدد الضربات فهو ثابت منذ زمن القابسي بل وقبل زمنه. وهنا نسمع كلامًا جديدًا يختلف عما درجنا على سماعه من القابسي، الذي يرى على العكس التدرُّج بالضرب من الرفق إلى الشدة، على حين أن ابن سينا يريد أن يبدأ بالشدة ليقوى الأثر. وبيان أثر الضرب في لغة علم النفس الحديث أن ضربة العصا تؤلِم الصبي، فتؤدي إلى امتناعه عما يفعل حتى لا يقع عليه الضرب مرةً ثانية. والإنسان بطبيعته مفطور على الإقبال على ما يسرُّه والابتعاد عما يؤلِمه. والذاكرة تلعَب دورًا مُهمًّا إذ يستعيد الصبي سبب أوجاعه، ويستحضر في ذاكرته الموقف الذي ضرب فيه، فيعمل على إبعاد كل ذلك، وبهذا يستقيم، وبهذا تؤثر التربية أثرَها، ويتمُّ التدريب المنشود في عالم الصبيان وفي عالم الحيوان كما هو مُعرَّف، وكما ذكر الغزالي. أما المُبالغة في الضرب فغير محمودة لأنها تؤدي إلى البلادة، وانعدام الألم الذي به يتم الانصراف عن الأفعال القبيحة؛ ذلك أن الزيادة في الضرب لا تتناسَب تناسُبًا رياضيًّا مع الزيادة في الألم كما هو معروف في علم النفس. وحقيقة الأمر أن الضرب المُبالغ فيه لا ينشأ إلا إذا خرج المُعلم عن طوره، وأراد الانتقام والتشفِّي، وذلك في الأحوال التي يتملكه فيها الغضب. وقد نهى القابسي كما نهى غيره من الفقهاء أن يكون الضرب للانتقام. وعن القابسي أن الرسول عليه السلام قد نهى أن يقضي القاضي وهو غضبان. فإذا كان الأمر كذلك بين القاضي والمُذنبين في حالة الغضب فالأمر أوجب لابتعاد المُعلم في حالة الغضب عن ضرب الصبيان، وهم الأحداث الصغار الذين لم يستكملوا العقل والحكمة والتجربة. من هنا يتبيَّن أن الضرب لمنفعة الصبي، وأن يكون فيه من الرفق ما يؤدي إلى التأديب ولا يتعدَّاه إلى غير ذلك، فيتم الزجر المطلوب من العقاب وينتهي الأمر بعد ذلك إلى الصلاح. من أغراض العقوبة في الإسلام عِظة الغير، وقيل في المثَل السائر: «السعيد من اتعظ بغيره.» ومعنى ذلك أن الضرب الذي يوقع على الصبي، يكون عِظة وعبرة لغيره من الصبيان، إلى جانب ما في عقوبة الضرب من زجرٍ للصبي المضروب. والإسلام يُقرر هذا المبدأ في العقوبة حيث قال تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (النور: ٢). والغرض من هذه المشاهدة مزدوج؛ هو التشهير بالمذنب من جهة، وضرب المثَل للغير من جهة أخرى. أما الأثر الذي يلحق المُجرم حين يُعَذَّب أمام طائفة من الناس فهو الفضيحة بينهم. وسبق أن ذكرنا أن حب التسلط والسيطرة فطرة في الإنسان، ولا شك أن العقاب الذي يقع بالمرء في مواجهة غيره، يذهب بمنزلته ويُسقِط من قدره. والمرء يُحب الاحتفاظ بسلطانه، وتأكيد احترامه. أما المشاهدون لهذه العقوبة، فالتأثير فيهم لا يقل عن الأثر الذي يلحق بالمذنب. ذلك أن الألم ينتقل إلى الناس كالعدوى بدافع المشاركة الوجدانية أو التعاطف، وهو من النزعات الفطرية في الإنسان. ويلعب التصور والخيال دورًا كبيرًا في هذه المسألة. ذلك أن مُشاهِد العذاب يتصوَّر في خياله ما ينزل به إذا كان هو الواقع تحت العذاب. فهو يتألم كما لو كان التأثير حقيقيًّا لا وهميًّا، وهو يخشى العقاب ويُرهبه خشية المذنب، ورهبة المعاقب. لم ينصَّ القابسي على هذا النوع من العقوبة، وهي عقوبة الوعظ والعبرة، ولم يتكلم عن أثرها في الصبيان، ولكنه في الوقت نفسه لم ينصح بعقاب الصبيان كل واحدٍ على حدة. على العكس من ذلك نجد أن في مناسبات كثيرة يحث المعلم على عقاب الصبيان جملةً، ليتم تأديبهم جميعًا. ذلك أن سلوك المعلم مع الصبيان في الكُتَّاب يحمل روح التأديب. فالعبوس نوع من العقاب اليسير الذي تكلم عنه القابسي؛ والعبوس مظهر من مظاهر الغضب، وعنوان الأمر والشدة، وهذا المظهر يسبق عادةً العزم على الضرب والاعتداء. ويتأثر الصبيان بهذا المظهر، فيتجنبون ما يُغضب المعلم خشية ما يعقب العبوس من ضرب. لهذا يخضع الصبيان وينكمِشون عند عبوس المعلم. قال القابسي: «فكونه عبوسًا أبدًا، من الفظاظة المُمقوتة ويستأنس بها الصبيان.» ٥٤-ب. فالمعلم يعبس لصبيٍ واحد لأنه ارتكب جرمًا يستأهل هذا اللون من العقاب. ولكن باقي الصبيان يشهدون دون شك هذا المظهر ويتأثرون به عن طريق العظة والعبرة. والقابسي يخشى إذا أدام المعلم العبوس أن يستأنس الصبيان بهذا السلوك فلا يتأثرون منه. والأمر كذلك في جميع أنواع العقاب، فالمبالغة في التهديد أو العذل أو الضرب يعتادها الصبيان فلا تفيد الأثر المطلوب في التأديب. ثم عقوبة التقريع بالكلام من العقوبات التي لا تؤثر أثرها إلا إذا وقعها المعلم على الصبي في مواجهة غيره من الصبيان. ذلك أن الغرَض من التقريع إذلال الصبي، وإسقاط منزلته، واحتقار شأنه. ولا يُذَل الصبي إلا بالنسبة إلى غيره من الرفقاء، ولا تسقط منزلته إلا بالإضافة إلى غيره من الزملاء. واحتقار شأنه المقصود منه خفض منزلته عن مستوى أقرانه لا مستوى مُعلمه، حيث كانت سلطة المُعلم وقدره فوق مُرتقى الصبي بطبيعة الحال. وفي هذا التقريع عظة لجميع الصبيان الحاضرين في الكُتَّاب المُشاهِدين لهذا التعريض، فهم يخشون أن يقع بهم مثل ما يقع بِمَنْ يُوجَّه إليه التشهير. إلى جانب ذلك نجد القابسي يلجأ إلى استشارة والد الصبي إذا استحق العقاب زيادة عن ثلاث ضربات. وإذا بلغ الأمر حدَّ إخبار آباء الصبيان واستشارتهم، فإن المسألة لن يحوطها الكتمان، وإنما تخرج إلى العلانية فيعلَم بها جميع الصبيان. وفي هذا عظة لهم لأنهم يخشون عقاب الآباء أكثر من خشيتهم عقاب المعلم. واستئذان آباء الصبيان في العقاب يحمل فائدة تهذيبية كبيرة. فهو دليل على التعاون بين البيت والمدرسة، وبين الوالد والمُعلم؛ لأن كليهما يقول بتأديب الصبي، ويرمي إلى رياضته وتهذيبه. والمُعلم — كما يقول القابسي — في منزلة الوالد. ولا يخفى أن سلطان الوالد على ولده أقوى وأشد من سلطان المعلم على الصبي؛ لأن الوالد هو الذي يقوم بالنفقة على ابنه، وهو الذي يتعهَّده بالتربية منذ الصغر حتى يبلغ السن التي يذهب فيها إلى الكُتَّاب. وهو الذي يرعاه في الصباح الباكر قبل الانصراف إلى العلم، كما يرعاه مع الضحى حين أوْبته من الكُتَّاب. فالوالد يُلازم ابنه ملازمةً تجعل الابن يشعر بحاجته الدائمة في معاشه وفي منزلته الاجتماعية. لذلك كان سلطان الأب طبيعيًّا على ابنه، ويتبع ذلك خشية الابن من سطوة أبيه عليه، وخوفه من غضبه وعقابه. فالصبي يخاف أن يعلَم والده بما يرتكب من ذنوب في الكُتَّاب، ولذلك يحاول جهده تجنُّب ارتكاب هذه الذنوب. ومما يدل على أن القابسي لا يرى بالعقوبة العلانية بأسًا، أنه يرخص للمُعلم أن يعهد إلى أحد الصبيان بالضرب إنْ أَمِنَ المعلم ألا يتجاوز الصبي في ضربه الحدود الموضوعة، وكان للمُعلم عُذر في تخلفه عن الضرب. على أن القابسي نقل عن سحنون ووافقه في ذلك، أن الأصل هو قيام المعلم بنفسه بتوقيع العقوبة على الصبيان. ثم عاد القابسي فذكر عن سحنون إباحة تأديب الصبيان بعضهم بعضًا. ونحن نُحبذ رأي القابسي الذي بدأ به، وهو قصر توقيع العقاب بواسطة المُعلم وحده، والتنبيه على عدم إباحته للصبيان الذين: «تجري بينهم الحميَّة والمنازعة، فقد يتجاوز الصبي المُطبَّق فيما يؤلم المضروب.» ٥٦-ب. ولا ندري لماذا عاد القابسي فأباح العقاب لأحد الصبيان بعد ذِكر هذه الأسباب الوجيهة المانعة لولاية الصبي الضرب مما يخالف مبادئ التربية. وعندنا أن هذه المسألة كانت تجري على عُرف الناس في الكتاتيب، فأجازها سحنون كما أجازها القابسي مع التقييد والحيطة. هذه خُلاصة ما ذكره القابسي في العقاب، متمشيًا مع روح الإسلام في مبادئه وأصوله، حيث يبدأ بالرفق وينتهي بالشدة، ويضع الأمور موضعها فيُقرر العقوبة الملائمة للذنب، ويأخذ الصبيان بالشدة في رفق، وينصح بالحزم في غير قسوة، مع مراعاة الروح الإنساني وعاطفة الرحمة. وغرضه من العقاب الإصلاح والزجر والوعظ لا التشفي والانتقام. وإننا لنرى روح العدل مُمتزجة بالشفقة تطلُّ من وراء هذه المبادئ التي قررها في التهذيب والتأديب.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/40635716/
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
أحمد فؤاد الأهواني
«نحن في حاجةٍ إلى القديمِ والجديدِ معًا؛ لأننا لا نستطيع قَطْع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولغته، لا يزال دِيننا الإسلام، وكِتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجةٍ اليومَ إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم، ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادُنا منذ ألف عام يُعلِّمونهما؛ فقد يُفيدنا ذلك في موقعنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابةَ والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي موضع تفكير علماء التربية.» في القرون الإسلامية الأولى بلغت الحضارة العربية أوْج عظمتها، وانتشرت لأقاصي الشرق والغرب، حيث انتقلت إلى أوروبا التي كانت تموج في بحرٍ مُظلم جرَّاء التدهور والانحلال. وهذه الحضارة العظيمة تأسَّست على العِلم، ولا عِلم بغير تعليمٍ وتربية. ولأجل التعرُّف على أحوال التعليم في تلك العصور الزاهية، يأتينا هذا الكتاب ﻟ «أحمد فؤاد الأهواني»، حيث يُقدِّم فيه دراسةً وافية عن حياة «أبو الحسن القابسي» الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وكِتابه البالغ الأهمية؛ إذ قام «القابسي» فيه بمُعالجةٍ تفصيلية ودقيقة لكل ما تعلَّق بشئون التعليم في عصره، وخصوصًا تعليم الصبيان، وكذلك حل مشكلات التعليم. وقد أُلحِق بهذا الكتاب رسالة «ابن سحنون» المُعنونة ﺑ «آداب المُعلمين»، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث الهجري ولا يعرفها سوى القليل، وتُعَد من الرسائل النادرة عن التربية.
https://www.hindawi.org/books/40635716/8/
المناهج وطرق التعليم
إذا شئنا أن نعرف العلة التي من أجلها وضع القابسي منهج التعليم للصبيان في الكتاتيب أو أقرَّه على النحو المذكور في رسالته، فينبغي أن ننظر إلى حالة المجتمع في ذلك العصر، لنرى مبلغ حاجاته ومطالبه. وعندئذٍ يتبين لنا السرُّ الذي دفع المُربين في الإسلام إلى تعليم الصبيان علومًا مُعيَّنة، منها يتألف ما نُسميه المنهج الدراسي على الاصطلاح الحديث المعروف الآن. وقد يكون المنهج واقعيًّا، وقد يكون مثاليًّا، في الحالين يستمدُّ وجوده من المجتمع. فالمنهج الواقعي، وهو ما يُدرَّس بالفعل، يستقي كيانه من المجتمع القائم، بينما المنهج المثالي، وهو ما يُطالِب به المفكرون والمصلحون يلائم صورة المجتمع المثالية التي يتخيَّلها هؤلاء المُفكرون في مدنهم الفاضلة. ومنهج القابسي في التعليم واقعي كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فهو يصف ما كان مُتبعًا فعلًا في الكتاتيب الإسلامية في شمال أفريقيا. وهذا المنهج المتبع في عصره هو أثر البيئة الاجتماعية. والرأي عندنا أن التعليم إعداد للحياة الاجتماعية، ولا نُنكر أنه يأخُذ بيد الفرد في طريق التقدم، وبذلك يُهيئه في نهاية الأمر للحياة الاجتماعية. ولا نستطيع أن نفهم الخلاف في مناهج التعليم خلال العصور المُتعاقبة، وفي الأمم المختلفة التي تعيش في عصرٍ واحد، إلا نتيجة اختلاف البيئات جميعًا. فإذا قلَّبنا صفحات التاريخ وجدنا أن اليونان كانوا يُعنَون بتعليم الصبيان الرياضة البدنية بألوانها والموسيقى والأدب والقراءة والكتابة. وكانت عناية الإسبرطيين بالرياضة البدنية الشاقة شديدة، بينما اتجهت أنظار الأثينيين إلى الموسيقى والأدب. ومناهج التعليم في الدولة الرومانية كانت تُشبه إلى حدٍّ كبير ما عند اليونان؛ لأن الدولة الرومانية ورثت حضارة اليونان وثقافتها. هذه المناهج كانت تلائم البيئة الاجتماعية في ذلك العصر. وهي مناهج تلائم الطبقة الأرستقراطية، وتتفق مع انقسام الدولتين إلى طبقات فيها الأشراف والعامة. أما العامة فكانوا بعيدين عن التعليم لا يلحقهم نُوره، أما أبناء الأشراف فكانوا يُهيَّئون لهذه الحياة الخاصة بما فيها من لهو وترف وزينة ومتاع. ولم تكن هناك مدارس بالمعنى الصحيح، بل كان الغالب اتصال الطفل بمُعلم خاص. إبراز القيم الاجتماعية في شعور الفرد. حفز المواهب الفردية إلى النمو. وهذه الوظائف كلها ترمي إلى نتيجة واحدة هي إعداد الفرد للحياة الاجتماعية. فإذا ألقينا نظرةً سريعة على المنهج الذي وضعه القابسي لتعليم الصبيان، نجد أنه مُتأثر بالبيئة الاجتماعية للمسلمين في ذلك العصر، وأنه يُهيئ الصبيان للحياة الاجتماعية المُستقبلة، وذلك ببيان قيمة العلوم والواجب معرفتها إلى نظر الصبيان، وإبراز وجه أهميتها وضرورتها في عقولهم، ثم تنمية المواهب الفردية التي تلائم المطالب الاجتماعية. والبيئة الاجتماعية في عصر القابسي كانت بيئة دينية خالصة. لذلك نجد المنهج الدراسي يدور حول مِحور الدين، ويُهَيِّئُ الصبيان لهذه الحياة الدينية. وينقسم المنهج الذي ذكره القابسي إلى قِسمَين: إجباري واختياري. فالعلوم الإجبارية هي: القرآن، والصلاة، والدعاء، وبعض النحو والعربية والقراءة والكتابة. والعلوم الاختيارية هي: الحساب، وجميع النحو والعربية، والشِّعر، وأيام العرب وأخبارها. هذا المنهج المُتَّبع في القرن الرابع الهجري هو الذي كان مُتبعًا في القرن الثالث أيضًا كما جاء في كتاب محمد بن سحنون. ولا حاجة بنا إلى بيان أن المنهج على هذا النحو هو الذي كان مُتبعًا في الكتاتيب الإسلامية منذ نشأتها. وأنه ظلَّ مُتبعًا إلى عهدٍ قريب جدًّا في الكتاتيب في شتَّى الأقطار الإسلامية. بل تستطيع أن تجزم إذا وجدتَ كُتَّابًا في أي قُطر إسلامي أن ما يدرسه الصبيان في هذا الكُتَّاب لا يختلف اليوم عمَّا كان يُدرَّس منذ ألف عام. أما الخلاف الذي ذكره ابن خلدون في طريقة التعليم فهو خلاف في المظهر لا الجوهر. فبعض الأقطار كان يُقدِّم تعليم الخط على تعليم القرآن، والبعض الآخر كان يبدأ بتحفيظ القرآن، يصحبه تعليم الخط أو يتأخَّر عنه قليلًا. أما الجوهر الثابت الذي لم يلحقه التغيير منذ ظهور الكتاتيب حتى عصورٍ متأخرة، بل حتى العصر الحاضر، فهو تعليم القرآن والصلاة، وما يصحب ذلك من معرفة القراءة والكتابة وبعض النحو والعربية. ولا نزال في العصر الحاضر، في مصر وفي الأقطار العربية الأخرى، نشهد هذا اللون من التعليم في الكتاتيب. وقد سجَّل الدكتور طه حسين في كتابه (الأيام) صورةً واضحة لحياة الكُتَّاب في العصر الحاضر لا نعتقد أنها تختلف عن تلك التي كانت جاريةً في عصر القابسي. وسينتهي الأمر بالكتاتيب القديمة إلى الزوال عندما يُطبَّق التعليم الإلزامي عن طريق الدولة، فيزول آخر مظهرٍ من مظاهر القديم. هذا التحوُّل الجديد دليل على تغيُّر الحياة الاجتماعية، ودليل على مُسايرة الشرق للحضارة الحديثة، والتقدُّم العالمي السريع. والقرآن نصُّ المسلمين الثابت، وكتاب الله لا مُبدِّل لكلماته. وستبقى برامج تعليم الصبيان عند المسلمين ثابتة، ما دام المُسلمون مُتمسِّكين بدينهم وكتابهم، إلا إذا اكتفى الناس بقدرٍ يسير من الدين، حتى يفسح المجال لدرس العلوم الحديثة كما هو واقع الآن. أما القابسي فإنه لا يقبَل التهاون في تعليم القرآن، ويستعيذ بالله: «أن يتَّفق المُسلمون على ترك القيام به، ولو كان كذلك لكانت الهلكة المُبيرة، فأعوذ بالله من غضبه، ومن أن يُنتزَع كتابه من صدور المؤمنين.» ٣١-ب. هذه البيئة الدينية المُستغرقة في الشعور الديني قد تغيَّرت الآن حتى بلغت حدَّ التقابل في بعض الممالك الغربية، التي خلعت رداء الدين، وعادت بالمدارس إلى اللا دينية المُطلقة. وهذا الاتجاه الحديث يحمِل روح الثورة على التقاليد، فلا ندري أتُفلِح هذه الثورة فيُلغى الدين، أم تنتصِر المبادئ الروحية على الموجة المادية الطاغية فيعود الدين إلى مكانته. وإننا نسوق هذه المشاهدات والوقائع من الماضي البعيد إلى الحاضر القريب، لنُبيِّن أن مناهج التعليم تستمدُّ وجودها من التيارات الفكرية التي تسود المجتمع. وقد كانت البيئة الاجتماعية في عصر القابسي بيئةً دينية بعيدةً عن الروح المادي والنزعة الإلحادية، ولهذا ليس من الغريب أن يكون القرآن والصلاة وما يتَّصِل بالقرآن من علوم ضرورية لفَهمه، أول ما يتَّجه الناس إلى تعليمه لأبنائهم. والقابسي يؤيد هذه الطريقة ويُقرُّها ويُطالِب بدوام الاستمرار عليها. القرآن هو أول العلوم التي ينبغي أن يدرسها الصبيان، بل هو المحور الذي يدور عليه التعليم في الكتاتيب. ووجه الضرورة في تعليم القرآن عند القابسي، وعند غيره من الفقهاء، ترجع إلى أسباب كثيرة: القرآن كلام الله، وقد حثَّ الله العباد على تلاوته على غير آية، ذكر بعضها القابسي، مثل: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (فاطر: ٢٩). وهنا نرى الجمع بين تلاوة القرآن وإقامة الصلاة، والإحسان، وهي أهم واجبات المسلم. والقرآن مرجع المُسلمين في معرفة العبادات والمعاملات، ولا سبيل إلى معرفة الحدود الشرعية الصحيحة للديانة إلا بمعرفة الأصل الأول من أصول الدين، وهو القرآن. إلى جانب ذلك، فإن الصلاة، وهي رُكن مُهم من أركان الدين، لا تتمُّ إلا بقراءة شيء من القرآن فيها، فمعرفة القرآن ضرورية لأداء الصلاة المفروضة. وأقل جزءٍ من القرآن تصحُّ به الصلاة عند المالكية هو الفاتحة. وللقرآن فضائل كثيرة، وللنبي أحاديث تفيض بهذا الفضل، مثل: «خيرُكم من تعلَّم القرآن وعلَّمه.» وفي ذلك حثَّ على تعلُّمه وتعليمه. وقد أطال فقهاء المسلمين الذين كتبوا في التربية في ذكر فضائل القرآن، وألَّف بعضُهم كتبًا مُنفصلة ورسائل خاصة في هذا الموضوع. وقد جرت العادة أن يتعلَّم الصبيان جميع القرآن، ويُعرَف هذا بالختمة. على أنَّ ختْم القرآن لم يكن واجبًا، فقد يُكتفى بثلاثة أرباع أو ثلثي أو نصف أو ثلث أو ربع القرآن، حسب طاقة الصبي والظروف الخارجية الأخرى. ويشترط القابسي في تعليم القرآن: حُسن الترتيل، وجَودة القراءة، وحُسن الوقف، والأخذ عن مُقرئ حسَن؛ وهو ينصح بقراءة نافع. أما تعليم الصلاة فهو فرْض عَين على جميع المسلمين، كما ذكر الفقهاء الذين قسَّموا الفرْض قِسمَين: فرض عين وفرض كفاية. ولذلك قال القابسي: ينبغي للمُعلم أن يعلمهم الصلاة إذا كانوا بني سبع، ويضربهم عليها إذا كانوا بني عشر. ويلزَمُه أن يُعلِّمهم الوضوء للصلاة، وعدد ركوعها وسجودها، والقراءة فيها، والتكبير والإحرام، والسلام. والقابسي لا يكتفي بتعليم الصلاة المفروضة، وإنما يذكُر أنه: «ينبغي أن يُعلمهم سُنَن الصلاة حتى يُعلمهم دينهم، الذي هو تعبُّدهم الله عز وجل وسنة نبيهم.» ولا عُذر في التخلف عن الصلاة. وفي ذلك يقول الإنبابي: «وأن لا يُسامح (أي الصبي) في ترك الطهارة والصلاة ونحوهما.» ومن الأمور التي يرى القابسي وجوب تعليمها الدعاء: «ليرغبوا إلى الله عز وجل، ويُعرفهم عظمته وجلاله، ليَكبُروا على ذلك.» والصلاة مع أنها عبادة فيها ركوع وسجود لا تخلو من الدعاء، وقد جمع الله بين العبادة والدعاء في فاتحة الكتاب قائلًا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (الفاتحة: ٥). فالجمع بين وجوب تعليم الصلاة والدعاء والقرآن ليس غريبًا؛ لأن هذه الأمور الثلاثة تجمع بين الفكر والوجدان والعمل، وترمي إلى غرضٍ واحدٍ هو معرفة الله معرفة صحيحة كاملة، والإيمان به إيمانًا صادقًا، ولا يتمُّ ذلك إلا بالعبادة والحمد والشكر والتسبيح، والالتجاء إليه بطلَب الهدى والحرمة، وكشف المُصيبة والغمَّة. وحفظ القرآن يزيد في معرفة الإنسان لله، لِما جاء فيه من آياتٍ دالة على الوحدانية، دافعة إلى الإيمان الصحيح، وما فيه من وعدٍ ووعيد، وترغيب وترهيب، ووصفٍ للجنة والنار، وما فيهما من نعيمٍ وعذاب. وفي الأثر أن الرسول كان يقرأ في الصلاة سورًا طويلة بأكملها، كالبقرة وآل عمران والنساء؛ وعلى ذلك جرى الصحابة والتابعون. وقد كان القابسي أمينًا على هذه السنة فقرَّر أن القرآن في الصلاة خير من القرآن في غير صلاة. لهذا لم يكن من الغريب أن يسعى الناس إلى تحفيظ أبنائهم القرآن بأكملِه، تبرُّكًا به كما يقول ابن خلدون، وزيادة في القُرب من الله على رأي القابسي. على أن المعرفة الصحيحة للقرآن تستلزِم العِلم بالنحو لإعراب الكلمات إعرابًا صحيحًا، والعلم باللغة العربية لفهم معاني القرآن، والعلم بالهجاء والخط لكتابته والنطق به صحيحًا. وذكر القابسي عن ابن وهب: «أرأيتَ الرجل يتعلَّم العربية ليُقيم بها لسانه ويُصلح بها منطقه؟ قال: نعم فليتعلَّمها، فإن الرجل يقرأ الآية فيعيى بوجهها فيهلك.» ٤٦-أ. فالنحو والعربية والخط من «معاني التقوية على القرآن.» ٤٣-أ. وتعليمها واجب على المُعلم كما نقل القابسي عن ابن سحنون: «فإنه ينبغي أن يُعلمهم إعراب القرآن، ذلك لازم له، والشكل والهجاء والخط الحسن.» والاهتمام بحسن الخط كان عادة جارية في بلاد المغرب، وهو يدل على تذوق الجمال، والعناية بالكمال والإتقان. ولا ننسى أن المسلمين كرهوا بل حرَّموا تصوير ذي الروح لما فيه من تشبيهٍ بالوثنية، ولهذا السبب اتجه الروح الفني عندهم إلى الزخرفة الهندسية، والبراعة في رسم الخط على أشكالٍ مختلفة جميلة. والآيات القرآنية المسطورة على جدران المساجد شاهد على الإبداع في الفن. لهذا حلت العناية بحسن الخط في برامج الدراسة الإسلامية محل الرسم والتصوير عند غير المسلمين. من الطبيعي إذَنْ أن ينصَّ المنهج الإجباري على تعليم القرآن والصلاة والدعاء والكتابة والنحو وبعض العربية، فكلُّها ترمي إلى غايةٍ واحدة هي معرفة الدين والعبادات مما هو مفروض على المسلمين كافة. العلوم الاختيارية هي الحساب، والشِّعر، وأيام العرب وأخبارها، وجميع النحو والعربية. ومن الواضح أن هذه العلوم تختلف عن سابقتها في بُعدها عن الصفة الدينية؛ وإذا كان بعض النحو والعربية مما يجب درسُه، فإن هذا البعض ضروري لفَهم الدين. أما جميع النحو وجميع العربية، فممَّا يُعتبَر خروجًا على الغاية الدينية إلى غاية أخرى. ومن الطبيعي الاقتصار في المنهج على قدْرٍ من العلوم دون القدْر الآخر، واختيار علوم مُعينة وإهمال باقي العلوم، إذ لا يخفى أن الأمم التي تضرب في الحضارة وترتفع في المدنية، تتعدَّد عندها المعارف والصنائع، ولا يستطيع الفرد الواحد الإحاطة بها جميعًا. واختيار المنهج المُناسِب للطفل من بين هذا الحشد من المعرفة النظرية والعملية يتوقَّف على الغاية من التعليم، وعلى حاجة المجتمع، وعلى طبيعة الطفل. ولكن المبدأ المُسلَّم به عند جميع علماء التربية، هو الاقتصار في المنهج على بعض العلوم دون البعض الآخر. وأهمية العلوم مسألة اعتبارية، تتوقَّف على الغرَض المنشود والمَطالب الاجتماعية، ونوع الإعداد المطلوب. ولكن القابسي لا يريد أن يُعلِّم ملوكًا أو تجارًا، أو قادة حرب وساسة دول، إنما يريد أن يُعلم أبناء المسلمين لينشئوا على الإسلام، ولا يَعنيه ماذا يصيرون فيما بعد. فالمنهج الذي يذكره يخص جميع الصبيان في السن التي تسبق التخصص، سواء استكمل الصبي التعليم، أو انقطع عنه وتوجَّه إلى احتراف صناعة يكسب منها معاشه. وقد يتطرق إلى الذهن أن تعليم الحساب لا صِلة له بالدين. فعلماء التربية في العصر الحاضر ينصُّون على تعليم الحساب، إما لفائدته العملية في الحياة، وإما لقيمته في التدريب على التفكير الصحيح؛ لأن الرياضة علم العلاقات الضرورية المضبوطة. ولا ندري أأراد القابسي من تعليم الحساب المصلحة الدينية أم الاجتماعية أم كليهما معًا. وأكبر الظن أنه يرمي إلى نفع الحساب في كمال المعرفة الدينية الصحيحة على مذهب الفقهاء وهو في ذلك يقول: «ينبغي أن يُعلمهم (أي المُعلم) الحساب، وليس ذلك بلازِم له، إلا أنه يُشترط عليه.» ٤٤-أ. وهذا يؤيد وجهة نظرنا القائلة بأن الغرَض من تعليم الحساب عند القابسي هو المصلحة الدينية لا الاجتماعية. ولو كان الأمر غير ذلك لألزم تعليمه على الإطلاق، دون التعليق بشرط رضا الآباء. وتعليم الشِّعر موضع جدلٍ بين الفقهاء. وقد عَرَضَ القابسي هذا الجدال بين الأنصار والمُعارِضين، ثم رجَّح تعليمه على وجه الاختيار. فمالك وسحنون يأبَيان تعليم الشِّعر بالأجر إذا لم يكن القصد تعليم القرآن والكتابة. وابن حبيب لا يرى بتعليم الشِّعر بأسًا إلا أنه يكره من الشِّعر: «ما فيه ذكر الحميَّة والخنا أو قُبح الهجاء.» وقد اعتمد القابسي في تعليم الشِّعر على أحاديث للرسول: منها: «إنما الشِّعر كلام فحسَنُه حسِن وقبحه قبيح.» ومنها: «إن من الشِّعر لحكمة.» وقد شك القابسي في رواية الحديث الأول، ثم أثبت حديثًا ثالثًا لم يشك في نِسبته إلى النبي، وهو: «لَأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شِعرًا.» وقد فسَّر القابسي هذا الحديث بأن يكون الشِّعر غالبًا على الإنسان حتى يَصُدَّه عن ذكر الله والعلم والقرآن. ومن الفوائد التي يَجنيها مَنْ يحفظ شيئًا من الشِّعر أنه: «يُقيم لسانه ويفصحه ويأنس إليه في بعض الأوقات، ويستشهد به فيما يريد بيانه.» ٤٥-ب. وقد عابوا على العرب إهمال الفنون في مناهج التعليم، وها نحن نرى القابسي يطلُب تعليم الشِّعر، وهو لون من ألوان الفن. ولم يغِب عن نظر القابسي قيمة الشِّعر الفنية وأثرها في النفس الإنسانية. ذلك أن الإحساس بالجمال، وتذوُّق الفن، من عوامل الراحة النفسية، أو الأُنس على حدِّ قول القابسي. وقد رأينا هذه النزعة المتجهة نحو الفنون الجميلة بادية في العناية بحُسن الخط، ونحن نراها الآن في تعليم الشِّعر، وهو نوع من الأدب، وفرع من الفن. وقد دار مثل هذا الجدل في العصر الحاضر حول قيمة الفن في التعليم، وفي الحياة، وهل الأهم العلوم الطبيعية أو الأدبية أو الفنية، وأثر كل ذلك في تربية الأطفال. ولكن ميدان الفن هو الخيال لا الحقيقة. وجمال الآثار الفنية مُستمَد من إحساس الفنان لا من حقائق الأشياء. ولذَّة الفن ناشئة عن تأثيره في الخيال لا في الحواس والعقل. ويحرك الفن الخيال إلى العمل، والخيال أكثر العمليات النفسية مرونة وأقلُّها جمودًا. لهذا كان ميدان الفن بعيدًا عن عالم الحقيقة بينما عالم الأخلاق هو الحقيقة نفسها. وهنا ينتهي دوركهيم إلى هذه النتيجة وهي أن الفن والأدب لا يصلحان أساسًا للسلوك والعمل. وقد أشار القرآن إلى ابتعاد الشعر عن عالَم الحقيقة قائلًا: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (الشعراء: ٢٢٤–٢٢٦). وقديمًا وحَّد أفلاطون بين الحق والخير والجمال في المثال الأول. وقد كان الغرَض الأول الذي يرمي إليه القابسي هو تهيئة الأطفال إلى معرفة الخير أولًا وقبل كل شيء، وذلك عن طريق الفن. ولا بأس عنده بقدْرٍ من الفن الجميل إذا كان هذا القدر لا يتعارَض مع معرفة الخير والعمل به. ولهذا لم يقف القابسي في سبيل تعليم الشِّعر، بل نصح منه بمقدار. ومن العلوم الاختيارية التي لا يرى القابسي ما يمنع تعليمها: «أيام العرب وما أشبه ذلك من عِلم الرجال وذوي المروءات.» ٤٤-ب. هذه المادة تُعرف في المناهج الحديثة بعِلم التاريخ السياسي. وبعض علماء التربية يُقدِّمون علم التاريخ في الأهمية بالنسبة للطفل على العلوم الطبيعية؛ لأنه أكثر مساسًا بمشاعر الأطفال، وألصَقُ بخيالهم، وأنفع في المعرفة بالماضي وما له من صِلة وثيقة بالحاضر. والطفل جزء من الحياة يتحرك في العالم الخارجي المحيط به، وسلوكه في هذا العالم استجابة للمؤثرات الخارجية؛ وهذه الاستجابة نتيجة فهم العالم وإدراك الأشياء. والعالم الخارجي بالنسبة إلى الطفل هو عالم الأشياء وعالم الإنسان. ولا بدَّ لمن يعيش في هذه الحياة من إدراك الأشياء وحقائقها، ومعرفة الإنسان وطبائعه. روسو وسبنسر وغيرهما ممن يبدءون بتعليم الأطفال العلوم الطبيعية يجعلون تاريخ الإنسان في المحل الثاني. فدراسة التاريخ على أي الحالات من العلوم اللازمة لتثقيف الطفل. والقابسي يريد من تعليم التاريخ أن يكون مُحركًا لهِمَم الأطفال نحو أعمال البطولة، وباعثًا لهم على أفعال الخير. والغرَض من علم الرجال التشبُّه بالأبطال، والتشبُّه بالرجال من الكمال. والغاية من سِيَر ذوي المروءات القدوة في السبق إلى الخيرات. والمُحاكاة فطرة نفسية تدفع الأطفال إلى تقليد الأعمال من غير قصد أو شعور. وذكر الإنبابي «أن تعلم الطفل القرآن وأحاديث الأخبار وحكايات الأبرار وأحوالهم، لينغرِس في نفسه حُب الصالحين.» وهذا المؤلف يقصر فائدة التاريخ على ناحية واحدةٍ هي ناحية الصلاح والخير. وتعليم السِّيَر وحكايات الأبرار وأيام العرب وأخبارها، زيادة فضل على ما جاء في القرآن من قصص الأمم السالفة وأخبار الأولين، ففيه من تاريخ الغابرين الشيء الكثير. وقَصَص القرآن يرمي إلى غايةٍ دينية وخلقية، فالظلم والفساد مما يؤدي إلى الهلاك، والله هو الذي يصبُّ على المفسدين أسواط العذاب، إن ربك لبالمرصاد. إذا نظرنا إلى المنهج الذي وضعه القابسي في ضوء التربية الحديثة، أخذنا عليه أمرَين: الأول أنه يُغفل نفسية الطفل ومراعاة مراحل نموه، والثاني إهمال العلوم الطبيعية والرياضة البدنية. ولا يُعاب القابسي إذا كان قد أغفل اعتبار الحياة النفسية للأطفال، فهو عيب العصر كله في الشرق والغرب. ذلك أن عِلم النفس الحديث لم يتحرر من الفلسفة إلا في عصر متأخِّر جدًّا، فقد انصرف العلماء إلى البحث عن النفس لا عن مظاهرها، ولم يُعنَوا بتقييد الأحوال النفسية تقييدًا كاملًا صحيحًا يكون أساسًا لتفسير سلوك الإنسان. وإلى جانب ذلك أخطأ جميع الأقدمين في نظرهم إلى الأطفال نظرَهم إلى الكبار. ويرجع الفضل في تصحيح الموقف من الطفل، وبيان أن حياته النفسية تختلف عن حياة البالغين، إلى روسو في القرن الثامن عشر؛ ويُعتبر كتابه (إميل) نقطة التحول في التربية الحديثة. ومع ذلك فاحترام ميول الطفل ونزعاته عند وضع المنهج الدراسي، مما يصعُب تنفيذه. فالطفل إلى سن السادسة بل السابعة يميل إلى اللعب والحركة، فهل نترُكه في لهوِه الحر لا نعلمه القراءة والكتابة؟ ومَنْ مِنَ الأطفال يُحب التقيُّد أمام الألواح والأوراق ليخط الحروف ويُركب الكلمات؟ فالمجتمع يُريد من الطفل حين يكبُر أن يكون قد تعلَّم الكتابة حتى يفرغ إلى معرفة باقي العلوم التي اتسعت دائرتها إلى حدٍّ كبير مع تقدم الحضارة السريع. أما القول بتعليم الأطفال الكتابة والقراءة عن طريق اللعب والتشويق كما هو الحال في رياض الأطفال، فهو قول ينصبُّ على الطريقة لا على المنهج الدراسي. ومهما يكن من شيءٍ فالطفل لا يدرك، ولا يستطيع أن يعرف قيمة هذه العلوم المختلفة التي يُلقَّنها، حتى نقول إن قيمة الشيء هي التي تجتذبه إلى الإقبال عليه بالرغم من تعارضها مع ميوله. فهو إذَنْ يدرس العلوم المختلفة رغم أنفه. إننا نُقدِّم العلوم إلى الطفل كما نقدِّم إليه الدواء، فهو لا يُحب الدواء ولا يدرك نفعه في الشفاء، وقيمته في جلب الصحة والعافية، وإنما يُدرك شيئًا واحدًا هو أنه لا يميل إلى الدواء ولا يريد تناوله. ويصطنع الآباء الحيلة في تقديم الدواء، بدسِّه مع الحلوى، أو الوعد بعمل شيءٍ مما يميل إليه الطفل، أو إرغامه في آخر الأمر على شرب الدواء بالعنف. ورياض الأطفال كالحلوى من الدواء. فالطفل يريد شيئًا، والمجتمع يريد له شيئًا آخر. والمجتمع هو الذي ينتصِر آخِر الأمر، فيُهيئ للطفل ما ينبغي أن يتعلَّمه، والدليل على ذلك اختلاف المناهج باختلاف الأمم. وكانت إرادة المجتمع في عصر القابسي أن يتعلَّم الطفل القرآن وما يمتُّ إلى القرآن بصلة. وكم يفرح الأب عندما يختم ابنه القرآن، فيُقدِّم إلى مُعلم الكُتَّاب الهدايا جزاء الختمة، حتى لقد أصبح أجر الختمة واجبًا على الآباء. فالآباء أنفسهم (أو الشعب على الاصطلاح الحديث) كان يُطالب بتعليم القرآن، ولا يغتفِر التهاون في ذلك. وليس لنا أن نعجب من رأي ابن سينا فهو القائل في سيرة حياته: إنه ختم القرآن، وأتى على كثيرٍ من الأدب، وهو ابن عشر سنين. ولم تبدأ دراسة العلوم الطبيعية إلا من عصر النهضة. وقد درج الأقدمون على احتقار الصناعة لأنها مخصوصة بالعبيد، أما الأشراف فلا يليق بهم إلا الاشتغال بالأعمال العقلية. كانت الحال كذلك عند اليونان كما كانت عند العرب. ثم إن تجارب المعامل وهي الأساس في كشف العلوم الطبيعية كانت تحوطها الأسرار ويغمرها السحر والشعوذة، ويهاجمها الجمهور باعتبار أن أصحابها يشتغلون بالكيمياء مما يُرادف السحر في ذلك الزمان. لهذا انصرف العلماء عن البحوث التجريبية خشية التعرُّض لغضب الجمهور، واحتقار المجتمع، وامتهان الكرامة الشخصية. وظهر «بيكون» في القرن السابع عشر فشقَّ طريق التجريب أمام العلماء، ووصف طريقة الاستقراء، ونصح بالنظر في كتاب الطبيعة. ونادى روسو بنفس المبدأ وهو القراءة في كتاب الطبيعة المفتوح، لا في بطون الكتب المُحبَّرة على الأوراق. وهذه دعوى جديدة تُطالب أولًا بمعرفة الأشياء الخارجية المُحيطة بالإنسان أو عالم الطبيعة، وتُطالب ثانيًا أن تكون الطريقة لهذه المعرفة المشاهدة والاستقراء والتجريب. ثم استقرَّت المناهج الحديثة وعلى رأسها دراسة العلوم الطبيعية. هذا التحول في المناهج ناشئ عن التطور الذي لحق المجتمع، وأهم ما يمتاز به هذا التحوُّل الانصراف إلى عالم المادة، والنظر في سِفر الطبيعة، لتسخير القوى الكامنة في أرجاء الأرض لمصلحة الإنسان. ولم ينهَ القرآن عن النظر إلى الطبيعة، بل حث الإنسان على التأمُّل في المخلوقات في أكثر من آية، حتى يصِل الإنسان من معرفة أمور الطبيعة إلى عظمة الخالق ووجوده. ولكن المسلمين لشدة غيرتهم على الدين، وخوفهم من التحول عنه، وجدوا من السلامة الابتعاد عن البحث في الطبيعة حتى لا يصرفهم ذلك عن الإيمان والعبادة. فإذا كان القابسي لم يُوجِّه الاهتمام إلى العلوم الطبيعية بل أهملها الإهمال التام؛ فذلك لأن حِفظ القرآن وتعلُّم الكتابة والنحو والعربية يستغرق كل وقت الصبيان فلا يتَّسِع بعد ذلك لأي نوعٍ من الدراسة. يُضاف إلى ذلك أن الفقهاء كانوا ينظُرون بعين الرِّيبة إلى العلوم الطبيعية، والجمهور على هذا الرأي أيضًا. فإذا التمَسْنا العُذر في نقص المنهج من درس الطبيعة، فلا عُذر عن التخلُّف بالاهتمام بالرياضة البدنية. وإننا لنجد السلَف في صدر الإسلام يُعنَون بألوان الرياضة التي تطبَع الأطفال على الحركة وتَبعَث فيهم القوة والحياة والصحة؛ والنصائح كثيرة تدعو إلى الاهتمام بالرماية والسباحة وركوب الخيل. وإهمال مثل هذا التدريب في الكتاتيب يرجِع إلى أسباب: منها أن مُعلِّم الكُتَّاب فقيه تخصَّص في العلوم الدينية، ويعمل على تحفيظ الصبيان القرآن والكتابة وليست صناعته الرماية والسباحة. ولا يخفى أن الكُتَّاب كان مكانًا مُتواضعًا لا يزيد على حجرةٍ أو حانوت في داره، يجلس للتعليم فيه مُعلم واحد في الغالب. فلم تكن هناك مدرسة خاصة، ذات بناءٍ مما تمتاز به المدارس، وفيها فناء يلعب فيه الصبيان ويتَّسِع لهذه الحركات الرياضية المطلوب تعلُّمها. وكانت الغاية القصوى من طلَب العِلم معرفة الله، والتطبع على الدين القويم والأخلاق الفاضلة، فصرفت الغاية الدينية أنظار الفقهاء عن الغايات الدنيوية. وصحة الأبدان لازِمة على كل حال، ولكن الرياضة البدنية لا ترمي إلى صحة البدَن فحسْب، بل إلى قوته وجماله ورشاقته، وهذه الغايات ممَّا لا يدخل عند الفقهاء في حساب. أحوال الدراسة في الكتاتيب، واختيار الصبيان، وتوزيع المنهج على اليوم المدرسي وبطالة الصبيان، كل ذلك مُستمَد من الغاية من التعليم، وطبيعة المنهج، والحالة الاجتماعية. فالأسبوع الدراسي يبدأ في صباح السبت، وينتهي في عصر الخميس. وبذلك يكون يوم الجمعة بطولِه من أيام العطلة. «فدراسة الصبيان أحزابهم وعرضهم إيَّاها على مُعلميهم في عشي الأربعاء وغدو الخميس إلى وقت الكتابة. والتخايُر إلى قبل انقلابهم نصف النهار، ثم يعودون بعد صلاة الظهر إلى الكُتَّاب، والخيار إلى العصر، ثم ينصرفون إلى يوم السبت يُبكِّرون فيه إلى مُعلميهم.» ٦٠-ب. من هنا يتَّضِح أن القابسي كان يَعتبر الأسبوع وحدة تعليم، يُراقب فيها المُعلم أعمال الصبيان، ويقف عند آخر الأسبوع وقفةً قصيرة ليرى مَبلغ ما حصَّلوا. ويدرس الصبي خلال هذا الأسبوع القرآن والكتابة وسائر العلوم الأخرى المذكورة في المنهج. يدرس الصبيان القرآن من أول النهار في وقتٍ مُبكر حتى الضحى. يتعلَّمون الكتابة من الضُّحى إلى الظهر. ينصرف الصبيان إلى بيوتهم لتناوُل الغذاء ويعودون بعد صلاة الظهر. تُدرَّس بقية العلوم كالنحو والعربية والشِّعر وأيام العرب والحساب، من بعد الظهر إلى آخر النهار. فأول شيءٍ يبدأ الصبي بدراسته القرآن؛ لأنه أهم العلوم، وأكثرها قيمةً في المنهج، وهو المقصود من التعليم. وكانت العادة أن ينصرِف الصبيان إلى بيوتهم لتناول الغذاء. ذلك أن الكُتَّاب مكان مُتواضع لا يُشبه مدارس الدول الحديثة التي تقوم بالإنفاق على التعليم، وتنشئ أبنية مخصوصة للمدارس مجهزة بالمطاعم، وتُعنى بإطعام التلاميذ. والغالب أن الكتَّاب كان يقع قريبًا من بيوت الصبيان، حيث كانت المدن صغيرة الحجم لا تبلُغ من الاتساع ما هي عليه الآن. وقد أوصى القابسي المُعلمين بعدم حرمان الصبي الانصراف إلى بيته لتناول الطعام، مع التنبيه عليه بسرعة العودة. ونستطيع اعتبار فترة الظهر راحة من التعليم. وبطالة يوم الجمعة الغرَض منها راحة الصبيان؛ ويوم الجمعة مُعَظَّم عند المسلمين كما جرَتِ به العادة. وبطالة الأعياد تجري حسب العُرف أيضًا، فقد تكون يومًا واحدًا في عيد الفطر، وقد تبلُغ ثلاثة أيام في عيد الأضحى، وقد تصِل إلى خمسة. وكذلك الشأن في باقي الأعياد التي اصطلح الناس على البطالة فيها. ويُؤذن في بطالة الصبيان من أجل الختم يومًا أو بعض يوم، إجلالًا لهذا الحادث المبارك في تاريخ الصبي، حيث يُصبح بعده من حملة كتاب الله. والتربية الحديثة تهتمُّ بأوقات الراحة. ولكن هذه الأوقات ومُدتها وموضعها من اليوم المدرسي تستند إلى التجارب العلمية التي أُجرِيَت على التعب في علم النفس. وقد اقتصرت الكتاتيب على الذكور دون الإناث، وفي ذلك يقول سحنون: «أكرَهُ للمعلم أن يُعلم الجواري ويخلطهن مع الغلمان؛ لأن ذلك فساد لهنَّ.» ٥٧-أ. وهذه القضية قديمة وحديثة. وقد استقرَّ الرأي الآن في دول الغرب بعد البحث الطويل والمشاهدات الاجتماعية المُستندة إلى الواقع على الجمع بين الجنسين في رياض الأطفال والمدارس الابتدائية، ثم الفصل بينهما في مرحلة التعليم الثانوي. ويعود الاختلاط في الجامعة. ومرحلة التعليم الابتدائي تصِل إلى سِن الحادية عشرة أو الثانية عشرة أي قبل البلوغ، خصوصًا في دول الغرب التي تتأخَّر فيها سِن البلوغ لبرودة الجو والفصل بين الجنسين بعد هذه المرحلة، في العصر الحديث الذي بلغت فيه حُرية المرأة حدًّا لم تصِل إليه من قبل، يدل على ما يتمُّ بينهما من فسادٍ إذا تُركت الصِّلة بينهما مُطلقة من غير رقابة. وفي عصر القابسي كان بعض الصبيان يستمرُّون في الكُتَّاب إلى سِنِّ الاحتلام، ولهذا خُشي على الإناث الفساد. ولم يكن الخوف مقصورًا على إفساد الإناث مما دعا إلى إبعادهنَّ من الكُتَّاب، بل شمل الخوف الغلمان أيضًا، ولهذا نصَّ على الحذَر من إفساد الغلمان بعضهم بعضًا: «إذا كان فيهم من يُناهز الاحتلام.» ٥٧-أ، مما يُخشى معه الفساد. وقد أشار القابسي إلى الرذائل الجنسية إشارة خاطفة دون التعمُّق في وصف العلاج الواجب في مثل هذه الأحوال، تاركًا للمُعلم حرية التصرُّف بحكمته وطريقته الخاصة في مُعالجتها. على أنَّ النهي عن تعليم البنت في الكُتَّاب لا يعني أنها لا تتعلم. فقد ألزم القابسي من قبل تعليمها لضرورة معرفتها الدين والعبادات. وقد جرَت العادة على تعليم البنات داخل الدُّور، والنساء الكاتبات والشاعرات اللاتي نجد ذكرهنَّ في كتب الأدب أكبر دليل على انتشار التعليم بين النساء. فالعِلة في منع البنات عن الذهاب إلى الكتاتيب ترجع إلى الغيرة على الأخلاق وحفظ الدين. ومما يلفت النظر النص على عدم تعليم أبناء النصارى في الكتاتيب، وكذلك تعليم أبناء المسلمين في المدارس النصرانية. فقد كرِهَ مالك أن يطرح المسلم ولدَه في كُتَّاب النصارى، ووافقه في ذلك ابن وهب وسحنون وابن حبيب. سُئل مالك: «هل يُعلِّم المسلم النصراني؟ فقال: لا. وقال: لا أرى أن يُترك أحد من اليهود أو النصارى يُعلِّم المسلمين القرآن.» ٤٧-ب. وتعليل القابسي لذلك يرجع إلى الآية الكريمة: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (الواقعة: ٧٧–٧٩). فالكافر نجس، ولذلك ينهون أن يُعلموا الخط العربي والهجاء حتى لا يمسوا المصحف.» ٤٨-أ. هذه هي القاعدة الفقهية التي حكم بها مالك وأعلام مذهبه من بعده، وتبِعهم القابسي على هذا الرأي وهو تحريم تعليم النصارى في كتاتيب المسلمين، وتحريم تعليم أبناء المسلمين في كتاتيب النصارى. وليس لنا أن نَعجَب لهذَين الحُكمَين، إذا أنزلنا الروح الديني الذي كان مُسيطرًا على المجتمع في ذلك العصر منزلة الاعتبار. فقد كان الدين شديد السلطان على النفوس، والقرآن محترمًا احترامًا شديدًا. ونحن إذا رجعنا إلى المسلمين الأوائل نجد أن النبي هو الذي افتدى أسرى بدر بتعليم عشرة من أبناء المسلمين الكتابة، وهؤلاء الذين افتدوا أنفسهم بالتعليم من المشركين. وإذَنْ فالنبي نفسه لم يرَ بتعليم المشركين أبناء المسلمين بأسًا لحاجته إلى نشر الكتابة. ولمَّا استقرَّ الإسلام، ودخل الفُرس والروم تحت راية المُسلمين، لم يتحوَّلوا إلى الإسلام دفعةً واحدة. والمعروف أن كثيرًا من المُفكرين في صدر الإسلام أسلموا في الظاهر، وكانوا يحملون في باطن أنفسهم عقائدهم السالفة. وبعضهم ظلَّ على النصرانية أو اليهودية أو المجوسية؛ وهؤلاء عرفوا القرآن ومنهم من كان يحفظه، والمؤكد أنهم عرفوا الخط العربي واللغة العربية، خصوصًا عندما تمَّ تعريب الأعاجم في آخر الدولة الأموية. فممَّا لا شكَّ فيه أن المسلمين في القرن الأول والثاني كانوا يقومون بتعليم هؤلاء القوم القرآن والكتابة في سبيل الدعوة الإسلامية، التي لا يمكن أن تتمَّ إلا بالتعليم والتعلُّم. والظاهر أن الدعوة لنشر الإسلام ركدَت بعد القرن الثاني، واكتفى المسلمون بما وصلوا إليه من فتوحات، وما صحِبَها من انتشار الدين، ثم انعكفوا على تثبيت العقائد من الزيغ والزندقة، التي حاول اليهود على الخصوص أن يدسُّوها على المسلمين. لهذا وجد الفقهاء من السلامة أن يقفوا في وجه النصارى واليهود، وأن يُقيموا بينهم وبين الإسلام سدًّا منيعًا يحُول دون النَّيل منه بشرٍّ أو سوء، أو تغيير وتبديل، أو تحريف وتحويل. هذا الموقف الجديد يختلف عن موقف المسلمين في صدر الإسلام؛ فهو موقف دفاع لا موقف هجوم. ذلك أنه بعد أن اقتحم المسلمون الأوائل قلوب النصارى وغزوا عقائدهم، واجتذبوا عقولهم ونفوسهم إلى الإسلام، إذا بالمسلمين في القرن الثالث والرابع يقفون موقف الدفاع عن أنفسهم وأبنائهم من هجمات النصارى واليهود وطعناتهم المُسدَّدة إلى العقائد الإسلامية. واستمرَّت حالة المُسلمين في هذا الموقف الدفاعي العاجز حتى العصر الحاضر، إذ بدأ الأزهر في مصر — وهو قلب الإسلام النابض — يَنْفضُ عن نفسه غبار الضعف، ويزيل آثار الضعة والخوف، وأخذ يشق الطريق من جديد لينشر الإسلام في دول بعيدة أشدَّ البُعد عن مصر كاليابان، وأرسل البعوث الأزهرية إلى شتَّى الدول التي تحتاج إلى أنوار الدين مُنافسًا في ذلك المسيحية. ودار البحث في ترجمة معاني القرآن. وتُرجِم القرآن فعلًا إلى كثيرٍ من اللغات الأجنبية، وهي ترجمات موجودة بين أيدينا على الرغم من عدم اعتراف بعض المسلمين بها. ثم كان من أهم آثار النهضة الأوروبية الحديثة أن اهتمَّ الغربيون بدرس العلوم الإسلامية فظهر المُستشرقون، وألَّفوا الكُتب الحديثة في شتَّى المعارف الإسلامية؛ ومنهم مَنْ يختصُّ في علومٍ قرآنية صميمة كالقراءات والتفسير. وهؤلاء المستشرقون على الديانة النصرانية أو اليهودية؛ ومع ذلك فهم يمسُّون المصاحف، ويدرسونها ويتعمَّقون في بحثها، وينشرون خُلاصة أبحاثهم على العالم، ويستقي الشرقيون من هذه البحوث ويأخذون منها في علمهم. ولكننا لا نقول اليوم إن الكافر نجس لا ينبغي أن يُعلم الخط العربي والهجاء حتى لا يمسَّ المصحف كما يقول القابسي. وتفسير هذا التحول الذي يذهب إلى النقيض يرجع إلى اختلاف الروح الاجتماعي؛ فالمجتمع الإسلامي الحاضر لا ينظُر إلى غير المسلمين كما كان ينظر إليهم القُدماء. الطريقة في تعليم المنهج السابق لا بدَّ أن تعتمِد على الحفظ والاستظهار، وتُعرف هذه الطريقة في علم التربية الحديثة بالتعليم اللفظي. وهذه الطريقة تختلف عن التعليم التجريبي المعتمِد على التجارب والمشاهدات كما هي الحال في دروس العلوم الطبيعية، أو التعليم المهني الذي يُوجِّه التلاميذ إلى تعلُّم الصناعات المختلفة. ولم يكن مُعلم الكتَّاب مخصوصًا بتعليم المهن أو درس الطبيعة. وإنما كانت وظيفة المُعلم القيام بتعليم القرآن والكتابة والنحو والعربية والشِّعر والحساب وأيام العرب. وهذه كلها علوم لفظية، يقرأ التلاميذ ألفاظها ويسمعونها من المعلم، وعليهم استيعابها وحفظها. فالمنهج بطبيعته يتَّجِه إلى التعليم اللفظي، ويعتمد على الذاكرة، على الأخص إذا عرفنا أن القرآن وهو أهمُّ العلوم يجب حفظه بألفاظه دون تحريفٍ أو تبديل. لهذا السبب كانت الطرق التعليمية التي أوصى بها القابسي لا تخرج عن الطرق المُوصِّلة إلى جودة الحفظ، وعدم النسيان فيما يختص بالقرآن. وعنده أن طرق الحفظ ثلاث: التكرار والميل والفهم. وقد جاء ذكر التكرار في حديث عن الرسول يختص بحفظ القرآن. قال: «مثل القرآن كمثل الإبل المعقلة، إذا عاهد صاحبها على عقلها أمسكها، وإذا أطلقها ذهبت. إذا قام صاحب القرآن بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقرأه نُسِّيه.» ويعلق القابسي على هذا الحديث قائلًا: «وقد بين في هذا الحديث كيف المعاهدة التي يثبت بها حفظ القرآن ويقوى على الحفظ حتى لا يتلعثم فيه.» ٢١-ب. والقابسي يذكر هنا مراحل الذاكرة الثلاث الأساسية وهي: الحفظ والوعي والاسترجاع. وما نصطلح على تسميته الآن الوعي يُطلَق عليه التثبيت، وسهولة الاسترجاع هي عدم التلعثُم. والميل هو محبة القرآن، فيؤدي إلى الإقبال على تلاوته، وعدم الانصراف عنه إلى شيءٍ آخر، بل يكون القرآن شاغلًا للذهن على الدوام. «قال معاذ بن جبل لأبي موسى الأشعري: كيف تقرأ القرآن؟ قال: قائمًا وقاعدًا، وعلى راحلتي، وأتفوَّقه تفوُّقًا.» ٢٢-ب. أما الفهم فناشئ عن الترتيل. وقد فسَّر القابسي معنى قوله تعالى: أَشَدُّ وَطْئًا (المزمل: ٦) … أي مُوطأة للقرآن بسمعك وبصرك أي فهمك. وقال في فائدة الترتيل: «إن الترتيل في القراءة يحيي الفهم للعالم فيستعين به على التدبر الذي له أُنزِل القرآن.» فالإجماع على قراءة القرآن بالترتيل حسب أمر الله وسنة الرسول، مما يدعو دون شك إلى الفهم. وقد أيَّدت التجارب الحديثة في علم النفس أن الحفظ مع الفهم أسرع وأثبت، وأدعى إلى عدم النسيان، وأقوى على الاسترجاع. وكانوا ينصحون المُتعلمين بهذه الطريقة. ونحن لا ندري هل يستطيع الصبي الصغير أن يفهم معاني القرآن وأوامره ونواهيه، وما جاء فيه من وعدٍ ووعيد، ودعاء وتضرُّع، وطلب وتعوُّذ واستغفار؛ إذ لا شك أن هذه المعاني أعلى من مستوى عقول الصبيان، مما دعا أبا بكر بن العربي إلى النصيحة بتأخير حفظ القرآن إلى سِنٍّ متأخرة، ووافقه ابن خلدون على هذه الطريقة، ولكنه آثر اتباع التقاليد فأوصى مع العرف بالبدء بتعليم القرآن. ولا يفوتنا أن نذكر أن الإعراب من دواعي فهم المعنى، وكذلك الهجاء والكتابة. وكانت الطريقة هي حفظ السورة بإعرابها وحُسن قراءتها، مع الترتيل المؤدي إلى التدبُّر والتفكُّر. وهذا كله ينتهي دون شك إلى كمال الفهم. ثم أضاف القابسي أنه: «من الاجتهاد للصبي أن لا ينقله من سورة حتى يحفظها بإعرابها وكتابتها.» ٥٩-أ. ولا يفوتنا أن نذكُر أن وسائل الحفظ مع الاستفادة من جميع الحواس أفضل من استعمال حاسة واحدة، على الأخص إذا عرفنا أن بعض الناس بصريون وبعضهم سمعيون وبعضهم حركيون. فهناك مَنْ يحفظ عن طريق البصر بالقراءة الظاهرة الصامتة؛ وهناك مَنْ يستفيد عن طريق السمع بالقراءة جهرًا بصوت عالٍ؛ وهناك مَنْ يستفيد بالحركة عن طريق الكتابة. وهذه الوسائل كلها كانت مُتبعة في تعليم الصبيان؛ فالعين تستفيد من القراءة، واليد من الكتابة، والأذن من الاستماع. وكانت العادة أن يقرأ الصبيان أحزابهم وهم جماعة، ويستمع المُعلم إليهم، وعليه أن يأخذ باله من كل واحدٍ منهم؛ لأن: «اجتماعهم في القراءة يُخفي عنه قويَّ الحفظ من الضعيف.» ٦٩-أ. وإذا اتخذ الصبيان من هذه القراءة أداة للهو والخفة، فعليه أن يُعالجهم باختبار كل واحدٍ منهم على حدة، فينصرفوا إلى الجد. فإذا تعاونت هذه الوسائل كلها من التكرار والإقبال والفهم فلا شك أن يصِل الصبي إلى حفظ القرآن. ولا عِلة له إذا نسي، ولا علة لأحد في نسيان القرآن بعد حفظه؛ لأن هذا دليل على التشاغُل عنه، أو لأن صاحب القرآن: «تَغلِب عليه غيَّة تصرِفه عنه، وإما لأنه يتعمد التشاغُل عنه بعملٍ من أعمال الدنيا أو من أعمال السفهاء.» وعندئذٍ يُنسيه الله القرآن: «عقوبة لاشتغاله بسُوء الاكتساب، ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث: «ما لأحدِكم يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نُسِّيَ.» معناه أن الله أنساه ما نسي.» ١٩-ب. والاختبار هو الوسيلة التي يَعرِف بها المُعلم أأجاد الصبي الحفظ أم لا. وأول درجات الإجادة والامتياز أن: «يستظهر الصبي القرآن حفظًا من أوله إلى آخره، مع ضبط الشكل والإعراب والفهم وحُسن الخط.» ٧٠-ب. ويَقلُّ عن هذا درجة مَنْ «يقرأ القرآن نظرًا في المصحف مع ضبط الشكل والهجاء.» ٧١-أ. وآخر درجات الإجادة: «أن يُملى على الصبي فلا يتهجَّى، ويرى الحروف فلا يضبطها، ولا يستمر في قراءتها.» ٧١-ب. ومِن الصبيان مَنْ يبلُغ درجة البلاهة. ومقياس ذلك عند القابسي أن يُختَبَر: «فَوُجِد لذلك لا يحفظ ما عُلِّم، ولا يضبِط ما فَهِم.» ٧٢-أ. ونحن نرى أن موازين الاختبار لا تعتمد على الذاكرة وحدها، بل على الفهم أيضًا. فهي اختبار للذاكرة والذكاء معًا. ولا يجب أن نأخذ الفهم الذي ذكره القابسي على أنه مرادف للذكاء، بل هو يستنِد إلى الذاكرة؛ لأن إعراب الكلمات، ومعرفة المعاني القرآنية مما يتلقَّاه الصبيان من أفواه المُعلمين ويحفظونه عنهم، ولا يصِلون إليه من تلقاء أنفسهم. ومن هنا يتضح لنا أن التربية العقلية عند القابسي تنتهي إلى كسب معلوماتٍ مُعينة، وتلعب الذاكرة الدور الأول في هذا الكسب، وتخصُّ بالذات الذاكرة اللفظية؛ ومهمة الصبيان أن يحفظوا عن الكُتُب أو عن المُعلم، وأن يُعيدوا ما حفظوا دون تلعثُم. والصبي الممتاز هو ذلك الذي يُجيد حفظ كل ما لُقِّنَ كلمةً بكلمة، وحرفًا بحرف. ولكن ازدراء الذاكرة والنظر إليها هذه النظرة القليلة الأهمية، فيه بُعْدٌ عن الحقائق النفسية. وتدل نتائج البحث في الأمراض النفسية على أن فقدان الذاكرة يؤدي إلى اضطراب الحياة العقلية وفساد السلوك. ومما لا شك فيه أن الذاكرة الجيدة تخدم علماء الطبيعة والكيمياء والنبات والحيوان؛ لأنهم في حاجةٍ إلى استظهار كثيرٍ من القوانين الرياضية والمعادلات الكيميائية التي تتألف منها مبادئ المعرفة الصحيحة الضرورية. ولا يستطيع الإنسان إجادة اللغة دون معرفة كثيرٍ من الألفاظ وقواعد النحو والصرف. والخلاصة أننا لا ينبغي أن ننظُر إلى الذاكرة كما كان ينظُر علم النفس القديم باعتبار أنها ملَكة مُستقلة من ملكات العقل؛ إذ الواقع أن الحياة العقلية كلها وحدة مُتماسكة، تتعاون فيها جميع المواهب النفسية على العمل. فالحياة العقلية للفرد لا تنفصِل عن الحياة الاجتماعية بل هي جزء منها. والطريق الذي تسلكه الحياة العقلية يستضيء بهَدْي المجتمع، ويتأثر به، وفي الوقت نفسه تتشكل الحياة العقلية بحيث تُلائِم المجتمع. وقد كان المجتمع في عصر القابسي يريد معرفة القرآن وما يتصِل به من علوم تُعين على فَهمِه والتمكن منه، ولا يرغب في غير ذلك من علومٍ طبيعية أو خلافها. ومن الطبيعي أن تكون الطريقة المُلائِمة لتحصيل القرآن هي الحفظ والتذكر. ونحن لا نتفق مع هذه المُربية في الحُكم على الماضي، فقد يكون هذا الرأي صحيحًا بالنسبة إلى التعليم في أوروبا، ولكنه غير صحيح على إطلاقه عن التعليم في الكتاتيب؛ ذلك أن شخصية الطفل كانت مُحترَمة إلى حدٍّ كبير في الكتاتيب الإسلامية كما يتَّضِح في رسالة القابسي. ونُحِب أن نوضح معنى الشخصية قبل الاستطراد في الكلام عن أثر التربية الإسلامية في تكوينها، نظرًا إلى ما يُلابس هذا الاصطلاح من غموض. فالشخصية على المعنى النفساني نسبة إلى شخص، ولهذا كان كل فردٍ صاحب شخصية. ولكنهم يقصدون عادةً من الشخصية ما كانت قوية لا ضعيفة، وما كانت صالحة للحياة مؤثِّرة في المجتمع، لا تلك التي تعجز عن العمل، وتنساق في تيار المجتمع وإلى دوافع الفطرة دون إرادةٍ وتمييز أو قصد وشعور. والغرض من التربية هو تكوين الشخصية القوية الصالحة. ولا يتنافى هذا الغرَض مع ما سبق ذكره من أهداف للتربية، مثل تنمية مواهب الطفل، أو إعداده للحياة الاجتماعية، أو دفعه في سبيل التقدُّم والرُّقي؛ لأن صاحب الشخصية هو ذلك الذي شُحِذَت مواهبه، وامتلأت جُعبته بأسلحة الكفاح في الحياة الاجتماعية، وتهيَّأ للتقدُّم المُطرد والرقي المستمر. والتقدُّم هو سنة الوجود، ودليل الحياة الصحيحة. وكمال الشخصية في العِلم والعمل، والفكر والإرادة. والسلوك هو الغاية الأخيرة التي نقصدها من التربية، بل من الحياة كلها. أما تثقيف العقل، وحُسن التفكير ومعرفة العلم فكُلها وسائل إلى السلوك المطلوب، حتى يستند إلى أساس من المعرفة الصحيحة. وكان المطلوب في عصر القابسي تكوين الشخصية الدينية، يُؤمِن صاحبها بالله، ويعتقِد بوجوده، ويَعبُده آناء الليل وأطراف النهار، ويذكُره في كل عملٍ من الأعمال ليُميز بين الحلال والحرام. وتختلف شخصية الأفراد في البلاد المختلفة تبعًا لاختلاف الحياة الاجتماعية وما تطلُبه هذه المجتمعات من أبنائها. ومهما يكن من شيء، فالشخص الذي يريد أن يَشق طريقه في المجتمع، فلا بدَّ له من إعداد نفسه للنزول إلى مُعترك الحياة. وفي هذه الحال يشعُر بنفسه مُستقلًّا عن غيره، فيعمل على الاستجابة للتأثيرات الاجتماعية، ثم ينصرِف بما يُلائِم مصلحته الخاصة ومصلحة المجتمع. وشعور الإنسان نفسه هو المحور الذي تدور عليه الشخصية، والذي به يتمُّ التأثير المقصود الصادر عن الشعور. وعندما يشعُر بشخصه، ويُحسُّ بكيانه كفردٍ مُستقل، يُدرك ألا سبيل له إلى السلوك الصحيح إلا بكسب المعرفة والتزيُّد من العِلم. والغرض من التربية والتعليم هو تزويد الأفراد خلاصة الحضارة السائدة في المجتمع في وقت وجيز، حتى إذا كبر الطفل كان على استعدادٍ لمواجهة مطالب الحياة الاجتماعية. وفي زمن الطفولة يكون الصبي عبئًا على أهله في كل شيء. وليس هذا من مصلحته أو مصلحة المجتمع. ومصلحة الطفل أن يعتمِد على نفسه، أو أن يتعلم الاعتماد على النفس حتى يستمدَّ أسباب القوة المُعِينة على التقدُّم والنجاح. ومصلحة المجتمع في وجود أفرادٍ من أصحاب الشخصيات القوية حتى يرتقي المجتمع. أما العاجزون فهُم عبء ثقيل يسوق المجتمع إلى التأخُّر والضعف والانحلال. ولم ينْسَ القابسي وهو يقوم على تربية الأطفال أن يُمهِّد لهم سبيل تكوين الشخصية القوية التي يعتمِد صاحبها على نفسه، ويستطيع أن ينهض بما تتطلَّبه حاجة البيئة ومَطالب المجتمع. وعنده أنه لا بأس أن يقوم الصبيان بأعمالٍ لها فائدة في تخريجهم. منها أن يكتب الصبي للناس. سُئل القابسي: «هل يؤذَن للصبي أن يكتُب لأحدٍ كتابًا؟ فقال: لا بأس، وهذا مما يخرج الصبي إذا كتب الرسائل.» ٦٣-أ. ومنها أن يُعلِّم بعضهم بعضًا: «ولا يحل له (أي المُعلم) أن يأمُر أحدًا أن يُعلِّم أحدًا منهم إلا أن يكون فيما فيه منفعة للصبي في تخريجه.» ٦٣-ب. ومنها أن يُملي بعضهم على بعض، وذلك في الأوقات التي يستغني فيها الصبيان عن المُعلم: «مثل أن يَصيروا إلى الكتابة، وأملى بعضهم على بعض، إذا كان في ذلك منفعة لهم؛ فإن هذا قد سهَّل فيه بعض أصحابنا.» ٦٤-أ. فمِن المنفعة لهم أن يُملي بعضهم على بعض، وعلى المُعلم «أن يتفقَّد إملاءهم.» ٦٣-أ. ومنها أن يجعل على الصبيان عريفًا. والعريف هو الصبي البارز في العِلم يقوم بتعليم الصبيان إذا كان في ذلك مَنفعة في تكوينه. وقد أجاز الفقهاء هذه الطريقة في التعليم. سُئل مالك عن المُعلم يجعل للصبيان عريفًا فقال: «إن كان مثله في نفاذه.» ٦٣-ب. وعن سحنون: «وأُحِب للمُعلم أن يجعل لهم عريفًا منهم، إلا أن يكون الصبي الذي قدمهم وعرف القرآن، وهو مُستغنٍ عن التعليم، فلا بأس أن يُعينه، فإن ذلك منفعة للصبي.» ٦٣-ب. وهذا كله يتعارَض مع قول مدام منتسوري من أن التربية القديمة لم تكن تحترم شخصية الطفل. ذلك أن تكليف الصبيان بهذه الأعمال كلها، مثل كتابة الرسائل للجمهور، وإملاء بعضهم على بعض، واصطناع العريف يُعلِّم غيره من الصبيان ممن هم أصغر منه سنًّا وأقل علمًا، دليل على احترام شخصية الصبي ورفع قدره والسمو بمنزلته، إذ إنه يتَّخِذ مركز المعلم نفسه. ولم تكن شخصية الصبي مُحترمة في العلم فقط، بل في شئون الدين أيضًا، فقد أجاز القابسي أن يَؤم الصبي، إذا بلغ سِن الاحتلام وصلُح للإمامة، غيرَه من الصبيان في صلاة الجماعة: «لكي يتدرَّجوا على معرفة صلاة الجماعة.» ٧٠-أ. هذه حياة كلها جد، وكلها تَشَبُّه بالرجولة؛ لأن الطفل الصغير يُنظَر إليه كأنه رجل كبير، فيُكلف أعمال الرجال. وكانت التربية القديمة تُضحي بمرحلة الطفولة في سبيل الإعداد للرجولة. وكانوا يرغمون الطفل على سلوك مَسلك الرجال وتعلُّم أعمالهم، وإلا وقع عليه العقاب. ومن الخطأ الاعتقاد أن سعادة الرجولة تُشترى على حساب الطفولة. حقًّا إن الحياة الاجتماعية فيها كثيرٌ من القسوة وتحتاج إلى كثيرٍ من الجدِّ، ولهذا ينبغي أن يُهيَّأ الطفل لحياة الجد حتى لا يُصدَم بما فيها من صعاب وعقبات في المُستقبل. ولكن الجد لا يستلزم العبوس الدائم، والشدَّة المُستمرة. وقد نهى القابسي عن العبوس في غير حاجةٍ إليه. كما أن اللهو لا يعني المرح المُتلاحِق، أو اللعب الذي لا انقطاع فيه. على أن حياة الطفولة ينبغي أن تنصرِف إلى اللعب أكثر منها إلى الجد، وأن يكون قسط المرح والسرور فيها كبيرًا. ذلك أن شقاء الطفولة يترك في النفس آثارًا لا تُمحى وذكريات أليمة تُلقي على الرجل ظلًّا كثيفًا من الكآبة والتشاؤم من الحياة. لهذا كان من الخطأ أن نُحمِّل الطفل في وقتٍ مبكر متاعب الحياة وآلام العيش. إننا نُخاطر بإضعاف القوى الكامنة في الفرد، بتحميلها فوق ما تطيق، فتنوء في المستقبل بأعباء الحياة الجسام. وقد أوضح روسو في كتابه (إميل) أن واجب المُربين إسعاد الطفل على قدرة الاستطاعة حتى يُحسَّ الإحساس الصادق بالحياة، ويتذوَّق لذة الوجود. من هذه الناحية نستطيع أن نلوم القابسي، مع التربية القديمة كلها؛ لأنه كان يأخذ الصبيان بحياة الجد، وينهى عن اللهو واللعب. ثم إن نمو شخصية الطفل لا يتطلَّب المحافظة على مواهبه من الضمور والانحلال فقط، وإنما يتطلَّب شقَّ الطريق أمام هذه المواهب لتتفتح وتقوى. ولا ينبغي الوقوف في سبيل الطفل، بل لا بدَّ له من حرية العمل ليكون المجال أمامه فسيحًا للظهور. وقد رأينا كيف ترك القابسي الحُرية للصبيان لأن يقوموا بكثيرٍ من الأعمال التي تصلح لتخريجهم، وبذلك تنمو فيهم المواهب المُلائمة لمطالب المجتمع. ولكن القابسي كان مُقيدًا بعصره، ولم يعمل على سبق الزمان وتهيئة الأجيال القادمة للتقدُّم والرُّقي، فاكتفى بإعداد الصبيان لحياة الحاضر، بل لحياةٍ شبيهة بالماضي، فهو يدعو إلى معرفة ثقافة السلَف، ويطلب التمسك بها، والنَّسج على منوالها، وعدم التحوُّل عنها. لهذا عجزت شخصية المُتعلمين عن مُسايرَة التقدُّم في الحياة، إلى أن تغيرت البيئة الاجتماعية في العصور الأخيرة، لأن تكوين الشخصية على الطريقة التي يريدها القابسي مُقيدٌ بالمجتمع الذي كان يعيش فيه. وكان همُّه الأكبر أن يصنع شخصيةً دينية وخلقية. أما الشخصية الدينية فإن تعلُّم القرآن والقيام على الصلاة في أوقاتها ممَّا يكفُل طبعها على ذكر الله. والشخصية الخلقية مطلوبة على كل حال، ولو اضطرَّنا ذلك إلى إرغام الأطفال؛ إذ ممَّا لا شك فيه أن الإنسان ينبغي أن يلتزِم حدود نفسه، فلا يتعدَّى على غيره باغتصابٍ أو إيذاء أو ضرب أو سرقة أو أي شيءٍ من ضروب الرذائل التي ترجع في النهاية إلى الاعتداء على شخص الغير أو مِلكه، ولا يتسنَّى هذا كله إلا إذا ميَّز الإنسان نفسه، وشعر بوجود شخصه واعتقد في حريته، ومسئوليته عن أعماله. ولا بدَّ للإنسان إلى جانب ذلك من تكوين عادات صالحة يُصبح معها من ذوي الخلق المستقيم، كالصدق والأمانة والشجاعة وحُب النظام والنظافة إلى آخر هذه العادات المختلفة، مما ذكرناه عند الكلام في التربية الخلقية. ولا يتم تكوين الشخصية الخلقية، بتشييد العادات الفاضلة، وتهذيب الضمير، إلا بالتعليم والتربية. ومما لا شك فيه أن الكُتَّاب الإسلامي كان له أثر كبير في خلق الشخصية القوية المُلائِمة للمجتمع في القرن الرابع الهجري. فالصبي بعد ذهابه إلى الكُتَّاب يصلح لإمامة الناس في الصلاة، فضلًا عن معرفة أسرار الفروض والنوافل، مما يرفع قدره ويسمو بمنزلته. وكما يتقدَّم إليه العامة فيكتب إليهم الكتب والرسائل. وبعض الصبيان قد يختم القرآن وهو أهم أنواع المعرفة وأوجبها، فضلًا عن معرفة العربية وأيام العرب والشِّعر، وبذلك يتهيأ له السبيل إلى بلوغ مراتب العلماء.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/40635716/
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
أحمد فؤاد الأهواني
«نحن في حاجةٍ إلى القديمِ والجديدِ معًا؛ لأننا لا نستطيع قَطْع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولغته، لا يزال دِيننا الإسلام، وكِتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجةٍ اليومَ إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم، ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادُنا منذ ألف عام يُعلِّمونهما؛ فقد يُفيدنا ذلك في موقعنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابةَ والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي موضع تفكير علماء التربية.» في القرون الإسلامية الأولى بلغت الحضارة العربية أوْج عظمتها، وانتشرت لأقاصي الشرق والغرب، حيث انتقلت إلى أوروبا التي كانت تموج في بحرٍ مُظلم جرَّاء التدهور والانحلال. وهذه الحضارة العظيمة تأسَّست على العِلم، ولا عِلم بغير تعليمٍ وتربية. ولأجل التعرُّف على أحوال التعليم في تلك العصور الزاهية، يأتينا هذا الكتاب ﻟ «أحمد فؤاد الأهواني»، حيث يُقدِّم فيه دراسةً وافية عن حياة «أبو الحسن القابسي» الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وكِتابه البالغ الأهمية؛ إذ قام «القابسي» فيه بمُعالجةٍ تفصيلية ودقيقة لكل ما تعلَّق بشئون التعليم في عصره، وخصوصًا تعليم الصبيان، وكذلك حل مشكلات التعليم. وقد أُلحِق بهذا الكتاب رسالة «ابن سحنون» المُعنونة ﺑ «آداب المُعلمين»، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث الهجري ولا يعرفها سوى القليل، وتُعَد من الرسائل النادرة عن التربية.
https://www.hindawi.org/books/40635716/9/
المُعَلِّمُ
شخصية المعلم لها أثر عظيم في عقول التلاميذ ونفوسهم، إذ يتأثرون وهم في تلك السن الصغيرة بمظهره وشكله، وحركاته وسكناته، وإشاراته وإيماءاته، وألفاظه التي تصدُر عنه، وسلوكه الذي يبدو منه. والطفل أشد تأثرًا بغيره من الناس من الشاب، وأسرع في كسْب الكلام والحركات والتقاطها عن الذين يتصِل بهم من الكبار، الذين نمَت عقولهم، وصلُبَ عودهم، وأصبحوا أقدرَ على التمييز والنقد والاختيار. والوقت الذي يقضيه الطفل في الكُتَّاب يستغرق معظم النهار، فهو يذهب إليه مع الصباح الباكر، ولا ينصرف إلى آخِر اليوم. فالصبي يتصِل بالمعلم، إلى جانب صِلته بغيره من الصبيان، أكثر من الصلة بآبائه وأهله. ومِن الطبيعي أن يكون تأثير المعلم في نفوس الصبيان أقوى وأشد وأعمق من تأثير أهله، فهو الذي يُقدِّم إليهم الغذاء العقلي والديني، وهو الذي يُطبِّعهم على العادات، ويثبت فيهم آداب السلوك، وما يترتب على ذلك من نشوء الصبيان وهم يحملون في أنفسهم الآراء التي طبعوا عليها في صِباهم، ويصعب فيما بعد التحوُّل عنها. «ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح بَنِيَّ إصلاح نفسك، فإن أعيُنَهم معقودة بعينك، فالحَسَن عندهم ما استحسنت، والقبيح عندهم ما استقبحت.» كما فَطِنَ إخوان الصفا إلى تأثير المُعلم التأثير الشديد في صبيان المسلمين. وقد سادت في المُعلمين شخصية علمية وخلقية عُرفت عنهم واشتُهروا بها، وسرَت منهم إلى الصبيان بطريق الإيحاء والمُحاكاة مما هو فطري في النفس الإنسانية؛ فالإيحاء التأثير الذي ينتهي إلى قبول الآراء واعتقادها والعمل بها، والمحاكاة التشبُّه بغيره في الحركات والإشارات والسلوك على وجه العموم. ولم تكن شخصية المُعلم بارزة في العلم بحيث تسمو به إلى مرتبة الأدباء أو الشعراء أو النُّحاة أو الفقهاء. فهو يحفظ القرآن، وما يتَّصِل بالقرآن من العلوم الضرورية لفَهمه وحُسن نطقه. ولو بلغ مُعلم الكُتَّاب منزلة علمية سامية، مع سعة الذهن، ونفاذ الفكر، وقوة العارضة، لتطلَّع إلى مرتبة اجتماعية أسمى من مرتبة المُعلمين في الكتاتيب. فقد كان الحجاج بن يوسف على ما هو مشهور مُعلمًا في الطائف، ثم أصبح من الحكام البارزين، والخطباء المفوهين، وترك صناعة التعليم في الكتاب إلى غيرها. وقد انتصر الجاحظ لمُعلمي الخاصة، ويُعرَفون بالمؤدِّبين، فهؤلاء منزلتهم غير منكورة ثم أنصف بعد ذلك مُعلمي الكتاتيب فأبعد عنهم ذلك الوهم الذائع عنهم والحُمق اللاصِق بأغلبيتهم. ولمَّا كان وَصْف المُعلمين هذا الوصف غير صحيح، فالتعليل المذكور لا أساس له. وإلى جانب ذلك فليس صحيحًا أن العرب احتقروا جميع المِهَن التي لا تظهر فيها أعمال الرجولة كالفروسية؛ إذ لو كان الأمر كذلك لكان الفقهاء والأدباء والشعراء وأصحاب المِهَن العقلية والدينية مُحتقرين عند العرب، والواقع يُخالف ذلك. أما ارتكاب المُعلمين ما يُخِل بالكرامة، ففي كل طائفة، كما يقول الجاحظ، أشرافها وسِفلتها، فلا يدفعنا ذلك إلى إطلاق الحُكم على الطائفة بأسرِها بسوء الخلق، وصَغار النفس والحمق. ويتَّصِل الحمق بالعقل كما يتصِل بالسلوك، بل هو بالعقل والتدبير، والرأي والتفكير، أشد التصاقًا، وأكثر صِلة. ذلك أن العمل يرجع في الغالب إلى اضطراب الرأي وعمى البصيرة، ووضع الشيء في غير مَوضعه الصحيح، وفساد التطبيق. وقد يحفظ المرء القرآن، ويُردِّده حرفًا بحرف، ولفظًا بلفظ، وآية بآية، ومع ذلك لا يُجيد التصرُّف والتمييز، ويخلو من الحِكمة والسداد. ليست شخصية المُعلم العقلية إذَنْ في حفظ القرآن، بل في العمل بما جاء فيه، وفهم أسراره ومَعانيه بمعرفة العلوم التي تُعين على هذا الفهم. وقد عقد القابسي المُوازنة بين مُعلم ومُعلم، وفاضَلَ بينهما في العِلم، ورفع الأكثر علمًا على صاحبه في الكسب إذا اشتركا في التعليم. فالاختلاف القريب لا يُوجِد التفاضُل في الجعل. مثل: «أن أحدَهما يكون رفيع الخط والآخر ليس كذلك.» ويقع التفاضُل إذا كان أحدهما لا يُحسِن إلا القرآن والكتابة، والآخر يعرف إلى جانب ذلك الشكل والهجاء وعِلم العربية والنحو والشِّعر، ٦٩-أ. ومن هذا نرى أن المُعلمين في عصر القابسي كانوا على ضربَين: بعض لا يعرف إلا القرآن والكتابة، وبعض آخر تتَّسِع ثقافته لمعرفة علومٍ أخرى غير القرآن، فترتفع منزلته العلمية، وإذا وُضِع في ميزان المادة الصحيح عند أصحاب الفلسفة المادية، كان أوفر أجرًا وأكثر جُعلًا. فالميزان الذي تُقاس به الشخصية العلمية عند القابسي هو معرفة القرآن ومعرفة النحو والعربية وأيام العرب والشِّعر. ولكن القابسي لم يذكر الطريقة التي نحكم بها على معرفة المعلم وثقافته، بحيث نُجيز له التعليم. أما اشتراط حصول المعلم على إجازة لتعليم القرآن، فإنما جاء بعد العصر الذي عاش فيه القابسي، أي بعد القرن الرابع، وهو دليل على شعور المجتمع بوجود كثيرٍ من المُعلمين غير أهل للقيام بالتدريس. فالشخصية العلمية على النحو الذي ذكره القابسي، أقلها أن يكون صاحبها حافظًا للقرآن عارفًا بالخط والكتابة، وترتفع شخصيته مع تزوُّد المعلم بعلوم العربية والنحو والشِّعر. وشخصية المُعلم الدينية لا شكَّ فيها؛ لأنه يحمل القرآن وهو أصل الدين. والمُعلم يُقيم الصلاة ويُعلمها الصبيان، وهو على مذهب أهل السُّنَّة، ولا مطعن في دينه من هذه الناحية خصوصًا من جهة الجمهور. وشخصية المُعلم الخلقية مُستمدَّة إلى حدٍّ كبير من شخصيته الدينية؛ لأن من يحفظ القرآن ويُقيم شعائر الدين أقرب من غيره إلى العمل الصالح. على أن القابسي لم ينصَّ على رذائل في أخلاق المُعلمين طالَبَ بإصلاحها. إنما ذكر الواجب على المُعلم، وضرورة انصرافه إلى عمله، وعدم الانشغال عن تعليم الصبيان بأي شيءٍ من الأشياء؛ لأنه يتناول أجرًا عن عمله، فلا بدَّ له من وفاءِ ما استُؤجِر عليه. ومن واجب المُعلم أيضًا ألا يطلُب فوق أُجرته من الصبيان شيئًا كهدية أو طعام. وسنفصِّل الأحوال المختلفة التي ذكرها القابسي عن المُعلمين في انشغالهم عن التعليم، وفي طلبهم الهدايا، ومنها يتبيَّن أن النقائص الخلقية التي قد تقع من بعض المُعلمين إنما ترجع لأسباب مادية. والقابسي يَعتبرها من النقائص؛ لأنه قرَّر أن يتناول المُعلم الأجر على التعليم، فالتطلُّع إلى ما هو أكثر من الأجر المُشترط عليه إسراف في الطمع، وإخلال بالعقد. وقد نهى سحنون أن يطلُب بعض المُعلِّمين هدايا من الصبيان؛ لأنه: «لا يحلُّ للمُعلم أن يُكلِّف الصبيان فوق أجرته شيئًا من هدية أو غير ذلك، فإن أهدوا إليه على ذلك فهو حرام، إلا أن يُهدوا إليه من غير مسألة.» ٦٢-أ. ومن العادات المذمومة أن يبعث المُعلمون صبيانهم إذا تزوَّج رجل أو وُلِدَ له «فيَصيحون عند بابه ويقولون: أستاذنا … بصوتٍ عالٍ. فيُعطَون ما أحبُّوا من طعامٍ أو غير ذلك، فيأتون مُعلمهم، فيأذن لهم يتبطَّلون بذلك نصف يوم أو ربع يوم بِغَير أمر الآباء. وهذا شديد الكراهية، لعلَّ صاحب التزويج أو أبا المولود لا يُعطي ما يعطي إلا تقية من أذى المُعلم أو أذى صبيانه، أو من تقريع بعض الجهَّال، فيصير المُعلم من ذلك إلى أكل السُّحت، ولا يفعل هذا إلا مُعلم جاهل.» ٦٢-أ. وقال في موضع آخر: «ولا يحلُّ للمُعلمين أن يأمروا الصبيان أو يكلفوهم إحضار طعام أو غيره، وإن قلَّ قدره، كالحطَب وغيره، من بيوت آبائهم.» ٦٦-أ. ومن الوصف السابق يتَّضِح لنا سلطان المُعلم على الصبيان، وقوة شخصيته وخضوع الصبيان لأمره، إلى درجة أنَّ القابسي يَعُد صبيان المعلم جزءًا منه، إذا وقع منهم الأذى فهو المسئول عنهم. ومن هذا الوصف لسلوك المُعلم تتَّضِح لنا صفحة من صفحات التاريخ، وجزء من التقاليد التي سادت في القرن الرابع. ولا نُحِب أن نسوِّغ هذه الأفعال للمُعلمين، ولكننا نقول: إن الشعب مسئول عن إفسادهم في هذه الناحية، إذا اعتبرنا الطلَب نوعًا من الفساد الخُلقي. ذلك أن عادة الطلَب والسؤال جاءت من جهتَين: الأولى العطية على الختمة، والثانية عطية الأعياد. وقد جرَتْ عادة الناس أن يُعطوا في الحالتَين: فرحًا بختم أولادهم القرآن وابتهاجًا بقدوم الأعياد. وقد أجاز الفقهاء أيضًا العطية في الأعياد. قال القابسي: «عطية العيد لا يُقضى بها إلا أن يتطوعوا، من شاء منهم فعل، ومن شاء لم يفعل.» ٧٣-ب. ويقول ابن حبيب الفقيه المالكي: «وفِعْل ذلك حسَن من فعله، وتكرُّمٌ من آباء الصبيان لمُعلميهم، ولم يزل ذلك مُستحسنًا في أعياد المسلمين.» ٧٣-ب. ثم أوجب الفقهاء العطية في العيدين، نزولًا على العرف السائد؛ فالأصل في الحُكم عدم القضاء بالعطية في العيد إلا إذا تطوَّع الآباء. ولكن للعادات حُكم آخر، لذلك أوجب القابسي العطية في الأعياد. أو كما يقول: «وكذلك المُسلمون عندي في هذه العادات، إذا كانت مُستحسنة في الخاصة، فانتشارها على وصفِنا يوجبها.» ٧٤-أ. فالخاصة كما نرى هم الذين بدءوا بتقديم العطايا إلى المُعلمين، وتبعهم في ذلك العامة، وما زال الأمر كذلك إلى أن أصبح من العادات الثابتة في المجتمع، التي يحترمها المشرعون ويأخذون بها في أحكامهم. فإذا رأى المعلمون أن يطلبوا الهدايا في مناسبات أخرى غير الأعياد كالزواج والميلاد وغير ذلك، فالجمهور هو الذي شق لهم طريق العطية في العيدين، بل في: «رمضان وفي القدوم من سفر.» ٧٤-أ. وأجاز القابسي كل ذلك. ومما يُعاب على المعلم أن ينصرف عن التعليم، فيشغل نفسه، أو يشغل الصبيان بغير طلب العلم. وقد أفاض القابسي القول في ذكر هذه الأحوال الشاغلة للمعلم. فلا يجوز للمعلم أن يرسل الصبيان في حوائجه. سُئل سحنون هل يُرسل الصبيان بعضهم في طلب بعض، فقال: «لا أرى ذلك إلا أن يأذن له أولياء الصبيان في ذلك، أو يكون الموضع قريبًا لا يشغل الصبيان في ذلك.» ٦٣-أ. وعن سحنون: «ولا يجوز للمُعلم أن يشتغل عن الصبيان، إلا أن يكونوا في وقتٍ لا يعرضهم فيه، فلا بأس أن يتحدث وهو في هذا ينظر إليهم، ويتفقدهم.» ٦٣-ب. ولا بأس أن ينظر المعلم في كتب العلم في الأوقات التي يستغني الصبيان عنه، مثل أن يصيروا إلى الكتابة، وأملى بعضهم على بعض ٦٤-أ. ولا يجوز له الصلاة على الجنائز إلا ما لا بدَّ منه؛ لأنه أجير لا يدَع عمله ويتتبع الجنائز والمرضى. وشهود النكاحات وشهادة البياعات لا تجوز، هي مثل شهود الجنازة وعيادة المريض أو أشد ٦٥-ب. وإن كانت عنده شهادة والسلطان عنه بعيد، في سيره إليه شغل عن صبيانه فله عُذر في تخلُّفه عن أدائها. وإن سافر سفرًا بعيدًا أو خيف بُعد الغريب لما يعرض في الأسفار من الحوادث فلا يصلح له ذلك. وإذا غلب النوم على المعلم، فيغالبه إن استطاع في وقت التعليم. فهذه كلها صفات خُلقية تتصل بالعمل في الكتَّاب ووجوب الانصراف إلى التعليم. وجماع هذه الصفات يندرج تحت عنوان واحد هو واجب المعلم نحو عمله. هذا الواجب — الذي ينبغي أن يكون — شيء والواقع شيء آخر. وقد فصَّل الغزالي في (الإحياء) و(ميزان العمل) وظائف المُعلم بما لا يخرج عن ذلك. وقد ذكر كثير من الفقهاء قبل ذلك ما ينبغي أن يكون عليه المعلم، وكلهم مجمعون على أن المعلم لا ينبغي أن يطلب سمعة أو جاهًا أو مالًا أو مصلحة. أما الواقع فيختلف عما ينبغي أن يكون؛ ذلك أن المعلم في القرن الرابع كان يطلب المال ليعيش، أو السمعة ليرتفع قدره، لهذا كان يشتغل عن التعليم بالنظر في كتب العلم، وكتابة الرسائل للناس، وشهود النكاحات والبياعات والصلاة وراء الجنائز وما إلى ذلك. ولم يكن الحال كذلك في الصدر الأول للإسلام؛ لأن الروح الديني الصادق كان مُتغلغلًا في الصدور، فتيًّا في القلوب، حتى إذا تقدَّمت العصور بالمسلمين شُغلوا كثيرًا بالأمور الدنيوية. وقد أشار السيوطي كما سبق أن ذكرنا إلى امتناع بعض المشايخ من إعطاء الإجازة إلا بالمال. ولم تُقرَّر هذه العادة إلا في عصر متأخر عن عصر القابسي. فشخصية العلم الخلقية كانت مُتصلة إذَن اتصالًا وثيقًا بالحالة الاقتصادية السائدة في المجتمع. واختلال الميزان الاقتصادي بين الطبقات الرفيعة والدنيا، هو الذي أدى مع الزمن إلى تحول المُعلمين وغيرهم من أصحاب الصناعات الدينية والعقلية إلى البحث عن المادة، والانصراف عن العِلم الصحيح، والروح الديني الحق. ولم يكن القابسي مُغاليًا في التطلع نحو المُثل العُليا البعيدة التحقيق، بل أجاز الأجر للمعلم، ووافق على قبوله العطية في الأعياد كما جرَت به العادة. ولكنه لم يقبل أن تمتدَّ يد المعلم إلى غير أجره المشترط عليه. ولذلك وضع قواعد الجزاء على اشتغال المُعلم عن التعليم. أما الاشتغال الخفيف الذي لا يؤثر في مصلحة الصبيان فقد أجازه: «مثل الذي يكون في حديثه في مجلسه … فهذا وما أشبهه يَقلُّ خطبه، ويخفُّ قدره، فيتحلل من آباء الصبيان مما أصاب ذلك إن كان الأجر من أموالهم.» وإن كان الأجر من أموال الصبيان، فلا بأس أن يُعوِّضهم من وقت عادة راحته ما يجبُر لهم ما نقصَهم من حظوظهم باشتغالهم ذلك. وإن مرض أو عليه شغل: «فهو يستأجر لهم مَنْ يكون فيهم بمِثل كفايته لهم، إذا لم تطُل مدة ذلك. كذلك إن سافر سفرًا قريبًا؛ اليوم واليومين وما أشبههما، يُقيم من يوفيهم كفايته لهم. وكذلك إذا لم يستطع مُغالبة النوم، فليقُم فيهم مَنْ يخلفه عليهم.» ٦٥-أ، ٦٦-أ. هذا التعويض ملحوظ فيه مصلحة الصبيان، وتقديم المقابل المادي الذي يتناسب مع إخلال المُعلم بواجبه. وميزان المادة أصدق الموازين. وملحوظ فيه الرفق بالمعلم إذا كان عنده عُذر في تخلُّفه عن التعليم، ولا يخلو إنسان عن الأعذار الطارئة والظروف العارضة كالمرض وغيره. وملحوظ فيه احترام شخصية المُعلم، بوضع الأمور في موضعها الصحيح، حتى يكون قدر المعلم محفوظًا مهيبًا. بهذا تستقيم شخصية المعلم العلمية والدينية والخلقية وتخلو من الشوائب، فلا تؤثر أثرًا سيئًا في نفوس الصبيان الذين يتَّصِل بهم. وصلاح المعلم فيه صلاح الصبيان؛ لأنه القدوة لهم والمثل الأعلى بالنسبة إليهم. الحقيقة أن شخصية المُعلم في القرن الرابع كانت قوية تبسط ظلها على المجتمع بأسره، خصوصًا في القرى والأقاليم النائية عن العواصم، حيث يعتبره أهل الجهة التي يقوم فيها بالتعليم أكثرهم ثقافةً، وأسماهم منزلةً، وأشدهم معرفةً بالدين. وسلطة المعلم على الصبيان ظلٌّ لشخصيته. وقد كانت سلطة المعلم عظيمة القدر كبيرة الأثر، أجازها القابسي للمُعلمين واعترف بها لهم. والمعلم يستمد هذه السلطة من الوالد، إذ يقوم مقامه، ويحل محله في تربية الأبناء وتثقيفهم: «لأنه هو المأخوذ بأدبهم، والناظر في زجرهم عمًا لا يصلح لهم، والقائم بإكراههم على مِثل منافعهم، فهو يسوسهم في كل ذلك بما ينفعهم، ولا يخرجهم ذلك من حُسن رفقِه بهم، ولا من رحمته إيَّاهم، فإنما هو لهم عِوض من آبائهم.» ٥٤-أ. فإذا تقرَّرت السلطة للمعلم فهو مسئول عن الصبيان؛ لأنه لا مسئولية لمن لا سلطة له، فالمعلم صاحب سلطة وصاحب مسئولية، ويجب عليه حسن رعاية الصبيان لأن: «نظره فيمن التزم النظر له من الصبيان رعاية يدخل بها في قول الرسول: «كلكم راعٍ وكل راعٍ مسئول عن رعيته».» ٥٣-أ. والقابسي حين يُقرر للمُعلم هذه السلطة العظيمة التي تساوي في مقدارها سلطة الوالد، إنما يرمي إلى فائدة الصبيان أنفسهم، من جهة ثقافتهم العقلية، ورياضتهم الخلقية؛ لأن المُعلم إذا شعر بنقصٍ في سلطته عجز عن حكم الصبيان، وخرجوا على طاعته، وامتنع عليه أن يدفعهم إلى الامتثال لأمره. أما إذا باشر السلطة الكاملة التامة فإنه يأمر فيطاع، وينصح فيسمع. ولا يستطيع المُعلم أن يعتذر عن فساد النتيجة في التعليم والتأديب بنقص سلطته، فهو مسئول عن صبيانه في تحصيلهم للدرس وسلوكهم المهذب. ولهذا صح عقاب المعلم ومحاسبته على أعماله لأنه يتحمل المسئولية المُستمدة من السلطة. فإذا نقص حذق الصبي حتى ينتهي إلى ما يُسمى تعلمًا، في إجادته ومعرفته بالشكل والهجاء والنظر في المصحف، ويُملي على الصبي فلا يتهجَّى، ويرى الحروف فلا يضبطها ولا يستمر في قراءتها، فإن هذا المعلم يُعتبر مُفرِّطًا إذا كان يُحسن التعليم، ومُغرِّرًا إذا كان لا يُحسن التعليم. وهو مسئول سواء فرَّط أو غرَّر. ثم ذكر القابسي آراء العلماء في مثل هذا المعلم فقال: «إنه يستأهل الأدب لتفريطه فيما وَلِيَه، وتهاونه بما التزمه، وأن يُمنع من التعليم. وهو صواب إذا كان شأنه التفريط أو الغرور بتعليمه وهو لا يحسن.» ورأي بعضهم «أن مثل هذا المُعلم يستأهل اللوم والتعنيف والغلظة والتأنيب من الإمام العدل.» ٧٢-أ. فالقابسي لا يتهاون مع المعلم المقصر في أداء واجباته، ويفرض عليه جزاءً أدبيًّا وماديًّا، قد يصِل من الشدة إلى درجة منع المعلم من التعليم. والجزاء المادي يتصل بنقص أجر المُعلم المتفق عليه أو عدم دفعه، فإذا أُخرج الصبي من عند مُعلم إلى معلمٍ آخر ولم ينَلْ عند الأول «من التعليم شيئًا له منفعة.» فالجُعل كله للثاني، وقَلَّ ما يناله الأول. ومسئولية المعلم ظاهرة أيضًا في العقوبات التي يوقعها على الصبيان إذا خرجت على الحدود المشروعة. فهو مسئول عن الألفاظ القبيحة التي تصدُر عنه في ساعة الغضب، ويجب عليه الاستغفار عنها والاستعاذة منها. وإذا تعدَّى المعلم في ضربه: «فهذا إنما يقع من المعلم الجافي الجاهل.» وفي وصف المعلم بالجفاء والجهل كفاية في عقابه على قسوته وخروجه على الحدود. ومسئولية المعلم شديدة إذا أدى الضرب إلى إلحاق الضرر بالصبي، وقد نظر الفقهاء في مثل هذه الأحوال، ووضعوا العقوبة التي تُفرَض على المعلم في كل حالةٍ منها. سُئل مالك عن معلم لو ضرب صبيًّا ففقأ عينه أو كسر يده، فقال: إنْ ضربه بالدِّرَّة على الأدب، وأصابه بعودها فكسر يده أو فقأ عينه، فالدية على العاقلة إذا فعل ما يجوز. فإن مات الصبي فالدية على العاقلة بالقسامة، وعليه الكفارة. فإن ضربه باللوح أو بعصًا فقتلَه، فعليه القصاص؛ لأنه لم يُؤذَن له أن يضربه بعصًا ولا بلوح. فسلطة المعلم تُبسَط على الصبيان في تعليمهم وفي تأديبهم. وهو مسئول عن حُسن تعليمهم وكمال تأديبهم؛ لهذا مُنح المعلم حرية، إلا تكن مُطلقة، فهي حرية واسعة. وتقييد حرية المعلم ينشأ من جهاتٍ كثيرة. فهو مُقيد بالمناهج الموضوعة لا يستطيع أن يتركها إلى غيرها. بل لقد نصَّ الفقهاء على إبعاد بعض المواد من المنهج والنهي عن تدريسها، كالشِّعر الذي يكون فيه الهجاء أو العزل. وهو مُقيد في التأديب بشروط إذا تجاوزها أصبح مسئولا، ويُحاسب على ذلك حسابًا أدبيًّا وماديًّا. فليس له أن يضرب إلا بالدِّرَّة لتكون رطبةً مأمونة، فإذا ضرب بعصًا أو بغير ذلك كان مسئولا. وحدُّ الضرب ثلاث ضربات، وإذا أراد أن يزيد عليها فعليه أن يستشير ولي أمر الصبي وأن يستأذنه في زيادة الضرب. والقيد الشديد هو استشارة أولياء أمور الصبيان والرجوع إليهم. ذلك أن المعلم يستمدُّ سلطته من آباء الصبيان، ولهؤلاء أن يستردُّوا هذه السلطة إذا شاءوا. وقد أوجب القابسي على المعلم أن يرجع إلى ولي أمر الصبي في أمورٍ كثيرة تخصُّ عمله وحضوره إلى الكُتَّاب وغيابه عنه، وإدمانه البطالة، وعقابه، إلى غير ذلك من الشئون التي تعرض للصبيان في الكتاتيب. واستشارة أولياء الأمور، وإبلاغهم أحوال أبنائهم في دراستهم وأخلاقهم يدل على التعاون الواجب بين البيت والمدرسة، وفي هذا التعاون فوائد كثيرة تعود على التلميذ بالخير. مثال ذلك أن الصبي إذا هرب من الكُتَّاب وتعوَّد البطالة، فإن المعلم إذا سأله عن علة غيابه أخبرَه أنه في البيت، على حين يعتقد أبوه أنه موجود في الكُتَّاب، والحقيقة أنه لا يُوجَد في البيت، ولا في الكُتَّاب، بل يلهو ويعبَث ويلعب في الأزقة والشوارع. فإذا بادر المُعلم بإخبار الآباء عن غياب أبنائهم عرف هؤلاء ما يعمل الصبيان فيعاقبونهم ويردعونهم ويعملون على التزامهم الذهاب إلى الكُتَّاب. وفي حالة الصبي الأبله الذي لا يستفيد من الدرس «ولا يحفظ ما عُلِّمَ، ولا يضبط ما فُهِّمَ.» على المعلم أن يُعرِّف الآباء بمكان هذا الصبي من فقد الفهم. فإذا رضي الوالد أن يترك ابنه في الكُتَّاب، فإنه يدفع الأجر على حيازته لا على تعليمه. ولا شك أن الصبيان في حاجةٍ إلى الرقابة؛ لأن سِنَّهم الصغيرة لا تسمح بالحرية المُطلقة التي يشعر فيها الإنسان بالمسئولية ويحمل تبعاتها. والرقابة الدقيقة يجب أن تصدر عن البيت والكُتَّاب معًا، حتى لا يجد الصبي ثغرةً ينفذ منها إلى الإهمال في الحفظ، والإقبال على العبث، فتضيع الفائدة المنشودة. فالمعلم مسئول عن التلاميذ أمام أولياء أمورهم. وتقع عليه هذه المسئولية لأنه يتناول أجرًا على قيامه بالتعليم، فينبغي أن يُوفِّي عمله مقابل ما يأخذ من أجر. وقضية أجر المعلم من القضايا التي دار حولها النزاع خلال العصور المُتعاقبة، واختلف المفكرون والفلاسفة وأهل الرأي في قَبول المعلم الأجر أو عدم قبوله. وأشهر مَن امتنع عن تناول الأجر سقراط الفيلسوف اليوناني. عاش سقراط في عصر السفسطائيين، وهم طائفة من المُعلمين كانوا يعلمون الشباب البلاغة والبيان والجدل والفلسفة ويتناولون أجورًا على دروسهم؛ وخالفهم سقراط فكان يُعلِّم الشباب ولا يأخذ أجرًا. وكان يُعلِّم في كل مكان وُجد فيه، في الأروقة والشوارع والميادين والطرقات. وهناك أسباب فلسفية على أساسها امتنع سقراط عن أخذ الأجر، ذلك أن الفضيلة يستمدُّها صاحبها من النفس، ويستطيع أن يصِل إلى ذلك العلم بالتأمُّل، ولا يمكن أن تُعلَّم الفضائل، فلا يستحق المعلم بناء على ذلك أجرًا. ولا شك أن سلطان المُعلم على تلميذه يكون أقوى وأكثر إيحاءً، ويكون التلميذ أدنى إلى قبول آراء المُعلم إذا عفَّ عن أخذ الأجر؛ إذ تكون الصلة بينهما روحية معنوية، لا تدخُل المادة في علاقة بعضها ببعض فتُفسدها. ومن المعروف أن تعليم القرآن والدين في صدر الإسلام كان تطوعًا، وهكذا ذكر القابسي في رسالته. ولمَّا انتشر الإسلام، وأصبح من العسير وجود مَنْ يُعلم للمسلمين أولادهم «ويحبس نفسه عليهم ويترك التماس معايشه.» «صلح للمُسلمين أن يستأجروا من يكفيهم تعليم أولادهم، ويلازِمهم لهم.» فالأجر إذَنْ ضروري في نظر القابسي، ووجه الضرورة: «أنه لو اعتمد الناس على التطوُّع، لضاع كثير من الصبيان ولمَا تعلَّم القرآن كثير من الناس، فتكون هي الضرورة القائدة إلى السقوط في فقد القرآن من الصدور، والداعية التي تثبت أطفال المسلمين على الجهالة.» ٣٣-أ. والروح الذي دفع المسلمين في صدر الإسلام إلى القيام بتعليم القرآن والكتابة تطوُّعًا، هو ذلك الروح الديني الذي استغرق النفوس، فملأ القلوب وعمَّرَها بالإيمان، مما أدى إلى هذه الفتوحات العظيمة في التاريخ، والتي لا يمكن تفسيرها إلا بقوة الإيمان وشدة اليقين. فلمَّا استقرَّ المسلمون في الممالك التي فتحوها وتحوَّل أهلها إلى الإسلام، واطمأنَّت النظم الإسلامية، وركد الروح الأول الدافع إلى الفتح والغزو ونشر الدين وتحويل الأمم إلى الإسلام، اضطُر المسلمون إلى تنظيم أمر التعليم الذي يخص أبناءهم فنشأت الكتاتيب، وظهرت مع ظهورها الحاجة إلى تحديد العلاقة بين المُعلم والتلميذ، وبين المُعلم والنظام المدرسي والعلوم التي يقوم بتدريسها. وأهم هذه العلوم: القرآن، فهو المحور الذي يدور عليه التعليم في الكُتَّاب، وهو السبيل في ظهور الكتاتيب، وهو همزة الوصل بين المُعلم والتلميذ. ثم برزت مُشكلتان: الأولى أخذ الأجر على تعليم القرآن، وهل يجوز ذلك أو لا يجوز. والثانية قبول المُعلم الأجر على علومٍ أخرى غير القرآن. وهنا نرى أن قضية أجر المُعلم عند المسلمين تختلف عن مثلها عند سقراط؛ فقد آثر سقراط الامتناع عن تناول الأجر لغايةٍ خلقية وإنسانية وروحية، فعنده أن الوصول إلى الحقيقة، ثم نشرها وإذاعتها بين الناس لا يتم على الوجه الصحيح الذي نصِل فيه إلى الحقيقة الخالصة، إلا إذا ابتعد المُعلمون عن شوائب المادة. أما المسلمون فلم يكن همُّهم الوصول إلى الحقيقة والبحث عنها؛ لأن القرآن كتاب الله المُنزَّل على عباده فيه جماع الحقائق وغاية المعارف. ومَنْ أراد الوصول إلى الحق فليحفَظ القرآن ويَعِ ما فيه. فهل يؤجَر مَنْ يُعلِّم القرآن؟ فمسألة الأجر نشأت عن علةٍ دينية وعن تعليم القرآن بالذات. وقد اختلف الفقهاء فيما بينهم على أخذ الأجر على تعليم القرآن. ولكل فقيهٍ وجهة نظر يعتمد عليها في الحكم. وقد كانت هذه المسألة موضع خلافٍ شديد؛ لأنها تمسُّ القرآن وهو أقدس الأشياء عند المسلمين، ولهذا السبب أفاض القابسي في عرض وجهات النظر المُختلفة وانتهى إلى ترجيح رأي القائلين بجواز أجر المعلم. وهذه حجة تعتمد على التقاليد الموروثة، وعلى العادات التي كانت تصدر عن السلف الصالح. وأعمال أئمة المسلمين حجة على غيرهم وأصل من أصول الدين. ونذكر هذا الحديث لأهميته كما جاء في رسالة القابسي: «عن عبادةَ بن الصامت: علَّمتُ ناسًا من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى لي رجل منهم قوسًا. فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله. لآتين رسول الله فلأسألنَّه. فأتيته فقلت: يا رسول الله رجل أهدى لي قوسًا ممَّن كنت أُعلِّمه الكتاب؛ القرآن، وليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله. فقال: إن كنتَ تُحب أن تكون طوقًا من النار فاقبَلْها.» ٣٩-أ. ويُعلِّق ابن حبيب على هذا الحديث بقوله: «وتأويل هذا النهي أن ذلك كان في مبتدأ الإسلام، وحين كان القرآن قليلًا في صدور الرجال، غير فاشٍ ولا مُستفيض في الناس. وكان الأخذ على تعليمه يومئذٍ، وفي تلك الحال، إنما كان ثمنًا للقرآن. أما بعد أن صار فاشيًا في الناس، قد أثبتوه في المصاحب، وصارت المصاحف وما فيها مُباحة للجاهل والعالِم، وللقارئ وغير القارئ، غير محجوبة ولا ممنوعة، ولا مطلوبة إلى قومٍ دون قوم، ولا مخصوص بها قوم دون غيرهم، فإنما الإجارة على تعليمه إجارة البدَن المُشتغِل بذلك، وليس ثمنًا للقرآن.» ٣٩-ب. وبهذا أخرج ابن حبيب المسألة من الأجر على القرآن إلى الأجر على الاشتغال بالتعليم، فتحلَّل من القرآن بأن يكون الأجر ثمنًا للقرآن. وهذا تحليل غريب في بابه؛ لأنه مع افتراض أن الأجر الذي يتناوله المُعلم إنما يأخذه عِوضًا عن الوقت الذي يشغله، والمجهود الذي يبذله، فإن هذا لا يعني أن الشيء الذي يُعلمه هو القرآن، وأنه هو الأصل في التعليم. أما القابسي فإنه يجعل لحيازة الصبي في الكُتَّاب أجرًا، ولتعليمه أجرًا آخر، وذلك كما قال عن المعلم الذي يحفظ الصبيَّ الأبله الذي لا يستفيد، ويأخذ أجرًا على حَوْزه لا على تعليمه. فإجارة البدن المُشتغل بالتعليم من الأمور المُتَّفَق عليها، ويبقى أجر القرآن والتعليم. وقد وقف القابسي من حديث القَوس موقفًا يختلف عن موقف ابن حبيب، ذلك أنه لم يقبَل الحديث ويعمل على تخريجه وتأويله ذلك التخريج الغريب الذي رأيناه، ولكنه شكَّ في صحة الحديث فقال: «ولو ثبتت صِحة نقل حديث القوس على ما ذكر.» ٣٩-أ. والذين يجيزون الأجر يعتمدون على أحاديث الرسول أيضًا. منها حديث «أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله.» وفي حديث الرقية: «أن بعض أصحاب النبي رقَوا ملدوغًا بالقرآن واشترطوا جُعلًا، وسألوا النبي في ذلك فقال: «اقسموا واضربوا لي معكم سهمًا.» فالحديث يُجيز أخذ الإجارة على كتاب الله ممَّن ينتفع به.» ٣٦٠-ب. إنما الأجر المعيب أن يكون للتكسُّب بالقرآن كما في الحديث: «اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به ولا تُراءوا به، ولا تسمعوا به.» هذا ولا يرى أئمة المسلمين بأسًا بأخْذ الإجارة على التعليم. وقد جرى المسلمون على ذلك وأجازوه، «وذكروا ذلك عن عطاء بن رباح، وعن الحسن البصري، وعن غير واحدٍ من الأئمة الصالحين.» ٣٤-ب. وهذا يدحض حُجة القائلين بعدَم جواز أخْذ الأجر اعتمادًا على ما كان يعمل السلف الصالح. عن مالك: «كل مَنْ أدركتُ من أهل العلم لا يرى بأجْر المُعلمين — مُعلِّمي الكُتَّاب — بأسًا.» وعن ابن وهب في مُوطَّئه: «سمعتُ مالكًا يقول: لا بأس بأخذ الأجر على تعليم القرآن والكتابة.» «وفي المُدوَّنة أن سعد بن أبي وقاص قدم برجل من أهل العراق، وكان يُعلِّم أبناءهم الكتابة والقرآن بالمدينة، ويُعطونه على ذلك الأجرة.» وعن مالك: «لا بأس بما يأخذ المعلم على تعليم القرآن، وإن اشتراط شيئًا كان حلالًا له جائزًا.» وبذلك حلَّ القابسي مشكلة أخذ الأجر على تعليم القرآن، وأجاز ذلك كما أجازه جميع أئمة المذهب المالكي. وبقِيَت المشكلة الثانية وهي أخذ الأجرة على تعليم غير القرآن؛ فهي موضع خلافٍ بين فقهاء المالكية. ذلك أن مالكًا لا يُجيز الأجر على غير القرآن والكتابة، حيث أجاب عن أجر الشِّعر كما يأتي: «أما الاستئجار على تعليم الشِّعر لولده فقال فيه ابن القاسم، قال مالك: لا يُعجبني هذا.» ٤٣-أ. وسحنون من رأي مالك وابن القاسم ٤٤-ب. أما ابن حبيب فقال: «لا بأس بإجارة المُعلم على تعليم الشِّعر والنحو والرسائل وأيام العرب وما أشبه ذلك من عِلم الرجال وذوي المروءات.» ٤٤-ب. وإذا علِمنا أن ابن حبيب كان فقيه الأندلس، فليس لنا أن نعجَب إذا أجاز تعليم الشِّعر وأخْذ الأجرة عليه، فالأندلس بيئة الجمال والفن والشِّعر. ويرى القابسي أن وجه الخلاف في الأجر عند الفقهاء: «إنما هو في إفراد المُعلم بالإجارة على غير القرآن والكتابة. فأما ما كان من معاني التقوية على القرآن من الكتابة والخط فما اختلفوا فيه.» ٤٣-أ. وهذا يدلنا على حقيقتَين: الأولى الحث على تعليم القرآن ولهذا أجازوا الأجر، والثانية منع تعليم شيء غير القرآن، حتى لا ينصرف الناس إلى هذه العلوم عن القرآن نفسه. ولهذا السبب نصح القابسي بالاقتصاد في تعليم الشِّعر حتى: «لا يغلِب الشِّعر على الإنسان فيصدَّه عن ذكر الله والقرآن.» ٤٦-أ. فالقرآن هو الهدف الأول والأخير من التعليم، وفي سبيل تعليمه ونشره أجازوا أخذ الأجرة. وقد لخَّص السيوطي في (الإتقان) الكلام في الأجر فقال: «أما أخذ الأجرة على التعليم فجائز. ففي البخاري: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله».» وقيل إن تعيَّن لم يَجُزْ، واختاره الحليمي. وقيل لا يجوز مُطلقًا لحديث أبي داود عن عبادة بن الصامت أنه: علَّم رجلًا من أهل الصفَّة القرآن فأهدى له قوسًا، فقال له النبي إن سرَّك أن تُطوَّق به طوقًا من نارٍ فاقبلها. وهذا هو رأي القابسي في جواز أخذ الأجرة على التعليم لضرورة تعليم القرآن، حتى لا يضيع من الصدور فينشأ أبناء المسلمين على الجهالة. وقد كان الأجر على غير القرآن موضع خلافٍ بين الفقهاء كما رأينا، ولذلك كان إطلاق القضية على النحو الذي ذكرَه طوطح في كتابه غير صحيح. وقد وضع القابسي قواعد الشرط بين المُعلم وآباء الصبيان على الأجر، حتى لا يقع الخلاف بينهم. ويختلف الشرط على التعليم باختلاف البلاد وعاداتها. وقد أجاز الفُقهاء جميع الأحوال الخاصة بالشرط على الأجر، فقد يكون مُشاهَرَة أو مُساناة أو بأجلٍ مُعيَّن. وقد تكون الأجرة على أجزاء القرآن التي يستكمل الصبي حِفظها، وذلك حسب عادة البلد، واشتهار أداء الناس في ذلك، مثل الجُعل في لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا (البينة) وفي عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (النبأ) وتَبَارَكَ (الملك) وإِنَّا فَتَحْنَا (الفتح) و«الصَّافَّاتِ» و«الْكَهْفِ» ٧٣-أ. ولا بأس بالأجر عن سورةٍ واحدة. «جاء رجل إلى مالك قال: علَّمْت رجلًا سورة بالأجر. قال: لا بأس.» ٧١-أ. وإذا كان الأجر المُتفَق عليه بحذقة جزءًا مُعينًا من القرآن، فلا يجوز التوقيت بأجَلٍ مُسمى؛ «إذ يُخشى أن يُوقِّت وقتًا ضيقًا لا يبلُغ الصبي حذقة ما اشترط تعلُّمه.» فإذا انتهى الأجل ولم يكن الصبي قد استكمل الحذقة: «فيكون له أجر مِثله فيما علمه في تلك السنة.» ٥١-ب. ويأخذ المُعلم أجر الختمة زيادةً على أجر التعليم المُشترَط عليه. والختمة في الأصل أن يستكمل الصبي حفظ القرآن. وقد جرَتِ العادة بدفع أجر الختم. قال مالك: «وحق الختمة واجب؛ اشترطها المُعلم أو لم يشترطها، وعلى ذلك أهل العلم ببلدنا.» ٤٧-أ. ومقاربة الختمة عند سحنون إذا بلغ الثُّلثَين أو جاوز ذلك. وقيل عند الثلاثة أرباع أبين: «وعنده أنه إذا لم يبلغ إلا لسورة يونس أنه لا يُقضى له بشيء.» ٧٥-أ. أن يستظهر الصبي القرآن حفظًا من أوله إلى آخره، وقدْر ما فهمه والصبي ممَّا علَّمَه المُعلم ٧٠-أ. أن يكون الصبي استكمل قراءة القرآن في المصحف نظرًا، لا يخفى عليه شيء من حروفه مع ما فهمه الصبي مما ينضاف إلى ذلك من ضبط الهجاء والشكل وحُسن الخط ٧١-أ. إن كان الصبي لم يتعلَّم، يُملى عليه فلا يتهجَّى، ويرى الحروف فلا يضبطها فلا يستحق المُعلم شيئًا إلا إذا كان الصبي أبله. وإذا تعلَّم الصبي عند مُعلمٍ بعضَ القرآن، ثم خرج من عنده إلى مُعلم آخر يستكمل عنده الختمة، فالأجر يكون بينهما بمِقدار ما علَّم كل منهما نصفًا ونصفًا، أو ثلثًا وثلثَين، أو ربعًا وثلاثة أرباع. فإذا كان المعلم الأول قد بلغ من تعليم الصبي إلى مقاربة الختمة نظرًا أو استظهارًا، حتى بلغ من الحذقة في ذلك إلى الاستغناء عن المُعلم، وكان خروجه إلى الثاني لا يريد علمًا في تعليمه إلا أن يكون له شيء في إمساكه وحياطته للصبي، فالجُعل كله للأول أو ينقص منه قليل ٨٥-أ. أما إذا تعلَّم الصبي عند الأول، ثم أُخرج من عنده، ولم ينَلْ من التعليم شيئًا له فيه منفعة، لعِوَج قراءته في سورةٍ يسيرة تعلَّمها، ولا خطَّ ولا هجاء، فالجُعل كله للثاني، وقَلَّ ما يناله الأول … ٨٥-ب. وأما سحنون فقال: «إن عَلَّمَه الأول إلى يونس فالختمة للثاني، وإن جاوز ذلك إلى ثلثَين أو زاد على ثُلثَين لم يُقضَ للثاني بشيء.» وتُفسَخ الإجارة إن مات المُعلم أو مات الصبي أو مات أبو الصبي. فإن مات المُعلم، فهو يستأجِر من ماله مَنْ يعلم مكانه، وله من الإجارة بحسب ما علَّم من الأجل ٧٨-أ. وإذا مات الصبي، فللمُعلم من الإجارة بحسب ما علَّم. وإن مات الصبي، يأخُذ المُعلم من تركة الميت إن كان للصبي مال ورِثَه، وإن لم يكن له مال، فللمُعلم أن يفسخ الإجارة إلا أن يشاء أن يتطوَّع ٨٧-ب. إذا كان قد عاقدهم على المُشاهرة شهرًا بشهر أو سنة بسنة، فالحُكم فيه أن يتركوه متى شاءوا، ويترك تعليمهم متى شاء. والحُكم بينهم فيما قد علَّم لهم. إن كان قد عاقدهم على سنةٍ بعينها أو أشهر بأعيانها، ورحلوا مُضطرين فليس عليه أن يتبعهم في السفر، بل ينتظر عودتهم ويكمل باقي مدة التعليم ٨٨-ب. إن كان رحيلهم طوعًا، فليس لهم أن ينقُصوا إجارته ٧٦-ب. وشركة المُعلِّمَيْن أو أكثر جائزة، إذا كانوا في مكان واحد لسببَين: الأول: «لأن لهم في ذلك ترافقًا وتعاونًا.» والثاني: «أن يمرض بعضهم، فيكون السالِم مكانه حتى يفيق.» ٦٨-أ. ويشترط مالك في شركة المُعلِّمَين أن يستوي علمهما، فلا يكون لأحدهما فضل على صاحبه في علمه. فإن كان أحدهما أعلم من صاحبه، فإنه يتناول أجرًا أكثر من الأقل علمًا. ولا تصح الشركة على مذهب ابن القاسم، إذا استؤجر أحدهما لتعليم النحو والشِّعر والحساب وما أشبه واستؤجر الآخر لتعليم القرآن والكتابة. وهذا هو مذهب مَنْ يكره الإجارة على تعليم غير القرآن والكتابة ٦٩-أ. والمعلم هو الذي يَستأجِر مكان الكُتَّاب، بيتًا كان أو حانوتًا. أما إذا استؤجر المعلم على صبيان معلومين سنة معلومة، فعلى أولياء الصبيان كراء موضع المعلم لأنهم هم أتوا بالمُعلم إليهم وأقعدوه لصبيانهم ٦٦-ب. وإذا أراد المعلم الانتقال بالكتاب إلى موضعٍ آخر، فإن كان المكان الجديد لا مضرَّة فيه على الآتين منه، ولا مشقَّة ولا خوف على الصبيان، فلا مانع من الانتقال. فإن كان فيه مضرَّة على واحد منهم فليس للمعلم أن ينتقل من مكانٍ على التعليم فيه وقعت الإجارة ٨٧-أ. بهذا نرى أن القابسي فصَّل الأحوال المختلفة التي تعرِض لعلاقة المعلم بالتلميذ من ناحية الأجر، وحكَم في كل منها حكمًا يستند إلى الحق والشرع والمصلحة، حتى يسوَّى النزاع بين المُعلمين وآباء الصبيان، لتستقرَّ الأمور وتجري في مجراها السليم. وفي الحكم بالأجر إنصاف للمُعلمين، وإنصاف للجمهور، وإنصاف للتعليم نفسه. فالقابسي ينظر إلى الواقع، ولا يتطلَّب المُثل العليا العسيرة المثال. فهو يريد مُعلمًا ورِعًا تقيًّا، مُخلصًا في عمله وفي دينه وفي سلوكه، يقوم من التلاميذ مقام الوالد من الولد، فيأخذ الصبيان بالشفقة والرحمة، والسياسة والحكمة، ويبصرهم أحوال دينهم، ويحفظهم كتاب الله وسنة رسوله، حفظًا للدين من الضياع. ولم يضنَّ القابسي على المعلم في سبيل ذلك بالأجر لحفظ المعاش، والكسب الضروري للحياة.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/40635716/
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
أحمد فؤاد الأهواني
«نحن في حاجةٍ إلى القديمِ والجديدِ معًا؛ لأننا لا نستطيع قَطْع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولغته، لا يزال دِيننا الإسلام، وكِتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجةٍ اليومَ إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم، ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادُنا منذ ألف عام يُعلِّمونهما؛ فقد يُفيدنا ذلك في موقعنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابةَ والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي موضع تفكير علماء التربية.» في القرون الإسلامية الأولى بلغت الحضارة العربية أوْج عظمتها، وانتشرت لأقاصي الشرق والغرب، حيث انتقلت إلى أوروبا التي كانت تموج في بحرٍ مُظلم جرَّاء التدهور والانحلال. وهذه الحضارة العظيمة تأسَّست على العِلم، ولا عِلم بغير تعليمٍ وتربية. ولأجل التعرُّف على أحوال التعليم في تلك العصور الزاهية، يأتينا هذا الكتاب ﻟ «أحمد فؤاد الأهواني»، حيث يُقدِّم فيه دراسةً وافية عن حياة «أبو الحسن القابسي» الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وكِتابه البالغ الأهمية؛ إذ قام «القابسي» فيه بمُعالجةٍ تفصيلية ودقيقة لكل ما تعلَّق بشئون التعليم في عصره، وخصوصًا تعليم الصبيان، وكذلك حل مشكلات التعليم. وقد أُلحِق بهذا الكتاب رسالة «ابن سحنون» المُعنونة ﺑ «آداب المُعلمين»، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث الهجري ولا يعرفها سوى القليل، وتُعَد من الرسائل النادرة عن التربية.
