BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringclasses
879 values
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringclasses
890 values
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/4/
الحكاية رقم «٤»
وأنا ماضٍ نحو القبو، ينفتح باب بيت القيرواني تاجر الدقيق، وتبرز منه بناته الثلاث. منبع نور يتدفَّق فيبهر القلب والبصر، بيضاوات مُلوَّنات الشَّعر والأعين، سافرات الوجوه، ينفثن ملاحة نقية، الدوكار ينتظرهن، فأتسمَّر أنا بين الدوكار وبينهنَّ. ويَرَيْن ذهولي فتضحك وسطاهنَّ، وهي أشدهنَّ امتلاءً، وأغلظهنَّ شفةً، وتقول: ما له يسد الطريق! لا أتحركُ فتخاطبني مداعبة: أفِق يا أنت! وأقول متأثِّرًا بدفقة حياة مُبهَمة: بلبلي خون دلي خورد وكلي حاصل كرد. فيغرقن في الضحك وتقول الكبرى: إنه درويش. فتقول الوسطى: إنه مجنون! وأُلقي بنفسي في ظلمة القبو، فأمضي مُهَروِلًا حتى أخرج إلى نور الساحة أمام التكية، وفي رأسي حماس، وفي قلبي نذير نشوة البراعم قبل أن تتفتح. صُوَرهن الباهرة مُستكِنَّة في متحف الأعماق. بذور حب لم يُتَح لها أن تنمو؛ لأنها غُرِست قبل أوانها.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/5/
الحكاية رقم «٥»
اليوم سعيد. سأذهب في صحبة أمي إلى زيارة حرم المأمور. هطلت الأمطار في الصباح الباكر، ولكن الجو رقَّ وصفا عند الضحى، وأشرقت الشمس، المياه تغمر فجوات الطريق، وتخدِّد جوانبه، ولكنني سعيد بزيارة حرم المأمور. امرأة عملاقة، سمراء دكناء، في نقرة ذقنها وشم، ونبرتها ريفية غريبة، وضحكتها عالية، وقِطَّتُها غزيرة الشعر، نقية البياض، ودائمًا تسبِّح بذكر الله. وتعانق أمي مرحِّبةً وأنا أنتظر، تلتفت نحوي ضاحكةً وهي تعبث بشعر رأسي، ترفعني بين يدَيها فأرتفع فوق الأرض عاليًا، تضمُّني إلى صدرها فأغوص في أعماق طرية، وأشعر ببطنها مثل حشية وثيرة ينبعث منها إلى جوارحي دفء مؤثر. أسير وراءهما وأنا أسوِّي ما تشعَّثَ من شَعري وملابسي، ولما أُفِق من نفحة الدفء. وتقول لأمي: بتُّ أومن بأن القبو مسكون بالعفاريت. فتبسمل أمي، فتقول الأخرى: إنهم يخرجون عقب منتصف الليل. فتقول لها أمي مُحذِّرة: إياكِ وأن تنظري من النافذة. وألاعب أنا القطة حتى تتوارى تحت الكنبة، أنظر إلى رأس ثور مُثبَّت في الجدار فوق سَيْفَين متقاطعَين، متمنِّيًا الوصول إليه. المضيفة تُقدِّم لي قطعة هريسة فأتناولها. أمنِّي النفس بحضن دافئ آخَر عند انتهاء الزيارة. ويطول الحديث ويتشعَّب. وتشعل المرأة المصباح الغازيَّ المُدلَّى من السقف. تدور حول المصباح فراشة. أتساءل متى تجيء لحظة الوداع الواعدة بالدفء؟
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/6/
الحكاية رقم «٦»