https://www.hindawi.org/books/40635716/10/
آراء المُسلمين في التربية والتعليم
لهذا كله آثَرْنا أن نجمع أشهر آراء المسلمين في التربية، أو آراء أشهر المُربين في الإسلام في مكانٍ واحد، لتكون الموازنة بينهم وبين القابسي الذي يُمثل فريق الفقهاء بارزة جلية. وقد نظروا إلى التعليم والتربية نظرًا عقليًّا لا عمليًّا. وأصحاب (رسائل إخوان الصفا) مُخطئون في فهم أفلاطون؛ لأن معنى رأيه «العلم تذكُّر والجهل نسيان.» أن النفس كانت تعيش مع الآلهة في عالَم المُثُل فعندها معرفة بكلِّ شيء، ولمَّا اتَّصلَت بالجسد نسِيَت، فإذا انكشف عنها ستار المعرفة، فإنها لا تكسِب شيئًا جديدًا، بل تتذكَّر ما كانت تعرفه في عالَم المُثل قبل اتصالها بالجسد. ومذهب إخوان الصفا شبيه بمذهب لوك الذي يَعتبر أن أصل المعرفة هو الحواس، وأنه لا شيء في العقل لم يكن قبل ذلك في الحواس. فإذا كانت المعرفة مُكتسبة، فكيف الطريق إلى تحصيلها؟ الأبرار والرحماء، يشترط فيهم صفاء جوهر نفوسهم وجودة القبول، سِنهم خمس عشرة سنة. مرتبة الرؤساء وذوي الرياسات، عمرهم ثلاثون سنة، يشترط فيهم مراعاة الإخوان وسخاء النفس. رتبة الملوك وذوي السلطان، وهي القوة الناموسية الواردة بعد ملوك الجسد بأربعين سنة. وقد نبَّه إخوان الصفا في غير موضعٍ إلى أهمية التربية والتعليم والمحافظة في طبع النفوس بالآراء والسجايا، مما يصعُب محوه بعد ذلك. ولكنهم أغفلوا مع ذلك حلقةً أولى في التعليم، تُعتبر من بنيانه كالأساس، وهي مرحلة تعليم الصبيان حتى سِن الخامسة عشرة. وفي هذا النص إشارة إلى منهج تعليم الصبيان في المشرق، وليس فيه خلاف عن المنهج المتبع في المغرب. وتكلم أحمد بن محمد بن مسكويه عن تعليم الصبيان في كتاب «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق». وقد درج في هذا الكلام على طريقة الفلاسفة، ولكنه كأغلب الفلاسفة المسلمين، أخذ عن الفلسفة اليونانية دون أن يتبع فيلسوفًا بعينه، ولكنه أخذ من كل مذهب ما أعجبه، ومزج الآراء بعضها ببعض. الحق والخير والجمال هي الغايات التي يتطلَّع إليها الإنسان. وهذه الثلاثة هي بذاتها مُثُل أفلاطون الأخيرة. وتنقسم النفس إلى ثلاث قوى: النفس الناطقة، والغضبية، والشهوانية. والناطقة هي القوة التي بها يكون التفكير والنظر في حقائق الأمور، والغضبية هي التي يكون بها النجدة والإقدام على الأحوال، والشهوانية يكون بها طلب الغذاء والملاذ. والمعلومات بعضها مُكتسب، وبعضها فطري. «فإن النفس وإن كانت تأخذ كثيرًا من مبادئ العلوم عن الحواس، فلها من نفسها مبادئُ أُخَر، وأفعال لا تُؤخَذ عن الحواس البتة. وهي المبادئ الشريفة العالية التي تنبني عليها القياسات الصحيحة. وإذا أردنا التعبير عن هذا الرأي بأسلوبٍ آخر، نقول إن مادة المعلومات مُكتسبة، أما صورتها ففطرية. والأحوال الخلقية بعضها مكتسب وبعضها فطري، «فمنها ما يكون طبيعيًّا من أصل المزاج، ومنها ما يكون مُستفادًا بالعادة والتدريب، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر ثم يستمر عليه أولًا فأولًا حتى يصير ملكة واختيارًا.» «ولهذا اختلف القدماء فقالوا مَنْ كان له خلق طبيعي لم ينتقل عنه، وقال أخرون ليس شيء من الأخلاق طبيعيًّا.» وقد اختار ابن مسكويه المذهب الثاني وهو أننا: «ننتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعًا وإما بطيئًا. ولأن الرأي الأول يؤدي إلى إبطال قوة التمييز والعقل، وإلى رفض السياسات كلها، وترك الناس همجًا مُهمَلين، وإلى ترك الأحداث والصبيان على ما يتفق أن يكونوا عليه بغير سياسة ولا تعليم، وهذا ظاهر الشناعة جدًّا.» فالصبي قابل للتعليم والتأديب. ثم وصف بن مسكويه العلوم والفضائل التي يأخُذ الناس بها أنفسهم منذ الصبا. في هذا المنهج نجد ابن مسكويه يمزج بين الدين والفضيلة والعِلم على الأخص علم الحساب والهندسة، وهذا شبيه بالفيثاغوريين. والكلام في هذا الفصل ينصبُّ على التربية والتأديب، لا على كسب العلوم. وقد كانت عناية الروم والفرس مُتجهة في الغالب إلى تهذيب الخُلق وتعليم الأدب. ولا ننسى أن الروم كانت دولة أرستقراطية انعزلت فيها الطبقات بعضها عن بعض، على عكس الإسلام الذي سوَّى بين الناس في الحقوق، ومحا فوارق الطبقات. قال ابن مسكويه نقلًا عن هذا الكتاب: وأحوج الصبيان إلى هذا الأدب أولاد الأغنياء والمُترفين. لذلك كانت آداب السلوك التي ذِكرُها بأهل الطبقة الرفيعة أليق. ونفس الصبي ساذجة لن تنتقش بعد بصورة، ولا لها رأي وعزيمة تُمليها من شيءٍ إلى شيء. فإذا نُقِشت بصورة قبِلَتْها نشأ عليها واعتادها. وهذا يطابق الرأي الذي ذهب إليه من قبل، وقد ساد هذا الرأي بنصِّه عند أغلب المفكرين في الإسلام. وأوْلى الآداب بالتقديم أدب المطاعم، التي تُراد للصحة لا للذَّة، ولدفع الجوع وحفظ صحة البدن. ولا يُرَغَّب الصبي في الألوان الكثيرة، وإذا جلس مع غيره فلا يُبادر إلى الطعام، ولا يُحدِّق إليه شديدًا، ولا يُسرع في الأكل. أما الحلوى والفاكهة فينبغي أن يمتنع عنها البتة إن أمكن، وإلا فيتناول أقلَّ ما يمكن، فإنها تستحيل في بدنه وتُكثِر انحلاله. ونقول إن هذا الرأي لا يتفق ومبادئ الطب الحديث. «فأما النبيذ وأصناف الأشربة المُسكرة فإيَّاه وإيَّاها، فإنها تضرُّه في بدنه ونفسه، وتَحمِله على سرعة الغضب والتهوُّر والإقدام على القبائح. ولا يحضر مجالس أهل الشرب إلا أن يكون أهل المجلس أدباء.» وهذا الرأي أجنبي لا إسلامي؛ إذ المُعلم ينهى عن الخمر لأن الدين حرَّمها، ولا ينصح البتة بحضور مجالس الشراب. ثم إن هذه المجالس يجتمع فيها الخاصة لا العوام، وهذا يطابق ما ذكرناه من أن هذا الفصل يُعالج تأديب الصبيان في الطبقة الرفيعة. ويُمنع الصبي من النوم الكثير؛ فإنه يُقبِّحه ويغلظ ذهنه. ولا يتعود النوم بالنهار ألبتة، ويُعوَّد الحركة والمشي والرياضة. فالغاية من هذه الآداب كلها هي أن يتعوَّد الخشونة ويصلُب بدنه. ولذلك: «يُؤاخَذ باشتهائه المآكل والمشارب والملابس الفاخِرة. ويُعلَّم أن أولى الناس بالملابس المُلوَّنة والمنقوشة النساء اللاتي يتزينَّ للرجال، وأن الأحسن بأهل النُّبل والشرَف من اللباس البياض.» وأبلغ مما سبق في التعوُّد على الخشونة والرجولة: «أنه ينبغي إذا ضربه المُعلم ألا يصرخ وألَّا يستشفِع بأحد، فإن هذا فعل المماليك، ومن هو خَوَّار ضعيف.» ومع ذلك فالصبي «يؤذَن له في بعض الأوقات أن يلعب لعبًا جميلًا ليستريح إليه من تعب الأدب.» ومما يجري مجرى الرجولة والأدب أن يحفظ الأخبار والأشعار التي تُعوِّده الأدب: «ويحذَر النظر في الأشعار السخيفة، وما فيها من ذكر العشق وأهله، وما يُوهمه أصحابها أنه ضرْب من الظُّرف، وَرِقَّةِ الطبع. فإن هذا الباب مَفسدة للأحداث جدًّا.» وطريقة التأديب إذا وقع من الصبي مُخالفات هي التغافُل أولًا، ثم التوبيخ، ثم الضرب؛ «لأنك إن عوَّدتَه التوبيخ والمكاشفة حملْتَه على الوقاحة.» ويُمدح بكل ما يظهر منه من خلق جميل. هذه هي خلاصة ما ذكره ابن مسكويه في التعليم والتأديب. ومن الواضح أنه تأثر في آرائه بالفلسفة، فأخذ عن أفلاطون، وعن أرسطو، وعن الفيثاغوريين، وعن الفُرس، وجعل من كل ذلك مذهبًا جديدًا في الأخلاق، مُؤتلِفًا إلى حدٍّ كبير. وهذا الرُّقي يقبله المرء بالتأديب. وآراؤه تدلُّ على حرية شديدة في التفكير، على العكس من ابن مسكويه الذي تقيَّد بآراء أفلاطون وأرسطو، وأراد أن يُطبقها على البيئة الإسلامية، فخرجت لذلك مُغايرة لطبيعة المسلمين. أما ابن سينا فينظر إلى البيئة الإسلامية، ويتحرى الأساليب المُلائمة لها في التعليم والتهذيب، بما يتَّفِق مع العقل السليم. «إذا فُطِمَ الصبي عن الرضاع بُدئ بتأديبه ورياضة أخلاقه قبل أن تهجم عليه الأخلاق اللئيمة؛ فإنَّ الصبي تتبادر إليه مساوئ الأخلاق، فما تمكَّن منه من ذلك غلَب عليه فلم يستطع له مُفارقة.» هذه هي نظرية تكوين العادة وصعوبة الإقلاع عنها، وأغلب المسلمين على هذا الرأي، ولهم في ذلك حِكَم مأثورة مشهورة مثل: «التعلُّم في الصغر كالنقش على الحجر.» إلى غير ذلك. وقد رأينا القابسي أيضًا ينصح بتكوين العادات الحسنة منذ الصغر، ومنها المبادرة بتعليم الصبي الصلاة. «فإذا اشتدَّت مفاصل الصبي، واستوى لسانه، وتهيأ للتلقين، ووعَى سمعه أخذ في تعلُّم القرآن وصور له حروف الهجاء، ولُقِّن معالم الدين.» وابن سينا هنا يرجع بالذاكرة إلى نفسه حين كان صبيًّا صغيرًا، فأحضر مُعلم القرآن، ولم يبلُغ العاشرة من عمره حتى أتى على القرآن وعلى كثيرٍ من الأدب، كما ذكر في سيرة حياته. فهو يريد أن يُنشئ أبناء المسلمين على الصورة التي نشأ هو عليها، ولا يَجِد في ذلك حرَجًا أو مطعنًا، ولهذا أقرَّ هذه الطريقة التي تبدأ بتعليم القرآن والكتابة، كما جرت العادة في الكتاتيب. ويرى ابن سينا: «أن يُروى الصبي الرجَزَ ثم القصيد.» وهذا الاهتمام الشديد بالشِّعر والنص عليه، دليل على عناية ابن سينا بالفن وأثره في النفس، وقد كان ابن سينا شاعرًا نظم القصيدة العينية في النفس، وله قصيدة في المنطق. وأرجوزة في الطب، وعدة قصائد في الزهد وغير ذلك، فلا غرابة أن يحث على تعليم الشِّعر. ومن رأي ابن سينا أن يكون التعليم جميعًا في المكتب، لا فرديًّا على مؤدِّب خاص. وكانت عادة الأغنياء والأشراف اتخاذ المُؤدِّبين لأولادهم. «لأن انفراد الصبي الواحد بالمؤدِّب أجلب لضجرهما.» «ولأن الصبيَّ عن الصبي ألقن، وهو عنه آخَذُ وبه آنَسُ.» ووجود الصبي مع غيره من الصبيان «أدعى إلى التعلم والتخرُّج فإنه يُباهي الصبيان مرة ويغبطهم مرة ويأنف عن القصور عن شأوهم مرة. ثم إنهم يترافقون ويتعاوَضون الزيارة ويتكارَمون ويتعاوَضون الحقوق، وكل ذلك من أسباب المباراة والمُباهلة والمساجلة والمحاكاة، وفي ذلك تهذيب لأخلاقهم وتحريك لهِمَمِهم وتمرين لعاداتهم.» وليس في هذا الكلام جديد عما ذكر القابسي الذي حبَّذ المُخايرة بين الصبيان، وأجاز اتخاذ العريف لِما في ذلك من فائدة في تخريج الصبيان. وإنما الجديد النصيحة لأبناء الطبقة الرفيعة أن يتَّصِلوا بأبناء الشعب في الكتاتيب مما يدل على تأصُّل الروح الديموقراطي في قلب ابن سينا. ولم يكن ابن مسكويه على هذا الرأي؛ لأن رسالة تأديب الأحداث التي نقلها في كتابه إنما تصِف تعليم صبيان الخاصة فقط، وينصرِف الرأي فيها إلى المؤدِّب وتلميذه، لا المُعلم وصبيانه.» وقيمة المُعلم عند ابن سينا في خلقه وسيرته، لذلك ينبغي أن يكون: «عاقلًا، ذا دين، بصيرًا برياضة الأخلاق، حاذقًا بتخريج الصبيان، وقورًا رزينًا بعيدًا عن الخفة والسخف، قليل التبذُّل والاسترسال بحضرة الصبي.» ورأي ابن سينا في العقوبة لا يخرج عما هو معروف عند فقهاء المسلمين، وعما ذكر القابسي، فهو ينصح بالترهيب والترغيب، والإيناس والإيحاش، والحمد مرة والتوبيخ مرة أخرى، والضرب بعد الإرهاب الشديد. ونُحِب أن نقف قليلًا عند رأيٍ جديد لابن سينا لم يسبقه إليه أحد في الإسلام، وهو من الآراء الحديثة في التربية وعِلم النفس. ذلك هو مسايرة ميول الصبي، ثم توجيه الصبي إلى الصناعة أو المهنة التي تتَّفِق مع ميوله. ذلك أنه: «ليس كل صناعة يرومها الصبي مُمكنة له مواتية، لكن ما شاكَلَ طبعَه وناسَبَه، وأنه لو كانت الآداب والصناعات تُجيب، وتنقاد بالطلَب والمَرام دون المُشاكلة والمُلائمة، إذَنْ ما كان أحد غفلًا من الأدب، وعاريًا من صناعته، وإذَنْ لأجمع الناس كلهم على اختيار أشرف وأرفع الصناعات.» «وينبغي لمُدبِّر الصبي إذا رام اختيار الصناعة أن يزِن أولًا طبع الصبي، ويسبر قريحته، ويختبر ذكاءه، فيختار له الصناعات بحسب ذلك.» ولكن ابن سينا لم يُوضِّح لنا طريقة اختبار الذكاء، وميزان الطبع والقريحة؛ ولعله ترك ذلك لفراسة المُعلم ورأيه. بينما الجديد في علم النفس الحديث هو ابتكار اختبارات الذكاء، واختبارات الشخصية. ذكرنا التربية عند إخوان الصفا، وعند ابن مسكويه، وعند ابن سينا، لنُبين ما يراه بعض الفلاسفة في تعليم الصبيان. ونذكر الآن رأي المُتصوفة، وسنتَّخِذ الغزالي ممثلًا لهم؛ لأنه أوفى مَنْ كتب في هذا الموضوع، ولأن آراءه أوسع انتشارًا من غيره. وليس غريبًا أن يُنبه الغزالي على قيمة التعليم والمُعلمين، وهو الذي كان مُعلمًا في إحدى مدارس بغداد، ثم اعتزل التعليم وصناعته ليكون مُعلمًا للناس كافة عن طريق كتُبِه التي ألَّفَها، وأكبرُها «إحياء علوم الدين». وبعد أن طاف الغزالي بجميع المذاهب في الكلام والفلسفة، انصرف عنها، وطعن عليها، وآثر طريق التصوف. ولكنه اعتنق هذا المذهب عن روِيَّة وتفكير، لا عن اتباعٍ وتقليد. والعلم الذي هو فرض عين على كل مسلم: اعتقاد وفعل وترك؛ أي اعتقاد بالله، وفعل بما أمر الله، وترك لما نهى عنه. وهنا نرى أن الغزالي يقترِب من رأي القابسي وهو رأي أهل السُّنَّة، الذين يجعلون عِلم القرآن والصلاة وبعض النحو والخط من العلوم الضرورية، أما الحساب فليس بِلازِم على المُعلم إلا أن يُشترَط عليه. التعلم الإنساني وهو التحصيل بالتعلُّم من خارج. التعليم الرباني وهو الاشتغال بالتفكُّر من داخل. وهذا المذهب في اكتساب المعرفة عن طريق الحسِّ أولًا ثم بالفكر والقياس والحدس، هو مذهب ابن سينا، كما هو مذكور في (النجاة) وغيره من الكتب. أما التعليم الرَّباني فعلى وجهَين: إلقاء الوحي بأن يُقبل الله تعالى على تلك النفس إقبالًا كليًّا، وينظر إليها نظرًا إلهيًّا، ويصير العقل الكلي كالمُعلم، والنفس القدسية كالمُتعلم، فيحصل جميع العلوم لتلك النفس من غير تعلُّم وتفكُّر. تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر منها. الرياضة الصادقة والمُراقبة الصحيحة. وهذا الرأي هو صورة من حياة الغزالي؛ لأنه لم يتصوَّف إلا في آخر حياته، بعد أن اشتغل بتحصيل العلوم. ونعود إلى الكلام عن تعليم الصبيان. تقديم طهارة النفس على رذائل الأخلاق؛ إذ لا تصلح عبادة القلب بالعِلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق. أن يُقلل علائقه من الاشتغال بالدنيا ويبعد عن الأهل والوطن. ألا يتكبَّر على العلم، ولا يتأمَّر على المُعلم، بل يُلقي إليه زمام أمره بالكلية. أن يحذَر الخائض في العلم في مبدأ الأمر عن الإصغاء إلى اختلاف الناس، فإن ذلك يدهش عقله، ويحير ذهنه، ويُؤيِسُه عن الإدراك والاطلاع. ألا يدع طالِب العلم فنًّا من العلوم المحمودة، ولا نوعًا من أنواعه، إلا وينظُر فيه نظرًا يطَّلِع به على مقصده وغايته … فإن العلوم متعاونة، وبعضها مُرتبط ببعض. ألا يخوض في فنٍّ من فنون العلم دفعة، بل يُراعي الترتيب ويبتدئ بالأهم، فإن العمر إذا كان لا يتَّسِع لجميع العلوم غالبًا، فالحزم أن يأخذ من كل شيءٍ أحسَنه. ألا يخوض في فنٍّ حتى يستوفي الفن الذي قبله، فإنَّ العلوم مُرتَّبة ترتيبًا ضروريًّا، وبعضها طريق إلى بعض. أن يعرف السبب الذي به يُدرك الشرف في العلوم، فإن ثمرة علم الطب الحياة الدنيوية، وثمرة الدين الحياة الأخرى، فيكون علم الدين أشرف. أن يكون قصد المُتعلم في الحال تحلية باطنه وتجميله بالفضائل، وفي المآل القُرب من الله … ولا يقصد به الرياسة والمال والجاه ومماراة السفهاء ومباهاة الأقران. ولا ينبغي أن ينظُر بعين الحقارة إلى سائر العلوم التي هي فرض كفاية. أن يعلم نسبة العلوم إلى المقصد، كما يؤثر الرفيع القريب على البعيد، والمُهم على غيره. الشفقة على المُتعلمين، وأن يُجريهم مجرى بنيه. ألا يطلب على العلم أجرًا، ولا يقصد به جزاءً ولا شكورًا. ألا يدع من نُصح المُتعلم شيئًا، وأن يُنبه أن الغرَض من طلب العلوم القُرب من الله دون الرياسة والمنافسة والمباهاة. أن يزجر المُتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن، ولا يُصرِّح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ. ألا يُقبِّح في نفس المتعلم العلوم التي وراءه، كمُعلم اللغة إذ عادته تقبيح علم الفقه. أن يقتصر المُتعلم على قدْر فهمه، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله. أن المُتعلم القاصر ينبغي أن يُلقي إليه الجلي اللائق به، ولا يذكر له أن وراء هذا تدقيقًا وهو يدَّخِره عنه؛ فإن ذلك يُفتِّر رغبته في الجَلي، ويشوِّش عليه قلبه. أن يكون المُعلم عاملًا بعِلمه، فلا يُكذِّب قوله فعله. في القواعد السابقة بعض المبادئ في التعليم تُعتبر من أسمى ما وصل إليه علماء التربية. وأهمها الترابط بين العلوم، والبدء بالأهم فالمهم، وبالواضح قبل الغامض، وبالأسبق في الترتيب. ونأخذ على الغزالي ما يَعيبه على المُعلم من أخذ الأجر على التعليم، فهذا من الآراء المثالية التي لا تتفق مع الواقع. وهذا يختلف عن رأي القابسي. ولكن الغزالي بسط هذه المبادئ العامة في إيجازٍ دون أن يخوض في تفصيل شئون التعليم والتربية. فلم يتكلم عن المنهج، أو مكان التعليم، أو اليوم المدرسي؛ أو العقاب، أو اختيار الصبيان إلى آخر ما جاء في رسالة القابسي. وبعدُ فإننا نرى أن رأي الغزالي في التعليم جزء من مذهبه في التصوف، وهو مخالف بعض الشيء لمذهب أهل السُّنَّة. فهو يتَّفِق معهم في الغرَض وهو معرفة الله تعالى، ومعرفة العبادات التي أمرنا بها، وأنواع الأفعال التي نهانا عنها. ومن الكتب الذائعة الذكر عند العرب «تعليم المُتعلم طريق التعلُّم» لبرهان الدين الزرنوجي المُتوفى سنة ٥٩١ﻫ. وقد تُرجِم هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية. وعندنا أن السِّرَّ في شهرة هذا الكتاب راجع إلى عنوانه من جهة، وإلى أنه كتاب خاص بالتربية والتعليم فقط، ومثل هذه التآليف الخاصة قليلة عند المسلمين. والرأي عندي أن قيمة هذا الكُتيِّب ضئيلة الشأن. فهو صغير الحجم لا يكاد يبلُغ فصلًا من الفصول المؤلَّفة في التربية في كتب الفقه. ولم يأتِ صاحبه بجديد، وإنما ذكر ما هو معروف متداول، ومزج الآراء بالحكايات وبعض الأشعار والأمثال. وهذه النصائح وأمثالها هي التي بثَّت في المسلمين روح التواكل والكسل وعدَم الاعتماد على النفس. وبدأ الزرنوجي ببيان أنَّ طلب العِلم فريضة على كل مُسلم، وهو علم الحال كالصلاة والزكاة وما إلى ذلك، وبعد ذلك ينتقل إلى علم المآل. وهذا منتهى الغاية في الجمود، والتعسُّف في الرأي دون عِلة معقولة؛ إذ أي عيب في الكتابة بالمداد الأحمر. ولذَّة العلم من دواعي تحصيل العلم. أما الكسل والنسيان فعلاجهما تقليل الطعام. وينبغي أن يبدأ المُتعلم بما هو أقرب إلى فهمه، ولا يحفظ إلا بعد الفهم. وقد ضبط علماء التربية الحديثة طريقة التكرار بالتجارب، فوجدوا أن التكرار المُوزَّع على أيامٍ كثيرة، أفضل من التكرار المُستمر. وهذا يشبه ما قاله الزرنوجي، ولكنه لا يعتمد فيه على التجارب. ونعرض قبل أن نختم هذا الفصل بما ذكره ابن خلدون، لكتابٍ آخر في التعليم هو (جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله) لابن عبد البر النمري القرطبي المتوفَّى سنة ٤٦٣ﻫ. والجزء الثاني من الكتاب دفاع عن طريقة أصحاب الحديث، وفي وجوب الأخذ بالحديث في إقامة العلم، واتباع السلَف، وأن الرأي سبب في الوقوع في البِدَع. وبدأ المؤلف بالكلام عن وجوب طلَب العلم معتمدًا على الحديث: «طلَب العلم فريضة على كل مُسلم.» بعد أن خرَّج هذا الحديث من عدة طرق؛ ثم بيَّنَ أن العلم فرض عَين، ومنه فرض كفاية، وأن الأول هو معرفة أصول الإسلام، كالاعتقاد بوجود الله، والصلاة، والزكاة، والحج. ثم استطرد إلى الآداب التي ينبغي أن يتحلَّى بها طالب العلم، كالصبر والزهد في الطعام والمال والرياسة. واتبع ابن خلدون — المُتوفَّى عام ٨٠٨ﻫ — مذهبًا مُخالفًا للفلاسفة والمُتكلمين والمتصوفة وأهل السُّنَّة، وهو المذهب الذي ابتدعَه وسبق به عصره، نعني المذهب الاجتماعي. ذلك أن الإنسان حيوان مُفكر اجتماعي، خاضع في صِلة بعضه ببعض لقوانين اجتماعية، في جميع أمور معاشه وعمرانه. والقرآن هو أول العلوم التي يتعلمها الصبي؛ لأن تعليم الوُلْدان للقرآن شعار من شعار الدين، أخذ به أهل المِلة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان … وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصُل به بعضٌ من الملكات. وهذا مما أخذ به جميع المُفكرين في الإسلام. وعقد ابن خلدون فصلًا عن ضرر الشدة بالمتعلمين، يدلُّ على بصَرٍ شديد بعلم النفس، لأن: «مَنْ كان مَرباه بالعسف والقهر، سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعا إلى الكسل، وحمل على الكذب والخُبث وهو التظاهُر بغَير ما في ضميره خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه.» وهذا شبيه بما يذكره علماء التحليل النفساني المُحدثون في وجود عقدةٍ نفسية كامنة في اللا شعور هي التي تحرك أفعال المرء. والعسف يفسد في الصبي معاني الإنسانية، فيفقد الحمية المُدافعة عن نفسه، ويصير عيالًا على غيره. لذلك ينبغي للمعلم في مُتعلمه، والوالد في ولده، ألا يستبدوا عليهم في التأديب. وهذا هو رأي القابسي. ••• والذين ألَّفوا في التعليم من المُتأخِّرين عن ذلك، لم يفعلوا أكثر من تلخيص آراء المُتقدمين دون ذِكر المراجع التي رجعوا إليها، كما هي الحال في أغلب الكتب المؤلَّفة في العصور المُتأخرة في جميع العلوم الإسلامية. ومن هذه الكتب (رسالة في رياضة الصبيان) لشمس الدين الإنبابي، و(اللؤلؤ النظيم في رَوْمِ التعلُّم والتعليم) لشيخ الإسلام أبي يحيى زكريا الأنصاري، و(تحرير المقال) لابن حجر الهيثمي، وفضل علم السلف على الخلف لابن رجب البغدادي. وكل مَنْ رجع إلى هذه الكتب، يستطيع أن يعثُر بسهولة على الأصل الذي استمدَّ منه أصحابها آراءهم. فهي إما لابن مسكويه كما فعل الإنبابي في نقل «رسالة تأديب الصبيان»، أو الغزالي كما فعل الأنصاري في نقل شروط المُعلم والمتعلم، أو ممَّا هو معروف في كتب الفقه والأدب.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/40635716/
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
أحمد فؤاد الأهواني
«نحن في حاجةٍ إلى القديمِ والجديدِ معًا؛ لأننا لا نستطيع قَطْع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولغته، لا يزال دِيننا الإسلام، وكِتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجةٍ اليومَ إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم، ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادُنا منذ ألف عام يُعلِّمونهما؛ فقد يُفيدنا ذلك في موقعنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابةَ والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي موضع تفكير علماء التربية.» في القرون الإسلامية الأولى بلغت الحضارة العربية أوْج عظمتها، وانتشرت لأقاصي الشرق والغرب، حيث انتقلت إلى أوروبا التي كانت تموج في بحرٍ مُظلم جرَّاء التدهور والانحلال. وهذه الحضارة العظيمة تأسَّست على العِلم، ولا عِلم بغير تعليمٍ وتربية. ولأجل التعرُّف على أحوال التعليم في تلك العصور الزاهية، يأتينا هذا الكتاب ﻟ «أحمد فؤاد الأهواني»، حيث يُقدِّم فيه دراسةً وافية عن حياة «أبو الحسن القابسي» الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وكِتابه البالغ الأهمية؛ إذ قام «القابسي» فيه بمُعالجةٍ تفصيلية ودقيقة لكل ما تعلَّق بشئون التعليم في عصره، وخصوصًا تعليم الصبيان، وكذلك حل مشكلات التعليم. وقد أُلحِق بهذا الكتاب رسالة «ابن سحنون» المُعنونة ﺑ «آداب المُعلمين»، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث الهجري ولا يعرفها سوى القليل، وتُعَد من الرسائل النادرة عن التربية.
https://www.hindawi.org/books/40635716/11/
خاتمة
كتب الأستاذ كارا دي فو في كتابه «مذهب الإسلام»: «لا يجد الإنسان في الشرق الإسلامي ذلك الذوق الفطري للتعليم، ولا المَيل للبحث عن المناهج العقلية، ولا الرغبة في التقدم في أمثال هذه المسائل. والأستاذ كارا دي فو من المُستشرقين الذين تُعد كتبهم الفلسفية عمدة في البحث. ولعل له عذرًا في الحكم على المسلمين بإهمال شأن تربية الأطفال وتعليمهم؛ لأنه لم يقع على كتب إسلامية توضح معالم هذا الفن عند المسلمين. ولو وقع الأستاذ كارا دي فو على رسالة القابسي المخطوطة لغَيَّر من رأيه، وخفَّف هذا الحكم الذي يَنسِب إلى المسلمين الجهل بموضوع التربية، خصوصًا تربية الأحداث والصبيان، ثم الاعتماد التام على المسيحيين من العرب، وما قاموا بترجمته في هذا الفن عن اليونانية وغيرها. وقد تبيَّن لنا أن المسلمين ألَّفوا في التربية كتبًا مستقلة، منها كتاب ابن سحنون ويرجع تاريخه إلى القرن الثالث الهجري، ومنها كتب مُتأخرة عن هذا التاريخ بعضها مطبوع وبعضها لا يزال مخطوطًا، وقد أشرْنا إلى هذه الكتب في الفصل السابق الخاص بآراء العرب في التربية والتعليم؛ وإلى جانب ذلك نجد فصولًا كثيرة مُتناثرة خلال مؤلفات الفقه، وكتب الفلسفة وموسوعات الأدب، تتحدَّث عن تعليم الصبيان، وتصف أحوالهم، وتُبين أحكام التعليم. وهذه الكتب والرسائل والشذرات أغلبها إسلامي بحت، يغلب عليه الروح الإسلامي، وعلى الأخص ما ذكره الفقهاء في كتب الفقه. ورسالة القابسي تُزيل الوهم الذي علق بالأذهان من أن المسلمين لم يُعنَوا بتعليم الصبيان، وتثبت أن المُسلمين ابتكروا في التربية آراءً جديدة لم يصطنعوها عن العرب المسيحيين، أو ينقلوها عن التراجم اليونانية واللاتينية التي قام النقَلَة من المترجمين بتقديمها إلى العالَم العربي. وهذه الرسالة دليل على تأصُّل الميل إلى فن التعليم، والاهتمام بالطفل، والاشتغال بالبحث والتنقيب، والتفكير في المسائل من جميع أطرافها وزواياها، رغبةً في التقدُّم والرقي. فإذا نظرنا إلى رسالة القابسي في أحكام المُتعلمين، وأحوال المُعلمين والمتعلمين، من جهة ما جاء فيها من آراء مُفصلة وحل للمشكلات المعضلة، وتسجيل لجميع الأمور التي تخصُّ التعليم والتأديب، فالرسالة عظيمة القدْر بالِغة الأهمية. وإذا نظرنا إلى القابسي كأحد المُربِّين في الإسلام، فهو صاحب رأي، وصاحب رسالة ترفع اسمه إلى قائمة قادة التربية، ولا سيما إذا عرفنا أنه عاش في القرن الرابع الهجري، أي في صميم القرون الوسطى، التي يعدُّها المؤرخون من عصور الظلام والتأخُّر في حياة العالم. ذلك أن الميزان الذي يُقاس به قاعدة الفكر وزعماء الرأي هو سبقهم للزمان، والتقدُّم في سبيل الرُّقي لبني الإنسان. وطريق الرُّقي هو الطريق الذي يُميز عالمًا عن آخر، ويرفع المفكرين إلى قوائم المجد والتخليد. ومن الآراء التي تجعلنا نضع القابسي في سجل المبرزين، المناداة بالتعليم الإلزامي، فهذا الرأي من أدلة التقدُّم، ولم تأخذ به الحضارة الحديثة إلا في عصور مُتأخرة، ولا تزال الدول تنادي به عاملة على نشر التعليم بجميع الوسائل، ليتزوَّد من نور المعرفة جميع أفراد الأمة. والذين قصروا التعليم على طبقة معينة، وحرموا أغلب الشعب من نعمة المعرفة إنما كانوا ينظرون إلى مصلحة طبقتهم؛ لينعموا بالسلطان والثروة والجاه، لأن العِلم يُفتق الأذهان، ويبصر الإنسان بحقوقه وواجباته، ويدفعه إلى المُطالبة بهما. وهذه هي الأنانية المُتأصِّلة في النفوس. وقد برزت إلى العالم أفكار جديدة، تحمل في طيَّاتها روح الإيثار والخير للإنسانية كافة، ليشارك الناس في الحقوق وليتمتَّعوا بالحرية والإخاء والمساواة. إن حرمان فريقٍ من الناس التعليم، هو القتل الأدبي. لأنك تقبُر العقول، وتطمس الأذهان، ولعلَّ هذه العقول إذا زالت عنها غشاوة الجهل أن تتفتَّق عن الخير والحق، والعمل الصالح للإنسانية بما لا يستطيع أن يفعله أبناء الأغنياء. وقد عادت الدول الإسلامية إلى نوع من الأرستقراطية الحادة، خصوصًا في العصور المتأخرة، حيث انطوت الطبقة الرفيعة على نفسها، وعلت على العامة علوًّا كبيرًا. ولم يكن الحال كذلك في صدر الإسلام، ولا تتَّفِق هذه النزعة مع الروح الصحيح للإسلام. والدليل على هذه الأرستقراطية هو اتخاذ الأمراء ومن شاكلهم المُؤدِّبين لأبنائهم حتى لا يختلطوا بأبناء العامة في الكتاتيب، وقد أشار إلى ذلك الجاحظ في (البيان والتبيين) كما ذكرنا عند تقسيمه المُعلمين قِسمَين؛ قسمًا يعلم أبناء الملوك والأمراء، وقسمًا يعلم أبناء السُّوقة. وأشار ابن سينا في (كتاب السياسة) إلى هذه النزعة أيضًا، فلم يُقرَّها، وآثر لمصلحة التعليم وفائدة الطفل أن يشترك مع غيره من الصبيان. أما القابسي فإنه خاطب الجمهور، وفكر في مصلحته، ونظر في فائدة أبنائه، وأهمل الكلام على الأمراء والأشراف، فلا نجد إشارة إلى هؤلاء المؤدبين الذين يَصحبون أولاد الملوك لتعليمهم وتأديبهم. ونحن نميل إلى الاعتقاد أن القابسي أهمل الحديث عن المؤدِّب الخاص قصدًا؛ لأنه لا ينزله منزلة الاعتبار، ولا يُريد أن يعترف له بالوجود، حتى يتعلَّم أبناء المسلمين جميعًا في مكان واحد، ويتلقَّوا المعرفة عن مُعلم واحد، فلا تتَّسِع الهوة بين الطبقات، وتسود النزعة الإسلامية الصحيحة. ومما يدل على صحة الرأي الذي ننسبه إلى القابسي، ما ذكره عند الكلام على أجر المُعلم من أن بعض الصبيان يدفع أجرًا أكثر من غيره، وأن بعض الصبيان يُقدِّم للمعلم هدايا لا يستطيع غيرهم أن يُقدِّمها، وأن هذا الاختلاف في الجُعل ينبغي ألا يترتَّب عليه اختلاف في التعليم، بل على العكس ينبغي أن تكون مُعاملة المعلم للصبيان على قدم المساواة. ومن الطبيعي أن هؤلاء الذين يدفعون أجورًا عالية، إنما هم من أبناء الأغنياء لا الفقراء، وفي هذا الدليل على افتتاح أبواب الكتاتيب لجميع الصبيان على السواء، من غير اختصاص الموسرين بالمؤدِّبين على انفراد. فالقابسي حين يطالب بتعليم أبناء المسلمين جميعًا، القادر منهم وغير القادر، والمُوسِر والمُعسِر، بل المُعدِم، وحين يقدم إليهم لونًا واحدًا وثقافة واحدة لا يخصُّ بها أحدًا دون أحد، إنما يجري في طريق التقدُّم العقلي، ويشرف على الإنسانية من سماء العدل والحق والخير. وهذه هي الديموقراطية في التعليم. فكما أن هناك ديموقراطية سياسية تتناول الحقوق والواجبات، وتفسح المجال للحرية والمساواة، فكذلك هنالك ديموقراطية عقلية تفتح الأبواب لجميع الناس لينهلوا من بحور العِلم التي لا تغيض. وقد كان مذهب أهل السُّنَّة مذهب الجمهور، فكان أنسب المذاهب إلى عقولهم، وأقربها إلى الديموقراطية. وقد أشارت السيدة أسماء فهمي، وكذلك خليل طوطح، في رسالتيهما إلى الروح الديموقراطي البارز في التعليم عند العرب. هذه الديموقراطية هي التي أوحت إلى القابسي أن يُقرر تعليم البنات، بالرغم مما يعترض تعليمهنَّ من عقبات ناشئة عن المجتمع الإسلامي وشدته، في النظر إلى علاقة الرجل بالمرأة، وغيرة المسلمين على العِرض، وما جاء في القرآن من عقابٍ شديد للزاني والزانية. ولا ننسى أن روح المحافظة على المرأة هي التي أدَّت إلى الحجاب الشديد في أواخر عصور المسلمين. والفرق بين التعليم الإلزامي كما يُقرِّر القابسي وبين التعليم الإلزامي الذي ساد الدول التي أقرَّتْه منذ القرن التاسع عشر الميلادي، هو أن الدولة الحديثة مُكلفة بالتعليم، ومُلزمة بافتتاح المدارس التي تسمح بتعليم جميع أفراد الدولة ذكورًا وإناثًا. فالتعليم واجب على الدولة، ومن جهةٍ أخرى فهو حق من حقوق الأفراد، عليهم أن يُطالبوا به، وأن يُقدِّموا أبناءهم لتلقي التعليم في المدارس التي تُنشئها الدولة. وإذا امتنع أحد عن تعليم أبنائه، حلَّ به العقاب لمُخالفته هذا الواجب. على حين أنَّ إلزام القابسي للتعليم إلزام ديني أدبي لا إلزام قانوني، لهذا لم يضع القابسي عقابًا لمن يترك ابنه دون تعليم، بل ترك هذا الوالد لعقاب الله وضميره وجزاء المجتمع فقال: «لو ظهر على أحد أنه ترك أن يُعلم ولده القرآن تهاونًا وبذلك لجُهِّل وقُبِّحَ ونُقِّصَ حاله، وَوُضِعَ عن حال أهل القناعة والرضا.» وقد سُئل القابسي عن «رجل امتنع أن يجعل ولده في الكتَّاب هل للإمام أن يجبره؟ وكيف إن كان له أب وله مال ولا يُبالي ذلك، فهل للإمام أن يسجنه أو يضربه على ذلك أم ليس ذلك؟» وفي هذا شعور أهل ذلك الزمان بمسئولية إهمال الطفل، ومحاولة تقرير قاعدة العقوبة لمن يتخلَّف عن أداء هذا الواجب. ولكن القابسي لم يستطع فيما أجاب به السائل، أن يُقرِّر هذه العقوبة؛ لأن منهجه الفقهي لا يبيح أن يُقرِّر أمرًا ليس له نصٌّ في الدين. وإذا كانت الحكومات الحديثة تُنفق من مال الدولة الشيء الكثير على التعليم بإقرار نواب الأمة المُمثلين لها لفائدة الأمة، فقد نصح القابسي بتعليم أبناء المسلمين غير القادرين على الإنفاق على التعليم، ودفع أجر المُعلم، بأن يقوم بيت مال المسلمين بالإنفاق عليهم. وقد تطوَّرت الفكرة فيما بعد إلى نظام الأوقاف التي يحبسها المُوسِرون على المدارس ضمانًا لحياتها، واستمرارًا لوجود التعليم. وليست فكرة التعليم العام، أو تعليم البنات هما الفكرتان الوحيدتان الموجودتان عند القابسي، مما يجعلنا ننظُر إليه باعتبار أنه مُفكر ينشد الرقي والتقدُّم، بل هناك آراء أخرى كثيرة ترفع القابسي إلى درجات المُفكرين البارزين، وتسمو به إلى منزلة المصلحين. من ذلك رأيه في طُرق الحفظ التي ينبغي أن يصحبها الفهم، وهو من الآراء الصائبة الصحيحة. ثم التثبُّت مما يحفظ الصبي فلا ينقله المعلم من سورة إلى سورة حتى يحفظها بإعرابها وكتابتها. وفي طرق التربية والتأديب، نجد كثيرًا من الإشارات الدالة على البصر بشئون الصبيان وحُسن سياستهم. من ذلك الحذَر من الصبيان إذا بلغوا سِن الاحتلام، وعدم الجمع بين الذكور والإناث بعد سِن الطفولة. ومن ذلك اتخاذ العريف ليعاون المُعلم، مما يفيد الصبي في حياته من جهة الاعتماد على النفس، وتكوين الشخصية، ويتصِل بذلك أن يقوم الصبي بأعمال تُفيده في تخريجه مثل كتابة الرسائل للناس، وإملاء الصبيان بعضهم على بعض. وقد فصَّلنا هذا كله عند الكلام على صِلة الدين بالتعليم وعلى التربية الخلقية والعقاب وطرق التعليم، فلا نعود إليه. وإنما نُحب أن نُعلل هذه الآراء لبيان المصادر التي استقى منها القابسي أحكامه في التعليم، لنرى أكان مُبتكرًا لم يسبقه أحد، أم مُلخصًا لمن تَقدَّمه، أم ناقلًا عن شيوخه، مُقلدًا لهم؟ والقابسي قد فصَّل القول في موضوع التعليم من جميع نواحيه، فكتب عن التلميذ والمعلم، والمناهج التي يتلقَّاها الصبي، وطرق التعليم والتأديب، ومكان التعليم، وهذا التفصيل يصِف أحوال تعليم الصبيان في القرن الرابع الهجري في شمال إفريقية. ولا نستطيع أن نتَّخِذ هذا الوصف عنوانًا على التربية الإسلامية في جميع العصور، وعند جميع المفكرين المسلمين. وقد اتضح لنا عند الكلام في الفصل السابق عن التربية عند المسلمين اختلاف آراء المُفكرين فيما يختصُّ بأغراض ووسائل التعليم. فالغزالي يختلف عن ابن مسكويه، وابن سينا يختلف عن ابن خلدون، وهؤلاء يختلفون عن إخوان الصفاء، وهكذا. وقد نجد بعض الآراء المشتركة العامة عند المسلمين جميعًا، أخذوا بها في جميع العصور، مثل البدء بتعليم القرآن، والنص على تعلُّم القراءة والكتابة، وأخذ المُتعلمين بالشفقة لا بالشدة. ومع ذلك فهناك اختلاف في طريقة التعليم في المشرق والمغرب، كما ذكر ابن خلدون في مُقدمته، وهو خلاف على هذه المسائل العامة الأولية المُختصَّة بتعليم الصبيان. وإذا نزلنا إلى ميدان التفاصيل المتعلقة بالتعليم، فإننا نجد الخلاف كبيرًا بين أصحاب المذاهب. فابن مسكويه يرى أن الغرض من التعليم هو الوصول إلى الحق والخير والجمال؛ وإخوان الصفا يرغبون في تنشئة الناس على مذهبهم الفلسفي وعقيدتهم السياسية؛ والغزالي يُمهد إلى معرفة الله بطريق التصوف، ومجاهدة النفس ورياضتها. والأمثلة كثيرة على هذه الاختلافات الجزئية، وعلى الأغراض العامة. لهذا كان من الخطأ أن ينظُر الباحثون في التربية الإسلامية جملةً، دون تحديد الجهة التي تقوم بالتعليم وتعمل عليه، ودون تحديد العصر الذي ساد فيه هذا اللون من التعليم. وجميع الذين كتبوا عن التربية الإسلامية لم ينتبهوا إلى هذا التمييز الواجب في الآراء، من حيث تحديدها في الزمان، وصِلتها بالأشخاص. وأهم هؤلاء الباحثين المُتأخِّرين، ونذكرهم بحسب ترتيب أبحاثهم في الزمن، هم: خليل طوطح، والسيدة أسماء فهمي، والدكتور إبراهيم سلامة، والدكتور أحمد شلبي. وجميع هؤلاء الباحثين ينظرون إلى المسائل في تطوُّرِها التاريخي، ولكنهم لا ينتقلون من مرحلة الوصف إلى المرحلة التالية من مراحل العلم وهي مرحلة التفسير. والتفسير الصحيح للآراء الإسلامية المُختلفة في التعليم هو أن نردَّها إلى المذاهب العقلية التي كان أصحاب هذه الآراء التعليمية يعتنقونها من جهة، ثم ملاءمة هذه الآراء لحالة المجتمع من جهة أخرى. أي أن التفسير ينصرِف إلى ناحيتَين: ناحية عقلية، وناحية اجتماعية. وعلى هذا الأساس الجديد الذي نُطالب به، والذي لم يسبقنا إليه أحد من الذين عالجوا الكتابة عن التربية عند المسلمين، تستقيم النظريات التعليمية وتُرَد إلى أصولها الصحيحة، ويتضح لنا السر في اختلاف مذاهب التعليم والتأديب في الممالك الإسلامية المختلفة في الشرق والغرب، وفي العصور المختلفة، وفي عقول المفكرين. وخلاصة هذا الرأي الجديد الذي نقول به: أن أهل السُّنَّة كانت لهم طريقة خاصة في التعليم، وللفلاسفة طريقة أخرى، وللمتصوفة طريقة ثالثة، بل أكثر من هذا أن كل مفكر له طريقة خاصة في التعليم تتلاءم مع مذهبه، وتتفق مع مجموع آرائه. وليس هذا غريبًا في شيء؛ لأن التربية تُعتبر جزءًا من المذهب الفلسفي النظري أو العملي الذي يتصوره ويعتقده المرء في الحياة. ومن الطبيعي أن يعمل أصحاب المذاهب المختلفة على نشر مذاهبهم وإذاعتها في الناس، وتنشئة الأجيال الجديدة عليها، بطريقةٍ من طرق التعليم؛ لأن من طبيعة الإنسان إذا اعتقد الحق أن يذيعه في الناس، ويَحمِلهم على المشاركة فيه. وهذا ما فعله أفلاطون قديمًا، حين تكلَّم في جمهوريته عن التربية ليطبع الناس على آرائه، ويصلح المجتمع. وهذا ما فعله روسُّو، وسبنسر وغيرهما. أي أن صاحب الفكر الجديد إذا أراد أن يضمن لآرائه الذيوع بين الناس، بطريقةٍ عملية تحمل الناس على اعتناق آرائه، فإنه يصف طريقة التعليم المُلائمة لهذه الآراء. والتعليم الذي يذكره القابسي في رسالته، جزء من مذهب أهل السُّنَّة وعقيدتهم الإسلامية، والرسالة تُبين الطريقة التي رأى أهل السُّنَّة أن يتبعوها في التريبة، لتعليم الأجيال الناشئة على مذهبهم، حتى يشبُّوا على اعتقاد آراء أصحاب الحديث، وأهل السُّنَّة. وكان القابسي فقيهًا مُحدِّثًا، ثقة في علوم الحديث، فهو يمثل هذا المذهب. هذه الصلة بين القابسي وبين مذهب أهل السُّنَّة من ناحية، وبين مذهب أهل السُّنَّة وطريقة التعليم من ناحية أخرى، هي السر الذي نستطيع أن نفسر به الآراء المذكورة في رسالته. وقد درجنا على هذا المنهج خلال ما قدَّمنا من بحث، والتزمْنا هذه الطريقة في كل ما عالجناه، وبذلك تيسَّر لنا أن نفهم السر في اختلاف آراء المفكرين فيما يتصل بالتعليم. ولما كان المعلمون في الكتاتيب هم من أهل السُّنَّة، شب الناس بالفعل على طريقتهم وتشبَّعت بها عقولهم، وتطبعت نفوسهم، وصَعُب الانصراف عنها، وأصبح المسلمون ينظرون إلى الحياة من خلال هذا المنظار. وبذلك ساد مذهب أهل السُّنَّة، وأصبح هو صاحب الغلبة في أغلب الأقطار الإسلامية. أما الناحية الثانية التي بها تُفَسَّر الآراء التعليمية فهي نِسبتها إلى المجتمع الذي ظهرت فيه هذه الآراء، ما دام التعليم مظهرًا من مظاهر الحياة الاجتماعية. وهذا يقتضي منا أن ننظر هل كانت الآراء التعليمية واقعية أم مثالية؟ فإذا كانت واقعية فإنها تصف ما هو كائن فعلًا في المجتمع، وتُعَد في هذه الحالة ظلًّا للحياة الاجتماعية. وإذا كانت مثالية، فإنها لا تتعدَّى عقول الذين نادَوا بها، ولا تُمثل حقيقة المظهر الاجتماعي. وقد كان القابسي واقعيًّا يصِف ما كان يجري في المجتمع الإسلامي في القرن الرابع الهجري. ولم يكن الحال كذلك في الآراء التي بسَطَها كثير من المُفكرين في الإسلام، ونضرب في هذا الصدَد المثَل بما ذكره الغزالي عند الكلام على الأجرة فقد نصح بالتعفُّف عن تناول الأجر تشبُّهًا بالرسول، وبما ينبغي أن يكون، ولم يكن هذا هو الواقع، حيث كان المُعلمون يأخذون الأجور على التعليم، ولم يتحقَّق رأي الغزالي لمخالفته طبائع الأشياء، وإغراقه في التطلُّع إلى الغايات الروحية. لهذا كان من الخطأ أن يذكر الباحث الرأي التعليمي على أنه يُمثل التربية عند العرب، دون أن يحدد هل أخذ الناس بهذا الرأي واتبعوه، أو بقي مسطورًا في بطون الكتب. ولمَّا كان القابسي واقعيًّا، فإننا نستطيع اتخاذ رسالته في التعليم مرآة صادقة، تُصوِّر ناحية مُهمة من النواحي الاجتماعية للمسلمين في القرن الرابع، وهي تعليم الصبيان، وحياة المعلم في الكتَّاب، ومناهج التعليم والطرق التي كان يتبعها. والنظر إلى المُجتمع يُفسِّر لنا كثيرًا من الاتجاهات في التربية، ويفسر لنا التطوُّر الذي حدث في التعليم منذ صدْر الإسلام حتى الآن. كان التعليم في فجر الإسلام تطوُّعًا لقوة الروح الديني، وتغلبه على النزعات المادية، فلما فترت هذه الروح أخذ المعلمون الأجور، ولما فسد المجتمع تطلَّع المُعلم إلى ما هو أكثر من الأجر، وقد رأينا كيف أجاز القابسي أن يتناول المُعلم الهدايا في المواسم والأعياد كما جرت به العادة. فالقابسي يخضع لروح المجتمع، وينزل على أحكامه. كذلك كانت بطالة الصبيان تجري على عادة الناس. فالتفسير الصحيح لشئون التربية والتعليم يقتضي الرجوع إلى المجتمع الذي يشكل حالة التعليم، تبعًا للتيارات التي تسوده وتُوجهه. فإذا كان المُعلم في الكُتَّاب ينصرف إلى حفظ القرآن حتى يبلغ بالصبي الختمة، فلم يكن هذا العمل من إيحاء قادة الفكر، أو من رغبة المعلم نفسه، بل هو اتجاه الجمهور وتيار المجتمع. وقد بلغ من فرح الآباء بحفظ أبنائهم القرآن، أنهم كانوا يدفعون فوق أجر المعلم أجرًا آخر للختمة احتفالًا بهذه المناسبة السعيدة. ولم يمتنع المسلمون عن تعليم الحساب، وأجاز القابسي تعليم الحساب، ولكن أولياء الصبيان لم يطالبوا بتعليم أبنائهم الحساب، بل وضعوا نصب أعينهم شيئًا واحدًا هو أن يحفظ أبناؤهم القرآن. ولا شك أنَّ تقدُّم المجتمع وتطوره يرجع إلى حدٍّ كبير إلى الآراء الجديدة التي يطلُع بها المفكرون على الناس. فإذا أثرت هذه الآراء أثرها خرج المجتمع على التقاليد الموروثة، وخلعها عنه، وسار في الطريق الجديد. فالجمود هو المحافظة على التقاليد، والتجديد هو التحوُّل إلى شيء جديد. فإذا اتخذنا عصر القابسي وآراءه في التعليم أساسًا لما كان يجري في القرن الرابع الهجري، فإننا نستطيع أن نشرف على القرون التي سبقته، وعلى القرون التي جاءت بعده، فنرى كيف تقدَّم التعليم إلى ذلك العهد، وكيف سار بعد ذلك. ولا شك أن التعليم سجَّل منذ القرن الأول في الإسلام حتى القرن الرابع تقدُّمًا كبيرًا. ففي حياة النبي كان التعليم نادرًا في الجزيرة العربية، وفي الفرس والشام ومصر نفسها. وكان عدد الذين يعرفون الكتابة والقراءة قليلًا جدًّا، ثم بدأت الكتابة تنتشِر بإيحاء النبي وتشجيعه. ثم ظهرت الكتاتيب فكانت مظهرًا للحياة الاجتماعية عند المسلمين، ثم احتاج الناس إلى تنظيم العلاقة بين المُعلم والصبي، بما يتفق مع الشريعة الإسلامية المُطبَّقة في العالم الإسلامي؛ فأدلى الفقهاء بالأحكام الشرعية التي تفصِل فيما قد ينشأ من نزاع بين المُعلم وآباء الصبيان على الأجر، وما قد يُصيب الصبي من أشرار إذا وقَّع المعلم العقاب عليه، والفقهاء هم المختصُّون بالتشريع في المسائل الجزئية التي لم يرِد فيها نص في القرآن. واجتمع كثير من هذه الأحكام على مرِّ الأيام؛ جمعها ولخَّصها وضمَّها في كتاب واحد أبو الحسن القابسي، الذي ألَّف رسالته في نهاية القرن الرابع. وبذلك تُمثل هذه الرسالة أحوال التعليم في ذلك القرن، وتُمثل التطور الذي حدث في هذا الفن منذ صدْر الإسلام حتى ذلك الوقت؛ لأن القابسي نفسه تتبع ذلك التطوُّر في أبحاثه، كما يتضح لنا من النظر في رسالته. وقد لحق تعليم الصبيان في الكتاتيب بعد القرن الرابع كثيرٌ من التغيير، لم يكن في سبيل التقدُّم، بل في سبيل الجمود. وأهم المظاهر التي استُحدِثت على الكتاتيب هي اعتماد أكثرها على أوقاف المُوسِرين. وفيما عدا ذلك بقي المنهج ثابتًا وهو تعليم القرآن والكتابة. وبقِيَت الألواح في أيدي الصبيان للكتابة فيها، وبقيت العصا أداة التأديب في يدِ المُعلم. والخلاصة أن تفسير حالة التعليم في عصر من العصور يقتضي النظر إلى آراء المُربين، وصِلة آرائهم بالمذاهب العقلية التي يعتنقونها، ويقتضي النظر إلى حالة المجتمع الذي تفرَّع عنه التعليم كمظهرٍ من الحياة العقلية. فإذا طبَّقْنا هذين المبدأين على الغرض التعليمي كما جاء عند القابسي، باعتبار أن الغرَض من التعليم هو النقطة التي تلتقي عندها جميع شئون التربية، ومنها تتفرَّع أحواله المختلفة، فإننا نجد أن القابسي كان يقصد إلى غرضٍ ديني، وكذلك كان المجتمع يريد. لهذا اقتصر التعليم في الكُتَّاب على القرآن والكتابة في الغالِب. وقد يتبع هذا الغرض الديني غرض آخر، أو أغراض أخرى، ولكنها تابعة بالضرورة لهذا الغرض الديني. فإذا قُلنا إن القابسي يطلُب تهذيب الأخلاق، فتعليم الدين يحمِل في طياته التهذيب الخلقي، وإذا قُلنا إنه يطلب نشر العلم، فالديانة الإسلامية تتوجَّه إلى الجميع؛ وفي سبيل تعليم الدين وخصوصًا الصلاة وهي عماد الدين، وجب التعليم وحفظ القرآن. ولم يكن المجتمع يطلُب من الغايات إلا الغاية الدينية، ولهذا السبب اهتمَّ الآباء اهتمامًا شديدًا أن يختم أبناؤهم القرآن، وكان أغلب الصبيان ينصرِفون، بعد حياة الكُتَّاب، إلى تعلُّم حرفة أو صناعة لكسب المعاش. هذا هو الغرض الذي نتلمِسه من رسالة القابسي التي تصف حالة التعليم في الكتاتيب في القرن الرابع. ولو اتبع هذان المؤلِّفان الطريقة التي آثَرْنا اتباعها في تفسير التربية وهي نسبة الآراء إلى أصحابها، ثم النظر إلى صِلتها بالمذهب العقلي، وعلاقة الآراء بالمجتمع الواقعي لغيَّرا من تفسيراتهما. ولم تكن الأغراض من التعليم واحدة في جميع العصور الإسلامية، فغاية التعليم في القرن الأول تختلف عنها في القرن الرابع، عنها بعد ذلك. ولم يكن المسلمون يقصدون إلى غرضٍ نفسي أو مادي أو عقلي في صدْر الإسلام، بل كان كل هَمِّهم خدمة الدين والعمل على إذاعته وتثبيته في القلوب. والقابسي في القرن الرابع يريد أن يكون وفيًّا للسلف الصالح، مُتبعًا لآثارهم، مُقتفيًا خطواتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. فهو يريد أن يُعلِّم أبناء المسلمين القرآن والكتابة لمعرفة الدين، وإذا كان قد اضطر إلى التعديل من طريقة السلَف، فهو تعديل يتلاءم مع أحوال المجتمع المُتغيِّرة؛ ولهذا أوصى بأجر المعلم، بتعليم النحو والعربية والشِّعر. ولا شك أن آراء القابسي كانت مناسبة للعصر الذي عاش فيه، وقد تكون مُتقدمة على عصر أيضًا. ولهذا السبب لا نستطيع أن نحكم على رسالة القابسي في ضوء علم التربية الحديث؛ لأن العلوم الحديثة كلها لم تُبعَث إلا بعد عصر النهضة، بعد أن اتخذ العقل منهجًا جديدًا في التفكير. هذه المناهج الجديدة هي التي شقَّ طريقها «بيكون» و«ديكارت» في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين؛ و«بيكون» صاحب المنهج التجريبي، و«ديكارت» رسول المنهج العقلي الرياضي، الذي يبني الحقائق بعد الشك في القديم، فلا يُقيم إلا ما كان واضحًا جليًّا لا سبيل إلى الشك فيه. وقد أصبحت العلوم الطبيعية والاجتماعية تعتمد في البحث على المشاهدة والتجربة، وابتعدت عن ميدان الاعتقادات الموروثة. ثم وضع العلماء طرُق التجريب الواجب اتباعها كما بسطها جون ستيوارت مِلْ. وبدأ علماء النفس والتربية والاجتماع يُطبقون هذه المناهج التجريبية — التي ثبت أنها الطرق الوحيدة المُوصِّلة إلى العلوم الطبيعية — على الأبحاث النفسية والاجتماعية والتعليمية. ولم يتمَّ إخضاع هذه العلوم للتجارب إلا حديثًا جدًّا، ولا يزال العلماء في أول مراحل هذه التجارب. وفي ذلك يقول جول بايوه في كتابه «سقوط التعليم» الذي تعرَّض فيه للأسباب التي تعمل على فشل التعليم في فرنسا: إن أول هذه الأسباب هو عدَم اتباع التجارب؛ وقد عقد في ذلك الفصل الأول من الكتاب، جاء فيه أن القرون الوسطى حاربت التجارب، وأن «روجر بيكون» الذي سار في طريق التجريب واستحدث اكتشافات كيميائية اتُّهم بالسحر، ثم عُذب وقُبضَ عليه مرَّتين، مما دعا إلى عدم التشجيع في ميدان التجارب. وتبع ذلك في فجر النهضة حتى القرن التاسع عشر روح تجريب قوي، أدَّى إلى انتصار العلوم التجريبية، واستقرار العلوم الطبيعية على أساس صحيح. فإذا كان هذا المؤلِّف ينتقِد نظم التعليم في فرنسا في الوقت الحاضر؛ لأنها لا تستنِد إلى التجارب العلمية، فالقابسي معذور إذا لم يتبع هذه التجارب منذ ألف عام، وهو الذي عاش في صميم القرون الوسطى التي حقَّرَت التجريب كل الاحتقار. وقد سجلت النهضة الحديثة في التعليم ظهور مدارس جديدة، أساسها الاعتماد على نفسية الطفل ونموِّه ومراعاة ميوله وغرائزه واستعداده؛ فمدارس «منتسوري» تعطي الطفل الحرية في التنقُّل لأن السكون مُضرٌّ بهم، كما تعمل على تدريب حواسهم، وتربي الطفل عن طريق اللعب. وطريقة «دالتون» تلقي جانبًا كبيرًا من المسئولية على التلميذ، فهو الذي يُحصِّل ويدرُس، ووظيفة المدرس الإرشاد والتوجيه فقط، حيث يقوم بتفسير ما يشكل على التلاميذ، ويُكسب المدرسة جوَّ دراسة. وطريقة المشروع، والتعليم عن طريق النشاط، وهذه الألوان الجديدة من المدارس، الغرض منها إعداد الفرد للكفاح في المجتمع، بتكوين شخصيته تكوينًا يجعله يعتمد على نفسه في تحصيل المعاش، وذلك بما يتفق مع صبغة المجتمعات الحديثة التي طغت عليها موجة المادية، وأصبح الناس يتهالكون على تحسين معيشتهم المادية. ومراعاة ميول الطفل من الاتجاهات الحديثة في التربية، خصوصًا بعد أن نادى روسُّو في كتاب «إميل» بالنظر إلى حياة الطفل نظرًا يختلف عن النظر إلى حياة الرجل. أما الاتجاه الآخر الحديث، فهو إعداد الطفل ليعيش في المجتمع عيشة تلائم مَطالب المجتمع. لهذا السبب تختلف الدول في طرُق تعليمها تبعًا لاختلاف غاياتها في الحياة. وكثيرًا ما يضحي المُربون بالميول النفسية في سبيل تحقيق أغراض الدولة ومطالب المجتمع. فالدولة التي ترغب في الحرب تُعِدُّ الطفل من صِغَره، لحياة النظام والطاعة والخضوع، والخشونة والشدة والصبر والجهاد. فإذا رجعنا إلى القابسي ونظرنا إلى آرائه التعليمية، فإننا نجد أنه يراعي المجتمع، ويُعِد الصبيان إلى حياة تلائم البيئة التي عاش فيها، ولكنه لا يراعي ميول الصبيان النفسية. فإذا كان القابسي قد أهمل النظر إلى الحياة النفسية للطفل، فالعيب يقَع على العصر بأسره، لا على القابسي وحده. ومن هذه العيوب منْع الصبيان من اللعب، مع أن اللعب ضروري لنموِّهم ومن هذه العيوب إهمال التربية الجسمية إهمالًا تامًّا، وهي ناحية لم يرجع لها المُربون إلا في العصور الحديثة، حيث وجَّهوا الاهتمام إلى تربية الجسم بالألعاب الرياضية المختلفة المناسبة لكل مرحلةٍ من مراحل نمو الطفل. وقد كانت أمة اليونان قديمًا تُعنى بالرياضة البدنية عناية عظيمة. ولم يغِبْ عن نظر المسلمين قيمة الرياضة البدنية فحثُّوا على تعلُّم السباحة وركوب الخيل وغير ذلك من الرياضيات التي تُنشِّئ الأطفال على الرجولة والفروسية. ولكن مُعلم الكُتَّاب لم يكن مخصوصًا بمثل هذه التربية، واختصَّ بتعليم القرآن وتهذيب العقل والخُلق. على أن القابسي وضع أُسس التربية بحيث تُلائِم المجتمع وحاجة العصر الذي كان يعيش فيه. وقد ساد في ذلك العصر الروح الديني، فجاءت طريقة القابسي في التعليم موافقةً لهذه البيئة كل الموافقة، حيث يتعلَّم الصبيان المسلمون القرآن والكتابة والنحو والعربية والشِّعر، ويتعودون القيام بالعبادات الإسلامية المختلفة، فيترُك الصبي الكُتَّاب وهو عارف بالديانة الإسلامية علمًا وعملًا.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/40635716/
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
أحمد فؤاد الأهواني
«نحن في حاجةٍ إلى القديمِ والجديدِ معًا؛ لأننا لا نستطيع قَطْع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولغته، لا يزال دِيننا الإسلام، وكِتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجةٍ اليومَ إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم، ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادُنا منذ ألف عام يُعلِّمونهما؛ فقد يُفيدنا ذلك في موقعنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابةَ والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي موضع تفكير علماء التربية.» في القرون الإسلامية الأولى بلغت الحضارة العربية أوْج عظمتها، وانتشرت لأقاصي الشرق والغرب، حيث انتقلت إلى أوروبا التي كانت تموج في بحرٍ مُظلم جرَّاء التدهور والانحلال. وهذه الحضارة العظيمة تأسَّست على العِلم، ولا عِلم بغير تعليمٍ وتربية. ولأجل التعرُّف على أحوال التعليم في تلك العصور الزاهية، يأتينا هذا الكتاب ﻟ «أحمد فؤاد الأهواني»، حيث يُقدِّم فيه دراسةً وافية عن حياة «أبو الحسن القابسي» الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وكِتابه البالغ الأهمية؛ إذ قام «القابسي» فيه بمُعالجةٍ تفصيلية ودقيقة لكل ما تعلَّق بشئون التعليم في عصره، وخصوصًا تعليم الصبيان، وكذلك حل مشكلات التعليم. وقد أُلحِق بهذا الكتاب رسالة «ابن سحنون» المُعنونة ﺑ «آداب المُعلمين»، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث الهجري ولا يعرفها سوى القليل، وتُعَد من الرسائل النادرة عن التربية.