على حصيرة واحدة نقعد صبيانًا وبنات في الكُتَّاب، نتلو الآيات بصوت واحد، ولا تفرِّق مقرعة سيدنا بين قَدَم صبيٍّ وقَدَم بنت. وقت الغداء يتربَّع كلٌّ منا مستقبِلًا الجدار بوجهه، يفك الصرة ويفرش منديله، كاشفًا عن الرغيف والجبن والحلاوة الطحينية. تسترق عيناي النظر إلى درويشة وهي تقرأ أو تأكل. في الطريق أتبعُها حتى تميلَ إلى الزقاق المسدود، ثم أسير إلى بيتي حاملًا لَوْحي وصورتها. وفي موسم القرافة، أضيق بالمكوث في الحوش فأمرق إلى الخارج، فنتلاقى — أنا ودرويشة — بين القبور المكشوفة بلا تدبير. وأشطر فطيرتي فأعطيها النصف، نأكل ونتبادل النظر. – أين تلعبين؟ – في الزقاق. هي تلعب في الزقاق المتفرع من الحارة، وأنا لا أجرؤ على التسلُّل إليه في النهار، يمنعني إحساسٌ خفي ولكنه غير بريء، ونتواعد بالنظر وبلا كلام، ومع المساء أدخل الزقاق فأجدها واقفة على عتبة الباب. نقف شبحَين صامتَين يكتنفنا الذنب والظلام. – نجلس؟ ولكنها لا تجيب. أجلس على العتبة وأشدها من يدها فتجلس، أتزحزح حتى نتلاصق، يغمرني شعور بسرور غريب ذي أسرار، أمدُّ يدي إلى ذقنها فأدير وجهها إليَّ، أميل نحوها فأُقبِّلُها، أحيط خاصرتها بذراعي. أصمت وأهيم وأذوب في دفقة إحساس مبهمة، فأعرف السُّكْر قبل الخمر. وننسى الوقت والخوف. وننسى الأهل والحارة. حتى الأشباح لا تُفرِّقنا.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/7/
الحكاية رقم «٧»
في ليالي الصيف نسهر فوق السطح، نفرش الحصيرة والشِّلَت، نستضيء بأنوار النجوم أو القمر، تلعب من حولنا القطط، يؤنسنا نقيق الدجاج، وتنضم إلينا في بعض الأحيان أسرةُ جارنا الحاج بشير، وهي أسرة شامية مُكوَّنة من أم وثلاث بنات، كُبراهن في العاشرة، يحلو لهنَّ في أوقات السرور أن يُغنِّين معًا أغنيات جبلية، فأتابع بشغف يقارب شغفي بالبشرة البيضاء، والأعين الملوَّنة، أهيم بالأم وبناتها، وألحُّ في طلب السماع، ويستخفني الطرب، فأشارك في الغناء، وأحرز في ذلك نجاحًا وإعجابًا، حتى تقول جارتنا: ما أحلى صوتك يا ولد! وأجد في مجتمع الليل فرصة للكشف عن موهبتي الصوتية، كما يجد فيه قلبي الصغير نشوته في حضرة البهاء الأنثوي، ويصبح الغناء هوايتي، وسماع أسطوانات المهدية قُرَّة عيني، أما أغنيات الجبل فينشدها قلبي وحنجرتي معًا. وتقول جارتنا لأمي ذات يوم: الولد له صوت جميل. فتقول أمي بسرور: حقًّا؟ – لا يجوز إهماله! – فليُغنِّ كيف شاء، فهو أفضل من العفرتة. – ألا تَودِّين أن يكون ابنك مُطربًا؟ فتُؤخَذ أمي ولا تجيب، فتواصل الجارة: ما له سي أنور وسي عبد اللطيف؟ – إني أحلم أن أراه يومًا مُوظَّفًا مثل أبيه وإخوته. – المغني يربح أكثر من مصلحة حكومية. وأُصغي باهتمام وأنا جالس على حِجر الجارة مزهوًّا بالدفء والمجد. ••• ولا تدوم أيام السعادة والفن طويلًا، فذات يوم أرى أمي تهزُّ رأسها بأسف وتتمتم: يا للخسارة! فأسألها عما يؤسفها، فتقول: جيراننا الطيبون راحلون إلى برِّ الشام. ينقبض قلبي بالرغم من أنني لا أحيط بأبعاد الخسارة وأسأل: أهو بعيد؟ فتجيب بحزن: أبعد ممَّا نستطيع أن نبلغه. أودُّ من صميم قلبي أن أغيِّر الواقع، أن أُرجِع الزمن إلى أمس، ولكن كيف؟ وأُودِّعهم للمرة الأخيرة وهم يستقلون الحانطور، وأُقبِّل يد الحاج بشير، وأُتبع الحانطور نظري حتى يُخفيه منعطف النحاسين. وأبكي طويلًا وأعاني مذاق الفراق والكآبة والدنيا الخالية.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/8/
الحكاية رقم «٨»
مراسم القرافة تُعدُّ من أسعد أيامي البهيجة. نشرع في الاستعداد لها مع العشيِّ بإعداد الفطير والتمر، وفي الصباح الباكر أمضي بين أبي وأمي حاملًا الخوص والريحان، تتقدمنا الخادمة بسلَّة الرحمة. يسرني تدفُّق تيارات الخلق، وطوابير الكارو، وأعرف باب الحوش كصديق قديم، ويجذبني القبر بتركيبه الوقور المنعزل وشاهدَيه الشامخَين، وسِرِّه المنطوي، وبإجلال والدي له، كما تجذبني شجيرة الصبار، وتحت قبة السماء تنطلق منِّي وثبات فرح، ودفقات استطلاع لا يُكدِّرها شيء، ثم تتم المسرات بمراقبة المقرئ الضرير، وجماعات الشحاذين المتكالبين على الرحمة. وتتغير الصورة بدخول همام في إطارها. تجيء أختي وابنها للإقامة عندنا فترة من الزمن، همام في الرابعة أو يزيد عليها قليلًا، أجد فيه رفيقًا ذا حيوية وجاذبية، يُخرجني بمؤانسته من وحدتي، جميل خفيف الروح، يلاعبني بلا ملل ويُصدِّق أكاذيبي وأوهامي. وأجده ذات يوم راقدًا وصامتًا، أدعوه إلى اللعب ولكنه لا يستجيب، وأُخبَر بأنه مريض! ويُطبق على الجوِّ اهتمام وحذر، ويتفشَّى فيه ضيق وكدر، وأتلقى أحاسيس مُبهَمة وغير سارة، ويزيد من تعاستي قلقُ أمي وجزع أختي ثم حضور زوجها. وأسأل عما يحدث، فأُبعَد عن المكان، ويُقال لي: لا شأن لك بهذا .. العب بعيدًا. ولكني أشعر بأن حدثًا غيرَ عاديٍّ يحدث. إنه خطير حتى إن أمي تبكي، وأختي تصرخ، وألمح من بعيد صديقي مُغطًّى فوق الفراش مثل وسادة. لم يُترَك له مُتنفَّس، وأخيرًا يتردَّد اسم الموت من قريب، وأفهم أنه فِراق يطول، فأبكي مع الباكين، ويتألَّم قلبي أكثر مما يجوز لسِنِّه. لا تعود زيارة القبر من أيامي البهيجة، ويتغيَّر وقع منظره، أود أن أطَّلِع على خفاياه، وأتلقَّى الكآبة من صمته، ولا أتغلَّب على لوعة الفراق مع كرِّ الأيام، إنه الحزن والحب الضائع، والخوف والذكرى القاسية، وإرهاق أسرار الغيب.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/9/
الحكاية رقم «٩»