https://www.hindawi.org/books/40635716/0.3/
الملاحق
والثانية: الجزء الأول والثاني والثالث من الفضيلة لأحوال المُتعلمين وأحكام المُعلمين والمتعلمين. الحمد لله وحده. طالع هذا الكتاب المبارك العبد الفقير إلى الله تعالى، المعترف بذنبه محمد بن حسن. غفر الله له ولوالديه ولمن ترحَّم عليه ولجميع المسلمين آمين. تمَّت. يا قارئ الخط ترحَّم على من كتبه]. الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (الكهف: ١-٥) وتَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (الفرقان: ١-٢). والحمد لله الذي لم يزل واحدًا، أحدًا، حيًّا، قيومًا، له الأسماء الحسنى، والصفات العُلَى، ليس [٢-١] كمثله شيء، وهو السميع البصير. تكلم بالقرآن، وأنزله على محمد خير الأنام، للرحمة والتبيان، بالنور والبرهان، والحكمة والفرقان، لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل: ١٠٢) وقال جل ثناؤه: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (طه: ١-٨). أحمده، وأؤمن به، وأستعينه، وأتوكل عليه وأبرأ من الحول والقوة إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فقام بالرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمَّة، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ [٢-ب] حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (التوبة: ١٢٨). فسبحان الله الذي سبح له ما في السماوات وما في الأرض الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (الجمعة: ١-٤). والحمد لله الذي هدانا للإيمان، وعلمنا القرآن، ومنَّ علينا باتباع نبيه محمد عليه السلام. اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميدٌ مجيدٌ. اللهم وعَلِّمنا ما بعثتَ به إلينا نبيَّنا محمدًا خاتم النبيين، من كتابٍ وحكمة، وما تلا من آياتك، وزَكِّنا إنك أنت العزيز الحكيم. [٣- أ] اللهم وألهمنا شُكرَ نعمتك به علينا، فإنك قلت: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (البقرة: ١٥٠-١٥١). اللهم وأعنا على ذكرك وشكرك، وحُسن عبادتك، فإنك قلت: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (البقرة: ١٥٢) وأيِّدنا على طاعتك، بأن نستعين عليها كما أمرتَنا، فإنك قلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (البقرة: ١٥٣). أنت الحق، ووعدك الحق، لا إله إلا أنت، الملك الحق المُبين. إياك نعبد، وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأنِلْنا حسن مرافقتهم بفضلك ورحمتك، فأنت أرحم الراحمين، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، وأنت مولانا، فنعم المولى ونعم النصير [٣-ب] فانصرنا بحُسن الخلاص فيما أوليتنا وفيما ابتليتنا، برحمتك في عبادك الصالحين، الذين يُسارعون في الخيرات وهم لها سابقون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ••• قال أبو الحسن: قد سألني سائلٌ، وألحَّ عليَّ أن أجيبه عن مسائل، كَتَبَها، وشرط فيها شروطًا، واعتذر من إلحاحه عليَّ، أنه مُضطرٌّ إليها وراغب في فهم ما تعذَّر عليه من فهمها، إذْ هي تحلُّ عليه، وتنزل به فَيَرهبُها، ويخشى القدوم عليها، ويخاف ضيق الإمساك عنها، لبُعده ممن يصلُح أن يُستعان به فيها، فَعذرْتُه بِعُذْره، وأشفقتُ من التوقُّف عنه، على وَجَلٍ مني في مُجَاوَبَتِه عن كل ما سأل عنه، فتراخيتُ عن سرعة مجاوبته طويلًا، وهو مُقيم على حَفْزي فيما أراد مني، حتى ألقى الله عز وجل في قلبي الانقياد إلى مجاوبته. فأعوذ بالله أن [٤-أ] أكون من المُتكلفين، وأسأل الله الكريم العصمةَ بالحق فيما ابتلاني به من المقالة في الدين، وأن يهديني إلى أحسن القول فأتبعه بهَدْيٍ من عنده، فهو هادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. قال أبو الحسن: فبيَّن ﷺ أن جميع ما جرى في نصِّ الحديث دين للناس، ويدل أيضًا ما في هذا الحديث، أنه كان قبل نزول فرض الحج، لأن الحج أيضًا من عمل الأبدان، وبه كمل العمل الذي هو الإسلام. يُبين ذلك ما جاء في الصحيح من حديث طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب، أن رجلًا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها [٥-أ] لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة: ٣). قال: فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي ﷺ وهو قائم بعرفة، يوم جمعة. قال أبو الحسن؛ فبَيَّنَ له عمر رضي الله عنه، أن اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية في الإسلام، مُعَظمٌ على مرِّ الدهر، هو عيد في سائر أمصار المُسلمين كلما تكرَّر يوم الجمعة، والمكان الذي أُنزلت فيه هو مكان الحج المفترض على جميع المسلمين. فقد تمَّ التعظيم لذلك اليوم، ولذلك المكان الذي أُنزِلَتْ فيه، والحمد لله رب العالمين. والذي سمَّاه الرسول عليه السلام، في هذا الحديث، إيمانًا، هو الإقرار بما قد سمَّاه ﷺ. والذي [٥-ب] سمَّاه إسلامًا، هو عمل الجوارح بما افتُرضَ عليها؛ لأنه هو الذي يدل على استسلام مَنْ قال: أسلمت لله؛ ومَنْ قال: آمنت بالله، وملائكته وبلقائه، ورسله، وآمنت بالبعث بعد الموت، فإنما هو مُخبر عن تصديقه لما جاء به الرسول عليه السلام. ومحل صِحته التصديق فيما عقد عليه القلب واطمأن إليه. وكذلك هو في الإيمان بجميع ما جاءت به الرسل. قوله: آمنت بذلك، إنما هو إخبارٌ عن قلبه، أنه قَبِلَ ذلك، واطمأنَّ به، وفي ذلك إيمانه بفرض الصلاة والزكاة، وصيام رمضان، والحج المُفترَض على المسلمين مع سائر ما افتُرض عليهم من الحقوق كلها. فتصديقه بذلك كله — أن الله عز وجل فرضه، وأنه هو الحق الذي لا شك فيه — كل هذا هو إيمانٌ، القول يُعبر عنه، ولا يُعلَمُ صحة ما وراءَ القول من هذا [٦-أ] المُخبرِ عن نفسه بالإيمان، إلا اللهُ عز وجل، فإذا أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحجَّ البيت إذا استطاعه، وفعل بجوارحه جميع ما أُمِرَ به أنه واجب عليه، فقد استسلم، وصدَّق باستسلامه هذا قوله: إني آمنت به، عند مَنْ ظهر له ذلك منه، وهو عند الله جل وعزَّ على ما عَلِمَهُ من صحة اعتقاده، وصِدْقِه فيما صدَّق به. وقول الرسول عليه السلام، حين فسَّر الإسلام: تَعبُد الله لا تشرك به، معناه: بذلك يصحُّ لهذا العمل المذكور أن يكون إسلامه، كما قال الله عز وجل: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (الكهف: ١١٠). والإيمان هو القبول من الرسول ما جاء به، يُصحِّحه لقائله اعتقاد قلبه بتصديقه. والإسلام: هو العمل بما أمر به، ودعا إليه، والانتهاء عما نهى عنه، يُصحِّحه اعتقاد قلب [٦-ب] عامله أن الله عزَّ وجل أمر به على لسان رسوله عليه السلام. فإذا كان كذلك كان ها هنا الإسلام هو الإيمان، لقول الله جل وعز: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ (آل عمران: ١٩). وقوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ * كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ (آل عمران: ٨٥-٨٦). وقال جل ذكره: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (المائدة: ٥). فبيَّن أن المُبتغي غيرَ الإسلام كافرٌ بالإيمان. وتبين بذلك أن الإيمان على الحقيقة إسلام، والإسلام على الحقيقة إيمان. ويزيدك بيانًا ما جاء في قصة آل لوط عليه السلام قوله: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (الذاريات: ٣٥-٣٦). وإذا لم يكن الإيمان من قائله على الحقيقة، كان إظهار ذلك ممن أقرَّ به نفاقًا [٧-أ] كما قال الله جل وعز: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ (المائدة: ٤١)، وكذلك من أظهر الإقرار بالإيمان، وعَمِلَ فيما أظهر بما أمره به، وانتهى فيما يُرَى منه عما نُهِيَ عنه، وقلبه غير مؤمن بذلك أنه من عند الله، فليس هو إسلامًا على الحقيقة. وهو كما قال الله جل وعز: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ (الحجرات: ١٤) فنبَّأهم أن الإيمان، الذي هو التصديق في القول والعمل، لم يدخل قلوبهم، ولكن عملوا عملًا هو إسلام، أي استسلموا وألقوا السَّلَمَ مُداراةً لمن قَهَرهم، يحمون بذلك أنفسهم وأهليهم وأموالهم، مما يلقاه الصابئون بالكفر. وقد قال الله عز وجل: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ [٧-ب] مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ (التوبة: ١٠١) وقال: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ (التوبة: ٩٧) وقال جل وعز: فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (الأنعام: ١٢٥). فبيَّنَ أيضًا أن الإسلام هو ما انشرح الصدر إليه؛ وأما ما ضاق الصدر عن قبوله، ونفر منه عند سماعه، فصاحبه غير مؤمن. فقامت كلمة الإيمان مَقَامَ كلمة الإسلام. وكذلك قوله: أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (الزمر: ٢٢). قال أبو الحسن: فافهم فقد بيَّنْتُ لك أن تفسير الإيمان أنه التصديق. [٨-أ] وقال الله جل ذكره يصِف رسوله عليه السلام: يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ (التوبة: ٦١). أي يُصدِّق المؤمنين. وأمره أن يقول لمن اعتذر عن تخلُّفه من المنافقين: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أي لن نُصدِّقكم قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ … الآية (التوبة: ٩٤). وأمره أيضًا أن يقول لهم: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (التوبة: ١٠٥). وبينتُ لك أن تفسير الإسلام، إذا لم يكن من قائله على الحقيقة أنه هو الاستسلام — وذلك بأنه يلقي السلم إظهارًا لطاعة من قهرَه — فيكون مِن فاعِله نفاقًا. قال الله عز وجل: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ (النساء: ٨٧) إلى قوله: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ … (النساء: ٩٠-٩١). فبينتُ لك وجه ما يكون به الإيمان إسلامًا، وما يكون به الإسلام إيمانًا، بما فيه الكفاية إن شاء الله تعالى. قال أبو الحسن: أما سؤالك أن نبدأ لك بشيء، من فضائل القرآن فيكفيك من فضل القرآن، معرفتك [١٦-ب] أن القرآن كلام الله عز وجل، وكلام الله غير مخلوق، ثم ثناء الله على هذا القرآن في غير موضع منه. قال الله عز وجل: اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (الزمر: ٢٣)، وقوله تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (يوسف: ١-٣)، الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (البقرة: ١-٢)، المص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (الأعراف: ١-٢)، وكل ما جرى في أوائل السور من هذا، فهو تعظيم [١٧-أ] للقرآن، وتعريف للمؤمنين بفضله، وكذلك قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (النساء: ١٧٤)، وقوله تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (المائدة: ١٥-١٦)، وقوله سبحانه لنبيه ﷺ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ (المائدة: ٤٨) وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (فصلت: ٤١-٤٢)، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (الإسراء: ٩-١٠)، وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام: ١٥٥) ومن هذا المعنى [١٧-ب] في القرآن كثير معروف تَتَبُّعُ ذكرِه في هذا الكتاب يُطيله، وهو شيء بيِّنٌ في القرآن يُغني عن كل كتاب، والحمد لله رب العالمين. قال أبو الحسن: فقد بينت لك ما جاء في فضل مَنْ تعلم القرآن وعلمه، وبينت لك من وصف حامل القرآن ما يكفيك عن سؤالك عما يصحب به القرآن وعن آداب حامله، كل ذلك من كتاب الله عز وجل، [١٩-ب] ومما جاء عن النبي ﷺ تسليمًا. [٢٩-أ] وأما إن كان للولد مال، فلا يدعه أبوه أو وَصِيُّه — إن كان قد مات أبوه — وليدخل الكُتَّاب، ويؤاجر المُعلم على تعليمه القرآن من ماله حسب ما يجب. فإن لم يكن لليتيم وصي نَظَر في أمره حاكم المسلمين، وسار في تعليمه سيرةَ أبيه أو وصيِّه. وإن كان ببلدٍ لا حاكم فيه، نُظِرَ له في مثل هذا، لو اجتمع صالحو ذلك البلد على النظر في مصالح أهله؛ فالنظر في هذا اليتيم من تلك المصالح. وإن لم يكن لليتيم مال، فأمه أو أولياؤه الأقرب فالأقرب به، هم المرغبون في القيام به في تعليم القرآن. فإن تطوع غيرهم بحمل ذلك عنهم، فله أجره. وإن لم يكن لليتيم من أهله مَنْ يُعنى به في ذلك، فمن عُني به من المسلمين فله أجره؛ وإن احتسب فيه المعلم فعلَّمه لله عز وجل، وصبر على ذلك، فأجره إن شاء الله يُضَعَّفُ في ذلك، إذ هي صنعته التي [٢٩-ب] يقوم منها معاشه، فإذا آثره على نفسه استأهل — إن شاء الله — حظًّا وافرًا من أُجور المؤثرين على أنفسهم، ويكفيك من البيان عما وصفت لك من ثواب من رغب في ذلك وسارع إليه، الذي تقدم عن الرسول عليه السلام، إذ قال للمرأة: نعم، ولكِ أجر. وأما تعليم الأنثى القرآن والعلم فهو حسن ومِن مصالحها. فأما أن تُعلَّم الترسُّل والشِّعر وما أشبهه، فهو مَخوف عليها. وإنما تُعلَّم ما يُرجى لها صلاحه، ويُؤمَن عليها من فتنته؛ وسلامتها من تعلُّم الخط أنجى لها. ولمَّا أذن النبي ﷺ للنساء في شهود العيد أمرهنَّ أن يُخرِجْنَ العواتق ذوات الخدور أو العواتق وذوات الخدور، وأمر الحائض أن تعتزِل مُصلى الناس، وقال: يشهدن الخير ودعوة المسلمين. فعلى مثل هذا يُقبَل في تعليمهن الخير الذي يُؤمَن عليهن [٣٠-أ] فيه، وما خيف عليهن منه، فصرْفه عنهن أفضل لهن، وأوجب على مُتولي أمرهن. فافهم ما بيَّنتُ لك، واستهدِ الله يهد، وكفى به هاديًا ونصيرًا. واعلم أن الله جل وعز قد أخذ على المؤمنات فيما عليهن، كما أخذ على المؤمنين فيما عليهم، وذلك في قوله جل وعز: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا … الآية (الأحزاب: ٣٦) وقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ … الآية (التوبة: ٧١)، وجمعها في حُسن الجزاء في غير آية من كتابه، وفي قوله تعالى: وعد الله المؤمنين والمؤمنات … الآية (التوبة ٧٢)، وأمر أزواج نبيه عليه السلام أن يذكُرنَ ما سمِعنَ منه ﷺ فقال: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ (الأحزاب: ٣٤) فكيف لا يُعلَّمْنَ الخير، وما يُعين عليه، ويصرف عنهن القائم عليهن ما يحذَر عليهن منه؛ إذ هو الراعي فيهنَّ والمسئول عنهن، والفضل [٣٠-ب] بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وسنَّة ذلك، وما يصلح أن يُعلَّم للصبيان مع القرآن، وما على المُعلم أن يعلمهم إيَّاه من سائر مصالحهم، وما لا ينبغي له أن يأخذ منهم عليه أجرًا إن هو علَّمَهم إيَّاه على الانفراد. وهل يُعلم المسلم النصراني، أو يُترَك النصارى يُعلِّمون المسلمين؟ وهل يشترِط المُعلم للحذقة أجلًا معلومًا؟ ثم اعلم أن أئمة المسلمين في صدر هذه الأمة، ما منهم إلا من قد نظر في جميع أمور المسلمين بما يُصلحهم في الخاصة والعامة، فلم يبلُغنا أن أحدًا منهم أقام مُعلمين يعلمون للناس أولادهم [٣٢-ب] من صغرهم في الكتاتيب، ويجعلون لهم على ذلك نصيبًا من مال الله جل وعز، كما قد صنعوا لِمن كلَّفوه القيام للمسلمين، في النظر بينهم في أحكامهم، والأذان لصلاتهم في مساجدهم، مع سائر ما جعلوه حفظًا لأمور المسلمين، وحيطةً عليهم، وما يمكن أن يكونوا أغفلوا شأن مُعلم الصبيان، ولكنهم — والله أعلم — رأوا أنه شيء مما يختص أمره كل إنسان في نفسه، إذ كان ما يُعلمه المرء لولده، فهو من صلاح نفسه المُختص به، فأبقوه عملًا من عمل الآباء، الذي يكون لا ينبغي أن يحمله عنهم غيرهم إذا كانوا مُطيقيه. ولما ترك أئمة المسلمين النظر في هذا الأمر، وكان مما لا بدَّ منه للمسلمين أن يفعلوه في أولادهم، ولا تطيب أنفسهم إلا على ذلك، واتخذوا لأولادهم مُعلمًا يختص بهم، ويداوِمُهم، ويرعاهم حسب ما يرعى المُعلم صبيانهم، وبَعُدَ [٣٣-أ] أن يمكن أن يُوجَد من الناس من يتطوَّع للمسلمين فيُعلِّم لهم أولادَهم ويحبس نفسه عليهم، ويترك التماس معايشه، وتصرفه في مكاسبه وفي سائر حاجياته، صَلُحَ للمسلمين أن يستأجروا مَنْ يكفيهم تعليم أولادهم، ويُلازمهم لهم، ويكتفي بذلك عن تشاغُله بغيره. ويكون هذا المُعلم قد حمل عن آباء الصبيان مئونة تأديبهم، ويبصرهم استقامة أحوالهم، وما يُنَمِّي لهم في الخير أفهامهم، ويُبْعِد عن الشر ما لَهم، وهذه عنايةٌ لا يكثر المتطوعون بها. ولو انتُظِرَ من يتطوع بمعالجة تعليم الصبيان القرآن، لضاع كثير من الصبيان، ولما تعلم القرآن كثير من الناس، فتكون هي الضرورة القائدة إلى السقوط في فقد القرآن من الصدور، والداعية التي تُثَبِّتُ أطفال المسلمين على الجهل، فلا وجه لتضييق ما لم يأتِ فيه ضيق، ولا ثبت [٣٣-ب] فيه عن الرسول عليه السلام ما يدل على التنزيه عنه. قال أبو الحسن: يريد ابن حبيب بقوله: وصارت المصاحف مُباحة غير محجوبة ولا ممنوعة، أي مَنْ أراد شراءها أو اكتتابها، وجد ذلك مُمكنًا؛ فإذا كان كذلك [٤٠-ب] وكذلك أيضًا مَنْ أراد أن يتعلَّم القرآن من عند المُعلمين يجِده كثيرًا غير محجوب ولا ممنوع، إذا أعطى عليه الإجارة، كما يُعطي الثمن في المصاحف ليشتري منها ما يجوز شراؤه، كذلك يؤاجَر من المُعلم ما يجوز إجارته من اشتغاله به، وحركاته في تعليمه. وهذا كله حسب ما قدَّمتُ لك من البيان، كله يؤكد بعضه بعضًا، ويجيز إجارة المُعلم على تعليم القرآن، ويُجيز للمُعلم أن يأخذ الأجر على ذلك، ولا يضرُّه أخذ الأجر شيئًا إذا وَفَّى بشروط التعليم، وقد قدمتُ لك قول مالك عن كل مَنْ أدرك أنهم يُجيزون إجارةَ المُعلمين. وقد قال سحنون: قال ابن وهب: قال مالك: لا بأس بما يأخُذ المعلم على تعليم القرآن، وإن اشترط شيئًا كان له حلالًا جائزًا، ولا بأس [٤١-أ] بالاشتراك في ذلك، وحق الختمة له واجب، اشترطها أو لم يشترطها، وعلى ذلك أهل العِلم ببلدِنا. الحارث عن ابن وهب، قال: سُئل مالك عن الغلام يُدْفَع إلى المُعلم يُعلِّمه ثلث القرآن، ويشترط ذلك عليه بشيءٍ مُسمًّى، فقال: لا أرى بذلك بأسًا. قال أبو الحسن: ولقد مرَّت بي حكاية لمُوسى بن معاوية عن مَعن بن عيسى، قال: جاء رجل إلى مالك قال: علَّمتُ رجلًا سورةً بالأجر، قال: لا بأس به. قال أبو الحسن: وتعليم سورة على المُعلم، في حفظ المُتعلم لها عناء وشغل، فيمكن أخذ الأجر على ذلك. وحكاية أُخرى عن عليِّ بن أبي طالب قال: لا بأس أن يأخذ الرجل من الرجل الأجر على تعليم القرآن، ولا يجوز له إن قال له: أفتني هذا الحرف [٤١-ب] بِجُعل، أن يأخُذ منه عليه جُعلًا لأن الحرف أمرٌ يسير؛ أو هو مثل رجل يريد الإسلام فيقول للرجل: علِّمني الإسلام، فيقول له: فأعطني على تعليمي إياك جُعلًا، فإن هذا أيضًا لا يجوز مع ما فيه من القُبح. قال أبو الحسن: فهذا يُبين لك أن ما لم يكن على المعلم في تعليمه من الخير مئونة كلفةٍ وتشاغلٍ، أن عليه أن يُعلمه لمن لا يَعلَمه إذا كان لا بدَّ من تعليمه في الوقت. ومِثْلُ هذا لو أن أحدًا من أهل الكفر أتى لمُسلم، فسأله أن يُعلِّمه الإسلام لوجَبَ عليه أن يُعلمه ذلك، ولا يسأله عليه أجرًا. وإذا علَّمَه الإسلام فليُعلِّمه ما يكون به مُسلمًا: من الشهادة، وصفة الفروض، يُخبره أن عليه خمس صلوات يُصليهن على طهارة في كل يومٍ وليلة، ويُوقفه على عدد ركوع كل صلاة، ويُريه كيف [٤٢-أ] الركوع، وكيف الصلاة، وإن لم يجد مَنْ يُعلمه القرآن وجب على هذا الذي ابتُلِي به أن يُعلِّمه أم القرآن ليُصلي بها، ولا يأخذ منه على شيءٍ من ذلك أجرًا. ثم يذهب هذا الداخل في الإسلام فيتعلَّم ما يحتاج إليه من زيادةٍ على ما يجب عليه في يومه، ويصير إلى حال الواجدين للتعليم بالأجرة، والذي أجاز أهل العلم أخذ الإجارة على تعليمه القرآن والكتاب، ليس بين من يُجيز الإجارة على التعليم اختلاف في ذلك. فأما تعليم الفقه والفرائض، يستأجر الرجل من يُعلِّم ولده ذلك، فسُئل ابن القاسم عنه فقال: ما سمعت — يعني من مالك — فيه شيئًا، إلا أنه كره بيع كتب الفقه، فإنا نرى الإجارة على تعليم ذلك لا تُعجبني، والشرط على تعليمها أشَرُّ. وأما ابن سحنون فذكر في كتابه، قال: [٤٢-ب] قال مالك لا أرى أن يجوز إجارة من يُعلِّم الفقه والفرائض. وقال لابنه: روى بعض أهل الأندلس أنه لا بأس بالإجارة على تعليم الفقه والفرائض والشِّعر والنحو، وهو مثل القرآن، فقال: كرِه ذلك مالك وأصحابنا، وكيف يُشبَّه القرآن، والقرآن له غاية ينتهي إليها، وما ذكرت ليس له غاية ينتهي إليها، فهذا مجهول، والفقه والعِلم أمر قد اختُلِف فيه، والقرآن هو الحق الذي لا شك فيه، والفقه لا يُستظهَر مثل القرآن، وهو لا يُشبهه، ولا غاية له، ولا أمد ينتهي إليه. قال ابن حبيب: قلت لأصبغ: فكيف جوَّزتُم الشرط على تعليم الشِّعر والنحو والرسائل، إذا لم تُسَمُّوا لذلك أجلًا، وهو مما ليس له مُنتهًى ينتهي منه إلى حدٍّ معروف؟ فقال لي: هو عندنا معروف بمنزلة الحِنَاطَةِ والخَبْزِ، وقد أجاز مالك الشرط على [٤٣-أ] تعليم الحِنَاطَةِ والخبز، وما أشبه ذلك من الصناعات، فإذا بلغ من ذلك مَبلغ أهل العلم به من الناس، وجب في ذلك حقه. فافهم، فقد بينتُ لك وجوه جواز أخذ الإجارة على تعلُّم القرآن، وما يجوز أن يُعلم بالأجر، وما يُكرَه من ذلك للمُعلم والمتعلم، وما اختلف أصحابنا فيه من كراهية له أو توسعة، ليستبين طالب الحلال ما يصفو له به الحال في أُجرة التعليم، وما يُنزَّه منه ذو الورع من ذلك. وبينتُ لك ما ينبغي للمسلم أن يتعلمه أو يُعلِّمه لولده وما يختلف من ذلك. وأزيدك [٥٠-ب] ها هنا منه ما يكون عونًا لك في استبانته. قيل لابن القاسم: إن استأجرتُ رجلًا يُعلم لي ولدي القرآن، يُحذقه القرآن بكذا وكذا درهمًا، قال مالك: لا بأس بذلك. وقال ابن القاسم: ولا بأس بالسدس أيضًا مثل قول مالك في الجميع. وقال ابن القاسم: لا بأس أن يُقدَّم إلى معلم الكتاب حقه، قبل أن يدخل الصبي. وعند ابن سحنون قال مالك: لا بأس أن يستأجِر الرجل المُعلم على أن يُعلم ولده القرآن بأجرٍ معلوم، إلى أجلٍ معلوم أو كل شهر، وكذلك نصف القرآن، وربعه، وما سُمِّيَ منه. قال أبو الحسن: أما قوله أو كل شهر، فقد قيل لابن القاسم أن يستأجره على تعليم ولده القرآن كل شهرٍ بدرهم، أو كل سنة بدرهم. قال: قال مالك: لا بأس بذلك، قيل إن [٥١-أ] استأجره على أن يُعلم ولده الكتابة كل شهر بدرهم؟ قال: قال: لا بأس بذلك. قيل — وهو قول مالك — قال: قال مالك في إجارة المُعلمين سنةً بسنة: لا بأس بذلك. والذي يستأجره يُعلِّم ولده الكتابة وحدَها، لا بأس بذلك، مثل قول مالك في إجارة المُعلمين سنةً بسنة. قال أبو الحسن: وأما قوله إلى أجل معلوم، فإن كان يريد أن يكون يُعلمه القرآن كله إلى أجلٍ معلوم، فإنَّ ابن الموَّاز ذكر في قول مالك، لو اشترط أن يُعلمه سنةً أو سنتَين كان ذلك لازمًا. قال محمد بن إبراهيم: جائز، ما لم يقُل له: تُعلِّمه في سنة أو سنتَين. قال أبو الحسن: قول مالك في سماع ابن القاسم، وابن وهب، كما حكاه محمد، ورواه مُطرِّف عن مالك، قال: وجميع علمائنا بالمدينة. وفسَّره محمد أنه لم يشترط استكمال القرآن في هذا [٥١-ب] الأجل، وتفسيره جار على الأصول في سائر الإجارات. ولكن قال ابن حبيب: قد أجاز مالك أن يُشارط المُعلم في الغلام على الحَذْقَة ظاهرًا أو نظرًا، سَمَّيا في ذلك أجلًا أو لم يُسمِّيا. ولقد قلتُ لأصبغ: كيف أجاز مالك الشرط على الحذقة إذا سمَّيا لها أجلًا، أرأيتَ إذا انقضى الأجل ولم يَحْذقه، ما يكون له؟ قال: يكون له أجرة مِثله فيما علَّمه في تلك السنة، وليس على حساب الأجرة الأولى. قلت: ولا ترى هذا من شرطَين في شرط؟ قال: لا، وإنما كان يَدخُلُه شرطان في شرط، لو كان عاقدَه على هذا اللفظ بديًا، فأما إذا عاقده على أن يحذقه في سنةٍ فإنما هو على شرطٍ واحد، حتى يحدث بينهما الذي وصفْنا من تقصيره عما شرط عليه، فيرد إلى أجرةِ مثله على تحذيقه إيَّاه في أكثر من السنة، لأن أبا [٥٢-أ] الغلام إنما كان رضي بالأُجرة الأولى على أن يحذق ولده في سنة، فلما جاوز المُعلم توقيت ما وَقَّتَ له، لم يكن له أن يأخذ على التأخير ما سُمِّيَ له على التعجيل، وكان ذلك مَظلمة على أبي الغلام، إن أخذ ذلك منه. وإنما الذي لا يجوز فيه التوقيت مع الحذقة، أن يُوقِّت وقتًا ضيقًا يرى ويخشى أنه لا يبلُغ ذلك فيه لضِيقه، فالعُذر والخَطر يدخله. قال أبو الحسن: وفرَّق أصبغ في هذا الجواب بين معلم الكُتَّاب وبين الخيَّاط يشترط الفراغ في أجلٍ معلوم، فأجراه مجاري الإجارة الداخلة في معاني البيوع على ما استحسن، إذا كان الأجل المُؤقت يمكن الفراغ مما اشترط عليه فيه قبل ذهاب الوقت، فلا باس به؛ كذا قال في المُعلم والخيَّاط. وقضيته للمُعلم، إذا تم الأجل قبل تمام الحذقة بأجرة مثله ليس على حساب ما استُؤجِر [٥٢-ب]، صواب مُستقيم. وقيامه عليهم، وعدله فيهم، ورفقه بهم، وهل يستعين بهم فيما بينهم، أو لنفسه، وهل يُوليهم غيره إن احتاج إلى ذلك؟ وهل يشتغل مع غيره معهم أو يشتغل له؟ وكيف يُرتب لهم أوقاتهم لدرسهم، وكتابتهم، وكيف مَحوهم ألواحهم، وأكتافهم، وأوقات بطالتهم لراحتهم، وحد أدبه إيَّاهم، وعلى مَن الآلة التي بها يؤدبهم، والمكان الذي فيه يُعلمهم؟ وهل يكون ذلك في مسجد؟ وهل يشترك مُعلمان أو أكثر؟ وهل يدرس الصبيان في حزبٍ واحد مُجتمعين؟ وهل يَمَسُّون المصحف وهم على غير طُهر، ويعلمون الوضوء لمَسِّ المصحف، ويُصَلون في جماعة يؤمهم أحدهم؟ ومن رفقه بالصبيان أن الصبي إذا أُرسِل وراءه ليتغدَّى فيأذن له ولا يمنعه من طعامه وشرابه، ويأخذ عليه في سرعة الرجوع إذا فرغ من طعامه. ومن حقِّهم عليه أن يعدل بينهم في التعليم، ولا يُفضِّل بعضهم على بعض، وإن تفاضلوا في الجُعل، وإن كان بعضهم يُكرمه بالهدايا والأرفاق، إلا أن [٥٧-أ] يفضل من أحبَّ تفضيله في ساعة راحاته، بعد تفرُّغه من العدل بينهم. وذلك من قِبَلِ أن القليل الجُعل إنما رضي أن يؤدي أداءه ذلك على إتمام تعليم ولدِه، كما شرط الرفيع الجُعل. إلا أن يُبين المُعلم لآباء الصبيان أنه يفاضِل بينهم على قدْر ما يصِل إليه من العطاء من كل واحدٍ منهم، فيرضَوا له بذلك، فيجوز له، وعليه أن يفي بما التزم من قدْر ذلك. ومن صلاحهم، ومن حُسن النظر لهم، ألا يخلط بين الذُّكران والإناث، وقد قال سحنون: أكره للمُعلِّم أن يُعلم الجواري، ويخلطهنَّ مع الغلمان، لأن ذلك فساد لهن. قال أبو الحسن: وإنه لينبغي للمُعلم أن يحترس الصبيان بعضهم من بعض إذا كان فيهم مَنْ يُخشى فساده، يُناهز الاحتلام، أو يكون له جرأة. ومن الاجتهاد للصبي ألا ينقله من سورةٍ حتى يحفظها بإعرابها وكتابتها. قال سحنون: إلا أن يسهل لهم الآباء، فإن لم يكن لهم آباء وكان لهم أولياء أو وصي، فإن كان دفع أجر المُعلم من غير مال الصبي إنما هو من عندهم، فلهم أن يُسهلوا كما للأب؛ وإن كان من مال الصبي الأجر، لم يَجُزْ لهم أن يسهلوا حتى يحفظها كما أعلمتُك. قال: وكذلك إذا كان الأب يُعطي من مال الصبي. قال: وأرى ما يلزم الصبي من مئونة المعلم في ماله إن كان له مال بمنزلة كسوته ونفقته. قال أبو الحسن: صواب. ولكن قوله إن كان يأخذ المُعلم من غير مال الصبي، أنَّى لأبيه أو مَنْ قام له أن يسهل للمُعلم في نقله من السورة قبل [٥٩-ب] تمامها، ما أدري ما وجه العطاء للمُعلم على الصبي، إنما كان على حُسن العناية بالصبي فقد صار الحق للصبي، فمن أين لأحد أنْ يُسهل فيه، إلا أن يكون مراد سحنون — رحمه الله — أن للصبي التسهيل في ذلك وقع عند عقد الإجارة، فيكون صوابًا في الجواب، والأحسن ما هو أتم للصبي. وأما بطالة الصبيان يوم الجمعة؛ فقال سحنون: يأذن في يوم الجمعة، وذلك سُنَّة المُعلمين منذ كانوا، لم يُعَبْ ذلك عليهم. وذكر أن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال في المعلم يستأجر شهرًا، له أن يتبطَّل يوم الجمعة؛ وما كان الناس قد عملوا به، وجرَوا عليه فهو كالشرط. وأما تخلية الصبيان يوم الخميس من العصر فهو أيضًا يجري على عُرف الناس، إن كان قد عُرِفَ ذلك من شأن المُعلمين، فهو كما عُرف من شأنهم في يوم الجمعة. فأما بطالتهم يوم الخميس كله، فهذا بعيد، إنما دراسة الصبيان أحزابهم وعرضهم إيَّاها على مُعلميهم في عشي يوم الأربعاء، وغدو يوم الخميس، إلى وقت الكتابة، والتخابُر إلى قبل انقلابهم نصف [٦١-أ] النهار، ثم يعودون بعد صلاة الظهر للكُتَّاب، والخيار إلى صلاة العصر، ثم ينصرفون إلى يوم السبت يُبكرون فيه إلى مُعلميهم. وهذا حسنٌ نافع رفيق بالصبيان وبالمُعلمين لا شطط فيه. وكذلك بطالة الأعياد أيضًا على العُرف المشتهر المُتواطأ عليه. وقال ابن سحنون لأبيه: كم ترى أن يأذن لهم في الأعياد؟ فقال: الفطر يومًا واحدًا، ولا بأس أن يأذن لهم ثلاثة أيام؛ والأضحى ثلاثة أيام، ولا بأس أن يأذنهم خمسة أيام. قال أبو الحسن: يريد ثلاثة أيام في الفطر، يومًا قبل العيد، ويوم العيد، فيوم ثانيه. وخمسة أيام في الأضحى: يوم قبل يوم النحر، وثلاثة أيام النحر، واليوم الرابع وهو آخر أيام التشريق، ثم يعودون إلى مُعلِّميهم في اليوم الخامس من أيام النحر؛ وهذا وسط في الرفق. وأما بطالة [٦١-ب] الصبيان من أجل الختم، فقيل لسحنون أيضًا: أترى للمُعلم في إذنه للصبيان اليوم ونحوه؟ قال: ما زال ذلك من عمل الناس مثل اليوم وبعضه، ولا يجوز له أن يأذن لهم أكثر من ذلك إلا بإذن آبائهم كلهم؛ لأنه أجير لهم. قيل له: ربما أهدى الصبي إلى المُعلم أو أعطاه شيئًا، فيأذن لهم على ذلك؟ فقالِ: إنما الإذن في الختم اليوم ونحوه، وفي الأعياد، وأما في غير ذلك فلا يجوز إلا بإذن الآباء. قال: ومن ها هنا أُسقطت شهادة أكثر المُعلمين؛ لأنهم غير مُؤدِّين لما يجب عليهم إلا مَنْ عصم الله. قال أبو الحسن: وهذا إذا كان المُعلم بأجر معلوم كل شهر، أو كل سنة. وأما إن كان على غير شرط، [٦٢-أ] وما أُعطي قَبِلَ، وما لم يُعطَ لم يَسْأل، فله أن يفعل ما شاء إذا كان أولياء الصبيان يَعلمون بتضييعه، فهم إن شاءوا أعطوا على ذلك، وإن شاءوا لم يُعطوه. وهذا الوصف يكفيك مما سألت عنه، وفيه بطالتهم عند الختمة؛ فإن كان بلد قد عُرِف فيه العطاء عند النصف، أو الثلث، أو الربع حتى صار ثابتًا، فالمطالبة فيه على حسب ما عُرف عنه، وتُووطئ عليه. وأما وصفك لما جرى عندكم من صنيع مُعلميكم إذا تزوَّج رجل، أو وُلد له، فيبعثون صبيانهم، فيصيحون عند بابه، ويقولون: أستاذنا، بصوت عالٍ فيُعطَون ما أحبُّوا من طعام، أو غير ذلك، فيأتون به مُعلمهم، فيأذن لهم يتبطَّلون بذلك نصف يوم أو ربع يوم، بغير أمر الآباء، يكفيك ما سألتَ عنه قول سحنون: ولا يحل للمُعلم أن يُكلف الصبيان فوق أجرته شيئًا من هدية أو غير ذلك، ويسألهم [٦٢-ب] في ذلك، فإن أهدوا إليه على ذلك، فهو حرام، إلا أن يُهدوا إليه من غير مسألة، إلا أن تكون المسألة منه على وجه المعروف فإن فعلوا لم يضرَّهم في ذلك. وأما إن كان يُهدِّدهم أو يُخلِّيهم إذا أهدوا إليه، فلا يحلُّ له ذلك؛ لأن التخلية داعية إلى الهدية وهو مكروه. فإذا كان هذا كما وصف سحنون فيما يأتي به الصبيان، فالذي سألتَ أنت عنه أشد وأكره: لعل صاحب التزويج، أو أبا المولود، لا يُعطي ما يُعطي، إلا تقيَّة أذى المُعلم أو أذى صبيانه، أو من تقريع بعض الجهَّال، فيصير المُعلم من ذلك إلى أكل السُّحت، ولا يفعل هذا إلا مُعلم جاهل. فليُوعَظ فيه وليُنْهَ عنه ويُزجر، حتى يترك العمل الذي وصفت، فإنه من عمل الشيطان، وليس من عمل أهل القرآن. وأما [٦٣-أ] سؤالك عما يُصَرِّف المعلم الصبيان فيه، ويُكلفهم إيَّاه، وهل يتشاغل هو عنهم بشيء، فإن سحنون قال: سُئل مالك عن المُعلم يجعل للصبيان عريفًا. فقال: إن كان مثله في نفاذه، فقد سهل في ذلك، إذا كان للصبي في ذلك منفعة. قال سحنون: ولا بأس أن يجعلهم يُملي بعضهم على بعض؛ لأن في ذلك منفعة لهم. وليتفقَّد إملاءهم. قيل له: فيأذن للصبي أن يكتُب لأحد كتابًا؟ فقال: لا بأس به، وهذا مما يخرج الصبي، إذا كتب الرسائل. قال: ولا يجوز للمُعلم أن يُرسل الصبيان في حوائجه. قيل له: فيرسل الصبيان بعضهم في طلب بعض؟ فقال: لا أرى ذلك له إلا أن يأذن أولياء الصبيان في ذلك، أو يكون المَوضع قريبًا لا يشغل الصبيان في ذلك. وليتعاهد الصبيان هو بنفسه في وقت انقلاب [٦٣-ب] الصبيان، يُخبر أولياءهم أنهم لم يجيئوا. قال: وأُحِب للمُعلم ألا يُولي أحدًا من الصبيان الضرب، ولا يجعل لهم عريفًا منهم، إلا أن يكون الصبي الذي قد ختم وعَرَف القرآن، وهو مُستغنٍ عن التعليم، فلا بأس أن يُعينه فإن في ذلك منفعة للصبي. قال: ولا يحل له أن يأمر أحدًا أن يُعلم أحدًا منهم، إلا أن يكون فيما فيه منفعة للصبي في تخريجه، أو يأذن والده في ذلك. ولْيَلِ ذلك هو بنفسه، أو يستأجر هو من يُعينه، إذا كان في مثل كفايته. قال: ولا يجوز للمُعلم أن يشتغل عن الصبيان إلا أن يكونوا في وقتٍ لا يَعْرضهم فيه بأس بأن يتحدَّث، وهو في ذلك ينظر إليهم يتفقدهم. قال: ولا بأس للمُعلم أن يشتري ما يُصلحه لنفسه من حوائجه، إذا لم يجد مَنْ يكفيه. قال: ولا بأس أن ينظر [٦٤-أ] في العلم في الأوقات التي يستغني [فيها] الصبيان عنه، مثل أن يصيروا إلى الكتابة وأملى بعضهم بعضًا، إذا كان في ذلك منفعة لهم، فإن هذا قد سهَّل فيه بعض أصحابنا. قال: وليلزَمِ المُعلم الاجتهاد، وليتفرَّغ لهم. ولا يجوز له الصلاة على الجنائز إلا ما لا بد له منه، ممن يلزمه النظر في أمره؛ لأنه أجير لا يدع عملَه ويتبع الجنائز وعيادة المرضى. قيل: فهل ترى للمُعلم أن يكتب كتُب العلم له أو للناس؟ فقال: أما في وقت فراغه من الصبيان، فلا بأس أن يكتُب لنفسه وللناس، مثل أن يأذن لهم في الانقلاب. وأما ما داموا حوله، فلا أراه يجوز له ذلك. وكيف يجوز له أن يخرُج مما يلزمه النظر فيه إلى ما لا يلزَمه؟ ألا ترى أنه لا يجوز له أن يُوكِل تعليم بعضهم [٦٤-ب] إلى بعض، فكيف يشتغل بغيرهم! قال أبو الحسن: كل ما جرى في هذا الفصل صواب حسَن. وما قال فيه: إلا أن يأذن في ذلك أبوه أو وليُّه، فمعناه: إذا كان أجر المعلم من غير مال الصبي الذي يجوز إذنهم في ذلك من أموالهم، دفعوا الإجارة عن الصبي. وقد تقدَّم مثله، وأن معناه: أنه كان في الشرط عند عقد الإجارة، قبل أن يَجِب الحق للصبيان، وهو وجه القول عندي. والله أعلم. وقد أتى ما وصفه سحنون على مسائلك وأكثر منها. وأما قولك: هل للمُعلم إذا غلب عليه النوم أن ينام عندهم، أم يُغالب ذلك عن نفسه؟ فإنه إن كان في وقت تعليمه إيَّاهم، وحضورهم عنده، فليُغالِبه إن استطاع. وإن غلب فليقُم فيهم مَنْ يخلفه عليهم، إذا كان في مثل كفايته، بإجارة [٦٥-أ] يستأجره، أو يتطوَّع له إذا كان من غير الصبيان. وإن كان من الصبيان أنفسهم فقد تقدَّم من الشرائط في ذلك. وكذلك إن مرض، أو [كان] عليه شغل، فهو يستأجر لهم مَنْ يكون فيهم بمثل كفايته لهم، إذا لم تطُل مدة ذلك. فإن طالت فلآباء الصبيان في ذلك نظر ومُتكلم من قِبَل أنه هو المستأجَر بعينه، فلا يصلُح أن يُقيم عوضًا منه إلا فيما قرُب، فيستخف إذا كانت الإجارة واجبة عليه. كذلك إن هو سافر فأقام مَنْ يوفِّيهم كفايته لهم، إن كان سفرًا لا بدَّ منه، قريبًا اليوم واليومين وما أشبههما فيستخفُّ ذلك إن شاء الله. وأما إن بَعُدَ أو خيف بُعد القريب، لِما يعرض في الأسفار من الحوادث، فلا يصلح له ذلك. وأما شهود النكاحات، وشهادات [٦٥-ب] البياعات، فليس له ذلك؛ هو في هذا مثل شهود الجنازة، وعيادة المريض، أو أشد. وأما إنْ كانت عنده شهادة، والسلطان عنه بعيد، في سيرِه إليه شغل عن صبيانه، فهو له عُذر في تخلُّفه عن أداء الشهادة؛ ولكن إن لم يُوجَد منه بد، أودع شهادته عند مَنْ ينقلها عنه، وله في ذلك عُذر، ويقبلها الحاكم ممَّن نقلَها إليه، ويعذُرُه بعُذره الذي لزمه. فافهم، فقد بيَّنتُ لك جميع ما سألت عنه من هذا المعنى. فأما قولك: فإن فعل، يريد ما نهى عنه، وتشاغل عن الصبيان، ماذا عليه؟ فاعلم أنه يكون من الاشتغال الخفيف، الذي يكون في مثل حديثه في مجلسه، فيشغله من الصبيان شيئًا، فهذا وما اشبهه يقلُّ خطبُه، ويخفُّ قدرُه، فيتحلل من آباء الصبيان مما أصاب من ذلك، إن كان الأجر من أموالهم. وإن كان من [٦٦-أ] أموال الصبيان فلا بأس به عندي أن يُعوضهم من وقت عادة راحته، ما يَجبُر لهم به من نقصهم من حظوظهم باشتغاله ذلك؛ وإن كان غائبًا اليوم أو أكثر اليوم، فهذا كثير. فإن كانت إجارته أجلًا معلومًا، وقد عطلهم، ولم يقم لهم عوضًا منه، فيضع من أجره ما ينوب ذلك اليوم الذي عطَّلَه. وإن كانت الإجارة مُطلقة، وُفِّيَ كل شهرٍ بما علم فيه: وليس له أن يعتاد التشاغل، حتى يُلجئه إلى العوض؛ لأن ذلك يضر بالصبيان. وأما سؤالك عما يُكلفه المعلم الصبيان أن يأتوه به من بيوت آبائهم، يريد بغير إذن آبائهم، أو حمله الصبيان بغير تكليف من المُعلم، وكان ذلك من الطعام أو غير الطعام، وإن قلَّ قدره من حطب أو غير ذلك، فهذا لا يحل للمُعلمين أن يأمروا به، ولا أن يقبلوه إن أُتِيَ به [٦٦-ب] إليهم، وإن لم يأمروا به، إلا بإذن الآباء، ويسلم أيضًا من أن يكون ما أذن الآباء في ذلك على وجه الحياء وتقية اللائمة. وقد تقدَّم من قول سحنون في فصل ما يجوز من بطالتهم ما فيه الكفاية من سؤالك هذا. فافهم. وقال: إذا استؤجر المُعلم على صبيان معلومين سَنةً معلومة، فعلى أولياء الصبيان كراء موضع المُعلم. قال أبو الحسن: وهذا صواب أيضًا؛ لأنهم هم أتوا بالمُعلم إليهم وأقعدوه لصبيانهم، وعلى هذا يعتدل الجواب. وقال سحنون: إذا استأجر الرجل مُعلِّمًا على صبيان معلومين، جاز للمُعلَّمين أن يُعلِّم [٦٧-أ] معهم غيرهم، إذا كان لا يشغله ذلك عن تعليم هؤلاء الذين استؤجِر لهم. ومعنى هذا: إذا كان لم يُشترَط على المُعلم أنه لا يزيد على العدة المذكورة له شيئًا، فأما أن يشترطوا عليه أن لا يزيد على العدة المذكورة له، أو شرطوا عليه أن لا يخلط مع صبيانهم غيرهم، فليس له ذلك. وهذا هو جواب سؤالك عندي له. وأما تعليم الصبيان في المسجد، فإنَّ ابن القاسم قال: سُئل مالك عن الرجل يأتي بالصبي إلى المسجد، أتستحبُّ ذلك؟ قال: إن كان قد بلغ موضع الأدب، وعرف ذلك، ولا يعبث في المسجد فلا أرى بأسًا. وإن كان صغيرًا، لا يقرُّ فيه ويعبث، فلا أحب ذلك، ولابن وهبٍ عن مالك مثل معنى هذا. وأما سحنون فقال: سُئل مالك عن تعليم الصبيان في المسجد فقال: [٦٧-ب] لا أرى ذلك يجوز؛ لأنهم لا يتحفَّظون من النجاسة، ولم يُنْصب المسجد للتعليم. قال أبو الحسن: جواب صحيح، وتكسُّب الدنيا في المسجد لا يصلُح. ألم تسمع قول عطاء بن يسار للذي أراد أن يبيع سلعةً في المسجد: عليك بسوق الدنيا، فإنما هذا سوق الآخرة. فلا يُترَك لمُعلم الصبيان أن يجلس بهم في المجسد، وإن اضطُرَّ إلى ذلك بانهدام مكانه، فليتَّخِذ مكانًا يُعلِّم فيه إلى أن يصلح ما انهدم له، إن أحب. واتخاذ المكان عليه، كان بيتًا أو حانوتًا، إلا أن يُدعى إلى صبيانٍ بأعيانهم، فقد تقدَّم قول سحنون في كراء ذلك أنه على الصبيان. فإذا كان بيت المُعلم لهم — إذ هم بأعيانهم — فبناؤه عليهم، أو يتخذوا مكانًا غيره؛ وليس على المُعلم من ذلك شيء. إنما على المُعلم المكان، إذا كان يُعلِّم لعامة الناس. [٦٨-أ] وأما شركة المُعلِّمَين والثلاثة والأربعة، فهي جائزة إلا إذا كانوا في مكانٍ واحد، وإن كان بعضهم أجود تعليمًا من بعض؛ لأن لهم في ذلك ترافقًا وتعاونًا، ويمرَض بعضهم فيكون السالم مكانه حتى يفيق. وإن كان بعضهم عربي القراءة، يُحسِن التقويم، والآخر ليس كذلك، ولكنه ليس يلحن، فلا بأس بذلك. قلت: ذلك على ما جاء عن مالك، وعن ابن القاسم في مُعلِّمَيْن اشتركا. وقد رُوِيَ عن مالك أن ذلك لا يصلح حتى يستوي علمهما، فلا يكون لأحدهما فضلٌ على صاحبه في علمه. فإن كان أحدهما أعلم من صاحبه، لم يصلح، إلا أن يكون لأعلَمِهما فضل من الكسب يقدر عليه على صاحبه، وإلا لم يصلُح. قال أبو الحسن: أما إذا لم يكن بين المُعلِّمَين من الاختلاف إلا أنَّ أحدهما يُعرب قراءته، والآخر لا يعربها، إلا أنه [٦٨-ب] لا يلحن، فما في هذا ما يُوجب عندي التفاضُل بين أُجرتيهما إذا اشتركا. وكذلك يكون أحدهما رفيع الخط، والآخر ليس بذلك، إلا أن يكتب ويتهجَّى. والاختلاف في هذا وشبهه مُتقارب في الشركة. وكذلك هذا في الصنائع وفي التجارة يكون أحدهما أعلى من الآخر فيما يحسن من ذلك، فليس لهذا فضل على الآخر في الإجارة إذا كانا شريكَين، ولكن إذا كان أحد المُعلمين يقوم بالشكل والهجاء، وعلم العربية، والشِّعر، والنحو، والحساب، والأشياء التي لو انفرد مُعلم القرآن بجمع علومها لجاز أن يشترط عليه تعليمها مع تعليم القرآن، من قِبَل أنها ممَّا يُعين على ضبط القرآن، وحُسن المعرفة، فهذا إن شاركَ من لا يُحسن إلا قراءة القرآن والكتاب، فهو الذي تكون الإجارة [٦٩-أ] بينهما متفاضِلة على هذه الرواية، على قدْر علم كل واحدٍ منهما. وأما لو أن أحدهما يُسْتأجر ليُعلِّم النحو والشِّعر والحساب وما أشبه ذلك، والآخر يستأجر على تعليم القرآن والكتاب، ما صلُحَت هذه الشركة، على مذهب ابن القاسم، وعلى قول مَنْ يكره الإجارة على تعليم غير القرآن والكتاب. [فافهم، فقد] بينت لك ذلك ليُردَع عنه مَنْ يُحب أن يأكل حلالًا طيبًا. وسألت هل للصبيان الصغار، أو الكبار البالغين، أن يقرءوا في سورةٍ واحدة وهم جماعة على وجه التعليم؟ فإن كنت تريد يفعلون ذلك عند المعلم، فينبغي على المُعلم أن ينظر فيما هو أصلح لتعلمهم، ليأمرهم به، ويأخذ عليهم فيه؛ لأن اجتماعهم في القراءة بحضرته يُخفي عنه قَويَّ الحفظ من الضعيف. ولكن إن كان على الصبيان من ذلك خفة، فيُخبرهم [٦٩-ب] أنه سيعرض كل واحد منهم في حزبه، فيؤدبه على ما كان من تقصير، تهديدًا يتهدَّدُهم، ولا يُوقع الضرب لأدب، إلا عن ذنبٍ يتبين حسب ما تقدَّم قبل هذا. وأما إمساك الصبيان المصاحف، وهم على غير وضوء، فلا يفعلوا ذلك؛ وليس كالألواح. وما في نهيهم عن مس المصاحف الجامعة — وهم على غير وضوء — خلافٌ من مالك، ولا ممَّن يقول بقوله. ورأى سحنون أنَّ على المُعلم أن يأمرهم ألا يمَسُّوا المصحف إلا وهم على وضوء، حتى يعلموه. وهو حسن صواب، كما قال سحنون؛ لأن مُعلمهم يُعلمهم مصالح دينهم. قد سئل مالك عن صبيان الكُتَّاب يُصلي بهم صبي لم يحتلم، قال: ما زال ذلك من شأن الصبيان وخفَّفه. قال أبو الحسن: يريد الذين يُصَلُّون معه لم يحتلِموا، ولو كان [٧٠-أ] في صبيان الكتاب مُحتلم، فإن صلُح للإمامة قُدِّمَ، وإن لم يصلح للإمامة فلا يُصلَّى خلف مَنْ لم يحتلم، ولا يقطع عن صبيان الكتاب عادتهم، لكي يتدرَّجوا على معرفة صلاة الجماعة، وليعرفوا فضلها حتى يكبُروا على الرغبة فيها، والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين. قال أبو الحسن: قد قدَّمت لك من وصف ما يطيب للمُعلمين، يأخذونه من المُتعلِّمين، ومن وصف ما ليس لهم أخذه، وما يكون نزاهةً لأهل الورع منهم، ما فيه الكفاية والبيان لما سألتَ عنه، وفيه ما يُوجب لهم في شرطهم، فإن أراد منهم أحد ترْك ما دخل فيه، أو اختلفوا في [٧٠-ب] أمر، وَسِعَتْهم الأحكام. وسألت عن الختمة متى تجِب للمُعلم، وعلى أي وجهٍ تجب له، وكيف يكون حال الصبي في حفظه، وقراءته، وإجارته، فيستوجبها المُعلم؟ قال: ووجوب الختمة للمُعلم فيما سألتَ عنه على وجهَين: وأما قول سحنون فيمن أخرج ولده من عند المُعلم، وقال له: لا يحضر ولدي عندك وقد قارب الختمة، وكانت الإجارة كل شهر. فقال: أقضي عليه بالختمة، ثم لا أُبالي به أخرَجه أو ترَكه. ومقاربة الختمة عند سحنون، إذا بلغ الثلثَين أو جاوز ذلك. وقيل عنه: والثلاثة أرباع أبيَنُ. وعنده إذا لم يبلغ إلا لسورة يونس، أنه لا يقضي له بشيء. وقال ابن حبيب: وإذا لم يشترطها المُعلم، ولم يشترط أبو الغلام سقوطها عنه، فأراد أن يخرجه قبل فراغه منها، كأن كانت الختمة قد تدانت بالأمر اليسير مثل السُّوَر القليلة تكون بقِيَت عليه، فالحذقة واجبة للمُعلم كلها إذا كان الغلام يحفظ كما وصفتُ لك. وإن كان الذي بقِيَ من الحذقة الشيء الذي له بال [٧٥-ب] مثل السُّدس وأقل من ذلك، أخرجه إذا شاء، ولم يكن عليه من الحذقة شيءٌ لا جميعها، ولا على حسابها. قال أبو الحسن: أما حُكمها للمعلم بجميع الختمة على مَنْ قاربها، فهو يعتدل فيمن حذق، وتمَّ حذقه في المعرفة والنفاذ، واستغنى ممَّا عنده من الخط والهجاء والإجادة والإعراب، حتى صار لا يحتاج فيما بقِيَ عليه إلى المعلم، فهذا إذا خرج عند مقاربة الختمة، فلم يبقَ من استكماله إيَّاها ما على المُعلم فيه عناء، بل تماديه مع المُعلم نفْع للمُعلم. وأما إسقاطهما الجُعل عمَّن لم يبلغ مقاربة الختمة، وقد حذق وفهِم، ولا عنت في تعليمه، فما أعرِفُ له وجهًا، ولا من أين أخذه. إنما ذكر سحنون أن المُغيرة وابن دينار اجتمعا على أن الصبي إذا أخذ عند المعلم من الثلث إلى سورة البقرة، أنَّ الختمة واجبة إذا عرف أن يقرأه كما وصفتُ لك، ولا يُسأل [٧٦-أ] عن غير ذلك ممَّا لم يكن أخَذَه عنده؛ وقول المُغيرة وابن دينار في مُبتدئ انتهى إلى الثلث يُحسن، من قِبَل أن المبتدئ لا يُحقِّق ممَّا علِم النفاذ المرفق في مِقدار بلوغ الثلث، هو يُعَدُّ في تعلُّم الصغير البعيد من الميز، فصار مَنْ عَلَّمَه الثلثَين الباقِيَين، هو الذي لقِيَ التعَب به ولم تضِعْ عنه عناية الأول من العناء ما يرفقه، هذا الغالب في عامة الناس. وإنما العمل في هذه الأشياء على الغالب المُستفيض في وصف الناس. ولم يذكر عن المغيرة وابن دينار في الذي علَّمه الثلث الأول شيئًا. وقد قال: تنازع المُغيرة وابن دينار — وكلاهما من علماء أهل الحجاز — في الصبي يختم القرآن عند المُعلم، فيقول الأب إنه لا يحفظ، فقال المغيرة: إذا كان أخذ القرآن عندَه كله، وقرأه الصبي كله نظرًا في المصحف، وأقام [٧٦-ب] حروفه، وإن أخطأ منه اليسير الذي لا بدَّ منه مثل الحروف ونحوها، فقد وجبت للمُعلم الختمة؛ وهي على المُوسِعِ قدره وعلى المُقتِر قدره، وهو الذي أحفظ من قول مالك. وقال ابن دينار: قد سمعتُ مالكًا يقول: تجب للمُعلم الختمة على قدر يُسر الرجل وعُسره، يجتهد في ذلك ولي النظر للمُسلمين. وأرى أنه إذا تنازع المُعلم والأب في الصبي: أنه لا يَعْلم القرآن، فإذا قرأ منه نظرًا من الموضع الذي لو كان أخذَه عنده مُفردًا وجبَتْ له الختمة قضيتُ له بها، ولا أُبالي ألَّا يقرأ غير ذلك، لأنه لو لم يأخُذه عنده لم يُسأل هذا المُعلم. قال أبو الحسن: فهذا سحنون ذكر ما تنازع فيه المُغيرة وابن دينار فوصف أن المغيرة جعل للمُعلم الختمة إذا لم يبقَ على الصبي إلا الحروف اليسيرة. ولم يَصِفْ عنه فيه إن بقيت عليه حروف كثيرة [٧٧-أ] ما يكون الحُكم فيه. ووصف ما رآه ابن دينار إذا قرأ الصبي، نظرًا من الموضع الذي لو كان أخذه عنده مُفردًا وجبَتْ له الختمة، قضى له بها، ولا يُبالي ألا يقرأ غير ذلك، قال: لأنه لو لم يأخذه عنده لم يُسأل هذا المُعلم. فأين تصريح التنازع بينهما ها هنا؟ إذا كانا وصفا ما يجب به الجُعل للمُعلم، ولم يَصِفَا ما يسقط به جهل المُعلم، ولا وصفَهُ واحد منهما. وقد اتفق المغيرة وابن دينار في هذا الوصف أن مالكًا جعل للمُعلم الختمة على قدر يُسر الأب وعُسره، ولم يصف عنهما سحنون أنهما قالا عن مالك فيمن عَلِم ما دون الختمة شيئًا. وإن كان قول المغيرة في الذي يبقى عليه الحروف اليسيرة يدخل فيما حفظ عن مالك فهو حسن، إنما الطلب أن يُوجَد لمالك إسقاط جُعل المعلم فيما دون الختمة. وقال سحنون أيضًا: قال [٧٧-ب] أصحابنا جميعًا، مالك والمغيرة وغيرهما: تجب للمُعلم الختمة، وإن استؤجِر شهرًا شهرًا، أو على تعليم القرآن بأجرٍ معلوم، ولا يجب له غير ذلك. قال أبو الحسن: وليس يظهر في قولهم ولا يجب له غير ذلك، إلا أنه إنما يجب له جُعله في الختمة، ليس له مع ذلك إلا ما خُورجَ عليه في المُشاهرة، إذا كان المعروف في ذلك الوقت وعليه يقعد المُعلم، إلا مَنْ أكرمه في الأعياد، وما أشبه ذلك من الأرفاق، التي لا يقضي بها، إذ ليست مُعتادة فيعمل عليها، ومن حمل هذه الكلفة على أنهم أرادوا أنه ليس له فيما دون الختمة شيء، فما لقوله هذا بيان. وقال ابن حبيب: الحذقة على الحفظ لازمة لأبيه، إلا أن يكون أبوه اشترط على المُعلم ألا حذقة عليه سوى إخراجه، فيُسقطها الشرط عنه، فأما إذا سكتا [٧٨-أ] عنهما، فهي تجب كما فَسَّرتُ لك، اشترَطَها المُعلم أو لم يشترطها؛ وإنما يختلف الحُكم في اشتراطها أو غير اشتراطها، إذا أراد الرجل أن يُخرِج ولده قبل الحذقة. فإنه إذا اشترطها المُعلم، مثل أن يقول: أُعلِّمه على درهم في كل شهر، أو في كل شهرين، وعلى أن لي في الحذقة كذا وكذا، كان للأب أن يُخرجه إن شاء، وكان عليه من الحذقة على قدر ما قرأ منها، ولو لم يقرأ منها إلا الثلث أو الربع، كان عليه منها بحساب ذلك، لاشتراطه فيها ما سُمِّيَ مع خراجه؛ ولو كان شارَطَه على أن يُحذقه ولو كذا وكذا، لم يكن لأب الغلام أن يُخرِجه حتى يتمَّ حذقته. قال أبو الحسن: أما صبيٌّ هذا وصف ما تعلَّم، فما تعلَّم شيئًا، وقد قدَّمنا أن هذا لا يجب للمُعلم فيما عَلَّمَه جُعْل، وفسَّرنا الواجب عليه قبل هذا عند العلماء. وأما قول ابن حبيب: إنَّ الحُكم بها عنده بمنزلة هدية العرس، قال: ونحن نرى أن يحكم بها، فاعلم أن هدية العرس قد قيل لمالك: فهدية العرس إذا طلبَتْها المرأة وأبى الزوج، قال مالك: لا أرى لها فيه حقًّا، ثم قال: قال الله عز وجل: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً (النساء: ٤) فليس الهدية من الصداق، ولا أرى فيه حقًّا، ولا أرى ما نَحَلها عند اختلائه يلزَمُه. فقيل لمالك: فإن الذي عندنا في هدية العرس، مما يَعمل به جل الناس، حتى إنه ليكون في ذلك الخصومات، أفتَرَى أن يقضي به؟ فقال: إذا كان [٨٢-ب] قد عرف من شأنهم وهو عملهم، لم أرَ أن يطرح ذلك عنه، إلا أن يتقدَّم فيه السلطان؛ لأني أراه أمرًا قد جرَوا عليه. قال ابن القاسم: وقد قال مالك مثل هذا: لا أرى لهم ذلك إلا أن يشترطوه، وهو أحبُّ قَولْيه إليَّ. قال أبو الحسن: فانظر كيف وقع جواب مالك رحمه الله، أولًا في هدية العرس واحتجاجه على ذلك بما في كتاب الله، فلمَّا وصفوا له ما جرى في أكثر الناس قال: إذا كان قد عُرِف ذلك من شأنهم، وهو عملهم، لم أرَ أن يطرح ذلك عنه، إلا أن يتقدَّم فيه السلطان؛ لأني أراه أمرًا قد جرَوا عليه؛ فبيَّن مالك رحمة الله عليه أن ما اشتهر الناس وجرَوا عليه من ذلك، أن الزوج مأخوذ به، لأنه عليه قدم. وهكذا يجب أن يكون العمل في المُعلمين، ما جرى في الناس سُنَّة لهم جائزة، أن آباء الصبيان [٨٣-أ] مأخوذون به لهم، إذا على ذلك جاء الآباء بأبنائهم، وعليه قعد المُعلمون لصبيانهم؛ على أن هدية العرس إنما هي شيء يُقدَّم للمرأة عند الدخول بها، لتدخُل به، فالانتفاع بالمرأة مُستقبل، وانتفاع الصبيان بالمُعلم قد نالوه في القدر الذي علَّمَهم إيَّاه، فبأيِّ وجهٍ يطرح ذلك عن آباء الصبيان، وهم مأخوذون بجميعه، إذا استكملوا الختمة على شرطهم من ظاهر أو نظر؟ إنما استحبَّ ابن القاسم الأخذ في هدية العرس بالأول من قول مالك، من قِبَل أنَّ عقد النكاح قد وجب، واستحلال الفرْج قد ثبت بالصداق المُسمَّى، لا خيار للمرأة بعد في التمادي على ذلك. والمُعلم ما لزِمه ذلك، إذا لم يُشتَرَط عليه. وكذلك آباء الصبيان إذا لم يكن عليهم شرط يَمنعهم من إخراج أبنائهم، لم يلزمهم التمادي، فليس لهم من ذلك مثل ما للزوج [٨٣-ب] والزوج أيضًا لو اختار الفراق قبل البناء، وجب عليه نصف الصداق، وهو ما انتفع منها بشيء، وإن كان لم يفرض لها شيئًا قبل الطلاق، لم يُفْرَض لها بالطلاق شيء، وصار أمرها إلى المُتعة التي لا يُحكَم بها، إذ هي حق على المُحسنين، وعلى المُتقين، فيمن دخل بها، فلأن اسم التكارُم مما لا يُحكَم به. فأما ما يُوجِب الحكم، فالتكارُم فيه لمن يريد، على الواجب عليه، وإنما المُتعة عوض للزوجات من أشياء منه كنَّ يُؤمِّلنها. وأخذ المعلم إنما هو عن شيءٍ عمله، فهو بما شبَّهناه من الجَعالة، ومن مكافأة الهبة للثواب أشبه، وفي بابها أدخل. وقد أجرَوا مسائل منه على معاني البيوع. قال سحنون: وقد سُئلَ بعض علماء أهل الحجاز منهم ابن دينار وغيره، أن يستأجر المُعلم جماعة، وأن يُقرض على كل واحدٍ ما ينوبه [٨٤-أ] فقال: يجوز إذا تراضى بذلك الآباء؛ لأن هذا ضرورة، ولا بدَّ للناس منه، وهو أشبه. وقال: هو بمنزلة ما لو استأجر رجل عبدَين من رجُلَين، لكل واحدٍ عبد، وإنما ذلك بمنزلة البيع، في كتاب ابن سحنون؛ وابن القاسم لا يُجيز هذه الإجارة؛ لأنه لا يُجيز ذلك في البيع، والله أعلم. قال أبو الحسن: نعم قد منع ابن القاسم من جوازه في البيع، وفي الإجارات، إذا لم يكن معلومًا؛ ومنع أيضًا أن يُجمَع في النكاح بعقدٍ واحدٍ وصداقٍ واحد، على امرأتَين أو أكثر، إذا لم يُسَمِّ لكل واحدةٍ صداقها على حِدَته. وما عَقْدُ هذا المعلم على الصبيان الذين آباؤهم شتَّى، إلا من هذا الباب، يجري فيه كله الاختلاف؛ وليس هذا مَوضع التكارُم الذي بنى عليه ابن حبيب، وذكر أنه كاشَفَ عن ذلك أصبغ وغيرَه من أهل العلم والفقه، ونكَّب عن اسم مُطرِّف وابن الماجشون. ولو كان عنده منهما لبدأ بهما وبِمَن عنده عنه [٨٤-ب] من ذلك شيء منهما، أو بعبد الله بن عبد الحكم لو كان عنده منه شيء. وقد تقدَّم ما عنده من رواية مطرف، عن مالك وغيره من علماء أهل المدينة، وهو مُخالف لما بنى عليه حسب ما بيَّنَّا. والله أعلم، وهو ولي المُتقين. وما أرى سحنون قصد لما قاله: فمن لم يُقارِب الختمة، ممَّن لم يشترط، فأخرجه أبوه، أنه لا شيء عليه، إلا أنه كان هو المفهوم عنده من قول المُغيرة وابن دينار الذي قد تقدَّم، والله أعلم. وقد قدَّمت البيان عن ذلك وجواب مَسائلك في هذا المعنى، قد أتى عليه جميع ما وصفنا، واضح لا إشكال فيه عليك ولا على غيرك، إن شاء الله. ومسألتك في الذي عَلَّمه مُعلم بعض القرآن، ثم خرج من عنده إلى مُعلمٍ آخر استكمل عنده الختمة، يجري على ما بيَّنتُ لك: يكون للمُعلم الأول بمقدار ما علَّم نصفًا ونصفًا، أو ثُلثًا وثلثين، أو رُبعًا وثلاثة أرباع، ينظر الحاكم فيما يجب [٨٥-أ] على أبي هذا الصبي في الختمة كلها، على قدر يُسره وعُسره، وما انتهى إليه ولدُه من الفهم فيما تعلَّم. فإذا عرف مُنتهى ذلك الجُعل، غَرِمَه أبو الصبي، واقتسمه المُعلمان، على قدْر عناء كل واحدٍ منهما، وما وصل إلى الصبي من نفع تعليمه، يجتهد في ذلك. وربما جعل للأول جميع ذلك، أو يَنقص منه قليل، فيعطي للثاني، وذلك إذا كان الأول قد بلغ من تعليم الصبي إلى مقاربة الختمة نظرًا أو استظهارًا، حتى بلغ من الحذق في ذلك إلى الاستغناء عن المُعلم، فكان خروجه إلى الثاني لا يزيد علمًا في تعليمه، فأي شيءٍ يكون لهذا؟ إلا أن يكون له شيء في إمساكه وحياطته للصبي، فذلك ليس على الأول منه شيء، وقد يكون له في كتابة ما بقِيَ عليه، وإن كانت سورة البقرة، زيادة قوة غرض ينتفع به، فهذا يجتهد له فيما يعطي من ذلك الجعل؛ وقد يكون الجعل يجب للثاني كله، وقلَّ ما ينال منه الأول، وذلك أن يبتدئ في تعليم الصبي، فقلَّ ما لبِث عنده، حتى أُخرِج عنه ولم [٨٥-ب] ينَلْ من التعلُّم شيئًا له فيه منفعة، لعِوَج قراءته في سُوَرٍ يسيرة تعلَّمها، ولا خطَّ ولا هجاء، فأي شيءٍ يستأهل هذا في التعليم؟ ولو كان قد نال الصبي من فَهْم ما عُلِّم شيئًا، وعرف ما هو، لأخذ المُعلم بمقدار ذلك. فإن كان فيه مرفق للمُعلم الثاني بما نبَّه منه المُعلم الأول، وخروجه فيه، نقص ما يصيب ذلك القدْر من جُعل الختمة، فيأخذ الأول، ويدفع سائر الجُعل إلى الثاني. وإن تبيَّن أن ليس للثاني مرفق على حال بما علمه الأول، لم ينقص من الجُعل شيئًا، وكان ذلك على أبي الصبي؛ لأنه باختياره نزَعَه من عند الأول. وكل هذا مفاد قول مالك الذي ذهب إليه. وأما سحنون فقال: إن علَّمه الأول إلى يونس، فالختمة للثاني. وإن جاوز الأول ذلك إلى ثُلثَين أو زاد على ثلثَين في معنى ما قال، لم يقضِ للثاني بشيء. قال: وأستحسن أن يرضخ له بشيءٍ استحسانًا، وليس بالقياس. وهذا على أصل الذي قدَّمت لك وصفَه، وعرَّفتُك [٨٦-أ] وجه مذهبي فيه. وأما سؤالك عن مُعلِّم قومٍ نزل بهم ما اضطرَّهم إلى الرحيل، فرحلوا: بعضهم إلى مكان وبعضهم إلى مكان آخر، أو رحل بعضهم، وثبت بعضهم في البلدة. ما يصنع هذا المُعلم؟ فالجواب أن ينظُر إلى ما عاقدَهم هذا المُعلم عليه، فإن كان إنما جلس على المُشاهرة شهرًا بشهر، أو سنةً بسنة، فالحُكم فيه أن يترك تعليمهم متى شاء، ويتركوه متى شاءوا، والحُكم بينهم فيما قد علَّم لهم، على ما قد بيَّنَّا قبل هذا، في الذي له أن يُخرِج ولده. ولا يُلتفَت في هذا العقد إلى خروجهم كان بغلبةٍ أو بغير غلبة. إنما للمُعلم بقدْر ما علم، رحلوا عنه، أو رحل عنهم. ولو كان عقد معهم على سنةٍ بعينها، أو أشهُر بأعيانها، نظر فيما نزل بالقوم، فإن كان ما لا يجدون معه ثباتًا، ولا بدَّ لهم من الرحيل عنه، لما نزل بهم من بلاء لا يطيقونه بفتنةٍ أو مجاعة، فهُم في رحيلهم مَعذورون، وليس عليه أن يتبعهم في الأسفار، لم يستأجروا على [٨٦-ب] ذلك. فإن رجعوا في بقيةٍ من المدة، رجع إليهم في تلك البقية، وسقط عنهم من الأجر بحساب الأيام التي حِيل فيها بينه وبينهم؛ لأنهم لم يمنعوه من السَّير معهم، ولا مَسَكوا أولادهم عنه طوعًا، وليس عليهم أن يستكملوا له الأجر، وهو لم يستكمِل عمَل الأجل، ولو كان قد حاسبَهم عند رحيلهم وفاسَخَهم، لم يلزَمه إنْ رجعوا بقيةً من المدة، أن يرجع إليهم؛ وإن كان رحيلهم طوعًا، فليس لهم أن ينقُصوا إجارته. فإن أحبُّوا الرحيل بأولادهم دفعوا إليه أجره كاملًا، وصنعوا ما شاءوا. فإن رحل بعضهم مَقطوعين، وثبت بعضهم، فالحُكم بينه وبين الراحِلين كما تقدَّم في رحيل جميعهم مُتطوِّعين، ويلزمه وفاء الأجل للثابتين، ولو لم يثبُت منهم إلا واحد؛ لأنه يأخذ أجرَه كاملًا، وتخفُّ عنه مئونة من غاب عنه ما دام غائبًا. وأما إن كان رحيل من رحل عن قهرةٍ غلبته على ذلك فذهب بولده، فهو عندي عُذر تنفسِخ به الإجارة بينه وبين الراحِلين، ويُحاسبهم، ثم ينظُر فيمن بقي ممن لم يرحل، فإن كانوا هم الأكثر، ولم ينتقِص عليه ما يضربه، فهو يُوفِّي الثابتين أجلَهم. وإن وجد من يُعلمهم مكان الراحلين كان له ذلك، إذ لا مضرَّة على المُقيمين في ذلك. وأما إن كان الراحلون هم الأكثر ولم يبقَ من المُقيمين إلا من عليه في الثبات معهم المضرَّة البيِّنَة، فهو عندي عُذر له، إن شاء أن يُفاسِخهم فعل، وإن شاء أن يثبت معهم فعل، وله إن وجد عِوضًا من الراحلين فيُعلمهم، ولا يمنع من ذلك أيضًا. وأما إن مات المُعلم فالإجارة مُنفسخة، لا يستأجر من ماله مَنْ يُعلِّم مكانه، وله من الإجارة بحساب ما علَّم من الأجل، ومَنْ جعل الختمة بمقدار ما علَّم من القرآن حسب ما تقدَّم [٨٧-ب] تفسيره؛ وكذلك إذا مات الصبي سواء، إنما للمُعلم من الإجارة بحساب ما علَّم، وكذلك من جُعل الختمة. وأما إذا مات أبو الصبي فلا تنفسِخ الإجارة، ولكن إن كان لم يقبض المُعلم شيئًا فهو يأخُذ من تِركة الميت حساب ما مضى، وما بقي من الأجل فيما ينوبه، يؤخَذ من مال الصبي إن كان له مال ورِثَه من أبيه، أو من غير ذلك، وإن كان لم يكن للصبي مال، فللمُعلم أن يفسخ الإجارة، إلا أن يشاء أن يتطوَّع للصبي بذلك، ولا يتبعه بشيء رجاء أن يتيسَّر. هذا لا يُلْزِمُ الصبي، وإن أبى المُعلم من التطوُّع، فتطوَّع غيره من أولياء الصبي، أو من غيرهم، بأن يدفع ذلك للمُعلم، ثبتت الإجارة ولم تُفسَخ، والله ولي التوفيق. وأما سؤالك عن صبيٍّ أدخلَه أبوه الكُتَّاب بغير شرط، هل يلزَمه ما يلزم صبيان الكُتَّاب؟ وربما [٨٨-أ] كان الشرط يختلف؛ وعن يتيمٍ رمى نفسه في الكُتَّاب، فهل يُؤخَذ منه مثل ما يُؤخَذ من غيره؟ قال أبو الحسن: إن كان لليتيم مال لزِمه في ماله مثل ما يُؤدي مَنْ هو مثله، وكذلك الأب يُؤدي عن ابنه مثل ما يُؤدي مِثله، وذلك هو إجارة المِثل، اختلف الشرط أو لم يختلف. إنما يحتاج إلى ذِكر اختلاف الشرط عن إسلام الصبي للكُتَّاب، فيُقال له: نؤدي إليك كما تأخذ من غيرنا في الشهر. فهنالك ينبغي ألا يعقد على هذا الإجارة، حتى يُبين كيف أخذه من الصبيان على اختلافه. وأما إن كان ليس لليتيم مال، فعلَّمه المُعلم، فليس له عليه أجر، هو متطوع في ذلك، ليس له أن يتبعه به. وأما إن أتت بالصبي أمه إلى المُعلم أو غيرها من الناس، فسأله تعليمه، فهو المطلوب [٨٨-ب] بإجارة التعليم إن كان ليس لليتيم مال، إلا أن يُبين الذي جاء به المُعلم أنه ليس له مال، ولا له مَنْ يُؤدي عنه، فحينئذٍ ليس للمُعلم أن يطلُب منهم إجارة. وأما قولك في المُعلم: كيف يُشارطهم؟ فقد تقدَّم في نصوص المسائل شرح ذلك عن مالك وعن غيره؛ وشرطكم الذي ذكرت أنه يقع على الغنم، فإذا كانت الغنم مؤجَّرة لم يجُز إلا أن تكون مضمونة، على صفةٍ معلومة، إلى أجل معلوم، يجوز في مِثله السَّلم، مثل ما إذا أوجر نفسه بها في خدمة، وشرع في العمل؛ وكذلك المُعلم إذا شرع في التعليم، أو كانت إجارته أجلًا معلومًا، فإذا حلَّ أجل الغنم، جاز أن يقبض من المَعز ضأنًا، ومن الضأن معزًا، وأما إذا لم يحل الأجل، لم يصلُح أن يأخذ غير شرطه، كما لا يصلح في البيوع. وكذلك لو استأجر [٨٩-أ] نفسه بطعامٍ مضمون، أو بطعامٍ بعَينه على الكيل، لم يجُز له أن يبيع شيئًا من ذلك حتى يستوفيه. وأما سؤالك عمَّا وجب في ذلك من الدِّية على العاقلة كيف الأمر فيها، وليس بجاريةٍ عندنا، ولم تُبيِّن لِمَ لَمْ تكن جارية عندكم، فإن كنت ترى أنه ليس لكم عواقل مضبوطة، ولا تقدرون أن تُحيطوا بذلك، ولا تعرفوه، فإن القول فيمَن لا عاقلة له، أنَّ جنايته في بيت مال المُسلمين، وعلى الجاني في قتل الخطأ عتق رقبة. وإن كنت تريد أن الحُكم بها ضُيِّع عندكم، وأما العواقل فمعروفة، فاعلم أن المُعاقلة إنما كان أصلُها في العرب [٩١-ب] لحملِها فخُذ الجاني إن أطاقوا ذلك، وإن لم يُطيقوه ضُم إليهم أقرب الأفخاذ إليهم، ثم الأقرب إليه، فإن فرغَت القبيلة، ولم تُطِق حمل الدِّية فتضم إلى القبيلة أقرب القبائل منها. وكذلك جرى في الإسلام أمرهم. وإنما تَضُم إلى هذه العاقلة مَنْ يحمل معها ممَّن وصفْنا، مَنْ كان إقليمه الإقليم الذي فيه الجاني لأنَّ ديوانهم واحد، ليس بضم المصري إلى الشامي، ولا إلى الإفريقي. فإن ضبطتُم عواقلكم، وصحَّت عندكم، وثبتت لدَيكم، فهكذا يكون انضمام الأفخاذ والقبائل في حمْل العاقل، ليس بضم إلى فخذ الجاني ولا إلى قبيلته من هو في جواره، إذا كان نسبُه غير نسبه. وكذلك لا يضمُّ إليه مَنْ كان من نسبه إذا كان إقليمه من غير إقليمه. فافهم ما وصفتُ لك، واستعِنْ بالله. وسألتَ هل يؤدِّب الرجل امرأته؟ فاعلم: أنَّ أدبه إيَّاها [٩٣-أ] مأخوذ من كتاب الله. وذلك قوله عز وجل وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (النساء: ٣٤). فكذلك كل شيء يجب عليها أن تُطيعه فيه، إذا كان هو مُؤديًا إليها حقوقها، وسالمًا من ظلمها، فله أن يؤدِّبها عليه. وأدَبُه إيَّاها يكون بقدْر استئهالها. وكذلك قال فيه العلماء. فإن ضربها على وجه التأديب لها ففقأ عينها، أو أعنَتَها، إن ذلك من الخطأ، تحمِل العاقلة ما بلغ الثلث منه فصاعدًا، وإن أنكرَتْه ما ادَّعاه قبلها من خلافه، فهذا لا ينتهي منها إلى ما يُوجب من ضربها وإلا ولا بدَّ أن يُسمَع في الأهلين والجيران؛ لأن أدبه إيَّاها ليس يقع في أول مرة، فإن ادَّعى عليها ما لم يُسمَع منها، وما لم يُعرَف به عند أحد من الأهلِين ولا الجيران [٩٣-ب] وظاهرها الصحة والسلامة، لم يُقبَل قوله عليها. وينبغي له إذا كانت هذه صفتها، أن يُطْلِع — على ما يَنسِبه إليها — مَنْ يُوثَق به من الأهل والجيران، قبل أن يظهر عليه بسط يدِه إليها. فإن لم يُمكنه أن يُظهِر عليها ما ينسِبه إليها، فقد ابتلى، فإن شاء تماسك بها على ما يرى، ويؤدبها إن حَقَّ له أدب مأمورًا عليها، ولا يتجاوز فيه أدبه لها، كأدب المُعلم لصبيانه، سالمًا من العطب والحميَّة، لأنه إنما يؤدِّبها لمُصلِحها له ولنفسها. وسألتَ عن الوالد يشكو ولده الكبير، ويذكر عنه أنه يعقُّه، ويعقُّ أمه، فاعلم — رحمك الله — أن الولد إذا احتلم، وملك أمره، فقد ارتفع عنه نظر والده، وبقِيَ على الولد حق الوالدَين، فعليه أن يُوفِّيهما أو مَنْ كان معه منهما ما ألزمه الله عز وجل منهما. فإنه عزَّ وجل يقول: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [٩٤-ب] إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (الإسراء: ٢٣-٢٤). فإذا رأيتَ والدًا يشكو ولده، فاقرأ على ولده القرآن وفَهِّمْه ما عليه لوالده، في لينٍ ورفق، لعلَّه يتذكَّر أو يخشى، وحذره عقوق والديه، فإن الرسول عليه السلام عدَّ عقوق الوالدين مع الكبائر التي تُدخِل النار. فأما أن يُؤخَذ بقول والده، أو يُحكَم بذلك عليه، فلا. ولكن إن كان والده من أهل الصلاح، ويؤمَن منه أن يكون فيه انحراف لولد غيره، أو إلى زوجةٍ له غير أُمِّه، فيعرف الولد أن أباه لا يُتَّهَم عندنا بالكذب، ولا سبيل إلى سُوء الظن به فيك. وهو إن لم تجرِ عليك الأحكام [٩٥-أ] بقوله، فإن قوله فيك السوء يُزري بك، ويَمقُتك، ويُنَفِّر عنك القلوب، وترى بعين الجهالة والسَّفَه. فإن كان هذا الولد من أهل المروءة والقناعة، فيُستَنْهى ويتأبَّخ ويستشعر الصبر على والديه. وإن كان من أهل السَّفه والجهالة والمُرادَّة، نظر فيه حاكم المسلمين العدل بحُسن النظر، وزجَرَه عما لم تقُم به عليه بيِّنة، إلا شكوى الأب، بعض الزجر. ورُبَّ والدٍ يكون السَّفَه صفته وله الولد الحليم، فيعتو عليه والده بسَفَهِه، فلا يُقبل منه، ولا يُطاع فيه، ويُزجَر عنه حتى يَكُفَّ أذاه. ولك في هذا الوصف مُقنِع ممَّا سألتَ عنه إن شاء الله. وسألت عن تفسير: أُنزِل القرآن على سبعة أحرف. فاعلَم أن المُراد منه مفهوم في نصِّه، كما جاء عن عمر بن الخطاب [٩٥-ب] رضي الله عنه، قال سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها عليه، وكان رسول الله ﷺ أقرأنيها، فكدتُ أن أُعجِّل عليه، ثم أمهلتُه حتى انصرف، ثم لببتُهُ بردائه، فجئتُ به رسول الله ﷺ. فقلت: يا رسول الله إني سمعتُ هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتَنيها. فقال له رسول الله ﷺ: اقرأ. فقرأ القراءة التي سمِعتُه يقرأ. فقال ﷺ هكذا أُنزِلت، ثم قال لي: اقرأ، فقرأت. فقال: هكذا أُنزِلت، إن هذا القرآن أُنزِل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسَّر منه. فبيَّنَ ﷺ بقوله، فاقرءوا ما تيسَّر منه أنها [٩٦-أ] سبع قراءات، في كل واحدةٍ منها ألفاظ مُخالفة لما في الأخرى، فليقرأ كل امرئٍ بما تيسَّر منه من هذه السبعة. وقد تختلف الألفاظ في القراءة في كلمةٍ والمعنى فيها واحد. وقد تختلف المعاني فيها باختلاف الألفاظ في قراءتها. والقراءتان المشهورتان الثابتتان عن من نُسِبتا إليه، ممن وجبت إمامته، وصحَّت ثقته، بمنزلة الآيتَين عند حُذَّاق المُقرئين، تُفسِّر إحداهما الأخرى، أو يُخالف معناها فتكون إحداهما ناسخةً للأخرى؛ فلينشرح صدرك إلى ما قرأ به أئمة المُسلمين المَشهورون، الذين سَلَّم لهم أهل الأمصار الجامعة ما تقلَّدوه، ووثقوا بهم فيما رَوَوه، فما منهم إلا مَن قراءته حسنة [٦٩-ب] مُسَلَّم بها ويُحتَج بها، ونكِّبْ عن غيرهم، فإنه ليس لما جاء به قوة كقوتهم. وهؤلاء الأئمة هم: نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، إمام القرَّاء بالمدينة؛ وعبد الله بن كثير إمام القرَّاء بمكة؛ وعبد الله بن عامر إمام القرَّاء بالشام؛ وأبو عمرو بن العلاء إمام القراء بالبصرة. وثلاثة منهم بالكوفة، وهم عاصم بن أبي النجود، وحمزة بن حبيب الزيات، وعلي بن حمزة الكسائي؛ وليس هو حمزة المُقرئ. فقد عرَّفتُك بأسمائهم وبلدانهم لئلَّا يشتكل عليهم غيرهم بهم، ومع هذا فأنت بطرفٍ بعيد فلا تقبلنَّ غير ما تعرِف إلا من المأمونين. وقد قال مالك رحمه الله: قراءة نافع حسَنةٌ ولم يضيق غيرها [٩٧-أ] ولا كره خلافها، إلا ما شذ، وخرج على المُتواطأ عليه. وقد قدَّمتُ لك ما في كتاب سحنون من استحسان قراءة نافع، والتوسِعة في غيرها، ما لم يكن مُستبشعًا. فافهم. واستمسِك بهدي المُتقين. عصَمَنا الله وإياك من الفتنة في الدين، وأعاذنا من شرِّ الفاتنين والمَفتونين، وختم لنا بما يُرضيه عنَّا، ليُميتنا عليه، فيدخلنا برحمته في عباده الصالحين آمين رب العالمين، وهو حسبنا ونعم الوكيل. تم الكتاب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله، بتاريخ ثامن عشر ذي القعدة سنة ستٍّ وسبعمائة. تم الجزء الأول والثاني والثالث من المُفصلة لأحوال المُعلمين وأحكام المُعلمين والمُتعلمين، [لأبي الحسن القابسي] رحمه الله، ودعا لصاحبه بالمغفرة ولجميع المسلمين. ذكر لنا بعض أصحابنا أنه سُئل الفقيه أبو عمران الفاسي رحمه الله عن حذقات القرآن. فأجاب في ذلك بأن قال: لولا أنه أمْرٌ لم يسبقني إليه أحد لجعلتُ في آخر كل سورة حذقة. قال أبو عبد الله محمد بن سحنون: حدثني أبي سحنون، عن عبد الله بن وهب، عن سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: أفضلكم من تعلم القرآن وعلَّمه. محمد عن أبي طاهر، عن يحيى بن حسان، عن عبد الواحد بن زيادة، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ خيركم مَنْ تعلم القرآن وعلَّمه. محمد عن يعقوب بن كاسب عن يوسف بن أبي سلمة، عن أبيه، عن عبد الرحمن ابن هرمز، عن عبد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: يرفع الله بالقرآن أقوامًا. عن سحنون، عن عبد الله بن عبد الله بن نافع قال: حدثني حسين، عن عبد الله بن حمزة عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: عليكم بالقرآن فإنه ينفي النفاق كما تنفي النار خبث الحديد. موسى عن عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الرحمن بن نوفل، عن أبيه، عن أنس بن مالك، قال رسول الله ﷺ: إن لله أهلين من الناس. قيل: مَنْ هم يا رسول الله؟ قال: هم حملَة القرآن، هم أهل الله وخاصته. عن مالك، عن ابن شهاب، عن عُروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عبد القارئ، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله ﷺ: أُنزل القرآن على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسَّر منه. قال حدَّثَني موسى بن معاوية الصمادحي، عن سفيان، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن حذيفة، قال: قال رسول الله ﷺ: من قرأ القرآن بإعرابٍ فله أجر شهيد. وحدَّثني عن الزهري أحمد بن أبي بكر، عن محمد بن طلحة، عن سعيد بن سعيد المغربي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: مَنْ تعلم القرآن في شبيبته اختلط القرآن بلحمه ودمِه، ومَنْ تعلم في كِبَره وهو يتفلَّت منه ولا يتركه، فله أجره مرَّتَين. وحدَّثني أبو موسى، عن ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن أسد ابن وداعة، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه في قول الله تبارك وتعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا (فاطر: ٣٢) قال: كل مَنْ تعلم القرآن وعلَّمه فهو مِمَّن اصطفاه الله من بني آدم. وحدَّثونا عن سفيان الثوري، عن العلاء بن السائب قال: قال ابن مسعود: ثلاثٌ لا بدَّ للناس منهم، لا بدَّ للناس من أمير يحكم بينهم ولولا ذلك لأكل بعضهم بعضًا؛ ولا بدَّ للناس من شراء المصاحف وبيعها ولولا ذلك لقلَّ كتاب الله؛ ولا بدَّ للناس من مُعلم يُعلم أولادهم ويأخذ على ذلك أجرًا ولولا ذلك لكان الناس أُمِّيين. ابن وهب عن عمر بن قيس، عن عطاء: أنه كان يُعلِّم الكتاب على عهد معاوية ويشترط. ابن وهب عن ابن جريج قال: قلت لعطاء أآخذ الأجر على تعليم الكتاب؟ قال: أعلمتَ أن أحدًا كرَّهه؟ قال: لا. ابن وهب عن حفص بن ميسرة، عن يونس، عن ابن شهاب: أن سعدًا بن أبي وقاص قدِم برجل من العراق يُعلِّم أبناءهم الكتاب بالمدينة ويعطونه الأجر. قال ابن وهب، وقال مالك: لا بأس بما يأخذ المعلم على تعليم القرآن، وإن اشترط شيئًا كان حلالًا جائزًا؛ ولا بأس بالاشتراط في ذلك وحق الختمة له واجب، اشترطها أو لم يشترطها، وعلى ذلك أهل العلم ببلدِنا في المُعلمين. حدَّثني محمد بن عبد الكريم البرقي، قال: حدَّثنا أحمد بن إبراهيم العمري، قال: حدثنا آدم بن بهرام بن إياس، عن الربيع، عن صُبيح، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: أيما مؤدِّب ولَي ثلاثة صبية من هذه الأمَّة فلم يُعلمهم بالسوية، فقيرهم مع غنيهم، وغنيهم مع فقيرهم، حُشِرَ يوم القيامة مع الخائنين. عن موسى، عن فضيل بن عياض، عن ليث، عن الحسن قال: إذا قوطع المُعلم على الأجرة فلم يعدِل بينهم — يعني الصبيان — كُتب من الظَّلَمَة. حدثني محمد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود، عن زيد بن ربيع، عن بشر بن حكيم، عن سعيد بن هارون، عن أنس بن مالك قال: إذا محت صِبية الكُتَّاب تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الواقعة: ٨٠) من ألواحهم بأرجُلهم، نبذ المُعلم إسلامه خلف ظهره، ثم لم يبالِ حين يلقى الله على ما يَلقاه عليه. قيل لأنَس: كيف كان المؤدبون على عهد الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم؟ قال أنس: كان المؤدِّب له إجَّانة، وكل صبي يأتي كل يوم بنَوبته ماءً طاهرًا فيصبُّونه فيها، فيمحون به ألواحهم؛ قال أنس: ثم يحفرون حفرةً في الأرض، فيصبُّون ذلك الماء فيها فينشف. قلت: أفتَرَى أن يُلعَط؟ قال: لا بأس به، ولا يُمسَح بالرِّجْل، ويُمسح بالمنديل وما أشبهه. قلت: فما ترى فيما يكتب الصبيان في الكُتَّاب من المسائل؟ قال: أمَّا ما كان من ذِكر الله فلا يمحُه برِجْله، ولا بأس أن يُمحى غير ذلك مما ليس من القرآن. وحدثنا عن موسى عن جويبر بن منصور قال: كان إبراهيم النخعي يقول: من المروءة أن يُرى في ثوب الرجل وشفته مداد؛ قال: وفي هذا دليل أنه لا بأس أن يلعَطه، يعني يلعقه. قال: وحدثنا عن عبد الرحمن: عن عبيد بن إسحاق، عن يوسف بن محمد، قال: كنت جالسًا عند سعد الخفَّاف فجاءه ابنه يبكي فقال: يا بني ما يُبكيك؟ قال: ضربني المُعلم. قال: أما والله لأُحدِّثنكم اليوم: حدَّثني عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: شرار أُمتي مُعلِّمو صبيانهم، أقلهم رحمةً لليتيم وأغلظهم على المسكين. قال محمد: وإنما ذلك لأنه يضربهم إذا غضب، وليس على مَنافعهم؛ ولا بأس أن يضربهم على منافعهم، ولا يُجاوز بالأدب ثلاثًا، إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك إذا آذى أحدًا. ويؤدبهم على اللعِب والبطالة ولا يجاوز بالأدب عشرًا، وأما على قراءة القرآن فلا يجاوز أدبه ثلاثًا. قلت: لِمَ وقَّت عشرًا في أكثر الأدب في غير القرآن، وفي القرآن ثلاثة؟ فقال: لأن عشرة غاية الأدب؛ وكذلك سمعتُ مالكًا يقول: وقد قال رسول الله ﷺ: لا يضرب أحدُكم أكثر من عشرة أسواط إلا في حدٍّ. قال محمد: وحدَّثنا يعقوب بن حميد، عن وكيع، عن هشام بن أبي عبد الله بن أبي بكر عن النبي ﷺ قال: لا يحل لرجلٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يضرِب فوق عشرة أسواط إلا في حدٍّ. حدَّثنا رباح، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: بلغني أن رسول الله ﷺ قال: أدَبُ الصبي ثلاثَ دِرَر، فما زاد عليه قُوصِصَ به يوم القيامة؛ وأدب المُسلم في غير الحد عشرة إلى خمس عشرة فما زاد عنه إلى العشرين يُضرب به يوم القيامة. قال محمد: وكذلك أرى ألا يضرب أحدٌ عبدَه أكثر من عشرة، فما زاد على ذلك قُوصِص به يوم القيامة إلا في حَدٍّ، إلا إذا تكاثرَتْ عليه الذنوب، فلا بأس أن تضربه أكثر من عشرة، وذلك إذا كان لم يَعِفَّ عما تقدَّم؛ وقد أذن النبي ﷺ في أدب النساء. ورُوي أن ابن عمر رضي الله عنهما ضرب امرأته. وقال النبي ﷺ: يؤدِّب الرجل ولدَه خير له من أن يتصدق. وقد قال بعض أهل العلم: إن الأدب على قدر الذنب، وربما جاوز الأدب الحد، منهم سعيد بن المُسيب وغيره. وسألته متى تجب الختمة فقال: إذا قاربها وجاوز الثلثَين؛ فسألته عن ختمة النصف، فقال: لا أرى ذلك يلزم. قال سحنون: ولا يلزم ختمة غير القرآن كله لا نصف ولا ثلث ولا ربع، إلا أن يتطوَّعوا بذلك. قال محمد: وحضرتُ لسحنون قضى بالختمة على رجل؛ وإنما ذلك على قدر يُسر الرجل وعُسره. وقيل له: أترى للمُعلم سَعة في إذنه للصبيان اليوم ونحوه؟ قال: ما زال ذلك من عمل الناس مثل اليوم وبعضه، ولا يجوز له أن يأذن لهم أكثر من ذلك إلا بإذن آبائهم كلهم؛ لأنه أجير لهم. قلت: وما أهدى الصبي للمُعلم أو أعطاه شيئًا فيأذن له في ذلك؟ فقال: لا، إنما الإذن في الختم اليوم ونحوه، وفي الأعياد، وأما في غير ذلك فلا يجوز له إلا بإذن الآباء، قال: ومن هنا سقطت شهادة أكثر المُعلمين؛ لأنهم غير مُؤدِّين لما يجب عليهم، إلا مَنْ عصم الله. قال لي: هذا إذا كان المُعلم يُعلِّم بأجرٍ معلوم كل شهر أو كل سنة، وأما إن كان على غير شرطٍ فما أُعطِيَ قَبِلَ، وما لم يُعْطَ لم يسأل شيئًا، فله أن يفعل ما شاء، إذا كان أولياء الصبيان يعلمون تضييعه فإن شاءوا أعطَوه على ذلك، وإن شاءوا لم يُعطوه. قلت: فعطية العيد يقضي بها؟ قال: لا، ولا أعرف ما هي إلا أن يتطوَّعوا بها. قال: ولا يحلُّ للمُعلم أن يُكلِّف الصبيان فوق أُجرته شيئًا من هدية وغير ذلك، ولا يسألهم في ذلك، فإن أهدَوا إليه على ذلك، فهو حرام، إلا أن يُهدوا إليه من غير مسألة، إلا أن تكون المسألة منه على وجه المعروف، فإن لم يفعلوا فلا يضربهم في ذلك، وأما إن كان يُهدِّدهم في ذلك، فلا يحلُّ له ذلك؛ أو يُخليهم إذا أهدَوا له، فلا يحلُّ له ذلك؛ لأن التخلية داعية إلى الهدية، وهو مكروه. قلت له: فكم ترى أن يأذن لهم في الأعياد؟ قال: الفطر يومًا واحدًا ولا بأس أن يأذن لهم ثلاثة أيام، والأضحى ثلاثة أيام، ولا بأس أن يأذن لهم خمسة أيام. قلت: أفيُرسِل الصبيان بعضهم في طلب بعض؟ قال: لا أرى ذلك يجوز له إلا أن يأذن له آباؤهم أو أولياء الصبيان في ذلك، أو تكون المواضع قريبةً لا يشتغل الصبي في ذلك. وليتعاهد الصبيان هو بنفسه في وقت انقلاب الصبيان ويُخبر أولياءهم أنهم لم يجيئوا. قال: وأُحِب للمُعلم ألا يولي أحدًا من الصبيان الضرب، ولا يجعل لهم عريفًا منهم إلا أن يكون الصبي الذي قد ختم وعرَف القرآن، وهو مُستغنٍ عن التعليم، فلا بأس بذلك، وأن يُعينه فإن ذلك منفعة للصبي في تخريجه، أو يأذن والده في ذلك، ولْيَلِ هو ذلك بنفسه، أو يستأجر مَنْ يُعينه، إذا كان في مثل كفايته. ولا يحلُّ للمُعلم أن يشتغل عن الصبيان، إلا أن يكون في وقتٍ لا يعرضهم فيه، فلا بأس أن يتحدَّث وهو في ذلك ينظُر إليهم ويتفقَّدهم. قال وليلزم المُعلم الاجتهاد وليتفرَّغ لهم، ولا يجوز له الصلاة على الجنائز، إلا فيما لا بدَّ له منه ممَّن يلزمه النظر في أمره؛ لأنه أجير لا يدع عمله ولا يتبع الجنائز ولا عيادة المرضى. قلت: فهل ترى للمُعلم أن يكتب لنفسه كتب الفقه أو لغيره؟ قال: أما في وقت فراغه من الصبيان فلا بأس أن يكتب لنفسه وللناس، مثل أن يأذن لهم في الانقلاب، وأما ما داموا حوله فلا، ولا يجوز له ذلك؛ وكيف يجوز له أن يخرج مما يلزمه النظَر فيه لما لا يلزمه؟ ألا ترى أنه لا يَجوز له أن يُوكِل تعليم بعضهم إلى بعض، فكيف يشتغل بغيرهم؟ قلت: فيأذن للصبي أن يكتُب إلى أحد كتابًا؟ قال: لا بأس به، وهذا مما يُخرِّج الصبي إذا كتب الرسائل. وينبغي أن يعلمهم الحسابَ، وليس ذلك بلازِمٍ له إلا أن يُشترط ذلك عليه، وكذلك الشِّعر، والغريب، والعربية، والخط وجميع النحو؛ وهو في ذلك مُتطوِّع. وينبغي له أن يُعلمهم إعراب القرآن وذلك لازم له، والشكل، والهجاء والخط الحسَن، والقراءة الحسنة، والتوقيف، والترتيل، يلزمه ذلك. ولا بأس أن يُعلِّمهم الشِّعر مما لا يكون فيه فحش من كلام العرب وأخبارها، وليس ذلك بواجبٍ عليه. ويلزمه أن يُعلمهم ما عَلِمَ من القراءة الحسنة وهو مقرأ نافع، ولا بأس إنْ أقرأهم لغيره إذا لم يكن مُستبشعًا مثل «يَبْشُرُك» و«وُلْدُهُ» و«حِزْمٌ على قريَةٍ» ولكن يُقرِئها «يُبَشِّرُك» و«وَلدُه» و«حَرامٌ على قَرْيَةٍ» وما أشبه هذا، وكل ما قرأ به أصحاب رسول الله ﷺ. وعلى المُعلم أن يكسب الدِّرَّة والفلقة، وليس ذلك على الصبيان. وعليه كراء الحانوت وليس ذلك على الصبيان. وعليه أن يتفقدهم بالتعليم والعرض ويجعل لعرض القرآن وقتًا معلومًا مثل يوم الخميس وعشية الأربعاء، ويأذن لهم في يوم الجمعة، وذلك سُنة المُعلمين منذ كانوا لم يُعَب ذلك عليهم. وليعلمهم الأدب فإنه من الواجب لله عليه النصيحة وحفظهم ورعايتهم. وليجعل الكُتَّاب من الضحى إلى وقت الانقلاب. ولا بأس أن يجعلهم يُملي بعضهم على بعض؛ لأن ذلك منفعة لهم، وليتفقَّد إملاءهم. ولا يجوز أن ينقلهم من سورةٍ إلى سورة، حتى يحفظوها بإعرابها وكتابتها، إلا أن يُسهِّل له الآباء. فإن لم يكن لهم آباء وكان لهم أولياء أو وصيٌّ، فإن كان دفع أجر المُعلم من غير مال الصبي إنما هو من عنده، فله أن يُسهل للمُعلم كما للأب، وإن كان من مال الصبي يُعطي الأجرة، لم يجُز أن يُسهِّل للمُعلم أن يُخرجه من السورة حتى يحفظها كما علمت، وكذلك إن كان الأب يُعطي من مال الصبي؛ قال وأرى ما يلزم الصبي من مؤنة المُعلم في ماله إن كان له مال بمنزلة كسوته ونفقته. قلت: فالصبيُّ يدخل عند المُعلم وقد قارب الختمة هل له أن يقضي له بالختمة وقد ترك الأول أن يُطالبه؟ فقال: إن كان أخذ عنه من المَوضع الذي لا يلزمه الختمة للأول أو لو قام مثل أكثر من الثلث من «يونس» و«هود» ونحو ذلك فالختمة لازمة له؛ لأن الأول حينئذٍ لو قام لم يُقضَ له بشيءٍ، وأما إن كان دخوله عنده في وقت لو قام عليه الأول لزِمَتْه الختمة لم يُقضَ للداخل عنده بشيء؛ لأن الأول كأنه إنما تركها لأبيه أو للصبي إلا أن يتطوَّع لهذا بشيء، وأستحسن إن تطوَّع لهذا بشيءٍ استحسانًا، وليس بقياس. قلت: أرأيت لو أن والده أخرجه وقال: لا يختم عندك وقد قارب الختمة، وإنما كانت الأُجرة على شهر؟ فقال: أقضي عليه بالختمة ثم لا أبالي أأخرَجَه أم تركه. قلت: فما يقول إن قال: ابني لا يعلم القرآن، هل تجِب عليه الختمة؟ فقال: إن قرأ الصبي القرآن في المصحف وعرف حروفه وأقام إعرابه، وجبتْ للمُعلم الختمة، وإن لم يقرأه ظاهرًا، لأنه قلَّ صبيٌّ يستظهر القرآن أول مرة. قلت: فإن كان أخطأ في قراءة المصحف؟ فقال: إن كان الشيء اليسير، والغالب عليه المعرفة، فلا بأس. قال سحنون: ولا يجوز للمُعلم أن يرسِل الصبيان في حوائجه، وينبغي للمُعلم أن يأمرهم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين، ويضربهم عليها إذا كانوا بني عشر. وكذلك قال مالك: حدَّثنا عنه عبد الرحمن قال: قال مالك: يُضربون عليها بنو عشر ويُفرَّق بينهم في المضاجع؛ قلت: الذكور والإناث؟ قال: نعم. قال سحنون: ويلزَمه أن يُعلمهم الوضوء والصلاة؛ لأن ذلك دينهم، وعدد ركوعها وسجودها والقراءة فيها والتكبير وكيف الجلوس والإحرام والسلام، وما يلزمهم في الصلاة والتشهُّد والقنوت في الصبح، فإن من سُنَّة الصلاة ومن واجب حقِّها الذي لم يزل رسول الله ﷺ عليها، حتى قبضه الله تعالى صلوات الله عليه ورحمته وبركاته. ثم الأئمة بعدَه على ذلك لم يُعْلَمُ أحد منهم ترك القنوت في الفجر رغبةً عنه، وهم الراشدون والمَهديُّون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، كلهم على ذلك، ومَنْ تبعهم رضي الله عنهم أجمعين. وليتعاهدهم بتعليم الدعاء ليرغبوا إلى الله، ويُعِّرفهم عظمته، وجلاله، ليَكبُروا على ذلك. وإذا أجدب الناس واستسقى بهم الإمام، فأحب للمُعلم أن يخرج بهم مَنْ يعرف الصلاة منهم، وليبتهِلوا إلى الله بالدعاء، ويرغبوا إليه، فإنه بلغَني أنَّ قوم يونس صلى الله على نبينا وعليه، لمَّا عاينوا العذاب خرجوا بصبيانهم فتضرَّعوا إلى الله بهم. وينبغي أن يُعلِّمهم سُنَن الصلاة مثل ركعتي الفجر والوتر وصلاة العيدَين والاستسقاء والخسوف، حتى يُعلمهم دينهم الذي تعبد الله به، وسُنة نبيهم ﷺ. قال: ولا يجوز للمُعلم أن يُعلم أولاد النصارى القرآن ولا الكتاب. قال: وقال مالك: ولا بأس أن يكتُب المُعلم الكتاب على غير وضوء؛ ولا بأس على الصبي إذا لم يبلُغ الحُلم، أن يقرأ في اللوح على غير وضوء، إذا كان يتعلَّم، وكذلك المُعلم. ولا يمَسُّ الصبي المصحف إلا على وضوء، وليأمُرهم بذلك حتى يتعلَّموه. قال: وليتعلَّموا الصلاة على الجنائز والدعاء عليها فإنه من دينهم، وليجعلهم بالسواء في التعليم، الشريف والوضيع، وإلا كان خائنًا. وسُئل مالك عن تعليم الصبيان في المسجد. قال: لا أرى ذلك يجوز؛ لأنهم لا يتحفَّظون من النجاسة ولم يُنصَب المسجد للتعليم. قال مالك: ولا أرى أن يُنام في المسجد ولا يُؤكَل فيه إلا من ضرورة، ولا يجد بدًّا منه مثل: الغريب والمسافر والمحتاج الذي لا يجد موضعًا. قال محمد: وحدَّثني سحنون، عن عبد الله بن نافع، قال سمعتُ مالكًا يقول: لا أرى لأحدٍ أن يقرأ القرآن وهو مارٌّ على الطريق، إلا أن يكون مُتعلمًا. ولا أرى أن يقرأ في الحمَّام. قال مالك: وإذا مرَّ المُعلم بسجدة وهو يقرؤها عليه الصبي، فليس عليه أن يسجد؛ لأن الصبي ليس بإمام، إلا أن يكون بالغًا، فلا بأس أن يسجدها، فإن تركها فلا شيء عليه لأنها ليست بواجبة. وكذلك إذا قرأها هو، فإن شاء سجد، وإن شاء ترك: ألا ترى أن عُمرًا قرأها مرةً على المنبر، فنزل فسجد، ثم قرأها مرة أخرى، فلم يسجد وقال: إنها لم تُكْتَب علينا. قال مالك: وكذلك المرأة إذا قرأت السجدة على الرجل، لم يسجد الرجل معها؛ لأنها ليست بإمام. وقال رسول الله ﷺ للذي قرأ عليه: كنتَ إمامًا، فلو سجدتَ سجدتُ معك. قال سحنون: وأكره للمُعلم أن يُعلِّم الجواري ويخلطهن مع الغلمان؛ لأن ذلك فساد لهم. وسُئل سحنون عن المُعلم: أيأخذ الصبيان بقول بعضهم على بعض في الأذى؟ فقال: ما أرى هذا من ناحية الحُكم، وإنما على المؤدِّب أن يؤدبِّهم إذا آذى بعضهم بعضًا، وذلك عندي إذا استفاض عِلم الأذى من الجماعة منهم، أو كان الاعتراف، إلا أن يكون صبيانًا قد عرفهم بالصدق فيقبل قولهم ويُعاقِب على ذلك، ولا يجاوز في الأدب كما أعلمتُك، ويأمرهم بالكفِّ عن الأذى، ويردُّ ما أخذ بعضهم لبعض، وليس هو من ناحية القضاء. وكذلك سمعتُ من غير واحد من أصحابنا، وقد أُجيزت شهادتهم في القتل والجراح فكيف بهذا؟ والله أعلم. قال محمد: وكتب شجرة بن عيسى إلى سحنون يسأله عن المُعلم يُستأجَر على الصبيان يعلمهم، فيمرض أحد الصبيان أو يُريد أبوه أن يخرج به إلى سفرٍ أو غيره. فقال: إذا استؤجِر سنةً معلومةً فقد لزِمَت آباءهم الإجارة خرجوا أو أقاموا. وإنما تكون الإجارة ها هنا تقضي على حال الصبيان لأن منهم الخفيف والثقيل، وقد يكون الصبي له المؤنة في تعليمه ومِنهم مَنْ لا مؤنة على المعلم فيه، ففي هذا ينظر. قال: وقال سحنون: انتقض ما ينوب أباه من إجارة في باقي الشرط ولا يلزمه ذلك، وكذلك إن مات الأب انتقض ما بقي من الإجارة وكان ما بقي في مال الصبي، قال محمد: مثل الرضاع إذا استأجر الرجل لولده مَنْ يُرضعه ثم مات الأب أو الصبي، فإنَّ عبد الرحمن روى عن مالك: أن الإجارة تنتقض، ويكون ما بقي في مال الصبي إن كان له مال، ويكون ذلك موروثًا عن الميت، وإن مات الصبي أخذ الأب باقي الإجارة، وروى أشهب عن مالك أن تلك العطية نفذت للصبي، فإن مات الأب كانت للصبي، وإن مات الصبي كان ما بقي موروثًا عن الصبي كأنه ماله، وكذلك أُجرة المُعلم مثل هذا، والله أعلم. قال محمد: وهذا قولي، وهو القياس. قال سحنون: وقد سُئل بعض علماء الحجاز — منهم ابن دينار وغيره — أن يَستأجر المُعلمَ الجماعة وأن يفرض على كل ولدٍ ما ينوبه، فقال: يجوز إذا تراضى بذلك الآباء؛ لأن هذا ضرورة ولا بدَّ للناس منه، وهو أشبه. وقال: وهو بمنزلة ما لو استأجر رجل عبدَين من رجُلَين، لكل واحدٍ عبْد، وإنما ذلك بمنزلة البيع؛ وعبد الرحمن لا يُجوِّز هذه الإجارة؛ لأنه لا يجوز ذلك في البيع. والله أعلم. قال: ولا بأس للمُعلم أن يشتري لنفسه ما يُصلحه من حوائجه إذا لم يجد مَنْ يكفيه. ولا بأس أن ينظُر في العِلم في الأوقات التي يستغني الصبيان عنه، مثل أن يصيروا إلى الكتاب وإملاء بعضهم على بعض، إذا كان ذلك منفعةً لهم، فإن هذا قد سَهَّلَ فيه بعض أصحابنا. وسُئل مالك عن المُعلم يجعل للصبيان عريفًا، فقال: إن كان مثله في نفاذه، فقد سهل في ذلك إذا كان للصبي في ذلك منفعة. وسمعتُه يقول: تنازع المُغيرة بن شعبة وابن دينار — وكلاهما من علماء الحجاز — عن صبي يختم القرآن عند المُعلم فيقول الأب: إنه لا يحفظ، فقال المُغيرة: إذا كان أخذ القرآن كله عنده وقرأه الصبي كله نظرًا في المصحف وأقام حروفه، فإن أخطأ منه اليسير الذي لا بدَّ منه مثل الحروف ونحوها، فقد وجبتْ للمُعلم الختمة، وهو على المُوسِع قدره وعلى المُقتر قدره، وهو الذي أحفظ من قول مالك. وقال ابن دينار: سمعت مالكًا يقول: تجب للمُعلم الختمة على قدر يُسر الرجل وعُسره، يجتهد في ذلك وليُّ النظر للمسلمين. وأرى أنه إذا تنازع الأب والمُعلم في الصبي، أنه لا يعلم القرآن، فإنه إذا قرأ منه نظرًا من الموضع الذي لو كان أخذه عنده مفردًا وجبت له الختمة، قضيتُ له بها، ولا أُبالي ألَّا يقرأ غير ذلك؛ لأنه لو لم يأخُذه عنده، لم يسأل هذا المُعلم عنه. وأجمعوا جميعًا على أنه إذا أخذ عنده الثلث إلى سورة البقرة أن الختمة واجبة، إذا عرف أن يقرأه كما وصفتُ لك، ولا يُسأل عن غير ذلك مما لم يكن أخَذَه عنده. وسُئل عن المُعلم يُستأجر على تعليم الصبيان فيموت، فقال: إذا مات انفسخت الإجارة، وكذلك إذا مات أحد الصبيان انفسخ من الإجارة بقدْر ما بقي من إجارة مثل الصبي، وقد قيل إن الإجارة لا تنفسِخ وأن على المُعلم فيما له مقاصَّة في التعليم، وعلى أبي الصبي أن يأتي بمَن يُعلمه تمام السنة، وإلا كانت له الإجارة كاملة. قال محمد: الأول كلام عبد الرحمن وعليه العمل، وإنما ذلك بمنزلة الراحلة بعينها، إذا هلكت انفسخ الكراء، ولا يجوز أن يأتي بمثلها، ولا يُشتَرَط عليه ذلك. والله أعلم. وسمعته يقول: قال أصحابنا جميعًا — مالك والمغيرة وغيرهما: تجب للمُعلم الختمة ولو استُؤجِر شهرًا شهرًا، أو على تعليم القرآن بأجرٍ معلوم، ولا يجب له غير ذلك. وقالوا: إذا استظهر الصبيُّ القرآن كله كان له أكثر في العطية للمُعلم ممن إذا قرأه نظرًا، وإذا لم يتهجَّ الصبيُّ ما يُملى عليه، ولا يفهم حروف القرآن، لم يُعْطَ المُعلم شيئًا، وأُدِّبَ المُعلم ومُنع من التعليم إذا عُرف بهذا، وظهر تفريطه. قال سحنون: قلت لابن القاسم: أرأيت المصحف أيصحُّ أن يُستأجَر ليُقرأ فيه؟ فقال: لا بأس به لأن مالكًا قال: لا بأس ببيعه. ابن وهب عن ابن لهيعة ويحيى بن أيوب عن عمارة بن عرفة عن ربيعة قال: لا بأس ببيع المصحف، وإنما يُباع الحبر والورق والعمل. ابن وهب عن عبد الجبار بن عمر أن ابن مصيح كان يكتب المصاحف في ذلك الزمان ويبيعها. أحسَبُه قال في زمان عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، ولا ينكر عليه أحد؛ ولا رأيتُ أحدًا بالمدينة يُنكر ذلك. قال: وكلهم لا يرَون به بأسًا. قال: ولا أرى أن تجوز إجارة كتُب الفقه؛ لأن مالكًا كرِه بيعها، لأن فيه اختلف العلماء؛ قوم يُجيزون ما يُبطل قوم. قلت: فقد أجزتُم إجارة الحُر وهو لا يحلُّ بيعه، فكيف لا تُجيزون إجارة كتب الفقه؟ فقال: لأن الإجارة في الحُر معلومة؛ خدمته تُملَك. وإنما في كتب الفقه القراءة، والقراءة لا تُملَك. قال محمد: لا أرى بأسًا بإجارتها وبيعها إذا علمَ مَن استأجرها واشتراها. قال محمد: لا بأس أن يَستأجر الرجل المُعلم على أن يُعلم أولاده القرآن بأجرة إلى أجل معلوم، أو كل شهر. وكذلك نصف القرآن أو ربعه أو ما سَمَّيا منه. قال: وإذا استأجر الرجل مُعلمًا على صبيان معلومين، جاز للمُعلم أن يُعلم معهم غيرَهم إذا كان لا يشغله ذلك عن تعليم هؤلاء الذين استؤجِر لهم. قال: وإذا استؤجر المُعلم على صبيان معلومين سنةً، فعلى أولياء الصبيان كراء مَوضع المُعلم. قال: وإذا قيل للمُعلم عَلِّمْ هذا الوصيف ولك نصفه لم يجُز ذلك. قال: وإذا أدَّب المعلم الصبي الذي يجوز له فأخطأ ففقأ عينه، أو أصابه فقتله، كانت على المُعلم الكفارة في القتل، والدِّية على العاقلة إذا جاوز الأدب، وإذا لم يجاوز الأدب، وفعل ما يجوز له، فلا دِية عليه، وإنما يضمن العاقلة من ذلك ما يبلغ الثلث، وما لم يبلغ الثلث ففي ماله. قال: ولا بأس بالرجل يَستأجر الرجُل أن يُعلِّم ولده الخط والهجاء، وقد كان النبي ﷺ يُفادي بالرجل يُعلِّم الخط. قال: ولا أرى أن يجوز بيع كتُب الشِّعر ولا النحو ولا أشباه ذلك، ولا يجوز إجارة من يُعلم ذلك. قال مالك: ولا أرى إجارة مَنْ يُعلم الفقه والفرائض. قال: وقال سحنون: وإذا ضرب المُعلم الصبي بما يجوز له أن يضربه إذا كان مِثله يقوى على مثل ذلك فمات أو أصابه بلاء، لم يكن على المُعلم شيء غير الكفارة إنْ مات، وإن جاوز الأدب ضمن الدِّية في ماله مع الأدب، وقد قيل على العاقلة مع الكفارة. فإن جاوز الأدب فمرض الصبي من ذلك فمات، فإن كان جاوز ما يُعلَم أنه أراد به القتل أقسم وقتلَه به الأولياء، وإن كان لم يجاوز ما يُرى أنه أراد به القتل إلا على وجه الأدب، إلا أنه جهِل الأدب، أقسم واستحقُّوا الدِّية قِبَل العاقلة، وعليه هو الكفارة. فإن كان المُعلم لم يَلِ الفعل وإنما ولِيَه غيره، كان الأمر على ما فسَّرتُ لك، ولا شيء على المأمور؛ وإن كان بالغًا، فمن أصحابنا مَنْ رأى الدِّية على عاقلة الفاعل وعليه الكفارة، ومنهم من رأى الدِّية على عاقلة المُعلم، وعلى الفاعل الكفارة، والله أعلم. قال: وسمعتُ سحنون يقول: لا أرى للمُعلم أن يُعلم أبا جاد وأرى أن يتقدَّم للمُعلمين في ذلك؛ وقد سمعتُ حفص بن غياث يُحدِّث أن أبا جاد أسماء الشياطين ألقَوها على ألسنة العرب في الجاهلية فكتبوها؛ قال: وسمعتُ بعض أهل العِلم يزعُم أنها أسماء ولد سابور ملك فارس أمر العرب الذين كانوا في طاعته أن يكتبوها، فلا أرى لأحدٍ أن يكتبها، فإنَّ ذلك حرام. وقد أخبرَني سحنون بن سعيد، عن عبد الله بن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قوم ينظرون في النجوم يكتبون «أبا جاد» أولئك لا خلاق لهم. قال: وسُئل مالك عن مُعلمٍ ضرب صبيًّا ففقأ عينه، أو كسر يده. فقال: إنْ ضُرب بالدِّرَّة على الأدب وأصابه بعودها فكسر يده، أو فقأ عينه، فالدِّية على العاقلة إذا عمل ما يجوز له، فإن مات الصبي فالدِّية على العاقلة بقسامةٍ وعليه الكفارة. وإن ضربه باللَّوح أو بعصا قتلَه فعليه القصاص؛ لأنه لم يؤذَن له أن يضربه بعصًا ولا بلوح. قلت: روى بعض أهل الأندلس أنه لا بأس بالإجارة على تعليم الفقه والفرائض والشِّعر والنحو وهو مثل القرآن، فقال: كره ذلك مالك وأصحابنا. وكيف يُشبه القرآن والقرآن له غاية ينتهي إليها، وما ذكرت ليس له غاية ينتهي إليها، فهذا مجهول، والفقه والعِلم أمر قد اختلف فيه، والقرآن هو الحق الذي لا شكَّ فيه. والفقه لا يُستظْهَر مثل القرآن فهو لا يُشبهه، ولا غاية له، ولا أمد ينتهي إليه. كمل كتاب «آداب المُعلِّمين» محمد بن سحنون عن أبيه رضي الله عنهما. كتبه لنفسه عبيد الله، الراجي سَعة فضل الله ورحمته محمد بن محمد بن محمد بن أحمد البري المُرادي غفر الله له ولوالديه.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/40635716/
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
أحمد فؤاد الأهواني
«نحن في حاجةٍ إلى القديمِ والجديدِ معًا؛ لأننا لا نستطيع قَطْع الصِّلة بالماضي الذي لا نزال نعيش في دِينه ولغته، لا يزال دِيننا الإسلام، وكِتابنا القرآن، ولُغتنا العربية. ونحن في حاجةٍ اليومَ إلى تعليم أبنائنا اللغة العربية والقرآن الكريم، ويجدُر بنا أن نعرف كيف كان أجدادُنا منذ ألف عام يُعلِّمونهما؛ فقد يُفيدنا ذلك في موقعنا الحاضر، ويُعيننا على حل مشكلة تعليم الأطفال اليوم الكتابةَ والقراءة والدِّين، وهي مشكلة معروضة على بساط البحث، وهي موضع تفكير علماء التربية.» في القرون الإسلامية الأولى بلغت الحضارة العربية أوْج عظمتها، وانتشرت لأقاصي الشرق والغرب، حيث انتقلت إلى أوروبا التي كانت تموج في بحرٍ مُظلم جرَّاء التدهور والانحلال. وهذه الحضارة العظيمة تأسَّست على العِلم، ولا عِلم بغير تعليمٍ وتربية. ولأجل التعرُّف على أحوال التعليم في تلك العصور الزاهية، يأتينا هذا الكتاب ﻟ «أحمد فؤاد الأهواني»، حيث يُقدِّم فيه دراسةً وافية عن حياة «أبو الحسن القابسي» الذي عاش في القرن الرابع الهجري، وكِتابه البالغ الأهمية؛ إذ قام «القابسي» فيه بمُعالجةٍ تفصيلية ودقيقة لكل ما تعلَّق بشئون التعليم في عصره، وخصوصًا تعليم الصبيان، وكذلك حل مشكلات التعليم. وقد أُلحِق بهذا الكتاب رسالة «ابن سحنون» المُعنونة ﺑ «آداب المُعلمين»، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثالث الهجري ولا يعرفها سوى القليل، وتُعَد من الرسائل النادرة عن التربية.
https://www.hindawi.org/books/40635716/0.4/
المراجع والفهارس
أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، لشمس الدين البشاري. ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب الإمام مالك، للقاضي عياض، مخطوط رقم ٢٢٩٣ بدار الكتب الملكية بالقاهرة. الديباج المُذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، لابن فرحون. خلاصة تذهيب الكمال في أسماء الرجال، للحافظ صفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي الأنصاري، المطبعة الخيرية — الطبعة الأولى — ١٣٢٢ هجرية. شذرات الذهب في أخبار مَنْ ذهب، لابن العماد الحنبلي، مخطوط رقم ١١١٢ بدار الكتب الملكية بالقاهرة. عيون الأنباء في طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة، الطبعة الأولى، المطبعة الوهبية، الجزء الأول ٣٢٨ صفحة؛ الجزء الثاني ٢٦٤ صفحة. طبقات الحُفَّاظ للسيوطي، مخطوط رقم ٥٢٥ تاريخ، القاهرة. كشف الظنون، لحاجي خليفة. مسالك الأبصار، لابن فضل الله العمري، مخطوط بدار الكتب المصرية، رقم ٢٥٦٨ تاريخ. معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان، للشيخ عبد الرحمن عبد الله بن ناجي. معجم البلدان، لياقوت. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، لأبي العباس أحمد بن محمد المقري، ليدن، جزآن. نَكْت الهيمان في نُكَت العميان، صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، المطبعة الجمالية. وفيات الأعيان، لابن خلكان. إنجيل متى: العهد الجديد. تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التنزيل، للزمخشري، جزآن. المطبعة الشرقية. تفسير ابن كثير: أربعة أجزاء، طبع مصطفى محمد بالقاهرة، سنة ١٩٣٧م. تفسير النسَفي، المطبعة الأميرية ثلاثة أجزاء الأول ١٩٣٦م، الثاني ١٩٣٩م، الثالث ١٩٤٢م. شرح الدردير على مُختصر خليل في فقه مالك. صحيح البخاري، شرح الكرماني. صحيح مسلم. المُستصفى من علم الأصول، للغزالي، جزآن، المطبعة الأميرية ١٣٢٢ﻫ. مدخل الشرع الشريف على المذاهب، لأبي عبد الله محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج، أربعة أجزاء، المطبعة المصرية بالأزهر، ١٩٢٩م. مُوطأ مالك، مطبعة الحلبي. الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي. جزآن، الطبعة الثالثة، مطبعة حجازي سنة ١٩٤١م. أحكام القرآن، لأبي بكر بن العربي. جزآن، مطبعة السعادة ١٣٣١ هجرية. سراج القارئ المُبتدئ وتذكار القارئ، شرح الإمام أبي القاصح على الشاطبية. نهاية القول المُفيد في عِلم التجويد، للشيخ محمد مكي. التذكار في أفضل الأذكار، لأبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي المُفسِّر المُتوفَّى سنة ٦٧١ﻫ، المطبعة الأولى ١٢٥٥ﻫ الخانجي. تاريخ آداب اللغة العربية: جزآن، مصطفى صادق الرافعي. تاريخ التمدُّن الإسلامي: أربعة أجزاء، جورجي زيدان. تاريخ الفلسفة في الإسلام، تأليف دي بور، ترجمة عبد الهادي أبو ريدة، مطبعة لجنة التأليف ١٩٣٨م، القاهرة. حياة اللغة العربية: حفني بك ناصف. ضُحى الإسلام: ثلاثة أجزاء، أحمد أمين بك، مطبعة لجنة التأليف. فجر الإسلام، أحمد أمين. الطبعة الثانية ١٩٣٤م، مطبعة الاعتماد. العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، عبد الرحمن بن خلدون، مطبعة بولاق. المُقدمة … لكتاب العِبر لابن خلدون، المطبعة البهية بالأزهر. فتوح البلدان، البلاذري، المطبعة المصرية ١٩٣٢م، ٤٦٠ صفحة. رحلة ابن جبير، المطبعة العربية ببغداد ١٩٣٧م، ٢٩٢ صفحة. البيان المُغرِب، لابن العذاري. المعارف، لابن قتيبة الدينوري، المطبعة الإسلامية بالأزهر، ١٩٣٤م. البيان والتبيين، للجاحظ، ثلاثة أجزاء، طبع مصطفى محمد، ١٩٣٢م، تحقيق السندوبي، الطبعة الثانية، أربعة أجزاء، طبع عبد السلام هارون. الكامل، للمُبرد. الوزراء والكُتَّاب، للجهشياري. مطبعة الحلبي ١٩٣٨م. إحياء علوم الدين، الغزالي، أربعة أجزاء، المطبعة العثمانية المصرية، ١٩٣٣م. التعرُّف لمذهب أهل التصوف، للكلاباذي، الخانجي ١٩٣٣م. تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، لابن مسكويه، المطبعة الخيرية ١٣٢٢ﻫ-١٩٣٣م. الجواهر الغوالي من رسائل الإمام الغزالي، مطبعة السعادة مصر ١٩٣٤م عشر رسائل، منها الرسالة اللَّدُنِّية ورسالة أيها الولد. رسائل إخوان الصفا، أربعة أجزاء، المطبعة العربية، سنة ١٩٢٨م. الروضة البهية فيما بين الأشاعرة والمَاتريدية، لمحمد بن حسن، طبع الهند. الفصل في الملل والأهواء والنِّحَل، لابن حزم، خمسة أجزاء، طبعة عبد الرحمن خليفة، ١٣٤٧ هجرية. المِلَل والنِّحَل، الشهرستاني (بهامش الفصل لابن حزم). المدخل إلى الفلسفة تأليف كوليه، ترجمة أبو العلا عفيفي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ١٩٤٢م. مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العِلم والإرادة، لابن قيم الجوزية، المطبعة الثانية الأزهر، ١٩٣٩م. مفتاح السعادة ومصباح السيادة، طاش كبري زاده، حيدر أباد الدكن جزآن. مقالات فلسفية قديمة نشرَها الأب لويس شيخو، بيروت، ١٩١١م. ميزان العمل، الغزالي. المطبعة العربية، ١٣٤٢ﻫ. نقد العلم والعلماء أو تلبيس إبليس، للحافظ أبي الفرج ابن الجوزي، مطبعة السعادة، ١٣٤٠ﻫ. آداب المُعلمين مما دوَّن محمد بن سحنون عن أبيه، نشره الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب، طبع تونس، ٦٤ صفحة، سنة ١٣٤٨ هجرية. أصول التربية وفن التدريس، أمين مرسي قنديل، الجزء الأول ٣٧٦ صفحة، سنة ١٩٣٧م، الطبعة الرابعة، الجزء الثاني ٢٤٦ صفحة، سنة ١٩٣١م، لجنة التأليف. تاريخ التربية، مصطفى أمين، مطبعة المعارف، ١٩٢٥م، الطبعة الأولى. تاريخ التريبة الإسلامية، الدكتور أحمد شلبي، دار الكشاف بيروت،١٩٥٤م. تحرير المقال في آداب وأحكام ما يحتاج إليه مؤدبو الأطفال، لأحمد بن حجر الهيتمي، مخطوط رقم ٦٥ تعليم. التربية عند العرب، خليل طوطح. تعليم المُتعلم طريق التعلُّم، الزرنوجي، المطبعة الرحمانية، سنة ١٩٣١م، ٧٩ صفحة. جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، لابن عبد البر النمري القرطبي، جزآن. رسالة في التربية والتسليك، برهان الدين الأقصرائي، مخطوط بدار الكتب المصرية. فضل علم السلف على الخلف، للإمام الحافظ أبي الفرج زين الدين الشهير بابن رجب البغدادي الحنبلي، المطبعة المُنيرية بالأزهر. كتاب الدراري في ذكر الذراري، لابن العديم الحلبي، طبع القسطنطينية، مطبعة الجوائب ١٢٩٨ﻫ. اللؤلؤ النظيم في روم التعلُّم والتعليم، للأنصاري، مخطوط بدار الكتب المصرية. مبادئ التربية الإسلامية، أسماء فهمي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ١٩٤٧م.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/0.1/
الكتب الإلكترونية، هِبة العصر
في عام ١٩٧٠ بدأَت الأفكارُ العامة لكتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» تَتشكَّل في ذهني، وعندما بذلتُ المُحاوَلات الأولى لكتابتها، شعرتُ بحاجةٍ إلى مَراجِع أكثر من المَراجِع القليلة التي في حَوزتي، فرُحتُ أبحث في منافذ بيع الكتب، وفي المراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وفي مكتبة جامعة دمشق؛ عن مَراجِع باللغة الإنجليزية فلم أجِد ضالَّتي، فتأكدَت لي استحالة إتمام المشروع وتوقفتُ عن الكتابة. وفي عام ١٩٧١ قمت برحلةٍ طويلة إلى أوروبا والولايات المتحدة دامت ستة أشهر، رُحتُ خلالها أشتري ما يلزمني من مَراجِع وأشحنها بالبريد البحري إلى سوريا، وعندما عدتُ شرعت في الكتابة وأنجزت الكتابَ في نحو سنة ونصف. بعد ذلك رُحتُ أستعين بأصدقائي المُقِيمين في الخارج لإمدادي بما يلزمني من مَراجِع، وكانت مهمةً شاقة وطويلة تستنفد المالَ والجهد، وكان عمل الباحث في تلك الأيام وفي مثل تلك الظروف عملًا بطوليًّا، إن لم يكن مهمةً مستحيلة. بعد ذلك ظهر الحاسوب الشخصي في أوائل الثمانينيات، ثم تأسَّسَت شبكةُ الإنترنت التي لعبَت دورًا مُهمًّا في وضع الثقافة في مُتناوَل الجميع، ووفَّرَت للباحثين ما يلزمهم من مَراجِع من خلال الكتب الإلكترونية المجانية أو المدفوعة الثمن، فأزاحَت همَّ تأمينِ المَراجِع عن الكاتب الذي يعيش في الدول النامية، ووصَّلَته بالثقافة العالَمية من خلال كبسةِ زرٍّ على حاسوبه الشخصي. لقد صار حاسوبي اليومَ قطعةً من يدي لا أَقدر على الكتابة من دونه، مع إبقائي استخدام القلم في الكتابة، لا برنامج الوورد. ولرد الجميل للإنترنت، أردتُ لطبعةِ الأعمال الكاملة لمُؤلَّفاتي التي صدرت في ٢٠ مجلدًا، أن تُوضَع على الشبكة تحت تصرُّفِ عامةِ القُراء والباحثين، واخترتُ «مؤسسة هنداوي» لحملِ هذه المهمة؛ لأنها مؤسسةٌ رائدة في النشر الإلكتروني، سواءٌ من جهةِ جودةِ الإخراج أو من حيث المواضيع المتنوِّعة التي تُثرِي الثقافة العربية. جزيل الشكر ﻟ «مؤسسة هنداوي»، وقراءة ممتعة أرجوها للجميع!