خبر يتردَّد في البيت والحارة. تقول إحدى الجارات لأمي: أما سمعتِ بالخبر العجيب؟ فتسألها عنه باهتمام فتقول: توحيدة بنت أم علي بنت عم رجب! – ما لها كفى الله الشر؟ – توظَّفَت في الحكومة! – توظَّفَت في الحكومة؟ – إي والله .. موظَّفة .. تذهب إلى الوزارة وتجالس الرجال! – لا حول ولا قوة إلا بالله .. إنها من أسرة طيبة .. وأمها طيبة .. وأبوها رجل صحيح! – كلام .. أيُّ رجل يرضى عن ذلك؟ – اللهم استرنا يا رب في الدنيا والآخرة! – يمكن لأن البنت غير جميلة؟ – كانت ستجد ابن الحلال على أي حال! وأسمع الألسن تلوك سيرتها في الحارة، تُعلِّق وتسخر وتنتقد، وكلما لاحَ أبوها عم رجب أسمعُ مَن يقول: اللهم احفظنا! – يا خسارة الرجال! توحيدة أول موظَّفة من حارتنا، ويُقال إنها زاملت أختي الكبرى في الكُتَّاب، ويحفِّزني ما سمعته عنها إلى التفرُّج عليها حين عودتها من العمل، أقف عند مدخل الحارة حتى أراها وهي تغادر سوارس، أرنو إليها وهي تدنو سافرة الوجه، مُرهَقة النظرة، سريعة الخطوة، بخلاف النساء والبنات في حارتنا، وتُلقي عليَّ نظرة خاطفة أو لا تراني على الإطلاق، ثم تمضي داخل الحارة، وأتمتم مردِّدًا كالببغاء: يا خسارة الرجال!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/10/
الحكاية رقم «١٠»
أم عبده أشهر امرأة في حارتنا. في قوة بَغْل، وجرأة فتوَّة، حتى زوجها سواق الكارو يتراجع أمام عنفها. ولها بنتان جميلتان، دَوْلَت وإحسان. في أيِّ موقع من حارتنا تحظى بالتودُّد، من التاجر والعامل والبائع والصعلوك، كلُّ أسرة لها عمل وأجر، هي الوسيطة والشفيعة والخاطبة والدلَّالة والماشطة، وعند الخصومة فهي القوة التي تبطش بالخصم. وتزور أمي أحيانًا فتحكي لها عن أحوالها، وقد يقتضي الأمر تمثيل ما وقع في آخِر مشاجرة شاركَتْ فيها، فيرتفع صوتها ويتهدَّج بالغضب والسبِّ والقذف، حتى يتوهَّم السامع أن التمثيل مشاجرة حقيقة! وهي تُجاملنا في المواسم، فتجيئُنا بالكارو لتمضي بنا إلى زيارة المغاوري وأبي السعود طبيب الجِراح. وأنا الرسول الذي يُوفَد إلى بيتها عند الحاجة، أذهب إليه بقلب طَروب يتوق إلى رؤية الحمار المربوط إلى وتد في الفناء، ويتوق للقرب من دَوْلَت وإحسان. دَوْلَت فتاة طيبة، تفكُّ الخط، وتحفظ بعض سور القرآن، يحبها شاب مُتعلِّم من حارتنا فيتزوج منها متخطِّيًا الفوارق ومُجازِفًا بمصاهرة أم عبده. إحسان صورة مصغرة من أمها في أخلاقها، ولكنها باهرة الجمال، مطبوعة على العنف والجرأة والبذاءة، تتحدَّى أمها نفسها، فتنشب بينهما المعارك المثيرة، ويطلب يدها فتيان كادحون، ولكنها ترفضهم تطلُّعًا لفرصة فريدة كما حدث لأختها دَوْلَت، وإني صديقها رغم فارق السن، غرائزي الكامنة تُرسِل إنذارات خفية تمتزج في عينيَّ بأشواق مُبهَمة، يُبهرني حجمها المترامي، وأعضاؤها الثرية المتراقصة، وتدعوني أحيانًا لأساعدها وهي تغسل في الفناء، أحمل إليها صفيحة الماء من عارضتها الخشبية، وأمضي كالمترنِّح من ثقلها، أجلس قبالتها لأتسلَّم منها الملابس بعد عصرها لأكومها في الطشت، في أثناء ذلك تتلصَّص عيناي، وهي ترامق تطلُّعاتي باسمةً. وتقول لي ذات مرة: خُذ منديلي