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/0.2/
مقدمة لطبعة الأعمال غير الكاملة
عندما وضعتُ أمامي على الطاولة في «دار التكوين» كومةَ مُؤلَّفاتي الاثنين والعشرين ومخطوطَ كتابٍ لم يُطبَع بعد، لنبحث في إجراءاتِ إصدارها في طبعةٍ جديدة عن الدار تحت عنوان «الأعمال الكاملة»، كنتُ وأنا أتأمَّلها كمَن ينظر إلى حصاد العمر. أربعون عامًا تَفصل بين كتابي الأول «مغامرة العقل الأولى» والكتابِ الجديد «الله والكون والإنسان»، ومشروع تَكامَل تدريجيًّا دون خطةٍ مُسبقة في ثلاثٍ وعشرين مُغامَرة هي مشروعي المعرفي الخاص الذي أحببتُ أن أُشرِك به قُرَّائي. وفي كل مُغامَرة كنت كمَن يَرتاد أرضًا بِكرًا غير مطروقة ويكتشف مَجاهِلها، وتقودني نهايةُ كل مُغامَرة إلى بدايةٍ أخرى على طريقةِ سندباد الليالي العربية. ها هو طرفُ كتاب «مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة» يبدو لي في أسفل الكومة. أسحبه وأتأمَّله، إنه في غِلاف طبعته الحادية عشرة الصادرة عام ١٩٨٨، التي عاد ناشِرها إلى غلاف الطبعة الأولى الصادرة عام ١٩٧٦، الذي صمَّمه الصديق الفنان «إحسان عنتابي»، ولكن ألوانه بهتَت حتى بدَت وكأنها بلون واحد لعدم عنايةِ الناشر بتجديدِ بلاكاتها المتآكلة من تعدُّد الطبعات التي صدرت منذ ذلك الوقت. وفي حالة التأمل هذه، يَخطر لي أن هذا الكتاب قد رسَم مسارَ حياتي ووضعني على سكةٍ ذاتِ اتجاهٍ واحد؛ فقد وُلِد نتيجةَ ولعٍ شخصي بتاريخ الشرق القديم وثقافته، وانكبابٍ على دراسةِ ما أنتجَته هذه الثقافة من مُعتقَدات وأساطير وآداب، في زمنٍ لم تكن فيه هذه الأمور موضعَ اهتمامٍ عام، ولكني لم أكن أُخطِّط لأن أغدو مُتخصِّصًا في هذا المجال، ولم أنظر إلى نفسي إلا كهاوٍ عاكفٍ بجدٍّ على هوايته. إلا أن النجاح المدوِّي للكتاب — الذي نفَدَت طبعته الأولى الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق في ستة أشهر، ثم تَتابَعت طبعاته في بيروت — أشعرني بالمسئولية؛ لأن القراء كانوا يَتوقَّعون مني عملًا آخَر ويتلهفون إليه. إن النجاح الكبير الذي يَلْقاه الكتاب الأول للمُؤلِّف يضعه في ورطةٍ ويفرض عليه التزاماتٍ لا فَكاكَ منها، فهو إما أن ينتقل بعده إلى نجاحٍ أكبر، أو يسقط ويَئُول إلى النسيان عندما لا يتجاوز نفسَه في الكتاب الثاني. وقد كنتُ واعيًا لهذه الورطة، ومُدرِكًا لأبعادها، فلم أَتعجَّل في العودة إلى الكتابة، وإنما تابعتُ مَسيرتي المعرفية التي صارت وقفًا على التاريخ العام والميثولوجيا وتاريخ الأديان. وعامًا بعد عام، كان كتاب «لغز عشتار» يَتكامَل في ذهني وأعدُّ له كلَّ عُدَّة ممكنة خلال ثمانية أعوام، ثم كتبتُه في عامين ودفعته إلى المطبعة فصدر عام ١٩٨٦؛ أيْ بعد مرور عشر سنوات على صدور الكتاب الأول، وكان نجاحًا مُدوِّيًا آخَر فاق النجاحَ الأول، فقد نفَدَت طبعتُه الأولى، ٢٠٠٠ نسخة، بعد أقل من ستة أشهر، وصدرت الطبعة الثانية قبل نهاية العام، ثم تتالت الطبعات. كان العمل الدَّءُوب خلال السنوات العشر الفاصلة بين الكتابَين، الذي كان «لغز عشتار» من نواتجه، قد نقلني من طور الهواية إلى طور التخصُّص، فتفرَّغتُ للكتابة بشكل كامل، ولم أفعل شيئًا آخَر خلال السنوات الثلاثين الأخيرة التي أنتجتُ خلالها بقية أفراد أسرة الأعمال الكاملة، إلى أن دعَتني جامعة بكين للدراسات الأجنبية في صيف عام ٢٠١٢ للعمل مُحاضرًا فيها، وعهدَت إليَّ بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط لطلاب الدراسات العليا، وهناك أنجزتُ كتابي الأخير «الله والكون والإنسان». على أنني أفضِّلُ أن أدعو هذه الطبعة بالأعمال غير الكاملة، وذلك على طريقةِ الزميلة «غادة السمان» التي فعلت ذلك من قبلي؛ لأن هذه المجموعة مُرشَّحةٌ دومًا لاستقبالِ أعضاءٍ جُدد ما زالوا الآن في طي الغيب. ونشرتُ فيه فصلًا بعنوان: كنتُ قد تعرَّفت على «تومبسون» في ندوةٍ دولية عن تاريخ القدس في العاصمة الأردنية عمان عامَ ٢٠٠١، شاركت فيها إلى جانبِ عددٍ من الباحثين الغربيين في التاريخ وعلم الآثار، وربطَت بيننا صداقةٌ متينة استمرت بعد ذلك من خلال المُراسَلات، إلى أن جمعَتنا مرةً ثانية ندوةٌ دولية أخرى انعقدَت في دمشق بمناسبة اختيار القدس عاصمةً للثقافة العربية، وكانت لنا حواراتٌ طويلة حول تاريخ أورشليم القدس وما يُدعى بتاريخ بني إسرائيل، واختلفنا في مسائلَ عديدةٍ أثارها «تومبسون» في ورقة عمله التي قدَّمها إلى الندوة. وكان الباحث البريطاني الكبير «کيث وایتلام» قد دعا كلَيْنا إلى المشاركة في كتابٍ من تحريره بعنوان: فاتفقنا على أن نثير هذه الاختلافات في دراستَينا اللتين ستُنشَران في ذلك الكتاب، وهكذا كان. فقد صدر الكتاب الذي احتوى على دراسات الباحثين من أوروبا وأميركا عام ٢٠١٣ عن جامعة شيفلد ببريطانيا، وفيه دراسةٌ لي عن نشوءِ الديانة اليهودية بعنوان: خصَّصتُ آخِرَها لمناقشة أفكار «تومبسون»، وﻟ «تومبسون» دراستان الأولى بعنوان: والثانية خصَّصها للرد عليَّ بعنوان: أي: العودة من السَّبْي کمجاز أدبي – رد على فراس السواح. الكتاب يشبه الكائن الحي في دورة حياته؛ فهو يُولَد ويعيش مدةً ثم يختفي ولا تجده بعد ذلك إلا في المكتبات العامة، ولكن بعضها يقاوم الزمن وقد يَتحوَّل إلى كلاسيكيات لا تخرج من دورة التداول. وقد أطال القُرَّاء في عمر مُؤلَّفاتي حتى الآن، ولم يَختفِ أحدها من رفوف باعة الكتب، أمَّا تحوُّل بعضها إلى كلاسيكيات فأمرٌ في حُكم الغيب. فإلى قُرَّائي في كلِّ مكان، أهدي هذه الأعمالَ غير الكاملة مع محبتي وعرفاني.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/0.3/
فاتحة
يُعتبر كتاب التوراة بالنسبة للباحث في الميثولوجيا وتاريخ الأديان أحد المفاتيح المهمة لفهم آخر حلقات التاريخ الديني في منطقة الشرق القديم. كما يُعتبر تاريخ فلسطين مقدمةً لا غنى عنها لفهم كتاب التوراة، وتوضيح السياق التاريخي لظهور أسفاره، وفهم الوسط الثقافي الذي أنتجها، والوضع الفكري لمحرريها، وبذلك يغدو تاريخ فلسطين جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الدين في المنطقة المشرقية. من هنا جاء اهتمامي الشخصي بهذا التاريخ، وسعيي لكشف غوامضه والتعمق في إشكالياته، وذلك على هامش بحثي الأساسي في الميثولوجيا وتاريخ الدين، ثم تحول الهم الهامشي تدريجيًّا إلى هم رئيسي، فوضعت كتابي الأول في تاريخ فلسطين عام ١٩٨٩ وكان بعنوان «الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم». ولكن فيض المعلومات الأركيولوجية الجديدة — الذي تراكم خلال ثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن العشرين، والذي أخذ الآن فقط ينتظم في شبكة مفهومة أمام المؤرخ — قد دفع الموضوع مجددًا إلى بؤرة اهتماماتي؛ لأن هذه المعلومات الجديدة أخذت تفرش الأرضية اللازمة لإعادة النظر في تاريخ فلسطين، ومسألة نشوء إسرائيل القديمة وزوالها في السياق العام لهذا التاريخ، وفهم علاقة تاريخ إسرائيل بالتاريخ اليهودي، وهي علاقة قد بدأت الآن بالاتضاح على خلفية المعلومات الجديدة، وذلك بعد فترة طويلة من اختلاط البحث التوراتي بالبحث التاريخي، وسيطرة الأول على الثاني. وبما أن تاريخ آرام دمشق قد تقاطع مع تاريخ مملكتي إسرائيل ويهوذا خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، وهي الفترة التي شهدت نشوء هذه الممالك الثلاث وحروبها وتحالفاتها واختلاف مصائرها، فقد تهيأت لي فرصةٌ انتظرتها طويلًا لأقول في تاريخ مملكة دمشق الآرامية ما لا يعرفه القارئ العربي حتى الآن، بسبب قلة الدراسات التي تعرضت لهذا التاريخ، وسيطرة وجهة النظر التوراتية عليها، فسلطتُ الضوء على حقبة مهمة من تاريخ سوريا الآرامية لم يتم حتى الآن إضاءتها والربط بين أحداثها. فلقد جعلتْ مملكة دمشق من نفسها في تلك الحقبة القوة العظمى الثانية بعد آشور في منطقة الشرق القديم، ودافعت عن استقلال مناطق غربي الفرات في مواجهة آشور فترةً طويلةً من الزمن، استطاعت خلالها الثقافة الآرامية الناشئة تثبيت أقدامها، وتفتيح إمكاناتها الذاتية. وعندما تهاوت دمشق، وانهارت الممالك الآرامية سياسيًّا أمام آشور، قامت هذه الثقافة بالاستيلاء على غازيها من الداخل، فتكلمت آشور الآرامية بدلًا عن لغتها، وعندما شرب الفاتح الآشوري من الكأس التي سقاها للشعوب المغلوبة، وورث الكلدان ثم الفرس فيما بعد أملاكه الغربية، شمل المدى الجغرافي للثقافة الآرامية المنطقة الممتدة من حدود الهند إلى البحر المتوسط، فيما يدعوه المؤرخ أرنولد توينبي بالعالم السوري. ورغم أن اهتماماتي الأصلية بالميثولوجيا وتاريخ الأديان كانت وراء إنجازي هذا الكتاب، إلا أن القارئ سوف يلاحظ منذ البداية أن المسألة الدينية لم تأخذ أكثر من الحيز اللازم لها، فهذه الدراسة تبقى حتى النهاية ضمن إطار البحث التاريخي الصرف، وذلك في كل ما يتعلق بالمرجعية والمقتربات والمنهج. وهي تعتمد أحدث المعلومات التي قدمها علم الآثار وعلم التاريخ والعلوم المساعدة الأخرى، خلال سبعينيات وثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن العشرين، وهي معلومات مختلفة جذريًّا، وتضع بين أيدينا المقدمات اللازمة للانعطاف نحو آفاقٍ جديدة في كتابة تاريخ فلسطين.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/0.4/
مقدمة
لقد كانت التقاليد التوراتية، حتى وقت قريب، تلقي ضوءًا على الماضي، ولكنها قد صارت الآن بحاجة إلى إلقاء الضوء عليها من قِبَل ذلك الماضي، الذي بدأ يتضح بشكل مستقل عن المواقف المسبقة والمسلمات المفروضة. وبتعبير آخر، فإن كتاب التوراة لم يعد نقطة الانطلاق، بل خط النهاية في دراستنا التاريخية. فعندما نفلح في كتابة تاريخ لفلسطين مستقل عن الصورة الخيالية التي تقدمها الأسفار التوراتية؛ يمكن عند ذلك أن نطرح أسئلة تتعلق بكيفية نشوء الأسفار التوراتية، ثم نجيب عليها، أما الاستمرار في اعتبار التوراة نوعًا من الكتابة التاريخية، فلن يؤدي إلى مزيد من التعمية على التاريخ فقط، بل سيبقى عقبة قائمة أمام فهم الكتاب ومضامينه ورسالته. تنتمي الأسفار التوراتية، من حيث شكلها ومضمونها ودوافع كتابتها، إلى جنس كتابي يمكن وصفه بجنس الجمع التراثي. فالهاجس الذي يدفع محرري ومعيدي صياغة تلك التقاليد الأدبية المتفرقة التي صيغت منها الأسفار؛ ليس هاجسًا تاريخيًّا بل هاجسًا تراثيًّا، فهم يعملون على جمع وتصنيف وإعادة صياغة تركة ثقافية شعبية متعددة النشأة والأصول وخطوط التداول، ويرتبونها في تسلسل زمني ينسجها إلى بعض، وذلك من خلال منظور أيديولوجي مفروض عليها من الخارج، يعكس الوضع الفكري للقائمين على التحرير وإعادة الصياغة في الفترات المتأخرة. إن ما يحرك محرر التوراة، باعتباره قاصًّا وجامع تراث شعبي موغل في القدم، هو العقدة القصصية التي تقود إلى الإفضاء بمضمون ديني يُظهر كيفية تداخل الإلهي بالدنيوي، وتوجيهه له، ومن دون التفات إلى الحدث المُحقَّق والخبر المُدقَّق. أما الترتيب الزمني (الكرونولوجي) لأحداث القصة الواحدة، وللقصص المتتابعة المُلصَق بعضها ببعض، فلا يعني أن همَّ النص هو همٌّ تاريخي، فمثل هذا الترتيب الزمني للأحداث هو شأن أسلوبي بالدرجة الأولى، وهو مستلزم ضروري في الكتابة الأدبية والكتابة التاريخية على حد سواء. فالقاص والمؤرخ يقدمان لنا جملة من الأحداث التي تتحرك في زمنٍ ماضٍ، وبشكل يتسلسل من الأقدم إلى الأحدث في حلقات يمسك بعضها ببعض بشكل منطقي. إلا أن ما يميز التاريخ كجنس كتابي عن الأدب، هو النية المسبقة للكاتب، وموقفه من مادة عمله. فالمؤرخ ينظر إلى الماضي باعتباره شأنًا واقعيًّا وحقيقيًّا، ويسعى جادًّا من أجل التفريق بين الخيالي والواقعي، مركزًا على ما يمكن لنا معرفته، والتحقق من وقوعه، خلال الفترة التي يسلط عليها الضوء. أما الأديب، فيتحرك في ماضٍ من صنعه، ويقدم أحداثًا ممكنة التحقق من منظور منطقي ظاهري. وبين المؤرخ والأديب يأتي موقع جامع التراث الذي يبحث عن التسويغ التاريخي الشكلي في المادة التي يقدمها، من دون اختبار وتدقيق للروايات التي يعمل على جمعها وتصنيفها، وهنا قد يتم استبعاد ما حصل فعلًا لصالح رغبة الكاتب في تصديق سلسلة ما من الأحداث، مدفوعًا بموقفه الأيديولوجي المسبق، ويغيب الحقيقي والواقعي في ضباب الخيالي. وفيما بين أقصى يمين الاتجاه المحافظ الذي يمثله أولبرايت وتلامذته، وأقصى يسار الاتجاه المتحرر؛ تتدرج مواقف بقية الباحثين. فالبعض يرفض الأساس التاريخي لأسفار موسى الخمسة (والتي تتضمن قصص الآباء من إبراهيم إلى يوسف، وقصة الخروج من مصر)، ويبحث بالمقابل عن تاريخية أحداث الرواية التوراتية، ابتداءً من فترة يشوع أو فترة القضاة، عندما بدأ الإسرائيليون كمجموعة متمايزة بالاستقرار في كنعان. والبعض الآخر يرفض الأساس التاريخي لسفرَيْ يشوع والقضاة أيضًا، ويبحث عن تاريخية أحداث الرواية ابتداءً من تشكيل المملكة الموحدة لكل إسرائيل خلال القرن العاشر ق.م. وهناك فريق ثالث يرى أنه من غير المجدي البحث عن تاريخية الحدث التوراتي قبل القرن التاسع ق.م. عندما تبدأ أخبار إسرائيل بالظهور في سجلات آشور، وذلك لأول مرة في التاريخ. هذه المواقف المتباينة للباحثين المحدثين والمعاصرين، تعطينا فكرة واضحة عن المَأزِق الذي وصل إليه البحث التاريخي التوراتي. إن أهم نتيجة يمكن أن نخرج بها من متابعة هذا الجدل الأكاديمي الدائر خلال القرن العشرين، ومن دراسة الوثائق التاريخية لثقافات الشرق القديم، ودراسة أحدث نتائج التنقيب الأثري في فلسطين؛ هي أن التقاليد التوراتية قد خلقت «إسرائيل» خاصة بها لا علاقة لها بإسرائيل التاريخية، وأن جُل البحث التاريخي — الذي تم حتى وقت قريب في مسألة أصول إسرائيل وتاريخها — قد انصبَّ على أُخيولة لا تمتلك من الوجود الواقعي إلا أقله. ولسوف نسير عبر صفحات هذا الكتاب في محاولة جادة لاكتشاف صورة إسرائيل في التوراة وفي التاريخ، والبحث عن التقاطعات الممكنة بينهما، من أجل معرفة حقيقة ما جرى في فلسطين من حوالي عام ١٢٠٠ق.م. (وهي الفترة المفترضة لدخول الإسرائيليين أرض كنعان) إلى دمار أورشليم عام ٥٨٧ق.م. في المرحلة الأولى من بحثنا، سوف نَعمِد إلى توضيح معالم «إسرائيل التوراتية» كما رسمتها الأسفار الخمسة المدعوة بالتاريخية، ثم نقوم بعملية استقصاء للوجود الموضوعي لهذه الإسرائيل اعتمادًا على النقد النصي والتاريخي والأركيولوجي لكل سفر على حدة. أما في المرحلة الثانية، فسوف ننتقل إلى دراسة أصول ومسار حياة «إسرائيل التاريخية» اعتمادًا على نتائج نقدنا السابق، وعلى علم الآثار الحديث المدعم بالعلوم المساعدة؛ مثل: علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ وبيئة العصور القديمة، وغيرها من العلوم التي صارت معونتها الميدانية والنظرية أمرًا لا غنى عنه لأي بحث أثري. وسوف يتم التركيز في هذه المرحلة على العلاقات الآرامية-الفلسطينية، والكشف عن دور مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكل من مملكتَيْ إسرائيل ويهوذا، وممالك شرقي الأردن، وبقية العالم السوري في مناطق غربي الفرات. وأخيرًا سوف نتوقف في دراستنا عند أعتاب الفترة التي أدعوها بفترة التاريخ اليهودي في فلسطين. وهذا التاريخ اليهودي — الذي تأخذ ملامحه بالتوضح خلال العصر الفارسي (القرنين الخامس والرابع ق.م.) — لا علاقة له بالتاريخ الإسرائيلي، وليست الاستمرارية بين التاريخين سوى استمرارية كرونولوجية، لا تحمل صلة ثقافية حقيقية بين المرحلتين. إن ما بدا لنا، حتى الآن، من اتصال الإسرائيلي باليهودي، هو ابتداع أيديولوجي توراتي، استكمل المحررون التوراتيون من خلاله أُخيولتهم الأدبية الرامية إلى ابتكار أصول لليهودية المحدثة في فلسطين خلال العصر الفارسي والعصر الهيلينستي. قد تبدو هذه الفكرة غريبة على قارئ التاريخ، وعلى معظم المتخصصين، ولكن ما يأتي من فصول هذا الكتاب كفيل بتوثيقها وبتوضيحها على أفضل وجه، وذلك وَفق منهجية علمية بعيدة عن السمة الإعلامية السياسية التي ميزت الخطاب التاريخي العربي حتى الآن، بتأثير وجود «إسرائيل ثالثة» في فلسطين اليوم، لا علاقة لها بإسرائيل التوراتية أو إسرائيل التاريخية.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/1.1/
الخلفية التاريخية العامة للحدث التوراتي
انتهت الحضارة المزدهرة للألف الثالث قبل الميلاد على نحو فاجع في جميع أرجاء الشرق القديم، ولأسباب بدت غير واضحة للمؤرخين لفترة طويلة من الزمن. ففي مصر سقطت الأسرة السادسة مع حلول الربع الأخير للألف الثالث قبل الميلاد، وبسقوطها انتهت الفترة المعروفة في تاريخ مصر بفترة المملكة القديمة، وأعقبتها فترةٌ من الفتن والاضطرابات والغزوات الخارجية، يطلق عليها المؤرخون اسم الفترة المعترِضة الأولى، دامت حتى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، وانتهت مع قيام الأسرة الثانية عشرة عام ١٩٩٠ق.م. وهي الأسرة التي ابتدأت فترةَ المملكة المتوسطة في تاريخ مصر القديمة. وقد تزامن انهيار المملكة القديمة في مصر مع انهيار المملكة الأكادية في بلاد الرافدين، حيث سقطت العاصمة أكاد بيد الغوتيان الجبليين الوافدين من الجبال الشرقية حوالي عام ٢٢٣٠ق.م.، وأعقب ذلك فترةُ فراغ سياسي واضطرابات عامة، دامت حوالي قرن من الزمان حتى قيام أسرة أور الثالثة عام ٢١٢٠ق.م. وفي سوريا هناك دليل على وجود فترة فراغ مشابهة، أدت إلى التسلسل التدريجي للقبائل الآمورية التي كانت تتجول في البادية السورية، وإلى تأسيسهم لأُسر حاكمة قوية في المدن السورية الكبرى، مثل ماري وحلب وقطنة. وتظهر في فلسطين بشكل خاص آثار أركيولوجية واضحة على الدمار التام لعدد كبير من المدن، تَلَته فترة فراغ سكاني دامت أكثر من قرنين في بعض المواقع. وقد عثر المنقبون في مواقع المدن المدمرة في فلسطين على آثار حياة بدوية لجماعات آمورية، لم تكن مهتمة ببناء أو سكن الحواضر، واعتقدوا أن هذه الجماعات البدوية هي المسئولة عن تدمير ثقافة البرونز المبكر في فلسطين. شهد عصر البرونز الوسيط (١٩٥٠–١٦٠٠ق.م.) قيام الدولة البابلية القديمة في بلاد الرافدين تحت لواء أسرة حاكمة آمورية وفدت من سوريا. غير أن هذه الدولة الجديدة لم تكن إلا استمرارًا لدولة أور الثالثة، ولدولة صارغون الأكادي من قبلها، ولم يكن الآموريون هنا سوى طبقة حاكمة تبنت كل التقاليد الثقافية السومرية الأكادية في الدين والفنون والآداب واللغة، ولم تكن اللغة البابلية القديمة إلا أكاديةً مُعدَّلة بعض الشيء. كما شهد هذا العصر قيام دويلاتِ مدنٍ قوية في سوريا، مثل كركميش على الفرات في أقصى الشمال، وماري على الفرات الأوسط، وآلالاخ في سهل العمق غربًا في منطقة أنطاكية، وقطنة وقادش في سوريا الوسطى بمنطقة حمص. ورغم أن أُسرًا حاكمة آمورية قد حكمت في معظم هذه المدن، إلا أن الطابع الثقافي الكنعاني للبرونز المبكر قد استمر هنا استمرار الطابع الثقافي الأكادي في وادي الرافدين. ومن أهم الحكام الآموريين الذين ظهروا على المسرح السياسي مع بدايات عصر البرونز الوسيط: الملك شمسي هدد الأول، وهو شخصية عسكرية وإدارية متميزة، ظهر بشكل مفاجئ في أواخر القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ووحَّد منطقة حوض الخابور وشمال بلاد الرافدين، من المنعطف الكبير لنهر الفرات غربًا إلى سفوح جبال زاغروس شرقًا. وكانت آشور — التي استولى عليها هذا العاهل، واعتلى عرش ملوكها في عاصمتها — قلبَ هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف، غير أن شمسي هدد لم يختر الإقامة في العاصمة الآشورية، بل عمل على بناء عاصمة جديدة له في حوض الخابور الأعلى، أطلق عليها اسم شوباط إنليل، وقد تم اكتشاف هذه المدينة في موقع تل ليلان في أقصى الشمال الشرقي من الحدود السورية الحالية. لم تُعمَّر المملكة المتوسطة التي قامت في مصر مع مطلع البرونز الوسيط إلا حوالي قرنين من الزمان، فحوالي عام ١٧٣٠ق.م. استولى على الحكم الجماعات المعروفة في التاريخ باسم الهكسوس، وتبدأ في مصر الفترة التي يدعوها المؤرخون بالفترة المعترضة الثانية. يتفق معظم دارسي اللغة المصرية القديمة على أن كلمة هكسوس تعني «حكام الأراضي الأجنبية» (الحكام الذين جاءوا من أراضٍ أجنبية)، من هنا، فإن معرفة أصلهم ومصدرهم أمر مستحيل اعتمادًا على النصوص الهيروغليفية المصرية، وذلك فيما عدا كونهم قد أتَوْا من آسيا الغربية. ورغم أن معظم أسماء الملوك الهكسوس سامية، إلا أننا نعثر بينها على أسماء غير سامية أيضًا، الأمر الذي يدل على وجود عناصر مختلطة في التركيب الإثني (العرقي) لهذه الجماعات. وربما كانت العناصر غير السامية قد جاءت من أصل حوري، فقد تميزت بداية عصر البرونز الوسيط بحدوث تحركات سكانية كبيرة من وإلى المنطقة السورية، أهمها تلك الهجرة الواسعة لجماعات غير سامية وفدت من الشرق والشمال الشرقي لتستقر في الشمال السوري والجزيرة العليا، وتُشكِّل عدة ممالك قوية، أهمها مملكة ميتاني. ورغم أن لغة هؤلاء الحوريين لا تنتمي إلى أسرة لغات معروفة، ساميةً كانت أم هندو-أوروبية، إلا أن الطبقة العسكرية الحاكمة للجماعات الحورية كانت من أصل هندو-أوروبي. وبعد الموجة الرئيسية التي جاءت بالحوريين إلى المناطق المذكورة أعلاه، لدينا دلائل على موجات صغيرة حملت جماعات منهم خلال عصر البرونز الوسيط إلى كل مكان تقريبًا من بلاد الشام. وبما أنه لا يوجد لدينا دليل على غزو أو انسياح حوري واسع النطاق نحو الغرب والجنوب، فإن من المُرجَّح أن تكون هذه الموجات الصغيرة من تحركات الحوريين قد جاءت نتيجة تسرب سلمي تدريجي. وقد اختلطت هذه الجماعات الحورية بالسكان المحليين تدريجيًّا، وحافظت على لغتها فترةً لا بأس بها قبل أن تذوب تمامًا في محيطها السامي. ونستدل من رسائل تل العمارنة المتبادلة بين حكام فلسطين والبلاط الفرعوني حوالي عام ١٣٥٠ق.م. على وجود حكام حوريين على رأس عددٍ من الممالك السورية. ولدينا من مدينة أوغاريت شواهد على وجود جالية حورية كبيرة ونشطة في المدينة حوالي عام ١٤٠٠ق.م.، وهذا يعني أن التواجد الحوري في سوريا قد استمر قويًّا وفعالًا حتى عصر البرونز الأخير. وإلى جانب التحركات الحورية، لدينا شواهد على تحركات محدودة لجماعات هندو-أوروبية وفدت إلى سوريا خلال عصر البرونز الوسيط من آسيا الصغرى. ونجد بشكل خاص في أوغاريت وآلالاخ عددًا لا بأس به من أسماء الأشخاص مكتوبة بالقلم الحثي اللوفياني. فالخابيرو، والحالة هذه، هم فئة اجتماعية وليسوا فئة عرقية، إنهم شتات من الجماعات التي لم تجد لها مكانًا في الهيكل الاجتماعي والسياسي لدويلات وممالك عصر البرونز الوسيط، فآلت إلى حالة هامشية تعيش في قلق واضطراب وحركة دائمة، تحت قيادات سياسية مؤقتة لا تتمتع بالديمومة والاستقرار. بعض هؤلاء الخابيرو وفد إلى المنطقة من خارجها، وبعضهم جاء من البوادي الداخلية، وبعضهم من شُذَّاذ الآفاق والمغامرين، أو من حثالة الشرائح السفلى للمجتمعات الحضرية تبحث عن حظوظ جديدة. ففي أوقات انعدام الأمن كان الخابيرو يلجئون إلى السلب والنهب، وعند استتباب الأمن كانوا يتقدمون للعمل المأجور، وفي أوقات الحروب كانوا يتحولون إلى مرتزقة يحاربون إلى هذا الجانب أو ذاك. ونحن إذا لم نقبل بنظرية الأصل المحلي للهكسوس، والتي أشرنا إليها منذ قليل، فإن أكثر النظريات قربًا لواقع حال عصر البرونز الوسيط هي التي تجعلهم جماعات من الخابيرو حققت نوعًا من التلاحم الداخلي تحت قيادات سياسية قادرة، قادتها نحو الدلتا المصرية. في عصر البرونز الوسيط هذا تبدأ القصة التوراتية، على ما يُجمِع عليه المؤرخون والباحثون التوراتيون. وفي هذا العالم الذي يموج بثقافات عالية، وتتلاقى عبره الأفكار التي ستمهد لكل منجزات التاريخ الإنساني اللاحق، تبدأ قصة أصول إسرائيل التوراتية، مع عائلة تهيم على وجهها انطلاقًا من مدينة أور على الفرات الأدنى، على عادة تلك الجماعات الهائمة من صيادي الحظ، المُقتلَعين من جذورهم الاجتماعية، ممن غذوا — عادةً — تجمعاتِ الخابيرو على حدود المراكز الحضرية. ولسوف نتتبع القصة التوراتية وَفق التحقيب الزمني المتعارف عليه، والمُستمَد من كتاب التوراة نفسه، والذي يقسم القصة إلى العصور التالية: (١) عصر الآباء. (٢) العبوديةُ في مصر، والخروجُ. (٣) اقتحام كنعان. (٤) عصر القضاة. (٥) المملكة الموحدة. (٦) المملكة المنقسمة (إسرائيل ويهوذا).
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/1.2/
عصر الآباء
تنتهي سلسلة نسب سام بن نوح، في سفر التكوين أول الأسفار التوراتية، إلى المدعو تارح أبي أبرام (أبو إبراهيم)، ومع تارح هذا تبدأ قصة الأصول التوراتية. لا يقدم الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين أية معلومات تفيد في رسم صورة شخصية واضحة للمدعو تارح، ومعرفة أي شيء عن حياته السابقة ومنبته ومهنته. ولا نعرف سوى أنه قد غادر منطقة أور الكلدانية متجهًا إلى أرض كنعان، وفي الطريق حطَّ الرحالَ في مدينة حران في أقصى الشمال السوري غربي الفرات الأعلى، ومعه ابنه أبرام وزوجة ابنه المدعوة ساراي، وحفيده لوط ابن ابنه هاران المتوفَّى. ولسبب لا يُفصِح عنه النص، أقام تارح مع جماعته في حران إلى أن وافته المنية وعمره مائتان وخمس سنين (تك، ١١: ٢٧–٣٢). ومرةً أخرى، لا نعرف ما الذي كان يمارسه تارح وجماعته من مهنة في حران، ولا يقدم لنا النص أية معلومات عن طبيعة حياتهم فيها، ولكننا نعرف من الإصحاح الثاني عشر أن أبرام ولوطًا قد غادرا حران بعد موت تارح ومعهما مقتنيات كثيرة وعبيد، لا ندري كيف حصلا عليها. يرجع أبرام إلى كنعان، ويقوم بزيارة المذبح الذي أقامه للرب بين بيت إيل وعاي، ومعه لوط أيضًا. وهناك يفترق الاثنان بسبب خصام وقع بين رعاة مواشيهما الكثيرة العدد، فيختار لوط دائرة شرقي الأردن، ويبقى أبرام في أرض كنعان. وبعد رحيل لوط يخاطب الرب أبرام مرة ثانية، وهو في هذه البقعة التي تتوسط منطقة الهضاب المركزية في فلسطين، ويأمره أن يُجيل البصر شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، لأنه يعطي هذه الأرض له ولنسله إلى الأبد. ثم يقفل أبرام عائدًا إلى مناطق إقامته في الجنوب، والتي يحددها النص الآن ببلوطات ممرا التي في حبرون (الخليل)، حيث يبني مذبحًا آخر هناك (تك، ١٣). وكان أبرام حتى ذلك الوقت عقيمًا بلا نسل. ونعرف من سياق النص أنه قد تبنى شابًّا اسمه أليعازر الدمشقي ليدير أملاكه ويرثها بعد موته، وَفق العادة المتبعة في ذلك الوقت. ولكن الرب يخاطبه للمرة الثالثة بعد عودته من الحرب ويعده بمولود من صلبه يرث أملاكه، ويقول له: «لا تخف يا أبرام. أنا تُرس لك، أجرك كثير جدًّا، فقال أبرام: أيها السيد الرب، ماذا تعطيني وأنا ماضٍ عقيمًا، ومالك بيتي هو أليعازر الدمشقي! … وهو ذا ابن بيتي وارث لي. فإذا كلام الرب إليه قائلًا: لا يرثك هذا، بل الذي يخرج من أحشائك هو الذي يرثك.» وفي هذا اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقًا وأبرم عهدًا، ومضمون هذا العهد أن يعبد أبرام وذريته هذا الإله مقابل إعطائهم الأرض، وتقديم الحماية والمساعدة لهم (تك، ١٥). وهذا النوع من العهود والمواثيق بين الجماعة وإلهها معروفٌ في أنحاء مختلفة من مناطق الشرق القديم. وبعد أن أقام أبرام عشر سنين في أرض كنعان، ويئست ساراي من الإنجاب، سألته أن يدخل على جاريتها المصرية هاجر، فحملت هاجر وولدت له إسماعيل، وكان عمر أبرام عند ذلك ستًّا وثمانين سنة. ولما صار أبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر له الرب مجددًا ووعده بتكثير نسله، وجدد معه العهد الذي أبرمه سابقًا. ولتثبيت هذا العهد وجعله حيًّا في الأذهان غيَّر الرب اسم أبرام وجعله إبراهيم، كما غير اسم زوجته ساراي لتصبح سارة. وفرض عليه الختان هو وولده وبقية عبيده. ثم بشره بغلام من سارة يدعوه إسحاق، يقيم عهده معه من دون إسماعيل، فسقط إبراهيم على وجهه وضحك، وقال في قلبه: هل يولد لابن مائة سنة! وهل تلد سارة وهي بنت تسعين! (تك، ١٧). في الإصحاح الثامن عشر الذي يلي مباشرة يطالعنا النص برواية مختلفة تمامًا عن البشارة بإسحاق، فبينما إبراهيم جالس في باب خيمته عند الظهيرة، وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فركض لاستقبالهم وسجد إلى الأرض، ولم يكن هؤلاء الثلاثة سوى الرب نفسه ومعه شخصيتان قدسيتان أُخريان. دعا إبراهيم ضيوفه للاتكاء في ظل الشجرة القريبة ريثما تجهز لهم سارة طعام الغداء. وبعد أن انتهى الثلاثة من طعامهم، وإبراهيم واقف لديهم تحت الشجرة، قال الرب لإبراهيم: أين سارة امرأتك؟ فأجابه: هي في الخيمة، فقال: إني أرجع إليك بعد الزمن اللازم لحملها ووضعها ولدًا من صلبك، فضحكت سارة من وراء الخباء في سرها قائلةً: هل يكون لي ولد وقد انقطعت عني عادة النساء، وزوجي قد شاخ! فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ في الموعد الذي حددته لك أرجع ويكون لسارة ابن، فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك، فقال الرب: لا بل ضحكت. ثم قام الضيوف للانصراف، وبينما إبراهيم يشيعهم أسرَّ له الرب بخطته لتدمير مدينتَيْ سدُّوم وعمورة في شرقي الأردن؛ لكثرة خطاياهما، فحاول إبراهيم عبثًا أن يَثنيه عما انتوى (تك، ١٨). ولما كان لوط ساكنًا في مدينة سدُّوم أو في جوارها، فقد استثناه الرب من القضاء الذي حُمَّ على المدينتين، وأمره أن يرحل مع زوجته وابنتيه قبل الموعد المضروب، وألا يلتفت أحدهم إلى الوراء ليرى دمار المدينة، وإلا تحوَّل إلى عمود ملح، ففعلوا. وبينما كان الرب يمطر على سدُّوم وعمورة كبريتًا ونارًا من السماء، التفتت زوجة لوط إلى الوراء، فصارت عمود ملح، أما لوط فقد لجأ مع ابنتيه إلى مغارة بعيدة في الجبل ونجا، ثم أقام في تلك المغارة بعد دمار المنطقة. وبعد مدة قالت إحدى البنتين لأختها: أبونا قد شاخ، وليس في الأرض من حولنا رجل ليدخل علينا كعادة بني الناس، هَلُمَّ نسقي أبانا خمرًا ونضطجع معه فنُحيي منه نسلًا. فسقتا أباهما خمرًا في تلك الليلة، ثم دخلت الكبرى فاضطجعت مع أبيها وهو لا يدري ما يفعل، وفي الليلة التالية فعلت الصغرى الشيء نفسه، وحملت ابنتا لوط من أبيهما. ثم ولدت الكبرى ابنًا دعته موآب، وهو أبو الشعب الموآبي، وولدت الصغرى ابنًا دعته عمون، وهو أبو الشعب العموني (تك، ١٩). وكما نعرف من الأحداث اللاحقة للروايات التوراتية فإن هذين الشعبين كانا من الأعداء التاريخيين لبني إسرائيل. بعد ذلك ينتقل إبراهيم من ممرا قرب حبرون إلى جرار الواقعة قرب غزة، وهنا تتكرر بحذافيرها قصة إبراهيم في مصر. نقرأ في النص: «وقال إبراهيم عن سارة امرأته: هي أختي. فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة. فجاء الله إلى أبيمالك في حلم الليل وقال له: ها أنت ميت من أجل المرأة التي أخذتها، فإنها متزوجة ببعل، فقال: ألم يقل لي: إنها أختي، وهي نفسها قالت: هو أخي! … فقال له الله في الحلم: … فالآن رد امرأة الرجل إليه، فإنه نبيٌّ، فيصلي لأجلك فتحيا.» فبكَّر أبيمالك في الصباح ورد سارة إلى إبراهيم، وأعطاه غنمًا وبقرًا وعبيدًا، وخيَّره أن يسكن في أي مكان من أراضيه (تك، ٢٠). أخيرًا حملت سارة وولدت لإبراهيم ابنًا في شيخوخته دعاه إسحاق. ثم خافت سارة من مزاحمة إسماعيل لابنها إسحاق في الميراث، فطلبت من إبراهيم أن يطرد هاجر وابنها. ولما تردد في تلبية هذا الطلب الغريب تدخل الرب واقفًا إلى جانب هاجر، وطمأن إبراهيم على مصير إسماعيل، وأكد له بأنه سيرعاه ويجعل منه أمة كبيرة. فبكَّر إبراهيم صباحًا، وأخذ خبزًا وقربة ماء وأعطاهما لهاجر وصرفها، فمضت وتاهت في برية بئر السبع. ولما نَفِد الماء من القربة، وأشرف الولد على الموت عطشًا، فتح الرب عيني هاجر فرأت نبع ماء قريب، فشربا وأقاما هناك في برية فاران بين بئر السبع وسيناء، حيث شبَّ إسماعيل وترعرع، واتخذ له زوجة مصرية. أما إبراهيم، فقد أقام فيما بين جرار وبئر السبع التي احتفر فيها بئرًا ما زالت قائمة هناك (تك، ٢١). وحدث بعد ذلك أن الرب أراد امتحان إبراهيم، فأمره أن يُصعِد ابنه إسحاق محرقةً على رأس الجبل، فبكَّر إبراهيم صباحًا ممتثلًا لأمر الرب، وصعد إلى الجبل وجهز حطبًا للمحرقة، وأخذ بيده النار والسكين، ولكن الرب ناداه من السماء: «إبراهيم، إبراهيم. فقال: ها أنا ذا. فقال: لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئًا، لأني الآن علمت أنك خائفٌ اللهَ فلم تمسك ابنك وحيدك عني. فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش مُمسَكًا في الغابة بقرنَيْه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضًا عن ابنه» (تك، ٢٢). عاد إبراهيم من جرار فأقام في حبرون حيث كان سابقًا، وهناك ماتت زوجته سارة وعمرها مائة وسبع وعشرون سنة. ولما كان إبراهيم حتى ذلك الوقت غريبًا في الأرض، ولا يملك مكانًا يدفن فيه ميته، فقد اشترى من بني حث المقيمين في المنطقة حقلًا دفن زوجته في مغارة عند طَرَفه. وقد صارت هذه المغارة فيما بعد مدفنًا لأسرة إبراهيم. وبعد ذلك شعر إبراهيم بالحاجة لرؤية أحفاد له من ولده إسحاق قبل مماته، فاستدعى أليعازر الدمشقي قيِّم بيته واستحلفه ألا يزوج إسحاق ببنت من الكنعانيين، بل أن يذهب إلى آرام النهرين إلى مدينة ناحور أخي إبراهيم ليخطب له من هناك فتاة من عشيرته ومن أهله. ففعل أليعازر، وانطلق بعشرة جمال وهدايا مهرًا للزوجة المقبلة. ولما وصل أطراف البلدة أناخ جماله عند بئر ماء، فرأى فتاة تستقي، فأسقته وقالت: اسقِ جمالك أيضًا. ولم تكن هذه الفتاة سوى رفقة بنت بتوئيل بن ناحور (أخي إبراهيم) التي دعته إلى ديار أبيها للمبيت، حيث استُقبل بحفاوة بالغة من قِبل أبيها بتوئيل وأخيها لابان، وعندما كشف أليعازر عن مقصده قوبل طلبه بالقبول، وارتضت رفقة أن تمضي معه في اليوم التالي لتغدو زوجة لإسحاق (تك، ٢٤). بعد أن رأينا إبراهيم في الإصحاح السابق شيخًا متقدمًا في الأيام ينتظر منيته، يطالعنا في الإصحاح ٢٥ رجلًا في تمام الصحة والعافية، قادرًا على الزواج والإنجاب وعمره مائة وأربعون سنة، وهو الذي عجب سابقًا من بشارة ربه له بإسحاق قائلًا: «هل يولد لابن مائة سنة! وهل تلد سارة وهي بنت تسعين!» يأخذ إبراهيم زوجة جديدة اسمها قطورة، فتلد له زمران ويقشان ومدان ومديان ويشبان وشوحا. ويأتي لولده يقشان: شبا وددان. ونلاحظ من سلسلة النسب المتحدرة من قطورة أن الأسماء الواردة فيها هي أسماء لقبائل كانت تتحرك في المساحات الواقعة بين البادية السورية وشمال الجزيرة العربية خلال الألف الأول قبل الميلاد، مثل مديان حول خليج العقبة، وشبا أو سبأ وددان، وهم من قبائل العرب الواردين في السجلات الآشورية. غير أن هذه الفروع في شجرة عائلة إبراهيم — شأنها شأن فرعه من إسماعيل — هي فروع ثانوية، أما الخط الرئيسي في الشجرة، والمعترف به من قِبل الرب، فيستمر عبر إسحاق بِكر إبراهيم من سارة، والذي يقيم الرب معه العهد ومع ذريته من بعده. ثم مات إبراهيم وعمره مائة وخمس وسبعون سنة، بعد أن أعطى لإسحاق في حياته كل أمواله وممتلكاته، ودُفن في مغارة المكفيلة قرب سارة. بعد عشرين سنة من زواجها بإسحاق، تحمل رفقة توءمين يتزاحمان في بطنها «فمضت لتسأل الرب، فقال لها الرب: في بطنك أَمَتان، ومن أحشائك يفترق شعبان؛ شعب يقوى على شعب، وكبير يُستعبَد لصغير.» وفي هذا القول إشارة إلى عيسو الابن الأكبر لإسحاق، الذي صار أبًا للشعب الآدومي الذي سكن جنوب البحر الميت نحو خليج العقبة، ويعقوب الابن الأصغر الذي أنجب الأسباط الاثني عشر، ونبوءة بخضوع آدوم لإسرائيل. فلما كمَّلت رفقة أيامها لتلد، خرج الأول من رحمها أحمر اللون، كله فروة شعر، فدعَوْه عيسو، وبعد ذلك خرج أخوه ويده قابضة بعقب عيسو، فدُعي اسمه يعقوب. وكان إسحاق يحب عيسو، أما رفقة فكانت تفضل يعقوب. وحدث بعد أن كَبِر الأخوان أن عيسو الذي كان صيادًا عاد من الصحراء وهو متعب وجائع، فوجد يعقوب الذي لم يكن يغادر الخيام يطبخ عدسًا، فطلب إليه أن يطعمه من طبيخه، فأبى يعقوب، وطلب لقاء طبيخه ثمنًا غاليًا هو كل الحقوق المتعلقة بالابن الأكبر في العائلة، فوافق عيسو على الصفقة مستخفًّا بالبكورية (تك، ٢٥). يجدد الرب مع إسحاق العهد الذي قطعه مع إبراهيم، ويأمره أن يمضي إلى جرار في الجنوب بسبب المجاعة في الأرض. وفي جرار يقول إسحاق عن رفقة زوجته إنها أخته؛ كي لا يُقتل بسببها، كما فعل أبوه إبراهيم سابقًا. ولكن ملك جرار، الذي يُدعى هنا أبيمالك أيضًا، اكتشف كذبته قائلًا: «ما هذا الذي صنعتَ بنا! لولا قليل لاضطجع أحد الشعب مع امرأتك فجلبت علينا ذنبًا. فأوصى أبيمالك جميع الشعب قائلًا: الذي يمس هذا الرجل أو امرأته يموت …» بعد ذلك يلتفت إسحاق إلى الزراعة فتكثر غلاله، ويتعاظم رزقه إلى درجة تثير غيرة الملك، فيطلب منه مغادرة المدينة، فأقام في وادي جرار (تك، ٢٦). وحدث لما شاخ إسحاق وكَلَّت عيناه عن النظر أنه دعا عيسو ابنه الأكبر ليباركه، ولكن رفقة دفعت إليه بيعقوب بدلًا من عيسو، ووضعت على ساعده فروة جدي لتصبح مشعرة كساعد عيسو، فباركه إسحاق وهو غافل عن خدعة زوجته. وعندما حضر عيسو للحصول على البركة من أبيه يكتشف الاثنان خدعة رفقة ويعقوب، ويصرخ عيسو: «باركني أنا أيضًا يا أبي، فقال: قد جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك. فقال: ألا إن اسمه دُعي يعقوب، قد تعقبني الآن مرتين؛ أخذ بكوريتي، وهو ذا الآن قد أخذ بركتي. ثم قال: أما بقيت لي بركة؟ فأجاب إسحاق وقال لعيسو: إني قد جعلته سيدًا لك، ودفعت إليه جميع إخوته عبيدًا، وعضدته بحنطة وخمر، فماذا أصنع إليك يا ابني!» فحقد عيسو على يعقوب وطلب قتله، فهرب يعقوب من وجه أخيه، ولكن إسحاق نصحه بالسفر إلى خاله لابان في حران بآرام النهرين، والإقامة عنده حتى يرتد غضب أخيه عنه، وأن يتزوج هناك إحدى بنات خاله (تك، ٢٧). يشد يعقوب الرحال إلى حران، وبينما هو في موقع بيت إيل يظهر له الرب في الحلم، ويجدد معه عهد إبراهيم وإسحاق قائلًا: «أنا الرب، إله إبراهيم أبيك وإله إسحاق. الأرض التي أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسلك …» وعندما يصل أطراف حران يتوقف عند بئر ليستقي، وهناك يلتقي بابنة خاله راحيل، التي وردت البئر لتسقي غنمها، فيتعارفان وتقوده إلى البيت، حيث يستقبله لابان أحسن استقبال، فيقيم عنده شهرًا يرعى له الغنم. ثم قال لابان ليعقوب: «ألأنك أخي تخدمني مجانًا! أخبرني ما أجرتك؟ وكان للابان ابنتان؛ اسم الكبرى ليئة، واسم الصغرى راحيل. وكانت عينا ليئة ضعيفتين، أما راحيل فكانت حسنة الصورة وحسنة المنظر. وأحب يعقوب راحيل فقال: أخدمك سبع سنين براحيل ابنتك الصغرى …» فوافق لابان على الصفقة، ولبث يعقوب في خدمة خاله سبع سنين آملًا في الزواج براحيل. وفي تمام المدة طلب امرأته، ولكن لابان جاء إليه في ليلة الزفاف بابنته الكبرى ليئة، فدخل عليها يعقوب دون أن يعرف. وعندما اكتشف الخديعة في الصباح ولام خاله على ما فعل؛ وَعَده بالصغرى إن عمل سبع سنوات أخرى لقاء مهرها، فقبل يعقوب وتزوج راحيل بعد أربع عشرة سنة من إقامته في ديار خاله (تك، ٢٨–٢٩). وبعد أن كَبِر أولاد يعقوب، وكثرت أمواله ومواشيه قرر العودة إلى ديار أبيه، فحمل زوجتيه وأولاده الأحد عشر وكل مقتنياته وسار يطلب أرض كنعان، ومعه هدية مغرية لأخيه عيسو يسترضيه بها (تك، ٣٠–٣١). وفي مكان اسمه مخاضة يبوق ظهر له إنسان وصارعه حتى طلوع الفجر حين تمكن يعقوب من خصمه. ولم يكن هذا الخصم سوى يهوه نفسه. فقال له: «أطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني، فقال: ما اسمك؟ فقال: يعقوب، فقال: لا يُدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل إسرائيل؛ لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال: أخبرني باسمك، فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك. فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل قائلًا: لأني نظرت الله وجهًا لوجه ونُجِّيت نفسي» (تك، ٣٢: ٢٢–٣٠). في الطريق إلى حبرون، التي يقيم فيها إسحاق، يخرج عيسو للقاء يعقوب، ويتصالح الأخوان، ثم يتابع يعقوب طريقه «وجاء يعقوب إلى إسحاق أبيه إلى ممرا، قرية أربع، التي هي حبرون، حيث تغرَّب إبراهيم وإسحاق، وكانت أيام إسحاق مائة وثمانين سنة، فأسلم إسحاق روحه ومات، ودفنه عيسو ويعقوب ابناه … وسكن يعقوب في أرض غربة أبيه» (تك، ٣٣–٣٧). وقد أحب يعقوب ابنه يوسف أكثر من سائر بنيه؛ لأنه كان ابن شيخوخته «فصنع له قميصًا ملونًا. فلما رأى إخوته أن أباهم أحبه أكثر من جميع إخوته أبغضوه، ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام …» ومما زاد في بغضهم له أنه كان يقص أحلامًا يراها، تتنبأ له بعلو المكانة بين إخوته وتفوقه عليهم، ومنها الحلم الذي قال فيه: «إني قد حلمت حلمًا أيضًا، وإذا الشمس والقمر وأحد عشر كوكبًا ساجدة لي. وقصَّه على أبيه وعلى إخوته، فانتهره أبوه وقال له: ما هذا الحلم الذي حلمتَ؟ هل نأتي أنا وأمك وإخوتك لنسجد لك إلى الأرض؟ فحسده إخوته، أما أبوه فكتم الأمر.» وفي إحدى المرات، وبينما كان إخوة يوسف يرعَوْن الغنم في مكان بعيد، أرسله أبوه وراءهم ليستطلع أحوالهم وأحوال القطيع، فلما رَأَوه قادمًا من بعيد قال بعضهم لبعض: هو ذا صاحب الأحلام قادم، هلموا نقتله فنرى ماذا تكون أحلامه. ولكنهم بعد مداولة في الأمر قرروا إلقاءه في بئر قريبة جافة، وتَرْكه هناك لمصيره. وبعد تنفيذ مؤامرتهم عادوا إلى أبيهم ومعهم قميص يوسف الملون وعليه دم تيس ذبحوه عند البئر، وقالوا: إن وحشًا رديئًا قد افترسه، فبكى يعقوب على ابنه أيامًا كثيرة وبقي في حداد دائم. وأما يوسف فقد انتشله من البئر تجار في قافلة متجهة إلى مصر، فاسترقوه وباعوه لدى وصولهم إلى فوطيفار رئيس الشُّرَط لدى فرعون (تك، ٣٧). نال يوسف حُظوة في عينَيْ مولاه فجعله قيِّمًا على بيته وشئونه الخاصة. ولكن زوجة فوطيفار مالت إلى يوسف، وعرضت عليه الوصال فأبى وفاءً لسيده، فاتهمته بأنه راودها عن نفسها، فألقاه فوطيفار في السجن. قضى يوسف في السجن فترة طويلة عُرف خلالها بالخلق الرفيع والسلوك الحسن، كما اشتَهَر في السجن بتفسيره للأحلام. وحدث بعد سنين أن الفرعون رأى حلمًا أقضَّ مضجعه، فدعا جميع الحكماء لتفسير حلمه ولكنهم عجزوا. وكان رئيس سقاة الفرعون سجينًا مع يوسف لفترة قصيرة، فتذكر حُسن تفسيره للأحلام، وذكره عند فرعون فجاءوا به. فسَّر يوسف للفرعون الحلم وقال له بأن البلاد ستنعم بسبع سنين من الخصب والرخاء، تتلوها سبع سنين من القحط والجفاف. وأشار على الملك بأن يجعل على الأرض قيِّمًا يخزن خُمس الغلة في كل سنة من سنوات الوفرة، يكون ذخرًا لسنوات الجوع. حَسُن كلام يوسف عند الفرعون وأحب صاحبه، فأوكله بالمَهمة وأعطاه سلطات واسعة لتنفيذها على الوجه الأكمل. جاءت سنوات القحط الذي طال أيضًا بلاد كنعان، فأرسل يعقوب أولاده العشرة إلى مصر لشراء القمح منها، وأبقى عنده أصغرهم بنيامين. فجاء الإخوة إلى يوسف الذي كان يشرف بنفسه على توزيع القمح، وسجدوا بين يديه، فعرفهم يوسف ولم يعرفوه. وقال لهم يوسف: من أين جئتم؟ فقالوا: من أرض كنعان لنشتري طعامًا، فقال: بل أنتم جواسيس جئتم لترَوْا عورة الأرض، فقالوا: عبيدك نحن، إننا اثنا عشر أخًا بنو رجل واحد، تركنا الصغير عند أبينا، والواحد مفقود، فقال: وحياةِ فرعون لا تخرجون من هنا إلا بمجيء أخيكم الصغير إليَّ، فأمتحن صدقكم، وسأُبقي واحدًا منكم رهينة لديَّ. فبقي شمعون مقيدًا بالأغلال وعاد التسعة إلى أبيهم. وتنتهي القصة بأن يكشف يوسف عن هويته أمام إخوته الأحد عشر لدى عودتهم، ويسامحهم ويطلب منهم أن يأتوا بأبيهم وأولادهم ونسائهم للإقامة في مصر، فقَدِموا إليه وعددهم سبعون، فأكرمهم وأسكنهم في أرض جاسان، التي نستنتج من مواضع أخرى في النص التوراتي أنها الدلتا الشرقية، فتملَّكوا فيها وتكاثروا. ومات يعقوب في أرض مصر وعمره مائة وسبع وأربعون سنة (تك، ٣٨–٤٧). هذه هي الخطوط العامة لعصر الآباء، الذي يدعوه معظم الباحثين بما قبل تاريخ الشعب الإسرائيلي، وذلك لبُعده زمنيًّا، وانقطاعه عن البدايات التاريخية لبني إسرائيل، والتي يراها البعض في دخول الخارجين من مصر أرض كنعان، والبعض الآخر في تشكيل المملكة الموحدة. وسوف ننتقل الآن إلى النقد النصي والتاريخي والأركيولوجي لروايات سفر التكوين، لنعرف الموقع الحقيقي لعصر الآباء. يظهر في سفر التكوين، وأكثر من أي مكان في التوراة، الطابع المميِّز لعمل المحررين التوراتيين، والذي وصفناه بأسلوب الجمع التراثي. فهؤلاء كانوا جَمَعَةَ تراثٍ لا مؤرخين، وإن أي دارس مبتدئ لعلم التاريخ يكتشف من القراءة الأولى لسفر التكوين أن ما يرويه لنا من قصص لا يمكن تصنيفه في زمرة الأخبار التاريخية بأي معيار من المعايير، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون. فلقد عمل المحررون هنا على جمع قصص متعددة النشأة والأصول، وقاموا بربطها إلى بعضها ربطًا غير مُحكَم، أبقى على استقلالية واضحة لكل منها، وعلى تناقض بيِّن في أحداثها. ويبدو أن المحرر نفسه كان مدركًا للتناقض فيما يورده من أحداث، وأنه قد أبقى على هذه التناقضات مدفوعًا برغبته في تسجيل التنويعات كلها التي وصلت إليه للقصة الواحدة، دون محاولة جدية من قِبله لإحلال الانسجام فيما بينها، منساقًا وراء العقدة القصصية، غافلًا عن عنصر التحقيق والتدقيق، الذي يميز جنس الكتابة التاريخية. والأمثلة على ذلك كثيرة، نورد فيما يلي بعضًا منها. في الإصحاح ١٢ تدور العقدة القصصية حول أخذ فرعون مصر لساراي والدخول عليها، والإغداق على إبراهيم بسببها (١٢: ١٤–٢٠)، وذلك دون الأخذ بالحِسبان أن المحرر نفسه كان قد قال لنا إن إبراهيم كان في سن الخامسة والسبعين عندما هاجر إلى أرض كنعان (١٢: ٤)، وبالتالي فإن سارة كانت في سن الخامسة والستين، لأن الفارق في العمر بينهما هو عشر سنوات (تك، ١٧: ١٧). أما قصة إبراهيم وسارة في جرار، عندما قال إبراهيم عن سارة إنها أخته، فضمها أبيمالك ملك جرار إلى بيته (تك، ٢٠)، فتبدو محشورة حشرًا، ودون جهد تحريري، بين قصة بشارة الرب للزوجين المسنين بغلام اسمه إسحاق (تك، ١٨)، وقصة ولادة سارة لإسحاق وتحقيق البشارة. فعند بشارة الرب كان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة، وزوجته ابنة تسع وثمانين، ولما ولد لهما إسحاق كان إبراهيم ابن مائة سنة، وسارة ابنة تسعين سنة. ولما كانت قصة سارة مع أبيمالك ملك جرار قد جاءت بين قصة البشارة وقصة الولادة، فهذا يعني أن سارة لم تكن فقط امرأة عجوزًا في التسعين عندما همَّ الملك بالدخول عليها، بل أنها كانت حاملة بإسحاق أيضًا. وهنا لا نستطيع إلا أن نَعجب من إبقاء المحرر التوراتي على هذا التناقض، ونتساءل عما إذا كان النص التوراتي قد أُعد أصلًا للقراءة، أم كمخطوط ينتظر عملية تنقيحية لم تتم حتى الآن. وقصة إبراهيم وسارة مع ملك مدينة جرار، عندما قال إبراهيم عن سارة إنها أخته، تتكرر مع إسحاق ورفقة عندما وفد إسحاق على ملك جرار وقال عن رفقة إنها أخته. ونلاحظ في القصتين أن اسم ملك جرار هو أبيمالك، واسم رئيس جيشه هو فيكول، وذلك رغم الفارق الزمني بين الحدثين، والذي يزيد عن الستين عامًا. الأمر الذي يدل على أننا أمام قصة واحدة عُزيت مرةً إلى إبراهيم ومرةً أخرى إلى إسحاق. فإلى جانب التشابه العام في بنية الحدثين، وتشابه الشخصيات والأماكن، فإن المحرر يَعمِد إلى التكرار الحرفي لبعض التفاصيل، وخصوصًا فيما يتعلق بالعهد الذي قطعه أبيمالك وإبراهيم لبعضهما، ثم قطعه بعد ذلك أبيمالك وإسحاق. وفيما يلي أقدم النصين للمقارنة: نقرأ في الإصحاح ٢٦: ٢٦–٣٠ ما يلي: «وذهب إليه من جرار أبيمالك وجماعة من أصحابه، وفيكول رئيس جيشه، فقال لهم إسحاق: ما بالكم أتيتم إليَّ وأنتم قد أبغضتموني وصرفتموني من عندكم! فقالوا له: إننا قد رأينا أن الرب كان معك، فقلنا ليكن بيننا حَلف ونقطع معك عهدًا ألا تصنع بنا شرًّا، كما لم نمسَّك وكما لم نصنع بك إلا خيرًا وصرفناك بسلام، أنت الآن مبارك الرب. فصنع لهم ضيافة، فأكلوا وشربوا، ثم بكَّروا في الغد وحلفوا بعضهم لبعض.» وفي الإصحاح ٢١: ٢٢–٢٤ نقرأ: «وحدث في ذلك الزمان أن أبيمالك وفيكول رئيس جيشه كَلَّما إبراهيم قائلين: الله معك في كل ما أنت صانع، فالآن احلف لي بالله هنا أنك لا تغدر بي ولا بنسلي ولا بذريتي. كالمعروف الذي صنعته إليك تصنع إليَّ وإلى الأرض التي تغربت فيها. فقال إبراهيم: أحلف. فأخذ إبراهيم غنمًا وبقرًا وأعطى أبيمالك، فقطعا كلاهما ميثاقًا.» وفيما يتعلق بحادثة تغيير اسم يعقوب من قِبل الرب إلى إسرائيل، لدينا روايتان مختلفتان؛ ففي الإصحاح ٣٢ من سفر التكوين يغيِّر الرب اسم يعقوب بعد أن يدخل معه في صراع عند مخاضة يبوق. أما في الإصحاح ٣٥ فتوضع هذه الحادثة بعد إقامة يعقوب لمذبح للرب في بيت إيل، وذلك بعد الصراع في يبوق بزمن لا بأس به: «فأتى يعقوب إلى لوز التي في أرض كنعان هو وجميع القوم الذين معه، وبنى هناك مذبحًا، ودعا المكان إيل بيت إيل … وظهر الله ليعقوب أيضًا حين جاء من فدان آرام وباركه، وقال له الله: اسمك يعقوب، لا يُدعى اسمك يعقوب فيما بعد، بل يكون اسمك إسرائيل …» (تك، ٣٥: ٦–١٠). وبخصوص إقامة يعقوب للمذبح في لوز، وتسمية المكان بيت إيل، لدينا ثلاث روايات متباينة، ويمكن بهذا الخصوص مراجعة المواضع الآتية من سفر التكوين: تك، ٣٥: ١–١٠، تك، ٢٨: ١٦–٢٢، تك، ٣٥: ١٣–١٥. ولدينا تنويعان على قصة إلقاء يوسف في البئر، وانتشال التجار له وسَوقه إلى مصر، موضوعان جنبًا إلى جنب، وكأن المحرر تركهما على هذه الحالة ليقرر فيما بعد أي التنويعين يختار. ففي المرة الأولى يلقي الإخوة بيوسف إلى البئر، ثم يجلسون لتناول الطعام، وإذا قافلة تجار إسماعيليين مقبلة، فيقترح أحد الإخوة، وهو يهوذا، أن ينتشلوه ويبيعوه للإسماعيليين، فيوافق الجميع ويباع يوسف لهم. وبعد ذلك مباشرة يأتي المحرر بالرواية الثانية، فالإخوة لم يبيعوا يوسف، بل تركوه في البئر ومضَوْا، وعندما مر رجال مديانيون تجار انتشلوا يوسف وباعوه للإسماعيليين الذين أتَوْا به إلى مصر. وإليكم الطريقة التي نُسجت بواسطتها الروايتان: «فكان لما جاء يوسف إلى إخوته أنهم خلعوا عن يوسف قميصه الملون الذي عليه، وأخذوه وطرحوه في البئر. وأما البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء. ثم جلسوا ليأكلوا طعامًا. فرفعوا عيونهم وإذا قافلة إسماعيليين مقبلة من جلعاد، وجمالهم حاملة … فقال يهوذا لإخوته: ما الفائدة أن نقتل أخانا ونخفي دمه؟ تعالَوْا نبيعه للإسماعيليين، ولا تكن أيدينا عليه؛ لأنه أخونا ولحمنا، فسمع له إخوته. واجتاز رجال مديانيون تجار، فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر، وباعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة، فأتَوْا بيوسف إلى مصر …» (التكوين، ٣٧: ٢٥–٢٩). ومن ناحية أخرى، فإن ذكر الإسماعيليين والمديانيين في هذا الجزء من قصة يوسف لا يتناسب ومعطياتِ سلسلة الأنساب التي رسمها سفر التكوين لإبراهيم وأولاده. فمن المفروض أن الإسماعيليين هم أبناء إسماعيل بن إبراهيم من هاجر المصرية، والمديانيون هم أولاد مديان أحد أولاد إبراهيم من آخر زوجاته قطورة، وإذا أخذنا الزمن المنطقي الفاصل بين عصر إسماعيل ومديان ابنَيْ إبراهيم، وعصر يعقوب ويوسف لقلنا إن الإسماعيليين والمديانيين لم يكونوا قد تشكلوا كشعبين بعدُ خلال الفترة التي جرت خلالها قصة يوسف. ولا يوجد تفسير لهذا التناقض سوى أن قصة يوسف قد أُدمجت في نهاية عصر الآباء دون مجهود تحريري يضعها في اتساق مع ما سبقها. وفي التفاصيل الصغيرة لقصص الآباء لدينا الكثير من التناقضات التي لا نستطيع الإتيان على ذكرها جميعًا. ومثالها ذلك التفصيل الصغير من قصة يوسف أيضًا، فعندما يتهم يوسف إخوته بالتجسس، ويطلب منهم العودة إلى كنعان وجَلْب أخيهم الأصغر بنيامين، يعطي أوامره ببيع القمح إلى العائدين، ولكنه يعيد الفضة التي دفعوها إلى أكياس قمحهم دون علم منهم. وبينما هم في الطريق فتح أحدهم كيسه ليعطي عُلَّيقًا لحماره، فرأى فضته في كيسه فأخبر إخوته، فارتعدوا خوفًا لئلا يظن يوسف بأنهم قد سرقوا فضتهم بعد شراء القمح (تك، ٤٢: ٢٥–٢٨). ولكننا في المقطع التالي مباشرة نجد أن الإخوة لم يعلموا بوجود فضتهم في أكياسهم في الطريق، بل لدى وصولهم ديارَهم: «فجاءوا إلى يعقوب أبيهم في أرض كنعان وأخبروه بكل ما أصابهم … وإذ كانوا يُفرغون عِدالَهم، إذا صُرة فضة كل واحد منهم في عِدله، فلما رأَوْا صُرَر فضتهم، هم وأبوهم خافوا …» (تك، ٤٢: ٢٩–٣٤). ضمن هذه السلسلة غير المترابطة من روايات الآباء يمكن — ببعض التمحيص — اكتشاف المفاصل الرئيسية التي تم عندها جمع تقاليد مستقلة من حيث الأصل إلى تقليد واحد. فالتقاليد المتعلقة بأبرام قد التقت مع التقاليد المتعلقة بإبراهيم، تحت ذريعة أن الرب قد أمر أبرام بتغيير اسمه إلى إبراهيم. والتقت كذلك التقاليد المتعلقة بيعقوب مع التقاليد المتعلقة بإسرائيل، تحت ذريعة أن الرب قد غيَّر اسم يعقوب إلى إسرائيل. ثم حُشرت التقاليد المتعلقة بإسحاق بين هذه وتلك. ولعل أكثر هذه التقاليد غرابة من البقية تلك المتعلقة بيوسف، فهذه القصة عن الشاب الآسيوي الطموح الذي يصل إلى مرتبة عالية في البلاط المصري قد أُدمجت في نهاية سلسلة تقاليد الآباء من أجل الربط بين عصر الآباء في كنعان، وتلك الجماعة التي خرجت من مصر بعد أربعمائة سنة من العبودية تَلَت موت يوسف. أما الرؤية الأيديولوجية لأحداث روايات الآباء، والتي أراد المحررون من خلالها إحداث نوع من الانسجام بين تقاليد الآباء نفسها من جهة، وبين هذه التقاليد وبقية التقاليد الرئيسية في الكتاب، فتظهر كشأن مُقحَم على الشكل الأصلي للقصص، وتُبدي مرونة عالية في فرض نفسها على الحدث. وهذه الرؤية الأيديولوجية ذات شقين؛ شق عرقي وشق ديني، تتبدى الأيديولوجية العرقية في محاولة رسم خط نسب رئيسي نبيل يوصل إلى الأسباط الاثني عشر لإسرائيل، وخطوط نسب فرعية توصل إلى بقية الشعوب التي احتك بها الإسرائيليون خلال الفترات التاريخية المتأخرة، والقريبة زمنيًّا من عصر تدوين الأسفار التوراتية. فمن جارية إبراهيم المصرية يولد إسماعيل، وهو أبو القبائل الإسماعيلية التي نعرفها من النصوص الآشورية للألف الأول قبل الميلاد، مثل نبايوت (الأنباط فيما بعد) وقيدار وتيما. ومن عيسو المنبوذ، الذي خسر بركة أبيه، يولد آدوم وعماليق. ومن بنتَيْ لوط اللتين حملتا سفاحًا من أبيهما يتسلسل المؤابيون والعمونيون. وبهذه الطريقة يجعل سفر التكوين من الخصوم التاريخيين لبني إسرائيل أحفادًا للجواري والملعونين في الأرض وأولاد الزنا. وفيما يتعلق بالأيديولوجيا الدينية، فإنها تظهر كمحاولة غير ناجحة أو غير جادة لإسقاط المعتقد التوحيدي، الذي لم يَنضَج في فلسطين إلا إبان العصر الفارسي المتأخر على هذه المرحلة المبكرة بأجوائها الوثنية التي لا تُخفي نفسها. فالإله الواحد — الذي بشَّر به كهنوت يهوذا بعد السبي البابلي على لسان الأنبياء من أمثال إرميا وإشعيا — هو الإله الواحد الذي بشَّر به موسى بين بني إسرائيل في مصر، وهو الذي خاطب إبراهيم أول مرة في حاران وأقام معه العهد ومع أولاده بعده. غير أن الكثير من تفاصيل قصص سفر التكوين، التي تُركت على حالها دون تدخل من المحرر، قد أحبطت مشروع الإسقاط هذا، وتُركت روايات الآباء تسبح في الأجواء الوثنية للقصص القديمة التي تم جمعها من الماضي. فالاسم «إيل» يُستخدم في العديد من المواضع في الإشارة إلى إله الآباء. من ذلك مثلًا ما يرد على لسان هاجر في الإصحاح ١٦: ١٣، وعلى لسان يعقوب في الإصحاح ٢٨: ١٦–١٩. والإله إيل، كما هو معروف تمامًا اليوم، كان إله السماء عند الكنعانيين، ورئيسًا لمجمع الآلهة في أوغاريت. ورغم إعلان الرب عن نفسه لإبراهيم وبنيه من بعده على أنه الإله الواحد القدير، وإبرام العهد معهم على عبادته وحده، فإن صور وتماثيل الآلهة الوثنية لم تغادر بيوت الآباء. فهذه راحيل تسرق أصنام أبيها عندما غادرت حاران مع زوجها، وعندما يلحق بهما الأب لابان ويدركهما في الطريق، يدخل خباء راحيل بحثًا عن آلهته. وهنا نقرأ في التكوين، ٣١: ٣٤ «وكانت راحيل قد أخذت الأصنام ووضعتها في حِداجة الجمل وجلست عليها، فجسَّ لابان كل الخباء ولم يجد، وقالت لأبيها: لا يَغتظْ سيدي، إني لا أستطيع أن أقوم أمامك لأن عليَّ عادة النساء. ففتشَ ولم يجد الأصنام …» وهذه الأصنام تبقى في بيت يعقوب — مع غيرها من أصنام آلهة القوم — موضع عناية وتقديس، على ما نفهم من الإصحاح ٣٥: ١–٢ حيث نقرأ: «ثم قال الله ليعقوب: قم اصعد إلى بيت إيل، وأقم هناك واصنع مذبحًا لله الذي ظهر لك حين هربت من وجه عيسو أخيك، فقال يعقوب لبيته ولكل من كان معه: اعزلوا الآلهة الغريبة من بينكم، وتطهروا وأبدلوا ثيابكم …» إلا أن هذه الآلهة لم تختفِ من بيوت الشخصيات الروحية والقيادية الرئيسية في الرواية التوراتية. وسنرى فيما بعد أن أصنام الآلهة كانت موجودة في بيت الملك داود بعد ذلك بعدة قرون. إن صورة الإله يهوه، كما تقدمها المعتقدات التوراتية المتأخرة، هي صورة إله مجرد ومُنزَّه، لا يتسع له مكان ولا تدركه الأبصار. وعلى حد قول إشعيا: «… هكذا قال الرب، السماء كرسيِّي والأرض موطئ قدميَّ. أين البيت الذي تبنون لي وأين مكان راحتي وكل هذه صنعتْها يدي!» (إشعيا، ٦٦: ١–٢). ولكن شخصيات عصر الآباء كانت تستمع لصوت الرب مباشرة أو تراه في المنام، وفي بعض الأحيان رؤيةَ العين المجردة، وتتحدث معه وتتمشى أمام الخباء، الأمر الذي يذكرنا بأجواء أساطير وملاحم أوغاريت. فيعقوب قد دخل في صراع جدي مع يهوه عند مخاضة يبوق كما قدمنا سابقًا، وإبراهيم يُفاجأ بزيارة يهوه مع اثنين من حاشيته في وضح النهار. ويبدو أن مشهد الزيارة الإلهية في القصة الأصلية كان يتضمن زيارة ثلاثة آلهة كنعانية، ومثل هذه الزيارات الإلهية لشخصيات دنيوية بارزة معروفة في أدبيات الشرق القديم. وقد عثرتُ على مشابهة واضحة بين قصة زيارة يهوه لإبراهيم وبشارته له بغلام، وبين ملحمة دانيال الأوغاريتية، مما سأعرض له بسرعة فيما يلي. أما في القصة التوراتية عن الزيارة الإلهية فنقرأ: «وظهر له الرب عند بلوطات ممرا، وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار، فرفع عينيه ونظر، وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض وقال: يا سيد، إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك، ليؤخذْ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة، فآخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون، لأنكم قد مررتم على عبدكم. فقالوا: هكذا نفعل كما تكلمت. فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: أسرعي بثلاث كيلاتٍ دقيقًا سَميذًا، اعجني واصنعي خبز مَلَّة. ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلًا رَخصًا وجيدًا وأعطاه للغلام، فأسرع ليعمله، ثم أخذ زبدًا ولبنًا والعجل الذي عمله ووضعها قدامهم. وإذ كان هو واقفًا لديهم تحت الشجرة أكلوا، وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في الخيمة، فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن …» (تك، ١٨: ١–١٠). تتفق القصتان في العناصر المكوِّنة لهما جميعها، وهي: الرجل الصالح العقيم، الصلاة والتضرع من أجل الإنجاب، الوعد الإلهي بالإنجاب، الزيارة الإلهية، الوليمة. ولكن مع اختلاف بسيط في ترتيب الأحداث. ففي القصة الأوغاريتية تأتي الزيارة الإلهية بعد الوعد والإنجاب، أما في القصة التوراتية فإن الزيارة تسبق الوعد والإنجاب. ومن الناحية البنائية، فإن القصتين متطابقتان إلى حد مثير للدهشة على ما أبينه في التحليل البنائي التالي المتعلق بمشهد الزيارة: وباختصار، فإن المنظور الأيديولوجي الذي فُرض على روايات الآباء من أجل إيجاد صلة عضوية بينها وبين بقية فصول القصة التوراتية قد أخفق في مَهمته، وبقيت قصص الآباء تسبح في مناخها الثقافي القديم السابق على فترة التحرير والتدوين. وفيما يتعلق بأسماء الأماكن والمدن الواردة في سفر التكوين، فإنها لا تساعد بدورها على رسم إطار تاريخي واضح لروايات الآباء. فبعض المدن غير موثَّق على الإطلاق خارج النص التوراتي، مثل مدينتَيْ سدُّوم وعمورة. أما المدن الموثَّقة والمعروفة لنا تاريخيًّا، فمعظمها يشير إلى تاريخ لاحق لأحداث سفر التكوين لا يتجاوز بكثير الألف الأول قبل الميلاد. فمدينة أور مسقط رأس إبراهيم موثَّقة لدينا تاريخيًّا وأركيولوجيًّا منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، وقد استمرت قائمةً حتى العصر الآشوري والبابلي الجديد (الكلداني) في الألف الأول قبل الميلاد، إلا أن وصف النص لها بأور الكلدان يشير إلى أواسط الألف الأول قبل الميلاد، عندما أسس الكلدانيون (وهم فرع آرامي من سوريا) الإمبراطوريةَ البابلية الجديدة. وفيما يتعلق بمدينة حران (أو حاران) فإنها لم تزدهر قبل العصر الآرامي خلال أواخر الألف الثاني ومطلع الألف الأول قبل الميلاد. أما بئر السبع، المقر الرئيسي لإبراهيم ويعقوب أيضًا، فإن المنقبين فيها لم يعثروا على دلائل سكنية تتجاوز الألف الأول قبل الميلاد. أما انعدام البينات التاريخية والآثارية المباشرة على وجود عصر الآباء، لجأ الباحثون المحافظون إلى اتباع منهجية خاصة تعتمد الطرق غير المباشرة في التحقق من تاريخية عصر الآباء. ويمثل هذا الاتجاهَ مدرسةُ أولبرايت، التي تعتمد بشكل رئيسي على الأركيولوجيا، وما أفاضت به من نصوص جديدة، عززت معرفتنا بأحوال ثقافة عصر البرونز الوسيط. تؤمن مدرسة أولبرايت، من حيث المبدأ، بالقيمة التاريخية لروايات الآباء، وتعتقد بأنها قد صيغت بشكلها الذي وصل إلينا في زمن لا يتجاوز زمن المملكة الموحدة، أي النصف الأول من القرن العاشر قبل الميلاد، وأن واضعيها قد اعتمدوا تقاليد وصلت إليهم من العصور الأقدم. فعصر الآباء، والحالة هذه، عصر تاريخي، ويمكن التأكد من تاريخيته بعدد من الوسائل غير المباشرة. وفيما يتعلق بأسماء العلم الواردة في سفر التكوين، وخصوصًا أسماء الآباء، فإن أولبرايت يرى أن لبعضها صلة بالأسماء الآمورية الواردة في الوثائق الكتابية التي تعود إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، مثل اسم إبراهيم واسم يعقوب اللذين تكررا في أكثر من وثيقة. أما الأسماء التي لم ترد في وثائق ذلك العصر، مثل إسحاق ويوسف، فيرى أنها منحوتة من نفس الذخيرة اللغوية الآمورية. وهذا ما يشير بقوة إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد كمسرح لأحداث سفر التكوين. ويدعم ذلك في اعتقاده أن مثل هذه الأسماء لم تتكرر في الأسفار التوراتية اللاحقة. وقد انتقل أولبرايت من هذا التحليل اللغوي إلى ربط تحركات الآباء بالتحركات العامة للآموريين، مما أعقب انهيار ثقافة البرونز المبكر وبداية ثقافة البرونز الوسيط. وهو يحدد عصر إبراهيم وإسحاق في الفترة من ٢١٠٠ إلى ١٩٠٠ق.م.، وعصر يعقوب في الفترة ١٩٠٠ إلى ١٨٠٠ق.م. غير أن تلامذة أولبرايت لم يوافقوا على هذا التحديد الدقيق، واكتفَوْا بالقول بأن عصر الآباء لا يمكن فهمه إلا من خلال وضعه في الإطار العام لمطلع الألف الثاني قبل الميلاد. على أن أولبرايت نفسه عاد فربط الآباء بجماعات الخابيرو (وخصوصًا في كتابه المتأخر: يهوه وآلهة كنعان، انظر الحاشية رقم ٦) التي كانت تعيش على هامش المدن، وتضم أخلاطًا شتى من الشرائح الاجتماعية الهامشية. فالخابيرو المعروفون في النصوص الرافدية منذ أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، والذين تدعوهم النصوص السورية الأحدث بالعابيرو، هم الذين نجم عنهم العبرانيون التوراتيون، الذين ابتدأت تحركاتهم مع إبراهيم العبراني القادم من أور الكلدان. وهو يقرن هنا بين وصف عابيرو في النصوص السورية ووصف عبريم في النصوص التوراتية، التي تعني عبري أو عبراني. ويركز أولبرايت بشكل خاص على جماعتين من الخابيرو معروفتين من وثائق مدينة ماري، هما «بنو يامينا» أي: بنو الجنوب أو أهل الجنوب، و«بنو شمأل» أي: بنو الشمال، ويرى في «بنو يامينا» أسلاف قبيلة بنيامين التوراتية، التي يعني اسمها بني الجنوب أيضًا باللغة التوراتية. ثم يذهب أولبرايت أبعد من ذلك حين يربط بين خابيرو البرونز الوسيط وعابيرو البرونز الأخير في فلسطين، والذين نعرف عن تحركاتهم العسكرية، وتعدياتهم على دويلات المدن الفلسطينية من رسائل تل العمارنة المتبادلة بين البلاط المصري وملوك الدويلات السورية والفلسطينية، أواسط القرن الرابع عشر قبل الميلاد. ثم يربط أولبرايت بين عابيرو البرونز الأخير هؤلاء في فلسطين وجماعات العبرانيين الذين خرجوا من مصر بقيادة موسى، واقتحموا كنعان بقيادة يشوع. فهؤلاء العائدون ليسوا إلا شريحة من عابيرو فلسطين، وعملياتهم العسكرية اللاحقة هي استمرار لتلك العمليات السابقة الموثَّقة في رسائل تل العمارنة. وأخيرًا، فإن ما قدمناه من نقد نصي وتاريخي وأركيولوجي لسفر التكوين، وما استعرضناه من نتائج البحث الأكاديمي الحديث خلال ربع القرن الأخير من القرن العشرين؛ لا يؤدي بنا إلا إلى إسقاط عصر الآباء تمامًا من مرتبة التاريخ، وجعله في زمرة الملاحم الشعبية والقَصص البطولي المعروف في تراث الشعوب كلها.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/1.3/
العبوديةُ في مصر، والخروجُ
تمثِّل شخصية يوسف نقطة الاتصال بين عصر الآباء وعصر العبودية في مصر والخروج منها؛ فيوسف قد قضى شطرًا من حياته في كنعان، والشطر الآخر في مصر، وهو الذي جاء بأبيه وإخوته وأولادهم إلى مصر، التي صاروا فيها إلى العبودية بعد مماته. فقصة يوسف لا تنتمي إلى قصص الآباء ولا إلى ملحمة الخروج، وقد تم التقاطها بعناية من قِبل المحرر التوراتي لملاءمتها التامة للربط بين تقليدين مستقلين كل الاستقلال. يتضح للوهلة الأولى مدى خصوصية قصة يوسف في نهاية سفر التكوين، وغرابتها عن بقية قصص الآباء، وذلك في أسلوبها الأدبي وعقدتها القصصية وجميع تفاصيلها. تُبدي القصة عناصر شائعة ومألوفة في الأدب الشعبي شرقًا وغربًا، وذلك مثل: (١) محبة الأب للابن الأصغر وتفضيله على بقية إخوته. (٢) مكائد الإخوة والأخوات للابن الأصغر أو البنت الصغرى. (٣) النجاة من المكائد المدبرة بتدخل قوة ما ورائية من نوع ما، كالجن والسحرة والآلهة … إلخ. (٤) اغتراب الشاب المستضعف في أرضه، ونجاحه في أرض غربته، ثم عودته مظفرًا إلى أهله، الذين يُخفقون في التعرف عليه للوهلة الأولى، ورفعه لهم من حياة الفقر إلى حياة الجاه والعز. (٥) إغواء الشاب الوسيم المستقيم من قِبل امرأة فاتنة، هي زوجة الأب أحيانًا، أو زوجة ولي النعمة أحيانًا أخرى، ثم رفضه للغواية وافتراء المرأة عليه، وما يتبع ذلك من نبذه واضطهاده، ومروره بفترة بؤس وشقاء قبل أن تظهر براءته. (٦) هناك عنصر ميثولوجي يضاف إلى هذه العناصر، وهو فترة السنوات السبع الخصيبة التي تليها فترة سنوات سبع عجاف، مما هو معروف في أدبيات مصر وبلاد الرافدين، وبشكل خاص في أدبيات أوغاريت الكنعانية. تم طرد الهكسوس من مصر حوالي عام ١٥٧٠ق.م. على يد القائد العسكري أحموس، الذي حكم فيما بين ١٥٧٠ و١٥٤٥ق.م. وأسس الأسرةَ الثامنة عشرة، فاتحةَ المملكة الحديثة في التاريخ المصري التي دامت خمسة قرون (حتى عام ١٠٧٨ق.م.) وقد خَلَف أحموس عددٌ من الملوك يحملون اسم تحوتمس. وسَّع تحوتمس الأول نفوذ مصر السياسي جنوبًا حتى الشلال الرابع في أعماق أفريقيا، وبذلك أصبح وادي النيل بأكمله تحت السيطرة المصرية. أما باتجاه آسيا الغربية فقد وصل تحوتمس الأول في إحدى حملاته إلى نهر الفرات، على ما يذكره في أحد سجلاته الحربية. وقد كانت هذه الحملة ذات طابع استعراضي بالدرجة الأولى، وهدفت مصر من ورائها إلى الإعلان عن دخولها حلبة السياسة الدولية إلى جانب القوتين العُظمَيَيْن في ذلك الوقت؛ مملكة ميتاني ومملكة حاتي، وإشعارهما بأن لها مصالح حيوية في آسيا الغربية مثل ما لهما. توقف اهتمام مصر بالسياسة الدولية إبان حكم الملكة حتشبسوت (١٤٦٩–١٤٩٠ق.م.) بسبب انشغال هذه الملكة بالمسائل الداخلية. وعندما خَلَفها زوجُها وشريكها في الحكم تحوتمس الثالث، بدأ عقب وفاتها مباشرة بشنِّ حملات عسكرية متوالية، باتجاه الجنوب نحو أفريقيا، وباتجاه الشمال نحو آسيا الغربية، بلغت اثنتي عشرة حملة خلال فترة حكمه الطويلة التي دامت من ١٤٩٠ إلى ١٤٣٦ق.م. وقد وصل في إحدى حملاته الآسيوية إلى الفرات، وأجبر ميتاني على الاعتراف بسيادته، وكانت في ذلك الوقت القوةَ الرئيسية في منطقة الجزيرة العليا والشمال السوري. كما شنَّ حملة شهيرة في سجلاته على فلسطين معروفة بحملة مجدو، حيث التقى قرب مدينة مجدو الفلسطينية بجيوش تحالف سوري يقوده ملك قادش، وهزمها. وفي عهد خليفته تحوتمس الرابع مالت السياسة المصرية إلى الديبلوماسية، فتزوج هذا الملك من أميرة ميتانية وأنجب منها أمنحوتب الثالث (١٤١٣–١٣٧٧ق.م.) الذي حكم خلال الفترة المعروفة بعصر العمارنة، والتي شملت حكمه وحكم ابنه أمنحوتب الرابع، واشتَهَرت بالوثائق الهامة التي عُثر عليها في عاصمة أمنحوتب الثالث بموقع تل العمارنة، والتي تتضمن مراسلات بين البلاط المصري والملوك السوريين. في عهد أمنحوتب الرابع — الذي دعا نفسه «إخناتون» عقب إصلاحه الديني الشهير، وإعلانه عن معتقده الجديد في إله واحد، دعاه آتون — خفَّ الضغط على مناطق آسيا بسبب انشغال الملك بالمسائل الداخلية والتبشير الديني. وهناك رأي سائد بين المؤرخين يضع تاريخ خروج الإسرائيليين من مصر خلال الهزيع الأخير من فترة حكم هذا الفرعون. ينتهي سفر التكوين بوفاة يوسف، حيث تقول آخر فقراته: «ثم مات يوسف وهو ابن مائة وعشر سنين. فحنَّطوه ووُضع في تابوت في مصر» (تك، ٥٠: ٣٦). ثم يلتقط سفر الخروج في مطلعه الفقرة نفسها ويقول: «ومات يوسف وكل إخوته وجميع ذلك الجيل. وأما بنو إسرائيل فأثمروا وتوالدوا ونمَوْا وكثروا جدًّا وامتلأت الأرض منهم. ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف» (خروج، ١: ٦–٨). رأى الملك الجديد تكاثر بني إسرائيل وخاف من تزايد عددهم، فدفعهم إلى السُّخرة في أعمال البناء، ووضع عليهم مراقبين أشداء يذلونهم ويسومونهم سوء العذاب، وابتدأت فترة العبودية التي دامت بضع مئات من السنين. بنى المُستعبَدون لفرعون مدينتين، هما «مخازن فيثوم» و«رعمسيس»، ولكن السُّخرة والأعمال الشاقة لم تنفع في التقليل من عددهم، فأمر فرعون القابلتين القائمتين على توليد نسائهم بقتل المواليد الذكور في المهد. ولكن القابلتين خافتا الله ولم تفعلا، مدعيتين أن النساء العبرانيات قويات البنية يلدن قبل وصول القابلة، فنما الشعب كثيرًا. وهنا عَمَد الفرعون إلى أسلوب آخر، حيث أمر الإسرائيليين أن يُلقوا إلى النهر بكل مولود ذكر (الخروج، ١: ١٥–٢٢). يلي ذلك مباشرةً قصة ولادة موسى، حيث يبدأ الإصحاح الثاني بالقول: «وذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي، فحبلت المرأة وولدت ابنًا، ولما رأته أنه حَسَن خبأته ثلاثة أشهر. ولما لم يمكنها أن تخبئه بعدُ أخذت سَفَطًا من البردي ووضعت الولد فيه، ووضعته بين الحَلْفاء على حافة النهر. ووقفت أخته من بعيد لتعرف ماذا يُفعل فيه. فنزلت ابنة فرعون إلى النهر لتغتسل، وكانت جواريها ماشيات إلى جانب النهر، فرأت السَّفَط بين الحَلْفاء، فأرسلت أَمَتها وأخذته، ولما فتحته رأت الولد، وإذا هو صبي يبكي، فرقَّت له وقالت: هذا من أولاد العبرانيين. فقالت أخته لابنة فرعون: هل أذهب وأدعو لك امرأة مرضعة من العبرانيات لتُرضع لك الولد؟ فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي. فذهبت الفتاة ودعت أم الولد، فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي بهذا الولد وأرضعيه لي وأنا أعطيك أجرتك، فأخذت المرأة الولد وأرضعته. ولما كَبِر الولد جاءت به إلى ابنة فرعون فصار لها ابنًا، ودعت اسمه موسى، وقالت: إني انتشلته من الماء» (الخروج، ٢: ١–١٠). ويبدو أن موسى قد شبَّ وهو يعرف أصله العبراني؛ ففي أحد الأيام رأى رجلًا مصريًّا يضرب رجلًا عبرانيًّا من إخوته، فقتل المصري وطمره في الرمل. ولما انكشف أمره هرب من وجه فرعون الذي طلب قتله، وأتى إلى أرض مديان (عند خليج العقبة) وجلس عند البئر. وكان لكاهن مديان المدعو رعوئيل سبع بنات، فأتين لملء الجرار، ولكن الرعاة صرفوهن، فأعانهن موسى. وعندما عُدن وأخبرن أباهن بما حصل، دعاه الأب وأكرمه وأسكنه عنده، وزوَّجه ابنته صفورة التي أنجبت له ولدًا أسماه جرشوم. وعندما كان يرعى غنم حَمِيه، الذي يدعوه النص في هذا الموضع من القصة يثرون عوضًا عن رعوئيل، ساق الغنم إلى جبل يُدعى حوريب، فرأى شجرة عُلَّيقة تتوقد بالنار ولا تحترق، فلما اقترب منها «ناداه الله من وسط العُلَّيقة وقال: موسى، موسى. فقال: ها أنا ذا. فقال: لا تقترب إلى ها هنا. اخلع حذاءك من رجليك؛ لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. ثم قال: أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب. فغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله. فقال الرب: إني قد رأيت مذلة شعبي وسمعت صراخهم … فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأُصعِدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة، إلى أرض تَفيض لبنًا وعسلًا … والآن هلمَّ فأرسلك إلى فرعون، وتُخرج شعبي بني إسرائيل من مصر. فقال موسى لله: من أنا حتى أذهب إلى فرعون، وحتى أُخرج بني إسرائيل من مصر؟! فقال: إني أكون معك، وهذه تكون لك العلامة أني أرسلتك. حينما تُخرج الشعب من مصر، تعبدون الله على هذا الجبل … وقال الله لموسى: هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه إله آبائكم؛ إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم» (الخروج، ٣). «فأجاب موسى وقال: ولكن ها هم لا يصدقون ولا يسمعون لقولي، بل يقولون: لم يظهر لك الرب. فقال الرب: ما هذه في يدك؟ فقال: عصًا. فقال: اطرحها إلى الأرض. فطرحها فصارت حية، فهرب موسى منها. ثم قال الرب لموسى: مُد يدك وأمسك بذَنَبها. فمد يده وأمسك به، فصارت عصًا في يده. لكي يصدقوا أنه قد ظهر لك الرب إله آبائهم؛ إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب.» وبعد أن يزوده بآيتين أُخريين؛ يده التي يُدخلها في جيبه فتخرج بيضاء، وماء النهر الذي يسكبه على اليابسة فيصير دمًا، يطلب منه التوجه فورًا إلى مصر لأن الفرعون الذي كان يطلب دمه قد مات. فيشتكي موسى من ثقل لسانه وقلة فصاحته، فيأمره الرب أن يستعين بأخيه هارون الفصيح اللسان، والذي تقع عليه مهمة مخاطبة الشعب، ويكون لموسى فمًا. فأخذ موسى امرأته وبَنيه وأركبهم على الحمير، ورجع إلى أرض مصر بعد أن ودَّع حماه يثرون (الخروج، ٤). في مصر يتصل موسى وهارون بالشعب، الذي يؤمن بهما وبالآيات التي صَنَعاها أمام عيونهم. ثم يدخل الاثنان على فرعون ويطلبان منه إطلاق بني إسرائيل، فيرفض فرعون مستهزئًا بالطلب، ويزيد من أعباء السُّخرة على بني إسرائيل. بعد ذلك يتكرر دخول موسى وهارون على فرعون عشر مرات ملتمسَيْن إطلاق الشعب، وفي كل مرة يرفض فرعون الطلب، فيرسل عليه الرب كارثة تحل به وببيته وبقومه، فيصرخ فرعون إلى موسى أن يصلي لربه فيرفع غضبه عنه، وعندما يرتفع غضب الرب يقسو قلب فرعون ويرفض من جديد إطلاق الشعب. وأخيرًا يرضخ فرعون ويسمح بخروج بني إسرائيل جميعًا مع غنمهم وبقرهم وجميع أمتعتهم. وقبل أن يغادروا مساكنهم قال لهم موسى أن يستعير كل واحد منهم من جاره أدوات فضية وذهبية وثيابًا. وقد زيَّن الرب للمصريين إعارة جيرانهم فأعطَوْهم ما طلبوا، فسرق الإسرائيليون المصريين ورحلوا تحت جنح الليل. وكانت إقامتهم في مصر أربعمائة وثلاثين سنة (الخروج، ٥–١٢). وكان لما أطلق فرعون الشعب أن الله لم يَهدِهم في طريق أرض الفلسطينيين المحاذية للساحل، مع أنها قريبة؛ لكيلا يُعرِّضهم للحرب مع أهلها فينقلبون على أعقابهم راجعين إلى مصر، بل أدارهم نحو بحر سوف (الذي هو خليج السويس وما يتلوه شمالًا من البحيرات المُرة)، فرحلوا من مساكنهم في أرض رعمسيس ونزلوا في «سكوت»، وارتحلوا من «سكوت» ونزلوا في إيثام. وكان الرب يسير أمامهم نهارًا في عمود من سحاب ليهديهم في الطريق، وليلًا في عمود من نار ليضيء لهم. ولكن فرعون ندم على إطلاق بني إسرائيل، فلحق بهم بجنوده ومركباته فأدركهم وهم نازلون قرب بحر سوف عند فم الحيروت أمام بعل صفون. ففزع بنو إسرائيل وقالوا لموسى: «هل لأنه ليست قبور في مصر أخذتَنا لنموت في البرية؟! ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر؟! خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية. فقال موسى للشعب: لا تخافوا، قفوا وانظروا خلاص الرب الذي يصنعه لكم اليوم … فقال الرب لموسى: قل لبني إسرائيل أن يرحلوا، وارفع أنت عصاك ومد يدك على البحر وشُقه، فيدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة … ومد موسى يده على البحر، فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة وانشق الماء، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة، والبحر سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم، وتبعهم المصريون ودخلوا وراءهم … فقال الرب لموسى: مُد يدك على البحر ليرجع الماء على المصريين، فمد موسى يده على البحر، فرجع الماء وغطى مركبات وفرسان جميع جيش فرعون، ولم يبقَ منهم ولا واحد» (الخروج، ١٣-١٤). ثم ارتحل بنو إسرائيل من بحر سوف وهدفهم برية سيناء. وفي طريقهم يمرون بالمواقع الآتية على التوالي: برية شور، مارة، إيليم، برية سين. في برية سين يتمرد الشعب على موسى وهارون ويقول لهما: «ليتنا متنا بيد الرب في مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزًا للشِّبَع، فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع.» فأرسل لهم الرب المن والسلوى غذاءً؛ فالمن نوع من الفطريات تنبت على وجه البرية عند ارتفاع ندى الصباح، والسلوى نوع من الطيور المهاجرة كانت تحط قرب منازلهم للراحة. «ثم ارتحل كل جماعة بني إسرائيل ونزلوا في رفيديم. ولم يكن ماءٌ ليشرب الشعب، فخاصم الشعب موسى وقالوا: أعطونا ماءً لنشرب … فصرخ موسى إلى الرب قائلًا: ماذا أفعل بهذا الشعب؟! بعد قليل يرجمونني.» فأمر الرب موسى أن يضرب صخرة معينة بعصاه، ففعل موسى وتفجَّر من الصخرة ماءٌ وشرب الجميع. وبينما هم في رفيديم يجتمع شعب العماليق لقتالهم، وهم قبائل بدوية تتجول في مناطق شمال الجزيرة العربية. فوقف الرب إلى جانب الشعب، وهزم الإسرائيليون أعداءهم، وتابعوا مسيرتهم نحو برية سيناء (الخروج، ١٥–١٧). وصل الشعب إلى برية سيناء في الشهر الثالث بعد خروجهم من مصر، ونزلوا أمام الجبل. وهناك يأتي إلى موسى حَمُوه يثرون كاهن مديان، بعد أن سمع بكل ما صنع الله إلى موسى وإلى إسرائيل. ويأتي يثرون معه بصفورة امرأة موسى التي كانت مقيمة عند أبيها وابنَيْها جرشوم وأليعازر. وعند هذه النقطة من القصة فقط نعرف أن موسى كان قد صرف زوجته إلى أهلها لسبب غير معروف. وقال يثرون لموسى: «مباركٌ الرب الذي أنقذكم من أيدي المصريين. الآن علمت أن الرب أعظم من جميع الآلهة؛ لأنه في الشيء الذي بغَوْا به كان عليهم.» وفي اليوم التالي غادر يثرون إلى أرضه بعد أن أعطى موسى نصائح قيمة في كيفية إدارة وتنظيم هذا الشعب الكثير. وأما موسى فصعد إلى الله، فناداه الرب من الجبل قائلًا: «هكذا تقول لبيت يعقوب وتخبر بني إسرائيل، أنتم رأيتم ما صنعت بالمصريين. وأنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إليَّ. فالآن إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصةً من بين جميع الشعوب.» فرجع موسى إلى الشعب وكلَّمه بما سمع، فأجاب الشعب وقال: كل ما تكلم به الرب نفعل. واستعدوا لإبرام العهد مع إلههم في صباح اليوم الثالث، فغسلوا أنفسهم وتطهروا، وعندما حل الموعد «صارت بروقٌ ورعود وسحاب ثقيل على الجبل، وصوت بوق شديد جدًّا. فارتعد الشعب الذي في المحلة، وأخرج موسى الشعب من المحلة لملاقاة الله، فوقفوا في أسفل الجبل. وكان جبل سيناء كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون … ودعا الله موسى إلى رأس الجبل، فصعد موسى. وكان صوت البوق يزداد اشتدادًا، وموسى يتكلم والله يجيبه بصوت. ثم تكلم الله معه وأعطاه الوصايا العشر» (الخروج، ١٨–١٩). يصعد موسى مرة أخرى إلى الجبل بأمر الرب ليستلم لوحَيْن من الحجارة، منقوشٌ عليهما الوصايا العشر والشريعة، ليُعلِّم بهما الشعب. فدخل موسى وسط السحاب وبقي هناك أربعين نهارًا وأربعين ليلة. ولما رأى الشعب أن موسى قد تأخر جاءوا إلى هارون وقالوا له: «قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا؛ لأن هذا موسى — الرجل الذي أصعدنا من مصر — لا نعلم ماذا أصابه. فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وائتوني بها … فأخذ ذلك من أيديهم وصوَّره بالإزميل، وصنعه عجلًا مسبوكًا. فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر … فقال الرب لموسى: اذهب انزل؛ لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من مصر. زاغوا سريعًا عن الطريق الذي أوصيتهم به … فانصرف موسى ونزل من الجبل ولَوْحا الشهادةِ في يده … وكان عندما اقترب إلى المحلة أنه أبصر العجل والرقص. فحمي غضب موسى، وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل. ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعمًا، وذراه على وجه الماء وسقى بني إسرائيل» (الخروج، ٣٢). وبعد أن يُعمل موسى في الشعب مذبحةً كبرى يقودها اللاويون الكهنة، يهدأ غضبه ويستغفر للشعب أمام الرب. ثم يصعد إلى الجبل مرة أخرى ليستلم من الرب لوحين جديدين بدل اللذين كسرهما (الخروج، ٣٣–٣٤). لا تحتوي بقية إصحاحات سفر الخروج على أحداث جديدة؛ فجميعها مخصص لتفصيل بعض القواعد الطقسية، وشرح كيفية صنع خيمة الاجتماع، التي هي المسكن المتنقل لإله إسرائيل، وكيفية صنع تابوت العهد الذي يُودَع فيه لوحا الشريعةِ، كما يخصص كامل التالي (سفر اللاويين) لتفصيل القواعد التشريعية التي أنزلها الرب على موسى. وعندما تُستأنف القصة في سفر العدد، نجد أن الإسرائيليين قد أمضَوْا سنة كاملة في برية سيناء. وفي السنة الثانية لخروجهم من مصر، في الشهر الثاني، تركوا سيناء وتوجهوا إلى برية فاران، وهدفهم الوصول إلى قادش برنيع، وهي واحة معروفة في شمال سيناء، وقريبة من الحدود الجنوبية لأرض كنعان. ومن هناك يبعث موسى رسلًا ليتجسسوا في أرض كنعان، ويرَوُا الشعب الساكن فيها «أقوي هو أم ضعيف، قليل أم كثير؛ وكيف هي الأرض التي هو ساكن فيها، أجيدة أم رَدِيَّة؛ وما هي المدن التي هو ساكن فيها، أمُخيَّمات أم حصون؛ وكيف هي الأرض، سمينة أم هزيلة.» فذهب الرجال وعادوا بالخبر: «فساروا حتى أتَوْا إلى موسى وهارون وكل جماعة بني إسرائيل … وأرَوْهم ثمر الأرض وقالوا: قد ذهبنا إلى الأرض التي أرسلتنا إليها، وحقًّا إنها تَفيض لبنًا وعسلًا، وهذا ثمرها، غير أن الشعب الساكن في الأرض معتز، والمدن حصينة، عظيمة جدًّا … فرفعت كل الجماعة صوتها وصرخت، وبكى الشعب تلك الليلة، وتذمر على موسى وعلى هارون جميعُ بني إسرائيل، وقال لهما كل الجماعة: ليتنا متنا في أرض مصر، أو ليتنا متنا في هذا القفر … ثم ظهر مجد الرب في خيمة الاجتماع لكل بني إسرائيل، وقال الرب لموسى: حتى متى يهينني هذا الشعب؟! وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم؟! إني أضربهم بالوباء وأُبيدهم، وأُصيِّرك شعبًا أكبر وأعظم منهم.» ولكن موسى يفلح بعد جهد جهيد في تهدئة غضب الرب، وإقناعه بالعدول عن إبادة الشعب، فيصفح الرب ولكنه يحكم على جميع أفراد الجيل الذي يسير مع موسى أن يُمضي بقية حياته في القفر، ولا يرى أرض كنعان التي يدخلها أولاد الجيل الثاني من أبنائهم (العدد، ١٣–١٤). فأقام بنو إسرائيل في قادش برنيع مدة ثمانٍ وثلاثين سنة، حتى أكملوا أربعين سنة لخروجهم من مصر، ومات كل الجيل الذي تمرد على موسى وخاف من دخول كنعان. وقد تخلل هذه الفترةَ الطويلةَ عددٌ من حوادث التمرد والعصيان، وأهمها محاولة المدعو قورح بن يصهار الانقلابية، التي سعى من خلالها إلى إقصاء موسى وهارون عن القيادة، يدعمه في ذلك مائتان وخمسون من رؤساء الجماعات. ولكن الرب خسف الأرض بقورح والمتمردين جميعهم فهبطوا إلى الهاوية السفلى (العدد، ١٦). كما وقع تمرد جديد على موسى بسبب نقص الماء أيضًا، وقد قادت طريقة تعامل موسى وهارون مع هذا التمرد، والكيفية التي نفَّذوا بها أمر الرب؛ إلى غضب الرب عليهما وحرمانهما من دخول أرض كنعان. فلقد أمر الرب موسى أن يقف أمام صخرة معينة ويكلِّمها هو وهارون أن تعطي ماءها، لا أن يضربها بعصاه كما فعل في مرة سابقة. ولكن موسى الذي طفح به الكيل من سلوك هذا الشعب العنيد، وفي نوبة شك عارمة من قدرة إلهه، وقف أمام الصخر وصرخ بالجمهور المحتشد حوله: «اسمعوا أيها المَرَدة، أمِن هذه الصخرة نُخرج لكم ماءً؟ ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرتين، فخرج ماء غزير، فشربت الجماعة ومواشيها. فقال الرب لموسى وهارون: من أجل أنكما لم تؤمنا بي أمام أعين بني إسرائيل؛ لذلك لا تُدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتهم إياها.» بعد انتهاء المدة التي حددها الرب بأربعين سنة، وموت أفراد الجيل السابق جميعهم، تحرك موسى بجماعته لتحقيق الوعد القديم بأرض كنعان، فوصلوا تخوم آدوم الواقعة إلى الجنوب من البحر الميت. وهناك أرسل موسى رسله إلى ملك آدوم طالبًا منه السماح بعبور بني إسرائيل في أراضيه، ولكن ملك آدوم رفض الطلب، وخرج للقائه بعدد غفير من الجند. فاتخذ موسى طريقًا آخر نحو شرقي الأردن يدور حول مناطق الآدوميين شرقًا فشمالًا حتى لا يصطدم بهم. وعندما حلوا في جبل اسمه هور جاءت هارونَ المنيةُ، ودُفن هناك لتحقيق قول الرب. وصل موسى إلى شرقي الأردن، وخيَّم في موقع أرنون، وهو الحد الفاصل بين أراضي موآب وأراضي الآموريين. ثم أرسل رسله إلى ملك الآموريين يطلب منه السماح لقومه بالعبور بسلام، ولكن الملك رفض الطلب وخرج للقاء إسرائيل. وفي هذه المرة لم ينسحب موسى كما انسحب أمام آدوم، بل قرر المواجهة، فضرب الآموريين ضربة قوية وأخذ كل مدنهم وقراهم. ولسبب غير مفهوم، لا يتابع موسى طريقه نحو أرض كنعان، ولا يصطدم مع موآب وعمون المملكتين القويتين في شرقي الأردن، بل يتابع طريقه شمالًا نحو باشان في سوريا الجنوبية (مناطق حوران)، ويصطدم مع ملك باشان في موقع إذرعي (إزرع)، فيضربه ضربة قوية، ويمتلك أرضه وقراه أيضًا، ثم يقفل راجعًا إلى شرقي الأردن، وينزل في موقع عربات موآب على ضفة نهر الأردن في مقابل مدينة أريحا الواقعة على الجهة الأخرى للنهر داخل كنعان (العدد، ٢٠–٢١). فزع الموآبيون مما فعله الإسرائيليون بخصومهم، فأرسل ملك موآب إلى عراف معروف في المنطقة اسمه بَلعام بن بعور، ليأتي إليه ويلعن بني إسرائيل، لأن الذي يلعنه بَلعام ملعون، والذي يباركه مبارك، وبعث مع رسله بهدايا إلى بَلعام، فأتى إليه، ولكن الله وضع في فم بَلعام بركات بدل اللعنات، فقال: «وحي بَلعام بن بعور، وحي الرجل المفتوح العينين، وحي الذي يسمع أقوال الله … ما أحسن خيامك يا يعقوب، مساكنك يا إسرائيل … مبارِكُكِ مبارَكٌ، ولاعِنُكِ معلونٌ … إلخ» (العدد، ٢٢–٢٤). فيُحجم موآب عن مضايقة إسرائيل، ويتفرغ موسى لقتال مديان بأمر مباشر من الرب؛ لأن الشعب قد زنى مع بنات مديان وتعلق بآلهتها «فتجنَّدوا على مديان كما أمر الرب وقتلوا كل ذَكر. وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم. وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم، ونهبوا جميع مواشيهم وكل أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بالنار، وأتوا إلى موسى … فسخط موسى على وكلاء الجيش، وقال لهم: … اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلًا. لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن ذكرًا أبقوهن لكم حيات …» (العدد، ٣١). وبعد ذلك يقوم موسى بتقسيم الأراضي المكتسبة في شرقي الأردن ويعطيها لسبط راؤبين، وسبط جاد، ونصف سبط منسي. وعندما تحضر المنيَّةُ موسى يُصعده الرب من معسكره في عربات موآب إلى جبل نبُّو، ويُريه أرض كنعان في عبر الأردن، ويكرر على مسامعه بأنه لن يُدخله إلى الأرض الموعودة بسبب خطيئته وخطيئة هارون في القفر «وصعد موسى من عربات موآب إلى جبل نبُّو إلى رأس الفِسْجة الذي قُبالةَ أريحا. فأراه الرب جميع الأرض من جلعاد إلى دان … إلخ، وقال له الرب: هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قائلًا: لنسلك أعطيها. قد أريتك إياها بعينيك، ولكنك إلى هناك لا تعبر. فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب، ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم. وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات … ولم تكلَّ عينه ولا ذهبت نضارته» (التثنية، ٣٤). وبموت موسى تنتهي قصة الخروج لتبدأ قصة دخول كنعان. لقد أشرنا سابقًا إلى أن قصة يوسف قد استُخدمت من أجل الربط بين تقليدين توراتيين غريبين عن بعضهما كل الغرابة، هما قصص الآباء وقصة الخروج. ولكن هذه القصة لم تقدم في الواقع إلا تسويغًا غير مقنع لوجود بني إسرائيل في مصر، وبقي تقليد الخروج مستقلًّا عن قصة يوسف وعن قصص الآباء في آنٍ معًا. ومما يَلفت النظر بشكل خاص أن نص سفر الخروج يصمت صمتًا تامًّا عن الفترة التي قضاها بنو إسرائيل في مصر بين وفاة يوسف وولادة موسى، ولا نعلم سوى أن هؤلاء قد وقعوا تحت نِير العبودية بعد أن قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف. أما متى قام هذا الملك الجديد على مصر، وكم امتدت فترة العبودية، وما الذي كان يفعله الإسرائيليون قبل العبودية، فأمور لا يلقي عليها النص أية إضاءة. ومما يزيد الوضع غموضًا أن هؤلاء الأُجراء المُسخَّرين تركوا مصر ومعهم مواشٍ وأغنام كثيرة (الخروج، ١٢: ٣٨) الأمر الذي يتنافى ووضعَ العبيد الذين لا يملكون في الواقع شيئًا. أما عن مجموع سنوات إقامتهم في مصر مما سبق العبودية وتلاها، فإن النص التوراتي يعطينا معلومات متناقضة. فإقامة بني إسرائيل في مصر وَفق سفر الخروج (١٢: ٤٠) هي أربعمائة وثلاثون سنة. أما في سفر التكوين (١٥: ١٣ و١٦) فهي أربعمائة سنة فقط. وفي نهاية قصة يوسف لدينا إشارة واضحة إلى أن فترة الإقامة في مصر لم تتجاوز حياة جيل واحد فقط من أحفاد يوسف. ففي سنوات حياته الأخيرة يشهد يوسف ولادة أولاد أحفاده «وأولاد ماكير بن منسي أيضًا ولدوا على ركبتي يوسف» (تك، ٥٠: ٢٣). ولكننا ما نلبث أن نرى أولاد ماكير هؤلاء، الذين ولدوا على ركبتي يوسف في مصر، يحاربون مع يشوع في كنعان (يشوع، ١٣: ٣١، و١٧: ١)، وهذا يعني أن المدة الفاصلة بين موت يوسف ودخول كنعان، بما فيها فترة الإقامة في مصر وفترة الخروج، لم تتجاوز المائة سنة على أبعد تقدير، وأن الذين ولدوا في حياة يوسف هم الذين استُعبدوا من قِبل المصريين، وهم الذين خرجوا أيضًا مع موسى ودخلوا مع يشوع. إلى جانب استقلالها عن قصة يوسف وقصص الآباء، فإن قصة موسى والخروج من مصر قد حِيكت من أربع قصص مستقلة من حيث الأصل على ما يبدو، إن لم يكن أكثر. القصة الأولى هي قصة ميلاد وفتوة موسى، التي عملت على تزويد هذه الشخصية المركزية في التقاليد التوراتية بأصل ملكي نبيل وأصل كهنوتي؛ فهو ابن بنت فرعون بالتبني، نشأ وترعرع في البلاد كأمير فرعوني، وهو في الوقت نفسه سليل أسرة لاوية من جماعة الكهنة المكرسين للشئون الدينية. ورغم حياته المترفة في القصور فإن موسى على ما يبدو كان يعرف أصله العبراني، على ما تدل عليه حادثة قتله للمصري انتصارًا لأخيه العبراني، ثم هربه من وجه فرعون الذي طلب دمه. وكما يمكن أن يلاحظ القارئ بسهولة، فإن هذه القصة تقوم على عدد من العناصر المعروفة في الأدب الشعبي والخرافي لثقافات الشرق القديم، ولها متوازيات واضحة في آداب الشعوب الأخرى. فالرضيع الذي يوضع في سلة تُلقَى إلى الماء، ثم تعتني به قدرة إلهية حتى يشب ويغدو حاكمًا أو ملكًا، هو عنصر شائع ومعروف وله تنويعات عديدة. فإما أن يكون الطفل من أصل عامي ثم تتعهده أسرة ملكية بالرعاية حتى يغدو واحدًا من أفرادها، أو أن يكون من أصل ملكي ثم تتعهده أسرة فقيرة حتى يَكبَر ويعرف أصله الملكي، ويعود للمطالبة بحقوقه ومكانته السابقة. وقد يُستبدل عنصر الإلقاء بالماء داخل سلة بالإلقاء في الغابة، حيث تقوم غزالة أو ذئبة بإرضاع الطفل حتى يَكبَر. كما يتنوع الدافع إلى التخلص من الطفل الرضيع في هذه القصص؛ فهو مؤامرة داخل القصر الملكي للتعديل في حقوق الوراثة، أو غيرة الزوجة الأولى من ولادة الزوجة الثانية، أو نبوءة عن قيام المولود الجديد حين يَكبَر بقتل الأب والاستيلاء على العرش … إلخ. القصة الثانية هي قصة موسى في مديان، والتي تعود بنا إلى أجواء عصر الآباء. فموسى يلتقي بصفورة عند بئر الماء، وهي تقوده إلى أبيها الذي يستضيفه، ثم يعهد إليه برعاية غنمه، ويزوِّجه ابنته. وبينما هو يرعى غنم حَمِيه يكلمه الرب من داخل الشجرة التي تحترق، كما كلم من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب في مواقف مختلفة، ولكن متشابهة. وتبدو قصة موسى المدياني هذا وكأنها منتزعة من الذخيرة القصصية ذاتها التي استخدمها محرر سفر التكوين. ونلاحظ هنا، كما في قصة طفولة وشباب البطل، أن المحرر لم يُعنَ بنسب موسى، ولم يُعنَ بذكر اسم أبيه وأمه وإخوته. فالإصحاح الثاني من سفر الخروج الذي يروي لنا عن ولادة موسى يكتفي بالقول: «وذهب رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي، فحبلت المرأة وولدت ابنًا. ولما رأته أنه حَسَن خبأته ثلاثة أشهر … إلخ.» ولكن عندما تبدأ القصة الثالثة، وهي قصة تبشير موسى بين بني إسرائيل ودخوله على فرعون، يأخذ المحرر بإعطائنا بعض المعلومات الجديدة كليةً. فعندما يأمره الرب بالتوجه إلى مصر نعلم أن له أخًا اسمه هارون، دون أن ندري كيف استطاعت الأم أن تربي هارون وتحتفظ به ولم تستطع تربية موسى والاحتفاظ به في بيتها. وبعد أن يدخل موسى على فرعون يعطينا المحرر تفصيلات كاملة عن نسبه المتسلسل من المدعو لاوي الجد الأكبر، وصولًا إلى المدعو عمرام، الذي تزوج المدعوة يوكابد، فأنجبت له هارون وموسى (الخروج، ٦: ١٠–٢٠). وبعد الخروج من مصر يخبرنا النص أن لهارون وموسى أختًا أيضًا اسمها مريم، وذلك في سفر العدد (١٢: ١–١٦). وفي الموضع نفسه أيضًا نعرف أن زوجة موسى بطل هذه القصة الثالثة ليست صفورة ابنة كاهن مديان، بل امرأة كوشية. أما القصة الرابعة فتبدأ بعد انتهاء مدة الأربعين سنة المحددة من قِبل الرب لموت جميع أفراد الجيل الذي تمرد عليه وخاف من دخول كنعان. فهنا تنتهي ملامح شخصية موسى المبشر، ورجل العقيدة الذي يميل إلى السَّلم ويجنح لها، والذي يجر وراءه جماعة من الهاربين الخائفين، ولا يدخل في معركة لم تُفرض عليه فرضًا، وتبدأ شخصية موسى القائد الدموي العسكري الذي يبادر إلى الحرب، ويشن حملات الإبادة والتدمير. ونحن في الحقيقة لا نستطيع أن نجد أرضًا مشتركة تجمع موسى الذي يطلب من ملك آدوم أن يمر في أرضه بسلام، ثم يُضطر إلى الدوران حول آدوم في رحلة طويلة وشاقة، إلى موسى الآخر، الذي يصل في فتوحاته العسكرية إلى سهول حوران في سوريا الجنوبية، والذي يُنهي حياته بإبادة جميع أهالي مديان من الذكور والإناث، والإبقاء على البنات الصغيرات فقط. ويمكن أن نلاحظ بسهولة أن أحداث هذه القصة الرابعة تنتمي في معظمها إلى أحداث الفتح العسكري لكنعان مما يرويه سفر يشوع، وأنها مستمدة من الذخيرة القصصية نفسها التي استخدمها محرر هذا السفر، حتى إننا لا نستطيع تمييز شخصية موسى في شرقي الأردن عن شخصية يشوع في حروب كنعان. وينجم عن هذا التداخل غير المحكم بين الأصول المتنوعة لتقليد الخروج، وعن أسلوب المحرر التوراتي، الذي وصفناه سابقًا بأسلوب الجمع التراثي؛ عددٌ من التناقضات الفرعية التي لا نستطيع تَعدادها جميعًا، نظرًا لكثرتها في سفر الخروج وبقية الأسفار الخمسة التي تتابع قصة موسى. ففي الإصحاح الثاني من سفر الخروج يُدعى كاهن مديان بالاسم يثرون، أما في الإصحاح الثالث فيُدعى بالاسم رعوئيل. فإذا اجتزنا الأسفار الخمسة إلى سفر القضاة وجدنا أن حما موسى يحمل اسم حوباب، وأنه ليس مديانيًّا بل قينيًّا، رغم الفروق الكبيرة بين المديانيين والقينيين سواء من حيث النسب أو من حيث مناطق السكن. نقرأ في القضاة (٤: ١٠): «وحابر القيني انفرد من قاين من بني حوباب حَمِي موسى، وخَيَّم حتى إلى بَلُّوطة …» فإذا عدنا إلى سفر العدد (١٠: ٢٩) وجدنا أن حوباب هذا ليس حما موسى، بل ابن حَمِيه، وهو مدياني مرة أخرى وليس قينيًّا «وقال موسى لحوباب بن رعوئيل المدياني حَمِي موسى: إننا راحلون … إلخ.» كما نستدل من هذين الموضعين في سفر العدد وسفر القضاة على أن حما موسى قد انضم مع أهله إلى موسى، وسار في حملة الخروج، وهذا ما يتناقض مع الإصحاح ١٨ من سفر الخروج، الذي يخبرنا بأن حما موسى المدعو يثرون قد زار موسى في طريق الخروج، وأقام لديه فترة ثم انصرف. نقرأ في الخروج (١٨: ٢٤–٢٧): «فسمع موسى لصوت حَمِيه وفعل كل ما قال … ثم صرف موسى حماه فمضى إلى أرضه.» كما نعلم من زيارة يثرون هذه أن موسى كان قد صرف زوجته صفورة، فأقامت عند أبيها مع ابنَيْها، دون أن ندري متى صرف موسى زوجته أو لماذا صرفها. وفيما يتعلق بابنَيْ موسى، اللذين يدعوهما النص هنا بجِرْشوم وأليعازر، نلاحظ عدم وجود دور لهما في ملحمة الخروج، وذلك على عكس ابنَيْ هارون المدعوَّيْن أليعازار وإيثامار، اللذين يشاركان في معظم الأحداث، ويتكرر اسماهما مرارًا كمساعدين لأبيهما في الإجراءات الطقسية (انظر على سبيل المثال اللاويين، ١٠: ١٢–١٥). وفي سفر العدد (١٢: ١) نعرف أن لموسى زوجة كوشية (حبشية)، دون أن يورد النص اسمها أو أية تفاصيل عن كيفية زواجه منها، ثم تختفي بعد ذلك كما ظهرت. والأغرب من ذلك كله أن موسى عندما يموت على جبل نبُّو مقابل أريحا، يموت وحيدًا، ولا يوجد حوله أحد من زوجاته أو أولاده. وعن استلام موسى للشريعة والوصية على الجبل لدينا روايتان مختلفتان كل الاختلاف؛ في الأولى يأمر الرب موسى أن يصعد إلى الجبل مع هارون، ويحذره من صعود أو اقتراب أحد من الكهنة وإلا بطش به «ونزل الرب على جبل سيناء، إلى رأس الجبل. ودعا الله موسى إلى رأس الجبل فصعد موسى. فقال الرب لموسى: انحدر حذِّر الشعب لئلا يقتحموا إلى الرب لينظروا فيسقط منهم كثيرون … فقال موسى للرب: لا يقدر الشعب أن يصعد إلى جبل سيناء؛ لأنك أنت حذرتنا قائلًا: أقم حدودًا للجبل وقدِّسه. فقال له الرب: اذهب انحدر ثم اصعد أنت وهارون معك. وأما الكهنة والشعب فلا يقتحموا ليصعدوا إلى الرب لئلا يبطش بهم. فانحدر موسى إلى الشعب وقال لهم» (الخروج، ١٩: ٢٠–٢٥). ثم يلي ذلك نزولُ الوصية والشريعة. أما في الرواية الثانية، فإن موسى يصعد إلى الجبل بأمر الرب ومعه بعض الكهنة، وعدد كبير من شيوخ إسرائيل، وذلك على عكس التحذير الوارد في الرواية الأولى، وهؤلاء جميعًا يرون الله وجهًا لوجه «وقال لموسى: اصعد إلى الرب أنت وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل، واسجدوا من بعيد، ويقترب موسى وحده إلى الرب وهم لا يقتربون، وأما الشعب فلا يصعد معه … ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل، ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف، وكذات السماء في النقاوة. ولكنه لم يمد يده إلى أشراف بني إسرائيل. فرأوا الله وأكلوا وشربوا. وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل وكن هناك، فأعطيك لوحَيِ الحجارة والشريعة والوصية التي كتبتُها لتعليمهم …» (الخروج، ٢٤: ١–١٢). وفيما يتعلق بموقع جبل الرب، الذي يدعى أحيانًا جبل حوريب، وأحيانًا أخرى جبل سيناء، لدينا عدد من الإشارات المتناقضة التي لا يمكن التوفيق بينها. فأول ذكر للجبل يوحي بأنه قائم في منطقة مديان التي تقع على الجهة الشرقية لخليج العقبة، لأن الرب عندما تجلى لموسى وهو يرعى غنم حَمِيه كاهن مديان في لهيب الشجرة، قال له: «إني أكون معك، وهذه تكون لك علامة أني أرسلتك. حين تُخرج الشعب من مصر تعبدون الله على هذا الجبل» (الخروج، ٣: ١٢). أي إن موسى كان يستطيع من ذلك الموقع، الذي كان يرعى فيه غنمه وهو في مديان، أن يرى بالعين المجردة جبل حوريب. غير أن موسى عندما قاد جماعته خارجًا من مصر لم يتوجه إلى مديان، بل إلى برية سيناء، وهناك نزلوا في البرية مقابل الجبل (الخروج، ١٩). وتزداد المسألة تعقيدًا عندما نرى إشارات إلى مواقع أخرى في فاران وسعير الواقعة في آدوم على أطراف الصحراء العربية. من ذلك ما ورد في سفر التثنية (٣٣: ١–٢)، وفي سفر القضاة (٥: ٤)، وحبقوق (٣: ٣). وفي سفر التثنية لدينا تقليد غريب كل الغرابة عما ورد في قصص الآباء، التي تصف الأسلاف المؤسسين بأنهم عبريون (تك، ١٤: ١٣، و٤١: ١٢). فهنا يوصف هؤلاء الأسلاف بأنهم آراميون. نقرأ في قاعدة طقسية من شريعة موسى: «… فيأخذ الكاهن السلة من يدك ويضعها أمام مذبح الرب إلهك، ثم تصرخ وتقول أمام الرب: آراميًّا تائهًا كان أبي، فانحدرَ إلى مصر وتغرَّب هناك في نفر قليل، فصار هناك أمة كبيرة وعظيمة …» (التثنية، ٢٦: ٤–٥). إضافةً إلى هذه الروايات المتناقضة، التي لا نستطيع إيرادها جميعًا هنا، فإن القراءة المتصلة لسفر الخروج وبقية الأسفار الخمسة تجعلنا نلاحظ فجوات وانقطاعات واضحة في سياق القصة؛ وذلك كالفجوة الواقعة بين استلام الوصية والشريعة على جبل سيناء، ومتابعة مسيرة الخروج بعد سنتين من ذلك، والفجوة الواقعة بين إقامة الشعب في قادش برنيع، والصعود إلى شرقي الأردن بعد ثمانٍ وثلاثين سنة. وقد رأينا سابقًا مثل هذه الفجوات في سفر التكوين، وألمحنا منذ قليل إلى الفجوة الكبرى بين سفر التكوين وسفر الخروج. إن هذا التعاقب غير المحبوك بدقة للرواية التوراتية لا يجد تفسيره في أننا نتعامل مع عدد من التقاليد المتنوعة فقط، بل يجب أن يجد تفسيره على مستوًى آخر أيضًا. إن طريقة صياغة الأسفار الخمسة، وطريقة تطوير الرواية التوراتية وصولًا إلى نهاية سفر الملوك الثاني، توحي للوهلة الأولى بوجود وحدة ضمنية بين التقاليد المتتابعة. غير أن هذه الوحدة الظاهرية لا تنبع من انسجام الحبكة الروائية ولا من تطويرها المنطقي، وإنما من طريقة رصف التقاليد المتنوعة في سياق مفروض عليها من الخارج، ومن وجهة نظر «جامع تراثي» لا من وجهة نظر مؤرخ مدقق. وبتعبير آخر، فإن طريقة ضم الوحدات الأدبية المستقلة إلى بعضها يوحي بوجود ترتيب زمني بين هذه الوحدات، التي انتظمتها سلسلة مصطنعة. فسفر التكوين يبدأ بسلسلة أنساب تقوم على تسويغات أيديولوجية سياسية ودينية، ثم تتابع التقاليد عبر الأسفار الخمسة وما وراءها، لتبني على هذه الأسس التي تم ترسيخها، وتنسج القصص حول عدد من القادة العظام؛ فمن آدم إلى قايين فنوح فإبراهيم فيعقوب فيوسف فموسى فيشوع فالقضاة فشاول فداود … إلخ. ومن خلال جمع وترتيب الأخبار المتعلقة بكل شخصية، فإن الروايات المختلفة وذات الأصل والمضمون المستقل تُنسَج إلى بعضها، فيما يبدو — للوهلة الأولى — إطارًا زمنيًّا منتظمًا ومتتابعًا، يوحي بما يشبه التاريخ. من هنا، فإن عملية الجمع التراثي هذه تسمح بكثير من المرونة فيما يتعلق بإيراد الروايات المختلفة للحادثة الواحدة، كما تسمح بشكل تلقائي بوجود الفجوات التي لا يُعنَى الجامعون كثيرًا بردمها. وكما قلنا سابقًا، فإن الترتيب الزمني في حد ذاته لا يصنع تاريخًا، وهو نابع هنا عن قصد ورؤية مسبقة عند المحررين الذين كانوا يواجهون بالفعل مَهمة على قدر كبير من الصعوبة والتعقيد، قِوامها تنظيم تركة ضخمة من التقاليد في سياق متتابع، من شأنه خلق ماضٍ لإسرائيل التوراتية، باعتبارها شعبًا موحدًا منذ البداية، تحت خط قيادي متسلسل واحد، ومعتقد ديني واحد. إن هاجس «الأصول» يسيطر على الأسفار الخمسة سيطرة تامة، ويتعداها إلى بقية الأسفار، وخصوصًا تلك التي يدعوها الباحثون بالأسفار التاريخية من يشوع إلى الملوك الثاني. وما نعنيه بالأصول هنا هو نشأة وتكوين تلك الجماعات التي شكَّلت فيما بعد إسرائيل. وقد حملت عملية البحث عن الأصول المحررين بعيدًا نحو بداية الأزمان، فابتدءوا من تكوين العالم وخلق البشر وتوزع شعوبهم وقبائلهم، وذلك من أجل توضيح نسب إسرائيل، ومكانة شعبها بين الشعوب الأخرى. فقصص الآباء تبدأ عقب الطوفان، وبعد تشتت شمل الشعوب وتفرقها، مما تقصه أسطورة برج بابل. وفي بقية الأسفار الخمسة التي تقص ملحمة الخروج نواجه حشدًا من التقاليد المتفرقة التي تعزف على نغمة الأصول، أو تتعلق بها مباشرة؛ أصول إسرائيل كأمة، اختيار إسرائيل من قِبل الرب، أصول المفاهيم الأيديولوجية المركزية، مثل التوراة والفصح والكهنوت وتابوت العهد، والعهد الإلهي. وبعد الأسفار الخمسة يأتي سفر يشوع وسفر القضاة ليؤسسا لأصول إسرائيل في الأرض، وذلك من خلال روايات عن الفتح العسكري والاستقرار في الأرض، دُبِّجت بأسلوب قوي وحيوي جعل المؤرخين خلال حقبة طويلة من الزمن ينظرون إليها باعتبارها ذكريات تاريخية عن بدايات تشكُّل الشعب الإسرائيلي. فإذا انتقلنا إلى سفر صموئيل الأول وسفر صموئيل الثاني وجدنا هذه المفاهيم والأفكار وقد وصلت مرحلة النضج من خلال التقاليد التي تقص عن نشأة وصعود المملكة الموحدة، واستمرار فهم إسرائيل لنفسها كأمة الله. وهذا الصعود مرتبط بالانهيار والدمار الذي يقصه سفر الملوك الأول وسفر الملوك الثاني. إن خلاصة الأمر، فيما يمكن للنقد النصي لقصة الخروج أن يوصلنا إليه، هو أن هذه القصة في شكلها ومضمونها هي من نوع الملاحم التي يُدبِّجها عادةً الخيالُ الشعبي عن البدايات التي تلامس عالم الأسطورة. ولكن بينما تنمو الملحمة الشعبية بشكل تلقائي يعبر عن شخصية الشعب وقيمه، فإن ملحمة الخروج قد جاءت كقصة ناجزة، ومؤلفة بعناية وقصد، رغم اعتمادها على عناصر ملحمية متفرقة مُغرِقة في القِدَم، ومُنتزَعة من سياقاتها الأصلية. لقد أخفقت حتى الآن كل الجهود التي بُذلت من أجل إثبات تاريخية أحداث قصة الخروج، ولم يستطع المؤرخون وضع هذه الأحداث ضمن إطار تاريخي محدد. فالمصادر المصرية لا تذكر شيئًا عن وجود الإسرائيليين في مصر، ولا عن خروجهم منها، سواء بالطريقة الموصوفة في التوراة أم بأية طريقة أخرى. ومن جهة أخرى، فإن النص التوراتي نفسه لا يورد أية معلومة عن الأوضاع في مصر والأحداث الجارية فيها، يمكن مقاطعتها مع ما نعرفه تاريخيًّا عن تلك الفترة، ولا يورد اسم شخصية مصرية معروفة لنا وموثَّقة تاريخيًّا. وفيما يتعلق بفرعون الخروج، فقد أغفل النص ذكر اسمه أو اسم أحد من حاشيته وقواده، ومعلوماتنا عن فراعنة الأسرة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة تنفي أن يكون أحدهم قد مات غرقًا. والشيء نفسه ينطبق على القسم الثاني من أحداث الخروج، الذي يُفترض وقوعه في مناطق شرقي الأردن وسوريا، فلا المصادر الخارجية تؤيد الرواية التوراتية، ولا تسعفنا هذه الرواية بأية معلومة تساعدنا على تثبيت الإطار التاريخي لها. من هنا، فإن قصة الخروج من مصر تبقى معلقة في فضاء تاريخي تام، ولا يستطيع التاريخ إثبات أي جزء من أجزائها، بل إن المؤرخين الجدد يميلون إلى نفيها جملةً وتفصيلًا. في ظل هذه الحقائق غير الواعدة، هل نستطيع وضع تاريخ للخروج، ولو من الناحية النظرية، اعتمادًا على المادة التوراتية وحدها؟ لتحقيق هذه الغاية يمكن لنا إجراء تمرينين ذهنيين؛ فإما أن نأخذ نقطة ما في الزمن تسبق حادثة الخروج ثم نبدأ العد الزمني هبوطًا إليه، أو أن نأخذ نقطة ما في الزمن تالية للخروج ثم نأخذ بالعد صعودًا. ففي الحالة الأولى نستطيع جمع الفترات الزمنية لحياة الآباء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهي ٣٧٠ سنة (راجع التكوين، ٢٥: ٧، و٣٥: ٣٧، و٤٧: ٢٨) ثم نضيف إليها فترة العبودية في مصر، وهي ٤٣٠ سنة (راجع الخروج، ١٢: ٤٠–٤١) لنخرج بالرقم ٧٣٧ سنة. ولكن هذه الطريقة غير مُجْدية لسببين؛ الأول هو أن النص التوراتي يُعْلِمنا كم دام عصر الآباء، ولكنه لا يُعْلِمنا متى ابتدأ هذا العصر. والسبب الثاني هو أن النص يناقض نفسه في أكثر من موضع حول الفترة التي قضاها الإسرائيليون في مصر، وقد تعرضنا لهذه النقطة سابقًا. فإذا انتقلنا إلى العد العكسي من نقطة متقدمة في الزمن عن حادثة الخروج، بدا الأمر لنا واعدًا بنتائج أفضل. ففي النص التوراتي لدينا حادثة واحدة فقط مرتبطة زمنيًّا بالخروج، هي حادثة بناء هيكل سليمان في أورشليم. فسفر الملوك الأول يخبرنا أن الملك سليمان قد بنى هيكل الرب بعد أربعمائة وثمانين سنة من مغادرة بني إسرائيل لمصر: «وكان في سنة الأربعمائة والثمانين لخروج بني إسرائيل من أرض مصر، في السنة الرابعة لمُلك سليمان على إسرائيل؛ أنه بنى البيت للرب» (الملوك، ٦: ١). وبما أنه من المتفق عليه بين المؤرخين أن سليمان قد اعتلى عرش المملكة الموحدة حوالي عام ٩٦٢ق.م. فإن العد الصاعد نحو الخروج يعطينا العام ١٤٣٨ق.م. كتاريخ محتمل لهذه الحادثة. وفي الحقيقة فإن أرض رعمسيس ومدينة رعمسيس — مما ورد ذكره في سفر الخروج — مسألة لا يمكن الاعتماد عليها في تحديد زمن الخروج؛ لأن المحرر التوراتي قد استخدم اسم أرض رعمسيس في الإشارة إلى منطقة الدلتا منذ أيام يوسف، أي قبل بناء مدينة رمسيس بحوالي خمسمائة سنة. نقرأ في التكوين (٤٧: ١١): «فأسكن يوسف أباه وإخوته وأعطاهم مُلكًا في مصر في أفضل الأرض، في أرض رعمسيس، كما أمر فرعون.» وهذا يعني أن المحرر التوراتي، الذي كان يكتب سفر الخروج في فترة متأخرة من الألف الأول قبل الميلاد، قد استخدم الاسم الذي يعرفه لمنطقة الدلتا بصرف النظر عن ارتباط هذا الاسم بفترة تاريخية معينة. ومن ناحية أخرى، فإنه يحق لنا هنا أن نتساءل: لماذا ذَكرت رواية الخروج اسم أرض رعمسيس أو مدينة رعمسيس، وغفلت عن ذكر اسم فرعون الخروج الذي من المفترض أن يكون رعمسيس نفسه؟ يطرح مسار الخروج — من أرض رعمسيس إلى قادش برنيع فشرقي الأردن — إشكالاتٍ أخرى لا تقل عن إشكالات زمن الخروج. فلقد تفادى الهاربون الطريق الدولي المعروف بطريق البحر، وهو الطريق الأقصر الذي يصل الدلتا بمناطق فلسطين الساحلية، وفضلوا عليه الدوران عبر مسلك صحراوي طويل جدًّا. ويُسوِّغ النص التوراتي هذا الخيار غير المنطقي بالخوف من المواجهة العسكرية المتوقعة في أرض فلسطين: «وكان لما أطلق فرعون الشعب أن الله لم يَهدِهم في طريق أرض الفلسطينيين مع أنها قريبة. لأن الله قال: لئلا يندم الشعب إذا رأَوْا حربًا ويرجعوا إلى مصر. فأدار الله الشعب في طريق برية بحر سوف …» (الخروج، ١٣: ١٧–١٨). نلاحظ هنا أن المحرر قد استخدم تسمية أرض الفلسطينيين للدلالة على المناطق الساحلية الجنوبية لفلسطين، علمًا أن أول ذكر للفلسطينيين (أو الفلستيين) ورد في نص للفرعون مرنفتاح، الذي رد هجوم شعوب البحر عن مصر، وبينهم هؤلاء الفلستيون، حوالي عام ١١٨٥ق.م. أي بعد التاريخ المفترض للخروج بنصف قرن على الأقل، وعندما لم يكن هؤلاء قد توطنوا على الساحل وأسسوا مدنهم الخمس المعروفة. وهذا يدل بوضوح على أن المحرر كان يستند إلى التسميات الجغرافية المعروفة لديه وقت تحرير الأسفار؛ لأن هذه المناطق الساحلية من فلسطين بقيت تُدعى بأرض الفلستيين حتى العصر الفارسي. بعد عبورهم البحر يتجه الهاربون إلى أعماق سيناء وهدفهم جبل حوريب، وبعد إقامتهم عند الجبل سنة وتسعة أشهر تقريبًا يتحركون شمالًا نحو قادش برنيع.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/1.4/
إسرائيل في كنعان
تُعتبر فترة تل العمارنة أكثر فترات عصر البرونز الأخير توثيقًا، وتمتد من أواسط القرن الخامس عشر إلى أواسط القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وقد سُميت هذه الفترة بعصر العمارنة نسبةً إلى موقع تل العمارنة في مصر العليا، حيث ابتنى الفرعون أمنحوتب الثالث عاصمة جديدة له هنا، عُثر بين أنقاضها على أرشيف ملكي غني يضم عددًا كبيرًا من الرسائل المتبادلة بين أمنحوتب الثالث وابنه أمنحوتب الرابع (إخناتون) وبين ملوك سوريا وفلسطين والأناضول وبابل. وتعطينا هذه الرسائل صورة واضحة عن الأوضاع السياسية في منطقة الشرق القديم، وعن العلاقات بين القوى العظمى في ذلك الوقت. فخلال عصر البرونز الأخير تقاسمت ثلاثُ قوًى كبرى مناطقَ النفوذ على المسرح الدولي، وهي ميتاني في الجزيرة والشمال السوري، وحاتي في الأناضول ومصر إلى الجنوب. وإلى جانب هذه القوى الكبرى الثلاث، فقد كان لسلالة الملوك الكاشيين الذين ورثوا مملكة حمورابي سلطة كاملة على مناطق سومر وأكاد لم ينازعهم فيها أحد، وقد مالوا إلى تعزيز صلاتهم الدبلوماسية مع القوى الكبرى، وخصوصًا مصر، تفاديًا لصدامات غير متكافئة مع أيٍّ منها. ونعرف من الوثائق المصرية أن أحد ملوك بابل الكاشيين قد أرسل أميرات من عائلته الملكية ليكنَّ زوجات لأمراء مصريين، وطالب عبثًا بأن يتزوج من أميرة مصرية. كما عملت ميتاني من جهتها على خَطْب ود ملوك الأسرة الثامنة عشرة الأقوياء، وزوَّجت اثنتين من أميراتها على التوالي إلى كل من الفرعون أمنحوتب الثالث وأمنحوتب الرابع. أما حاتي فقد مارست الضغط المتواصل على مناطق التواجد المصري في سوريا، واستفادت من فترة الضعف المصري خلال حكم إخناتون لتدفع مناطق نفوذها نحو أواسط سوريا، بعد أن كان تحوتمس الثالث قد عسكر عند مناطق الفرات الأوسط، وفرض نفوذه على معظم مناطق وسط وجنوب بلاد الشام. وفيما يتعلق بآشور فلم تكن قد دخلت مسرح الحياة الدولية لعصر البرونز الأخير، إلا أنها كانت تمارس ضغطًا بطيئًا ومتصلًا على كل من ميتاني وبابل. ورغم أن الممالك السورية كانت واقعة تحت نفوذ هذه القوة الكبرى أو تلك، إلا أنها مارست تأثيرًا ثقافيًّا واسع النطاق. ولا أدَل على ازدهار الحياة الثقافية في هذه الممالك من أرشيف مدينة أوغاريت، والذي يُعتبر أهم تركة ثقافية لعصر البرونز الأخير بكامله. وتقدم رسائل تل العمارنة المتبادلة بين الملوك السوريين والفلسطينيين، والبلاط المصري، خلال حكم الفرعون إخناتون؛ معلوماتٍ قيمةً عن الأوضاع السياسية لمنطقة فلسطين والساحل الكنعاني. فقد كانت هذه المنطقة تموج بالاضطرابات والنزاعات الداخلية الناجمة عن الغياب المفاجئ للقوة المصرية هنا، بسبب المشكلات الداخلية التي كان يواجهها إخناتون، وطموحات الحثيين لملء الفراغ المصري. وقد استغل الفرصة بشكل رئيسي الملك عازيرو، ملك مقاطعة آمورو (التي كانت تشغل منطقة طرطوس الحالية على الساحل، وامتدادات واسعة نحو الداخل)، فقام — بدعم وتحريض من مملكة حاتي — بمحاولة تقويض ما تبقى من النفوذ المصري في سوريا الجنوبية وفلسطين عن طريق مهاجمة الدويلات الموالية لمصر، بالتعاون مع جماعات العابيرو التي كانت تَعيث فسادًا في المنطقة. ولدينا عدد من الرسائل التي تشكو إلى الفرعون تعديات عازيرو وجماعات العابيرو المسلحة، ومنها هذه الرسالة التي بعث بها أمير أورشليم المدعو عبدي هيبة: ولدينا رسائل مشابهة من ملوك جبيل ومجدو وشكيم وجازر وصور. تقول رسالة ملك صور: وتتقاطع النصوص الحثية مع النصوص المصرية بخصوص بعض أحداث المنطقة خلال هذه الفترة. فلدينا نص معاهدة حثية مع عازيراس (عازيرو) ملك آمورو، تؤكد لنا خضوعه لحاثي، وقيامه بخلق الاضطرابات في المنطقة لصالحها. نقرأ في المعاهدة: نلاحظ من أسماء زعماء العابيرو في رسائل تل العمارنة أن بعضهم من أصل سامي، مثل ملكيلو (ملك-إيلو)، وبعضهم الآخر من أصل هندو-أوروبي، مثل شوارداتا ولابايو. وهذا يدل على الأصول المختلفة لجماعات العابيرو وعدم انتمائها إلى منشأ إثني عرقي واحد. إن الدراسة المتأنية لرسائل تل العمارنة تدل على أن العابيرو كانوا أشتاتًا من الشرائح التي تعيش على هامش المجتمع، ولا تمارس دورًا محددًا في النشاط الاقتصادي لدويلات المدن المحلية. فقد تُقدِّم خدمات عَرَضية لأهل المدن أو لأهل المناطق الزراعية، وقد تتحد في عصابات تمارس النهب والسرقة، أو تعمل جنودًا مرتزقة في خدمة الملوك، شأنها في ذلك كله شأن الخابيرو، الذين تعرفنا عليهم من خلال سجلات ثقافة البرونز الوسيط في مملكة ماري وغيرها. وفي الحقيقة، فإن كلمة عابيرو هي المعادل في اللغة السامية الغربية لكلمة خابيرو في السامية الشرقية (الأكادية)؛ ذلك أن حرف العين في الكتابة الأكادية قد سقط من الاستعمال منذ زمن بعيد وحل محله حرف الخاء. انتهى عصر البرونز الأخير بكارثة مناخية واقتصادية شاملة، كما أشرنا منذ قليل، وانهارت ممالك ذلك العصر من بحر إيجة إلى الأناضول هبوطًا نحو الساحل السوري وفلسطين. فقد ضربت المجاعة أنحاء المملكة الحثية جميعها في أواخر القرن الثالث عشر، وأرسل الملك الحثي يطلب شحنة قمح من أوغاريت. ولم تلبث المملكة طويلًا حتى تفككت، وراح سكانها يبحثون عن مناطق جديدة تُعيلهم في كل حدب وصوب، ثم تبعتها أوغاريت التي لم تصمد طويلًا حتى انهارت تمامًا حوالي عام ١١٨٢ق.م. ويبدو أن شعوب البحر الذين أخلَوْا مناطقهم في اليونان وجزر بحر إيجة، وحطَّ فريق منهم على الشواطئ الحثية؛ كانوا يسيرون في أرض محروقة خلت من السكان والزرع والضَّرْع. ولعل الشيء نفسه ينطبق على أوغاريت التي يرجِّح بعض الباحثين اليوم أنها لم تسقط بيد شعوب البحر، وإنما هجرها سكانها بعد أن ضربتها الزلازل، ولم تكن البنية الاقتصادية للمدينة تسمح بإعادة بنائها. وتسير هذه الفرضية إلى القول بأن معظم المدن التي دُمرت خلال هذه الفترة كانت في حالة انهيار اقتصادي كامل أدى إلى إطلاق رصاصة الرحمة عليها بوسائل شتى. من هنا، فإن النظرية القديمة، التي تعزو دمار ثقافة عصر البرونز الأخير إلى الجماعات المدعوة بشعوب البحر، لم تَعُد بالنظرية المفضلة الآن. ولكن من هم بالضبط شعوب البحر الذين كتبوا الفصل الأخير في مسلسل انهيارات ثقافة البرونز الوسيط؟ بعد انهيار الحضارة المسينية في كريت وجزر بحر إيجة بتأثير الكارثة المناخية، والغزوات العسكرية التي أجهزت عليها؛ تم اقتلاع جزء كبير من سكان هذه المناطق وتشتيتهم في الأصقاع المجاورة. ويبدو أن ضغط البرابرة على اليونان وجزر بحر إيجة، قد أدى إلى سلسلة من تحركات الشعوب بحثًا عن مناطق جديدة للاستقرار، بعيدًا عن عالم تم تهديمه تمامًا. وقد وصلت طلائع هذه الفئات الهائمة — التي ترتحل مع خيامها وأُسرها ومتاعها المنزلي — إلى شمال أفريقيا، وتعاونت مع الليبيين الذين كانوا يتربصون منذ زمن طويل للانقضاض على مصر، فتقدم هذا التحالف المؤقت نحو الدلتا في محاولة للاستقرار فيها. ولكن الفرعون مرنفتاح تصدى لهم بقوة، وردَّهم عن حدود مصر البرية والبحرية في معركة فاصلة جرت حوالي عام ١٢٢٠ق.م. وفي الوقت نفسه تقدمت جماعات متحدة أخرى من شعوب البحر هؤلاء، منطلقةً من نقطة ما من الأرخبيل الإيجي، وحطَّت على شواطئ آسيا الصغرى مخترقةً أراضي المملكة الحثية المخرَّبة وشبه المهجورة، مستوليةً على ما يمكن الاستيلاء عليه مما أبقت عليه المجاعة التي توطنت في تلك المناطق. ثم تابعت طريقها هبوطًا نحو بلاد الشام مهدِّمةً أو مستوليةً على المدن التي صمدت أمام الكارثة المناخية، وأخذت الطريق الساحلي نحو فلسطين حيث أشاعت الفوضى والدمار في ممالك المدن الكنعانية، وهدفها الأخير مصر، أسمن الطرائد في ذلك العصر. ولكن خليفة مرنفتاح الفرعون رمسيس الثالث تصدى لهم في جنوب فلسطين، وقضى عليهم نهائيًّا كجماعة عسكرية موحدة، فتفرقوا في المنطقة وذابوا تدريجيًّا في تركيبها السكاني. ويبدو من الوثائق المصرية أن فريقًا منهم، وهو الذي يُدعى البيليست، قد توطَّن في ساحل فلسطين الجنوبي، وهي المنطقة التي تدعوها الأسفار التوراتية بأرض الفلسطينيين، وتدعوها الوثائق الآشورية بفلستيا. هذه هي الصورة العامة للمسرح الذي اقتحم عليه يشوع بن نون بقبائله العبرانية، ووزع أرض كنعان على تلك القبائل وَفق الرواية التوراتية. فإلى أي حد تنطبق أحداث سفر يشوع وسفر القضاة من بعده على هذه الصورة؟ يقدم لنا محررو التوراة نظريتين متناقضتين لتفسير أصول القبائل الإسرائيلية في كنعان؛ نظرية الاقتحام العسكري الصاعق عبر نهر الأردن، والتي تقوم على أساس أحداث سفر يشوع، ونظرية التسلل السلمي التدريجي، التي تقوم على أساس أحداث سفر القضاة. وهذان السفران متناقضان في تفاصيلهما جميعها إلى درجة تدفع إلى القول بأن محرر سفر القضاة لم يقرأ أو يطَّلع على سفر يشوع، وأن القائمين على عملية الصياغة الأخيرة للنص التوراتي لم يكونوا في موقف يساعدهم على تفضيل إحدى النظريتين على الأخرى، فوضعوهما جنبًا إلى جنب، ربما في انتظار صياغة نهائية للنص لم ترَ النور حتى الآن. وسنتفرغ فيما يلي لسفر يشوع. بعد موت موسى أمر الرب يشوع بن نون — وكان الذراعَ العسكري الأيمن لموسى — أن يستلم زمام القيادة قائلًا: «موسى عبدي قد مات. فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لبني إسرائيل. كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى … فأمر يشوع عُرَفاء الشعب قائلًا: جوزوا في وسط المحلة ومُرُوا الشعب قائلين: هيئوا لأنفسكم زادًا؛ لأنكم بعد ثلاثة أيام تعبرون الأردن هذا، لكي تدخلوا فتمتلكوا الأرض التي يعطيكم الرب» (يشوع، ١: ١–١١). وعندما حل الموعد المضروب، وتقدم يشوع بقواته لعبور الأردن، وأمامهم تابوت العهد، انفلقت مياه النهر أمامهم في معجزة إلهية ثانية كمعجزة بحر سوف، وعبروا على اليابسة، ثم عاد الماء سيرتَه الأولى. خيَّم يشوع في موقع الجلجال في تَخْم مدينة أريحا الشرقي، وخاطب الشعب قائلًا: «غدًا تُعلِّمون بَنِيكم قائلين: على اليابسة عبر إسرائيل هذا الأردن، لأن الرب إلهكم قد يبَّس مياه الأردن أمامكم حتى عبرتم، كما فعل الرب إلهكم ببحر سوف الذي يبَّسه من أمامنا حتى عبرنا. لكي تعلم جميع شعوب الأرض يد الرب أنها قوية» … «فحلَّ بنو إسرائيل في الجلجال، وعملوا الفصح في اليوم الرابع عشر من الشهر مساءً في عربات أريحا، وأكلوا من غلة الأرض في الغد بعد الفصح فطيرًا وفريكًا. وانقطع المنُّ في الغد عند أكلهم من غلة الأرض، ولم يكن بعدُ لبني إسرائيل منٌّ» (يشوع، ٣–٥). لم يدم حصار مدينة أريحا المنيعة أكثر من سبعة أيام؛ لأن الرب أظهر في أريحا معجزةً أخرى. لقد أمر الرب يشوع أن يدور بجنوده حول أسوار المدينة في كل يوم مرة، وفي اليوم السابع لدى إتمامهم سبع دَوْرات، يقوم حَمَلة الأبواق بالنفخ فيها بصوت عظيم، يتبعهم الشعب جميعه بهتافات مدوية، فيسقط سور المدينة من تلقاء ذاته، وتكون المدينة وكل ما فيها محرمًا للرب. والتحريم بالمصطلح التوراتي هو تقديم سكان المدينة المغلوبة قربانًا للرب مع مواشيهم وكل نفس حية من ممتلكاتهم. أما الممتلكات المادية الثمينة، كأواني الفضة والنحاس والذهب، فتكون قدسًا للرب، وتدخل في خزانة الرب. فعل يشوع ما أمره الرب، وسقطت أسوار أريحا من تلقاء ذاتها، فدخل يشوع وجنوده وأبادوا أهل المدينة عن بَكرة أبيهم مع حيواناتهم ومواشيهم، ثم نُهبت المدينة وأُحرقت بالنار (يشوع، ٦). ومن أريحا يتجه يشوع نحو مدينة عاي القريبة منها، ولكنه يُهزم هزيمة منكرة: «فضرب منهم أهل عاي نحو ستة وثلاثين رجلًا، ولحقوا بهم وضربوهم في المنحدر. فذاب قلب الشعب وصار مثل الماء. فمزق يشوع ثيابه وسقط على وجهه إلى الأرض أمام تابوت الرب إلى المساء، هو وشيوخ إسرائيل، ووضعوا ترابًا على رءوسهم.» عند ذلك يخبر الرب يشوع عن سبب هزيمتهم، ونعرف أن واحدًا من رجال إسرائيل قد احتفظ لنفسه بثوب وبعض الأمتعة النفيسة في أريحا، مخالفًا بذلك أمر التحريم. فيؤخذ المذنب مع بنيه وبناته وبقره وحميره وغنمه وخيمته فيُرجمون جميعًا ثم يُحرقون بالنار، حتى يرجع غضب الرب عن إسرائيل. وعندما شنَّ يشوع حملته الثانية على مدينة عاي أخذها وقتل سكانها جميعًا، وجعلها «تلًّا خرابًا أبديًّا إلى هذا اليوم.» ولكن البهائم نهبها إسرائيل لأنفسهم حسب قول الرب الذي أمر به يشوع (يشوع، ٧–٨). ولما سمع سكان جبعون القريبة من أريحا نحو الشرق، خافوا من مواجهة إسرائيل، وصعد وفد منهم بخدعة إلى يشوع وقد ارتدَوْا أسمالًا بالية ونعالًا ممزقة، وفي أكياس زادِهم خبزٌ يابس قد صار فتاتًا، وطلبوا الأمان لمدينتهم منه قائلين إن مدينتهم بعيدة جدًّا وفقيرة، وها هي ثيابهم قد بليت، ونعالهم قد تشققت من طول المسافة، وزادُهم من الخبز قد تفتت ويبس في الطريق. فقطع لهم يشوع ورؤساء جماعته عهدًا بعدم الاعتداء عليهم. وبعد سفرهم عرف يشوع أن المدينة قريبة وميسورة الحال، ولكنه بقي على العهد الذي قطعه لهم، وأمر بتسخيرهم لخدمة إسرائيل، وجعل منهم مُحتطبي حطبٍ ومستقي ماءٍ للجماعة ولمذبح الرب (يشوع، ٩). «فاجتمع ملوك الآموريين الخمسة؛ ملك أورشليم، وملك حبرون، وملك يرموت، وملك لخيش، وملك عجلون، وصعدوا هم وكل جيوشهم، ونزلوا على جبعون وحاربوها. فأرسل أهل جبعون إلى يشوع إلى المحلة في الجلجال يقولون: لا تُرخِ يديك عن عبيدك. اصعد إلينا عاجلًا وخلصنا … فصعد يشوع من الجلجال ورجال الحرب جميعهم معه وكل جبابرة البأس. فقال الرب ليشوع: لا تَخَفهم، لأني بيدك قد أسلمتهم، لا يقف رجل واحد منهم بوجهك. فأتى إليهم يشوع بغتةً، صعد الليل كله من الجلجال، فأزعجهم الرب أمام إسرائيل، وضربهم ضربة عظيمة في جبعون. وبينما هم هاربون من أمام إسرائيل وهم في منحدر بيت حورون رماهم الرب بحجارة عظيمة من السماء … حينئذٍ كلم يشوع الرب وقال أمام عيون إسرائيل: يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر على وادي أيلون، فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه» … أما الملوك الخمسة، فقد قبض عليهم يشوع وقتلهم وعلقهم على أعمدة من خشب. بعد ذلك يتابع يشوع مسيرته جنوبًا ويستولي على المدن التالية: مقيدة، لبنة، لخيش، جازر، عجلون، حبرون، دبير، وصولًا إلى غزة على الساحل، ثم ينعطف نحو الصحراء ليصل إلى قادش برنيع، دون أي ذكر لمدينة أورشليم، التي كانت رأس تحالف الملوك الخمسة. بعد ذلك يقفل عائدًا إلى مخيمه في الجلجال قرب أريحا (يشوع، ١٠). وكانت حاصور درة مدن الشمال وأقواها. فجمع ملكها المدعو يابين إليه ملوك الشمال «فخرجوا هم وكل جيوشهم معهم، شعبًا غفيرًا كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة، بخَيل ومركبات كثيرة جدًّا. فاجتمع هؤلاء الملوك بميعاد، وجاءوا ونزلوا معًا على مياه ميروم لكي يحاربوا إسرائيل … فدفعهم الرب بيد إسرائيل فضربوهم وطاردوهم … ثم رجع يشوع في ذلك الوقت وأخذ حاصور وضرب ملكها بالسيف، وضربوا كل نفس بها بحد السيف، حرموهم، لم تبقَ نسمة، وأُحرق حاصور بالنار. فأخذ يشوع كل مدن أولئك الملوك وجميع ملوكها وضربهم بحد السيف، حرَّمهم كما أمر موسى عبد الرب. وكل غنيمة تلك المدن والبهائم نهبها بنو إسرائيل لأنفسهم … فأخذ يشوع كل الأرض حسب ما كلم به الرب موسى، وأعطاها يشوع ملكًا لإسرائيل حسب فرقهم وأسباطهم، واستراحت الأرض من الحرب» (يشوع، ١١). بعد ذلك لا يبقى أمام يشوع سوى الانشغال بكيفية توزيع أرض كنعان على الأسباط، ورسم الحدود الدقيقة لأراضي كل سبط. وهذا ما تُفصِّله بقية إصحاحات سفر يشوع من ١٢ إلى ٢٤، ثم يموت يشوع وعمره مائة وعشر سنين. يستمر في سفر يشوع أسلوب السرد الملحمي الممزوج بعناصر قصصية خرافية. فعبور نهر الأردن يتم بعد انفلاق الماء أمام الإسرائيليين، وسور أريحا يسقط من تلقاء ذاته على صوت الأبواق والهتافات العالية، والسماء تمطر حجارة ثقيلة على الجيوش الخمسة وتقتل منهم أكثر مما قتله الجنود، والشمس تقف في كبد السماء ولا تَعجَل للغروب حتى يطول النهار ويُسمح بانتصار الإسرائيليين. ثم يَعمِد المحرر فوق ذلك إلى تلوين روايته بعناصر من القصص الشعبي. فقبل الهجوم على أريحا يبعث يشوع برجلين من عنده للتجسس على المدينة، فذهبا ودخلا بيت امرأة زانية اسمها راحاب، واضطجعا هناك، فعرف ملك أريحا بأمر الجاسوسين وبمكان إقامتهما، فأرسل إلى راحاب يُعْلمها بأن الرجلين من الجواسيس ويطالبها بتسليمهما، ولكن المرأة خبأتهما على سطح بيتها بين عيدان الكتان، وقالت لرسل الملك بأنهما غادرا قبل إغلاق بوابات المدينة مساءً، فلحقوا بهما في طريق الأردن إلى المخاوض. ثم أنزلت الرجلين وقالت لهما: «علمت أن الرب قد أعطاكم الأرض، وأن رعبكم قد وقع علينا، وأن جميع سكان الأرض قد ذابوا من أجلكم … فالآن احلفا لي بالرب وأعطياني علامة أمانة — لأني عملت معكما معروفًا — بأن تعملا أنتما أيضًا مع بيت أبي معروفًا وتخلصا أنفسنا من الموت.» فوعدها الرجلان خيرًا وانطلقا إلى المعسكر. وحين استباح يشوع المدينة لم يُبقِ فيها إلا على راحاب وعائلتها بسبب المعروف الذي صنعته لهم. وتعتمد قصة الصلح مع مدينة جبعون على عناصر التشويق والفكاهة الضمنية المعروفة في حكايا الشطار والعيارين. فالقائد العسكري المهيب ينخدع بحيلة رسل أهل جبعون، ويصدق قصتهم عن مدينتهم البعيدة والفقيرة جدًّا، ويعطيهم الأمان، ليعرف بعد قليل أن جبعون لا تبعد أكثر من بضعة أميال عن أريحا. وبالطبع فإن مثل هذه الحيلة لا يمكن أن تنطلي على قائد مُحنَّك عمل مسبقًا على دراسة مسرح عملياته القتالية، وجمع المعلومات الكافية عن مدن العدو وقلاعه وحصونه وطبيعة أرضه. هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن مصادر معلومات يشوع لم تكن وقفًا على الزانيات الخائنات. قد تبدو الاستراتيجية العسكرية التي اتبعها يشوع مقنعة أحيانًا، ويقترب النص التوراتي في سردها مما يشبه التاريخ، غير أن تدخل العناصر اللاهوتية والملحمية ما يلبث أن يعيد عملية السرد إلى نهجها الخيالي الذي التزمته، رغم اجتماع عناصر الحادثة التاريخية أمام المحرر. فالهجوم الأول على مدينة عاي يفشل لأن جنديًّا سرق بعض المتاع من أريحا، التي أمر الرب أن يكون كل ما فيها له. ولا يفلح الإسرائيليون في هجومهم الثاني إلا بعد تقديم المذنب أمام الرب ورجمه حتى الموت مع أفراد عائلته جميعهم. وفي قصة لقاء يشوع مع ملك حاصور يبدأ المحرر في تجميع العناصر المنطقية لقصته، حين يأخذ يابين ملك حاصور بجمع ملوك الشمال الخمسة من أجل الوقوف في وجه يشوع العائد منتصرًا من الجنوب، إلا أن القصة ما تلبث حتى تتخذ المسار الملحمي المعهود، فنجد أن المجتمعين عند مياه ميروم للقاء يشوع ليسوا ملوك التجمع الشمالي فقط، بل ملوك من شتى أنحاء فلسطين؛ من اليبوسيين في الجنوب إلى الحويين عند سفوح جبل الحرمون، فصار أعداء إسرائيل مثل الرمل الذي على شاطئ البحر، على حد قول النص. وبذلك غلبت الحبكة الملحمية على الحبكة التاريخية بشكل مقصود ومتعمد. وفيما يتعلق بمدينة أورشليم، فإن وضعها قد بقي غامضًا في استراتيجية يشوع، فقد قتل يشوع ملكها الذي كان رأس تحالف ملوك الجنوب الخمسة، ولكنه لم يُعرِّج على المدينة في طريقه نحو الجنوب، بل تابع حملته جنوبًا وصولًا إلى غزة، ثم عاد إلى مقره في الشمال دون أي ذكر لأورشليم. وعندما يأتي النص على ذكر توزيع الأراضي المكتسبة على الأسباط يقول بشأن أورشليم: «وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم إلى هذا اليوم» (يشوع، ١٥: ٦٣). وفي الحقيقة، فإن عملية توزيع الأراضي المكتسبة في كنعان على القبائل الإسرائيلية تُظهر بوضوح أن حملات يشوع العسكرية لم تكن حاسمة، وأن العديد من المدن التي ذكر النص سابقًا عن تدميرها وإبادة سكانها ما تزال قائمة وسكانها أقوياء، وأن الإسرائيليين عاجزون عن طردهم والحلول محلهم. فعن مدينة جازر مثلًا نقرأ في حكاية الحملة العسكرية الجنوبية ليشوع: «حينئذٍ صعد هورام ملك جازر لإعانة الجيش، فضربه يشوع مع شعبه ولم يُبقِ له شاردًا» (يشوع، ١٠: ٣٣). ثم نقرأ عن جازر بعد ذلك أن سبط أفرايم «لم يطردوا الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسط أفرايم إلى هذا اليوم» (يشوع، ١٦: ١٠). وبخصوص مدن وادي يزرعيل (مرج ابن عامر)، التي تُعد من أقوى المدن الفلسطينية وأغناها، نعرف أن سبط منسي، الذي أُعطي هذه المناطق، لم يقدر على امتلاكها، بينها بيت شان وتعنك ومجدو: «ولم يقدر بنو منسي أن يملكوا هذه المدن، فعزم الكنعانيون على السكن في تلك الأرض» (يشوع، ١٧: ١٢). وهم يشتكون إلى يشوع خوفهم من سكان هذه المناطق لأنهم أقوياء ولديهم مركبات من حديد: «فقال بنو يوسف (أفرايم ومنسي): لا يكفينا الجبل، ولجميع الكنعانيين الساكنين في أرض الوادي مركبات من حديد؛ للذين في بيت شان وقراها وللذين في وادي يزرعيل» (يشوع، ١٧: ١٦). ولسوف نرى بعد قليل في سفر القضاة أن يشوع لم يكتسب من الأرض شيئًا في كنعان، بل قام بتوزيعها نظريًّا على الأسباط، تاركًا كل سبط يعمل على اكتساب نصيبه بنفسه وعلى طريقته الخاصة. وتنم بعض تفاصيل سفر يشوع عن وجود شكل أقدم لقصة الخروج، يجعل جماعة موسى تنطلق من قادش برنيع أو من مكان ما آخر في سيناء، مباشرةً نحو كنعان دون وقفة مطولة في شرقي الأردن، وأن هذا الشكل الأقدم هو الذي استند إليه محرر سفر يشوع. فبعد عبور يشوع للأردن وحلوله في الجلجال يحتفل بنو إسرائيل بالفصح، ويأكلون من غلة الأرض لأول مرة بعد خروجهم من مصر، وينقطع عنهم المن الذي كان غذاء لهم طيلة فترة الخروج: «وانقطع عنهم المن عند أكلهم من غلة الأرض، ولم يكن بعدُ لبني إسرائيل منٌّ» (يشوع، ٥–١٢). ولما كنا نعرف من سفر العدد والتثنية أن جماعة موسى قد استولَوْا على مناطق واسعة بمدنها وقراها في شرقي الأردن، وأقاموا فيها فترة لا بأس بها، وصارت لهم مواشٍ كثيرة (التثنية، ١٣)، فإننا نعجب كيف استمر طعامهم مقتصرًا على المن الذي تجود به السماء كل تلك السنين التي قضَوْها في قادش برنيع وفي شرقي الأردن، من دون اللحم وغلة الأرض. ولا ندري ماذا فعل هؤلاء مثلًا بالألوف المؤلفة التي غنموها من أعدائهم من رءوس الغنم والبقر، مما نقرأ عنه في سفر العدد (٣١: ٣١–٣٤): «وكان النهبُ — فَضْلةُ الغنيمة التي اغتنمها رجال الجند: من الغنم ستَّمائة وخمسة وسبعين ألفًا، ومن البقر اثنين وسبعين ألفًا، ومن الحمير واحدًا وستين الفًا.» على أن النص يخبرنا في أكثر من موضع أنهم كانوا يأكلون اللحم من دون منِّ السماء. ففي العدد (٢٥: ١–٢) نقرأ: «وأقام إسرائيل في شطيم، وابتدءوا يزنون مع بنات موآب. فدعَوْنَ الشعب إلى ذبائح آلهتهن، فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهن.» وباختصار، فإن النقد النصي لسفر يشوع يُظهر أمام أعيننا أن هذا السفر في شكله وفي مضمونه ليس نصًّا تاريخيًّا بأي معيار، ولم يكن يطمح لأن يكون كذلك. وليس الإقناع الذي يمارسه السفر على قارئه لأول وهلة إلا نتاجًا لحيوية الأسلوب، وتتابع الأحداث دون فواصل أو انقطاعات وفجوات، وفوق ذلك كله اعتماد المحرر على جغرافية واقعية للحدث. يتفق معظم المؤرخين على وضع تاريخ لأحداث سفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارنة أحداث سفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدم لنا نقطة ارتكاز واحدة يمكن عندها تثبيت الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة، التي كانت تموج بالأحداث الجسيمة التي قادت إلى نهاية ثقافة بكاملها وابتداء ثقافة جديدة. فالفلستيون غير مذكورين بتاتًا، ناهيك عن بقية شعوب البحر الذين يُفترض تواجدهم بكثرة في فلسطين استعدادًا لغزو مصر. ولا يوجد ذكر للفرعون مرنفتاح (١٢١٢–١٢٠٠ق.م.) الذي هزم تحالف الليبيين مع شعوب البحر، وردهم عن حدود مصر الغربية، ثم شن بعد ذلك حملة على فلسطين حوالي عام ١٢٠٧ أو ١٢٠٨ق.م. كما لا يوجد ذكر للفرعون رمسيس الثالث، الذي قضى في عام ١١٩١ق.م. على هجوم شعوب البحر الذين انطلقوا من فلسطين، ثم تعقبهم حتى بيت شان في الشمال حيث نصب لنفسه تمثالًا عُثر عليه في أنقاض المدينة إلى جانب نص مصري يصف الحملة. وفيما عدا تلك الممالك الصغيرة في شرقي الأردن، والتي أثبتنا في نقدنا لرواية الخروج أنها لم تكن موجودة، فإن النص لا يحفل بذكر أي مدينة أو مملكة معروفة لدينا من تلك المدن الكبيرة والممالك المجاورة لفلسطين. كل هذا يؤكد أن محرري سفر يشوع كانوا يصوغون قصة بدون إطار تاريخي، ولم يكن بين أيديهم معلومات واضحة عن تلك الفترة التي اختاروها لأحداثهم، أو التي اختارها لهم المؤرخون المحدثون. وبذلك تكون دراستنا للأسفار الخمسة ولسفر يشوع قد أوصلتنا إلى نتيجة واحدة أساسية، وهي أن نهاية عصر البرونز، وبشكل خاص العقود الأخيرة من القرن الثالث عشر، لم تشهد وصول جماعة موحدة اسمها إسرائيل إلى أرض كنعان، ولا إلى أرض شرقي الأردن. ولسوف نرى فيما بعد أن الاسم «إسرائيل»، كدلالة على جماعة مميزة ذات كيان، لم يظهر في التاريخ إلا بعد ذلك بعدة قرون من الزمان، وذلك عقب بناء مدينة السامرة، وتشكيل دولة إسرائيل المعروفة تاريخيًّا في منطقة الهضاب المركزية لفلسطين، مع بدايات القرن التاسع قبل الميلاد. ولكن ماذا عن نُصُب الفرعون مرنفتاح الذي يتحدث عن حملته على جنوب سوريا، ويذكر الاسم «إسرائيل» في عداد من قهرهم الفرعون! علمًا بأن هذه هي الإشارة الأولى والأخيرة التي تتضمن الاسم «إسرائيل» في أي نص مصري. يقول نُصُب مرنفتاح في الموضع الذي يذكر فيه إسرائيل ما ترجمته: لقد ناقش الباحثون المحافظون في أن الاسم «إسرائيل»، المذكور في نُصُب مرنفتاح، يشير إلى جماعة سفر الخروج الذين حملهم يشوع إلى فلسطين. ولكن أكثر الباحثين اليوم لا يوافق على هذا الرأي؛ لأنه يحتوي ضمنًا أن تكون جماعة إسرائيل الخروج في أواخر القرن الثالث عشر قد توطدت في الأرض، وصار لها كيان سياسي من القوة والحضور في المنطقة بحيث يذكره هذا الفرعون القوي في سجل انتصاراته في بلاد كنعان، وهذا أمر لا يتفق ومعظمَ ما بناه البحث التاريخي حتى الآن. من هنا، فقد صرف البحث الحديث النظر تمامًا عن المطابقة بين إسرائيل نُصُب مرنفتاح وإسرائيل جماعة الخروج، وطرحت في تفسير النُّصُب عدة فرضيات، سأعرض باختصار إلى أهمها. ونحن إذ نورد هذه الفرضيات المختلفة في تفسير نُصُب مرنفتاح لا نقصد إلى الوقوف إلى جانب واحدة منها دون الأخرى، ولا إلى تقديم فرضية جديدة لن تنفع إلا في زيادة جدل لا طائل من ورائه، بل إلى توكيد أمر واحد، وهو أن الاسم إسرائيل في هذا النص المصري ليس له أية قيمة تاريخية علمية في تحديد زمن نشوء إسرائيل، ولا يلقي ضوءًا على مسألة أصولها في المنطقة. في سفر يشوع يُنهي المحرر قصة الحرب الصاعقة على كنعان بالمقطع التالي: «فأخذ يشوع كل الأرض حسب كل ما كلم به الرب موسى. وأعطاها يشوع مُلكًا لإسرائيل حسب فرقهم وأسباطهم. واستراحت الأرض من الحرب» (يشوع، ١١: ٢٣). ولكن سفر القضاة يعكس الآية، فتوزيع الأراضي على إسرائيل حسب فرقهم وأسباطهم يتم نظريًّا على الورق، ثم تُترك الفرق والأسباط لكي تكتسب نصيبها المقسوم على طريقتها الخاصة، وبشكل مستقل. فهنا لا وجود لحروب مُظفَّرة تشنها إسرائيل الموحدة تحت لواء واحد، أو بالتعبير التوراتي «كل إسرائيل»، بل تواجهنا عبر السفر كله معارك متفرقة دفاعية أو هجومية، تحاول من خلالها كل قبيلة أن تجد لنفسها موطئ قدم في كنعان، كما تواجهنا بكل وضوح تحركات سلمية للاستقرار بين السكان الأصليين دون حرب. أما يشوع، فعندما عبر الأردن بجماعة وحلَّ في موقع الجلجال، وَفق سفر القضاة، فإنه لم يتهيأ للانقضاض على أريحا وبقية مدن كنعان، بل توقف هناك وصرف القبائل الإسرائيلية من الجلجال لكي تتدبر كل قبيلة أمرها، وذلك تحت ذريعة أن الرب قد عَدَل عن طرد أهل كنعان من أمام إسرائيل لأنهم لم يستمعوا لصوته. نقرأ في القضاة (٢: ١–٢٣) ما يلي: «وصعد ملاك الرب من الجلجال إلى بوكيم وقال: قد أصعدتُكم من مصر وأتيت بكم إلى الأرض التي أقسمت لآبائكم وقلت: … لا تقطعوا عهدًا مع سكان هذه الأرض، اهدموا مذابحهم. ولم تسمعوا لصوتي، فماذا عملتم؟ فقلت: لا أطردهم من أمامكم، بل يكونون لكم مضايقين، وتكون آلهتهم لكم شَرَكًا. وكان لما تكلم ملاك الرب بهذا الكلام إلى جميع بني إسرائيل أن الشعب رفعوا أصواتهم وبكَوْا … فدعَوُا اسم ذلك المكان بوكيم، وذبحوا هناك للرب. وصرف يشوع الشعب، فذهب كل واحد إلى مُلكه لأجل امتلاك الأرض … ومات يشوع بن نون عبد الرب ابنَ مائة وعشر سنين … وكل ذلك الجيل أيضًا. وقام بعدهم جيل آخر لم يعرف الرب ولا العمل الذي عُمل لإسرائيل. وفعل بنو إسرائيل الشر في عينَيِ الرب وعبدوا البعليم … فحَمِي غضب الرب على إسرائيل، فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم، وباعهم بيد أعدائهم … فضاق بهم الأمر جدًّا. وأقام الرب قضاة فخلصوهم من يد ناهبيهم. ولقضاتهم أيضًا لم يسمعوا، بل زنَوْا وراء آلهة أخرى وسجدوا لها. وحينما أقام الرب لهم قضاة كان الرب مع القاضي … وعند موت القاضي كانوا يرجعون ويفسدون أكثر من آبائهم.» ثم ينتهي هذا النص المهم جدًّا لفهم عصر القضاة، كما رآه المحرر التوراتي، بالمقطع التالي الذي يُشكِّل بؤرة الطرح النقيض لطرح سفر يشوع: «فحَمِي غضب الرب على إسرائيل وقال: من أجل أن هذا الشعب قد تعدَّوْا عهدي الذي أوصيت به آباءهم ولم يسمعوا لصوتي، فأنا أيضًا لا أعود أطرد إنسانًا من أمامهم من الأمم الذين تركهم يشوع عند موته؛ لكي أمتحن بهم إسرائيل. فترك الرب أولئك الأمم ولم يطردهم سريعًا، ولم يدفعهم بيد يشوع» (القضاة، ٢: ١–٢٣). وبذلك يُنهي محرر سفر القضاة، بجرة قلم، سفر يشوع بكامله، وتتهاوى قصة الفتح العسكري لأرض كنعان كبيت من ورق. وكان أول من تقدم من الأسباط لامتلاك حصته سبطا يهوذا وشمعون: «وكان بعد موت يشوع أن بني إسرائيل سألوا الرب قائلين: مَن منَّا يصعد إلى الكنعانيين أولًا لمحاربتهم؟ فقال الرب: يهوذا يصعد. هو ذا قد دفعت الأرض ليده. فقال يهوذا لشمعون أخيه: اصعد معي في قرعتي لكي نحارب الكنعانيين، فأصعد أنا معك في قرعتك. فذهب شمعون معه. فصعد يهوذا، ودفع الرب الكنعانيين والفرزيين بيدهم فضربوا منهم في بازق عشرة آلاف رجل. فهرب أدوني بازق، فتتبعوه وأمسكوه، وقطعوا أباهِمَ يديه ورجليه، وأتَوْا به إلى أورشليم فمات هناك. وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوها بحد السيف، وأشعلوا المدينة بالنار. وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل والجنوب والسهل» (القضاة، ١: ١–٨). ونلاحظ في هذا المقطع تنويعًا على معلومات سفر يشوع بخصوص أورشليم ومَلِكها. فمن الواضح أن المدعو هنا أدوني بازق هو ملك أورشليم المدعو في يشوع أدوني صادق، لأن المنتصرين بعد المعركة قد أتَوْا به إلى أورشليم فمات هناك. أما عن حرب بني يهوذا لأورشليم والاستيلاء عليها، فإن الأحداث التالية في سفر القضاة تبين لنا أن المدينة ما زالت بيد أهلها، ولا يوجد فيها أحد من بني إسرائيل. من ذلك ما نقرؤه في الإصحاح ١٩: ١١–١٢: «وفيما هم عند يبوس (= أورشليم)، والنهار قد انحدر جدًّا، قال الغلام لسيده: تعالَ نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها. فقال له سيده: لا نميل إلى مدينة غريبة حيث ليس أحد من بني إسرائيل هنا. بل نعبر إلى جبعة.» بعد ذلك يتابع سفر القضاة شرح كيفية إقامة بني إسرائيل بين السكان الأصليين دون حرب: «ولم يطرد منسي أهل بيت شان وقراها، ولا أهل تعنك وقراها، ولا سكان دور وقراها، ولا سكان يبلعام وقراها، ولا سكان مجدو وقراها. فعزم الكنعانيون على السكن في تلك الأرض. وأفرايم لم يطرد الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في وسطه في جازر» (١: ٢٧–٢٩). «زبولون لم يطرد سكان قطرون، ولا سكان نهلال، فسكن الكنعانيون في وسطه … ولم يطرد أشير سكان عكو، ولا سكان صيدون وأحلب وأكزيب وحلبة وأفيق ورحوب. فسكن الأشيريون في وسط الكنعانيين سكان الأرض … ونفتالي لم يطرد سكان بيت شمس، ولا سكان بيت عناة، بل سكن في وسط الكنعانيين سكان الأرض … وحصر الآموريون بني دان في الجبل لأنهم لم يدعوهم ينزلون إلى الوادي …» (١: ٣٠–٣٦). إلى جانب الحروب المحلية التي كانت تقوم بها بعض القبائل، والجنوح إلى السلم والتعايش مع الكنعانيين، مما كانت تفضِّله قبائل أخرى، فقد كان للقبائل معركة كبيرة شارك فيها ستٌّ من القبائل الشمالية العشر، التي يرى دارسو سفر القضاة أن مناطق تواجدها لم تتجاوز الهضاب المركزية حتى تشكيل المملكة الموحدة. فقد كان لما عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عينَيِ الرب أنه دفعهم ليد يابين ملك حاصور. وكانت دبورة قاضية في إسرائيل في ذلك الوقت، فدعت القبائل العشر إلى قتال يابين، فاستجاب لدعوتها ست قبائل، فأرسلت دبورة إلى المدعو باراق من سبط نفتالي ودعته لقيادة التحالف، وسارت إلى جانبه في جيش تعداده عشرة آلاف مقاتل من المشاة. أما يابين ملك حاصور فقد دفع إلى المعركة بتسعمائة مركبة من حديد، على رأسها قائد جيشه المدعو سيسرا، وعندما التقى الجمعان «أزعج الرب سيسرا وكل المركبات وكل الجيش بحد السيف أمام باراق. فنزل سيسرا عن المركبة وهرب على رجليه … وسقط كل جيش سيسرا بحد السيف ولم يبقَ واحد» (القضاة، ٤). وبذلك يُقدِّم لنا محرر سفر القضاة وجهة نظره الخاصة في قتال إسرائيل لحاصور، بعد أن أخبرنا سفر يشوع أن الإسرائيليين قد أخذوا حاصور وأحرقوها بالنار، وأن يشوع قد ضرب رأس ملكها يابين بالسيف (يشوع، ١١: ١–١٠). يبدو سفر القضاة لقارئه أكثر الأسفار التوراتية تفككًا، وافتقادًا للحبكة الأدبية التي تجمع أجزاءه وأقاصيصه المتنوعة. ولعل السبب في ذلك راجع إلى غياب الشخصية المركزية التي تشكل بؤرة الحدث، وتجمع الحكايا إلى سياق واحد مشترك. فهنا، لا وجود لزعيم بارز كموسى أو يشوع، ولا لشخصية درامية متكاملة كيوسف، ولا لحدث مُطَّرد يتنامى ويتطور مما رأينا في سفر الخروج. كل ما لدينا عبارة عن مجموعة أقاصيص غير مترابطة، ولا تؤدي واحدتها إلى الأخرى مثلما تتماسك قصص الآباء. إن كل ما يُسوِّغ جمع هذا الحشد من الحكايا والأخبار مع بعضها في سفر واحد هو انتظامها في إطار أيديولوجي مفروض عليها من الخارج بشكل قسري؛ فبنو إسرائيل يُذلون ويُهانون كلما تركوا عبادة الرب، والتفتوا إلى عبادة الآلهة الكنعانية، ثم يستريحون من قاهريهم كلما ذكروا ربهم وآبوا إليه. وبذلك تُستبدل العقدة الأدبية بعقدة أيديولوجية لاهوتية لم تفلح في لملمة أجزاء السفر. معظم هذه الأقاصيص كانت على ما يبدو حكايا شعبية فلسطينية متداولة خلال العصر الفارسي، انتقاها ورتبها المحررون في تسلسل زمني غير مُطَّرد بالمفهوم التاريخي لتسلسل الأحداث، وذلك من أجل ملء الفترة الزمنية القائمة بين دخول الإسرائيليين أرض كنعان وقيام المملكة الموحدة بعد ذلك بقرنين من الزمان. وبما أنه من الصعب إعطاء لمحة عامة عن قصص وأخبار عصر القضاة جميعها، فإنني سأكتفي بتلخيص قصتين تعطيان فكرة واضحة عن ذلك النوع من قصص القضاة، وعن المنظور الأيديولوجي الذي تتحرك فيه أحداثها. الأولى قصة بنت يفتاح الجلعادي، والثانية قصة شمشون. لقد «عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عينَيِ الرب، وعبدوا البعليم والعشتاروت وتركوا الرب ولم يعبدوه، فحَمِي غضب الرب على إسرائيل وباعهم بيد الفلسطينيين وبيد بني عمون ثماني عشرة سنة، جميع بني إسرائيل الذين في عَبْر الأردن في أرض الآموريين الذين في جلعاد.» فأعلن بنو إسرائيل توبتهم وأزالوا الآلهة الغريبة من وسطهم، وعبدوا الرب ودعَوْه أن يبعث فيهم مخلِّصًا يريحهم من بني عمون. وكان يفتاح الجلعادي ابن امرأة زانية، طرده قومه من وسطهم، فخرج إلى الفلاة وصار رئيس عصابة من الأفاقين، واشتَهَر ببأسه وجبروته. ولما لم يجد الجلعاديون رجلًا مقدامًا يترأس عليهم لمحاربة العمونيين؛ جاءوا إلى يفتاح طالبين منه العودة إليهم، وعونهم على عمون. فاستجاب يفتاح مشترطًا أن يُرئِّسوه عليهم إذا نصرهم على خصومهم، فأجابوه إلى ذلك. فكان روحُ الرب على يفتاح ومشى إلى عمون بقواته. وقبل المعركة الفاصلة نذر يفتاح للرب أضحية بشرية يذبحها ويُصعِدها محرقة، واختار أن تكون هذه الأضحية هي أول شخص يخرج لاستقباله ولقائه عند باب بيته بعد عودته منتصرًا. فدفع الرب بني عمون ليد يفتاح، فشتَّت جيشهم ومَلَك أرضهم. ولدى عودته إلى بيته كان أول خارج للقائه ابنته الوحيدة، التي قابلته بالرقص والغناء والدفوف. فصرخ يفتاح لرؤيتها وبكى وأخبرها بنذره، فقبلت الابنة نذر أبيها لأن الرب أعانه على أعدائه، ولكنها طلبت مهلةً شهرين لتذهب إلى الجبال مع صُوَيحباتها وتبكي عذريتها. وكان عند نهاية المدة أنها عادت إلى أبيها، الذي وفى بنذره الذي يتضمن الذبح والحرق (القضاة، ١١). وتبتدئ قصة شمشون باللازمة المعادة والمكررة: «ثم عاد إسرائيل يعملون الشر في عينَيِ الرب … إلخ.» يلي ذلك مقدمةٌ تستخدم عناصر صارت معروفة لنا في القصص التوراتي. فهناك رجل من عشيرة دان اسمه منوح وزوجته عاقر، فتراءى ملاك (= شبح) الرب للزوجين وهما في الحقل، ولم يعرفاه، فبشَّرهما بغلام يكون نذيرًا للرب، ويخلِّص شعب إسرائيل الذي يضطهده الفلسطينيون. فدعاه منوح إلى الغداء ظنًّا منه أنه من رجال الله الصالحين، وقام ليذبح جديًا، ولكن الضيف قال له أن يُصعِد الجدي محرقة، وعندما صنع منوح المحرقة وصعد لهيبها عن المذبح؛ صعد الضيف في اللهيب نحو الأعالي. فسقط الزوجان على وجههما، وقال منوح: «موتًا نموت لأننا قد رأينا الله …» ثم ولدت المرأة ابنًا ودعت اسمه شمشون. فكَبِر الصبي وباركه الرب، وابتدأ روح الرب يحركه، فاشتَهَر بقوته البدنية الخارقة، التي كانت تعينه أحيانًا على قتل الأسود بيديه العاريتين، وشقِّ الواحد منها نصفين. رأى شمشون امرأة فلسطينية من أعداء قومه فأحبها، وطلب من أبويه أن يطلباها من أهلها، فوافقا بعد معارضة وممانعة، ووافق أهل الفتاة من طرفهم على الزواج. وكان على شمشون أن يحضر بعد أيام إلى منزل عروسه ليصطحبها إلى بيته، ولكن سوء تفاهم بين الطرفين منع الأب من إعطائه الفتاة، وزوَّجها بعد بضعة أيام من غيره. وهنا يثور غضب شمشون، ويبدأ حربه الطويلة ضد الفلسطينيين، ولكنها حرب بلا جنود ولا معدات، قِوامها شمشون الذي يقاتل وحيدًا على طريقة العصابات مستخدمًا قوته وحيلته، وجماعات الفلسطينيين، التي كان البطل يفاجئها في الأمكنة والأوقات غير المتوقعة، فيقتل منهم الآلاف بغير سلاح، أو باستخدام أدواتٍ بسيطة كما فعل في إحدى المرات، عندما ضرب ألف رجل بفَكِّ حمار ميت. وفي إحدى المرات أمسك شمشون بثلاثمائة ابن آوى، وربط في أذنابها المشاعل ثم أطلقها في حقول الفلسطينيين فأحرقت محاصيلهم. ومال مرة في مدينة غزة إلى بيت امرأة زانية واضطجع معها إلى منتصف الليل، فعرف الفلسطينيون بمكانه، فكَمَنوا له عند بوابة المدينة بانتظار خروجه عند الصباح، ولكن شمشون لدى وصوله البوابة أمسك مصراعَيْها الهائلين واقتلعهما، ووضعهما على كتفيه وصعد بهما إلى رأس الجبل. وأخيرًا أحب شمشون امرأة ساقطة أخرى اسمها دليلة، وأخذ يتردد عليها. فجاء أقطاب الفلسطينيين وأغرَوْها بالمال لتخون صاحبها، وتعرف منه سر قوته. فصارت دليلة تسأل شمشون عن سر قوته وهو يضللها مازحًا، إلى أن أفضى إليها بسره، وعرفت أن قوته في جدائل شعره الغزير، فقصتها له وهو نائم، ودعت الفلسطينيين فأمسكوه وقلعوا عينيه وسجنوه. وكان بعد فترة أنهم اجتمعوا في المعبد ليذبحوا ذبيحة لإلههم داجون، وجاءوا بشمشون ليتسلَّوْا بإذلاله، وكان شعره قد عاد إلى النمو، فأسند شمشون ذراعيه إلى العمودين الرئيسين في وسط المعبد ودفعهما كلًّا في اتجاه، فسقط المعبد على رءوس الفلسطينيين وقتلهم، ومات شمشون معهم (القضاة، ١٦). تعطينا قصة شمشون مثالًا حيًّا على كيفية استعانة المحرر التوراتي بالقصص التقليدي، وطريقته الساذجة في الإفادة منها. فلقد جاء المحرر هنا بقصة بطولية متداولة وأدمجها في سياق أحداث سفر القضاة، بعد أن زودها بمقدمة قصيرة تربطها بالجو العام للسفر ربطًا مصطنعًا وواهيًا إلى أبعد الحدود. فهذا البطل — الذي تقول المقدمة اللاهوتية للقصة إن الرب قد أرسله ليكون نذيرًا لله، ويخلِّص إسرائيل من يد الفلسطينيين — يبدأ حياته الكفاحية بمصاهرة عائلة فلسطينية من أعداء قومه، وهو لا ينقلب على هؤلاء ويبدأ حربه معهم إلا لثأر شخصي. وعندما أزعجت أعمال شمشون الفلسطينيين استعانوا عليه بقومه أنفسهم؛ لأن هؤلاء على ما يبدو لم يرَوْا في شمشون ذلك المخلِّص المنتظر، ففاجئوه في شق الجبل الذي يأوي إليه، وأوثقوه وسلموه ليد أعدائه. وهنا نقرأ في الإصحاح ١٥ ما يلي: «فنزل ثلاثة آلاف رجل من يهوذا إلى شق صخرة عيطم وقالوا لشمشون: أما علمت أن الفلسطينيين متسلطون علينا، فماذا فعلت بنا؟ فقال لهم: كما فعلوا بي هكذا فعلت بهم … فأوثقوه بحبلين جديدين وأصعدوه من الصخرة، ولما جاء إلى لَحْي صاح الفلسطينيون للقائه، فحل عليه روح الرب فكان الحبلان اللذان على ذراعيه ككَتَّان أُحرق بالنار فانحل الوثاق عن يديه.» ونفهم من الحوار الذي دار في هذا المشهد بين شمشون وقومه أن شمشون لا يحارب الفلسطينيين نيابةً عن قومه، بل لما فعلوه به، وأن قومه لم يرَوْا فيه إلا رجل عصابات متمردًا، يجب وضع حد لأعماله التي لا تجدي نفعًا، وتجلب المزيد من المضايقة لهم من قِبل الفلسطينيين. ثم نجد رجل الله هذا، المنذور لتخليص إسرائيل، يقضي لياليه في بيوت المومسات، إلى أن توصله إلى حتفه واحدةٌ منهن وقع في حبها وصار يتردد عليها حتى دفعته ليد أعدائه لقاءَ حَفنةٍ من الشيكلات. فأية سيرة حياة هذه يرسمها محرر سفر القضاة لمخلِّص إسرائيل! بينما يعمل محرر سفر القضاة على تسلية قارئه، وإعطائه الموعظة الدينية في الوقت ذاته عن كيفية تدخل الرب في الحدث الدنيوي، ينسى القارئ كل مسألة تاريخية متعلقة بذلك العصر، حتى ليظن بأن العالم من حول أولئك القضاة وأعدائهم القريبين قد خلا من كل حدث آخر. ولكن الأمر كما قدمنا منذ قليل غير ذلك تمامًا. ففيما بين أواخر القرن الثالث عشر وأواخر القرن الحادي عشر، وهي الفترة المفترضة لعصر القضاة، غابت في الشرق الأدنى القديم حضارة، وقامت حضارة جديدة على أنقاضها، انتهى عصر البرونز الأخير ودالت دُوَله، وقام عصر الحديد الأول بدول وممالك جديدة، وخارطة جديدة للقوى العالمية. لقد انتهت مملكة الحثيين في الأناضول ولم تقم لها قائمة بعد ذلك، وانتهت مملكة ميتاني، وزالت مدينة أوغاريت من الوجود تمامًا، ثم تبعتها الممالك السورية الشمالية، التي قامت على أنقاضها ثقافة جديدة آرامية حثية، دُعيت دولها بالممالك الحثية الجديدة. أما آشور فقد دخلت لأول مرة مسرح الحياة الدولية من بابه الواسع، وأخذت تملأ الفراغ الذي خلفه غياب القوى العظمى التقليدية، فطُرد الكاشيون من بابل، وخضع وادي الرافدين بأكمله تدريجيًّا إلى المملكة الشمالية الفتية. وها هو ملك آشور تغلات فلاصَّر الأول يقود حملة على بلاد الشام والساحل اللبناني حوالي عام ١١٠٠ق.م. تلامس حدود المناطق التي يتسلى سفر القضاة فيها بقصص شمشون. يقول نص حملة تغلات فلاصَّر: إن الدراسة النقدية المعمَّقة للنص التوراتي المتعلق بتقليد الفتح العسكري وتقليد الاستقرار في الأرض، تكشف لنا عن عدة مستويات زمنية جمع النص بينها. وإن أقدم هذه المستويات يربط قبائل إسرائيل جغرافيًّا بالمناطق الهضبية التي كانت موطنهم الرئيسي في فلسطين. وهذه القبائل لم تأخذ بالامتداد نحو المناطق السهلية والوديان الخصيبة ومناطق شرقي الأردن إلا عقب تشكيل المملكة الموحدة. ولقد ترسخت ملاحظة ميللر هذه لدى بقية الباحثين الذين أخذوا يدرسون مسألة أصول إسرائيل انطلاقًا من دراسة مسألة الاستيطان في مناطق الهضاب المركزية خلال عصر الحديد الأول، أي من ١٢٠٠ إلى ١٠٠٠ق.م. إن القبائل التي شكَّلت إسرائيل هي من أصول مستقلة، وقد دخلت إلى فلسطين في أزمنة مختلفة ومتباعدة على ما يبدو. من هنا، فإنه من غير الممكن وضع تاريخ محدد لعملية التسرب إلى كنعان والاستقرار فيها، وإن كل ما سبق تشكيل المملكة الموحدة يقع خارج مجال تاريخ إسرائيل. هذه الأفكار، التي سُقتها أعلاه لبعض الباحثين، هي نموذج عن التوجهات الجديدة في البحث التاريخي الأركيولوجي، ولسوف أستعرض المزيد منها في مناقشتي الأخيرة لمسألة أصول إسرائيل. أما الآن، فإن السؤال الحيوي الذي يطرح نفسه عند هذه المرحلة من دراستنا هذه هو التالي: إذا كان بعض الباحثين يركز على المملكة الموحدة باعتبارها المنطلق التاريخي لتشكيل «كل إسرائيل»، مع نفي صفة التاريخية عن كل ما سبقها، فما هو الأساس التاريخي لهذه المملكة الموحدة؟ وكيف ينشأ حدث تاريخي عن فضاء غير تاريخي، وبصورة مفاجئة؟ هذا ما سنتفرغ لبحثه في الفصل القادم.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/1.5/
المملكة الموحدة لكل إسرائيل
كان صموئيل، الكاهن في مدينة شيلوه، آخر قضاة بني إسرائيل. وقد تولى القضاء في فترة عصيبة بلغ فيها اضطهاد الفلسطينيين للإسرائيليين ذروته. فصلَّى صموئيل للرب ليرفع غضبه عن شعبه، فاستجاب له الرب لأنه كان نبيًّا ومختارًا للرب منذ صغره، وأعان بني إسرائيل على خصومهم فاسترجعوا منهم كل الأراضي والقرى التي سلبوها. وكان لما شاخ صموئيل أنه جعل ابنَيه قضاة أيضًا يساعدانه، ولكنهما لم يسلكا في طريقه، بل مالا إلى المكسب وقَبِلا رشوة. فاجتمع كل شيوخ إسرائيل وجاءوا إلى صموئيل وقالوا له: «هو ذا أنت قد شخت وابناك لم يسيرا في طريقك. فالآن اجعل لنا مَلكًا يقضي لنا. وصلى صموئيل إلى الرب، فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك … وملِّك عليهم ملكًا» (صموئيل الأول، ١–٨). «وكان رجل من بنيامين اسمه قيس بن أبيئيل … وكان له ابن اسمه شاول، شاب وحسن، ولم يكن رجل في بني إسرائيل أحسن منه، من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب. فضلَّت أُتُن قيس، أبي شاول، فقال قيس لشاول ابنه: خذ معك واحدًا من الغلمان وقم فتش على الأُتُن. فعبر في جبل أفرايم فلم يجدها … ولما دخلا أرض صوف قال شاول لغلامه: هو ذا رجل الله في هذه المدينة. لنذهب الآن إلى هناك لعله يخبرنا عن طريقنا التي نسلك … وفيما هما آتيان في وسط المدينة، إذا بصموئيل خارج للقائهما … والرب كشف أذن صموئيل قبل مجيء شاول بيوم قائلًا: غدًا في مثل الآن أرسل إليك رجلًا من أرض بنيامين، فامسحه رئيسًا لشعبي إسرائيل، فيخلِّص شعبي من يد الفلسطينيين. فلما رأى صموئيل شاول أجابه الرب: هو ذا الرجل الذي كلمتك عنه» (صموئيل الأول، ٩). «وقال صموئيل للشعب: هلموا نذهب إلى الجلجال ونجدد هناك المملكة. فذهب كل الشعب إلى الجلجال، وملَّكوا هناك شاول أمام الرب في الجلجال، وذبحوا هناك ذبائح سلامة أمام الرب، وفرح هناك شاول وجميع رجال إسرائيل جدًّا. وقال صموئيل لكل إسرائيل: ها أنا ذا قد سمعت لصوتكم في كل ما قلتم لي وملَّكت عليكم مَلكًا. والآن هو ذا الملك يمشي أمامكم، وأما أنا فقد شخت وشبت، وهو ذا أبنائي معكم.» وبعد أن استلم شاول جميع صلاحياته الدنيوية من صموئيل بدأ حروبه التحريرية الكبرى؛ حارب شاول أولًا العمونيين وردَّهم عن مناطق بني إسرائيل، ثم التفت إلى الفلسطينيين. وكان جيشه يتألف من ثلاثة آلاف مقاتل في أحسن أحواله، ومن ستمائة مقاتل فقط في أسوأ الأحوال. وكانت الأدوات الحديدية — بما فيها الأسلحة — مفقودة لدى بني إسرائيل؛ لأن الفلسطينيين منعوهم من صناعة الحديد للإبقاء عليهم في حالة الضعف العسكري. وفي المعركة الأولى مع الفلسطينيين لم يكن رمحٌ ولا سيف بيد جماعة شاول، إلا معه فقط ومع ابنه يوناثان الذي كان يحارب إلى جانبه، ومع ذلك فقد ضرب شاول خصومه ضربة عنيفة، وطاردهم حتى مقراتهم الحصينة، ثم توجه إلى شرقي الأردن وحارب موآب وعمون وأدوم وملوك صوبة والآموريين. ثم عاد فشد على الفلسطينيين، وكانت بينه وبينهم حروب طيلة أيام حياته (صموئيل الأول، ١١–١٤). ثم نقل صموئيل إلى شاول أمرًا من الرب بقتال العماليق: «وقال صموئيل لشاول: إياي أرسل الربُّ لمسحك ملكًا على شعبه إسرائيل، والآن فاسمع صوت كلام الرب. هكذا يقول رب الجنود: إني افتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر، فالآن اذهب واضرب عماليق وحرِّموا كل ما له، ولا تعفُ عنهم، بل اقتل رجلًا وامرأة، طفلًا ورضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملًا وحمارًا.» فضرب شاول العماليق فيما بين جنوب البحر الميت وشمالي سيناء، وأفنى الجميعَ حسب ما أمر به الرب، لم يترك امرأة ولا طفلًا ولا رضيعًا إلا ذبحه. ولكنه عفا عن ملكهم المدعو أجاج بعد أن أمسك به، كما أنه أبقى على الصحيح والجيد من المواشي، ولم يحرِّمها للرب، بل ساقها أمامه وقفل راجعًا إلى مقره. «فكان كلام الرب إلى صموئيل قائلًا: ندمت على أني قد جعلت شاول ملكًا؛ لأنه رجع من ورائي ولم يُقم كلامي.» فحزن صموئيل على شاول لأنه كان يحبه، وناح عليه الليل كله. وفي الصباح خرج إلى شاول وعنَّفه على ما فعل، فقال شاول لصموئيل: «أخطأت لأني تعديت قول الرب وكلامك؛ لأني خفت من الشعب وسمعت لصوتهم. والآن اغفر خطيئتي وارجع معي فأسجد للرب. فقال صموئيل لشاول: لا أرجع معك لأنك رفضت كلام الرب فرفضك الرب من أن تكون ملكًا على إسرائيل» (صموئيل الأول، ١٥). بعد ذلك أمر الرب صموئيل أن يذهب إلى بيت المدعو يسَّى في بلدة بيت لحم قرب أورشليم؛ لأنه وجد في أحد أولاده ملكًا على إسرائيل، فمضى صموئيل ودخل بيت يسَّى وذبح للرب ودعا يسَّى وأولاده إلى الذبيحة. فعبر يسَّى أولاده أمامه واحدًا واحدًا إلى أن عبر داود الولد الثامن الأصغر، وكان قد وصل لتوه من رعي الغنم. فقال الرب لصموئيل: قم فامسحه لأنه هذا هو. «وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر، فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه في وسط إخوته. وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا. ثم قام صموئيل وذهب إلى الرامة. وذهب روح الرب من عند شاول.» وبزوال روح الرب عن شاول اسودَّ مزاجه، وصارت تنتابه نوبات اكتئاب، فنصحه بعض أتباعه أن يفتش عن رجل يحسن الضرب بالعود فيُسرِّي عن الملك ويبهج قلبه، فوافق، فدلوه على الفتى داود بن يسَّى، ووصفوه أمامه بأنه «يحسن الضرب، وهو جبار بأسٍ ورجل حرب وفصيح اللسان، ورجل جميل والرب معه.» فجاء داود وضرب بالعود فارتاحت نفس شاول. وأحب شاول داود وصار له حامل سلاح (صموئيل الأول، ١٦). وحدث بعد ذلك أن الفلسطينيين اجتمعوا لقتال شاول وجاءوا إلى يهوذا، فاجتمع رجال شاول واصطفوا للقتال. وقبل بدء المعركة خرج فارس من جيش الفلسطينيين اسمه جُليات، طوله يزيد عن ستة أذرع، مدرَّع ومدجَّج بالسلاح، وطلب أن يخرج إليه من جيش شاول مبارزٌ لتَحسِم المبارَزةُ الفردية نتيجةَ المعركة. فخاف كل أشداء جيش شاول، وأحجموا عن تلبية النداء. وفي هذا الوقت وصل الفتى داود الذي أرسله أبوه ليتفقَّد إخوته الثلاثة الذين كانوا يحاربون في جيش شاول. فسأل عن جائزة من يقتل الفلسطيني، فقيل له: «إن الرجل الذي يقتله يغنيه الملك غنًى جزيلًا، ويعطيه ابنته، ويجعل بيت أبيه حرًّا في إسرائيل.» فتقدم داود إلى شاول معلنًا رغبته في التصدي لجُليات، فألبسه شاول خوذته ودرعه وقلَّده سيفه، فلما مشى لم يقدر على الحركة، فنزعها عنه وأخذ عصاه بيده، والتقط خمسة حجارة ملساء فجعلها في جرابه، وحمل مقلاعه وتقدم نحو الفلسطيني. ولما نظر جُليات إلى داود «استحقره لأنه كان غلامًا وأشقر جميل المنظر. فقال لداود: ألعلِّي أنا كلب حتى إنك تأتي إليَّ بعصًا. ولعن الفلسطيني داود بآلهته. وقال الفلسطيني لداود: تعالَ فأُعطي لحمك لطيور السماء ووحش البرية.» ولكن داود تقدم إلى الميدان وأخذ حجرًا من جرابه ورماه بالمقلاع، فأصاب جبهة جُليات وسقط على الأرض، فركض إليه داود ولم يكن معه سيف، فاستلَّ سيف الفلسطيني وقطع به رأسه. ولما رأى الفلسطينيون ما حل بجبارهم هربوا، فطاردهم جماعة شاول وأعملوا فيهم السيف، وأخذ داود رأس الفلسطيني وأتى به إلى أورشليم (صموئيل الأول، ١٧). ارتفع شأن داود بعد قتله جُليات وصارت له سمعة حسنة، فكرهه شاول وخاف من تزايد محبة الناس له، وعندما كانت تأتيه نوبات الاكتئاب كان يسعى لقتله، ولكن ذلك لم يمنعه من البَر بوعده لقاتل جُليات، فزوَّجه ابنته ميرب، ثم زوَّجه ابنته الثانية ميكال، وعيَّنه قائدًا بين قواده، فكان يشن غزوات خاطفة على الفلسطينيين ويقتل منهم الكثيرين. ثم عاد شاول للتفكير بقتل داود، ودبَّر له المكائد والمصائد، ولكن يوناثان بن شاول، الذي أحب داود وصادقه، كان ينقذه في كل مرة ويقف إلى جانبه. وفي أثناء اختبائه وهربه من ملاحقة شاول تجمَّع حول داود جماعةٌ من الأفاقين والمغامرين ومن أعداء شاول، بلغ عددهم ستمائة مقاتل يرتحلون معه أينما ذهب. وعندما يئس من إيجاد ملاذ آمن له ولجماعته في المناطق التابعة لشاول، قرر اللجوء إلى أرض الفلسطينيين، فأتى إلى مدينة جت حيث استقبله ملكها أخيش استقبالًا حسنًا وآواه وأكرمه (صموئيل الأول، ١٨–٢٦). أقام داود وجماعته في بلدة صقلع التابعة لملك جت، ومن هناك تابع شنَّ غزواته ولكن لصالح الفلسطينيين هذه المرة، وتحول إلى زعيم مرتزقة تعيث الفساد في أراضي خصوم ملك جت. وعندما جمع الفلسطينيون جيوشهم وتوجهوا إلى حرب جديدة مع شاول، صعد إليهم داود ورجاله وعرضوا السير معهم لقتال بني جلدتهم، فوافق أخيش ملك جت، أما بقية أقطاب الفلسطينيين السائرين معه فرفضوا خوفًا من انقلاب داود عليهم وعودته إلى صفوف شاول، فعاد داود ورجاله إلى معسكرهم. أما جيش الفلسطينيين فقد التقى بجيش شاول في جبل جلبوع، وأوقعوا بالإسرائيليين هزيمة مُنكَرة. وقد أصيب في المعركة شاول، فوقع وقال لحامل سلاحه أن يقتله قبل أن يقع في أيدي أعدائه، فأبى، فأخذ شاول السيف وسقط عليه فمات، وفعل حامل سلاحه مثلما فعل، كما سقط في المعركة أيضًا أولاد شاول الثلاثة ومعظم عساكره. وهنا يعطينا النص التوراتي وصفًا في غاية الحيوية لهذا المشهد: «واشتدت الحرب على شاول، فأصابه الرماة رجال القِسِي، فانجرح جدًّا. فقال شاول لحامل سلاحه: استلَّ سيفك واطعني به؛ لئلا يأتي هؤلاء الغلف ويطعنوني ويقبحوني. فلم يشأ حامل سلاحه لأنه خاف جدًّا، فأخذ شاول السيف وسقط عليه. ولما رأى حامل سلاحه أنه مات شاول سقط هو على سيفه ومات معه، فمات شاول وبنوه الثلاثة وحامل سلاحه وجميع رجاله في ذلك اليوم.» وفي اليوم التالي عندما جاء الفلسطينيون لتفقُّد القتلى وجدوا شاول وبنيه على الأرض، فقطعوا رأسه ونزعوا سلاحه وصلبوا جثته وجثث أولاده على سور مدينة بيت شان (صموئيل الأول، ٢٧–٣١). إذا كانت الأسفار الخمسة قد خُصصت لابتكار أصول بعيدة لإسرائيل التوراتية في أرض كنعان، وسفر يشوع والقضاة لابتكار الأصول القريبة، فإن سفر صموئيل الأول قد كُرِّس لابتكار أصول للملكية في إسرائيل، وللمملكة الموحدة لكل إسرائيل، التي من المفترض أنها قامت على معظم أراضي كنعان. وتلعب هنا شخصية صموئيل، الكاهن والنبي وآخر القضاة على بني إسرائيل، دور المِفْصل الذي يربط تقليد عصر القضاة بتقليد عصر المملكة. فآخر القضاة هنا هو الذي يمسح أول الملوك ويختاره لخلافته، فيُنهي بذلك عصرًا ويفتتح آخر. جاء شاول، الملك الأول، من قبيلة بنيامين التي تنتمي أصلًا إلى القبائل الشمالية، وتسكن في أقصى جنوب مناطقها عند الرقعة الفاصلة بين الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا التي تليها. وبما أن المنظور الأيديولوجي لأسفار التوراة يعكس المواقف الفكرية لكهنة يهوذا المشرفين على عملية التحرير في الفترات المتأخرة، فقد كان لا بد من إظهار شاول في صورة الملك السيئ، وإظهار داود — الذي جاء من بيت لحم في منطقة يهوذا — بصورة الملك الجيد. وليس عُلو داود على شاول، وقيام الرب بانتزاع المملكة منه وإعطائها إلى داود؛ إلا تسويغًا أيديولوجيًّا لاستئثار يهوذا بالمُلك إبَّان فترة المملكة الموحدة، من دون قبائل إسرائيل العشر الشمالية. ولسوف نرى منذ الآن في الأسفار التوراتية ذلك التمييز، الذي صار واضحًا الآن بين إسرائيل ويهوذا. رغم أن أسلوب المحررين هنا يشبه إلى حد بعيد أسلوب سفر القضاة، إلا أن سفر صموئيل يتميز بوحدة وتكامل الأحداث، وذلك بسبب تمركز أحداثه حول شخصيتين رئيسيتين، هما شاول وداود. فكل القصص الصغيرة المثيرة حول تتبع شاول لداود، وهرب الأخير في كل مرة، قد صيغت في قالب منسجم رغم انتمائها الواضح لأصول مختلفة. كما أن المحرر قد أفلح في رسم صورة قوية ومؤثرة لشخصية شاول تجعل القارئ في تعاطف كامل معها، رغم النوازع الأخرى للمحرر في إظهار الجوانب السلبية لها، والتي لم تكن مقنعة على الإطلاق. الأمر الذي يدل في اعتقادي على أن هذا المحرر قد استخدم قصة أصلية متكاملة عن قائد ظهر في منطقة الهضاب المركزية في زمن لا نعرفه، وقام بحماية جماعته من بغي وتعدي جماعة أخرى. ذلك أن أحداث سفر صموئيل الأول تُظهر في مستوياتها التحتية — التي تعود إلى أزمنة قديمة — ملامح ملحمة شعبية على غاية من الأصالة والنبل والجمال. ويستمر في سفر صموئيل الأول أسلوب المحرر التوراتي الذي عهدناه في إيراد الروايات المتناقضة للحادثة الواحدة. فحادثة التحاق داود بأخيش ملك جت تأتي في روايتين، في الرواية الأولى يرفض ملك جت لجوء داود ويقصد به شرًّا: «وقام داود وهرب في ذلك اليوم من أمام شاول، وجاء إلى أخيش ملك جت. وقال عبيد أخيش له: أليس هذا داود ملك الأرض! أليس لهذا كنَّ يُغنِّين في الرقص قائلات: ضرب شاول ألوفه وضرب داود ربواته! فوضع داود في قلبه هذا الكلام وخاف جدًّا من أخيش، فغير عقله في أعينهم وتظاهر بالجنون بين أيديهم، وأخذ يخربش على مصاريع الباب. فقال أخيش لعبيده: هو ذا ترَوْن الرجل مجنونًا، فلماذا تأتون به إليَّ! … فذهب داود ونجا من هناك إلى مغارة عدلام» (صموئيل الأول، ٢١: ١٠–١٥). وفي الرواية الثانية يستقبل أخيش داود استقبالًا حسنًا، ويُقْطِعه بلدة صقلع: «وقال داود في قلبه: إني سأهلك يومًا بيد شاول، فلا شيء خير لي من أن أفلت إلى أرض الفلسطينيين. فقام داود وعبر هو والستمائة الرجل الذين معه إلى أخيش ملك جت، وأقام عنده في جت … فقال داود لأخيش: إن كنتُ قد وجدتُ نعمةً في عينيك فليعطوني مكانًا في إحدى قرى الحقل فأسكن هناك … إلخ» (صموئيل الأول، ٢٧: ١–٦). ولدينا ثلاث روايات عن مسح شاول ملكًا، في الرواية الأولى يأتي شاول إلى بلد صموئيل باحثًا عن حمير أبيه الضالة، وهناك يراه صموئيل ويأتيه كلام الرب بأن هذا الفتى هو الذي يملك على الشعب، فيمسحه صموئيل ملكًا (صموئيل الأول، ٩). وفي الرواية الثانية يطلب الرب من صموئيل أن يدعو كل إسرائيل حسب أسباطهم فيستعرضهم أمامه فيختار منهم ملكًا، فتصعد الأسباط إلى صموئيل وتجتاز أمامه، فيختار منها الرب سبط بنيامين، ثم يستعرض سبط بنيامين عشائره فيختار الرب عشيرة مطري، ثم تستعرض عشيرة مطري أُسرها فيختار الرب أسرة قيس، ومن أسرة قيس يختار الرب شاول، فيمسحه صموئيل ملكًا (صموئيل الأول، ١٠). وفي الرواية الثالثة يصعد ناحاش العموني على جلعاد ويستعبد أهلها، فيرسل هؤلاء رسلًا يستنجدون بقبائل إسرائيل، ويأتي الرسل إلى جبعة حيث شاول. فخرج شاول وراء البقر من الحقل على بكاء الرسل واستنجادهم بقبائل إسرائيل، فحلَّ عليه روح الرب وغضب غضبًا شديدًا. أخذ بقرة وقطعها إلى اثنتي عشرة قطعة وأرسلها بيد الرسل إلى كل تخوم إسرائيل قائلًا: من لا يخرج وراء شاول ووراء صموئيل هكذا يُفعل ببقره. فخرج الشعب وراء شاول كرجل واحد وهزموا العمونيين، ثم عادوا وملَّكوا شاول عليهم (صموئيل الأول، ١١). ولدينا روايتان عن لقاء شاول بداود، في الأولى ينصح أتباع شاول بإحضار داود ليعزف على العود فيُسري عن فؤاد شاول، فيأتي إليه ويحبه شاول ويجعله حامل سلاحه (صموئيل الأول، ١٦). وفي الإصحاح التالي مباشرةً نجد شاول لم يجتمع بعدُ بداود، فعندما ينبري داود للقاء الفلسطيني يسأل شاول عن الفتى وعن عائلته: «ولما رأى شاول داود خارجًا للقاء الفلسطيني قال لأبينير رئيس جيشه: ابن من هذا الغلام يا أبينير؟ فقال أبينير: وحياتك أيها الملك لست أعلم. فقال الملك: اسأل ابن من هذا الغلام. ولما رجع داود من قتل الفلسطيني أخذه أبينير وأحضره أمام شاول ورأس الفلسطيني في يده، فقال له شاول: ابن من أنت يا غلام؟ فقال داود: ابن عبدك يسَّى البيتلحمي» (صموئيل الأول، ١٧). وفي هذه الرواية لا يظهر تعلق شاول بداود منذ البداية كما رأينا في الرواية السابقة، بل إن ابنه يوناثان هو الذي يحب داود ويتعلق به، فيضمه شاول إلى جماعته ولا يتركه يرحل إلى بيت أبيه. وهناك روايتان عن طريقة موت شاول. ففي الأولى رأيناه يطلب من حامل سلاحه أن يقتله فيرفض فيسقط شاول على سيفه ويموت (صموئيل الأول، ٣١: ٤–٥). أما في الرواية الثانية، فإن شابًّا عماليقيًّا يأتي إلى داود معفرًا بالتراب، ممزق الثياب، ويخبره بأن شاول وأولاده قد قضَوْا في معركة جلبوع، فيسأله كيف عرف بموت شاول فقال: «إني كنت في جبل جلبوع وإذا شاول يتوكأ على رمحه، وإذا بالمركبات والفرسان يشدون وراءه. فالتفت إلى ورائه فرآني ودعاني فقلت: ها أنا ذا، فقال لي: من أنت؟ فقلت: عماليقي أنا، فقال لي: قف عليَّ واقتلني لأنه قد اعتراني الدوار. فوقفت عليه وقتلته؛ لأني علمت أنه لا يعيش بعد سقوطه» (صموئيل الثاني، ١: ١–١٠). وعن مدة حكم شاول نقرأ في الإصحاح ١٣: ١ أن شاول قد حكم مدة سنتين، وهذا لا يتناسب مع مجريات الأحداث اللاحقة. فشاول قد مُسح ملكًا وهو شاب يافع، ثم سقط في معركة جلبوع وهو كهل وله أولاد محاربون أشداء قُتلوا معه في المعركة. وبعد موت شاول تقوم القبائل الإسرائيلية في الشمال بتنصيب ابنه إيشبوشت ملكًا عليها وعمره أربعون سنة (صموئيل الثاني، ٢: ٨–٩). وهذا يدل على أن فترة حكم شاول قد تجاوزت الأربعين سنة. وعندما يقطع داود رأس جُليات يقول النص: «وأخذ داود رأس الفلسطيني وأتى به إلى أورشليم ووضع أدواته في خيمته.» ونحن نعرف من آخر ذكر لأورشليم أنها ما زالت بيد اليبوسيين الكنعانيين، وذلك في الموضع الذي أشرنا إليه في حينه في سفر القضاة، والذي يصف أورشليم بأنها مدينة غريبة لا يوجد فيها أحد من بني إسرائيل (القضاة، ١٩: ١١–١٢) … ثم ماذا عن خيمة داود تلك التي يضع فيها أدواته، والتي يبدو من المقطع أعلاه أنها عند أورشليم؟ ومتى كان للفتى داود — الذي ما زال يرعى غنم أبيه أو يضرب العود ويحمل أسلحة شاول — خيمة في أورشليم؟ إن المقطع كله يبدو وكأنه منتزَع من سياق قصة أخرى ومُدمَج في هذه القصة، وربما كان ينتمي إلى قصص داود اللاحقة بعد أن صار ملكًا وجعل من أورشليم عاصمةً له. نكتفي بهذا القدر اللازم من النقد النصي لسفر صموئيل الأول، دون الدخول في كثير من التفاصيل الصغيرة، التي يمكن لبحث آخر مكرَّس للنقد النصي أن يستعرضها، وننتقل إلى سفر صموئيل الثاني الذي يبسط أمامنا أخبار فترة العصر الذهبي لإسرائيل التوراتية. أما عن النقد التاريخي والأركيولوجي لسفر صموئيل الأول، فسوف يأتي ضمن النقد التاريخي والأركيولوجي لأخبار المملكة الموحدة، لأن أخبار شاول لم تكن سوى مدخل ومقدمة لأخبار داود وسليمان. بعد أن عرف داود بنبأ موت شاول وأولاده، رثاه ورثى ابنه يوناثان بمرثية طويلة يقول فيها: «الظبي يا إسرائيل مقتول على شوامخك. كيف سقط الجبابرة. لا تخبروا في جت، لا تبشروا في أسواق أشقلون؛ لئلا تفرح بنات الفلسطينيين، لئلا تشمت بنات الغلف. يا جبال جلبوع، لا يكن طلٌّ ولا مطرٌ عليكن ولا حقول تقدمات، لأنه هناك طُرح مِجَن الجبابرة مِجَن شاول بلا مسح بالدهن. من دم القتلى من شحم الجبابرة لم ترجع قوس يوناثان إلى الوراء، وسيف شاول لم يرجع خائبًا. شاول ويوناثان المحبوبان والحُلوان في حياتهما لم يفترقا في موتهما. أخفُّ من النسور وأشدُّ من الأسود. يا بنات إسرائيل ابكين شاول … إلخ» (صموئيل الثاني، ١). ثم رحل داود إلى حبرون في الجنوب وأقام هناك. وفي حبرون جاء إليه رجال يهوذا ومسحوه ملكًا على بيت يهوذا. وأما القبائل الشمالية، التي تُدعى في النص بإسرائيل تمييزًا لها عن يهوذا، فقد مُلِّك عليها ابن شاول المدعو إشبوشت: «وأما أبينير بن نير، رئيس جيش شاول، فأخذ إشبوشت بن شاول وعَبَر به إلى محنايم وجعله ملكًا على كل إسرائيل، وكان إشبوشت بن شاول ابن أربعين سنة حين مَلَك على إسرائيل، ومَلَك سنتين.» وبعد ذلك اشتعلت الحرب بين إسرائيل ويهوذا، ولم تنتهِ إلا بموت إشبوشت ملك إسرائيل غِيلةً على يد اثنين من جماعته طمعًا في مكافأة من داود: «دخلا عند حر النهار إلى بيت إشبوشت وهو نائم نومة الظهيرة، فدخلا في وسط البيت ليأخذا حنطة، فعند دخولهما البيت كان هو مضطجعًا في سريره في مخدع نومه، فضرباه وقطعا رأسه، وأخذا رأسه وسارا الليل كله، وأتيا برأس إشبوشت إلى داود إلى حبرون، وقالا للملك: هو ذا رأس إشبوشت بن شاول عدوك الذي كان يطلب نفسك … فأمر داود الغلمان فقتلوهما، وقطعوا أيديهما وأرجلهما، وعلقوهما على البركة في حبرون. وأما رأس إشبوشت فأخذوه ودفنوه.» فأتى رجال إسرائيل إلى داود في حبرون وملَّكوه على إسرائيل أيضًا. وبذلك ينتقل المُلك إلى يهوذا (صموئيل الثاني، ١–٥). وكان أول عمل لداود بعد أن صار رأسًا للمملكة الجديدة هو الاستيلاء على أورشليم، التي جعلها عاصمة له بعد أن أقام في حبرون حوالي سبع السنوات. وكانت أورشليم حتى ذلك الوقت مدينة كنعانية يسكنها اليبوسيون. وبعد استقراره في العاصمة الجديدة أرسل إليه حيرام الفينيقي ملك صور خشب أرز ونجارين وبنَّائين فبنَوْا لداود بيتًا، وبدأ داود يعيش عيشة الملوك المترفة، وتسرَّى بنساء من أورشليم وَلَدن له بنين وبنات. وكانت أول حرب يخوضها هي حرب دفاعية ضد الفلسطينيين الذين بادروا لقتاله بعد أن رأَوْا تزايد قوته، فضربهم وطاردهم إلى تخومهم. وبعد ذلك جاء داود بتابوت العهد وأدخله إلى أورشليم في موكب حافل وهو يرقص أمامه رقصًا طقوسيًّا حتى دخل المدينة، حيث وضع التابوت في خيمة. ولكن الرب لم يكن راضيًا عن مكان إقامته، فتكلم مع ناثان النبي قائلًا: «اذهب وقل لعبدي داود: هكذا قال الرب: أأنت تبني لي بيتًا لسكناي؟ لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم، بل كنت أسير في خيمة وفي مسكن» (صموئيل الثاني، ٥–٧). غير أن بناء بيت للرب كان مشروعًا يفوق إمكانيات داود المتواضعة، وكان على الرب أن ينتظر مجيء سليمان لينجز هذه المَهمة. بعد أن أَمِن داود جانب الفلسطينيين المهزومين، توجه إلى شرقي الأردن فضرب موآب وصار الموآبيون له عبيدًا. ثم توجه شمالًا نحو مملكة صوبة الآرامية التي تعاضدها دمشق: «ضرب داود هدد عزر بن رحوب ملك صوبة حين ذهب ليرد سلطته عند نهر الفرات. فأخذ داود منه ألفًا وسبعمائة فارس وعشرين ألف رجل. وعرقب داود جميع خيل المركبات وأبقى منها مائة مركبة. فجاء آرام دمشق لنجدة هدد عزر ملك صوبة، فضرب داود من آرام اثنين وعشرين ألف رجل. وجعل داود محافظين في آرام، وصار الآراميون لداود عبيدًا يقدمون الهدايا. وكان الرب يخلِّص داود حيثما توجه. وأخذ داود أتراس الذهب، التي كانت على عبيد هدد عزر وأتى بها إلى أورشليم، ومن باطح ومن بيروثاي مدينتَيْ هدد عزر أخذ الملك داود نحاسًا كثيرًا. وسمع توعي ملك حماة أن داود قد ضرب كل جيش هدد عزر، فأرسل توعي يورام ابنه إلى الملك ليسأل عن سلامته ويباركه، لأن هدد عزر كانت له حروب مع توعي. وكان بيده آنية من فضة، وآنية من ذهب، وآنية من نحاس. وهذه أيضًا قدَّسها للرب الملك داود، مع الفضة والذهب الذي قدَّسه من جميع الشعوب الذين أخضعهم؛ من آرام ومن موآب ومن بني عمون ومن الفلسطينيين ومن عماليق ومن غنيمة هدد عزر ملك صوبة …» (صموئيل الثاني، ٨). ورغم أن مملكة عمون في شرقي الأردن تظهر في النص السابق بين الممالك التي تم إخضاعها، إلا أننا نجدها في الإصحاح الذي يلي مملكة مستقلة، وعلى علاقات ودية مع داود إلى أن مات ملكها المدعو ناحاش، ومَلَك ابنه حانون بدلًا عنه. فأرسل داود رسلًا من قِبله لتعزية حانون بوفاة أبيه، ولكن حانون شك في أمر الرسل وظنهم جواسيس لداود، فعاملهم معاملة سيئة، وقصَّ أنصاف لحاهم وثيابهم إلى وسطهم وأعادهم إلى داود. ثم تهيأ للحرب واستأجر مرتزقة لِعَونه من آرام صوبة وغيرها من الدويلات المجاورة: «ولما رأى بنو عمون أنهم قد أنتنوا عند داود، أرسل بنو عمون واستأجروا آرام بيت رحوب وآرام صوبة عشرين ألف رجل، ومن معكة ألف رجل، ورجال طوب اثني عشر ألف رجل. فلما سمع داود أرسل يوآب وكل جيش الجبابرة.» ويُحرز يوآب قائد جيش داود نصرًا على بني عمون وعلى الآراميين المستأجرين لهم. ثم لا يستثمر نصره بمتابعة العمونيين المتراجعين إلى مدينتهم، أو ملاحقة الآراميين الهاربين، بل يقفل عائدًا إلى أورشليم. ولكن هدد عزر يستجمع قواه مجددًا ويأتي بآراميين لمساعدته من وراء الفرات: «ولما رأى آرام أنهم انكسروا أمام إسرائيل اجتمعوا معًا. وأرسل هدد عزر فأبرز آرام الذي في عَبْر النهر، فأتَوْا إلى حيلام وأمامهم شوبك رئيس جيش هدد عزر. ولما أُخبر داود جمع كل إسرائيل وعَبَر الأردن وجاء إلى حيلام، فاصطف آرام للقاء داود وحاربوه. وهرب آرام أمام إسرائيل، وقتل داود من آرام سبعمائة مركبة وأربعين ألف فارس، وضرب شوبك رئيس جيشه فمات هناك» (صموئيل الثاني، ١٠). عاد داود إلى أورشليم. وبعد سنة كاملة أرسل قائده يوآب وحاصر مدينة ربة عمون عاصمة العمونيين وأطال الحصار. أما داود فقد استسلم لحياة الرغد في أورشليم. وفي إحدى الأمسيات كان يتمشى على سطح بيته فرأى امرأة جميلة تستحم وراقت في عينيه، فسأل عنها فقيل: هي بتشبع امرأة أوريا الحثي، وكان جنديًّا يحارب في جيش يوآب. فأرسل داود رسلًا وأخذها فدخلت إليه واضطجع معها ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود، فكتب داود رسالة إلى يوآب يقول فيها: «اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة وارجعوا من ورائه فيُضرب ويموت.» فمات أوريا، وأرسل داود إلى امرأة أوريا وضمها إلى بيته فصارت له امرأةً. أما يوآب فقد أحكم الحصار على مدينة ربة عمون وآلت إلى السقوط بيده، فأرسل إلى داود طالبًا منه الحضور ليأخذ المدينة بيده. فجمع داود كل الشعب وذهب إلى ربة عمون وأخذها وقتل جميع أهلها. ولكن الرب كره ما فعله داود بأخذه زوجة أوريا الحثي وقتْله الرجل بسببها، فأرسل النبي ناثان الذي قال لداود: «كان رجلان في مدينة واحدة. واحد منهما غني والآخر فقير. وكان للغني غنم وبقر كثيرة جدًّا، وأما الفقير فلم يكن له شيء إلا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها وربَّاها وكَبِرت معه ومع بنيه … فجاء ضيف إلى الرجل الغني فعفا أن يأخذ من غنمه ومن بقره ليهيئ للضيف الذي جاء إليه، فأخذ نعجة الرجل الفقير وهيأ للرجل الذي جاء إليه. فحمي غضب داود على الرجل جدًّا وقال لناثان: حيٌّ هو الرب، إنه يُقتل الرجل الفاعل ذلك، ويرد النعجة أربعة أضعاف … فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل» (صموئيل الثاني، ١١ و١٢). وحدث بعد ذلك أنه كان لابن داود المدعو أبشالوم أختٌ جميلة اسمها ثامار. فأحبها ابن داود الآخر المدعو أمنون، وكان أخًا غير شقيق لأبشالوم، وأسقم أمنون حب أخته ثامار حتى لزم بيته وفراشه. وأخيرًا فكر بحيلة يستدرج بها أخته إلى فراشه «فاضطجع أمنون وتمارض، فجاء الملك ليراه فقال أمنون: دع ثامار أختي فتأتي وتصنع أمامي كعكتين فآكل من يدها … فذهبت ثامار إلى بيت أمنون أخيها وهو مضطجع … وقدمت له ليأكل، فأمسكها وقال لها: تعالَيِ اضطجعي معي يا أختي. فقالت له: لا يا أخي، لا تذلني … فلم يشأ أن يسمع لصوتها، بل تمكن منها وقهرها واضطجع معها.» فجعلت ثامار رمادًا على رأسها ومزقت ثوبها وراحت تصرخ، فجاء إليها أخوها أبشالوم وأسكتها وقادها إلى بيته مُبيِّتًا خطة هادئة للانتقام من أمنون. بعد مدة دعا أبشالوم أمنون وبقية إخوته أولاد داود إلى وليمة، وأوصى غلمانه أن يضربوا أمنون بعد أن تلعب الخمرة برأسه. ففعل غلمان أبشالوم بأمنون كما أمرهم وقتلوه. فقام جميع بني الملك وركبوا كلُّ واحد على بغلة وهربوا. أما أبشالوم فقد توارى عن الأنظار ريثما يتعزى داود عن ابنه القتيل (صموئيل الثاني، ١٣). وكان أبشالوم صاحب مطامح. فصار يستميل قلوب الناس ويجلس للقضاء بينهم قبل وصولهم إلى باب الملك، فأحبه الشعب ومال إليه. وعندما أحس أن الوقت قد حان للانقلاب على أبيه أقام في مدينة حبرون، وجمع حوله الأتباع والمؤيدين، وأرسل دعاته بشكل خاص إلى قبائل إسرائيل في الشمال التي بايعت داود مكرهةً بعد قتل أشبوشت، واتفق معهم على نزع طاعة داود لدى سماعهم أن الأبواق قد ضُربت في حبرون ونُودي في الأسواق: قد مَلَك أبشالوم. «فأتى مخبر إلى داود قائلًا: إن قلوب رجال إسرائيل صارت وراء أبشالوم. فقال داود لجميع عبيده الذين معه في أورشليم: قوموا بنا نهرب لأنه ليس لنا نجاة من وجه أبشالوم. أسرعوا للذهاب لئلا يبادر ويدركنا ويُنزِل بنا الشر، ويضرب المدينة بحد السيف. فخرج الملك وجميع بيته وراءه، وكل الشعب في إثره … وأما داود فصعد في مصعد جبل الزيتون. كان يصعد باكيًا ورأسه مغطًّى ويمشي حافيًا، وجميع الشعب الذين معه غطَّوْا كل واحد رأسه، وكانوا يصعدون وهم يبكون.» ثم عَبَر داود ومن معه نهر الأردن إلى الجهة الأخرى. أما أبشالوم فقد دخل أورشليم مدعومًا من قبائل إسرائيل. ولكن مُشيريه نصحوه باللحاق بداود والقضاء على قوته العسكرية في شرقي الأردن: «فعَبَر أبشالوم الأردن هو وجميع رجال إسرائيل معه … ونزل إسرائيل وأبشالوم في أرض جلعاد. وهنا وجد داود أن المواجهة بينه وبين ابنه صارت محتومة، فتجهز للحرب وقسَّم جيشه ثلاث فرق، عيَّن على كل فرقة قائدًا، وأوصاهم جميعًا ألا يمسوا ابنه أبشالوم بسوء. «وخرج الشعب إلى الحقل للقاء إسرائيل. وكان القتال في وعر أفرايم. فانكسر هناك شعب إسرائيل أمام عبيد داود، وكانت هناك مقتلة عظيمة.» ولم يحفظ القائد يوآب وصية داود فضرب أبشالوم بثلاثة سهام وهو عالق بأغصان شجرة بطم، فقتله. وبعد أن أقام داود مناحة على ابنه القتيل قفل عائدًا إلى أورشليم. أما قبائل إسرائيل فقد مشت بعد أبشالوم وراء قائد جديد: «فصعد كل رجال إسرائيل من وراء داود إلى وراء شبع بن بكري. وأما رجال يهوذا فلازموا مَلكهم من الأردن إلى أورشليم.» وقبل أن تستقر الأمور لشبع بن بكري أرسل داود وراءه قائده يوآب فتعقبه وحاصره في مدينة آبل بيت معكة. ولما اشتد الحصار على أهل المدينة اتفقوا مع يوآب على تسليمه رأس شبع بن بكري مقابل فك الحصار عن مدينتهم، فارتد يوآب برأس شبع وانتهت الفتنة» (صموئيل الثاني، ١٤–٢٠). «وكان جوعٌ في أيام داود ثلاث سنين، سنةً بعد سنةٍ، فطلب داود وجه الرب.» فقال له الرب إنه غاضب على الأرض لأن الملك شاول كان قد ضرب أهل مدينة جبعون بعد العهد الذي كان يشوع قد قطعه معهم منذ القِدَم (وهذه الحادثة غير واردة في أخبار شاول). فجاء داود إلى الجبعونيين وسألهم كيف يستطيع التكفير عن خطيئة شاول. فطلب الجبعونيون أن يسلمهم داود سبعةً من بني شاول يقدمونهم قربانًا للرب. فأخذ داود ولدَيْ شاول من زوجته رصفة، وخمسة أولاد لميكال ابنة شاول وسلمهم إلى يد الجبعونيين «فصلبوهم على الجبل أمام الرب، فسقط السبعة معًا وقُتلوا في أيام الحصاد … وبعد ذلك استجاب الله من أجل الأرض» (صموئيل الثاني، ٢١). وتُختتم حياة داود بكارثة تحل في إسرائيل. فقد غضب الرب على داود لأنه قام بإحصاء الشعب لمعرفة عدد سكان مملكته «فجعل الرب وباءً في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد، فمات الشعب من دان إلى بئر السبع سبعون ألف رجل، وبسط الملاك يده على أورشليم ليهلكها، فندم الرب عن الشر وقال للملاك المهلك الشعب: كفى، الآن رويدك. وكان ملاك الرب عند بيدر أرونة اليبوسي. فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال: ها أنا أخطأت وأنا أذنبت، وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا؟» ثم اشترى داود الأرض التي وقف عندها الملاك من صاحبها أرنان اليبوسي وأقام عندها مذبحًا للرب (صموئيل الثاني، ٢٤). أما ما يلي هذه الحادثة من أخبار شيخوخة داود وتنازُع أولاده على العرش؛ فيرِد في سفر الملوك الأول، الذي يُفصِّل في سيرة الملك سليمان التي سوف ننتقل إليها بعد قليل. لم يحقق المحرر التوراتي في سفر صموئيل الثاني أية نُقلة نوعية في أسلوبه، من شأنها الإيحاء بانتقاله من مرحلة التجميع التراثي غير المدقق إلى مرحلة التقصي التاريخي. فهذا السفر يمتح من الذخيرة القصصية الشعبية والبطولية نفسها التي متح منها سفر القضاة. ولكن بينما توزعت أحداث سفر القضاة بين شخصيات مختلفة ومتباعدة زمنيًّا، فإن أحداث صموئيل الثاني قد جعلت تدور حول شخصية الملك داود، في محاولة لرسم صورة لملك ملحمي أسَّس التقاليد الملكية في إسرائيل. من هنا، فقد يبدو سفر صموئيل لأول وهلة أكثر تسلسلًا وانسجامًا من سفر القضاة، وإيحاءً بما يشبه التاريخ. إلا أن القراءة المدققة ما تلبث أن تُظهر لنا مدى تفكك هذا السفر، واستقلالية قصصه عن بعضها، وتفرُّد كل منها بعقدة خاصة وسياق مغلق لا يؤدي إلى غيرها، وذلك رغم الترتيب الزمني الذي اصطنعه المحرر من أجل ربطها، وعقد الصلة فيما بينها. فحروب داود التي ذُكرت باقتضاب، ولم تأخذ حيزًا من السفر يعادل حيز قصة اغتصاب أمنون لأخته، يمكن أن تُنسب لأية شخصية في سفر القضاة، مثل جدعون (القضاة، ٧–٨) أو يفتاح الجلعاوي (القضاة، ١١) أو إلى يشوع، أو حتى إلى موسى الذي وصل في غزواته إلى حوران في سوريا الجنوبية. فإذا تجاوزنا حروب داود انفتح أمامنا عالم من قصص ألف ليلة وليلة؛ الملك يتمشى على السطح ويتلصص على امرأة عارية تستحم، فيقع في غرامها ويقتل زوجها الجندي ليحصل عليها. أمنون يأتي بأخته ثامار بحيلة إلى سريره ويغتصبها. أبشالوم يُولِم لإخوته ويقتل من بينهم أمنون. خروج الابن على أبيه من أجل الاستئثار بالعرش وما جرى بينهما من حروب. أهل مدينة آبل بيت معكة يقطعون رأس شبع بن بكري ويسلمونه للقائد يوآب. التضحية بأولاد شاول السبعة وصلبهم على الجبل قربانًا للرب … إلخ. كما أن باستطاعتنا نقل أية قصة من هذه القصص المؤلفة لسيرة داود إلى سفر القضاة أو إلى يشوع أو حتى إلى أحد الأسفار الخمسة، دون أن نشعر بغرابتها عن جوها الجديد، وهذا يدل على أننا ما زلنا في حيز الأدب، ولم ننتقل بعد مع النص التوراتي إلى حيز التاريخ. وتعطينا بعض التفاصيل الصغيرة للقصص فكرة عن كيفية تصور محرر صموئيل الثاني لمملكة داود. فهذه المملكة لم تكن أكثر من مشيخة قبلية متواضعة، وملوكها ليسوا أكثر من أمراء محليين لم يأخذوا بعد بأسباب التمدن. فالقتلة يدخلون بيت ملك إسرائيل إشبوشت عند الظهيرة وباب الملك مفتوح على مصراعيه، ويأتون إلى صحن الدار متظاهرين بأنهم يأخذون قمحًا، ثم يدخلون مخدع الملك وهو نائم نومة الظهيرة فيقطعون رأسه ويسيرون به، دون أن يعترضهم حرس أو خدم أو حشم. وبيت داود لا يختلف كثيرًا عن بيت إشبوشت الذي يستطيع دخوله أي عابر سبيل، فرغم أن النص يقول بأن حيرام قد أرسل إلى داود خشب أرز ونجارين وبنائين ليصنعوا بيتًا لداود، إلا أننا نجد بعد ذلك أن هذا البيت قائم بين بيوت الجنود العامة. فعندما يصعد داود ليتمشى على السطح يرى امرأة تستحم في بيتها، وهذا يعني أنه لم يكن بين سطح داود وبيت المرأة، التي كانت زوجة أوريا الجندي، إلا بضعة أمتار سمحت للملك برؤية تفاصيل جمال المرأة المستحمة. وفي سفر صموئيل الثاني يبدأ النص التوراتي بالتمييز بين إسرائيل ويهوذا، وهو التمييز الذي سوف يستمر ويتأكد عبر الأسفار اللاحقة. فبعد أن كان المحرر يستعمل تعبير «كل إسرائيل» أو «كل الشعب» للدلالة على القبائل الاثنتي عشرة بما فيها يهوذا، فإنه يأخذ عبر سفر صموئيل الثاني بالحديث عن إسرائيل وعن يهوذا، وتبدو يهوذا مستثناةً من مصطلح «كل إسرائيل» الذي يُستخدم في معظم المواضع للدلالة على القبائل الواقعة إلى الشمال من أورشليم ابتداءً من بنيامين. فبعد موت شاول الإسرائيلي «أتى رجال يهوذا ومسحوا داود ملكًا على بيت يهوذا … وأما أبينير رئيس جيش شاول فأخذ إشبوشت وعَبَر به إلى محنايم وجعله ملكًا على كل إسرائيل» (صموئيل الثاني، ٢). وعندما ينحاز أبينير رئيس جيش شاول بعد ذلك إلى جانب داود يأتي إلى داود ويقول: «أقوم أذهب وأجمع إلى سيدي الملك جميع إسرائيل فيقطعون معك عهدًا» (صموئيل، ٣: ٢١). ومن الواضح في هذا المقطع أن المقصود بجميع إسرائيل هو القبائل الشمالية، لأن يهوذا كانت قد بايعت داود منذ البداية. وبعد مقتل إشبوشت يأتي الإسرائيليون إلى داود فيبايعونه أيضًا، وهنا نقرأ: «وجاء جميع أسباط إسرائيل إلى داود في حبرون … وجاء جميع شيوخ إسرائيل إلى الملك إلى حبرون. فقطع الملك داود معهم عهدًا … ومسحوا داود ملكًا على إسرائيل. وكان داود ابن ثلاثين سنة حين مَلَك … في حبرون مَلَك على يهوذا سبع سنين وستة أشهر، وفي أورشليم مَلَك ثلاثًا وثلاثين سنة على جميع إسرائيل ويهوذا» (صموئيل الثاني، ٥: ٤–٥). وبعد موت أبشالوم «صعد كل رجال إسرائيل من وراء داود إلى وراء شبع بن بكري، أما رجال يهوذا فلازموا مَلكهم» (صموئيل الثاني، ٢٠: ٢). وفي غير أمثال هذه المواضع المُشار إليها أعلاه، فإن المحرر يعود إلى استخدام مصطلح «كل إسرائيل» في الإشارة إلى إسرائيل ويهوذا معًا، وخصوصًا في حديثه عن المعارك التي تخوضها هذه القبائل موحدةً ضد عدو خارجي. من ذلك مثلًا ما ورد في صموئيل الثاني (١٠: ١٠–١١)، و(١١: ١). يفترض المؤرخون أن شاول قد حكم بين ١٠٣٠ و١٠٠٩ق.م.، وداود بين ١٠٠٩ و٩٦٩ق.م.، وسليمان بين ٩٦٩ و٩٣١ق.م.، إلا أن البينة التاريخية والأركيولوجية لم تتوفر حتى الآن على وجود هؤلاء الملوك، ولا يوجد لدينا خارج النص التوراتي مصدر يتعرض لذكرهم بشكل مباشر، أو يقدم مادة يمكن مقاطعتها مع كل ما ذكره النص التوراتي بخصوصهم. فيما يتعلق بأخبار الملك داود في سفر صموئيل الثاني لدينا بضعة أسطر خصصها المحرر للحديث عن حروب داود، وانتزع لها حيزًا ضيقًا بين خضم القصص التي تتحدث عن الصراع على السلطة وغراميات البلاط الملكي والدسائس السياسية. يحارب داود أولًا الفلسطينيين، ثم الموآبيين في شرقي الأردن. وأخبار مثل هذه الحروب تتخذ في النص التوراتي صيغة نمطية ومتكررة لا تسمح للباحث بتبيُّن العناصر التاريخية فيها، إنها أشبه بالعنصر التزيني الجاهز للاستخدام في رسم أية سيرة شخصية توراتية. ولعلنا قادرون على انتزاع أي خبر من أخبار هذه الحروب من مكانه وزرعه في أي مكان آخر دون أن نُحدِث في الرواية خللًا يُذكر. بعد ذلك يتجه داود لقتال المدعو هدد عزر ملك صوبة، دون أن يعطينا النص أي مُسوِّغ أو سبب مباشر أو غير مباشر لهذه الحرب. ويأتي الخبر هنا في صيغة غامضة ومختصرة حيث يقول: «وضرب داود هدد بن عزر بن رحوب ملك صوبة حين ذهب ليرد سلطته عند نهر الفرات. فأخذ منه داود … إلخ. فجاء آرام دمشق لنجدة هدد عزر ملك صوبة، فضرب داود من آرام اثنين وعشرين ألف رجل. وجعل داود محافظين في آرام دمشق وصار الآراميون لداود عبيدًا.» ولكن هذه المعركة لم تكن فاصلة بين الطرفين، فبعد أن طرد ملك عمون رسل داود وتهيأ لقتاله «أرسل بنو عمون واستأجروا آرام بيت رحوب وآرام صوبة عشرين ألف رجل، ومن معكة ألف رجل، ورجال طوب اثني عشر ألف رجل … فتقدم يوآب والشعب الذين معه لمحاربة آرام فهربوا من أمامه. ولما رأى بنو عمون أنه قد هرب آرام هربوا ودخلوا المدينة. فرجع يوآب عن بني عمون وأتى إلى أورشليم.» بعد ذلك مباشرة تبدأ المعركة الثانية بين داود وهدد عزر: «ولما رأى آرام أنهم انكسروا أمام إسرائيل اجتمعوا معًا. وأرسل هدد عزر فأبرز آرام الذي في عَبْر النهر فأتَوْا إلى حيلام وأمامهم شوبك رئيس جيش هدد عزر … فاصطف آرام للقاء داود وحاربوه وهرب آرام من أمام إسرائيل.» لقد ورد الاسم صوبة لأول مرة في سفر صموئيل الأول، الذي يذكر أن الملك شاول قد ضرب ملوك صوبة: «وحارب جميع أعدائه من حواليه؛ موآب وعمون وآدوم وملوك صوبة والفلسطينيين» (صموئيل الأول، ١٤: ٤٧). وهذا يعني أن صوبة هي منطقةٌ جغرافية وليست مملكة، وأن الملوك المذكورين هنا ليسوا سوى مشايخ قبائل نظرًا للإشارة إليهم بصيغة الجمع. ولكننا في عصر داود نجدها فجأة، وبعد عدة سنوات، عبارةً عن مملكة يحكمها ملك واحد اسمه هدد عزر. أما المصادر الخارجية فصامتة تمامًا عن ذكر هذه المملكة وعن ذكر ملكها هدد عزر، الذي لم يرد له ذكر خارج النص التوراتي. ونحن نعجب كيف تكون مملكة صوبة في القرن العاشر قبل الميلاد «أقوى وأهم دولة في وسط وجنوب سوريا» (على حد تعبير المؤرخ بيتارد، الذي اقتبسنا منه أعلاه) ثم لا تحفل النصوص الآشورية والنصوص الآرامية بذكرها. ومن جهة أخرى، فإنه لم يتوفر لدينا من منطقة البقاع الشمالي حتى الآن أية لُقًى أثرية يمكن أن تشير إلى وجود هذه المملكة، أو عاصمتها، التي لم يذكرها النص التوراتي، أو أي مدينةٍ من المدن التابعة لها. وكل هذا يشير بكل وضوح إلى أن مملكة صوبة التوراتية لم تكن إلا إمارة أو مشيخة قبلية قريبة زمنيًّا من عصر تحرير التوراة، وأن المحرر التوراتي قد استعان بأخبار غامضة عن حروب أحد ملوك السامرة أو أورشليم المتأخرين مع هذه الإمارة الصغيرة، وأدمجها في أخبار حروب داود. في المعركة الثانية مع آرام صوبة يقول النص إن هدد عزر قد «أبرز آرام الذي في عَبْر النهر، فأتَوْا إلى حيلام وأمامهم شوبك رئيس جيش هدد عزر.» ويبني المؤرخون على هذا الخبر أن ملك صوبة كانت له سلطة غير مباشرة على الدويلات الآرامية القائمة عند نهر الفرات، وأن هذه الدويلات قد اجتمعت معًا تحت لواء هدد عزر وأتت إلى حيلام لقتال داود. ثم يسيرون أبعد من ذلك في استنتاجاتهم ويتوصلون إلى أن انتصار داود على هدد عزر وحلفائه، الذين جاءوا من عَبْر النهر، قد أوصل قوات داود إلى نهر الفرات، وأنه قد أخضع كل المناطق الواقعة بين الفرات ودمشق. فإلى أي حد تتطابق هذه الاستنتاجات مع الوقائع التاريخية؟ هذه هي أهم الممالك الآرامية التي قامت في «عَبْر النهر» أيام الفترة المفترضة لحكم الملك داود، فأي من هذه الممالك قد أنجد هدد عزر ملك صوبة وحارب إلى جانبه في ذلك الموقع المجهول المدعو حيلام؟ وأي من هذه الممالك القوية، التي كانت تقارع آشور، كان خاضعًا لهدد عزر المجهول الهوية تاريخيًّا، ولمملكة صوبة التي لا نعرف عنها شيئًا خارج النص التوراتي؟ لماذا لم يذكر محرر سفر صموئيل الثاني اسم أي من الممالك الآرامية التي انهزمت أمام جيش داود في موقعة حيلام؟ والأهم من ذلك كله؛ إذا كانت سلطة داود قد وصلت إلى الفرات، فلماذا لم يصطدم بالآشوريين؟ ولماذا خلا الخبر التوراتي من أي ذكر لهم ولتواجدهم في عَبْر النهر؟ ولماذا لم يرد ذكر لداود في الوثائق الآرامية التي اكتُشفت في عواصم ومدن ممالك آرام في عَبْر النهر؟ إن الجواب على هذه التساؤلات بسيط جدًّا، فمحرر سفر صموئيل الثاني، من ناحية أولى، لم يكن بين يديه أية معلومات موثَّقة عن فترة القرن العاشر قبل الميلاد، ومن ناحية ثانية، فإن هذا المحرر لم يكن يقصد إلى تقديم نص تاريخي موثَّق عن حروب داود، بل إلى تزيين سيرة هذا الملك الملحمي بأخبار حروب جمعها من الذاكرة القبلية للمنطقة، وصاغها بتعابير عامة لا تؤدي معلومة تاريخية محددة. ولكي أوضح للقارئ مدى ابتعاد أخبار حروب داود عن معايير النص التاريخي، وانتمائها إلى جنس الفولكلور الشعبي أكثر من انتمائها إلى جنس الكتابة التاريخية؛ يكفي أن أضع أمامه أي نص من النصوص التاريخية لثقافات الشرق القديم لغرض المقارنة. لننظر على سبيل المثال النص الآتي من حوليات الملك آشور ناصر بال الثاني (٨٨٣–٨٥٩ق.م.) الذي يصف بدقة مسار حملته على بلاد الشام: إن أي مقارنة بين هذا النص الآشوري ونص صموئيل الثاني الذي يستعمل تعابير مثل: «وضرب داود هدد عزر بن رحوب حين ذهب ليرد سلطته عند نهر الفرات»، أو «فلما رأى آرام أنهم انكسروا أمام إسرائيل اجتمعوا معًا. وأرسل هدد عزر فأبرز آرام، الذي في عَبْر النهر» تُظهِر لنا الفرق الواضح بين النص الموثَّق والنص الأُخيولي الذي يفتقر إلى أدنى مقومات الكتابة التاريخية. «وشاخ الملك داود، تقدَّم في الأيام. وكانوا يدثرونه بالثياب فلم يدفأ. فقال له عبيده: ليفتشوا لسيدنا الملك على فتاة عذراء، فلتقف أمام الملك ولتكن له حاضنةً، ولتضطجع في حضنك فيدفأ سيدنا الملك. ففتشوا على فتاة جميلة في جميع تخوم إسرائيل، فوجدوا أبيشج الشمونية فجاءوا بها إلى الملك. وكانت الفتاة جميلة جدًّا، فكانت حاضنةً للملك» (الملوك الأول، ١: ١–٤). وبينما كان داود يدفأ في أحضان الفتاة الصغيرة من البرداء، انفجر الصراع على العرش بين أبنائه. فقد ابتدأ أدونيا — وهو الأخ الأصغر لأبشالوم صاحب الانقلاب الأول، واسم أمه حجيث — بالدعوة لنفسه كولي للعهد مستغلًّا حالة التسيب في الحكم، وأعدَّ مركبات وفرسانًا، وكان خمسون رجلًا يَجْرون أمامه كلما خرج. وقد وقف إلى جانبه أبيثار الكاهن ويوآب القائد ورهطٌ قوي من رجال داود، بينما عارضه ناثان النبي ورهطٌ آخر من رجال داود. وعندما استفحل أمر أدونيا، وداود يغض الطَّرْف عن نشاطاته، جاء ناثان النبي إلى بتشبع أم سليمان قائلًا: «أما سمعت أن أدونيا ابن حجيث قد مَلَك وسيدنا داود لا يعرف؟ اذهبي وادخلي إلى الملك داود وقولي له: أما حلفت أنت يا سيدي الملك لأمتك قائلًا: إن سليمان ابنك يملك بعدي وهو يجلس على كرسيي، فلماذا مَلَك أدونيا؟ وفيما أنت متكلمةٌ هناك معه أدخل أنا وراءك وأُكمل كلامك.» فعملت بتشبع بنصيحة ناثان واستطاع الاثنان إقناع داود، الذي أعطى أوامره بأن يُمسح سليمان ملكًا: «خذوا معكم عبيد سيدكم وأركِبوا سليمان ابني على البغلة التي لي وانزلوا به إلى جيحون، وليمسحه هناك صادوق الكاهن وناثان النبي ملكًا على إسرائيل. واضربوا بالبوق وقولوا: ليحي الملك سليمان.» وفي ذلك الوقت كان أدونيا يقيم وليمة لأنصاره، فسمعوا صوت ضجيج وهتاف، وجاء من أخبرهم بأن سليمان قد مَلَك، فخاف أدونيا من بطش سليمان فقام وانطلق وتمسك بقرون المذبح، وأرسل إلى سليمان أن يحلف له بألا يمسه بسوء «فأرسل الملك سليمان فأنزلوه عن المذبح فأتى وسجد للملك سليمان. فقال له سليمان: اذهب إلى بيتك» (الملوك الأول، ١: ١–٥٣). ولم يطل الوقت بداود حتى مات، بعد أن مَلَك أربعين سنة. وكان أول عمل يفتتح به سليمان عهده الملكي هو قتل أخيه أدونيا، وساعده الأيمن يوآب قائد جيش داود. فأرسل سليمان المدعو بنياهو بن يهوداع ساعده الأيمن وصديقه، فضرب أدونيا بالسيف. ولما سمع يوآب بالخبر التجأ إلى خيمة الرب وتمسك بقرون المذبح: «فأرسل سليمان بنياهو قائلًا: اذهب ابطش به. فدخل بنياهو إلى خيمة الرب وقال له: هكذا يقول الملك، اخرج. فقال: كلا ولكنني هنا أموت. فرد بنياهو الجواب على الملك قائلًا: هكذا تكلم يوآب وهكذا جاوبني. فقال له الملك: افعل كما تكلم وابطش به وادفنه وأزل عني الدم الزكي الذي سفكه يوآب.» فصعد بنياهو وضرب يوآب بالسيف وهو في خيمة الرب متمسكًا بقرون المذبح، وعيَّن سليمان بنياهو قائدًا على الجيش بدلًا من يوآب (الملوك الأول، ٢). وبعد ذلك، ودون مقدمات، يخبرنا الإصحاح الثالث في مطلعه بأن سليمان قد صاهر فرعون ملك مصر: «وصاهر سليمان فرعون ملك مصر، وأخذ بنت فرعون وأتى بها إلى مدينة داود إلى أن أكمل بناء بيته وبيت الرب، وسوَّر أورشليم حواليها.» ثم تراءى الرب لسليمان في حلم ليلًا «وقال الله: اسأل ماذا أعطيك؟ فقال سليمان: … أيها الرب إلهي، أنت ملَّكت عبدك مكان داود أبي وأنا فتًى صغير لا أعرف الخروج والدخول. وعبدك في وسط شعبك الذي اخترته، شعبٌ كثير لا يُحصى ولا يُعد من الكثرة. فأعطِ عبدك قلبًا فهيمًا لأحكم على شعبك، وأميِّز بين الخير والشر، لأنه من يقدر أن يحكم على شعبك العظيم هذا؟ … فقال الرب: هو ذا قد فعلتُ حسب كلامك. هو ذا أعطيتك قلبًا حكيمًا ومميِّزًا، حتى إنه لم يكن مثلك قبلك ولا يقوم بعدك نظيرك. وقد أعطيتك أيضًا ما لم تسأله غنًى وكرامة، حتى إنه لا يكون رجلٌ مثلك في الملوك كل أيامك.» ثم ينتقل النص إلى إعطائنا مثالًا حيًّا عن حكمة سليمان. فهناك امرأتان زانيتان تسكنان معًا، ولكل منهما ابن رضيع في سن واحدة، فمات ابن الأولى في الليل، فاستبدلت الابن الحي للثانية به وأرقدته إلى جوارها وادعت أنه ابنها وأن الميت ابن زميلتها. فجاءتا إلى سليمان ليحكم بينهما، وكل واحدة تدعي أن الولد الحي هو ابنها. فقال سليمان: ائتوني بسيف. فأتَوْا بسيف بين يدي الملك. فقال الملك: اشطروا الولد الحي شطرين وأعطوا نصفًا للواحدة ونصفًا للأخرى. فاضطرم قلب الأم على ابنها وقالت لهم أن يعطوه للأخرى ولا يميتوه. عند ذلك عرف سليمان أنها أم الولد الحي وأعطاه لها. «ولما سمع جميع إسرائيل بالحكم الذي حكم به الملك خافوا الملك؛ لأنهم رأَوْا حكمة الله فيه لإجراء الحكم» (الملوك الأول، ٣). وفيما عدا هذه القصة فإن المحرر لا يسوق لنا أمثلة أخرى عن حكمة سليمان، رغم أنه يعود إلى القول في الإصحاح التالي: «وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر. وكان أحكم من جميع الناس … وكان صيته في جميع الأمم حواليه. وتكلم بثلاثة آلاف مَثَل، وكانت نشائده ألفًا وخمسًا. وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت في الحائط. وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك. وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان.» وقد عَمَد سليمان إلى تقسيم مملكته في الداخل إلى اثنتي عشرة مقاطعة إدارية عليها وكلاء مُعيَّنون من قِبله يديرون شئونها. وقد زوَّج بعضًا من بناته إلى المقربين إليه من هؤلاء الوكلاء والحكام لضمان ولائهم. أما عن أحوال إمبراطورية سليمان المترامية الأطراف، فإن النص يصفها بالكلمات التالية: «وكان يهوذا وإسرائيل كثيرين كالرمل الذي على البحر في الكثرة. وكان سليمان متسلطًا على جميع الممالك من النهر إلى أرض فلسطين وإلى تخوم مصر. كانوا يقدمون الهدايا ويخدمون سليمان كل أيام حياته. وكان طعام سليمان لليوم الواحد ثلاثين كُرَّ سميذ وستين كُرَّ دقيق، وعشرة ثيران مسمَّنة، وعشرين ثورًا من المراعي، ومائة خروف، ما عدا الأيائل والظباء واليحامير والإوز المسمَّن؛ لأنه كان متسلطًا على كل ما عَبْر النهر من تفسح إلى غزة، على كل ملوك عَبْر النهر. وكان له صلحٌ من جميع جوانبه حواليه. وسكن يهوذا وإسرائيل آمنين كل واحد تحت كَرْمته، وكل واحد تحت تينته من دان إلى بئر السبع كل أيام سليمان. وكان لسليمان أربعون ألف مِذْود لخيل مركباته، واثنا عشر ألف فارس» (الملوك الأول، ٤). وأرسل حيرام ملك صور الفينيقية رسلًا إلى سليمان يهنئه بعد أن سمع أنهم مسحوه ملكًا. فأرسل سليمان إلى حيرام طالبًا منه تزويده بخشب أرز من لبنان، وبنجارين وبنائين؛ لأنه ليس مثل الصيدونيين من يعرف قطع الخشب. ووعده أن يرسل له مقابل ذلك حنطةً وزيتًا. فوافق حيرام، وعقد الاثنان بينهما عهدًا وصنعوا صلحًا. ولما ابتدأ سليمان باستلام شحنات الخشب شرع ببناء هيكل الرب، وبناء قصور له ولزوجاته. وقد سخَّر سليمان في أعمال البناء آلافًا مؤلفة من الشعب. فثلاثون ألفًا يروحون ويجيئون إلى لبنان بالتناوب، وسبعون ألفًا يحملون أحمالًا، وثمانون ألفًا يقطعون في الجبل، ما عدا المشرفين الذين بلغ عددهم ثلاثة آلاف. فاكتمل بناء البيت في السنة الأربعمائة والثمانين لخروج بني إسرائيل من أرض مصر، والتي وافقت السنة الرابعة لحكم سليمان. فجمع سليمان شيوخ إسرائيل وكل رءوس الأسباط لإصعاد تابوت عهد الرب وخيمة الاجتماع، وتم إدخال التابوت ووضعه في مكانه في محراب البيت في قدس الأقداس. «وكان لما خرج الكهنة من القدس أن السحاب ملأ البيت، ولم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب السحاب؛ لأن مجد الرب ملأ بيت الرب.» ووقف سليمان أمام المذبح وكل جماعة إسرائيل تنظر إليه، وبسط يديه إلى السماء وقال: «أيها الرب إله إسرائيل. ليس مثلك إلهٌ في السماء من فوق ولا على الأرض من أسفل. حافظ العهد والرحمة لعبيدك السائرين أمامك بكل قلوبهم … إلخ» (الملوك الأول، ٥–٨). وبعد مدة، صعد فرعون ملك مصر وأخذ مدينة جازر، التي كانت حتى ذلك الوقت مدينة كنعانية مستقلة عن سليمان «فأحرقها بالنار وقتل الكنعانيين الساكنين في المدينة، وأعطاها مهرًا لابنته امرأة سليمان.» فأخذها سليمان وأعاد بناءها، كما أعاد بناء مدن حاصور ومجدو وجازر. كما بنى بعلة وتدمر في البرية. وبنى سليمان سفنًا على شاطئ بحر سوف (الأحمر)، واستخدم لتسييرها في البحر عمالًا فينيقيين من صور أرسلهم له حيرام. فأتَوْا إلى بلاد يدعوها النص أوفير، وأخذوا من هناك أربعمائة وعشرين وزنة ذهب أتَوْا بها إلى الملك سليمان (الملوك الثاني، ٩). وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان، فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم جدًّا، وجمال حاملةً أطيابًا وذهبًا كثيرًا وحجارة كريمة. «فلما رأت ملكة سبأ كل حكمة سليمان، والبيت الذي بناه، وطعام مائدته، ومجلس عبيده وموقف خدامه وملابسهم، وسقاته ومحرقاته التي كان يصعدها في بيت الرب، لم يبقَ فيها روحٌ بعد. فقالت للملك: صحيحًا كان الخبر الذي سمعته في أرضي عن أمورك وعن حكمتك، ولم أصدق الأخبار حتى جئت وأبصرت عيناي … وأعطت الملك مائة وعشرين وزنة ذهب وأطيابًا كثيرة جدًّا وأحجارًا كريمة … وأعطى الملك سليمان لملكة سبأ كل مشتهاها الذي طلبت، عدا ما أعطاها إياه حسب كرم الملك سليمان، فانصرفت وذهبت إلى أرضها هي وعبيدها» (الملوك الأول، ١٠: ١–١٣). وكان وزن الذهب الذي أتى لسليمان في سنة واحدة ستمائة وستًّا وستين وزنة ذهب، وذلك عدا الذي أتاه من ضرائب التجار وتجارتهم، ومن الولاة الذي عيَّنهم في المقاطعات. وعمل مائتي ترس من ذهب مطرَّق، في كل واحد منها ستمائة شاقل من الذهب، وثلاثمائة مِجَن من ذهب مطرَّق، في كل واحد منها ثلاثة أَمْناء من الذهب. وهذه جعلها سليمان في أحد بيوته المعروف ببيت وعر لبنان. وفي ذلك البيت كانت جميع آنية شرب الملك سليمان وطعامه من الذهب؛ لأن الفضة لم تُحسب شيئًا في أيامه. وقد جعل في بحر فينيقيا أيضًا سفنًا تُبحر مع سفن حيرام إلى ترشيش (إسبانيا)، وتأتي من هناك بالذهب والفضة والعاج، فتعاظم الملك سليمان على كل ملوك الأرض في الغنى والحكمة، وكانت كل الأرض ملتمسة وجه سليمان. وكانوا يأتون إليه كل واحد بهديته، بآنية فضة وآنية ذهب وحُلل وسلاح وأطياب وخيل وبغال، سنةً سنةً. وقد بلغ من ثراء المملكة في عهده أن الفضة في أورشليم كانت مثل الحجارة، وخشب الأرز مثل خشب الجميز الذي في السهل لكثرته (الملوك الثاني، ١٠: ١٤–٢٩). وأحب الملك سليمان نساء غريبات كثيرات، من موآبيات وعمونيات وآدوميات وصيدونيات وحثِّيات، من الأمم التي نهى الرب بني إسرائيل عن الدخول إليهن حتى لا يُمِلن قلوبهم وراء آلهتهن، فكانت له سبعمائة من النساء السيدات، وثلاثمائة من السراري. وكان في زمان شيخوخته أن نساءه أَمَلْن قلبه وراء آلهة أخرى، فذهب سليمان وراء عشتروت إلهة الصيدونيين، وملكوم إله العمونيين. «فغضب الرب على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل، الذي تراءى له مرتين، وأوصاه في هذا الأمر ألا يتَّبع آلهةً أخرى، فلم يحفظ ما أوصى به الرب. فقال الرب لسليمان: من أجل أن ذلك عندك، ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها، فإني أمزق المملكة عنك تمزيقًا وأعطيها لعبدك» (الملوك الأول، ١١: ١–١٣). وأقام الرب في وجه سليمان ثلاثة أعداء؛ أولهم هدد الآدومي، الذي كان من نسل الملك في آدوم، وهرب إلى مصر عقب حملة يوآب قائد داود على آدوم، ثم عاد من هناك بعد أن سمع بموت داود ومقتل يوآب، فمَلَك في آدوم وقاوم سليمان. والخصم الثاني هو رزون بن أليداع، وكان قائدًا في جيش هدد عزر ملك صوبة، ثم استقل بنفسه وجمع حوله الأتباع والجنود بعد حملة داود على هدد عزر، ثم دخل دمشق فمَلَك فيها، وكان خصمًا لإسرائيل طيلة أيام سليمان. أما الخصم الثالث فكان من بطانة سليمان، واسمه يربعام بن نباط، من سبط أفرايم الإسرائيلي، وكان عاملًا لسليمان في منطقة إسرائيل. وقد خرج يربعام عن طاعة سليمان بعد تلقيه بشارة من النبي أخيا الشيلوني بأن الرب يُملِّكه على إسرائيل: «لما خرج يربعام من أورشليم لاقاه أخيا الشيلوني النبي في الطريق وهو لابسٌ رداءً جديدًا. فقبض أخيا على الرداء الجديد الذي عليه ومزقه اثنتي عشرة قطعة، وقال ليربعام: خذ لنفسك عشر قطع؛ لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل: ها أنا ذا أمزق المملكة من يد سليمان وأعطيك عشرة أسباط، ويكون له سبط واحد من أجل عبدي داود ومن أجل أورشليم المدينة التي اخترتها من كل أسباط إسرائيل؛ لأنهم تركوني وسجدوا لعشتاروت إلهة الصيدونيين … وآخذك فتملك حسب كل ما تشتهي نفسك وتكون ملكًا على إسرائيل.» ولما بدأ يربعام نشاطاته السرية للاستقلال عن أورشليم طلب سليمان قتله «فقام يربعام وهرب إلى مصر، إلى شيشق ملك مصر، وكان في مصر إلى وفاة سليمان … وكانت الأيام التي مَلَك فيها سليمان في أورشليم على كل إسرائيل أربعين سنة، ثم اضطجع سليمان مع آبائه ودُفن في مدينة داود أبيه، ومَلَك رحبعام ابنه عوضًا عنه» (الملوك الأول، ١١: ١٤–٤٣). رجع يربعام بن نباط من مصر بعد أن سمع بوفاة سليمان. أما رحبعام بن سليمان فقد صعد إلى مدينة شكيم في الشمال، حيث اجتمع هناك جميع إسرائيل ليُملِّكوه عليهم. فكلموه قائلين: «إن أباك قسَّى نِيرنا، وأما أنت فخفف الآن من عبودية أبيك القاسية، ومن نِيره الثقيل الذي جعله علينا فنخدمك … فأجاب الملك بقساوة، وترك مشورة الشيوخ التي أشاروا بها عليه، وكلمهم حسب مشورة الأحداث قائلًا: إن أبي ثقَّل نِيركم، وأنا أزيد على نِيركم، أبي أدَّبكم بالسياط وأنا أؤدبكم بالعقارب … فعصى إسرائيل على بيت داود إلى هذا اليوم. ولما سمع جميع إسرائيل بأن يربعام قد رجع أرسلوا فدعَوْه إلى الجماعة وملَّكوه عليهم.» وأما رحبعام فقد تبعه سبط واحد، هو سبط بنيامين، إضافة إلى سبط يهوذا، الذي كان قد ملَّكه بعد وفاة أبيه (الملوك الأول، ١٢: ١–٣٠). ولكي يكرِّس يربعام الاستقلال عن أورشليم كان لا بد له من الاستقلال الديني، وصرف نظر مواطنيه عن هيكل الرب فيها؛ لذلك فقد عَمَد إلى بناء معبدين في إسرائيل، واحد في بيت إيل والآخر في دان، ووضع في كل منهما عجلًا ذهبيًّا، وقال للإسرائيليين: «كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم. هو ذا آلهتك يا إسرائيل، الذين أصعدوك من مصر … وبنى بيت المرتفعات، وصيَّر كهنة من أطراف الشعب لم يكونوا من بيت لاوي. وعمل يربعام عيدًا في الشهر الثامن في اليوم الخامس عشر من الشهر كالعيد الذي في يهوذا» (الملوك الأول، ١٢: ٢٥–٣٣). «في السنة الثامنة عشرة للملك يربعام بن نباط، مَلَك أبيام على يهوذا، مَلَك ثلاث سنين في أورشليم … وسار في جميع خطايا أبيه التي عملها، ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه كقلب داود … وكانت حربٌ بين أبيام ويربعام، ثم اضطجع أبيام مع آبائه فدفنوه في مدينة داود، وملك آسا ابنه عوضًا عنه. في السنة العشرين ليربعام ملك إسرائيل، ملك آسا على يهوذا، ملك إحدى وأربعين سنة في أورشليم … وعمل آسا ما هو مستقيم في عينَي الرب كداود أبيه. وأزال المأبونين من الأرض، ونزع جميع الأصنام التي عملها آباؤه» (الملوك الأول، ١٥: ١–١٢). أما في إسرائيل، فبعد فترة حكم دامت حوالي عشرين سنة، تُوفي يربعام أول ملوك إسرائيل، وكانت وفاته في السنة الثانية لحكم آسا في يهوذا. فملك ابنه ناداب عوضًا عنه، وحكم سنتين فقط، وعمل الشر في عينَي الرب وسار في طريق أبيه. فخرج عليه المدعو بعشا من سبط يساكر وقتله وأباد كل بيت يربعام. ثم قامت حربٌ ضَروس بين إسرائيل ويهوذا، استعان فيها آسا ملك يهوذا بملك دمشق المدعو بنهدد بن طبريمون بن حزيون، وأرسل له هدية من جميع آنية الذهب والفضة الباقية في خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك. فصعد ملك دمشق وضرب كل المدن الشمالية من إسرائيل وأخذها، فكفَّ بعشا يده عن يهوذا، وعاد بنهدد إلى دمشق. ثم توفي بعشا ملك إسرائيل بعد حكم دام أربعًا وعشرين سنة، وملك ابنه إيله عوضًا عنه، وبعد سنتين خرج عليه القائد العسكري المدعو زمري، ودخل عليه في بيته وهو يشرب ويسكر فقتله، وضرب كل بيت بعشا بحد السيف. ولكن القطعات العسكرية، التي كانت في ذلك الوقت تقاتل الفلسطينيين، لم تقف إلى جانب زمري، بل تحولت إلى رئيس الجيش المدعو عُمري، فجاء عُمري وحاصر زمري في العاصمة ترصة وأخذها، وأما زمري فقد أحرق على نفسه البيت ومات بعد أن حكم سبعة أيام فقط. وحكم عُمري اثنتي عشرة سنة؛ ست منها في مدينة ترصة، وست في السامرة، وهي العاصمة الجديدة التي بناها لنفسه. وعُمري هذا هو أول ملك إسرائيلي موثَّق تاريخيًّا، ومعه تدخل الرواية التوراتية لأول مرة مسرح التاريخ، بعد حوالي ألف سنة من عمر إسرائيل التوراتية. ولسوف أتوقف في قراءتي لسفر الملوك الأول عند هذه النقطة؛ لأن ما يأتي من أخبار مملكتَي إسرائيل ويهوذا سوف يُعالَج لاحقًا من خلال أخبار مملكة آرام دمشق، وعلاقاتها الدولية مع آشور وبقية دول المنطقة. في سفر الملوك الأول لدينا قسمان متمايزان في المضمون وفي الأسلوب، يشمل القسم الأول الإصحاحات من ١ إلى ١١، ويتضمن أخبار الملك سليمان، أما القسم الثاني فيمتد حتى نهاية السفر، ويتضمن أخبار ملوك إسرائيل ويهوذا بعد انقسام المملكة الموحدة. يسود في القسم الأول أسلوب الجمع التراثي، الذي يستمد مادته من ذاكرة شعبية مشوشة تمتح من مصادر متنوعة، وفترات تاريخية متباعدة. أما القسم الثاني فقد تمت معالجته وصياغته بأسلوب جديد سوف يستمر إلى سفر الملوك الثاني، الذي يغطي بقية أخبار المملكتين وصولًا إلى السبي البابلي. ورغم أن هذا الأسلوب الجديد لم يتخلَّ تمامًا عن أسلوب الجمع التراثي، إلا أنه أضاف إليه طريقة في السرد الإخباري تقترب من الكتابة التاريخية، وإن لم ترقَ إليها تمامًا. ويبدو أن المحررين هنا قد أخذوا بالاعتماد على بعض المصادر الكتابية القريبة إلى عصر تدوين الأسفار التوراتية، بينها ثَبَتُ ملوك يهوذا، وثَبَتُ ملوك إسرائيل، التي يُشار إليها في النص بأخبار الأيام لملوك يهوذا، وأخبار الأيام لملوك إسرائيل. ولسوف نرى عبر فصول القسم الثاني من دراستنا أن هذه المصادر، في حال وجودها، لا تتمتع بقدر كافٍ من المصداقية التاريخية. فإذا أضفنا إلى نقص المصداقية التاريخية في مصادر المحرر استمراره في رؤية الأحداث وترتيبها من خلال المنظور الأيديولوجي لعملية التحرير برمتها، وما ينجم عن ذلك من انتقائية وهوًى في اختيار الأحداث؛ لرأينا أن الاختلاف في الأسلوب لم يحمل اختلافًا في الرسالة والمضمون، ذلك أن المحرر التوراتي قد بقي أمينًا للهدف الرئيسي من تدوين الأسفار التوراتية وهو: تجذير الأصول. فابتداءً من منتصف سفر الملوك الأول تنتهي المرحلة الأولى من عملية تجذير الأصول، والتي أسست من خلالها لمفهوم «كل إسرائيل»، وتبدأ المرحلة الثانية، وهي التأسيس لأصول مملكتَي إسرائيل ويهوذا، وأصول دمار هاتين المملكتين. إن همَّ المحرر التوراتي في فترة التدوين كان التأمل في مسألة خراب المملكة، وفي أسبابه، وفي الأحداث التي قادت إلى ذلك الخراب. إلا أنه قد بقي أمينًا أيضًا لرؤيته الأيديولوجية، ينأى بنفسه عن تلمُّس الأسباب التاريخية الحقيقية الفاعلة في عملية التدهور والدمار، مُركزًا على المسألة اللاهوتية وعلى علاقة الرب بشعبه كمحرك رئيسي في صيرورة التاريخ. وسيكون علينا أن ننتظر إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وهي فترة تدوين أسفار المكابيين، لكي نتلمَّس تغييرًا جذريًّا في أسلوب النص التوراتي، واكتسابه لأول مرة شكل الكتابة التاريخية ومضمونها. ذلك أن أسفار المكابيين قد دُونت باللغة اليونانية، ومحرروها متأثرون بالثقافة اليونانية، التي عرفت جنس الكتابة التاريخية وبرعت فيه. ورغم أن مملكة سليمان لم يكن لها مرفأ بحري على شاطئ المتوسط، الذي تقاسمه الفينيقيون والفلسطينيون، فقد جعل محرر السفر لسليمان سفنًا تمخر عباب البحر إلى جانب سفن حيرام ملك صور، وتأتي إليه بأكداس الذهب من المدن البعيدة، حتى صارت الفضة بلا قيمة وتكدست في شوارع أورشليم مثل الحجارة. وكان وزن الذهب الذي أتى لسليمان في سنة واحدة ستمائة وستًّا وستين وزنة. ومثل هذا الذهب لم يتوفر في سنة واحدة لنينوى عاصمة آشور في قمة عصرها الإمبراطوري، ولا لطيبة تحوتمس الثالث، ولا لروما يوليوس قيصر. ونحن هنا لم نأخذ بالحسبان أكداس الذهب التي استخدمت لطلي جدران الهيكل من الداخل، ولصنع المذبح والآنية الطقسية وغيرها: «وعمل سليمان جميع آنية بيت الرب؛ المذبح من ذهب، والمائدة التي عليها خبز الوجوه من ذهب، والطسوس والمقاصُّ والمناضح والصحون والمجامر من ذهب خالص، والوصل لمصاريع البيت الداخلي، أي: لقدس الأقداس، ولأبواب البيت، أي: الهيكل، من ذهب …» (٧: ٤٨–٥٠). ولكن هذه الأكداس المكدسة من الذهب تُستخدم لصناعة كل شيء تقريبًا؛ تبدو صورةً متواضعة إذا عرفنا أن الحجارة الكريمة كانت تُستخدم منشورة فتصنع منها حجارة للأساسات وللجدران: «وأمر الملك أن يقلعوا حجارةً كبيرة، حجارةً كريمة لتأسيس البيت، حجارة مربعة» (٥: ١٧). وأيضًا: «وعمل بيتًا لابنة فرعون التي أخذها سليمان، كهذا الرواق. كل هذه من حجارة كريمة كقياس الحجارة المنحوتة، منشورة بمنشار من داخل ومن خارج، من الأساس إلى الإفريز، وكان مؤسسًا على حجارة كريمة، حجارة عظيمة، حجارة عشر أذرع، وحجارة ثماني أذرع» (٧: ١٠–١١). إن المحرر التوراتي، الذي يقدم لنا هذه الصور التي لم تحلم بمثلها ألف ليلة وليلة، هو الذي يقول لنا بعد ذلك إن الملك سليمان هو الذي بنى تدمر في البرية! والمؤرخون التوراتيون يطلبون منا أن نصدق ذلك. وفي قصة زواج الملك سليمان من ابنة الفرعون يقع المحرر في تناقض يُظهر الطابع الخيالي لنفوذ سليمان الداخلي والخارجي. فقد صعد فرعون مصر المجهول الاسم على فلسطين، وأخذ مدينة جازر الكنعانية وأعطاها مهرًا لابنته التي زوَّجها من سليمان. فإذا علمنا أن مدينة جازر هذه لا تبعد عن أورشليم أكثر من بضع عشرات من الكيلومترات، لعرفنا مدى النفوذ الفعلي للملك سليمان، الذي وصلت سلطته إلى الفرات وكان عاجزًا عن ضم مدينة كنعانية قوية لا تبعد إلا رمية حجر عن عاصمته. فإذا أضفنا إلى ذلك أن النصوص الآشورية — التي أعطتنا معلومات تفصيلية عن الدول المهمة التي قامت في بلاد الشام خلال القرن العاشر — قد تجاهلت أيضًا قيام مملكة قوية في فلسطين وصلت مناطق نفوذها إلى الفرات، وتجاهلت وجود ملك عليها طبقت شهرته الآفاق اسمه سليمان، يأتي إليه ملوك الأرض لتقديم الطاعة والولاء والاستماع إلى حكمته؛ لتوصلنا إلى نتيجة واحدة، فإما أن التاريخ قد أحبك مؤامرة صمت مقصودة، وإما أن هذه المملكة الموحدة لم تقم لها قائمة إلا في خيال المحرر التوراتي. والكلمة الفصل في ذلك ستكون لعلم الآثار. فماذا يقول علم الآثار في مسألة المملكة الموحدة لكل إسرائيل، من بعد قرن كامل على بداية عملية التنقيب في فلسطين، وخصوصًا في موقع أورشليم، مفتاحنا إلى اللغز؟ عندما بدأت التنقيبات الأثرية في أورشليم توجه المنقبون إلى مدينة القدس بموقعها الحالي يبحثون عن حدود أورشليم القديمة. ثم تبين بعد ذلك أن المدينة اليبوسية تقع بكاملها إلى الجنوب من المدينة الحالية على الجزء الجنوبي من سلسلة تلال القدس الشرقية، التي يشغل جزؤها الأوسط الحرم الشريف، ويدخل جزؤها الشمالي ضمن الحدود التقليدية لمدينة القدس. وقد راوحت عمليات التنقيب في مكانها زمنًا طويلًا، إلى أن باشرت حملة المنقبة البريطانية السيدة كاثلين كينيون أعمالها في مطلع ستينيات القرن العشرين، وكشفت عن كل ما يمكن الكشف عنه في موقع أورشليم العصور القديمة وموقع الهيكل. أما فيما يتعلق بموقع هيكل سليمان، فقبل الدخول في التفاصيل الأركيولوجية، يستحسن إعطاء القارئ لمحة عن تاريخ هذا الهيكل. فمن المفترض أن الملك سليمان قد بنى الهيكل حوالي منتصف القرن العاشر قبل الميلاد، خارج أسوار أورشليم في حقل أرنان اليبوسي الذي أقام فيه داود مذبحًا للرب (راجع آخر قصة من قصص داود في عرضنا السابق). ومن المفترض أن هذا الهيكل قد استمر قائمًا إلى أن تم تدميره مع بقية المدينة على يد البابليين عام ٥٨٧ق.م. بعد استيلاء قورش الفارسي على بابل وممتلكاتها جميعها، سمح هذا الملك بعودة الجماعات التي تم سبيها خلال العصر الآشوري والبابلي الجديد إلى مواطنها، وبينهم أولئك المسبيون من أورشليم عقب حملة نبوخذ نصَّر عليها، فعاد مسبيُّو أورشليم على عدة دفعات. وقد قاد الدفعة الثانية من العائدين المدعو زَرُبابل الذي عيَّنه الفرس واليًا على المدينة. وتقول الرواية التوراتية في سفر عزرا بأن زَرُبابل هذا هو الذي أعاد بناء هيكل سليمان المُهدَّم في أورشليم (حوالي عام ٥٢٠ق.م.) وقد دُعي هذا الهيكل الجديد بهيكل زَرُبابل أو بالهيكل الثاني، وبقي قائمًا إلى العصر الروماني. وعندما عيَّن الرومان المدعو هيرود ملكًا على أورشليم ومنطقة اليهودية في عام ٣٧ق.م. قام بتوسيع هيكل زَرُبابل والإضافة إليه حتى بلغت مساحته ضعف المساحة الأصلية. بقي هيكل هيرود قائمًا قرابة قرن من الزمان، ثم تم تدميره على يد الرومان مع بقية المدينة عام ٧٠ ميلادية، وبقي موقعه خرابًا إلى أن تم بناء المسجد الأقصى في مكانه في القرن السابع الميلادي. وقد استخدم المعماري الأموي أساسات سور هيرود نفسها لرفع سور المسجد الأقصى، كما استخدم الأرضيات القديمة فأقام عليها منشآت المسجد. لقد سبقت عملية استيطان الهضاب المركزية عميلة استيطان مرتفعات يهوذا بنحو قرنين من الزمان. كما سبق قيام الدولة في الشمال قيامها في الجنوب بالمدة نفسها تقريبًا. إن القاعدة السكانية والاقتصادية لقيام مملكة في الهضاب المركزية لم تتوفر قبل استهلال القرن التاسع وبناء مدينة السامرة. إن القاعدة السكانية والاقتصادية لقيام مملكةٍ في مرتفعات يهوذا بقيادة أورشليم لم تتوفر قبل أواخر القرن الثامن قبل الميلاد. لقد تتبعنا في القسم الأول من دراستنا هذه الرواية التوراتية حول أصول إسرائيل، وقمنا بإجراء المقارنة بين الخبر التوراتي والمعلومات التاريخية والأركيولوجية المؤكدة، وذلك عند كل مرحلةٍ من مراحل القصة التوراتية وصولًا إلى موت الملك سليمان وانقسام المملكة الموحدة. ولكننا لم نعثر على أثرٍ لإسرائيل التوراتية، ولم يتقاطع الخبر التوراتي خلال ألف عام، وفي أية نقطةٍ من مسار القصة مع تاريخ وأركيولوجيا فلسطين والشرق الأدنى القديم. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل هناك إسرائيل تاريخية يمكن إحلالها محل إسرائيل التوراتية؟ وما هي الصورة التاريخية لإسرائيل وللمسرح الفلسطيني خلال عصر الحديد، الذي شهد مولد دولتَي إسرائيل ويهوذا.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/2.1/
نظريات في نشوء إسرائيل
إن الإخفاق الذي مُنِي به الباحثون المحافظون حتى الآن في إيجاد مستنداتٍ تاريخية لإسرائيل التوراتية، قد قاد إلى الاستقلال التدريجي للبحث في أصول إسرائيل عن البحث التوراتي والبحث اللاهوتي. وفيما عدا البقية المتعنتة من تلامذة أولبرايت، والحلقات الأكاديمية ذات الخلفية اللاهوتية، فإن الباحثين اليوم يضربون صفحًا عن كل ما سبق فترة الاستقرار في كنعان، باعتباره «ما قبل التاريخ» بالنسبة لمسألة أصول إسرائيل، ويركزون دراستهم على عصر الحديد الأول، والفترة الانتقالية من البرونز الأخير إلى عصر الحديد، وذلك من أجل الكشف عما حدث فعلًا في فلسطين وأدى إلى نشوء إسرائيل. ويعتقد آلت أن الجماعات التي شغلت الهضاب المركزية كانت عبارة عن عشائرَ بدوية من أصولٍ مختلفة أخذت بالتسرب تدريجيًّا إلى هذه المنطقة، وعلى فتراتٍ متقطعة ومتباعدة، اعتبارًا من منتصف القرن الثالث عشر قبل الميلاد، تسوق قطعانها الصغيرة عبر نهر الأردن باحثةً عن مراعٍ جديدة في كنعان. وكان هؤلاء الرعاة يتوقفون خلال الشتاء والربيع عند أطراف المناطق الزراعية، فإذا يبست الأعشاب صيفًا أخذوا بالتوغل أكثر فأكثر نحو المناطق الزراعية من أجل رعي القش المتبقي بعد الحصاد، وذلك بالاتفاق مع أصحاب الحقول، الذين كانوا يدخلون معهم في علاقات منافع متبادلة. وشيئًا فشيئًا، وجد بعض هذه العشائر أماكن مناسبة لإقامتهم في المناطق الخالية الفاصلة بين دويلات المدن الكنعانية، والبعيدة عن نفوذ المراكز السياسية الهامة، وعن النفوذ المصري في وادي يزرعيل، فتوطنوا هناك وأخذوا بالاستقرار والزراعة دون أن يسببوا تهديدًا أو مخاوف لأي فريق، ولم يكن لهذه الجماعات من حاجةٍ إلى العنف وإلى اكتساب الأرض بالقوة. ثم إن هذه العشائر المسالمة والمتباعدة عن بعض أخذت بالتقارب بعد فترةٍ من الاستقرار، وأخذت تدريجيًّا بالإحساس بنوعٍ من الرابطة فيما بينها. ومن المرجح أن عبادةً واحدة قد نشأت بينها تدريجيًّا، وتركزت طقوسها حول مقامٍ مقدس أو مذبح مشترك، الأمر الذي زاد من ترابطها وإحساسها بالتمايز عمَّن حولها. وعندما أخذت أكبر هذه العشائر بتوسيع مناطقها على حساب مناطق الكنعانيين، وذلك في أواخر عصر القضاة، وقع الصدام العسكري مع الكنعانيين على شكل حروبٍ محلية محدودة. وهذه الحروب هي التي بقيت ذكراها قائمة في الأذهان بشكلٍ غامض ومشوش، وأدت فيما بعد إلى نشوء تقليد الفتح العسكري واكتساب كنعان بالقوة، مما يذكره سفر يشوع. ثم تنادت هذه الجماعات بعد أن أحست بوحدة مصالحها إلى إقامة المملكة الموحدة، التي ابتدأت بحكم الملك شاول. وينطلق آلت في نظرته إلى أصول إسرائيل من موقفٍ مخالفٍ تمامًا لموقف الباحث أولبرايت، فبينما كان همُّ أولبرايت أن يزرع جذور إسرائيل في التربة الأوسع لثقافة الشرق القديم، فإن آلت والمدرسة التي ينتمي إليها، بنظرتهم الشكوكية إلى القيمة التاريخية لروايات الآباء والخروج ويشوع، يجدون أنه من غير المجدي البحث عن أصول إسرائيل في الفترات السابقة لعصر القضاة وتشكيل المملكة الموحدة. وهنا، وبدلًا من توطين أصول إسرائيل في الثقافة المحلية، والبحث عن نواحي اللقاء والانسجام، فإن آلت يلجأ إلى إبراز أصول إسرائيل من خلال تضادها وتناقضها مع محيطها، ويركز على ثنائية إسرائيل – كنعان. إن المفتاح الرئيسي لفهم نشوء إسرائيل كهويةٍ متميزة في المنطقة، هو البحث عن اختلافها وتفردها وتميزها عن المحيط الكنعاني الأوسع والأقدم. أما الجوانب التي يجدها آلت مشتركة بين ما هو إسرائيلي وما هو كنعاني، فيعزوها إلى قيام الإسرائيليين لاحقًا بتبني جوانب معينة من الثقافة الكنعانية، وهي جوانبُ غير أصيلة في إسرائيل كما يعتقد. يستخدم آلت مصطلح «كنعان» وصفة «كنعاني» للدلالة على دويلات المدن الفلسطينية وما يتعلق بها خلال عصر البرونز الأخير، وهي الدويلات التي نعرف عنها من رسائل تل العمارنة، ومن وثائق الإمبراطورية المصرية عمومًا العائدة لذلك العصر. وهو يصفها بأنها دويلاتٌ زراعية يحكمها ملوكٌ متسلطون، مرتبطة ثقافيًّا بالعالم السوري المسماري، وذات ديانةٍ تقليدية وثنية. أما مصطلح «إسرائيل» وصفة «إسرائيلي» فهو مفهومٌ تجريدي عند آلت استمده من نفي كل ما هو كنعاني. فالمصطلح، والحالة هذه، يشير إلى ثقافةٍ قبلية ورعوية شبه بدوية، ومعتقدٍ ديني توحيدي، ونظام حكم بدائي ديمقراطي. وثنائية كنعان – إسرائيل عند آلت لست ثنائية تضاد ثقافي فقط، بل ثنائية تتابُع زمني أيضًا؛ فعصر البرونز الأخير هو عصرٌ كنعاني، ويدل على كامل فلسطين قبل وصول الإسرائيليين، أما ما تلاه من عصر الحديد فإسرائيلي، أو فلسطين في طريقها لأن تغدو إسرائيل. من هنا، فقد أعطى هذا الباحث لنفسه الحق في دراسة نصوص عصر البرونز الأخير، واستقراء آثاره سواء في فلسطين أم خارجها، دون الاستعانة بالنص التوراتي أو الرجوع إليه، وذلك على عكس موقفه من نصوص وآثار عصر الحديد الذي يعتبره فاتحةً للعصر الإسرائيلي. ولكن من يستطيع القول إن هذه القرى الجديدة هي قرًى إسرائيلية؟ إن الدلائل تتزايد اليوم على أن أولئك القادمين الجدد إلى المناطق الهضبية في فلسطين كانوا بشكلٍ رئيسي من المزارعين ومُرَبي الماشية المستقرين، ولا علاقة لهم بالبداوة أو الرعي المتنقل، وأنهم من أصلٍ محلي لا خارجي. يضاف إلى ذلك أن ظهور القرى الجديدة في فلسطين إبان عصر الحديد الأول لم يكن وقفًا على المناطق الهضبية فقط، وأن إعادة استيطان المناطق التي هُجرت خلال عصر البرونز الأخير هي عملية مرتبطة بعودة المناخ المطري. إن أخْذ هذه الحقائق كلها بعين الاعتبار يؤكد لنا بأن التغييرات السكانية في المناطق الهضبية لا علاقة لها من قريبٍ أو بعيد بنشوء إسرائيل التوراتية. إن ثنائية كنعان – إسرائيل، التي رسختها نظرية آلت، لم تنشأ نتيجة لوصفٍ مباشر وبسيط لمجموعتين بشريتين متعاصرتين ومعروفتين تاريخيًّا، هما الإسرائيليون والكنعانيون، بل جاءت نتيجة وصف تخيلي يعتمد التوفيق بين الرواية التوراتية والمصادر التاريخية. فصورة الكنعانيين عند آلت وغيره من الباحثين التقليديين مستمدة من تفسير النصوص المصرية لعصر البرونز، والتوفيق بينها وبين الصورة العرقية التوراتية عنهم. وأما صورة الإسرائيليين فمستمدة فقط من الرواية التوراتية المتأخرة، والتي لا تعكس سوى صورة جماعة السبي البابلي، من بني يهوذا، عن أنفسهم وعن أصولهم. وفي الحقيقة، فإننا اعتمادًا على المكتشفات الأثرية في كل مواقع القرى والمدن الفلسطينية، لا نستطيع التمييز بين ما هو كنعاني وما هو إسرائيلي. ففي المواقع القديمة، مثل مجدو وحاصور وشكيم، والتي استمرت من عصر البرونز إلى عصر الحديد، تُظهر الآثار المادية صورة ثقافةٍ محلية مستمرة وغير منقطعة، من عصر البرونز الوسيط إلى البرونز الأخير فعصر الحديد الثاني. كما تُظهر الخزفيات والمخلفات المادية الأخرى في مواقع القرى الجديدة، التي ظهرت إبان عصر الحديد الأول انتماءً للثقافة المحلية، وارتباطًا كاملًا بثقافة عصر البرونز الأخير. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالمدن التي بُنيت في عصر الحديد، ومثالنا الوحيد عليها هو مدينة السامرة، فهنا يُبدي كل أثرٍ من آثار تنظيم المدينة وعمارتها وخزفياتها وفنونها التشكيلية انتماءً إلى الثقافة الفلسطينية التقليدية، والثقافة الفينيقية المجاورة. ولقد طور كاتب هذه السطور من جهته، وبشكلٍ مستقل، منذ مطلع الثمانينيات نظريةً في أصول إسرائيل قريبة من نظرية ميندنهُل وغوتوالد، وتختلف عنها في أنها أسقطت عنصر الثورة الداخلية، وركزت على التمايز الديني عن الوسط الكنعاني، وما تبعه من تمايزٍ اجتماعي وثقافي أدى في النهاية إلى ما يُشبه التغاير الإثني، الذي كرَّسه فيما بعد كهنة يهوذا خلال السبي البابلي وما تلاه. وقد عرضتُ أفكاري هذه في عددٍ من المحاضرات التي ألقيتها في منتدياتٍ ثقافية سورية، وفي بحثٍ مطول نُشر في مجلة الفكر الديمقراطي الصادر في قبرص. ويُعبر المقطع التالي، الذي أقتطفه للقارئ من آخر هذا البحث، عن الخطوط العامة للنظرية التي عملتُ على تعديلها فيما بعد: ويبدو لي الآن بوضوح، أن ما كنت قد توصلت إليه في نظريتي السابقة، التي تقول بأن المعتقد التوراتي قد تطور داخل الديانة الكنعانية ذاتها، قد اعتمد بشكلٍ رئيسي على النقد النصي لأسفار التوراة، ودون تقييمٍ حقيقي للبينات الأركيولوجية المتعلقة بالموضوع، والتي تؤكد بما لا يدع مكانًا للشك أن المعتقد التوراتي، وخصوصًا كما ترسمه أسفار الأنبياء، لم يكن له وجودٌ في فلسطين خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد. ولسوف نُبيِّن في الفصول الأخيرة من هذا الكتاب أسباب وكيفية نشوء المعتقد التوراتي خلال القرون الثلاثة التي تلت السبي البابلي، ودور هذا المعتقد في تكوين الجماعة اليهودية. لقد عثر فريق زِرتال على ١١٦ قرية زراعية تعود إلى النصف الثاني من عصر البرونز الوسيط، وعلى ٣٩ قرية زراعية من عصر البرونز الأخير، وعلى ١٣٦ قرية زراعية من عصر الحديد الأول. أي إنه بعد الهبوط الحاد في منحنى الاستيطان خلال البرونز الأخير بسبب الجفاف العام، عاد المنحنى إلى الصعود خلال عصر الحديد الأول بعد عودة المناخ المطري، وهي الفترة المفترضة للاستيطان الإسرائيلي في الهضاب المركزية. كما تبين من تحليل المعلومات أن معظم مواقع عصر البرونز الوسيط وعصر البرونز الأخير كانت متوضعة في المناطق الأكثر خصوبة من الهضاب المركزية، مثل الأودية التي يسيل فيها ماء المطر، أما معظم مواقع عصر الحديد فكانت متوضعة في المناطق المرتفعة ذات الطبيعة الصعبة والتربة القليلة الخصوبة. وإضافةً إلى ذلك، فقد لاحظ زِرتال أن أولى المواقع التي ظهرت في الهضاب المركزية قد توضَّعت في وادي الأردن والمنحدرات الشرقية للهضاب، ومع التقدم زمنيًّا في عصر الحديد الأول تأخذ القرى الجديدة بالظهور أعمق فأعمق نحو الغرب، معتمدةً في زراعتها على القمح والشعير. وفي آخر مراحل الاستيطان خلال القرن الحادي عشر يأخذ القرويون باستصلاح المنحدرات، وتسوية المدرجات التي تصلح لزراعة المحاصيل المتوسطية، كالكرمة والزيتون. وبما أن المنقب زِرتال يفترض مُسبقًا بأن القرى الجديدة في منطقة الهضاب المركزية هي قرًى إسرائيلية، فإنه يفسر ظهورها أولًا في المناطق الأقل خصوبة بوجود الكنعانيين في المناطق الخصيبة، وهذا ما دفع القادمين الجدد إلى الاستقرار في المناطق غير المملوكة من قِبل أحد. كما أنه يفسر سبب ظهور القرى الأولى في المنحدرات الشرقية للهضاب المركزية، ثم زحفها التدريجي نحو الأعلى وصولًا إلى المناطق المرتفعة، بأن القادمين الجدد قد جاءوا من المناطق الرعوية في شرقي الأردن، وبدءوا في الاستقرار التدريجي بوادي الأردن والمنحدرات الشرقية، ثم تغلغلوا نحو الداخل. كما يرى زِرتال أن المجموعتين الكنعانية والإسرائيلية كانتا متعايشتين بشكلٍ سلميٍّ في المنطقة، وأن الكنعانيين القدماء في الأرض قد سمحوا للإسرائيليين بالاستقرار في المناطق البعيدة عنهم وبناء قراهم الجديدة، ذلك أن المناطق التي شغلها القادمون الجدد كانت عديمة المصادر المائية الطبيعية، وكان أهلها مضطرين لجلب الماء من مناطق الكنعانيين البعيدة بالاتفاق معهم. أما عن كيفية جلب هذه المياه وطريقة خزنها، فإن زِرتال يعتقد بأن تلك الجرار الضخمة التي وُجدت في المواقع الإسرائيلية الأولى، والتي تُشكِّل الجزء الأكبر من المكتشفات الفخارية في هذه المواقع، قد استُخدمت لهذه الغاية، ويدعم هذا الاستنتاج في رأيه أن هذا النوع من الجرار الضخمة قد بدأ بالاختفاء مع حلول عصر الحديد الثاني، وشيوع استخدام الأدوات الحديدية، من معاولَ وغيرها، والتي ساعدت سكان المناطق المحرومة من المياه على حفر خزاناتٍ مكشوفة واسعة في الصخر، من أجل تخزين مياه المطر في الشتاء واستخدامها في الصيف.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/2.2/
إسرائيل التاريخية