واذهب به إلى الشيخ لبيب. وأذهبُ إلى الشيخ لبيب في مجلسه قبيل القبو، يتربع على فروة بجلبابه المزركش، وطاقيته البيضاء، مكحول العينَين، مزجَّج الحاجبَين، أعطيه المنديل وملِّيمًا وقطعة سُكَّر، فيشم المنديل ويتفكَّر مليًّا، ثم يقول: عمَّا قريب يمتلئ الكراز ويغني العصفور. وأرجع إليها وأنا أردِّد ما سمعته لأحفظه، ويُسعدني دائمًا أن أؤدي لها خدمة من الخدمات. ويطلب يدَها صاحبُ محل فراشة، غنيٌّ في الخمسين، ذو زوجة وأولاد، فتتزوج منه، تعاشره عامَين ثم تختفي من بيته ومن الحارة جميعًا، مخلِّفة وراءها ضجة وعارًا، وإصابة في كبرياء أم عبده. ••• وفي ذات ليلة من ليالي الزمن الجاري الذي لا يتوقف، أجدني وجهًا لوجه مع إحسان، ترقص وتغني: وتراني فيشع من عينَيها نور العرفان، أقف ذاهلًا ولكنها تتلقاني ببساطة وبابتسامة مشجِّعة. تُقْبل نحوي، فتأخذني من يدي إلى حجرتها، ثم تغلق الباب وتغرق في الضحك، وتقول لي بعد أن جلسنا: الدنيا واسعة ولكنها في النهاية كالحُقِّ. وأتفرس في وجهها فتسألني عن أمها قائلةً: كيف حال أم عبده؟ – عال. – ودَوْلَت أختي؟ – بِكْريها في المدرسة. – ووالدتك وأخواتك؟ – بخير. فتقول بمودة: زرني كثيرًا. وأسألها بعد تردُّد: كيف جئت إلى هنا؟ فتضحك وتقول ساخرة: من نفس الطريق التي جئتَ منها أنت!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/11/
الحكاية رقم «١١»
نقف في فناء المدرسة الابتدائية جماعاتٍ، ننتظر نتيجة القبول، أَنْهَينا مرحلة الكُتَّاب، وأدَّيْنا امتحان القبول، وها نحن ننتظر إعلان النتيجة. ويخرج ضابط المدرسة من حجرة الناظر، ويمضي في تلاوة الأسماء من كشفٍ بيده، ثم يقول: ليبقَ منكم مَن سمع اسمه، وليرجع الآخَرون إلى بيوتهم. لم أسمع اسمي، تشيع في نفسي فرحة شاملة، أعتقد أن سقوطي هو نهاية علاقتي بالتعليم وعِصيِّ المدرسين، وأنني سأستقبل من الآن فصاعدًا حياة ناعمة خالية من الكدر. ويسألني أبي عن النتيجة فأجيبه بارتياح: سقطت، ورجعت إلى البيت. – إخص .. تصوَّرتك أفضل مما أنت! فأقول بسرور: لا يهم. – لا يهم! – إني أكره الكُتَّاب وأكره سيدنا الشيخ وأكره الدروس .. فالحمد لله على أنني تخلَّصتُ من ذلك كله! فيقطب أبي متسائلًا: أتظنُّ أنك ستمكث في البيت؟ – نعم، هذا أفضل. – لتلعب مع الأوباش في الحارة، أليس كذلك؟ فنظرتُ إليه بقلق، فقال بحزم: سترجع إلى الكُتَّاب عامًا آخَر، والفلقة كفيلة بمعالجة غبائك! وأهم بالاحتجاج فيقول: استعِدَّ لعمر طويل من التعلُّم، ستتعلم مرحلةً بعد مرحلة حتى تصير رجلًا محترمًا. ولم أنعم بفرحة السقوط إلا ساعات!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/12/
الحكاية رقم «١٢»