وأما الحديث عن كنعان باعتبارها نقيض إسرائيل والخلفية العامة التي ميَّزت إسرائيل نفسها عنها؛ فيمتُّ إلى ماضي البحث التاريخي، وإلى نظريات تعتمد مسلَّماتٍ لم تخضع للنقد والتمحيص. فعصر البرونز الأخير ليس كنعانيًّا أكثر من عصر الحديد، وعصر الحديد ليس إسرائيليًّا في مقابل عصر البرونز الكنعاني؛ ذلك أن المكتشفات الأثرية في العصرين تعطينا صورة ثفافة فلسطينية مستمرة، واحدة، وغير منقطعة أو مُتلوِّنة بلونٍ خارجي غريب عنها. وكل المدن التي تهدمت خلال الفترة الانتقالية بين العصرين قد أُعيد بناؤها وسكنُها من قبل الذخيرة السكانية الفلسطينية نفسها. وهذا ما ينفي، وبشكلٍ قاطع، قدوم أقوام جديدة حلَّت محل السكان الأصليين، أو أقامت إلى جانبهم وأثرت فيهم ثقافيًّا وعرقيًّا. إن لجوء الآثاريين الإسرائيليين، وزملائهم من الملتصقين بالمنهج المحافظ القديم، إلى استخدام وصف كنعاني لكل ما يمتُّ إلى ثقافة عصر البرونز، واستخدام وصف إسرائيلي لكل ما يمتُّ إلى عصر الحديد؛ لا يصدر إلا عن موقفٍ متعنت. وهؤلاء أنفسهم لا يستطيعون تقديم أي معيارٍ علمي موضوعي للتفريق بين الأثر الكنعاني من عصر البرونز والأثر الإسرائيلي المزعوم من عصر الحديد، سواء في حقل الخزفيات أو الفنون التشكيلية أو الفنون المعمارية، وحتى في مجال اللغة والدين وما إلى ذلك من النواتج غير المادية للثقافة الفلسطينية. إن كل ما في حوزتنا حتى الآن، وهو كثيرٌ بفضل تراكم المعلومات الآثارية خلال ربع قرن، ينفي وبشكلٍ قاطع أي وجودٍ لإسرائيل التوراتية خلال عصر الحديد الأول. فبناءً على الرواية التوراتية يتفق المؤرخون التقليديون على أن مملكة شاول قد قامت حوالي عام ١٠٢٠ق.م. وضمت القبائل الشمالية المدعوة بالإسرائيلية، ثم قامت مملكة داود وسليمان فيما بين ١٠٠١ و٩٣١ق.م. التي شملت منطقة يهوذا الجنوبية إلى جانب منطقة إسرائيل، فيما يُدعى بالمملكة الموحدة لكل إسرائيل، ثم انقسمت بعد ذلك إلى مملكتين. إلا أن الصورة العامة التي قدمها لنا المسح الأركيولوجي الشامل عن عملية استيطان الهضاب المركزية، وتطور هذه العملية خلال الحديد الأول، تظهر لنا أن الاستيطان لم يبلغ ذروته إلا في سياق الحديد الثاني، الأمر الذي لا يسمح لنا بافتراض قيام مملكة لإسرائيل في الشمال قبل بدايات القرن التاسع قبل الميلاد. كما أن هناك من الأسباب ما يدعونا لأن ننفي أكثر قيام مملكة يهوذا في الجنوب خلال الفترة نفسها؛ لأن حركة الاستيطان هنا لم تَنضَج إلا بعد فترةٍ لا بأس بها من تشكيل مملكة إسرائيل-السامرة، والأوضاع الملائمة لتكوين مملكة في يهوذا لم تتوفر إلا في سياق القرن الثامن. وهذه الحقائق تنفي وجود قاعدةٍ مشتركة تجمع إسرائيل إلى يهوذا في تكوينٍ إثني وسياسي. إن أسرة الملك عُمري التي بَنت مدينة السامرة هي الأسرة التي شكَّلت، ولأول مرةٍ، دولة اسمها إسرائيل. وهذه الأسرة معروفة تاريخيًّا، وملوكها موصوفون في النصوص الآشورية، إلا أننا لا نملك الأساس التاريخي الذي يمكننا من عقد صلة بين ملوك السامرة هؤلاء والملوك المزعومين للمملكة الموحدة، أو الافتراض بأن هذه المملكة الموحدة هي الأصل التاريخي لإسرائيل السياسية. فمع بناء السامرة فقط يتوفر لدينا من الوثائق التاريخية والأركيولوجية ما يكفي للحديث عن إسرائيل التاريخية، ولكن بصيغة «دولة إسرائيل» أو «دولة السامرة»، وهي دولةٌ فلسطينية محلية أنشأها الملك عُمري حوالي عام ٨٨٠ق.م. واستمرت أقل من قرنين من الزمان، حيث دمرها الآشوريون حوالي عام ٧٢١ق.م. وسبَوْا أهلها إلى آشور. وهؤلاء المسبيون لم يرجعوا قط إلى مواطنهم في فلسطين، بل ذابوا عرقيًّا بين الجماعات التي أقاموا بين ظهرانَيْها. أما قبل صعود أسرة عُمري وبناء مدينة السامرة، فإنه من العبث التحدث عن إسرائيل سياسيةٍ أو إثنيةٍ في المنطقة، ومفهوم «كل إسرائيل» هو نتاج التقاليد التوراتية المتأخرة، والتي بُنيت أساسًا على وجودٍ تاريخي لإسرائيل-السامرة، وليس العكس. إن النقد النصي والتاريخي والأركيولوجي لروايات الآباء والخروج قد أوصلنا إلى القول بكل ثقةٍ علمية بأن الوقائع جميعها تنفي نفيًا قاطعًا وجود كيان إثني اسمه «كل إسرائيل» خلال أية فترةٍ من عصر البرونز الأخير، وصولًا إلى مطلع عصر الحديد الأول حوالي ١٢٠٠ق.م. إن الشواهد الأركيولوجية من الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد تنفي نفيًا قاطعًا رواية سفر يشوع عن الاقتحام العسكري لأرض كنعان. ذلك أن نتائج التنقيب الأثري في مواقع المدن التي يعزو النص التوراتي تدميرها إلى يشوع؛ تُظهر عدم تطابق تاريخ دمار معظم هذه المدن مع التاريخ المفترض لقدوم الإسرائيليين إلى كنعان. أما المواقع التي يتزامن تاريخ الدمار فيها مع قدوم الإسرائيليين، فإن الشواهد الأثرية الصامتة لا يمكن أن ترجِّح رواية سفر يشوع، بسبب وجود العديد من المرشحين لتدمير هذه المدن خلال تلك الفترة، وخصوصًا الفرعون مرنفتاح وشعوب البحر. ومن ناحيةٍ ثانية، فإن المواقع المهدمة التي أُعيد بناؤها في سياق عصر الحديد الأول تُظهر ارتباطًا عضويًّا بثقافة البرونز الأخير. إن نتائج المسح الأركيولوجي الشامل لمنطقة الهضاب المركزية ولمنطقة مرتفعات يهوذا، في المستويات الأثرية العائدة لعصر الحديد الأول، تنفي نفيًا قاطعًا ظهور مجموعةٍ إثنية واحدة في كلا المنطقتين خلال الفترة المفترضة لعصر القضاة والاستقرار في الأرض. فالقرى التي ظهرت بشكلٍ بطيء في الهضاب المركزية خلال عصر الحديد الأول كانت قرًى كنعانية من أصلٍ زراعي محلي، مرتبطة ثقافيًّا بعصر البرونز الأخير، ولا علاقة لها بالقبائل الرعوية التوراتية. وقد سبق استيطان منطقة الهضاب المركزية الاستيطان في منطقة يهوذا بحوالي قرنين من الزمان، الأمر الذي ينفي وجود قاعدةٍ مشتركة بين المنطقتين، كما ينفي قيام كيانٍ إثني يشتمل على «كل إسرائيل» خلال فترة عصر القضاة التي تغطي كامل فترة الحديد الأول. لم يتوفر خلال القرن العاشر قبل الميلاد الأساس السكاني والاقتصادي اللازم لقيام مملكةٍ قوية في الهضاب المركزية أو مرتفعات يهوذا، ناهيك عن قيام مملكة موحدة متسعة الأرجاء بسطت سلطانها على كامل أراضي فلسطين. فإضافةً إلى الفقر المدقع لقرى الهضاب المركزية المبعثرة، فإن منطقة يهوذا كانت شبه خالية من السكان، وأورشليم كانت بلدةً متواضعة وغير صالحةٍ لأن تكون عاصمةً للمملكة المذكورة في التوراة. لا يوجد ذكرٌ لكيانٍ سياسي اسمه إسرائيل في وثائق الشرق القديم جميعها قبل أواسط القرن التاسع قبل الميلاد (أي بعد أكثر من قرنٍ على تشكيل مملكة كل إسرائيل التوراتية)، عندما بدأ اسم إسرائيل يظهر في السجلات العسكرية الآشورية، وللدلالة حصرًا على مملكة السامرة، التي تشكَّلت تاريخيًّا حوالي عام ٨٨٠ق.م. وكذلك الأمر في مملكة يهوذا، التي لم يرد ذكرها في السجلات الآشورية إلا نحو نهاية القرن الثامن قبل الميلاد، وعندما بدأت مملكة إسرائيل بالأفول. لا يوجد في وثائق الشرق القديم ذكرٌ لكيانٍ سياسي اسمه إسرائيل بعد دمار مملكة السامرة على يد الآشوريين عام ٧٢١ق.م. وسبي أهلها الذين لم يرجعوا إلى أوطانهم قط. أما المقاطعة الآشورية التي قامت في الهضاب المركزية بعد سبي الإسرائيليين وإحلال أقوام جديدة محلهم فقد دُعيت بمقاطعة السامرة، واستمرت تُدعى بهذا الاسم خلال العصر الفارسي والهيلينستي والروماني. وفيما يتعلق بمنطقة يهوذا، فقد أُطلق عليها اسم مقاطعة اليهودية بعد عودة المسبيين إليها من بابل، واستمر هذا الاسم قائمًا حتى العصر الروماني. لا يوجد أثرٌ للمعتقد الديني التوراتي في منطقتَي إسرائيل ويهوذا، وفي بقية أنحاء فلسطين، خلال الفترة السابقة على السبي البابلي، والديانة التي سادت هنا هي ديانةٌ كنعانية تقليدية. إن جميع المعابد والمقامات الدينية وتماثيل وشارات الألوهة جميعها مما كشفت عنه التنقيبات في المستويات الأثرية العائدة إلى عصر الحديد الأول والثاني، تشير إلى استمرارٍ طبيعي للمعتقدات الدينية لعصر البرونز في فلسطين. أما الإله يهوه، الذي تركز حوله المعتقد التوراتي فيما بعد، فقد كان على ما يبدو المعبود الرئيسي في السامرة ويهوذا، إلى جانب آلهة البانثيون الكنعاني الفلسطيني. إن خلاصة ما يمكن قوله فيما يتعلق بإسرائيل ويهوذا التاريخيتين هو أن هاتين الدولتين قد نشأتا تباعًا في فلسطين كجزءٍ من النظام العالمي للإمبراطورية الآشورية، ثم دخلتا في صراعٍ مرير إبان فترة صعود مدينة أورشليم، من أجل السيطرة التجارية والسياسية على منطقة فلسطين وشرقي الأردن. وقد واجهت كل منهما منفردةً، وعلى طريقتها الخاصة، المد التوسعي لكل من مملكة آرام دمشق، التي نشأت خلال الفترة نفسها، ومملكة آشور. وبما أننا لا نستطيع فهم مسار حياة هاتين الدولتين والأحداث التي قادت إلى دمارهما إلا من خلال علائقهما مع دمشق وآشور؛ القوتين العُظميَين في ذلك الوقت، فإننا سوف نَعمِد في القسم الثاني من دراستنا هذه إلى تقصي تاريخ إسرائيل ويهوذا من خلال تشابك هذا التاريخ محليًّا مع تاريخ دمشق، ودوليًّا مع النظام العالمي الآشوري. وسيكون اعتمادنا بالدرجة الأولى على النصوص التاريخية الآشورية ثم الآرامية، وبالدرجة الثانية على أخبار ملوك يهوذا والسامرة في سفرَي الملوك الأول والثاني، وذلك بعد نقدها وتمحيصها ومقارنتها بالمصادر الخارجية من أجل فرز الخيالي عن الواقعي فيها. وسنبتدئ أولًا برسم الصورة التاريخية لصعود مملكة دمشق، وتكوينها لإمبراطورية سورية غير مُعلَنة ضمن مناطق غربي الفرات تحت قرارٍ سياسي واحد، يتخذه ملك آرام المقيم في دمشق.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/2.3/
الآراميون والخلفية التاريخية العامة لصعود دمشق
لا يوجد مكان تعايشت فيه الثقافة البدوية مع الثقافة الحضرية، وتبادلتا الاعتماد على بعضهما البعض مثل منطقة الهلال الخصيب. فمنذ العصر النيوليتي كان سكان المنطقة يتبادلون الأدوار، حيث يتحول الرعاة إلى مزارعين مستقرين كلما مال المناخ نحو الرطوبة والبرودة، ويتحول المزارعون المستقرون إلى رعاةٍ كلما جفَّ المناخ وعزَّ المطر. ولعل التفسير الأقرب إلى الصواب لظاهرة الهِجران المفاجئ للقرى الزراعية النيوليتية في بعض أحقابها، وخلوِّها من السكان دون شواهد على حدوث تدميرٍ مُتعمَّد أو زلازل وحرائق في مواقعها، هو ذلك التفسير الذي يرى في تلك الظاهرة نتاجًا لتحولٍ مناخي دفع السكان إلى ترك الزراعة والتجول مع قطعانهم بحثًا عن المرعى، ثم العودة إلى مواقعهم السابقة أو الاستقرار في غيرها مع عودة الشروط الملائمة للزراعة مجددًا. وقد بقي القوم على هذا الحال، حتى بعد ظهور المدن وارتقاء الحضارات الكبرى في المنطقة. ولعل أكبر مثالٍ على التحول الجمعي لثقافةٍ بأكملها، تقريبًا، من حياة القرية الزراعية وحياة المدن الكبرى إلى حياة الرعي المتنقل أو البداوة؛ هو ما حدث في مناطق بلاد الشام خلال الفترة الانتقالية من عصر البرونز المبكر إلى عصر البرونز الوسيط (أي فيما بين أواخر الألف الثالث وأوائل الألف الثاني قبل الميلاد). فخلال هذه الفترة انتهى المناخ المطري البارد الذي ساد المنطقة منذ أواسط الألف الرابع قبل الميلاد، وتبعه مناخٌ حارٌّ وجافٌّ أدى إلى انهيارٍ شامل لثقافة عصر البرونز المبكر، فانهارت المملكة القديمة في مصر وإمبراطورية أكاد في وادي الرافدين، وفي المناطق السورية هُجرت معظم القرى الزراعية، والكثير من المدن التي تقع في المناطق الحساسة للجفاف، ثم تحولت بعد فترةٍ إلى أطلال. وقد عثر المنقبون في مواقع هذه المدن المهدَّمة خلال أواخر عصر البرونز المبكر، وخصوصًا في منطقة فلسطين، على آثارٍ واضحة تشير إلى قيام حياة بدوية على أطراف المدن القديمة، فظنوا أن هؤلاء البدو هم المسئولون عن ذلك التدمير. وفي الحقيقة، فإن ما لاحظه المنقبون لم يكن سوى ظاهرةٍ عادية ومألوفة في سياق حضارة الشرق القديم، حيث تحل البداوة محل الحضارة، وتنتقل هذه إلى تلك، كوسيلةٍ عملية للتعامل مع الطبيعة في هذا الجزء من العالم. ففي نهاية عصر البرونز المبكر أخذت الجماعات الآمورية بالظهور حول المدن المهدَّمة، وحول المدن التي بقيت تتنفس بصعوبةٍ في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية. ولكن هذه الجماعات البدائية نفسها هي التي كتبت الصفحة التالية في حضارة الشرق القديم، وأعني بها حضارة البرونز الوسيط. ولقد أعاد التاريخ نفسه في الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، عندما أدت الكارثة المناخية الشاملة إلى هجراتٍ واسعة وتحولاتٍ سكانية شملت شرقي أوروبا واليونان وبحر إيجة والأناضول وأقطار شرقي المتوسط. فانطلقت شعوب البحر من مواطنها في بحر إيجة تبحث عن أرضٍ جديدة في الشرق، وحلَّت المجاعة في أرجاء المملكة الحثية جميعها، وفي مناطق سوريا وفلسطين. ويبدو أن المملكة الحثية قد انهارت من الداخل قبل وصول شعوب البحر إليها، وكذلك المدن السورية التي كانت مزدهرة خلال البرونز الأخير، مثل أوغاريت وغيرها. فمن المُرجَّح أن أوغاريت قد هدمتها الزلازل قبل وقتٍ من وصول شعوب البحر إليها، وهجرها أهلها لعدم قدرتهم الاقتصادية على إعادة البناء، وكذلك بعض المدن الكبرى الأخرى في سوريا وفلسطين. وربما تحوَّل هؤلاء السكان إلى رعاةٍ متنقلين، أو إنهم أوغلوا شرقًا بحثًا عن أماكنَ أكثر ملاءمة لاستقرارٍ جديد. وبذلك تكون شعوب البحر قد وصلت إلى مناطقَ مُقفِرة ومُهدَّمة لم تشجعها على الاستقرار، لذلك فقد تابعت هذه الجماعات التائهة — التي كانت ترتحل مع نسائها وأطفالها وأدواتها المنزلية الخفيفة — مسيرتها نحو مصر، حيث قضى الفرعون رمسيس الثالث على كل طاقتها وزخمها القتالي. ولم تمضِ بضعة عقود حتى ذابت هذه الجماعات الغريبة في الأمكنة التي توقفت عندها، وضاع أثرها. خلال هذه الفترة القاتمة أخذت القبائل الآرامية، التي كانت متواجدة منذ زمنٍ طويل في البادية السورية وعلى أطراف المناطق الزراعية في الهلال الخصيب، بالظهور على المسرح مستفيدةً من فترة الفراغ الشامل وحالة الفوضى والاضطراب، التي ميزت نهاية البرونز الأخير وبداية عصر الحديد. وعندما أخذت موجة الجفاف بالانحسار مع التقدم في عصر الحديد الأول (١٢٠٠–١٠٠٠ق.م.) كانت هذه القبائل قد استقرت في الأرض، وأخذت ببناء القرى الزراعية فالمدنِ الكبرى فالممالكِ. وقد ساعدها على ذلك غياب القوى العظمى التقليدية من حولها، والوضع الداخلي المتضعضع لمناطق الجزيرة العليا وغربي الفرات، وانعدام السلطة المركزية فيها. ومع مطلع القرن العاشر قبل الميلاد كان الآراميون قد شكلوا دويلات قوية على طول حوض الخابور وحوض الفرات الأوسط والأعلى، وفي الشمال السوري فيما بين الفرات والبحر المتوسط، وكذلك فيما بين حلب شمالًا ودمشق في الجنوب السوري. وفي مقابل الضغط الآشوري العسكري على بلاد آرام منذ مطلع القرن العاشر قبل الميلاد، كان الآراميون يمارسون ضغطًا سلميًّا ومعاكسًا على منطقة وادي الرافدين، وخصوصًا باتجاه بابل، حتى استطاع الفرع الكلداني من المجموعة الآرامية السيطرة تمامًا على جنوب بلاد الرافدين بعد فترةٍ من التسرب التدريجي، وأسَّس المملكة البابلية الجديدة في أواخر القرن السابع قبل الميلاد، التي كان نبوخذ نصَّر ثالث ملوكها. أما فيما يتعلق بآراميي وسط وجنوب سوريا، فإن المعلومات على بدايات تواجدهم في هذه المنطقة قليلةٌ جدًّا ومبعثرة. فمن المؤكد أن كلًّا من حماة ودمشق قد وقعتا تحت السيطرة الآرامية منذ أواخر القرن الحادي عشر قبل الميلاد، إلا أن المعلومات التفصيلية تنقصنا عن بدايات التواجد الآرامي في هاتين المدينتين، وعن الأُسر الحاكمة الأولى فيها. والمعلومات التوراتية، التي وردت عنهما ضمن أخبار داود وسليمان، ليست مما يمكن الاعتماد عليه. وبخصوص الممالك الآرامية التي يذكرها سفر صموئيل الثاني، وهي آرام معكة، التي وضعها المؤرخون في سفوح جبل الحرمون مع امتداداتٍ تصل إلى بحيرة الحولة، وطوب التي وضعوها في شرقي الأردن شمالًا إلى الجنوب من جيشور، وآرام صوبة التي صنعوا منها قوةً كبرى في الشرق الأدنى ووضعوها في البقاع الشمالي مع امتدادتٍ تصل شرقًا إلى البادية وأطراف الفرات، فهذه جميعًا ممالك يحوم الشك حول وجودها أصلًا. وإنني أطرح هنا، وبكل ثقةٍ علمية، رأيًا مفاده أن هذه الممالك لم تَقُم أصلًا لا في القرن العاشر قبل الميلاد ولا في أية فترةٍ لاحقة من تاريخ المنطقة. فمملكة داود، التي دخلت في حروبٍ مع هذه الممالك، لم تكن قائمةً في القرن العاشر قبل الميلاد، كما أثبتنا سابقًا بالأدلة العلمية، والوثائق الكتابية لممالك الشرق الأدنى القديم لم تحفل بذكر واحدةٍ من هذه الممالك لا في القرن العاشر ولا بعده، والتنقيبات الأثرية في المواقع المفترضة جميعها لهذه الممالك لم تخرج بشاهدٍ أثري واحد يدل على وجودها. فأي شيءٍ يبقى بعد ذلك يدعونا إلى الاستمرار في الحديث عن «هذه الممالك المهمة والقوية»؟ لقد أراد محررو التوراة ابتكار خصوم وهميين لمملكةٍ وهميَّة وملكٍ وهمي، ونظرًا لجهلهم الكامل بتاريخ تلك الحقبة التي يتحدثون عنها وبخارطتها السياسية، وهو جهلٌ استطعنا إثباته عبر نقدنا النصي والتاريخي سابقًا، فقد التقط هؤلاء المحررون أخبارًا متواترة عن مَشْيخاتٍ آرامية قريبة إليهم زمنيًّا، وجعلوا منها شعوبًا وممالك قوية. أما هدد عزر ملك صوبة الأسطوري، الذي امتدت سلطته من البقاع غربًا إلى نهر الفرات، وَفق ما يراه المؤرخون التقليديون، فلا أدري لماذا لم يتساءل هؤلاء المؤرخون عن سبب صمت النصوص الآشورية في القرن العاشر قبل الميلاد عن ذكره، وهي التي لم تترك مملكةً ذات شأن في بلاد الشام إلا وذكرتها. والحقيقة كما أراها بخصوص هذا الملك أنه لم يكن سوى هدد عدر ملك دمشق الذي حكم في أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، وواجه الآشوريين في عددٍ من المواقع الحربية المهمة وردَّهم عن مناطق غربي الفرات، وكانت أهم معاركه معركة قرقرة المشهورة على نهر العاصي. ونظرًا لغموض وتضارب الأخبار التي توفرت لمحرري التوراة عن أحداث القرن التاسع، فقد جعلوا هدد عدر هذا ملكًا على صوبة في القرن العاشر قبل الميلاد تحت اسم هدد عزر، وأحلُّوا محلَّه على عرش دمشق في أواسط القرن التاسع قبل الميلاد ملكًا اسمه بنهدد لم يكن موجودًا في ذلك الوقت. ولسوف أتطرق بالتفصيل إلى هذه المسألة في موضعها لاحقًا. كانت دمشق بين المناطق الرائدة لثقافة العصر الحجري الحديث (النيوليتي) في المشرق العربي القديم. ورغم أننا لا نملك الأدلة من موقع المدينة ذاتها على تواجد إنسان العصر الحجري، إلا أن انتشار المواقع النيوليتية حول المدينة، مثل موقع تل أسود وموقع تل الرماد، يدل على أن المنطقة كانت مسكونة منذ مطلع الألف السابع قبل الميلاد على أقل تقدير، وأنها قد ساهمت في الثورة الثقافية الأولى في تاريخ البشرية، والتي يدعوها الأركيولوجيون بثورة العصر الحجري الحديث (أو الثورة النيوليتية). وبما أن مدينة دمشق العصر الإسلامي داخل السور ما زالت مسكونةً حتى الآن، وتجثم فوق الطبقات الأركيولوجية السابقة، فإن قصور الأدلة الأثرية من موقع المدينة ذاته عن تلبية حاجة المؤرخ لا يقتصر على العصر الحجري، بل يتعداه إلى العصور التاريخية اللاحقة جميعها، وذلك نظرًا إلى صعوبة التنقيب في المناطق المأهولة، إن لم يكن استحالته من حيث المبدأ. استمر حكم رمسيس الثاني حتى العقود الأخيرة من القرن الثالث عشر. وفي عهد ابنه مرنفتاح لم يحصل تغييرٌ يُذكر في موازين القوى الدولية. فقد كان مرنفتاح مشغولًا بالتصدي لليبيين الذين هاجموا الدلتا بمعونة شعوب البحر. وبعد ذلك ظهرت في الأفق جحافل الفريق الآخر من شعوب البحر، الذي هبط من آسيا الصغرى متخذًا طريقه نحو مصر، فتصدى له رمسيس الثالث وشتته. ومع هذه الأحداث الجسام، التي ختمت ثقافة عصر البرونز الأخير وافتتحت عصر الحديد، تغيب أخبار أوبي ودمشق لعدة قرونٍ تالية. وعندما يظهر ذِكرُ دمشق مجددًا نراها مدينةً آرامية قوية. وخلاصة القول بشأن مدينة دمشق في العصور السابقة للعهد الآرامي أن المعلومات التاريخية حولها قليلةٌ ومبعثرة، ومصدرها الرئيسي سجلات القوى العظمى، التي تضاربت مصالحها في منطقة بلاد الشام وتصادمت مع بعضها لفترةٍ طويلة. وبما أن ذِكر إقليم أوبي لا يرد في هذه السجلات إلا في سياق أحداث الصراع على مناطق النفوذ، فإن منطق الأمور يشير إلى قلة شأن هذا الإقليم خلال عصر البرونز، وكونه مجرد منطقة تنافُسٍ وتطاحُنٍ لا يُعتد بقوتها الذاتية أو بتكوينها المدني والسياسي، وفيما يتعلق بمدينة دمشق بشكلٍ خاص، فإن الأخبار المتفرقة عنها لا ترسم صورةً عن أوضاعها الداخلية، وبنيتها السياسية. فهي تظهر تارةً كإمارة أو حتى مشيخة بدون كيان سياسي واضحٍ عندما يأتيها المفوَّض المصري بيرياوازا ويقيم فيها دون ذِكرٍ لحاكمها أو ملكها، وتارةً تخبرنا النصوص عن ملوكٍ يحكمونها، وتُعْلِمنا عن ملكين منهم، هما أريوانا الذي قبض عليه الملك الحثي، وزلايا الذي خاطبه الفرعون في رسالته بخصوص ترحيل العابيرو إلى مصر. من هنا، يمكن القول بأن دمشق في عصر البرونز لم تكن سوى بلدةٍ صغيرة تعيش على هامش الأحداث. غير أن هذه البلدة قد قُيِّض لها بعد ثلاثة قرونٍ من عصر العمارنة أن تغدو القوة الرئيسية الثانية بعد آشور في مناطق غربي الفرات تحت حكم ملوك آرام. وهذا ما سنتابع قصته في الفصل التالي.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/2.4/
إمبراطورية دمشق والعلاقات الآرامية الفلسطينية
بعد الخبر التوراتي عن وفاة الملك سليمان، تنتهي الفترة ما قبل التاريخية في الرواية التوراتية، ويدخل الحدث التوراتي فيما يشبه التاريخ. ولكي يلتقط القارئ خيط الأحداث الذي تركناه في القسم الأول من هذا الكتاب، نعود للتذكير بسرعة بالأخبار التي أوردها النص التوراتي في القسم الثاني من سفر الملوك الأول، وذلك بين وفاة الملك سليمان وأول شخصية إسرائيلية موثقة تاريخيًّا، وهي شخصية الملك عُمري مؤسس مملكة إسرائيل، وباني مدينة السامرة، وابنه آخاب من بعده. فلقد مَلَك يربعام على إسرائيل وتبعته القبائل الإسرائيلية جميعها، أما رحبعام ابن الملك سليمان فقد مَلَك على يهوذا ولم يتبعه سوى سبط بنيامين، إضافةً إلى يهوذا نفسها، ثم دخلت المملكتان في صراعٍ دائم. ولكي يكرِّس ملك إسرائيل استقلاله التام عن أورشليم كان لا بد من تكريس الاستقلال الديني، فبنى للإسرائيليين معبدين؛ واحدًا في دان، والآخر في بيت إيل، أي في شمال منطقة إسرائيل وجنوبها، ووضع في كل منهما صورةً للعجل الذهبي رمز آلهة كنعان. وهذه أسماء ملوك إسرائيل ويهوذا وسنوات حكمهم، وذلك بين وفاة سليمان وقيام أسرة عُمري التاريخية، إذا أخذنا العام ٩٣١ق.م. تاريخًا لوفاة سليمان، وأخذنا بعين الاعتبار فترات التداخل بين حكم الأب وابنه، حيث جرت العادة في الرواية التوراتية أن يتنازل الملك الأب عن قسمٍ كبير لخليفته على العرش في زمن شيخوخته. في عهد آسا حفيد رحبعام، الذي مَلَك على يهوذا بعد أبيه أبيا (أبيام) بن رحبعام، توفي يربعام الملك الأول لإسرائيل في الرواية التوراتية، ومَلَك محله ابنه ناداب الذي قُتل بعد سنتين فقط من حكمه، إثر انقلابٍ داخلي قاده بُعشا، الذي أنهى أسرة يربعام ونصب نفسه ملكًا. ودخل بُعشا ملك إسرائيل مع آسا ملك يهوذا في حربٍ طويلة أنهكت الطرفين. وعندما شعر آسا بالضعف أمام إسرائيل استنجد بملك دمشق، الذي يدعوه النص التوراتي هنا «بنهدد بن طبريمون بن حزيون». وهذا هو ثاني ملكٍ على دمشق يرد ذكره في التوراة بعد رزون بن ألِيداع من عهد سليمان، الذي استقل عن سيده هدد عزر ملك صوبة، وجاء دمشق فمَلَك فيها. ويبدو من نص رسالة آسا ملك يهوذا إلى بنهدد بن طبريمون ملك دمشق أن دمشق كانت قد أعطت الأمان لكلا الدولتين بعدم الاعتداء عليهما. نقرأ في سفر الملوك الأول (١٥: ١٨–١٩): «وأخذ آسا الفضة والذهب الباقية في خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك جميعها، ودفعها ليد عبيده وأرسلهم إلى بنهدد بن طبريمون بن حزيون، ملك آرام الساكن في دمشق قائلًا: إن بيني وبينك، وبين أبي وأبيك عهدًا. هو ذا قد أرسلت لك هديةً من فضةٍ وذهب، فتعالَ انقض عهدك مع بُعشا، فيصعد عني …» وقد نقض ملك دمشق عهده مع إسرائيل على ما يرويه سفر الملوك الأول، وهاجم أراضي الملك بُعشا، وضرب المدن والقرى الواقعة في المناطق الشمالية من إسرائيل جميعها، ثم قفل راجعًا إلى بلاده. لقد أوضحنا في الفصول السابقة أن مملكة إسرائيل (السامرة) لم تظهر إلى الوجود إلا في سياق النصف الأول من القرن التاسع قبل الميلاد، بينما لم تتشكل مملكة يهوذا تحت قيادة أورشليم إلا في سياق النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد. من هنا، فإن الأحداث التي يرويها النصان نفسهما من سفر الملوك ١١ و١٥ لا تعدو أن تكون أخبارًا غامضة متواترة عن حملاتٍ تأديبية كان يقوم من خلالها ملوك دمشق بتأديب بعض الجماعات الرعوية أو المستقرة، أو بعض أمراء أورشليم الصغار ممن كانوا يهددون أمن القوافل التجارية. أما عن أسماء ملوك دمشق الواردة في النصين المذكورين فلا يمكن الجزم بشأنها، رغم بقاء الاحتمالات مفتوحة على صحة الأخبار المتواترة بشأنها. فمما لا شك فيه أن الآراميين قد وطَّدوا سلطانهم في دمشق في سياق القرن العاشر قبل الميلاد، وأنهم قد أسسوا سلالتهم الملكية الأولى فيها في وقتٍ ما من النصف الثاني للقرن العاشر قبل الميلاد. ولكن المعلومات الموثقة تنقصنا من أجل توكيد أو نفي الرواية التوراتية المتعلقة بأسماء هؤلاء الملوك. لقد توافق صعود مملكة دمشق في القرن العاشر مع الأوضاع الاقتصادية المؤاتية التي سادت المنطقة بعد انحسار موجة الجفاف في مناطق شرقي المتوسط، فقد انتعشت الزراعة، وتوسعت من جديد الزراعات المتوسطية التقليدية، وزاد إنتاج سلع التبادل النقدي على حساب زراعة الكفاف والاكتفاء الذاتي، فنشطت التجارة، وعادت الحياة إلى الطرق التجارية المحلية والدولية، وازدهرت المحطات التجارية التي كانت مهجورةً لأكثر من ثلاثة قرون على طول هذه الطرق. وقد ترافق هذا الانتعاش الشامل في بلاد الشام مع ضعف مصر السياسي وانكفائها داخل حدودها التقليدية، الأمر الذي سمح للدويلات السورية بحُرية الحركة، وقامت الممالك الآرامية في كل مكانٍ تقريبًا كمعادلٍ وندٍّ للقوة الآشورية المتعاظمة. ورغم أن آشور كانت تضغط باستمرار على الممالك الآرامية في حوض الخابور والفرات، إلا أن حملاتها العسكرية خلال القرن العاشر ومطلع القرن التاسع قبل الميلاد كانت ذات طابعٍ استعراضي، وتهدف إلى المكاسب الآنيَّة وتحصيل الأتاوَى، من دون اللجوء إلى ضم الأراضي والحكم المباشر، وهذا ما أعطى الممالك الآرامية مزيدًا من الوقت لمتابعة بناء نفسها. أما في وسط وجنوب سوريا فقد تأخر الضغط الآشوري على هذه المناطق مدة قرنٍ ونصف عنه في المناطق الشرقية والشمالية، وهذا ما ساعد، بشكلٍ خاص، مملكة دمشق على بناء قوةٍ عسكرية واقتصادية كبيرة. لقد تحكَّمت دمشق بطريقين تجاريين دوليين على جانبٍ كبير من الأهمية الحيوية؛ الطريق الأول هو الطريق الساحلي المعروف تاريخيًّا بطريق البحر، ويصعد من مصر فغزة على طول الساحل الفلسطيني، ثم ينعطف نحو الداخل عبر وادي يزرعيل. والثاني هو الطريق الصحراوي الصاعد من جزيرة العرب التي كانت تتاجر مع أفريقيا والهند، إلى شرقي الأردن فدمشق، والمعروف تاريخيًّا بطريق الملوك. وهناك طريقٌ ثالث أقل أهمية يصعد من النقب إلى حبرون فأورشليم، ثم يقطع إسرائيل وصولًا إلى دمشق. ومن دمشق، التي كانت تلتقي عندها القوافل المتعددة المصدر، كان يصعد طريقان دوليان للتجارة؛ واحدةٌ باتجاه وادي الرافدين عبر تدمر والبادية السورية، والثاني باتجاه الأناضول عبر حماة فحلب. من هنا، فقد عملت دمشق بدأب على بسط نفوذها على الدويلات والإمارات الصغيرة التي تمر بها خطوط التجارة هذه. ولكنها لم تمارس على ما يبدو سياسة الحكم المباشر للأراضي الواقعة خارج منطقتها التقليدية التي لم تكن واسعة جدًّا، بل اكتفت بعلاقات تعاونٍ وحسن جوار وأحلافٍ عسكرية كانت تلتئم حول دمشق كلما دعت الحاجة، وتنحلُّ فور انتهاء حاجة إليها، وذلك من خلال نظامٍ إقليمي فرضته على ممالك غربي الفرات جميعها. ولم تكن تتردد في تأديب أية مملكةٍ تخرج على القرار السياسي الدمشقي، كما سنوضح ذلك بالتفصيل بعد قليل. أما عن الحدود التقليدية لمملكة دمشق، فيبدو أنها كانت متطابقة مع حدود إقليم أوبي في عصر البرونز الأخير؛ فإلى الشمال جاورتها مملكة حماة التي ارتبطت معها بعلاقاتٍ متينة، وإلى الجنوب توقف تخمها عند الحدود السفلى للجولان، وإلى الغرب يُرجَّح أنها قد حكمت البقاع بشكلٍ مباشر. وفيما عدا ذلك، كانت تبسط سيطرةً غير مباشرة على الممالك الصغيرة الناشئة حديثًا في شرقي الأردن، مثل عمون وموآب وآدوم، وفي فلسطين كانت تبسط سيطرةً غير مباشرة أيضًا على إسرائيل التي كانت في طور التشكُّل وعلى إمارة أورشليم. وإضافةً إلى ذلك، فإن دمشق كانت تكسب أيضًا ولاء القبائل العربية المتجولة في شمال الجزيرة العربية والبادية السورية، وكانت هذه القبائل تقدم العون الحربي لأحلاف دمشق العسكرية الموجهة ضد آشور. وفيما يتعلق بإسرائيل، فقد قادت هذه الأوضاع الاقتصادية الجديدة إلى تسريع إيقاع الاستيطان فيها، فزاد عدد السكان، وزاد إنتاج محاصيل وصناعات التبادل النقدي، فصارت الزيوت واللحوم والخمور والأخشاب تُدفع للمتاجرة بها مع فينيقيا ودمشق والبقاع على طرق التجارة التي استأنفت نشاطها. كما لجأ السكان هنا إلى استصلاح المنحدرات الهضبية وتجهيز المصاطب من أجل البستنة وزراعة الأشجار المثمرة. وأما عن مصادر سكان إسرائيل الجدد، فقد ورد إلى الهضاب المركزية، كما أوضحنا سابقًا، عددٌ من الجماعات المختلفة المنشأ؛ فمنهم فريقٌ من السكان المُقتلَعين سابقًا من المناطق الزراعية السهلية، وفريقٌ من الرعاة المحليين، وفريقٌ من الرعاة القادمين من السهوب المجاورة للهضاب المركزية إلى الشرق والجنوب، إضافةً إلى الشريحة الضئيلة الباقية في الهضاب منذ عصر البرونز الأخير. ولا شك أيضًا في أن الهضاب قد استوعبت بعض الجماعات المتبقية من شعوب البحر التي ذابت في محيطها السوري الجنوبي. وقد أخذ هؤلاء المستوطنون بالتقارب والتلاحم وتكوين إثنيةٍ خاصةٍ بهم، توضَّحت مع بدايات القرن التاسع قبل الميلاد. وفي هذا السياق تم بناء مدينة السامرة كعاصمةٍ لإقليمٍ يتجه نحو المركزية سعيًا وراء تنظيم شئونه السياسية والاقتصادية التي دخلت طور النضج. ذلك أن البُنى السياسية والاقتصادية البدائية السائدة لم تعد صالحةً للتصرف بالأوضاع الجديدة، وتصريف المنتجات المحلية صار بحاجةٍ إلى إدارةٍ مركزية قادرة على ربط شبكة التجارة المحلية المتواضعة بشبكة التجارة الدولية. وهكذا، ومع بناء مدينة السامرة وقيام الأسرة الملكية الأولى فيها، دخلت إسرائيل لأول مرة عالم السياسة الدولية، ووجدت نفسها وجهًا لوجه أمام مدينة صور الفينيقية؛ بوابة التجارة البحرية، وأمام مملكة دمشق الآرامية؛ بوابة التجارة البرية نحو العالم المتحضِّر في ذلك الوقت. يروي سفر الملوك الأول أن الملك عُمري قد حكم أولًا في بلدة ترصة، التي كانت عاصمته لمدة ست سنوات، ثم بنى عاصمةً جديدة له أسماها السامرة وانتقل إليها: «في السنة الحادية والثلاثين لآسا ملك يهوذا، مَلَك عُمري على إسرائيل اثنتي عشرة سنة. مَلَك في ترصة ست سنين، واشترى جبل السامرة من شامر بوَزْنَتَين من الفضة وبنى على الجبل، ودعا اسم المدينة التي بناها باسم شامر صاحب جبل السامرة» (الملوك الأول، ٢٣: ١٦–٢٤). وفي الحقيقة، فإن معلوماتنا التاريخية والأركيولوجية تؤيد واقعة بناء السامرة على يد الملك عُمري، كما تؤيد قيام مملكة السامرة مع مطلع القرن التاسع قبل الميلاد. إن أسرة عُمري ذات أساسٍ تاريخي لا لَبْس فيه، إلا أننا لا نملك أي أساسٍ تاريخي لعقد الصلة بين هذه الأسرة الملكية الأولى في إسرائيل وأولئك الملوك المفترضين للمملكة الموحدة، أو التحدث عن إسرائيل التاريخية هذه كفرعٍ من تلك المملكة التي أثبتنا بالدليل القاطع عدم قيامها. ومن ناحيةٍ أخرى، فإن الانتماء الثقافي السامري إلى فينيقيا يبدو واضحًا من قصة زواج الملك آخاب بن عُمري من ابنة الملك الفينيقي أثبعل ملك الصيدونيين، على ما يرويه سفر الملوك الأول (١٦: ٢٩–٣١): «ومَلَك آخاب بن عُمري على إسرائيل في السامرة اثنتين وعشرين سنة. وعمل آخاب بن عُمري الشر في عينَي الرب أكثر من الذين قبله جميعهم … حتى اتخذ إيزابيل ابنة أثبعل ملك الصيدونيين امرأةً، وسار وعبدَ البعل وسجد له. وأقام مذبحًا للبعل في بيت البعل الذي بناه في السامرة.» ولدينا قصة مشهورة في الأدب التوراتي عن النبي إيليا وما جرى بينه وبين أنبياء البعل الذين كانوا ينشطون تحت رعاية الملكة إيزابيل زوجة آخاب. فقد كان إيليا يدعو وحده لعبادة يهوه في إسرائيل، بينما بلغ عدد أنبياء البعل ٤٥٠ نبيًّا، وأنبياء عشيرة ٤٠٠ نبي، وهؤلاء جميعًا كانوا يأكلون ويشربون على مائدة الملكة. ولكي يثبت إيليا تفوق يهوه على بعل، دعا جميع أنبياء البعل إلى مجابهةٍ علنية أمام الشعب ليُظهر لهم من هو الإله الحق. فاجتمع الفريقان على قمة جبل الكرمل، وكان على كل فريقٍ أن يُقرِّب ثورًا فوق الحطب ثم يدعو إلهه دون أن يشعل نارًا، فالإله الحق هو الذي يجيب بناره التي تشعل الحطب ويأخذ القربان إليه. دعا أنبياء البعل أولًا إلههم ورقصوا وأنشدوا من الصباح إلى الظهر، ولكن إلههم لم يجبهم بشيء. وعندما جاء دور إيليا تقدم من قربانه ودعا ربه، فسقطت من السماء على الفور نارٌ أكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب من حولها. «فلما رأى الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا: الرب هو الله، الرب هو الله. فقال لهم إيليا: أمسكوا أنبياء البعل ولا يفلت منهم رجل، فأمسكوهم فنزل بهم إيليا إلى نهر قيشون وذبحهم هناك» (الملوك الأول، ١٨: ١٩–٤٠). تختلف رواية الملوك الثاني عن رواية ميشع بعددٍ من النقاط. ففي الرواية التوراتية تُفرض الجزية على موآب في عهد آخاب لا في عهد عُمري، ويعصي ميشع على إسرائيل في عهد يهورام بن آخاب لا في عهد آخاب، ويقوم ملك إسرائيل بمهاجمة ميشع بالتعاون مع ملك يهوذا وملك آدوم لا منفردًا، ويرتد المهاجمون الثلاثة عن مدينة ميشع بدافعٍ من حسِّهم الإنساني الراقي (كذا) لا بسبب هزيمتهم على يد ميشع. ونلاحظ بشكلٍ خاص عدم ذكر نقش ميشع لمملكة يهوذا، وهذا أمرٌ يتفق مع ما قدمناه سابقًا من عدم وجود مملكةٍ اسمها يهوذا خلال القرن التاسع قبل الميلاد. وفي هذه الاختلافات الشاسعة بين النصين وثيقةٌ فريدة عن كيفية تصرف المحرر التوراتي بالخبر التاريخي، وتوجيهه وَفق المنظور الأيديولوجي الموضوع مسبقًا. إن ما نستنتجه من نص ميشع — وهو نصٌّ تاريخيٌّ لا غبار عليه، دُوِّن زمن الحادثة التي يخبرنا عنها — أن الملك عُمري بعد بنائه للسامرة كان مهتمًّا بالسيطرة على الطرق التجارية الدولية لتأمين اتصاله بالعالم الخارجي. لقد أمَّنت له المصاهرةُ مع أقوى ملوك فينيقيا، وزواجُ ابنه آخاب من ابنة ملك الصيدونيين؛ الوصولَ إلى الساحل السوري، وكان في الوقت نفسه مسيرطًا على شبكة التجارة المحلية، بما فيها الطريق الصاعد من النقب عبر أورشليم. وبقي أمامه طريق الملوك الدولي الذي يعبر شرقي الأردن باتجاه دمشق. وبما أنَّ المشيخات القبلية في شرقي الأردن قد أخذت بالتحوِّل إلى ممالكَ صغيرةٍ وقوية يُعتد بها، فإن إرضاءها الآن صار يتطلب أكثر من دفع القليل لها أو التلويح بالعصا الغليظة، من هنا كان لا بد من التواجد العسكري الدائم في تلك المناطق من أجل حماية طرق القوافل. وبما أن الملك عُمري، وابنه آخاب من بعده، كان تابعًا اسميًّا لملك دمشق ويدخل معه في معاهدة دفاع مشترك، كما سنرى بعد قليل، فإن من المرجَّح أن تكون دمشق هي التي أطلقت يد أسرة عُمري في شرقي الأردن من أجل الحفاظ على المصالح الحيوية للطرفين، ولتخفيف الأعباء عن دمشق، التي كانت تستعد في ذلك الوقت للمواجهة العسكرية الكبرى مع آشور. وكان على عرش دمشق في ذلك الوقت، أي أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، ملكٌ كبير، وشخصيةٌ عسكرية وسياسية فذة، اسمه هدد عدر، وهو أول ملكٍ آرامي دمشقي موثَّق تاريخيًّا. وَلِي هدد عدر عرش دمشق خلال الفترة التي ابتدأ فيها المد العسكري الآشوري المنظم والمتواصل على مناطق غربي الفرات، بعد أن تم إخضاع أو الحصول على ولاء الدويلات الآرامية على الفرات والخابور. وقد افتتح الملك الآشوري شلمنصَّر الثالث (٨٥٨–٨٢٤ق.م.) هذا العهد الجديد من الصراع الآشوري الآرامي، والذي دام نحو قرنين من الزمان، بحملته المعروفة باسم حملة قرقرة. فتصدى له هدد عدر ملك دمشق، وجمع تحت لوائه اثني عشر ملكًا من ملوك الدويلات السورية اتحدت في جيشٍ واحد، وسار للقاء شلمنصَّر الثالث عند قرقرة على نهر العاصي إلى الشمال من مدينة حماة عام ٨٥٤ق.م. ولدينا نصٌّ طويل ومفصَّل تركه شلمنصَّر الثالث معروفٌ باسم نص المسلة السوداء، يصف الحملة ونتائجها من وجهة النظر الآشورية، وهذه ترجمته: «… غادرت نينوى، فعبرت نهر دجلة، وتقدمت إلى مدن الملك غيامو على نهر بليخ، فتملكهم الخوف من هيبتي ومن أسلحتي الفتاكة، فقتلوا سيدهم غيامو بأسلحتهم (يلي ذلك تعدادٌ لأصناف الإتاوة التي أخذها من المدن المغلوبة). من سحلالا توجهت إلى كار شلمنصَّر (= برسيب) وعبرت الفرات في ذروة فيضانه على أطوافٍ من جلد الماعز. وفي المدينة التي يدعونها أهل حطيئة بترو، على الجهة الأخرى للفرات عند نهر الساجور، تلقيت الجزية من ملوك الجهة الأخرى للفرات؛ من سنغارا ملك كركميش، ومن كوندا شبي ملك كوماجين، ومن آرام ملك جوشي (تعداد لأصناف الأتاوَى النقدية والعينية المدفوعة). ثم غادرت الفرات نحو حلب التي خاف أهلها وخروا عند قدمي. فتلقيت منهم فضةً وذهبًا جزيةً، وقدمت قربانًا إلى هدد إله حلب. من حلب توجهت إلى مدن إرخوليني ملك حماة، فتحت مدينة أدينو وبرغا، ومقره الملكي في أرغانا، وأضرمت النار في قصره. غادرت أرغانا وأتيت إلى قرقرة فدمرتها وأحرقتها. نلاحظ من دراسة التنظيم القتالي للحلفاء أن مملكة دمشق قد قدمت القوة الضاربة الرئيسية، تليها مملكة السامرة فمملكة حماة. ويبدو أن توزيع القوات المقدمة من قبل الحلفاء كان مدروسًا ومخططًا بعنايةٍ، وبما يتلاءم والإمكاناتِ المادية لكل دولة. فبينما تفوَّق هدد عدر على آخاب بالعدد الهائل من الفرسان والمشاة الذين قدمهم، فإن آخاب قد تفوَّق على الجميع بعدد المركبات العسكرية التي بلغت الألفي مركبة. كما يمكن أن نلاحظ من الخارطة، التي رسمتها للمعركة على الصفحة التالية، أن الدويلات الحليفة لدمشق تتوضع على خط التجارة الدولي الصاعد من الجزيرة العربية عبر شرقي الأردن نحو الأناضول. وأن بعضها، مثل أرواد وعرقاتا وسيانو (في منطقة جبلة) كانت تتحكم بالتجارة البحرية ومسالكها البرية نحو الداخل. وأغلب الظن أن ميناء أرواد كان الثغر الرئيسي الذي تعتمد عليه دمشق في تجارتها البحرية، نظرًا لاستقلال بقية المدن الفينيقية على الساحل اللبناني في سياستها الخارجية، وعدم تنسيقها مع مملكة دمشق. ويبدو هذا الاستقلال واضحًا في عدم مشاركة هذه المدن في معركة قرقرة، أو في المعارك التالية التي خاضها الحلف الدمشقي ضد آشور، ولا حتى بطريقةٍ رمزية كما فعل ملك أرواد، الذي واكب الحلفاء شخصيًّا ولكن بمائتي جنديٍّ فقط. أما عن نتيجة معركة قرقرة، فرغم ادِّعاء الملك الآشوري الانتصار التام على الحلفاء، إلا أن مسار الأحداث اللاحق، الذي سنتابعه بعد قليل، يُظهر أن المعركة انتهت إلى إحدى نتيجتين؛ فإما تراجُع أحد الفريقين دون التوصل إلى حسمٍ كامل، وإما هزيمة الآشوريين وعودتهم إلى بلادهم من أجل التحضير لحملةٍ جديدة. ذلك أن جميع ملوك التحالف الدمشقي قد عادوا إلى عواصمهم، وكان على شلمنصَّر الثالث أن يعود لمواجهة التحالف نفسه في حملاته المؤرخة في أعوام ٨٤٩ و٨٤٨ و٨٤٦ و٨٤٥ق.م. إضافةً إلى أن نص المسلَّة السوداء لم يذكر شيئًا عن قتل أو أسر أي ملكٍ من ملوك التحالف، ولم ينتهِ بالصيغة المعروفة في السجلات الحربية الآشورية، التي تقول: «وجعلتهم يركعون تحت قدمي ويقدمون لي الجزية.» ولقد كان على آشور أن تنفق قرنًا آخر ونيفًا قبل أن تكون قادرةً على تحصيل الجزية من ملوك التحالف واحدًا إثر آخر. رغم السلطة الواسعة التي تمتعت بها مملكة دمشق على مناطق غربي الفرات منذ أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، ورغم بنائها لقوةٍ عسكرية جبارة وقيادتها للتحالف في كل معركة مع آشور، وتقديمها القسم الأكبر من القوات والمعدات اللازمة للمعركة، إلا أن دمشق لم تُشكِّل إمبراطورية سورية بالمفهوم الرافدي أو المصري، ولم تكن راغبةً في تشكيل مثل هذه الإمبراطورية. إن ما صنعته دمشق كان إمبراطوريةً اسميَّة غير معلنة، أو فلنقل نظامًا إقليميًّا سياسيًّا خاصًّا، يتفق مع المفهوم السوري للسلطة والحكم، ومع نظام دولة المدينة الذي كان سائدًا في بلاد الشام منذ عصورها المُغرِقة في القِدم، والذي لم يتحوَّل في يومٍ من الأيام إلى إمبراطورية كبرى. فلقد رأى السوريون في دولة المدينة النظام السياسي الأمثل، الذي يُطلق الإمكانات المبدعة للأفراد والجماعات، ويحافظ على مشاركةٍ أكثر فعاليةً بين السلطة والشعب، بالغًا ما بلغ من استئثار بعض الملوك بالسلطان وانفرادهم باتخاذ القرار، لأن السلطة في دولة المدينة تبقى قريبةً من الناس، قادرةً على التفاعل المباشر معهم، بعكس السلطة الإمبراطورية التي تفصلها عن الناس أسوار العاصمة وأسوار القصور الملكية وأسوار الهرمية البيروقراطية. ولقد قلَّد الأغارقةُ السوريين في نظامهم السياسي الذي اقتبسوه عن فينيقيا، وحافظوا على نظام دولة المدينة وتعبدوا له، فأعطَوْا من خلاله كل إنجازاتهم الثقافية. قبل أن نغادر عصر هدد عدر، الذي أسس لنظامٍ إقليمي سوري استمر قرابة قرنٍ من الزمان، لا بد من التوقف عند الموضع المقابل في الرواية التوراتية، والتفتيش في أخبار الملك آخاب بن عُمري عن أثر هذه الأحداث الجسام التي كانت تجري على الساحة السورية. إن الرواية التوراتية في سفر الملوك الأول بين الإصحاح ١٦ والإصحاح ٢٢، وهي الإصحاحات التي تتحدث عن حياة وأعمال الملك آخاب، تتجاهل تجاهلًا تامًّا الحروب الآشورية السورية، ولا يرد فيها ذِكر الملك شلمنصَّر الثالث أو ذكر هدد عدر ملك دمشق، وبالتالي فإنها لا تورد شيئًا عن دخول آخاب في حلف دمشق ولا عن مساهمته في معركة قرقرة. وتفاجئنا الرواية التوراتية هنا بأن ملك دمشق الذي عاصر آخاب ليس هدد عدر، بل ملكٌ آخر اسمه بنهدد، الذي يرد اسمه مجردًا دون نسب. من هنا فقد تعوَّد المؤرخون التقليديون على دعوة هذا الملك ببنهدد الثاني تمييزًا له عن بنهدد بن طبريمون بن حزيون، الذي هاجم بُعشا ملك إسرائيل بتحريضٍ من آسا ملك يهوذا، مما رأيناه في الإصحاح ١٥ من سفر الملوك الأول سابقًا وتحدثنا عنه. وفي مقابل الحروب الآشورية السورية وتحالف إسرائيل مع دمشق، فإن الرواية التوراتية تقصُّ عن حروبٍ طاحنة بين بنهدد ملك دمشق وآخاب ملك إسرائيل. نقرأ في الملوك ٢٠ ما يأتي: «وجمع بنهدد ملك آرام كل جيشه، واثنين وثلاثين ملكًا معه، وخيلًا ومركبات، وصعد وحاصر السامرة وحاربها. وأرسل رسلًا إلى آخاب ملك إسرائيل وقال: هكذا يقول بنهدد: لي فضتك وذهبك ولي نساؤك الحسان. فأجاب ملك إسرائيل وقال: حسب قولك يا سيدي الملك، أنا وجميع مالي لك. فرجع الرسل (ثانيةً إلى ملك إسرائيل) وقالوا له: هكذا تكلم بنهدد قائلًا: إني قد أرسلت إليك قائلًا إن فضتك وذهبك ونساءك وبنيك تعطيني إياهم، فإني في نحو هذا الوقت غدًا أرسل عبيدي إليك فيفتشون بيتك وبيوت عبيدك، وكل ما هو شهيٌّ في عينيك يضعونه في أيديهم ويأخذونه. فدعا ملك إسرائيل شيوخ الأرض جميعهم وقال: اعلموا وانظروا. إن هذا يطلب الشر، لأنه أرسل إليَّ يطلب نسائي وبنيَّ وفضتي وذهبي، ولم أمنعها عنه. فقال له الشيوخ كلهم والشعب كله: لا تسمع له ولا تقبل …» فاصطف الآراميون على المدينة في اليوم التالي وشددوا الحصار، وإذا بنبيٍّ يتقدم إلى ملك إسرائيل ويخبره بأن الرب سيدفع آرام إلى يده لكي يعرف أنه هو الإله الحق. فخرج ملك إسرائيل بجنوده جميعًا، وعددهم سبعة آلاف، وفاجأ ملك آرام الذي كان يشرب ويسكر في الخيام هو والملوك الاثنان والثلاثون الذين معه. ولما جاءه خبر ظهور الإسرائيليين قال باستخفافٍ واضح: «إن كانوا خرجوا للسلام فأمسكوهم أحياء، وإن كانوا قد خرجوا للقتال فأمسكوهم أحياء.» ولكن ضربة ملك إسرائيل كانت عظيمة ومفاجئة، فهرب ملك آرام ومن معه، وعاد إلى بلده (الملوك الأول، ٢٠: ١–٢١). وبعد مرور عامٍ كامل رجع ملك آرام إلى إسرائيل ومعه جيوش الملوك التابعين له، التي عيَّن عليها قوادًا من عنده لإحلال مزيدٍ من التنسيق القتالي تحت قيادة واحدة، واختار لأرض المعركة أرضًا سهلية لا هضبية، ليستطيع استخدام مركباته الحربية بكفاءةٍ أكثر، لأن هذه المركبات كانت عديمة الفائدة في المعركة الأولى التي خاضها في المناطق الهضبية حول السامرة. نقرأ في بقية الملوك الأول ٢٠ ما يأتي: «وعند تمام السنة، عدَّ بنهدد الآراميين وصعد إلى أفيق ليحارب إسرائيل. وأُحصي بنو إسرائيل وتزودوا وساروا للقائهم، فنزل بنو إسرائيل مقابلهم نظير قطيعين من المعزى، وأما الآراميون فملئوا الأرض. فتقدم رجل الله وكلم ملك إسرائيل وقال: هكذا قال الرب: من أجل أن الآراميين قالوا: إن الرب هو إله جبالٍ وليس إله أودية، أدفع هذا الجمهور العظيم ليدِك فتعلمون أني أنا الرب. فنزل هؤلاء مقابل أولئك سبعة أيام، وفي اليوم السابع اشتبكت الحرب، فضرب بنو إسرائيل من الآراميين مائة ألف راجل في يومٍ واحد، وهرب الباقون إلى أفيق إلى المدينة، وسقط السور على السبعة والعشرين ألفًا الباقين، وهرب بنهدد ودخل المدينة من مخدعٍ إلى مخدع.» ولما جدَّ أتباع ملك إسرائيل في البحث عنه أرسل أتباعه لاستعطاف ملك إسرائيل وطلب العفو منه، فأعطاه ملك إسرائيل الأمان فخرج إليه، فأصعده ملك إسرائيل إلى مركبته وأكرمه. وكان بين الملكين عهدٌ يرُدُّ بموجبه ملك دمشق المدن التي كان أبوه قد أخذها من أبي ملك إسرائيل، ويفتح أمام تجار السامرة أسواق دمشق، كما فتح الملك السابق لإسرائيل أسواق السامرة أمام تجار دمشق. وانطلق بنهدد راجعًا إلى بلده بعد قطع هذا العهد. ولكن الرب غضب على ملك إسرائيل لإطلاقه عدوه، وأرسل إليه نبيًّا قال له: «هكذا قال الرب: لأنك أفلتَّ من يدك رجلًا قد حرَّمته، تكون نفسك بدل نفسه، وشعبك بدل شعبه. فمضى ملك إسرائيل إلى بيته مكتئبًا مغمومًا، وجاء إلى السامرة» (الملوك الأول، ٢٠: ٢٦–٤٣). وأقام آرام وإسرائيل ثلاث سنينَ بدون حرب، حافظ خلالها ملك دمشق على العهد الذي قطعه لملك إسرائيل. ولكن ملك إسرائيل بعد وفاقه مع ملك يهوذا المدعو يهوشافاط، هو الذي فكر بأن ينكث بعهده مع دمشق. فبينما كان ملك يهوذا في زيارةٍ ودية لملك إسرائيل، قال الملك لعبيده: «أتعلمون أن راموت جلعاد لنا ونحن ساكتون عن أخذها من يد ملك آرام؟ وقال ليهوشافاط: أتذهب معي للحرب إلى راموت جلعاد؟ فقال يهوشافاط لملك إسرائيل: مثلي مثلك، وشعبي كشعبك، وخيلي كخيلك …» فجمع ملك إسرائيل كل الأنبياء، نحو أربعمائة رجل، واستشارهم أيذهب للقتال أم لا. ولكن الرب ضلل هؤلاء الأنبياء ووضع على أفواههم مشورةً كاذبة، فقالوا للملك أن يذهب للقتال لأن الرب سيقف إلى جانبه، وأنه سيدفع إليه براموت جلعاد: «فصعد ملك إسرائيل ويهوشافاط ملك يهوذا إلى راموت جلعاد. فقال ملك إسرائيل ليهوشافاط: إني أتنكر وأدخل الحرب، وأما أنت فالبس ثيابك. فتنكر ملك إسرائيل ودخل الحرب. وأمر ملك آرام رؤساء المركبات التي له، الاثنين والثلاثين، وقال: لا تحاربوا كبيرًا ولا صغيرًا إلا ملك إسرائيل وحده. فلما رأى رؤساء المركبات يهوشافاط قالوا: إنه ملك إسرائيل، فمالوا عليه ليقاتلوه، فصرخ يهوشافاط. فلما رأى رؤساء المركبات أنه ليس ملك إسرائيل رجعوا عنه. وإن رجلًا نزع في قوسه غير متعمدٍ وضرب ملك إسرائيل بين أوصال الدرع، فقال لمدير مركبته: أخرجني من الجيش لأني قد جُرحت. واشتد القتال في ذلك اليوم، وأوقف الملك في مركبته أمام راموت جلعاد، ومات عند المساء، وجرى دم الجرح إلى حضن المركبة. وعبرت الرنَّة في الجند (أي جماعة المنادين) عند غروب الشمس قائلًا: كل رجل إلى مدينته، وكل رجلٍ إلى أرضه، فمات الملك وأُدخل السامرة …» (الملوك الأول، ٢٢: ١–٣٧). والآن، ما هي علاقة هذه الصورة، التي تقدمها لنا الرواية التوراتية عن العلاقات بين دمشق والسامرة، بالصورة التاريخية التي قدمتها لنا النصوص الآشورية المعاصرة للأحداث؟ إضافةً إلى ما لاحظناه سابقًا من تجاهل الأحداث الجارية على الساحة السورية، خارج العلاقات الثنائية بين دمشق وإسرائيل، وعدم الإشارة إلى ملك دمشق بالاسم هدد عدر، بل بالاسم بنهدد، فإن الرواية التوراتية ترسم للملك آخاب صورةً مختلفة تمامًا عن صورته التاريخية. ففي رواية سفر الملوك الأول ٢٠ نجد آخاب ملكًا مستضعفًا قليل الحيلة والعُدة والجند والمركبات القتالية، على عكس ما رأيناه في النص الآشوري عندما قدَّم إلى حلف قرقرة ثاني قوةٍ ضاربة بعد دمشق. وهو بعد أن يعلن خضوعه لملك آرام يعود فيقوى عليه بمعونة الرب، الذي أراد أن يُظهر له ولأهل إسرائيل أنه الإله الحق، ويتغلب آخاب على بنهدد مرتين، ولكنه يخسر المعركة الثالثة ويخسر حياته أيضًا؛ لأن الرب قد غضب عليه لإطلاقه بنهدد في الوقت الذي توجب عليه فيه قتله. أما عن ملك آرام، فإنه رغم ظهوره في النص التوراتي رئيسًا لتحالف الملوك السوريين الذين يرتفع عددهم هنا إلى اثنين وثلاثين، يقف عاجزًا أمام الفئة القليلة الإسرائيلية، ولا يستطيع التغلب على ملك إسرائيل إلا بعد خذلان الرب له والتخلي عنه. فأي الصورتين هي الأقرب للحقيقة التاريخية؟ لماذا لم يظهر الجانب القوي في سيرة آخاب التوراتية، وهو الذي تُظهر لنا آثار مدينة السامرة وآثار مدنه الأخرى مدى قوته وغناه واتساع نفوذه؟ لماذا غيرت الرواية التوراتية اسم ملك دمشق، وما علاقة هدد عدر النصوص الآشورية ببنهدد النص التوراتي؟ لماذا لم تذكر الرواية التوراتية شيئًا عن حلف قرقرة ومشاركة آخاب في هذا الحلف؟ ونحن إذ نقف إلى جانب أصحاب الرأي الأخير فإننا نضيف إليه ما يلي: إن الأخبار التي ساقها المحرر التوراتي في الإصحاحين ٢٠ و٢٢ من سفر الملوك الأول، كانت تدور حول ملك مجهول الاسم لإسرائيل، وقد تم حشر اسم آخاب حشرًا في هذه الأخبار ثم نُسبت إليه. والسبب في ذلك عدم وجود أخبارٍ موثقة بين يدي المحرر عن تلك الفترة الحافلة من أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، وعن تاريخ العلاقات الآشورية السورية، والآرامية الفلسطينية، خلال عصر آخاب. ولا أدَل على ذلك من جهلهم بوجود الملك الكبير هدد عدر المعاصر لآخاب، وبحروبه الخمسة ضد آشور، وبالنظام السياسي الإقليمي الذي فرضه وشمل إسرائيل من جملة ما شمل من الدويلات الآرامية والكنعانية. ويبدو أن محرري التوراة قد وصلهم عِلْم ملكٍ كبير في المنطقة اسمه هدد عدر، ولكنهم لم يستطيعوا وضعه في الإطار التاريخي والجغرافي الصحيح، فجعلوه ملكًا على صوبة في عصر الملك داود، وصنعوا منه خصمًا لداود تحت اسم هدد عزر. وبذلك نستطيع أن نفهم الأساس التاريخي لدعوى امتداد سلطة ملك صوبة إلى الفرات، والتي تستند أساسًا إلى الأخبار اللاحقة عن سلطة هدد عدر ملك دمشق. ولما بقي عرش دمشق شاغرًا (بالنسبة إليهم) في عهد الملك آخاب، جعلوا عليه ملكًا اسمه بنهدد، واستلهموا بعض الأخبار اللاحقة عن بنهدد بن حزائيل ملك دمشق فيما بعد، وصاغوا منها قصصًا ملأت تلك الفترة المجهولة لديهم تمامًا. وهذا التحليل الذي أقدمه هنا يُخرج البحث في هذه المسألة من الحلقة المفرغة التي دار بها حتى الآن، ويضعه على أرضيةٍ منطقية لا غبار عليها. ويمكن أن نضيف إلى ما قدمناه أعلاه أن محرري التوراة، إلى جانب جهلهم بالأحداث الجارية من حول إسرائيل، وفي داخلها، في عهد آخاب، فإن اهتمامهم الرئيسي في النصف الثاني من سفر الملوك الأول الذي يتضمن أخبار أسرة عُمري كان مُنصبًّا على أخبار النبي إيليا والنبي أليشع من بعده، وتبشيرهما في مملكة السامرة والعجائب التي صنعاها. أي إن المحور الرئيسي للرواية هنا كان يدور حول فترةٍ من التاريخ الديني بالدرجة الأولى، أما الخبر التاريخي فكان ثانويًّا ويأتي في سياق أخبار هذا النبي أو ذاك كعنصرٍ مساعد في القصة الدينية التي تجري في جوٍّ ميثولوجي صِرف؛ فالنبي إيليا يعتزل عند نهر كريت حيث كانت الغربان تعوله وتأتي إليه بالطعام. وبعد أن جف النهر ذهب إلى بلدة صرفة وأقام في بيت امرأةٍ أرملة، وطيلة مدة إقامته عندها لم يفرغ من بيتها الدقيقُ والزيت حتى انتهت أيام الجفاف في الأرض، وعندما مات ابن الأرملة صلَّى إيليا فعادت الحياة إلى الصبي. وعندما أرسل الملك وراءه ضابطًا وخمسين رجلًا للقبض عليه أتت نارٌ من السماء والتهمتهم جميعًا. وعندما أراد عبور الأردن مع النبي أليشع ضرب الماء بردائه فانشق الماء ومشى النبيان على اليابسة. ثم جاءت بعد ذلك مركبةٌ ناريةٌ من السماء فحملت إيليا إلى السماء وترك رداءه خلفه لأليشع … إلخ. وفي خضم هذا الجو الميثولوجي فإن أي خبرٍ عن ملكٍ يمكن أن يُعزى لملكٍ آخر في سياق القصِّ الأسطوري الذي يجعل التاريخ آخر همٍّ من همومه. وخلاصة الأمر، فإن الملك آخاب قد توفي عام ٨٥٣ق.م. أي بعد عامٍ واحد من معركة قرقرة التي كان فيها شريكًا لدمشق، ومن غير المحتمل على الإطلاق أن تكون المملكتان قد دخلتا في حربٍ ضَروس بينهما بعد قرقرة مباشرة، ولا يوجد في الواقع أي مبررٍ لهذه الحرب، لأن حلف دمشق قد بقي قائمًا بين المتحالفين أنفسهم حتى وفاة هدد عدر بعد عشر سنواتٍ تقريبًا من معركة قرقرة. ورغم أن إسرائيل لم تُذكر في النصوص الآشورية اللاحقة كعضوٍ في الحلف، إلا أن مسار الأحداث يشير إلى أنها بقيت على السياسة المرسومة من قِبل دمشق رغم عدم مشاركتها العسكرية. وكل هذا يعني أن النص التوراتي، إضافةً إلى عدم تقديمه معلوماتٍ موثوقة عن مملكة إسرائيل في عهد آخاب، فإنه لا يقدم لنا معلوماتٍ عن مملكة دمشق أيضًا خلال أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، ويجب عدم اللجوء إليه في إعادة بناء تاريخ دمشق خلال هذه الحقبة. يعطينا النص التوراتي في سفر الملوك الثاني قصته الخاصة عن اغتصاب حزائيل للسلطة في دمشق. وبما أننا قد أثبتنا فيما سبق أن محرري التوراة لم يكن لديهم معلومات عن عصر هدد عدر ونظيره في إسرائيل الملك آخاب، فإن قصتهم عن صعود حزائيل قد استمدوها من الأخبار التي تواترت إليهم من عصر حزائيل لا من عصر هدد عدر. فلقد عرفوا بالتأكيد أن حزائيل لم يكن من الأسرة المالكة الدمشقية وأنه كان مغتصبًا للعرش، فقاموا بصياغة قصةٍ عن ذلك الحدث تغلب فيها العناصر اللاهوتية على العناصر التاريخية. فلسببٍ غير معلوم يتوجه النبي أليشع إلى دمشق، ويعرف ملك دمشق المدعو هنا بنهدد بوجود النبي، وكان مصابًا بداء عُضال، فيرسل تابعه حزائيل ليسأل النبي في أمر مرضه وهل يُشفى منه أم لا: «فذهب حزائيل لاستقبال أليشع وأخذ هديةً بيده، ومن كل خيرات دمشق حمَّل أربعين جملًا، وجاء ووقف أمامه وقال: ابنك بنهدد ملك آرام قد أرسلني إليك قائلًا: هل أُشفى من مرضي هذا؟ فقال له أليشع: اذهب وقل له شفاءً تُشفى، وقد أراني الرب أنه موتًا يموت. فجعل نظره عليه وثبته حتى خجل، فبكى رجل الله. فقال حزائيل: لماذا يبكي سيدي؟ فقال: لأني علمت ما ستفعله ببني إسرائيل من الشر؛ فإنك تطلق النار في حصونهم، وتقتل شبانهم بالسيف، وتحطم أطفالهم، وتشق حواملهم. فقال حزائيل: ومن هو عبدك الكلب حتى يفعل هذا الأمر العظيم؟ فقال أليشع: قد أراني الرب إياك ملكًا على آرام. فانطلق من عند أليشع ودخل على سيده، فقال له: ماذا قال لك أليشع؟ فقال: قال لي إنك تحيا. وفي الغد أخذ اللبدة وغمسها بالماء ونشرها على وجهه ومات. ومَلَك حزائيل عوضًا عنه …» (الملوك الثاني، ٨: ٧–١٥.) ولكن المشكلة في هذا التفسير أن الفترة التي تغطيها حروب بنهدد هذا، وَفق الرواية التوراتية، تقارب ست السنوات، أي ضعف الفترة المفترضة هنا لحكم بنهدد بن هدد عدر. فبعد الحملة الأولى التي لا بد أن الإعداد لها والقيام بها قد تطلب عامًا كاملًا، فإن الحملة الثانية التي شنَّها ملك دمشق على إسرائيل قد جرت بعد سنةٍ كاملة من الحملة الأولى (الملوك الأول، ٢٠: ٢٦)، وبعد أن عاد ملك دمشق من حملته الثانية هذه أقام الطرفان بدون حربٍ مدة ثلاث سنوات (الملوك الأول، ٢٢: ١)، ثم وقعت الحرب الثالثة بينهما في السنة الرابعة لفترة السلم. وهذا ما يجعل فترة الحرب بين دمشق وإسرائيل ست سنوات. انحلَّ حِلف قرقرة بعد موت هدد عدر، ولكن ملك دمشق الجديد كان قادرًا على ما يبدو على جمع كلمة الممالك السورية في مواجهة آشور كلما رأى ضرورةً لذلك، وهذا ما يدلنا عليه النص الآشوري الذي أوردناه سابقًا عن اعتلاء حزائيل عرش دمشق، وجمعه الجيوش الكثيرة في وجه شلمنصَّر الثالث. ولكن إلى جانب سياسته في الدعوة إلى الأحلاف المؤقتة، فقد عمل حزائيل على التأكد من عدم انحياز أية مملكةٍ في غربي الفرات إلى الجانب الآشوري أو وقوفها على الحياد في الصراع القائم مع آشور؛ لأن ذلك من شأنه إضعاف موقف دمشق، التي تحمل على عاتقها الجزء الأكبر من مسئولية التصدي للمد العسكري الآشوري. من هنا فقد عَمَد حزائيل إلى رسم سياسةٍ جديدة تسمح له بالتدخل ضد أية دولةٍ تميل إلى مهادنة آشور ودفع الجزية لها في مناطق غربي الفرات. وقد سار ابنه بنهدد من بعده على السياسة نفسها كما سوف نرى لاحقًا. وقد كانت مملكة إسرائيل أول دولة تطالها عقوبة حزائيل. فلقد عزف خلفاء آخاب — أخزيا ويهورام — عن المشاركة في حروب دمشق، ثم مال يهورام إلى استرضاء آشور بدفع الجزية لها. ورغم أننا لا نعرف من النصوص الآشورية أو من التوراة عن قيام يهورام بدفع الجزية إلى آشور، إلا أن سياسة الخضوع التام لآشور في عهد خليفته ياهو تُظهر لنا أن جذور هذه السياسة كانت متأصلة في عهد يهورام. أخذ حزائيل يضغط بشكلٍ تدريجي على يهورام ملك إسرائيل (وهو الابن الثاني لآخاب بعد أخزيا الذي مَلَك قبله) في مناطق التواجد الإسرائيلي في شمال شرقي الأردن، فأرسل يهورام قواته الرئيسية إلى هناك وأقام في راموت جلعاد لحراسة تخومه في تلك المناطق، ولكنه أصيب بجرحٍ بليغ في إحدى المعارك، فترك قائده المدعو ياهو هناك وانسحب إلى مدينة يزرعيل الداخلية ليبرأ من جراحه. ومصدرنا هنا هو رواية سفر الملوك الثاني: «وكان يورام (يهورام) يحافظ على راموت جلعاد هو وكل إسرائيل من حزائيل ملك آرام. ورجع يهورام الملك لكي يبرأ في يزرعيل من الجروح التي ضربه بها الآراميون حين قاتل حزائيل ملك آرام.» وفي هذا الوقت دعا النبي أليشع، الخصم القديم لأسرة آخاب في إسرائيل، واحدًا من الأنبياء وقال له: «خذ قنينة الدهن هذه بيدك واذهب إلى راموت جلعاد. وإذا وصلت إلى هناك فانظر ياهو بن يهوشافاط بن نمشي، وادخل وأقمه من وسط إخوته، وادخل به من مخدعٍ داخل مخدعٍ، ثم خذ قنينة الدهن وصُبَّ على رأسه وقل: هكذا قال الرب: إني مسحتك ملكًا على إسرائيل. فانطلق الغلام النبي إلى راموت جلعاد … ودخل البيت فصبَّ الدهن على رأسه وقال: هكذا قال الرب إله إسرائيل: قد مسحتك ملكًا على شعب الرب إسرائيل، فتضرب بيت آخاب سيدك، وأنتقمُ لدماء عبيدي الأنبياء ودماء جميع عبيد الرب من يد إيزابيل، فيبيد كل بيت آخاب» (الملوك الثاني، ٩: ١–٨). فانطلق ياهو في رهطٍ من جماعته المقربين وعَبَر الأردن حتى وصل إلى مدينة يزرعيل. وكان الرقيب واقفًا على البرج فرأى جماعة ياهو عند إقباله، فنادى ملك إسرائيل قائلًا: إني أرى جماعةً قادمة، فقال الملك: أرسل فارسًا للقائهم لنعرف أأتوا للسلام أم للحرب، فذهب الفارس، وعندما وصل منعه ياهو من العودة وألحقه بجماعته، فأرسل البرج فارسًا ثانيًا ولكنه لم يعد أيضًا. فقال المراقب لملك إسرائيل: قد وصل الفارس إليهم أيضًا ولم يعد، وإني أرى سَوق الخيل كسَوق ياهو بن نمشي لأنه يسوق بجنون. فخرج يهورام بمركبته للقاء ياهو وهو يتوجس شرًّا. فلما رأى يهورام ياهو قال: أسلامٌ يا ياهو؟ فقال: أيُّ سلامٍ ما دام زِنا أمك إيزابيل وسِحرها الكثير! فرد يهورام فرسه وهرب، فقبض ياهو على القوس وضرب يهورام بين ذراعيه، فخرج السهم من قلبه فسقط في مركبته. أما ياهو فقد دخل إلى يزرعيل وقتل إيزابيل زوجة آخاب وطرحها للكلاب، ثم كتب إلى شيوخ السامرة أن يرسلوا إليه برءوس أولاد آخاب السبعين الأحياء، فقُطعت رءوس أولاد آخاب وأُرسلت إليه في سلالٍ إلى يزرعيل. وقتل ياهو كل الذين بقوا لبيت آخاب وكل عظمائه ومعارفه وكهنته حتى لم يبقَ له شارد (الملوك الثاني، ٩–١٠). أما حزائيل فقد عاد إلى دمشق بعد أن سمع بعودة شلمنصَّر الثالث إلى المنطقة مجددًا، وذلك في العام ٨٤١ق.م. وهو العام نفسه الذي اعتلى فيه ياهو عرش إسرائيل. عمل حزائيل على تحصين دمشق، ولكنه لم ينتظر وصول شلمنصَّر الثالث إليه، بل انطلق لملاقاته عند أسفل جبل الحرمون حيث تحصَّن لقطع طريق الحملة الآشورية. ونستنتج من تحصُّن حزائيل في هذه المنطقة أن شلمنصَّر الثالث كان يقصد إلى التوجه جنوبًا نحو فلسطين والساحل السوري دون المرور بدمشق. وهذا ما يفسر لنا حرب حزائيل ضد إسرائيل، والتي سبقت مباشرة وصول شلمنصَّر الثالث إلى المنطقة؛ ذلك أن حزائيل كان يعرف بطريقةٍ ما أهداف الحملة الآشورية في الوصول إلى المناطق الجنوبية والغربية وعَزْل مملكة دمشق، فأراد استباق الأمور وخلع ملك إسرائيل الذي كان يستعد لتقبيل أقدام شلمنصَّر، وإحلال ملكٍ جديد محله مُوالٍ لدمشق. نقرأ في نص شلمنصَّر الثالث عن هذه الحملة ما يلي: وهناك ملاحظةٌ أخرى في رواية سفر الملوك الثاني عن اغتصاب ياهو للعرش وإبادته لذرية آخاب تدعم هذا التفسير، وهي أن النص كان يكرر على الدوام أن ياهو قد أباد أسرة آخاب من دون التطرق إلى أسرة عُمري، دلالةً على أن المغتصب قد قضى على فرع آخاب من أسرة عُمري، لا على أسرة عُمري كلها. بعد آخر هذه الحملات عقب عام ٨٣٧ ق.م. أقلع شلمنصَّر الثالث نهائيًّا عن مشروع إخضاع دمشق، وصرف نظره عن مناطق غربي الفرات. ولمدة ثلاثين سنة تلت ذلك، لم يظهر أي جيش آشوري في المنطقة. فبعد وفاة شلمنصَّر الثالث عام ٨٢٤ ق.م.، بعد فترة حكم مديد دامت ٣٤ سنة، نشبت نزاعاتٌ داخلية بين ورثة العرش، وانشغل الآشوريون بالحروب ضد المناطق الشرقية لحكمهم. وقد أطلق هذا الوضع الجديد يد حزائيل في مناطق نفوذه التقليدية، وبدأ بإعادة ترتيب شئون المنطقة استعدادًا لأية مواجهةٍ مقبلة مع آشور. تفرغ ملك دمشق أولًا لعقاب ياهو ملك إسرائيل بسبب موقفه المخزي من آشور وخيانته لدمشق، وبعد أن ضمن خضوع إسرائيل له قام ببسط سلطته على كامل الأراضي الفلسطينية ووصلت قواته حتى مدينة جت على الساحل الفلسطيني. وأخبارنا عن هذه الفترة مصدرها الوحيد سفر الملوك الثاني، لأن النصوص الآشورية بقيت صامتةً تمامًا عما يجري في مناطق غربي الفرات، وذلك حتى عام ٨١٠ق.م. نقرأ في سفر الملوك ما يأتي: «ولكن ياهو لم يتحفظ على السلوك في شريعة الرب إله إسرائيل من كل قلبه … في تلك الأيام ابتدأ الرب يقصُّ إسرائيل، فضربهم حزائيل في تخوم إسرائيل جميعها من الأردن لجهة مشرق الشمس … واضطجع ياهو مع آبائه فدفنوه في السامرة، ومَلَك ابنه يهوأحاز عوضًا عنه. وكانت الأيام التي مَلَك فيها ياهو على إسرائيل في السامرة ثمانيًا وعشرين سنة» (الملوك الثاني، ١٠: ٣١–٣٦). ثم «مَلَك يهوأحاز بن ياهو على إسرائيل في السامرة سبع عشرة سنة. وعمل الشرَّ في عينَي الرب … فحمي غضب الرب على إسرائيل، فدفعهم ليد حزائيل ملك آرام وليَد بنهدد بن حزائيل كل الأيام … لم يُبقِ ليهوأحاز شعبًا إلا خمسين فارسًا وعشرة آلاف راجل وعشر مركبات، لأن ملك آرام أفناهم ووضعهم كالتراب للدَّوس … ثم اضطجع يهوأحاز مع آبائه فدفنوه في السامرة، ومَلَك يوآش ابنه عوضًا عنه» (الملوك الثاني، ١٣: ١–٩). بعد ضمان تبعية إسرائيل، التي تُشكِّل القوة الرئيسية في منطقة فلسطين، شقَّ حزائيل طريقه نحو مدن فلستيا فضمن ولاءها، ثم انقلب نحو الداخل إلى أورشليم التي أعلن ملكها ولاءه لدمشق قبل وصول قواتها أطراف أورشليم: «حينئذٍ، صعد حزائيل ملك آرام وحارب جت وأخذها، ثم حوَّل وجهه ليصعد إلى أورشليم. فأخذ يهوآش ملك يهوذا الأقداس جميعها التي قدَّسها آباؤه ملوك يهوذا، وأقداسه. والذهب الموجود في خزائن بيت الرب وبيت الملك كله، وأرسلها إلى حزائيل ملك آرام، فصعد عن أورشليم» (الملوك الثاني، ١٢: ١٧–١٨). لا يوجد لدينا سببٌ للشك في صحة هذه الرواية التوراتية عن حروب حزائيل في شرقي الأردن وفلسطين؛ لأن مثل هذه الحروب كانت متوقعة بعد غياب آشور المؤقت عن المنطقة. فلقد أخلى حزائيل منطقة شمال شرقي الأردن من القوات الإسرائيلية، ودفع هذه القوات بعد أن أضعفها إلى السامرة، التي لم يكن راغبًا في فتحها، بل في تحييدها أو كسبها إلى جانبه في أي صراعٍ قريب محتمل مع آشور. ثم أكد بعد ذلك سيطرته على المناطق الساحلية والداخلية في مرتفعات يهوذا، فأمَّن بذلك سلامة الطرق التجارية الحيوية جميعها بالنسبة لمملكة دمشق. ولسوف نجد بعد سنواتٍ قليلة أن ابنه بنهدد يمارس السياسة نفسها في المناطق الشمالية، مما تصفه لنا بعض النصوص الآرامية المعاصرة للحدث. لا نعرف على وجه التحديد تاريخ موت الملك حزائيل، ولكننا إذا قبلنا الخبر التوراتي الوارد في سفر الملوك الثاني (١٣: ٢٢–٢٥) يمكن أن نضع موت حزائيل حوالي العام ٨٠٠ق.م. لأننا نستشفُّ من الخبر أن الملك حزائيل والملك يهوأحاز قد توفيا في وقتين متقاربين، ولما كانت وفاة يهوأحاز تقع حوالي عام ٧٩٨ق.م. فإن موت حزائيل يمكن أن يوضع قبل ذلك بعامٍ أو عامين. فالخبر التوراتي يقول: «وأما حزائيل ملك آرام فقد ضايق إسرائيل كل أيام يهوأحاز … ثم مات حزائيل ومَلَك بنهدد ابنه عوضًا عنه. فعاد يهوآش بن يهوأحاز وأخذ المدن من يد بنهدد بن حزائيل، التي أخذها من يده يهوأحاز أبوه بالحرب. ضربه يوآش ثلاث مراتٍ واسترد مدن إسرائيل» (الملوك الثاني، ١٣: ٢٢–٢٥). كانت المهمة الثانية التي وضعها بنهدد لقواته بعد إخضاع إسرائيل هي إخضاع مملكة حماة التي كانت تسلك نهجًا مواليًا لآشور. إن الحملات الآشورية على سوريا منذ عام ٨٤٥ق.م. وصولًا إلى عهد أدد نيراري لم تتعرض لمملكة حماة، الأمر الذي يدل على تابعيتها الآشورية خلال تلك الفترة. فصعد بنهدد على رأس حلفٍ سوري يضم سبع ممالك معروفة بعدائها الشديد لآشور وخصوصًا مملكة بيت جوشي، التي سنراها فيما بعد على رأس تحالفٍ سوري في مواجهة القوات الآشورية، فقاتل ملك حماة المدعو زاكير وضرب عليه حصارًا طويلًا، بعد أن لجأ إلى مدينة حاتريكا الشمالية عاصمة مملكة لوعاش (نوخاشي سابقًا) الواقعة بين حماة وحلب، والتي ضمها إليه زاكير مُشكِّلًا قوةً لا يُستهان بها في ذلك الوقت. ولحسن الحظ فقد وصلتنا معلوماتٌ مباشرة عن هذه الحرب في نص تركه الملك زاكير نفسه، منقوشٌ بالآرامية على حجرٍ عُثر عليه في قرية آفس على مسافة ٤٠كم إلى الجنوب الغربي من مدينة حلب. ويُرجَّح أن يكون موقع آفس هذا هو حاتريكا القديمة نفسها. نقرأ في نص زاكير ما يلي: نلاحظ من أسماء الممالك الداخلة في حلف دمشق الجديد أنها تقع جميعًا في المناطق الشمالية بين الفرات والساحل السوري. وهذا يعني أن بنهدد قد بسط نفوذه على كامل مناطق الشمال السوري، إضافةً إلى مناطق وسط وجنوب سوريا، وفلسطين، وأنه قد استطاع فعلًا تعبئة كامل مناطق غربي الفرات في جبهةٍ واحدة استعدادًا للوقوف في وجه الملك الآشوري أدد نيراري الثالث، الذي ما لبثت جيوشه حتى ظهرت في المنطقة حوالي عام ٧٩٨ق.م. أي بعد أربع سنواتٍ من ارتقاء بنهدد عرش دمشق. أما عن النتيجة التي آل إليها حصار حاتريكا، فمن غير الممكن أن يكون زاكير قد انتصر على حلف دمشق، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار عدد الممالك الحليفة وقوة جيوشها. ويكفي أن نذكر أن مملكة جوشي، التي يتزعمها برجوش، كانت أقوى الممالك الآرامية الشمالية، وكانت أراضيها تمتد من شاطئ الفرات إلى سهل العمق غربًا، أما مملكة يأدي (أو شمأل) فكانت قوةً لا يُستهان بها وذات ثقلٍ في ميزان القوى العسكرية في غربي الفرات. فإذا أضفنا إلى هاتين القوتين القوة الرئيسية لمملكة دمشق، التي أَعْيت الآلة الحربية الآشورية لنصف قرنٍ مضى، لأدركنا استحالة هزيمة بنهدد عند أسوار حاتريكا. وهناك نتيجتان محتملتان لهذه الحرب؛ فإما أن الحلفاء قد تراجعوا عن حاتريكا بعد أن وصلتهم أخبار عن عبور أدد نيراري نهر الفرات، وإما أنهم قد توصلوا إلى اتفاقٍ يضمن حياد زاكير في المعركة المقبلة. وفي نص أدد نيراري نقطةٌ هامة ينبغي ملاحظتها وفهم مدلولاتها. فالممالك الواردة في النص جميعها قد جرى تعدادها بأسمائها دون ذكر ملوكها أو شرح مجريات المعارك التي قادت إلى إخضاعها، عدا دمشق التي توقف النص عندها مطولًا وأعطانا تفصيلات حول استسلامها والجزية التي دفعتها. وهذا يدل دلالةً قاطعة على أن الهدف الرئيسي لحملة، أو لحملات، أدد نيراري في مناطق غربي الفرات كان إخضاع مملكة دمشق، وأن الحملات الأولى على ممالك الشمال التي جملها النص تحت اسم حاتي، وممالك الوسط والجنوب، لم تكن إلا مقدمةً ضرورية لضمان استسلام دمشق. لقد كانت دمشق آخر من دفع الجزية في مناطق غربي الفرات، منذ أن بدأت الحملات الآشورية المنظمة على بلاد الشام. ويبدو أن حملة أدد نيراري الأخيرة على دمشق قد أضعفت قوة المملكة إلى حدٍّ كبير، وأفقدتها الكثير من هيبتها كمركز ثقلٍ إقليمي في المنطقة. وكان أول المستفيدين من ضعف دمشق مملكة إسرائيل. فقد وَلِي عرشَ السامرة بعد يوآش — الذي أخضعه بنهدد قبل أن يتوجه إلى حاتريكا — ابنُه يربعام الثاني (٧٩٧–٧٥٣ق.م.)، ويروي لنا سفر الملوك الثاني في نصٍّ مختصر، وبدون أية تفاصيل، خبرًا عن حملة يربعام الثاني هذا على مملكة دمشق، التي لم تكن قد التقطت أنفاسها من الحملة الآشورية الساحقة. هذا مع العلم بأن نص سفر الملوك الثاني قد بقي حتى هذا الوقت من مطلع القرن الثامن قبل الميلاد، متجاهلًا كل ما يحدث على الساحة السورية والفلسطينية من أحداث، وأن قارئ التوراة لم يعرف بعد بوجود مملكةٍ اسمها آشور، ولا بحملات ملوك آشور على دمشق وعلى إسرائيل وبقية الدويلات الفينيقية والفلسطينية. يقول الخبر التوراتي ما يلي: «مَلَك يربعام بن يوآش ملك إسرائيل في السامرة إحدى وأربعين سنة. وعمل الشر في عينَي الرب … هو ردَّ تُخُم إسرائيل من مدخل حماة إلى بحر العربة حسب كلام الرب إله إسرائيل … وبقية أمور يربعام وكل ما عمل وجبروته — كيف حارب وكيف استرجع إلى إسرائيل دمشق وحماة، التي ليهوذا — أمَا هي مكتوبة في سفر أخبار الأيام لملوك إسرائيل؟» (الملوك الثاني، ١٤: ٢٣–٢٨.) ونستطيع الآن بفضل هذا النص الجديد أن نعرف التاريخ التقريبي لوفاة بنهدد، والذي يمكن وضعه حول ٧٧٠ق.م. كما نستطيع أن نضع ثَبَتًا بملوك آرام دمشق وفترات حكمهم خلال القرن الممتد من أواسط القرن التاسع إلى أواسط القرن الثامن، على الوجه التالي: في هذا الوقت الذي شهد بداية النهاية لكل من دمشق وإسرائيل؛ أخذت مملكة يهوذا بالتكوُّن والظهور على المسرح السياسي الإقليمي.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/2.5/
العقود الأخيرة لدمشق وإسرائيل ونشوء يهوذا
حتى الحملة الآشورية الأخيرة التي ذكرناها على دمشق عام ٧٧٣ق.م. إبَّان حكم الملك حديانو، لم تكن مملكة يهوذا قد تشكلت بعد ككيانٍ سياسي واضح في فلسطين، ولم تكن مدينة أورشليم قد دخلت معترك السياسة الإقليمية والدولية. والنصوص الآشورية لم تتجاهل فقط وجود مملكة يهوذا في فلسطين، بل تجاهلت كليًّا مدينة أورشليم وكأنها غير موجودة على الخارطة السياسية للمنطقة. غير أن العقود اللاحقة من القرن الثامن قبل الميلاد قد بدأت تدفع أورشليم بسرعةٍ نحو مركز الأحداث، وبدأت تظهر في النصوص الآشورية بدءًا من الربع الأخير لهذا القرن الحافل بالأحداث الجسام في تاريخ بلاد الشام، والذي شهدت نهايته دمار مملكة إسرائيل وفقدان دمشق لاستقلالها وسيادتها. ولسوف نقوم فيما يلي بإعادة ترتيب المعلومات التي قدمناها سابقًا في عددٍ من المواضع التي تحدثنا فيها عن أصول يهوذا، والتي وردت في معرض المقارنة مع أصول إسرائيل، وذلك لِما لِفَهم أصول يهوذا من أهميةٍ بالغة على فهم الأحداث اللاحقة ومضامينها. لقد لعبت أورشليم خلال عصر البرونز دور المركز التجاري المسيطر على المنطقة المحيطة بها، كما لعبت دور السوق التجارية للمراكز الحضرية الواقعة إلى المناطق الغربية، مثل جازر ولخيش. ومع أن أورشليم قد نجحت في عبور فترة الجفاف خلال الفترة الانتقالية من البرونز الأخير إلى الحديد الأول، وشاركت بشكلٍ فعال في عودة النمو الاقتصادي إلى المنطقة، إلا أنها لم تكن، حتى أواخر القرن العاشر قبل الميلاد وأوائل القرن التاسع، أكثر من بلدةٍ صغيرة لم تبلغ بأي معيار أو مقياسٍ مبلغ المدن الكبرى. ويبدو أن موقعها المنعزل قد ساعدها على حفظ استقلالها، ولكنه عمل أيضًا على حصر نفوذها السياسي ضمن منطقتها بشكلٍ رئيسي. وبعد فترة الكمون التي مرت بها المدينة خلال الكارثة المناخية والاقتصادية أخذت أورشليم بالتطلع إلى مناطق يهوذا الواقعة إلى جنوبها، وكان ذلك بدافع التوسع الاقتصادي والتجاري لا بدافع التوسع السياسي. من هنا، فإن قيام أورشليم ببسط سيطرتها السياسية على يهوذا قد جاء عقب اكتمال عملية استيطان المنطقة بشكلٍ واسع ولم يكن سابقًا عليه. وسنعود الآن إلى متابعة أحداث القرن الثامن، ودخول مملكة يهوذا ذلك المسرح. لقد دفعت دمشق الجزية للملك أدد نيراري الثالث عام ٧٩٦ق.م. ثم تمردت على آشور بعد موت أدد نيراري فأُخضعت ثانيةً في عام ٧٧٣ق.م. وقد بدا لآشور بوضوحٍ بعد هذا التمرد أن الوضع في منطقة دمشق وسوريا الغربية والجنوبية لن يستقر إلا بعد إلحاق دمشق بآشور وحكمها بطريقةٍ مباشرة. وكان على هذه الخطة أن تنتظر صعود ملكٍ قوي جديد. في عام ٧٤٥ق.م. ارتقى عرش آشور الملك تغلات فلاصَّر الثالث (٧٤٥–٧٢٧ق.م.) وكان عهده فاتحةً لعصر الإمبراطورية الآشورية التي دامت بعده قرنًا من الزمان، وامتدت من إيران ضمنًا في الشرق إلى مصر ضمنًا في الغرب، ومن الأناضول ضمنًا في الشمال إلى أواسط شبه الجزيرة العربية في الجنوب. وقد أسس تغلات فلاصَّر لسياسة ضم الأراضي المقهورة بالقوة إلى التاج الآشوري، وحُكمها بواسطة ولاة آشوريين مُعيَّنين عليها، يقومون بدور نائب الملك. كما أسس هذا الملك لسياسة الترحيل المنظم للشعوب المغلوبة، وإحلال جماعاتٍ متنوعة محلها يتم اختيارها من الشعوب المغلوبة الأخرى. وقد شملت عمليات التهجير الإجباري أكثر من ١٠٠ شعب، بما في ذلك الآشوريون أنفسهم الذين فُتحت أمامهم فرص الهجرة والاستقرار في أفضل الأراضي الشاغرة من سكانها. وبذلك تمكن الآشوريون أخيرًا من حكم الممالك الثائرة بعد أن فقدت تكوينها الإثني والسياسي، وبعد أن غيرت آشور الخريطة الديمغرافية للشرق القديم بكامله. أما سفر الملوك الثاني فيقدم لنا معلوماتٍ تتقاطع مع النص الآشوري أعلاه، ولكنه يدعو ملك آشور باسم «فول»، وهو اسمٌ غريب ولا وجود له في لائحة ملوك آشور. ولربما اختلط على محرر السفر اسم ملك آشور تغلات فلاصَّر باسم واحدٍ من قواده الذي ربما قاد الحملة على إسرائيل، في الوقت الذي كان فيه الملك مشغولًا بقتال غزة. نقرأ في سفر الملوك الثاني هذا الخبر الأول عن آشور في كتاب التوراة: «مَلَك منحيم بن جادي على إسرائيل في السامرة عشر سنين، وعمل الشر في عينَي الرب … فجاء فول ملك آشور على الأرض، فأعطى منحيم لفول ألف وزنةٍ من الفضة لتكون يداه معه، ليثبِّت المملكة في يده. ووضع منحيم الفضة على إسرائيل، على جميع جبابرة البأس، ليدفع لملك آشور خمسين شاقل فضة على كل رجل. فرجع ملك آشور ولم يُقم في الأرض … ثم اضطجع منحيم مع آبائه، ومَلَك فقحيا ابنه عوضًا عنه» (الملوك الثاني، ١٥: ١٧–٢٢). ويشذُّ هذا الخبر التوراتي عن الخبر الآشوري في نقطتين؛ الأولى تتعلق باسم ملك آشور، والثانية تتعلق بعدم ذكره لقتال تغلات فلاصَّر لمنحيم، وهروب الأخير ثم عودته إلى السامرة بعد موافقته على دفع الجزية. بعد الحملات المتوالية على مناطق غربي الفرات، والتي أدت إلى ضم قسمٍ كبير من الأراضي السورية إلى التاج الآشوري، بقيت دمشق تجهز لحروب مقاومةٍ جديدة، وتهيئ المناخ السياسي الملائم للمواجهات المقبلة. وقد ساعدها على ذلك انشغال تغلات فلاصَّر بحروبٍ في المناطق الشمالية والشرقية لمدة ثلاث سنوات، فيما بين ٧٣٧ و٧٣٥ق.م. ولما كانت مملكة يهوذا تلعب في ذلك الوقت دور العميل الرئيسي لتغلات فلاصَّر الذي هاجم كل ممالك سوريا الجنوبية وفلسطين من دون يهوذا، فقد كان لا بد لرصين ملك دمشق من إزاحة الملك آحاز في يهوذا، ورفع ملكٍ جديد يناهض آشور. وهنا تقوم دمشق بعقد حلف جديد مع إسرائيل، ويتوجه رصين وفقح ملك إسرائيل لحصار آحاز. ومعلوماتنا عن هذا الحلف مصدره الرواية التوراتية فقط. نقرأ في سفر إشعيا: «وحدث في أيام آحاز بن يوثام ملك يهوذا أن رصين ملك آرام صعد مع فقح بن رمليا ملك إسرائيل إلى أورشليم لمحاربتها، فلم يقدر أن يحاربها. وأُخبر بيت داود (أي: ملك يهوذا) وقيل له: قد حلَّت آرام في أفرايم (أي: إسرائيل). فرجف قلبه وقلوب شعبه كرَجَفان شجر الوَعْر قدام الريح. فقال الرب لإشعيا: اخرج لملاقاة آحاز وقل له: … لأن آرام تآمرت عليك بشرٍّ مع أفرايم وابن رمليا قائلة: نصعد على يهوذا ونُقوِّضها ونستفتحها لأنفسنا، ونُملِّك في وسطها ملكًا؛ ابن طبئيل. هكذا يقول السيد الرب … إلخ» (إشعيا، ١–٧). ونقرأ في سفر الملوك الثاني أيضًا: «كان آحاز ابن عشرين سنة حين مَلَك، ومَلَك ست عشرة سنةً في أورشليم. ولم يعمل المستقيم في عينَي الرب إلهه، بل سار في طريق ملوك إسرائيل … حينئذٍ صعد عليه رصين ملك آرام وفقح بن رمليا ملك إسرائيل إلى أورشليم للمحاربة. فحاصروا آحاز ولم يقدروا أن يغلبوه … وأرسل آحاز رسلًا إلى تغلات فلاصَّر ملك آشور قائلًا: أنا عبدك وابنك، اصعد وخلصني من يد ملك آرام ومن يد ملك إسرائيل القائمَين عليَّ. فأخذ آحاز الفضة والذهب الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك وأرسلها إلى ملك آشور هدية. فسمع له ملك آشور وصعد إلى دمشق وأخذها وسباها إلى قير، وقتل رصين. وسار الملك آحاز للقاء تغلات فلاصَّر ملك آشور إلى دمشق» (الملوك الثاني، ١٦: ١–١٠). لا يخرج هذان الخبران عن الخط العام الذي التزمه محررو التوراة في تقديم المعلومات التي تيسَّرت للمحرر من خلال رؤيةٍ أيديولوجية ساذجة لا ترى في التاريخ إلا نتاجًا لتدخل القدرة الإلهية في عالم الناس، ولا تنظر إلى الأحداث في أسبابها ونتائجها، ولا تحفل بالدائرة الكبرى التي يتحرك ضمنها الحدث المنعزل الذي يجري تقديمه. فرصين ملك آرام، وفقح ملك إسرائيل ليسا إلا أداةً في يد الرب أصعدهما لحصار أورشليم عقابًا على خطاياها وخطايا ملكها. وملك آشور يقبل هدية آحاز ويشنُّ حملته على دمشق بعد قبوله الرشوة من أورشليم. ولكننا إذا أردنا فهم هذين الخبرين على خلفية الأحداث الهامة في بلاد الشام في ذلك الوقت، علينا أن نبحث عن أسباب حصار أورشليم في موقفها حيال السياسة الآشورية في المنطقة، وعلاقاتها بالممالك المحلية المجاورة. لقد اتسمت سياسة إسرائيل-السامرة حيال آشور — عقب معركة قرقرة — بالذبذبة؛ فكانت تعاضد دمشق أحيانًا، وتقف على الحياد أو تعلن ولاءها لآشور وتدفع الجزية لملوكها في أحيانٍ أخرى، وذلك حسب تقديرها للموقف السياسي العام، وتبعًا للتكوين الشخصي لملوكها المتعاقبين. أما يهوذا فقد التزمت منذ قيامها موقف الممالأة لآشور والعمل على تنفيذ سياستها في سوريا الجنوبية، مستفيدةً من الانهيار العام للبُنى السياسية القديمة في هذه المنطقة، وسقوط الممالك السورية من حولها واحدةً إثر أخرى، فانتعشت وأَثْرت من الدمار المنتشر من حولها. وبينما ضمت آشور معظم المناطق في سوريا وفلسطين إلى التاج الآشوري؛ بقيت يهوذا حرةً مستقلة، وعَبَرت القرن السابع قبل الميلاد بنجاحٍ لا تحسد عليه. من هنا، فقد عملت دمشق على إحداث تغييرٍ جذري في هيكل السلطة السياسية في يهوذا، ووضع ملك عليها يخلع طاعة آشور ويقف إلى جانب دمشق في المعركة المقبلة، التي كانت آشور تخطط من خلالها إلى توجيه الضربة الأخيرة لمملكة دمشق، والممالك القليلة الأخرى التي بقيت حتى الآن على استقلالها. هذا، ويُطلق خبر سفر إشعيا — الذي أوردناه أعلاه — على الملك البديل في يهوذا اسم ابن طبئيل دون أية تفصيلاتٍ أخرى. ومن ناحيتها، فقد كانت إسرائيل تشعر بالخطر الكبير الذي تمثله سياسة يهوذا على حدودها، واعتقدت بأن جبهةً واحدة تضم دمشق وإسرائيل ويهوذا، من شأنها دفع الخطر الآشوري عن المنطقة ولو مؤقتًا، بانتظار تغييراتٍ داخلية في آشور، أو تحركاتٍ في مناطق نفوذها الشرقية والشمالية، تشغلها ردحًا من الزمان. قبل هجومه الأخير على دمشق، عاقب تغلات فلاصَّر مملكة إسرائيل على وقوفها إلى جانب دمشق، فسلبها أراضيها الشمالية، وعيَّن عليها ملكًا جديدًا يأتمر بأمره، ويدير شئون مملكةٍ صغيرة تلعب دور التابع في منطقة فلسطين. فقد كانت آشور — إلى جانب اعتمادها سياسة ضم الممالك المستقلة إلى التاج الآشوري — ترغب في الإبقاء على الحكم الذاتي لبعض الممالك بعد إضعافها ونزع أسنانها، وذلك إلى الحد الذي يخدم مصالحها وحساباتها الاستراتيجية، وكانت تُبقي على الأُسر الحاكمة في هذه الممالك طالما أمَّنت لها هذه المصالح، فإذا آنس بعض هؤلاء الحكام من أنفسهم قوةً، وانتهزوا فرصة سانحةً للتمرد؛ عمدت آشور إلى البطش بهم وتصفية دُولهم. وهذا ما حدث لإسرائيل في سنواتها الأخيرة التي عاشتها بعد نهاية مملكة دمشق. اعتلى عرشَ آشور بعد تغلات فلاصَّر الثالث ابنُه شلمنصَّر الخامس، الذي حكم فترةً قصيرة فيما بين ٧٢٦ و٧٢٢ق.م.، ثم خَلَفه صارغون الثاني، الذي حكم سبع عشرة سنة فيما بين ٧٢١ و٧٠٥ق.م.، وكان من أوائل أعماله حملته في مناطق غربي الفرات على حلفٍ سوري جديد تشكَّل هذه المرة بقيادة مملكة حماة، التي اغتصب العرش فيها رجلٌ من الجالية الحثية القوية التي تقيم فيها منذ زمنٍ بعيد، والتي صعد من صفوفها عددٌ من الملوك، أشهرهم إرخوليني حليف حدد عدر الآنف الذكر. وقد تألف حلف حماة من دويلات حماة وأرواد وسيميرا والسامرة ودمشق. ولا ندري كيف شاركت دمشق في هذا الحلف بعد زوالها كمملكةٍ مستقلة وضمها إلى التاج الآشوري. والأغلب أنها قد ثارت على الحاكم المُعيَّن عليها من آشور، ولجأت إلى ملك حماة الجديد، الذي وعدها بالحماية وتأمين الاستقلال. ومثلها في ذلك مدينة سيميرا التي كانت قد أُلحقت بآشور قبل دمشق. أما هوشع ملك السامرة فقد كان يتلقَّى تحريضًا مستمرًّا من مصر على الثورة، ووعودًا بالدعم العسكري والمادي، وقد وجد في دعوة ملك حماة مناسبة لبدء عصيانه. وبالطبع فإن سفر الملوك الثاني يحدثنا عن دمار السامرة، ولكنه يعزو ذلك إلى الملك شلمنصَّر الخامس سلف صارغون الثاني. ولعل مما يلفت النظر فعلًا أن معلومات محرري التوراة بخصوص آشور ودورها في أحداث النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد قد بقيت غامضةً ومشوشة، حتى عند هذا الوقت المتأخر من حياة مملكة إسرائيل. فصارغون الثاني بقي مجهولًا لديهم تمامًا، ومحررو سفر الملوك الثاني لم يَخصُّوه بخبرٍ واحد رغم حملاته الشهيرة التي غيَّرت الخارطة السكانية لبلاد الشام. نقرأ في سفر الملوك الثاني الخبر التالي عن فتح السامرة: «مَلَك هوشع بن إيلة في السامرة على إسرائيل تسع سنين، وعمل الشر في عينَي الرب، فصعد عليه شلمنصَّر ملك آشور فصار هوشع له عبدًا ودفع له الجزية، ووجد ملك آشور في هوشع خيانةً لأنه أرسل رسلًا إلى سوا ملك مصر ولم يؤدِّ جزيةً إلى آشور حسب كل سنة. فقبض عليه ملك آشور وأوثقه في السجن، وصعد ملك آشور على كل الأرض، وصعد إلى السامرة وحاصرها ثلاث سنين. في السنة التاسعة لهوشع أخذ ملك آشور السامرة، وسبى إسرائيل إلى آشور، وأسكنهم في حلج وخابور ونهر جوزان وفي مدن مادي» (الملوك الثاني، ١٧: ١–٦). وبسقوط السامرة في عام ٧٢١ق.م. انتهت مملكة إسرائيل ولم تقم لها قائمةٌ بعد ذلك، كما اختفى الاسم «إسرائيل» وبطل استعماله، وحلَّ محله اسم السامرة للدلالة على المقاطعة التي قامت على أراضي إسرائيل، وذلك من العصر الآشوري إلى العصر الروماني. وكما هو شأن الدعاوى الإمبريالية الحديثة، التي كانت تقدم الاستعمار للشعوب المغلوبة على أنه إنقاذٌ لها من حكامها ومن أوضاعها الاقتصادية المتردية، وترسم صورةً للمستعمر باعتباره مصلحًا وحاملًا لرسالة التقدم، كذلك كان شأن الدعاوى السياسية الآشورية التي كانت تتوجه للشعوب بشعاراتٍ مشابهة. فآشور هو المنقذ لهذه الشعوب، والمنفى الذي ينتظرها هو جنةٌ وفردوسٌ لمن يستسلم للآلة الحربية الآشورية. ولدينا نصٌّ من سفر الملوك الثاني يتفق كل الاتفاق مع هذه النغمة الإعلامية التي نجدها في العديد من النصوص الآشورية. فعندما كان القائد الآشوري ربشاقي يحاصر أورشليم في عهد حزقيا؛ يتوجه هذا القائد إلى أهل أورشليم بخطابٍ تحت السور يدعوهم فيه إلى الاستسلام، الذي ستكون مكافأته ترحيلهم إلى أرضٍ جديدة يتملَّك فيها كل واحدٍ منهم حقلةً طيبة تفيض خمرًا وعسلًا، ويأكل من كرمته وتينته الخاصة، التي زرعها بنفسه. نقرأ في سفر الملوك الثاني: «اسمعوا كلام الملك العظيم ملك آشور. هكذا يقول الملك: لا يخدعْكم (ملككم) حزقيا لأنه لا يقدر أن ينقذكم من يدي … لا تسمعوا لحزقيا، لأنه هكذا يقول ملك آشور: اعقدوا صلحًا معي واخرجوا إليَّ، وكلوا كلُّ واحدٍ من جفنته، وكلُّ واحدٍ من تينته، واشربوا كلُّ واحدٍ من ماء بئره. حتى آتي وآخذكم إلى أرضٍ كأرضكم، أرض حنطةٍ وخمر، أرض خيرٍ وكروم، أرض زيتونٍ وعسل. واحيوا ولا تموتوا» (الملوك الثاني، ١٨: ٢٨–٣٣).
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/2.6/
صعود يهوذا ونهايتها السريعة
ويبدو أن غياب كلٍّ من مملكة دمشق وإسرائيل عن الساحة قد جعل مملكة يهوذا الحارس على طرق التجارة الدولية في فلسطين وشرقي الأردن، وصارت إلى حالٍ من القوة والثروة جعل ملوكها يفكرون جديًّا بالاستقلال عن آشور، وتجيير كل المكاسب لحسابهم الخاص، يشجعهم على ذلك ملوك مصر الذين أقلقهم وصول آشور إلى حدودهم الشمالية. شهد آحاز ملك يهوذا الاستسلام الأخير لمدينة دمشق عام ٧٣٢ق.م.، وحضر شخصيًّا إلى المدينة للقاء تغلات فلاصَّر هناك، والحصول على بركته لمتابعة دوره في المنطقة (الملوك الثاني، ١٦: ١٠). ثم تابع سياسة العمالة لآشور حتى شهد أيضًا دمار السامرة عام ٧٢١ق.م.، واطمأن إلى استتباب الأمور في المنطقة بما يتفق ومصالحَه. بعد ذلك تخلَّى عن جزءٍ كبير من صلاحياته السياسية لابنه حزقيا، الذي ارتقى عرش أورشليم بعد وفاة أبيه عام ٧١٥ق.م. وسأقدِّم فيما يلي ثَبَتًا بملوك يهوذا الذين تتابعوا، من آحاز إلى صدقيا آخر ملوك يهوذا، وسنوات حكمهم؛ وذلك ليتيسر للقارئ متابعة ما سيأتي من أخبار يهوذا: في السنوات الأخيرة من حكمه، انشغل صارغون الثاني بمشكلاته الداخلية، وأوقف حملاته السورية، ثم تُوفي عام ٧٠٥ق.م. وخَلَفه ابنه سنحاريب. انشغل سنحاريب في سنوات حكمه الأولى بالقضاء على عددٍ من الفتن والثورات في بلاد الرافدين والمناطق الشرقية، الأمر الذي أعطى حزقيا ملك يهوذا مزيدًا من الإحساس بالاستقلال والإحساس بقوته الذاتية. وقد قاده هذا إلى التفكير بالتمرد على آشور، يدفعه إلى ذلك فراعنة الأسرة الحبشية في مصر. كما ساعد حزقيا على التفكير بالتمرد الحالةُ العامة المناهِضة للحكم الآشوري في مناطق سوريا الغربية جميعها، وخصوصًا مدن فينيقيا وفلسطين. وقد اعتقد جديًّا ولفترة بأنه في حال نجاح هذا التمرد العام، وإخفاق آشور في إخماده، فسيكون لأورشليم الدور القيادي في فلسطين، وربما استطاعت الحلول محل آشور. ولكن هذا الوضع المتوتر في فينيقيا وفلسطين قد دفع أخيرًا الملك سنحاريب إلى شنِّ حملةٍ كبرى على المنطقة مشهورة في تاريخ الحملات الآشورية. نقرأ في سجل سنحاريب عن هذه الحملة ما يلي: «في حملتي الثالثة توجهت إلى حاتي، لولي ملك صيدون، أخذه الخوف من هيبة جلالتي، ففرَّ وحيدًا عبر البحار واختفى ذكره. أما مدنه فقد تملكها الخوف من عظمة آشور، فأخضعت مدن صيدون الكبرى وصيدون الصغرى، وبيت زتي، وساريبتو، ومحاليبا، وأوشو (صور)، وأكزيب، وعكا. مدنه الحصينة كلها قد أخضعت تحت قدمي، وأقمت على عرش صيدون المدعو توبعلو وفرضت عليه الجزية.» عند ذلك يعلن بقية ملوك الساحل وملوك شرقي الأردن ولاءهم لسنحاريب، ويرسلون إليه الجزية. أما ملك أشقلون على الساحل الفلستي فقد بقي على تمرده، فتابع سنحاريب حملته باتجاه الساحل الفلستي، فأخضع أشقلون وقبض على ملكها المدعو صدقيا وأفراد عائلته وأرسلهم أسرى إلى آشور، ثم تابع تمشيطه لمناطق الساحل قبل أن يتوجه نحو الداخل لتأديب حزقيا ملك يهوذا، الذي وصلته نجدات عسكرية من مصر. لا يذكر نص سنحاريب السبب الذي دفعه لفك الحصار عن أورشليم والعودة إلى نينوى، والكاتب ينتقل مباشرة من مشهد الحصار المُطبِق على المدينة إلى وصول جزية حزقيا إلى سنحاريب في عاصمته. من هنا، فإننا نرجِّح أن الملك الآشوري قد ارتد عن المدينة بعد أن أعلن حزقيا خضوعه المطلق وقَبِل الجزية المضاعفة التي فُرِضت عليه، فأرسلها في إثر سنحاريب إلى نينوى. ويبدو أن سنحاريب لم تعد له مصلحةٌ في خسارة مزيدٍ من الوقت والجنود والأموال في حصار مدينةٍ منيعة، غدت وحيدةً في أرضٍ محروقة ومقفرة إلى أبعد الحدود، ففضَّل الإبقاء على أورشليم في حالة التبعية بدلًا عن تدميرها. ولعل قراره هذا قد جاء بعد وصول أخبارٍ من آشور عن محاولةٍ انقلابية يجري التحضير لها في نينوى، لأننا نعرف فيما بعدُ أن سنحاريب قد لقي مصرعه على يد اثنين من أبنائه أثناء تأديته للطقوس الدينية في المعبد. ومصدر هذا الخبر هو رواية سفر الملوك الثاني (١٩: ٢٧). لم يحفل النص التوراتي بذكر أية تفصيلات عن حملة سنحاريب على فلسطين، وقارئ سفر الملوك الثاني يظن أن الملك الآشوري قد توجَّه من نينوى مباشرةً إلى أورشليم وألقى الحصار عليها، وكأن أورشليم هي المدينة الوحيدة القائمة في مناطق غربي الفرات. كما أن قصة المواجهة بين سنحاريب وحزقيا ينقصها الكثير من العناصر المهمة التي قدمتها الرواية الآشورية؛ فصعود القوات المصرية لمساعدة حزقيا بأعدادٍ كبيرة غير مذكور بتاتًا، رغم وجود تلميحٍ باتكاء حزقيا على مصر، وكذلك الأمر بخصوص المعركة الكبيرة في سهل ألتقو بين القوات الآشورية وقوات مصر وحزقيا، وتراجُع الأخير وتحصُّنه في أورشليم، أما تراجع سنحاريب عن أسوار أورشليم فيعزوه محرر السفر — وكما يمكن أن نتوقع دومًا — إلى معجزةٍ من الرب، نقرأ في سفر الملوك الثاني ما يلي: «في السنة الرابعة عشرة للملك حزقيا صعد سنحاريب ملك آشور على مدن يهوذا الحصينة جميعها وأخذها، وأرسل ملك يهوذا إلى ملك آشور، إلى لخيش، يقول: قد أخطأتُ، ومهما جعلتَ عليَّ حَمَلتُه. فوضع ملك آشور على حزقيا ملك يهوذا ثلاثمائة وزنةٍ من الفضة، وثلاثين وزنةً من الذهب. فدفع حزقيا الفضة الموجودة في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك جميعها. وفي ذلك الزمان قشر حزقيا الذهب عن أبواب الهيكل والدعائم التي كان قد غشَّاها حزقيا ملك يهوذا ودفعه للملك آشور» (الملوك الثاني، ١٨: ١٢–١٦). يبدو لنا من هذا النص أن سنحاريب قد استولى على المدن التابعة لحزقيا، ثم قَبِل جزية حزقيا ولم يقترب من أورشليم. ولكن محرر سفر الملوك الثاني ما يلبث أن يقدم لنا مباشرةً روايةً أخرى عن قيام الجيش الآشوري بحصار أورشليم. وهنا نرى سنحاريب المشغول بحصار مدينة لخيش يرسل ثلاثةً من قواده على رأس جيشٍ إلى أورشليم: «وأرسل ملك آشور ترتان وربساريس وربشاقي من لخيش إلى الملك حزقيا بجيشٍ عظيم إلى أورشليم، فصعدوا وأتوا إلى أورشليم. ولما صعدوا جاءوا ووقفوا عند قناة البِرْكة العليا، التي في طريق حقل القَصَّار، ودعوا الملك فخرج إليهم إلياقيم بن حلقيا و… إلخ، فقال لهم ربشاقي: قولوا لحزقيا: هكذا يقول الملك العظيم ملك آشور: … والآن على من اتكلتَ حتى عصيتَ عليَّ؟ فالآن هو ذا قد اتكلتَ على عكاز هذه القصبة المرضوضة، على مصر التي إذا توكأ عليها أحدٌ دخلت في كفه وثقبتها. هكذا هو فرعون ملك مصر للمُتَّكلين عليه جميعهم … وإذا قلتم لي: على الرب إلهنا اتكلنا … هل بدون الرب صعدتُ على هذا الموضع لأخربه؟ الرب قال لي: اصعد على هذه الأرض وخربها.» ثم يعرض القائد الآشوري على أهل أورشليم الاستسلام واعدًا إياهم بالسبي إلى أرضٍ أفضل من أرضهم، مما اقتبسناه قبل قليل. ولكن النبي إشعيا يشد من عزيمة حزقيا ويحثه على المقاومة، ويعده بتأييدٍ من الرب الذي لم يتأخر في إظهار المعجزة: «وكان في تلك الليلة أن ملاك الرب خرج وضرب من جيش آشور مائة ألف وخمسة وثمانين ألفًا. ولما بكروا صباحًا إذا هم جميعًا جثثٌ ميتة. فانصرف سنحاريب ملك آشور وذهب راجعًا وأقام في نينوى. وفيما هو ساجدٌ في بيت نسروخ إلهه ضربه أدرملك وشرآصر ابناه بالسيف، ونجوَا إلى أرض أراراط، ومَلَك أسرحادون ابنه عوضًا عنه» (الملوك الثاني، ١٩: ٣٥–٣٧). وهكذا عادت يهوذا إلى حضن آشور بعد هذا التمرد القصير الأجل. ورغم الدمار الذي حلَّ بأراضيها فقد قُيِّض لها أن تعيش مستقلة قرابة قرنٍ آخر من الزمان تحت المظلة الآشورية. ولكن تدخلها في السياسة الدولية في عصر المملكة البابلية الجديدة قد قادها إلى حتفها. توفي حزقيا عام ٦٨٦ق.م. وخَلَفه ابنه مَنسي الذي حكم أربعين عامًا بعد وفاة أبيه. ويقصُّ سفر أخبار الأيام الثاني سيرة مَنسي على الوجه الآتي: «كان مَنسي ابن اثنتي عشرة سنة حين مَلَك، ومَلَك خمسة وخمسين عامًا في أورشليم، وعمل الشر في عينَي الرب حسب أرجاس الأمم الذين طردهم من الرب من أمام بني إسرائيل. وعاد فبنى المرتفعات التي هدمها حزقيا أبوه، وأقام مذابح للبعل، وعمل سواري وسجد لكل جند السماء وعبدها، وبنى مذابح في بيت الرب الذي قال عنه الرب: في أورشليم يكون اسمي إلى الأبد … ووضع تمثال الشكل الذي عمله في بيت الله … وكلم الرب مَنسي وشعبه فلم يصغوا، فجلب الرب عليهم رؤساء الجند الذين لملك آشور، فأخذوا مَنسي بخزامة وقيدوه بسلاسل نحاس، وذهبوا به إلى بابل. ولما تضايق طلب وجه الرب إلهه وتواضع جدًّا أمام إله آبائه وصلَّى إليه، فاستجاب له وسمع تضرعه وردَّه إلى أورشليم إلى مملكته» (أخبار الأيام الثاني، ٣٣: ١–١٣). وكما نلاحظ من هذا النص، فإن القبض على مَنسي ملك يهوذا لم يأتِ نتيجة تمردٍ أو عصيانٍ من قِبَله، ولا لتوقفه عن دفع الجزية، أو أي شيءٍ من هذا القبيل. ولسوف نرى بعد قليل، في نصٍّ للملك أسرحادون، سبب اعتقال مَنسي. في عهد أسرحادون (٦٨٠–٦٦٩ق.م.) شملت أراضي الإمبراطورية الآشورية مصر بكاملها، وأجزاء لا بأس بها من شمال أفريقيا. كما بسطت آشور سلطتها على جزر المتوسط وشواطئ اليونان وآسيا الصغرى، وصارت نحو أواسط القرن السابع قبل الميلاد أعظم وأوسع إمبراطوريةٍ عرفها التاريخ حتى ذلك الوقت. ولكن أسرحادون — الذي لم تقف طموحاته عند حدٍّ ولم تعرف المعقول — قد دق المسمار الأول في نعش آشور التي بدأت تنحدر نحو الهاوية، وأمضت ما تبقى لها من عمرٍ قصير بعد وفاته، في محاولاتٍ يائسة للسيطرة على تلك الرقعة الواسعة من الأراضي التي كانت تفوق قدرتها العسكرية والإدارية في ذلك الوقت. وقد بلغ جنون العظمة بأسرحادون حدًّا جعله يتسلى بإهانة وتعذيب ملوك الدول التابعة، فكان يأتي بهم من بلادهم كمشرفين على أحمال مواد البناء التي ينقلونها إلى آشور لبناء قصوره الجديدة بنينوى. وقد جاء اعتقال مَنسي ملك يهوذا في سياق هذا التصرف المجنون لملكٍ مهووس فقدَ كلَّ منطقٍ وصوابٍ في تفكيره وسلوكه. خلال ما تبقى من فترة حكم أسرحادون، وكامل فترة خليفته آشور بانيبال؛ لا يَرِد ذكرٌ ليهوذا في السجلات الآشورية، ولكننا نعرف من الأخبار التوراتية تتابُع ملكين على عرش يهوذا خلال هذه الفترة، هما آمون (٦٤١–٦٣٩ق.م.) ويوشيا (٦٣٩–٦٠٩ق.م.)، وقد حكم يوشيا فترةً طويلة تقدر بثلاثين سنة، شهد خلالها انهيار الإمبراطورية الآشورية وصعود الإمبراطورية الكلدانية (البابلية الجديدة). ولدينا في أخبار الملك يوشيا بسفر الملوك الثاني روايةٌ تستحق التوقف عندها قليلًا؛ لأنها تُظهر أن مملكة يهوذا حتى هذه العقود القليلة التي سبقت دمارها لم تكن على الدين التوراتي، ولم يكن أهلوها وحكامها وكهنتها يعرفون شيئًا عن ذلك الدين وطقوسه. فهيكل الرب كان ممتلئًا بتماثيل بعل وعشتاروت وغيرهما من آلهة كنعان، وبيوت البغاء المقدس تحيط بهذا الهيكل من كل جهاته، وكهنة يهوذا جميعًا يؤدون الطقوس الكنعانية على المرتفعات، التي كان سليمان قد بناها لعشتروت ولكموش ولملكوم وغيرهم من الآلهة. وقد اهتدى الملك يوشيا إلى الدين الحق هو وأهل مملكته (وفق الخبر التوراتي) بعد أن تم مصادفةً اكتشافُ مخطوطٍ في بيت الرب أثناء عملية ترميمه، يحتوي على سفر الشريعة. فجاء شافان كاتب الملك إلى حلقيا الكاهن وقال إنه وجد سفر الشريعة في بيت الرب، ودفع بالمخطوط إليه ليأخذه إلى الملك. فطلب الملك منه أن يقرأه أمامه ففعل، فخاف الملك خوفًا عظيمًا لأنه عرف أن غضب الرب قد اشتعل على يهوذا لأن آباءهم لم يسمعوا لكلام هذا السفر، ولم يعملوا وفق ما هو مكتوبٌ عليهم. ولنتابعْ ما جرى بعد ذلك، في سفر الملوك الثاني، الإصحاح ٢٣: «وأرسل الملك فجمعوا إليه كل شيوخ يهوذا وأورشليم، وصعد الملك إلى بيت الرب وجميع رجال يهوذا وكل سكان أورشليم معه، والكهنة والأنبياء وكل الشعب من الصغير إلى الكبير، وقرأ في آذانهم كل كلام الشريعة الذي وُجد في بيت الرب، ووقف الملك على المنبر وقطع عهدًا أمام الرب للذهاب وراء الرب وحفظ وصاياه وشهاداته وفرائضه بكل القلب وكل النفس، لإقامة كلام هذا العهد المكتوب في هذا السفر. ووقف جميع الشعب عند العهد. وأمر الملك حلقيا الكاهن العظيم وكهنة الفرقة الثانية وحراس الباب أن يُخرِجوا من هيكل الرب جميع الآنية المصنوعة للبعل وللسارية ولكل أجناد السماء، وأحرقها خارج أورشليم. ولاشَى كهنةَ الأصنام الذين جعلهم ملوكُ يهوذا ليوقدوا على المرتفعات في مدن يهوذا وما يحيط بأورشليم، والذين يوقدون للبعل، للشمس والقمر والمنازل ولكل أجناد السماء … وهدم بيوت المأبونين التي عند بيت الرب حيث كانت النساء ينسجن بيوتًا للسارية … والمذابح التي على سطح عُلِّية آحاز التي عملها ملوك يهوذا، والمذابح التي عملها مَنسي في داري بيت الرب هدمها الملك، والمرتفعات التي قبالة أورشليم التي بناها سليمان ملك إسرائيل لعشتروت رجاسة الصيدونيين، ولكموش رجاسة الموآبيين، ولملكوم كراهة بني عمون، نجَّسها الملك … ليقيم كلام الشريعة المكتوب في السفر الذي وجده حلقيا الكاهن في بيت الرب … ولكن الرب لم يرجع عن حمق غضبه العظيم؛ لأن غضبه حَمِي على يهوذا من أجل جميع الإغاظات التي أغاظه إياها مَنسي. فقال الرب: إني أنزع يهوذا أيضًا من أمامي كما نزعت إسرائيل» (الملوك الثاني، ٢٣: ١–٢٧). في عهد آشور بانيبال — الذي ورث عن أسرحادون عالمًا يموج بالفتن والاضطرابات — ظهر للعيان تفسُّخ الإمبراطورية الآشورية، بعد أن كانت عوامل هذا التفسخ تعمل في الخفاء خلال أكثر من قرن. ذلك أن المظهر البرَّاق للقوة العسكرية التي لا تُهزم يُخفي وراءه عملية انتحارٍ بطيء تُقدِم عليه المجتمعات العسكرية وهي منساقةٌ وراء نشوة انتصاراتها المتواصلة. ولم يكن إجهاز الكلدانيين على آشور سوى ضربةٍ أخيرة تُوجَّه إلى جثةٍ داخل درع سميك. فبعد وفاة آشور بانيبال قام نابو بولاصَّر الكلداني — الذي كان قد أعلن نفسه ملكًا في بابل — بالتعاون مع المملكة الميدية الفتية في إيران، وأوقعوا آشور بين فكَّيْ كماشة، فدمروا مدينة آشور عام ٦١٤ق.م.، ثم نينوى عام ٦١٢ق.م.، فتراجع الجيش الآشوري عن كامل مناطق آشور، وأقام لنفسه مقر قيادةٍ مؤقتة في حران، قبل أن يتشتت نهائيًّا ويختفي ذكر آشور من التاريخ. لم يتعرض النص التوراتي من قريبٍ أو بعيد لهذه الأحداث الجسام التي قادت إلى زوال آشور وصعود الإمبراطورية الكلدانية، ولكنه يذكر خبرًا عن حملة نخو الثاني على الفرات وهزيمته في كركميش، وذلك بمناسبة مرور نخو بأرض فلسطين في طريقه إلى الفرات، وتصدِّي يوشيا ملك يهوذا له لمنعه من متابعة الحملة. وهذا الخبر مذكورٌ في الملوك الثاني ٢٤، وفي أخبار الأيام الثاني ٣٥ أيضًا، حيث نقرأ: «بعد كل هذا … صعد نخو ملك مصر إلى كركميش ليحارب عند الفرات، فخرج يوشيا للقائه. فأرسل إليه رسلًا يقول: ما لي ولك يا ملك يهوذا. لست عليك اليوم، بل على بيت حربي (أي: المكان الذي سأحارب فيه)، والله أمر بإسراعي. فكُفَّ عن الله الذي معي فلا يهلكك. ولم يحوِّل يوشيا وجهه عنه بل تنكر لمقاتلته … بل جاء ليحارب في بقعة مجدُّو. وأصاب الرماة الملك يوشيا فقال لعبيده: انقلوني لأني جُرِحت جدًّا. فنقله عبيده وساروا به إلى أورشليم فمات هناك» (أخبار الأيام الثاني، ٣٥: ٢٠–٢٤). أما عن هزيمة نخو في كركميش فنقرأ عنها في مكانٍ آخر هو سفر إرميا: «كلمة الرب التي صارت إلى إرميا النبي عن الأمم، عن مصر عن جيش فرعون نخو ملك مصر الذي كان على نهر الفرات في كركميش، الذي ضربه نبوخذ راصر (= نبوخذ نصَّر) ملك بابل في السنة الرابعة ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا» (إرميا، ٤٦: ١–٢). لا يذكر الخبر التوراتي هنا أية دوافعَ حَدَت بيوشيا إلى التصدي لحملة نخو في مجدو. ولكن الأرجح أن ملك يهوذا — الذي لم يكن يعرف الكثير عن مخططات بابل المقبلة، وعن رغبتها ومقدرتها على ملء الفراغ الآشوري في منطقته — اعتقد أن هزيمته لنخو ملك مصر سوف تفتح أمامه الباب واسعًا من أجل ملء الفراغ الآشوري بنفسه والسيطرة على المنطقة. إن اكتفاء محرري التوراة بهذه الأخبار القليلة والمبعثرة عن تلك الفترة الحافلة في تاريخ المنطقة، والتي تزامنت مع الأحداث الأخيرة التي أدت إلى دمار أورشليم وزوال يهوذا، وعزوفهم عن تقديم صورةٍ ولو باهتة وعديمة التفاصيل عما كان يجري في ذلك الوقت؛ لا يمكن تفسيره فقط بجهلهم وعدم توفر المعلومات بين أيديهم؛ لأن بعضهم قد سمع بهذه الأخبار ممن عاصرها وشهدها، ولم يكن بحاجةٍ إلى مصادرَ خارجية، بل يجب تفسيره أيضًا من خلال أهداف ودوافع المحرر التوراتي، الذي كان التاريخ آخر همٍّ من همومه، ولا يرى من قوانين وحركة هذا التاريخ إلا تطورًا لجدلية العلاقة بين الشعب وربه، ولا يأبهُ لأي حدثٍ لا يتقاطع مع هذه الجدلية. «جاء نبوزردان رئيس الشُّرَط عبد ملك بابل إلى أورشليم، وأحرق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم، وكل بيوت العظماء أحرقها بالنار، وجميع أسوار أورشليم مستديرًا هدمها كل جيوش الكلدانيين الذين مع رئيس الشُّرَط، وبقية الشعب الذين بقوا في المدينة، والهاربون الذين هربوا إلى ملك بابل وبقية الجمهور، سباهم نبوزردان رئيس الشُّرَط. ولكنه أبقى من مساكين الأرض كَرَّامين وفلاحين …» (الملوك الثاني، ٢٥: ٨–١٣).
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/0.5/
خاتمةأفق الخرافة وبداية التاريخ اليهودي
لقد تتبعنا في القسم الأول من هذه الدراسة إسرائيل التوراتية كما رسمتها الأسفار المُسمَّاة بالأسفار التاريخية في كتاب التوراة، وبذلنا كل جهدٍ ممكن من أجل التحقق من الوجود التاريخي لكل مرحلةٍ من مراحل تشكُّلها وتطورها، وذلك ابتداءً من عصر الآباء، وانتهاءً بانهيار المملكة الموحدة وانقسامها إلى مملكتين في أواخر القرن العاشر قبل الميلاد، فلم نعثر على بيِّنة واحدة تؤكد ذلك الوجود. وعلى العكس، فإن الشواهد الجديدة التي تجمعت لدينا تنفي نفيًا قاطعًا أية إمكانيةٍ لظهور كيانٍ سياسي أو إثني من أي نوعٍ اسمه إسرائيل قبل أواسط القرن التاسع قبل الميلاد، وذلك عقب بناء مدينة السامرة التي صارت عاصمةً لمنطقة الهضاب المركزية في فلسطين، فهنا يظهر لأول مرة كيانٌ سياسي اسمه إسرائيل، وتأخذ ملامحه الإثنية بالتوضح عقب الاتجاه نحو المركزية السياسية التي بدأت تجمع تدريجيًّا القرى الزراعية التي نشأت حديثًا في عصر الحديد الأول، والتي جاء مستوطنوها من مصادرَ متنوعة لا من مصدرٍ واحد. ومرةً أخرى، فإن إسرائيل-السامرة هذه لا يربطها بصورة إسرائيل-السامرة في التوراة إلا أَوْهى الروابط. وكذلك يهوذا التي نشأت بعدها بقرنين من الزمان. فالدولتان قد نشأتا تباعًا في فلطسين بعد القرن العاشر قبل الميلاد، ولم تسبقهما مملكةٌ واحدة كانت أصلًا لهما، ولا وجود لأرضيةٍ مشتركة جمعت بينهما. وكما نشأت هاتان الدولتان تباعًا فقد دُمِّرتا تباعًا أيضًا، واختلفت مصائرهما التاريخية أيما اختلاف. إن البحث عن التاريخ في النص التوراتي هو عملٌ أشبه بالبحث عن السمسم في كيسٍ من البندق؛ لأن النص التوراتي ليس نصًّا تاريخيًّا بأي معيارٍ حديث أو قديم، وهو لم يقصد لأن يكون نصًّا تاريخيًّا، إنه قصة أصول يغيب فيها الحدث المدقَّق المحقَّق لصالح العقدة القصصية. وحتى عندما تتوفر للمحرر التوراتي بعض المعلومات التاريخية عن الفترات المتأخرة من حياة مملكتَي إسرائيل ويهوذا فإنه لا يضع هذه المعلومات في سياقها التاريخي الصحيح، ولا يعمد إلى فهمها من خلال الإطار العام للأحداث الجارية في المنطقة، بل من خلال المنظور الأيديولوجي اللاهوتي، الذي لا يرى في الحدث المرصود إلا نتاجًا لردود الفعل المتبادلة بين الإله وشعبه. إن الأسفار المدعوة بالتاريخية هي سلسلةٌ من المرويات الشعبية ذات الأصول المختلفة، جُمِعت إلى بعضها في نسيجٍ واهي الحبكة، وترتيب زمني مفروض عليها من خارجها، سواء فيما يتعلق بأحداث القصة الواحدة، أم فيما يتعلق بالقصص المتتابعة التي أُلصق بعضها إلى بعض، والتي تُظهر فجواتٍ لا يمكن عبورها بشكلٍ منطقي. أما الزمرة الثانية الرئيسية من أسفار التوراة، وهي أسفار الأنبياء، مثل إشعيا وإرميا وحزقيال، فليست إلا مجموعاتٍ من أقوالٍ ومأثوراتٍ حكموية قديمة، تختصر ألف عام تقريبًا من التقاليد النبوئية في فلسطين والمناطق المجاورة لها. وموضوع هذه التقاليد هو إدانة السلوك العام للناس، ونقد الحكومات، والكشف عن الانحرافات والمظالم والانحطاط الخلقي والنفاق الديني في المجتمع. وقد قام المحررون التوراتيون بجمع هذه المادة الغنية القديمة، فرتَّبوها وصنَّفوها ووضعوها على لسان شخصياتٍ نبوية متميزة قد يكون بعضها من أصل تاريخي. ثم جعلت هذه المادة تدور حول فكرةٍ أساسية في أسفار الأنبياء جميعها، وهي أن دمار إسرائيل ويهوذا كان بمثابة عقابٍ إلهي على خطايا الجماهير والحكام، وتجاهلهم عبادة الإله الحق، وأن الرحمة الإلهية سوف تلحق بالتوابين العائدين من السبي البابلي إلى حظيرة الرب. ورغم احتواء أسفار الأنبياء على العديد من الأخبار المتعلقة بدولتَي إسرائيل ويهوذا وأخبار فترة السبي البابلي إلا أن هذه الأخبار ترد خارج سياقاتها التاريخية، وتُوظَّف لخدمة الرؤية اللاهوتية. إنَّ همَّ المحرر التوراتي ليس همًّا تاريخيًّا بالدرجة الأولى، بل همٌّ تراثي، إنه يعمل على جمع وتصنيف وإعادة صياغة تركةٍ ثقافية شعبية متعددة النشأة والأصول وخطوط التداول، ليصنع منها قصة أصول. وضِمن هذا الجنس الكتابي فإن المحرر يلجأ إلى استبعاد ما حصل فعلًا، هذا إذا توفرت لديه المادة الموثقة، لصالح رغبته في تصديق سلسلةٍ ما من الأحداث، أو جَعْل قارئه في حالة تصديقٍ لها. وليس الناتج الأخير لهذه العملية الشاقة فعلًا والمعقدة إلا جنسًا كتابيًّا هجينًا لا يربطه بجنس الكتابة التاريخية إلا أَوْهى الروابط. لقد استطعنا من خلال النقد النصي والتاريخي والأركيولوجي للأسفار التاريخية أن نُظهر وبالتفصيل أن محرري التوراة في الفترات المتأخرة إبان العصر الفارسي لم يكن بين أيديهم معلومات تتعلق بتلك الفترات الموغلة في القِدَم التي يروون عن أحداثها، سواء أكانت هذه المعلومات مُتناقَلة شفاهًا أو كتابة، وذلك من عصر الآباء إلى انهيار المملكة الموحدة. أما المصادر الكتابية — التي يدَّعي المحررون في بعض المواضع الاستناد إليها — فإننا غير متأكدين من وجودها أصلًا، ولا من الطريقة التي عمد المحررون إلى الإفادة منها، وذلك مثل سفر ياشر وسفر موسى وغيرها. ففيما عدا مصر — التي لم يذكر النص التوراتي اسم فرعونها في سفر التكوين وفي سفر الخروج، ولم يورد أية معلوماتٍ يمكن أن تساعد على تبيُّن الحقبة الموازية في التاريخ المصري — فإن النص التوراتي لم يتعرض إلا للشعوب والقبائل المجاورة للمناطق الهضبية التي قامت على أراضيها فيما بعد دولتا إسرائيل ويهوذا، وذلك مثل موآب وآدوم وعمون في الشرق، وفلستيا في الغرب. وغالبًا ما وردت أسماء هذه الشعوب في سياقٍ زمني يتضمن مفارقةً تاريخية واضحة. فممالك شرقي الأردن التي قهرها موسى في آخر مراحل ملحمة الخروج لم تكن موجودةً في ذلك الوقت على ما يبينه المسح الأركيولوجي للمنطقة. ومنطقة الساحل الفلسطيني الجنوبي — التي يدعوها سفر الخروج بأرض الفلسطينيين (= الفلستيين) — لم تكن قد استقبلت زمن الخروج أية موجةٍ من موجات شعوب البحر من فلستيين وغيرهم. ومن بين الممالك الفينيقية على الساحل السوري جميعها لم يَرِد إلا ذكر صيدون. أما بقية تلك الممالك من أوغاريت إلى صور فغائبةٌ تمامًا. ومثلها تلك الممالك الكبرى التي ازدهرت من حول أولئك الإسرائيليين المفترضين عبر عصورهم. فبابل حمورابي في بلاد النهرين، وماري على الفرات الأوسط، وحلب (يمخاض) وآلالاخ في الشمال السوري، وقطنة وقادش في سوريا الوسطى؛ غائبةٌ عن سير عصر الآباء الذين كانوا يرتحلون بين الفرات وفلسطين، وكأنما يتحركون على مسرحٍ خالٍ تمامًا إلا من القبائل الرُّحَّل وآبار المياه في الواحات. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالممالك الحثية الجديدة في الشمال السوري، والممالك الآرامية الجديدة على الخابور والفرات وفي المناطق الغربية، التي ازدهرت منذ مطلع عصر الحديد، فجميعها غائبٌ عن عصر يشوع وعصر القضاة، وكذلك مصر التي كانت تسيطر في ذلك الوقت على وادي يزرعيل وعددٍ من النقاط الاستراتيجية الأخرى. وفي عصر المملكة الموحدة لا يَرِد ذكرٌ لآشور التي كان نفوذها قد تجاوز الفرات ووصل إلى مناطق الساحل، ولا للممالك الآرامية القوية التي كانت تقارع آشور على الفرات وفي الشمال السوري. وبدلًا من هذه الممالك التي تُجمِلها أخبار الملك داود تحت عنوان «آرام التي في عَبْر النهر»، فإن محرر سفر الملوك الأول يبتكر ممالك لم يَرِد لها ذكرٌ في التاريخ، ولم تقم الدلائل الأركيولوجية على وجودها، وذلك مثل آرام صوبة ومعكة وبيت رحوب وجيشور وغيرها. وبالمقابل فإنَّ السجلات الكتابية للحضارات القديمة جميعها لم تورد خبرًا واحدًا يدعم الرواية التوراتية من عصر الآباء إلى قيام أسرة الملك عُمري وبناء مدينة السامرة في النصف الأول من القرن التاسع قبل الميلاد. فمع قيام أول أسرة حاكمةٍ في إسرائيل، وهي أسرة الملك عُمري الذي بنى السامرة حوالي عام ٨٨٠ق.م.، يبدأ اسم إسرائيل بالظهور في وثائق الشرق القديم، ولكن بصيغة إسرائيل-السامرة لا بصيغة دولة كل إسرائيل التوراتية. أما دولة يهوذا فلم يَرِد ذكرها، ولا ذكر أحدٍ من ملوك أورشليم إلا بعد مرور قرنٍ ونصف القرن على ورود اسم إسرائيل وأسرة عُمري. فقد ورد اسم آحاز ملك يهوذا في وثائق آشور حوالي عام ٧٣٢ق.م. بشكلٍ عارض، وضمن لائحة الملوك الذين أرسلوا الجزية إلى الملك تغلات فلاصَّر في نينوى، وهذا أول ذكرٍ في التاريخ لأي ملكٍ من ملوك يهوذا أو أورشليم، الأمر الذي يقدِّم بيِّنة إضافية على أن مملكة يهوذا قد نشأت بعد مملكة إسرائيل ولم تعاصرها إلا فترةً قصيرة فقط. من هنا، فإن ملوك أورشليم السابقين الذين يَرِد ذكرهم في المرويات التوراتية على أنهم ملوك يهوذا لم يكونوا (في حال صحة الأخبار التوراتية عن أسمائهم وسنوات حكمهم) سوى أمراء محليين لمدينة أورشليم التي كانت صغيرةً ومنعزلة عن الأحداث الدولية. وتقدِّم نتائج علم الآثار صورةً أكثر تخييبًا للآمال في العثور على إسرائيل التوراتية. فالمواقع الفلسطينية جميعها في منطقتَي الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا، وخارجهما؛ تُظهر استمرارية ثقافية محلية كنعانية فيما بين عصر البرونز الأخير وعصر الحديد الثاني، ولا يوجد أي دليلٍ أثري على حلول أقوامٍ جديدة في هذه المنطقة جلبت إليها تقاليد ثقافية مغايرة. وقد سقطت اليوم إلى غير رجعة نظرية الاقتحام العسكري لأرض كنعان من قِبَل القبائل الإسرائيلية الموحدة تحت قيادة يشوع بن نون، وتدمير مدنها الرئيسية؛ لأن نتائج التنقيب الأثري في هذه المواقع تنفي الرواية التوراتية. أما عن المملكة الموحدة، فإن المسح الأركيولوجي للمناطق الهضبية — التي كانت نواة هذه المملكة — ينفي وجود قاعدةٍ سكانية واقتصادية في هذه المناطق خلال القرن العاشر، تسمح بقيام مثل هذه المملكة. فمملكة داود وسليمان ليستا مستبعدتين تاريخيًّا فقط، بل إنهما مستحيلتا الوجود. ناهيك عن نتائج التنقيب الأثري في موقع أورشليم ذاتها، والذي أظهر أن مدينة أورشليم في القرن العاشر قبل الميلاد لم تكن إلا بلدةً صغيرة جدًّا، ومن غير الممكن أن تكون هذه البلدة قد استطاعت بناء هيكل ديني يربو على مساحتها، وبناء قصورٍ ملكية لسليمان وزوجاته، وصروحًا مدنية وإدارية ضخمة. وذلك إضافةً إلى عدم العثور على أي شاهدٍ أثري على أن هذه الأبنية قد قامت في يومٍ من الأيام. أما في القسم الثاني من دراستنا فقد تتبعنا اتجاهات البحث التاريخي الحديث في أصول إسرائيل، وبسطنا أمام القارئ أهم النظريات الحديثة في هذا الموضوع، فوجدنا أنه فيما عدا البقية المتعنتة من أصحاب الاتجاه المحافظ التقليدي فإن نظريات الباحثين المحدثين قد نحَّت جانبًا الرواية التوراتية في أصول إسرائيل، وحاول كلٌّ منها على طريقته البحث عما حدث فعلًا خلال الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد وأدى إلى نشوء إسرائيل. ثم انتقلنا اعتمادًا على النتائج الميدانية للمسح الأركيولوجي الشامل لمنطقتَي الهضاب المركزية ومرتفعات يهوذا إلى رسم الصورة الأكثر قربًا إلى الحقيقة التاريخية لتشكُّل مملكة إسرائيل التاريخية ومملكة يهوذا، ووجدنا أن هاتين الدولتين قد نشأتا على الخلفية الثقافية العامة لعصر البرونز الأخير في فلسطين في حقبتين متباعدتين وشروطٍ مختلفة. فبينما اكتملت القاعدة السكانية والاقتصادية لقيام إسرائيل في أوائل القرن التاسع قبل الميلاد، فإن القاعدة السكانية والاقتصادية اللازمة لقيام يهوذا لم تكتمل قبل أواخر القرن الثامن قبل الميلاد. وقد جاء سكان هاتين الدولتين من مصادر فلسطينية محلية متعددة ومن المناطق الرعوية في البلاد المجاورة، إضافةً إلى شرائحَ سكانية مُقتلَعة من مواطنها في حوض المتوسط. ويُظهر الطابع الثقافي الكنعاني السائد في المواقع التي تم التنقيب فيها جميعها أن الشريحة السكانية المحلية لا بد وأنها كانت الغالبة على التركيب السكاني في إسرائيل ويهوذا. من هنا، فإن الروابط التي يمكن أن تكون قد جمعت بين هاتين المملكتين ليست أكثر من الروابط التي جمعت أية دولتين أُخريَين في منطقة فلسطين والجنوب السوري، والقاعدة المشتركة بينهما ليست إلا من ابتكار قصة الأصول التوراتية. وقد بيَّنا أن المساحة التي شغلتها كل من إسرائيل ويهوذا لم تتعدَّ المناطق الهضبية من فلسطين إلا في الأزمنة المتأخرة، وعلى شكل مدٍّ استعماري قصير الأجل، لم يتوصل إلى استيعاب سكان المناطق المُستعمَرة وضم أراضيها بشكلٍ كامل. وإذا كان كلٌّ من إسرائيل ويهوذا قد حقق في منطقته الهضبية نوعًا من الإثنية خلال الفترة القصيرة لحياته، فإن هذه الإثنية لم تصمد أمام التخريب الشامل للطابع الإثني لفلسطين نتيجة لسياسة الاقتلاع والتهجير الآشورية، ثم البابلية. ودخلت مناطق فلسطين جميعها العصر الفارسي وقد تغيرت بشكلٍ جذري. إضافة إلى تباين أصول إسرائيل ويهوذا، واختلاف مسار حياتهما ومصائرهما التاريخية، فإن القاعدة الدينية التي جمعت بينهما لم تكن أكثر تجانسًا من القاعدة الدينية التي جمعت أية مملكتين في فلسطين وسوريا الجنوبية خلال تلك الفترة من حياتهما. لقد ابتكرت قصة الأصول التوراتية كيانًا إثنيًّا اسمه «كل إسرائيل» منذ مرحلة الخروج من مصر، ثم ابتكرت له صيغةً سياسية وجدتها في مملكة داود وسليمان. ولكي تكتمل وحدة هذا الكيان فقد سحب محررو التوراة تصوراتهم الدينية التي نَضِجت خلال العصر الفارسي على مراحل قصة الأصول جميعها، وجعلوا الإله الواحد المجرَّد الذي بشَّرت به أسفار الأنبياء إلهًا للقبائل الإسرائيلية منذ بداياتها الأولى. فهذا الإله المتأخر هو نفسه إله الآباء، وهو الذي أعطى الشريعة لموسى على جبل حوريب، وهو الذي بنى له سليمان هيكلًا في أورشليم. إلا أن المحررين لم يفلحوا في ضبط الإطار الأيديولوجي الديني لتلك القصص القديمة التي بقيت تسبح في أجوائها الدينية الأصلية، وكهنوت أورشليم في العصر الفارسي الذي كان مدفوعًا بهاجسٍ لاهوتي توحيدي بتأثير المناخ الفكري السائد خلال العصر البابلي الجديد والعصر الفارسي قد أخفق في فرض رؤياه عبر تفاصيل قصة الأصول. يطالعنا سفر إشعيا على وجه الخصوص بعددٍ من التصورات الجديدة حول إلهٍ واحد شمولي لم نعهدها عبر أسفار الكتاب. فنقرأ فيه على سبيل المثال: «أنا هو. أنا الأول وأنا الآخر، ويدي أسست الأرض ويميني نشرت السموات. أنا أدعوهن فيقفن معًا» (٤٨: ١٢–١٣). «هكذا قال الرب: السماء كرسيي والأرض موطئ قدمي. أين البيت الذي تبنون لي، وأين مكان راحتي، وكل هذه قد صنعتها يدي» (٦٦: ١–٢). «أنا الرب ولا إله غيري، إلهٌ بارٌّ ومخلص ليس سواي. التفتوا إليَّ وأخلصوا يا جميع أقاصي الأرض، لأني أنا الله وليس آخر. بذاتي أقسمت، خرج من فمي الصدق كلمة لا ترجع: أنه لي تجثو كل ركبةٍ، يحلف كل لسان» (٤٥: ٢١–٢٣). وهذا الإله الجديد — الذي يعلن نفسه إلهًا للشعوب جميعها في أقاصي الأرض — لا يرضى بالذبائح، ولا تلذُّ له رائحة المُحرَقات مثل ذلك الإله القديم، بل يطلب الخير في الناس والعمل الصالح. نقرأ في عاموس: «اطلبوا الخير لا الشر لكي تحيوا … بغضتُ كرهتُ أعيادكم، ولست ألتذُّ باعتكافاتكم. إني إذا قدَّمتم لي مُحرَقاتكم وتقدماتكم لا أرضى، وذبائح السلامة من مُسمَّناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع. وليَجرِ الحق كالمياه، والبر كنهرٍ دائم» (عاموس، ٥٥: ١٤). وفي هوشع نقرأ: «إني أريد رحمةً لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من مُحرَقات» (هوشع، ٦: ٦). وفي إشعيا نقرأ أيضًا: «لماذا لي كثرة ذبائحكم؟ يقول الرب. أُتخِمتُ من مُحرَقات كباش وشحم مُسمَّنات … اغتسلوا، تنقوا، اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني» (إشعيا، ١: ١١–١٧). وبالطبع فإن إشعيا، أو أي واحدٍ من هؤلاء الأنبياء، سوف يصاب بالهلع إذا قرأ في الأسفار السابقة أن الله قد تناول وجبة الغداء تحت الشجرة في ضيافة إبراهيم وسارة، وأن يعقوب قد صارعه حتى طلوع الفجر عند مَخاضة يبوق، وأن سبعين من شيوخ إسرائيل قد صعدوا جبل حوريب مع موسى ورأوا الله وجهًا لوجه، وأكلوا وشربوا هناك، إلى آخر هذه القصص التي تنتمي إلى أيديولوجيا مختلفة تمامًا عن أيديولوجيا أسفار الأنبياء. وقد انتقل بنا البحث أخيرًا إلى دراسة وتفسير الأحداث التي جرت في فلسطين وبلاد الشام خلال النصف الأول من الألف الأول قبل الميلاد، وألقينا الضوء على دور مملكة آرام دمشق في تلك الأحداث وعلاقاتها مع آشور وبقية دول المنطقة، ورصدنا بالتفصيل المجريات التي قادت إلى نهاية دمشق كمملكةٍ مستقلة، وإلى دمار كلٍّ من إسرائيل ويهوذا، وذلك من خلال منهجٍ علمي يعتمد بالدرجة الأولى على السجلات التاريخية والوثائق الكتابية، ويربط الأسباب بالنتائج دون شَطط في الخيال، أو تغليب للهوى الشخصي، أو مسايرة لما يعرفه الناس على حساب ما يجب أن يعرفوه. عند هذه النقطة، أعتقد أن السؤال الكبير الذي صرنا مُطالَبين بالإجابة عليه هو التالي: إذا لم تكن إسرائيل التوراتية قد وُجدت قط، وإذا لم تكن دولتا السامرة ويهوذا قد نشأتا عن المملكة الموحدة لداود وسليمان، ولم يكن لهما قاعدةٌ مشتركة جمعتهما على أي صعيد، وإذا لم يكن للدين التوراتي أي أثرٍ في فلسطين قبل العصر الفارسي، ولم يكن ليهود ما بعد السبي علاقات مباشرة بأهل إسرائيل ويهوذا ما قبل السبي؛ فلماذا وكيف تم خلق هذه الخرافة الكبرى؟ فالإمبراطور البابلي يُعيد إلى حران المهدَّمة والمهجورة إلهها القديم التقليدي سن، ولكن لا كإلهٍ محلي، بل كإلهٍ شمولي أوحد يجمع إليه سلطات بقية الآلهة العظام ممن تحولوا إلى أتباعٍ معيَّنين في وظائفهم من قِبَله، يستمدون قدرتهم على الفعل من الألوهة الكلية القدرة المتجسِّدة في سن. وتحمل عملية إحياء عبادة الإله القديم هنا كل معاني الخلق الجديد لمعتقدٍ وعبادةٍ وطقوس لا تربطها بالصورة الماضية إلا أَوْهى الروابط. ولكن هذا المعتقد الجديد — الذي يدور حول إلهٍ قديم في صورةٍ جديدة — يحتاج إلى مجتمعٍ جديد يتلاحم حول الهيكل الذي قام في منطقة خلت من سكانها الذين شتتهم الأَسر والنفي أو الهجرة. من هنا، فقد ساق نابونيد إلى حران جماعاتٍ من مناطق متفرقة من الإمبراطورية، بعضهم ولا شك من سكان حران السابقين، وبعضهم من المهجَّرين من مناطقَ أخرى، وأعطاهم وطنًا يعملون على بنائه، وإلهًا شموليًّا هو الإله القديم لحران وقد غدا الآن ممثلًا للصورة الإلهية في عالم الإمبراطورية البابلية الجديدة. إن تقديم الإمبراطور البابلي هنا في صورة المنقذ الذي يعيد الآلهة المنفية إلى معابدها، والشعوب المهجَّرة إلى أراضيها، والأفكار الجديدة التي يقوم عليها هذا النص ونصوص التهجير البابلية الأخرى؛ يدلنا على أن الإدارة الإمبراطورية كانت في طريقها إلى جمع شعوب الإمبراطورية تدريجيًّا تحت معتقدٍ ديني، يبحث في كل إلهٍ محلي عن صورة للإله الأوحد البابلي، الذي بدأ يتخذ اسم «إله السماء» لا بالمفهوم القديم لإلهٍ موكل بالسماء في مقابل آلهةٍ أخرى موكلةٍ بالأرض أو بالهواء أو بغيرها، بل بالمفهوم الشمولي الجديد لقوة السماء باعتبارها القوة الإلهية المطلقة. إلا أن عمر الإمبراطورية البابلية القصير، وسقوط بابل أخيرًا بيد الفاتح الفارسي؛ قد وضع إكمال هذا المشروع بين يدي القوة الجديدة الصاعدة التي ورثت كلًّا من بابل وآشور لفترةٍ طويلة قادمة. في هذا السياق التاريخي والمناخ الفكري نستطيع فهم الأخبار التوراتية حول «إعادة بناء» هيكل الرب في أورشليم، وإحياء المجتمع القديم في المنطقة. إن «العائدين» إلى أورشليم منذ أواخر القرن السادس قبل الميلاد لم يكونوا استمرارًا لأولئك المهجَّرين على يد نبوخذ نصَّر، وما بنوه في أورشليم من هيكلٍ ومدينةٍ لم يكن استمرارًا للبنية القديمة، بل بنية جديدة تحتضن مجتمعًا جديدًا تم تصميمه وفق التصورات العامة السياسية والأيديولوجية للنظام العالمي الفارسي. إن قراءةً تحليلية متأنية لسفر عزرا ونحميا — اللذين يقدمان لنا معظم المادة الإخبارية عن «العودة» و«إعادة البناء» — سوف تكشف لنا بقية القصة. فمع هذين السفرين نغادر تاريخ إسرائيل وندخل في تاريخ «اليهودية». رغم أننا لا نملك وثيقةً فارسية تخبر عن عودة المهجَّرين من يهوذا في زمن الملك قورش أو في زمن خلفائه، إلا أنه لا يوجد لدينا من الأسباب ما يدعو إلى الشك في الخطوط العامة لقصة «العودة» كما يرويها سفرا عزرا ونحميا؛ لأنها تتفق مع الإطار العام للسياسة الفارسية، وعلى الأخص بيان الملك قورش الوارد في الإصحاح الأول من سفر عزرا، الذي يسير على النهج الإعلامي الفارسي الذي عرفناه، حيث نقرأ ما يلي: «في السنة الأولى لكورش ملك فارس، عند تمام كلمة الرب بفم إرميا، نبَّه الرب روح كورش ملك فارس فأطلق نداءً في كل مملكته وبالكتاب أيضًا قائلًا: هكذا قال كورش ملك فارس: جميع ممالك الأرض دفعها لي الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتًا في أورشليم التي في يهوذا. مَن منكم مِن كل شعبه ليكن إلهه معه ويصعد إلى أورشليم التي في يهوذا فيبني بيت الرب إله إسرائيل، هو الإله الذي في أورشليم. وكل من بقي في أحد الأماكن حيث هو متغرب، لينجده أهل مكانه بفضةٍ وبذهبٍ وبأمتعةٍ، مع التبرع لبيت الرب الذي في أورشليم … والملك كورش أخرج آنية بيت الرب التي أخرجها نبوخذ نصَّر من أورشليم وجعلها في بيت آلهته، أخرجها كورش ملك فارس وعدَّها لشيشبصَّر رئيس يهوذا، وهذا عددها … والكل أصعده شيشبصَّر عند إصعاد السبي من بابل إلى أورشليم» (عزرا، ١: ١–١١). نلاحظ في هذا النص المطابقة التامة بين إله قورش وإله المجتمع الجديد في أورشليم، واستعمال لقب «إله السماء» لأول مرة في معرض الإشارة إلى الإله القديم يهوه الذي لبس الآن لَبوسًا جديدًا باعتباره صورةً محلية عن الإله الشمولي للإمبراطورية الفارسية. وهذا ما يُظهِره بكل وضوحٍ قول قورش: «جميع ممالك الأرض دفعها لي الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتًا في أورشليم.» كما نلاحظ أيضًا تطابق هذا النص مع إعلان الملك البابلي نابونيد الذي قال: «تنفيذًا لأمر إلهي، أعدتُ بناء إهلهول معبد سن، وسُقت إلى حران جماعاتٍ من بابل ومن سوريا العليا … إلخ، وجميعهم ممن عهد إليَّ بهم الإله سن ملك الآلهة. وعند اكتمال المعبد أتيت إليه بالإله سن … إلخ فأكملت بذلك فريضة سن ملك الآلهة ورب الأرباب في السماء.» وبشكلٍ خاص، تظهر المطابقة بين «إله السماء» الجديد ويهوه القديم في سفر إشعيا الذي يُلقِّب قورش بمسيح الرب: «هكذا يقول الرب لمسيحه كورش، الذي أمسكتُ بيمينه لأدوس أمامه أُممًا … أنا أسير قُدامك، والهضابَ أُمهِّد، وأعطيك ذخائر الظلمة وكنوز المخابئ، لكي تعرف أني أنا الرب إله إسرائيل. أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي» (إشعيا، ٤٥: ١–٦). وفي الواقع، فإن كل التصورات الواردة في سفر إشعيا عن الإله الشمولي، والجديدة تمامًا على المناخ الديني التوراتي (وخصوصًا في الإصحاحات من ٤٠ إلى ٤٨) تأتي في سياق المطابقة بين الإله المحلي القديم والإله الشمولي الجديد للإمبراطورية الفارسية؛ إله السماء، وهذا الإله العائد مع المسبيين ليقيم في هيكله الجديد لا يربطه بالإله القديم يهوه إلا الاسم فقط. يقصُّ علينا سفرا عزرا ونحميا القصة الكاملة للعودة وبناء الهيكل ثم أسوار المدينة. ونعرف أن العودة قد جاءت على عدة موجات؛ كانت أولاها بقيادة المدعو شيشبصَّر ابن الملك يهوياقين الملك الأسبق ليهوذا. ويبدو أن هذه الموجة قد تحركت نحو أورشليم بأعدادٍ قليلة عقب دخول قورش إلى بابل عام ٥٣٩ق.م. بوقتٍ قصير. وقد جاء شيشبصَّر إلى أورشليم واليًا عليها، وباشر بوضع الأساسات لبناء الهيكل، ولكنه لم يستطع متابعة المهمة (عزرا، ١: ٧–١١، و٥: ١٤–١٦)، ثم يختفي شيشبصَّر من مسرح الأحداث دون تفسيرٍ ظاهر. وفي السنوات الأولى لحكم الملك داريوس (٥٢٢–٤٨٦ق.م.) تنطلق الموجة الثانية من العائدين، وتعدادها ٤٢٣٦٠ عدا العبيد، بقيادة الوالي الجديد على أورشليم المدعو زَرُبابل ومعه يشوع الكاهن. وقد زودهم داريوس بمخططٍ لهيكل أورشليم أُعد في عهد الملك قورش، وأعطى أوامره إلى عامله على مناطق غربي الفرات ليقدم لزَرُبابل نفقة بناء الهيكل من خراج تلك المناطق، ويعطيه كل ما يحتاجه في ذلك دون تقصيرٍ أو تردد (عزرا، ٦: ١–١٢). وهنا يبدو بوضوحٍ تام من مضمون أمر داريوس المتضمن بناء الهيكل أن الإله الذي يُقام له هذا الهيكل هو إله داريوس بالدرجة الأولى قبل أن يكون إلهًا للعائدين. نقرأ في خاتمة أمر داريوس ما يأتي: «وما يحتاجون إليه من الثيران والخراف والكباش محرقةً لإله السماء لتُعطَ لهم يومًا بيوم، حتى لا يهدءوا عن تقريب روائح سرور لإله السماء، والصلاة لأجل حياة الملك وحياة بنيه … والله الذي أُسكن اسمه هناك يُهلك كل ملكٍ وشعبٍ يمد يده لتغيير أو هدم بيت الله هذا الذي في أورشليم. أنا داريوس قد أمرتُ، فليُفعلْ عاجلًا» (عزرا، ٦: ٩–١٢). إن اهتمام الملك داريوس ببناء الهيكل وإرسال الدفعة الثانية من العائدين لإنعاش المجتمع الأورشليمي؛ ينبغي أن يُفهم من خلال عملية الإصلاح الإداري الشامل التي قادها في أنحاء الإمبراطورية جميعها، وعملية ترميم وتنشيط البُنى السياسية المحلية في كل مكان، سيرًا على المبادئ الأولى التي وضعها الملك قورش. وقد اكتمل بناء هيكل أورشليم في السنة السادسة لحكم داريوس (عزرا، ٦: ١٤–١٥). ولكننا لا ندري بالفعل فيما إذا كان زَرُبابل هو الذي أنهى بناء الهيكل، لأن نص سفر عزرا يتوقف عن ذكره بشكلٍ مفاجئ وقبل إنهاء الهيكل عام ٥١٦ق.م.، كما يتوقف أيضًا عن ذكر الكاهن يشوع؛ الرجل الثاني بعد زَرُبابل. وعند تدشين الهيكل لا تظهر هاتان الشخصيتان في الاحتفال الديني الكبير الذي أُقيم بهذه المناسبة. بعد عامٍ من انتهاء العمل في بناء هيكل أورشليم، يقوم المدعو عزرا الكاهن بقيادة الموجة الثالثة من العائدين بأمرٍ من الملك أرتحشتا (أرتازكسريس)؛ خليفة داريوس الأول. نقرأ في سفر عزرا: «في مُلك أرتحشتا ملك فارس؛ عزرا بن سرايا صعد من بابل، وهو كاتبٌ ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل. وأعطاه الملك حسب يد الرب إلهه كل سؤله. وصعد معه من بني إسرائيل والكهنة واللاويين … إلخ، إلى أورشليم في السنة السابعة لأرتحشتا الملك … لأن عزرا هيَّأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها، وليُعلِّم إسرائيل فريضةً وقضاءً، وهذه صورة الرسالة التي أعطاها الملك أرتحشتا لعزرا الكاهن الكاتب، كاتب وصايا الرب وفرائضه على إسرائيل: من أرتحشتا ملك الملوك إلى عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء الكامل، قد صدر مني أمرٌ أن كل من أراد في مُلكي من شعب إسرائيل وكهنته واللاويين أن يرجع إلى أورشليم معك فليرجع. من أجل أنك مرسلٌ من قِبَل الملك ومُشيريه السبعة لأجل السؤال عن يهوذا وأورشليم حسب شريعة الرب إلهك التي بيدك، ولحمل فضةٍ وذهبٍ تبرع به الملك ومشيروه لإله إسرائيل، الذي في أورشليم مسكنه … ومني أنا أرتحشتا الملك صدر أمرٌ إلى كل الخَزَنة الذين في عَبْر النهر أن كل ما يطلبه منكم عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء فليُعمَل بسرعة … كل ما أمر به إله السماء فليُعمَل باجتهادٍ لبيت إله السماء … أما أنت يا عزرا فحسب حكمة إلهك التي بيدك ضع حكامًا وقضاة يقضون لجميع الشعب الذي في عَبْر النهر، مِن جميع مَن يعرف شرائع إلهك، والذين لا يعرفون فعلِّمهم. وكل من لا يعمل شريعة إلهك وشريعة الملك فليُقضَ عليه عاجلًا إما بالموت أو بالنفي أو بغرامة المال والحبس» (عزرا، ٧: ١–٢٦). لقد جاء عزرا بسفر الشريعة، كما يسميه نص عزرا ونص نحميا، ومصدره البلاط الفارسي، ثم قرأ فقراته على مسامع الشعب — الذي لم يكن يعرف عنه شيئًا — في احتفالٍ عظيم، وأخذ عليهم عهدًا وميثاقًا بقبوله. نقرأ في نحميا: «اجتمع كل الشعب كرجلٍ واحد إلى الساحة التي أمام باب الماء، وقالوا لعزرا الكاتب أن يأتي بسفر شريعة موسى التي أمر بها الرب إله إسرائيل. فأتى عزرا بالشريعة أمام الجماعة … وقرأ بها من الصباح إلى نصف النهار أمام الرجال والنساء والفاهمين، وكانت آذان الشعب نحو سفر الشريعة … وبارك الرب الإله العظيم عزرا. وأجاب جميع الشعب: آمين آمين، رافعين أيديهم، وخرُّوا وسجدوا للرب على وجوههم إلى الأرض. ويشوع وباني … إلخ، واللاويون أفهموا الشعب الشريعة، والشعب في أماكنهم، وقرءوا في السفر في شريعة الله ببيانٍ، وفسَّروا المعنى، وأفهموهم القراءة … وفي اليوم الثاني اجتمع رؤساء آباء جميع الشعب والكهنة واللاويون إلى عزرا الكاتب ليُفهمهم كلام الشريعة» (نحميا، ٨: ١–١٣). وبعد ذلك يعطي الشعب عهدًا وميثاقًا بقبولهم للشريعة أمام عزرا الكاهن الكاتب، ونحميا الإداري والسياسي الذي عيَّنه الفرس واليًا على أورشليم: «ومن أجل ذلك، نحن نقطع ميثاقًا ونكتبه، ورؤساؤنا ولاويونا وكهنتنا يختمون … والذين ختموا هم نحميا وصدقيا و… إلخ. وباقي الشعب والكهنة واللاويين وكل الذين انفصلوا من شعوب الأراضي إلى شريعة الله، ونسائهم وبنيهم وبناتهم، كل أصحاب المعرفة والفهم لَصِقوا بإخوتهم وعظمائهم، ودخلوا في قسم وحِلف أن يسيروا في شريعة الله التي أُعطيت عن يد موسى عبد الله، وأن يحفظوا ويعملوا جميع وصايا الرب سيدنا وأحكامه» (نحميا، ٩: ٣٨، و١٠: ١–٢٩). إن ما تقوله لنا هذه الفقرات السابقة من سفر نحميا هو أن عزرا هذا قد جاء إلى أورشليم بشريعةٍ، أو بنواة شريعةٍ، جديدة كل الجِدَّة على المجتمع الآخذ بالتشكُّل في هذه المنطقة التي يعاد إحياؤها وفق السياسة العامة لترميم مقاطعات الإمبراطورية الفارسية، التي أُفرغت من سكانها، وعانت من تخريب الحاكم السابق. وقد كان الشعب يستمع إلى فقرات هذا القانون لأول مرة، من هنا فقد كان على عزرا أن يشرح فقراته للكهنة واللاويين ورؤساء الشعب ليعمل هؤلاء على شرحها للبقية وإفهامهم مضمونها. وبالطبع فإن هذا الشرح وإعادة الشرح لا يمكن أن يكون موضوعه شريعةً موجودة بين أيدي الشعب، تنظم أحواله الدينية والدنيوية، وترقى إلى أيام موسى. وليست تسمية هذه الشريعة في سفرَي عزرا ونحميا بشريعة موسى إلا لمسةً تحريرية وضعها المحررون عندما ألحقوا أخبار الفترة الفارسية بالقصة التوراتية الطويلة. وفي الحقيقة فإن الميثاق الذي أخذته الجالية الجديدة في أورشليم على نفسها بقبول شريعة الله وشريعة الملك هو «العهد الأول» الذي يتم بين إله السماء الجديد في هيكل أورشليم وبين شعبه الجديد، وهو الذي أسقطه المحررون على قصة الأصول فعقدوه منذ البداية بين إبراهيم وإلهه، وجددوه مع بقية الآباء. ورغم أن اللمسة التحريرية تجعل من هذا العهد نتاجًا للرضا العام به وقبوله غير المشروط من قِبَل الشعب، إلا أن المضامين الأصلية للخبر واضحةٌ كل الوضوح وتؤدي عكس ذلك، فالجالية الجديدة في أورشليم لم يكن أمامها إلا أحد خيارين؛ فإما قبول شريعة الله وشريعة الملك أو مواجهة أقسى العقوبات. وهذا ما تنص عليه آخر فقرات أمر الملك الفارسي التي تنص على أن «كل من لا يعمل شريعة إلهك وشريعة الملك فليُقضَ عليه عاجلًا إما بالموت، أو بالنفي، أو بغرامة المال والحبس» (عزرا، ٧: ٢٦). وهذا يعني أننا أمام نوعٍ من «عقد الإذعان» المفروض من قِبَل السلطة الفارسية، وأن مجتمع أورشليم لم يكن أمامه سوى خيارٍ واحد هو القبول بلائحة القوانين الجديدة التي تنظم أحواله الدينية والاجتماعية والسياسية، وفق الخطة الموضوعة لهذه المنطقة من الإمبراطورية. لا يعطي سفر عزرا ونحميا كثيرًا من التفاصيل حول مضمون الشريعة الجديدة، والفقرات القليلة المذكورة في نحميا ١٠ لا تشبه في صياغتها ومضمونها شريعة موسى التي فصَّلتها الأسفار الخمسة، إلا أننا نستطيع تخمين مصادر وموضوعات سفر الشريعة هذا. فأما الموضوعات فقد تركزت حول المعتقد الديني والطقوس المكملة له، وحول القضايا الإدارية والتنظيمية للبنية المدنية الجديدة، والأحوال الشخصية للجالية الجديدة في منطقة اليهودية، وهي أورشليم وما يحيط بها. وقد تم ربط هذه القوانين الناظمة للحياة الدنيوية للجماعات بالمعتقد الديني لإعطائها تأييدًا مزدوجًا. وأما مصادر سفر شريعة عزرا فمتعددة. فلدينا أولًا: الأيديولوجيا الدينية الفارسية المتعلقة بإله السماء الفارسي أهورا مزدا، الذي سعى ملوك فارس لرفعه إلهًا أوحد للإمبراطورية عن طريق مطابقته تعسفيًّا مع الآلهة المحلية للمقاطعات المحكومة، وخصوصًا تلك المقاطعات الداخلة في برنامج التجديد والإحياء. وثانيًا: لدينا القوانين والشرائع الفارسية التي حاولت الإدارة الإمبراطورية من خلالها تنميط أساليب الإدارة والحكم في المقاطعات. وثالثًا: لدينا التقاليد المحلية المُتجذرة في المنطقة منذ القِدَم. وبالطبع، فإن هذه النواة الأولى للشريعة — والتي صَلُحت في البداية لخلق الاستقرار في مجتمع أورشليم — لم تبقَ على حالها. والكاهن عزرا الذي يمكن أن يُدعى بحق «أبا اليهودية» قد عمد فيما بعد إلى توسيع وتطوير هذه النواة بما يتلاءم مع التقاليد القديمة في المنطقة من جهةٍ، ومع مستجدات حياة الجماعة. ثم جاء تلامذته وخلفاؤه، ممن شكَّلوا الآن كهنوتًا رسميًّا راسخًا في أورشليم، فتابعوا هذه المهمة، وأخذوا على عاتقهم فوق ذلك ابتكار أصولٍ لهذه الشريعة تجعل منها تقليدًا مترسخًا في المنطقة لا أمرًا عارضًا مفروضًا عليها من الخارج. وهكذا ابتدأ العمل في قصة إسرائيل التوراتية. ففي سياق عملية ابتكار تاريخٍ للشريعة بهدف تأصيلها وتثبيتها كان لا بد من ابتكار أحداثٍ وشخصياتٍ تحمل هذا التاريخ وتطوره من مرحلةٍ إلى أخرى، فابتدأت القصة بشكلها الجنيني المتواضع ثم أخذت بالتشعب والتوسع، ونشأت على جوانب الخط الرئيسي لها قصصٌ متفرقة متنوعة معظمها مُستمَد من التراث المحلي، تم اقتباسه وإدماجه في النسيج العام للرواية التوراتية. وتكبر الخرافة وتتسع، وتستكمل حلقاتها خلال قرنين أو ثلاثة من عودة عزرا بسفر الشريعة من البلاط الفارسي، ويتم ربط تاريخ اليهودية بتاريخ ما قبل اليهودية؛ أي تاريخ إسرائيل ويهوذا. وتُتابِع قصة الأصول توغُّلها في الماضي المجهول مما سبقهما. ثم كان لا بد من إيقاف هذه العملية عند حدٍّ معين، فعمد كهنة أورشليم أخيرًا إلى جمع هذه الأدبيات وإعادة صياغتها بشكلٍ أخير وفق إطارٍ أيديولوجي وكرونولوجي يضم التقاليد المتفرقة في كلٍّ مُوحَّد. وبذلك أُنجز كتاب التوراة، وظهرت إسرائيل التوراتية ككيانٍ ذهني وأدبي على أنقاض تاريخ السامرة ويهوذا المطمور تحت ركام الدمار الآشوري والبابلي. إن الرواية التوراتية هي قصة أصولٍ مبتكرة لدينٍ جديد ومجتمع جديد، يحاول أن يُثبِت أقدميته وتجذُّره في المنطقة. وإن المحررين الذين صاغوا هذه القصة كانوا مدفوعين بهاجسٍ تراثي لا بهاجسٍ تاريخي. لقد جمعوا ما وصل إلى أيديهم من شذرات الأخبار القديمة، والأدب الشعبي الفلسطيني، ونُتَف من الأخبار عن السامرة ويهوذا، وبعض الوثائق القليلة المكتوبة، فصاغوا منها مادة قصصهم التي ضُمت إلى بعضها من خلال منظورٍ أيديولوجي فضفاض، وتسلسلٍ زمني مليءٍ بالفجوات والانقطاعات. وفي الحقيقة، فإن ما يبدو لأول وهلة تسلسلًا زمنيًّا في القصص التوراتي ليس إلا إيهامًا من صنع المحرر التوراتي الأخير، الذي جعل القصص ذات المنشأ المستقل تبدو وكأنها حلقاتٌ في سلسلةٍ متتابعة. والناتج الأخير لهذه العملية هو روايةٌ خيالية لا تتقاطع مع التاريخ الفلسطيني ولا مع تاريخ الشرق القديم في كل تفاصيلها هبوطًا إلى موت الملك سليمان، ولا تتقاطع مع هذا التاريخ إلا في نقاطٍ غامضة ومبعثرة من حياة مملكتَي السامرة وإسرائيل. أما عن ذلك المنظور الأيديولوجي الذي حاول كهنوت أورشليم فرضه على روايتهم فقد بقي غريبًا عن جو القصص التوراتي التي استقل كل منها برؤياه الدينية الخاصة. فإله الآباء لا يشبه إله الخروج، وهذا لا يشبه إله القضاة، وإله إشعيا غريبٌ كل الغرابة عن كل ما سبقه من تصورات، وسفرا أيوب والجامعة لا يمكن قراءتهما بعينَي إرميا، ونشيد الأنشاد لا يمكن وضعه في أي سياقٍ ديني توراتي. وهذا يعني أننا لسنا أمام أيديولوجيا دينيةٍ متسقة، تعلن عن نفسها بالطريقة نفسها عبر أسفار الكتاب، بل أمام أيديولوجيا توفيقية لا تملك الحد الأدنى من الوحدة والانتظام. إن إسرائيل التوراتية تظهر إلى الوجود، لأول مرة، كناتجٍ فكري من نواتج الوضع الخاص للمجتمع الأورشليمي المصطنع في العصر الفارسي. من هنا، فإن هذه الإسرائيل لا تتمتع بوجودٍ موضوعي خاضع لعملية الاستقصاء التاريخي، وأي مجهود يُبذل في هذا الاتجاه هو مجهودٌ لا طائل من ورائه، ذلك أن العملية التحريرية التي قادت إلى إنتاج إسرائيل التوراتية لم تكن تهدف إلى إنتاج نصٍّ أمين عن الماضي، بقدر ما هدفت إلى صياغة نص يعطي معنًى للحاضر، ويرسم صورةً للمستقبل. والمضمون الذي يتكشف لنا عبر أسفار الأنبياء والأسفار التاريخية ليس موجهًا نحو الكشف عن الماضي إلا بقدر ما يقدمه هذا الماضي من دعمٍ وتثبيت للمؤسسة الدينية والدنيوية الناشئة. وبمعنًى آخر، فإن ما يبدو في هذه الأسفار على أنه تأملٌ تاريخي ليس في حقيقة الأمر إلا تأملًا مستقبليًّا يرسم صورةً للمجتمع الجديد باعتباره وريثًا لمجتمعٍ قديم آلَ إلى اللعنة والتحلل والدمار. وهذه الصورة عن إسرائيل الجديدة هي التي تتحكم بنوع الأحداث التي يتم جمعها وتذكرها باعتبارها تاريخًا. من هنا نستطيع أن نفهم أصول الأفكار الرئيسية الموجهة للتقاليد التوراتية الرئيسية. وهذه الأفكار يمكن تلخيصها في خمسة، هي: العهد، والوعد، والغربة، والعصر الذهبي والسقوط، والتجديد. لقد كان العهد الذي قطعه أهل أورشليم أمام عزرا الكاهن بقبول شريعة الملك وشريعة الرب بمثابة بدايةٍ للتاريخ اليهودي. كما كان في الوقت ذاته النقطة المثالية التي ابتدأ منها المحرر التوراتي بابتكار قصة الأصول. فهذا العهد بين الشعب وإلهه ليس جديدًا، بل هو تجديدٌ لعهدٍ عتيق كان الأسلاف الأولون لهذه الجماعة الأورشليمية قد أبرموه مع إلهٍ عتيق أيضًا. وكما ارتبط إبرام العهد مع ممثلي السلطة الفارسية عزرا ونحميا، مع تثبيت العائدين في أرض عودتهم (لأن كل من لا يعمل بشريعة الملك وشريعة الرب يُقتل أو يُنفى، وفق أمر الملك الفارسي)؛ كذلك ارتبط العهد العتيق مع إبراهيم وخلفائه بالوعد بالأرض. فالرب قد أعطى أرض كنعان لإبراهيم وذريته، وتعهَّد بحمايتهم مقابل عبادتهم له وحده، ثم جدد عهده مع إسحاق ويعقوب. وهذه الوعود القديمة كلها ليست إلا نموذجًا بدئيًّا للوعد الجديد الذي يقطعه إله السماء الفارسي مع بقية يهوذا فيقودهم إلى الأرض الموعودة ذاتها. ولقد قاد إحساس القلَّة الباقية من يهوذا بالغربة في «أرض العودة» التي جاءوا إليها مع من رافقهم من مسبيِّي المناطق الأخرى؛ إلى إدخال عنصر «الغربة الدائمة» في قصتهم الطويلة عن الأصول. فالآباء المؤسسون كانوا غرباء عن أرض كنعان وفدوا إليها من بلاد الرافدين، مثلما وفد إليها من بلاد الرافدين أيضًا بقية سبي يهوذا والغرباء الآخرون المشتَّتون في الأرض. وجماعة موسى كانت غريبة في مصر وغريبة مرة أخرى في كنعان التي دخلتها مع يشوع، وقصة استعبادهم في مصر هي نموذجٌ بدئي لقصة سَبْيهم في بابل، وفرعون القديم هو نبوخذ نصَّر الجديد. وبذلك ترتبط الأفكار الثلاثة عن العهد والوعد والغربة ارتباطًا عضويًّا على مستوى الرواية لا على مستوى الواقع. كما تؤسِّس هذه الأفكار الثلاثة بدورها لفكرة التجديد وإعادة البناء؛ فالمسبيون قد عادوا من بابل لتجديد وإعادة بناء أورشليم، مثلما عاد المستعبَدون من مصر وبنوا المملكة الموحدة في كنعان. وعملية التجديد وإعادة البناء هذه لا تأخذ معناها إلا بارتباطها بفكرة العصر الذهبي والسقوط، ذلك أن العائدين قد جاءوا لتجديد مُلك زال، ودولة آلت إلى الانحدار والسقوط. فقصة الأصول، والحالة هذه، يجب أن تبلغ ذروتها في العصر الذهبي لمملكة داود وسليمان، ثم تئول إلى الانحدار فالسقوط عبر المصائر القاتمة لكل من مملكتي السامرة ويهوذا. وكل ذلك يأتي وفق مخططٍ من الرب الذي قضى على عالمٍ فاسد قديم لكي يقيم على أنقاضه عالمًا نقيًّا جديدًا. نقرأ في سفر حزقيال إحدى المعالجات الدقيقة والواضحة لهذه الفكرة، حيث يقول الرب: «… إن أرسلتُ أحكامي الرديئة على أورشليم سيفًا وجوعًا ووحشًا رديئًا ووباءً، لأقطع منها الإنسان والحيوان، فهو ذا بقيةٌ فيها ناجية تُخرِج بنين وبنات. هو ذا يخرجون إليكم فتنظرون طريقهم وأعمالهم، وتتعزون عن الشر الذي جلبته على أورشليم، عن كل ما جلبته عليها. ويعزونكم إذ ترون طريقهم وأعمالهم، فتعلمون أني لم أصنع بلا سبب كل ما صنعته فيها، يقول السيد الرب» (حزقيال، ١٤: ٢١–٢٣). لقد هدفت سياسة الترحيل الآشورية إلى التخريب المنظَّم للبُنى التحتية للمقاطعات المقهورة، وسِيقت إلى مناطق آشور الشرائح المتنورة في هذه المقاطعات، واليد الفنية الماهرة والكُتاب والمعلمون والكهنة والعسكريون المدربون، أي كل الشرائح التي تعطي للمجتمع هيكليته وتطلق فعاليته. وقد طالت عمليات الترحيل في كثيرٍ من الأحيان مناطق زراعية بأكملها، فتُركت بواديَ قاحلة لفترةٍ طويلةٍ لاحقة. أما المقاطعات التي تم الحفاظ على هيكليتها السياسية فقد تم استغلالها إلى أبعد الحدود، وخضعت للنهب المنظَّم عن طريق الجزية، وعن طريق سلب مواردها الطبيعية، ودُفع إليها بجماعاتٍ مسبية غريبة لتقيم بين ظهرانيها وتُفتِّت وحدتها الإثنية. وفيما يتعلق بفلسطين، فقد خلت بعض مناطقها من السكان تمامًا، وتضاءل عدد السكان في المناطق الأخرى وآلت إلى الفقر المدقع. ومنذ نهاية القرن السادس افتقدت فلسطين إلى الحد الأدنى من التلاحم الإثني واللغوي والديني والسياسي، وتوزع من تبقَّى من سكانها بين جماعاتٍ غير متجانسة سِيقوا إليها من المناطق المغلوبة الأخرى. وبما أننا لا نعرف عن أي مشروعٍ فارسي آخر للإحياء في منطقة فلسطين، غير مشروع إحياء أورشليم، فإننا نرجِّح أن يكون الهدف منه هو تجميع تلك الجماعات المتفرقة ذات الأصول العرقية المختلفة التي بقيت خارج الأطر السياسية والاجتماعية في عالمٍ متهدم تمامًا، إضافةً إلى من يود العودة من بقية يهوذا المسبية في بابل؛ لصهرها في بوتقةٍ واحدة، وإفهامها بأنها الآن وريثة إسرائيل البائدة، في عملية إحياءٍ لمنطقة يهوذا تحت شعار تجديد المجتمع القديم. وقد قام على تنفيذ هذه السياسة ولاةٌ من يهوذا تدرَّبوا في البلاط الفارسي، ووصلوا فيه إلى أعلى المناصب، مثل نحميا الذي كان ساقيًا للملك الفارسي وموضع ثقته يرافقه في حله وترحاله (نحميا، ٢). وقد تم تجميع هذا المجتمع الجديد حول هيكل إله السماء الفارسي الجديد، بعد أن تم إفهام الجميع من خلال سفر الشريعة الذي أتى به عزرا من بابل، بأن هذا الإله هو نفسه الإله القديم يهوه إله السامرة وإله يهوذا السالفتين، وصار الدخول في هذه العبادة الجديدة شرطًا للانتماء إلى المجتمع الجديد. ورغم أن كهنة أورشليم قد ابتدءوا منذ عزرا الكاهن بعملية تدوين تاريخ لهذه الجماعة على أنه تاريخ إسرائيل، وابتكار أصول لديانة إله السماء ضاربة في أعماق هذا التاريخ، إلا أن تسمية «اليهودي» و«اليهودية» صارت عَلمًا على دين أورشليم وعلى الأفراد المنتمين إلى المجتمع الأورشليمي، من دون «الإسرائيلي». فكل ما هو «إسرائيلي» ينتمي إلى الماضي، إلى «القصة»، وكل ما هو «يهودي» ينتمي إلى الحاضر، حاضر ذلك المجتمع الجديد الذي يحاول مستميتًا أن يؤكد تلاحمه وتجانسه كشعبٍ مختار من قِبَل إله السماء. لقد اختار إله السماء هذه الفئات التي تم تجميعها في منطقة أورشليم لتكون له شعبًا، كما وجدت هذه الفئات وحدتها وتجانسها من خلال إحساسها بالانتماء إلى ذلك الإله وإقامة العهد معه. وهكذا، ومع تشكيل مقاطعة اليهودية ككيان سياسي ينتمي إلى النظام العالمي الفارسي الجديد، تدخل القصة التوراتية عتبة التاريخ. من هنا يتوجب علينا أن نعيد فهم مسألة «السبي البابلي» كحادثةٍ تاريخية من جهة، وكفكرةٍ ملهمة في سياق القصة التوراتية من جهةٍ أخرى، ذلك أن تقسيم تاريخ «بني إسرائيل» إلى ثلاث فترات — هي ما قبل السبي، وفترة السبي، وما بعد السبي — هو تقسيمٌ باطل على ضوء ما تقدمنا به حتى الآن. فبنو إسرائيل ليس لهم وجود خارج مجال قصة الأصول التوراتية، وتاريخ دولتي السامرة ويهوذا قد انتهى وصار مُلكًا للذاكرة البشرية الجمعية بعد زوال إسرائيل عام ٧٢١ق.م. وزوال يهوذا عام ٥٨٧ق.م. أما التاريخ اليهودي الذي ابتدأ مع بناء أورشليم الجديدة وهيكلها الجديد فليس استمرارًا على أي صعيدٍ للتاريخ الفلسطيني في العصر الآشوري والعصر البابلي، رغم النغمة الإعلامية الفارسية التي تحدثت بلغة «الإحياء» و«التجديد». إن ما تم «إحياؤه» في مقاطعة اليهودية لم يكن إحياءً ليهوذا القديمة ولا لإسرائيل القديمة، بل خلقًا من جديدٍ لمجتمعٍ قوامه فئاتٌ اجتماعية دخلت العصر الفارسي وقد تغيرت تغيرًا تامًّا. وفي الحقيقة، فإن «مسألة السبي» لم تعد بالنسبة لجماعة أورشليم الجديدة واقعةً تاريخية بقدر ما غدت «فكرة» و«واقعة نفسانية» تساعد على فهم هذه الجماعة لنفسها باعتبارها البقية الناجية من «إسرائيل». فأفراد هذه الجماعة، سواء تحدروا من بقية يهوذا المسبية في بابل أم من غيرها، يستطيع واحدهم الانتماء إلى تلك الإسرائيل عن طريق تصور جذوره في المنفى البابلي، ومن خلاله صعودًا نحو المجد المفقود في مملكة سليمان، ويتجاوز ذلك ليدخل كنعان مع يشوع، ثم يتطوح في الصحراء مع موسى، ويتنقل بعد ذلك مع قوافل إبراهيم وبقية الآباء المؤسسين. إن التاريخ اليهودي ليس صفحةً جديدة في تاريخ فلسطين القديم، بل تاريخٌ مستقل في أصوله ومساره ومصائره، ويجب أن يُدرَس على هذا الأساس. وبما أن دراسة التاريخ اليهودي تتطلب منهجيةً ومرجعيةً مختلفة تمامًا عن تاريخ فلسطين القديم، فإنه لا يدخل في منظور هذا الكتاب، كما أنه لا يدخل ضمن اهتمامي الشخصي في الوقت الحاضر.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/62929285/
آرام دمشق وإسرائيل: في التاريخ والتاريخ التوراتي
فراس السواح
«يتَّفق معظمُ المؤرِّخين على وضع تاريخ لأحداث سِفر يشوع لا يتجاوز عام ١٢٠٠ق.م. إلا أن مقارَنة أحداث سِفر يشوع مع أحداث هذه الفترة الانتقالية، من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، والأوضاع العامة السائدة في الشرق الأدنى القديم؛ لا تقدِّم لنا نقطةَ ارتكاز واحدة يُمكِن عندها تثبيتُ الإطار التاريخي ليشوع على الخلفية العامة لهذه الفترة.»يطرح هذا الكتاب إشكاليةَ النص التوراتي بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، ومدى المِصداقية التاريخية للرواية التوراتية للأحداث، ويضع هذه الإشكاليةَ على طاوِلة دراسة تاريخ فلسطين؛ حيث يُفكِّكها ويَدرس أبعادَها السياسية والثقافية والنفسية، والسياقَ العام الذي كُتبت فيه. وفي نظير هذا التفكيك يقدِّم دراسةً تاريخية رصينة عن تاريخ المنطقة — خارج النَّسق الديني الذي غلَب على تاريخ المنطقة لقرونٍ طويلة — تَرتكز على نتائج التنقيب الأركيولوجي للمنطقة خلال القرن العشرين، وعلى العلوم المساعِدة؛ مثل علم الأنثروبولوجيا، وعلم السوسيولوجيا، وعلم مناخ العصور القديمة وبيئتها، وهو ما مكَّنه من صياغةِ تاريخٍ حقيقي ومستقِل عن البحث التوراتي، من خلال تتبُّعِ دورِ مملكة آرام دمشق في الحياة السياسية لكلٍّ من مَملكتَي إسرائيل ويهوذا، ومَمالك شرق الأردن.
https://www.hindawi.org/books/62929285/0.6/
مراجع البحث
علي أبو عساف: الآراميون، دار أماني، طرطوس، سوريا ١٩٨٨. ألفونسو آركي: الشواهد الكتابية في إيبلا، ترجمة قاسم طوير، ضمن كتاب بعنوان: إيبلا، دمشق ١٩٨٤. أنيس فريحة: أوغاريت، دار النهار، بيروت ١٩٨٠. عيد مرعي: إدريمي ملك آلالاخ، مجلة دراسات تاريخية، عدد شهر آذار، دمشق ١٩٨٨. هيرودوتس: التاريخ، ترجمة حبيب فندي بسترس، بيروت ١٨٨٦. سباتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، بيروت ١٩٨٦.
فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية. فراس السواح: مفكِّرٌ لامع في سماء ميثولوجيا الشرق، ومؤرِّخٌ بارز في تاريخ الأديان، وفيلسوفٌ مُغامِر، وأحد أبرز المفكِّرين العرب الذين أبحروا خارج النَّسَق الديني النمطي، وقدَّم رؤيةً مُغايِرة عما هو سائدٌ من أفكار عقائدية. وُلِد في حمص عام ١٩٤١م لعائلةٍ حموية أزهرية، وعاش في فضاءٍ تنويري أتاح له أن يختار طريقَه بنفسه؛ فوالده الكاتب والصحفي «أحمد السواح»، رئيس تحرير جريدة «الفجر» السورية، وجَدُّه «نورس السواح» الذي كان شيخًا أزهريًّا درس علومَ الدين بالجامع الأزهر. درس «فراس» الاقتصادَ في جامعة دمشق، وتخرَّجَ منها عام ١٩٦٥م، ثم انتسب إلى قسم الفلسفة، ولكنه لم يُكمِل دراستَه فيه. استهوَته الميثولوجيا وتاريخ الأديان باكرًا، فكتب في الصحف والمجلات السورية منذ عام ١٩٥٨م، ونشر أبحاثَه الأولى في الآداب اللبنانية عام ١٩٦٠م. وفي عام ١٩٧٦م أصدَر كتابه التأسيسي والرصين «مُغامَرة العقل الأولى»، وأصدر عام ١٩٨٥م كتابَه الشهير «لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة». ومنذ عام ١٩٨٦م تفرَّغ لدراسة التاريخ والأركيولوجيا والميثولوجيا وتاريخ الأديان بشكلٍ مستقل، فصدرت له الكثير من الكتب، مثل: «كنوز الأعماق: قراءة في مَلْحمة جلجامش»، و«تاريخ أورشليم»، و«مدخل إلى نصوص الشرق القديم»، و«موسوعة تاريخ الأديان»، و«الوجه الآخَر للمسيح»، و«الإنجيل برواية القرآن»، و«طريق إخوان الصفاء»، و«ألغاز الإنجيل»، و«القصص القرآني ومتوازياته التوراتية». وأصدَر في بكين بالتعاوُن مع الدكتور «تشاو تشنج كو» كتابًا باللغتَين الصينية والعربية عن الحكيم الصيني «لاو تسو». كما ساهَمَ بكتابَين باللغة الإنجليزية صدرا في بريطانيا، هما: «أورشليم بين التوراة والتاريخ»، و«جدليات إسرائيل القديمة وبناء الدولة في فلسطين». كرَّمه الحزب الشيوعي السوري، والحزب السوري القومي الاجتماعي، والجمعية التاريخية السورية، وأمانة عمان. يعمل حاليًّا أستاذًا في تاريخ أديان الشرق الأوسط بجامعة بكين للدراسات الأجنبية.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/1/
الحكاية رقم «١»
يروق لي اللعب في الساحة بين القبور والتكية. ومثل جميع الأطفال أرنو إلى أشجار التوت بحديقة التكية، أوراقها الخضر هي ينابيع الخضرة الوحيدة في حارتنا، وثمارها السود مثار الأشواق في قلوبنا الغضة، وها هي التكية مثل قلعة صغيرة تحدِّق بها الحديقة، بوابتها مغلقة عابسة، دائمًا مغلقة، والنوافذ مغلقة، فالمبنى كلُّه غارق في البُعد والانطواء والعزلة، تمتد أيدينا إلى سوره كما تمتد إلى القمر. وأحيانًا يلوح في الحديقة ذو لحية مُرسَلة، وعباءة فضفاضة، وطاقية مزركشة، فنهتف كلنا: «يا درويش .. إن شاالله تعيش.» ولكنه يمضي متأملًا الأرض المعشوشبة، أو يتمهل عند جدول ماء، ثم لا يلبث أن يختفي وراء الباب الداخلي. – من هؤلاء الرجال يا أبي؟ – إنهم رجال الله. ثم بنبرة ذات معنًى: ملعون مَن يكدر صفوهم! ولكن قلبي مُولَع بالتوت وحده. وينهكني اللعب ذات يوم، فأجلس على الأرض لأستريح ثم أغفو. أستيقظ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمس توارت وراء السور العتيق، ونسائم الربيع تهبط مشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أمرق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدْلهِمَّ الظلام. وأنهض متوثبًا، ولكن إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أهيم في مجال جاذبية لطيف، وأن ثمة نظرة رحيبة تستقر على قلبي، فأنظر ناحية التكية. هناك تحت شجرة التوت الوسيطة يقف رجل. درويش ولكنه ليس كالدراويش الذين رأيت من قبلُ. طاعِن في الكِبَر، مديد في الطول، وجهه بحيرة من نور مُشعٍّ. عباءته خضراء وعمامته الطويلة بيضاء، وفخامته فوق كلِّ تصوُّر وخيال. ومن شدة حملقتي فيه أثمل بنوره، فيملأ منظره الكون، وخاطر طيب يقول لي إنه صاحب المكان وولي الأمر، وإنه ودود بخلاف الآخَرين. أقترب من السور ثم أقول بابتهال: إني أحب التوت. فلم ينبس ولم يتحرك، فأتوهَّم أنه لم يسمعني، أكرِّر بصوت أعمق: إني أحب التوت! يُخيَّل إليَّ أنه يشملني بنظرة، وصوته الرخيم يقول: «بلبلي خون دلي خورد وكلي حاصل كرد.» ويُخيَّل إليَّ أنه رمى إليَّ بثمرة، فأنحني نحو الأرض لألتقطَها، فلا أعثر على شيء، ثم أستقيم فأجد مكانه خاليًا، والظلمة تغشى الباب الداخلي. وأقصُّ القصة على أبي فيرمقني بارتياب، فأؤكدها له فيقول: تلك الأوصاف لا تكون إلا للشيخ الكبير، ولكنه لا يغادر خلوته! فأحلف له على صدقي بكل مُقدَّس، فيسألني: ترى ما معنى الرطانة التي حفظتها؟ – سمعتها مرارًا ضمن تراتيل التكية. فيصمت أبي مليًّا ثم يقول: لا تخبر بذلك أحدًا. ويبسط يدَيه ثم يتلو الصمدية. وأهرع إلى الساحة فأتخلف وحدي بعد ذهاب الصبيان، أنتظر ظهور الشيخ فلا يظهر، أهتف بصوتي الرفيع: «بلبلي خون دلي خورد وكلي حاصل كرد.» فلا يجيب، أعاني بلاء الانتظار وهو لا يرحم لهفتي. وأتذكر الحادثة في زمن متأخر، أتساءل عن حقيقتها، هل رأيت الشيخ حقًّا أو ادعيت ذلك استوهابًا للأهمية ثم صدَّقت نفسي؟ هل توهَّمت ما لا وجود له من أثر النوم ولكثرة ما يقال في بيتنا عن الشيخ الكبير؟ هكذا أفكِّر، وإلا فلماذا لم يظهر الشيخ مرة أخرى؟ ولماذا يُجمع الناس على أنه لا يغادر خلوته؟ هكذا خلقت أسطورة وهكذا بددتها. غير أن الرؤية المزعومة للشيخ قد استقرت في أعماق نفسي، كذكرى مُفعَمة بالعذوبة. كما أنني ما زلت مولعًا بالتوت.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/2/
الحكاية رقم «٢»
شمس الضحى تسطع والسماء صافية، من موقفي فوق السطح أرى المآذن والقباب، وأرى غرابًا واقفًا على وتدٍ مغروز في سور السطح، مربوط به حبل الغسيل، أرمق السطح الملاصق فيتحلَّب ريقي. تُحدِّثني نفسي بأن أذهب إلى ست أم زكي، لأحظى بشيء من الحلوى. وأعبُرُ السور. أمضي نحو المنور، أطِلُّ من نافذة فيه مخلوعة الزجاج، أرى تحت المنور مباشرةً ست أم زكي عارية تمامًا، تجلس على كنبة تتشمَّس، تمشط شعرها، عارية تمامًا .. منظرها غريب وباهر! وهي في ضخامة بقرة، وأهتف: يا تيزة! ترتعب، تنظر إلى فوق، لا تلبث أن تضحك، تصيح بي: يا عكروت .. انزل! أهبطُ بسرعة ثم أقف عند الباب بحذر مُبهَم وأتساءل: أدخل؟ وتسمح فأدخل، أقترب من مجلسها فترمقني بنظرة باسمة وتقول: وقعت يا بطل! وتستلقي على بطنها وتقول: دلِّك لي ظهري. أشمِّر عن ساعدي، أدلِّك ظهرها بحماس ورضًا، أشم رائحة جسد بشري مُعبَّق بالصابون والقرنفل، وهي تتمتم: تِسْلم يداك! ثم بمزاح: أنت عفريت من الجِنة! ثم وهي تضحك: الكتكوت الفصيح يخرج من البيضة يصيح. ويزداد حماسي في العمل، فتقول: ارفع يدك لفوق يا شيطان، هل ستُخبر أمك؟ – كلَّا. فتضحك وتقول: وعارف أيضًا أنه يوجد ما لا يقال، حقيقة إنك شيطان، هل تعلَّمتَ التدليك في الكُتَّاب؟ ماذا تدرس في الكُتَّاب؟ – الفاتحة وألِف باء. – ربنا يحفظك وأشوفك ماشطة، ماذا ستأكل اليوم؟ – بامية. – عظيم سأتغدى عندكم. زياراتها لبيتنا ندوات للبهجة والمرح، تنثال المُلَح من فيها بلا حساب، وكذلك النكات المكشوفة، فتحاول أمي أن تبعدني ولكني أرجع، وتشير لها إشارات خفية محذِّرة، فأتشبَّث بالبقاء وتتمادى هي في الدعابة، وتسألها أمي معاتبة: متى تُصلِّين وتصومين؟ فتجيب: في آخِر شهر قبل يوم القيامة. في الخمسين، مهذارة مرحة طروب، ولكنها لم تنزلق لسوء، وعمل ابنها زكي نجَّارًا في حارتنا فسارَ بين الناس مرفوع الرأس، وهي تدمن التدخين والقهوة وسماع أسطوانات منيرة المهدية، أرملة، في كل بيت لها صديقة حميمة، لم تشتبك في مشاجرة واحدة في حارتنا الحافلة بالمشاحنات. ••• وتتنهَّد أمي ذات يوم وتقول: مسكينة يا أم زكي، ربنا يرعاكِ ويشفيكِ! تتوعَّك صحتها، وتأخذ في التدهور، تهزل بسرعة مذهلة كأنها كرة ثُقِبَت، يترهَّل جسمها فيغدو طيات من الجلد خاوية، وتخيب في شفائها كافة الوصفات، وتفتي حكمة حارتنا الخالدة بأن مرضها ليس مرضًا من الأمراض المعروفة، ولكنه فعلٌ من أفعال «الأسياد» وألا شفاء لها إلا بالزار، ويجيء اليوم المشهود، فيكتظُّ بيت جارتنا بالنساء، ويعبق بالبخور، وتتسلَّط عليه جوقة من السودانيات يكتنفهنَّ الغموض والأسرار، وأطِلُّ برأسي من المنور فأرى صديقتي في مشهد جديد، تجلس على عرش في عباءة مزركشة بالتلي والترتر، مُتوَّجة الرأس بتاج من العاج، تتدلى منه عناقيد الخرز مختلِف الألوان، منقوعة القدمَين في وعاء من ماء الورد، تستقر في قعره حبَّات من البُنِّ الأخضر. وتدق الدفوف وتهزج الحناجر النحاسية بالأناشيد المرعشة، فتفوح في الجو أنفاس العفاريت، ويدعو كل عفريت صاحبته المختارة من بين المدعوات للرقص، فتموج القاعة بالحركات، وتتوهَّج بالتأوُّهات، وتذوب الأجساد في الأرواح، وها هي أم زكي تتلوَّى بعنف، كأنما رُدَّت إلى جنون الشباب، وعن فيها المزيَّن بالأسنان المذهَّبة يصدر صفير حادٌّ، ثم تركض دائرةً حول العرش، ويتحول ركضها إلى اندفاع رهيب، وتدور حتى تترنَّح من الإعياء وتتهاوى مغشيًّا عليها. وجلجلت زغرودة وارتفع صوت مبتهِلًا: ليشهدنا خاتم الرسل الكرام. ••• وها هي الأيام تمُرُّ. وصحة صديقتي لا تتحسن. لا تمزح الآن ولا تضحك، وتتساءل في جزع: ماذا جرى لي؟ .. ماذا جرى لي يا رب؟! أين أنت يا أم زكي؟! ويُضطَّر المعلم زكي أخيرًا إلى نقلها إلى قصر العيني. وتودِّع عيناي الدامعتان الكارو وهي تتأرجح بها. وتلمحني واقفًا فتلوِّح لي بيدها وتقول: ادعُ لي فإن الله يستجيب لدعاء الصغار. فأرفع عيني إلى السماء وأتمتم: «يا رب .. رجِّع لنا تيزة أم زكي.» ولكن كأن الكارو حملتها إلى بلاد الواق الواق.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/3/
الحكاية رقم «٣»
اليوم جميل ولكنه يعبق بسر. أبي ينظر إليَّ باهتمام يبتسم لي برقة وهو يحتسي قهوته. وهو يهم بالذهاب يداعب شعري ويربت على منكبي بحنان ثم يمضي. وأمي تقوم بعملها اليوميِّ بعصبية، تُغضي عن عبثي وتقول لي مشجعة: العب يا حبيبي. لا نظرات تهديد ولا زجر ولا وعيد! وأصعد إلى السطح بعض الوقت، ولما أرجع أجد أمامي جارتنا الشامية أم برهوم. أعدو إلى المطبخ لأخبر أمي، ولكني لم أجدها، وأنادي عليها بلا جدوى، فتقول لي أم برهوم: نينتك ذهبت في مشوار، وأنا معك حتى ترجع! فأقول محتجًّا: ولكني أريد أن ألعب في الحارة. – وتتركني وحدي وأنا ضيفتك؟ وأصبر متضايقًا. ويدق الباب فتومئ لي بالانتظار وتذهب، تغيب دقيقة وإذا بعم حسن الحلاق ومساعده يدخلان باسمين، فقلت لهما من فوري: أبي خرج! فقال العجوز: نحن ضيوف! سنريك لعبة فريدة. وجلس على كنبة وهو يُبسْمِل، ثم قال وهو يُخرج من حقيبته أدوات بيضاء لامعة: يسرُّك بلا شك أن تتعلم كيف تستعمل هذه الأدوات. وأهرع نحوه متملِّصًا من ارتباكي! ويجيء مساعِده بمقعد فيُجلسني عليه أمام المعلِّم قائلًا: هكذا أفضل. وإذا بيدَيه تكبلانني من الذراعين والساقين بقوة وإحكام، فكأنها ألصقت بالغراء والمسامير، فصرختُ غاضبًا: ابعد عني. واستغثتُ بأم برهوم ولكنها كانت فص ملح وذاب! ولم أفهم شيئًا مما يحدث حتى بدأت العملية الرهيبة، ها أنا أعاني هجمة وحشية طاغية لا أستطيع لها دفعًا ولا منها مفرًّا، وها هو الألم الحاد القاسي ينشب أظافره الشوكية في لحمي وينساب بمكر شيطاني إلى أطراف جسمي وصميم قلبي، وها هو صراخي يدك الجدران ويجتاح أرجاء حارتنا. ••• لا أدري ماذا يدور مدةً من الزمن، أغوص في الماء بين اليقظة والنوم، تمُرُّ بي أجيال من الألوان والمخاوف والأحزان. وعند نقطة من الزمن، تلوح لي أمي بوجه يرنو بالاعتذار والتشجيع. وقبل أن أفتح فمي محتجًّا أو متَّهمًا تضع بين يدَيَّ هدايا الشيكولاتة والملبس. وأعيش أيامًا بين ذكريات أليمة، وكنوز من الحلوى بألوانها البهيجة .. ويمتلئ البيت بالإخوة والأخوات. وأنتقل من مكان إلى مكان مفرِّجًا بين فخِذَيَّ، مُبعِدًا بيديَّ الجلباب عن جسدي.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.