ماذا يحدث للدنيا؟ يجتاحها طوفان، يقلقلها زلزال، تشتعل بأطرافها النيران، تتفجَّر بحناجرها الهتافات. الميدان يكتظ بالآلاف، لم يقع ذلك من قبلُ، هديرهم يرجُّ جدران حارتنا ويصمُّ الآذان، إنهم يصرخون، وبقبضات أيديهم يهدِّدون، وحتى النساء يركبن طوابير الكارو ويشاركن في الجنون! وأحملق فيما يجري من فوق سور السطح، وأتساءل عما يحدث للدنيا! وتتلاطم الأحاديث مشحونة بكهرباء الوجدان، وينهمر سيل من الألفاظ الجديدة السحرية: سعد زغلول، مالطة، السلطان، الهلال والصليب، والوطن، الموت الزؤام. الأعلام ترفرف فوق الدكاكين، صور سعد زغلول تُلصَق بالجدران، إمام المسجد يظهر في شرفة المئذنة ويهتف ويخطب. وأقول لنفسي إن ما حدث غريب، ولكنه مثير ومُسلٍّ شديد البهجة. غير أنني أشهد مطاردة. يندفع أناس داخل حارتنا، يرمون بالطوب، يتحصَّنون بالأركان. يقتحم الحارةَ الفرسانُ بقبعاتهم العالية، وشواربهم الغليظة، تنطلق أصوات حادة مخيفة تعقبها صرخات، أُنزَع من مكان المراقبة إلى الداخل، فتُطالعني وجوه مذعورة وهمسات تقول: إنه الموت. نرهف السمع وراء النوافذ المُغلَقة، لا شيء إلا أصوات متضاربة، وَقْع أقدام، صهيل خيل، أزيز رصاص، صرخة موجعة، هتاف غاضب. يتواصل ذلك دقائق في الحارة ثم يسود الصمت. ويتردَّد الهدير ولكن — هذه المرة — من بعيد .. ثم يسود صمت مطلق. وأقول لنفسي إن ما يحدث غريب ومزعج ومخيف. وأعرف بعض الشيء معاني الألفاظ الجديدة: سعد زغلول، مالطة، السلطان، الوطن، وأعرف بوضوح أكثر الفرسان البريطانيين والرصاص والموت. تزورنا أم عبده في غايةٍ من الانفعال، تحكي حكايات عن الضحايا والأبطال، وتنعي إلينا علوة صبي الفرَّان، وتؤكد أن جياد الفرسان حرنت أمام سور التكية وألقت الفرسان عن متنها! وأقول لنفسي إن ما يحدث حلم مثير لا يُصدَّق.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/13/
الحكاية رقم «١٣»
مُهذَّب ذكي العينَين، قصير القامة في مطلع الشباب، قيل لي: ابن عمك صبري. أعرف أباه — عمي — معرفةً سطحية، فهو لا يبرح الريف إلا نادرًا، أما صبري فإنه يرى القاهرة لأول مرة، وأعرف أيضًا من أحاديث الليل أن عمي أرسلَه إلى القاهرة ليلتحق بإحدى مدارسها الثانوية، بعد أن ترامت أنباءُ نشاطه الثوري في موطنه إلى مراكز الأمن. أسأله وأنا أرمقُه بشغف: أنتَ من شبان المظاهرات ويحيا سعد؟ فيبتسم ولا يجيب .. إنه يبدو أعمق من سِنِّه. ويقول له أبي: هذا بيتك، وأنت الآن آمِن، ولكن كن على حذر. وأقول لأبي: ولكنك يا بابا أضربتَ مع الموظفين؟ فينهرني: لا تتدخل فيما لا يعنيك. ويمارس صبري حياة تلميذ مجتهد ذي طاقة كبيرة في العمل. غير أن القلق يلوح في عينَيه الذكيَّتَين ذات مساء، فأسأله عما يُقلقه، فيسأل بحذر: ماذا دعاك إلى السؤال؟ – لستَ كعادتك. فيدعوني إلى المشي في الحارة. نتسكع في الحارة وفي ميدان بيت القاضي حتى يهبط الليل، ويهمس في أذني: تستطيع ولا شك أن تحمل ورقة إلى هذا أو ذاك من الناس؟ – ولكن لماذا أفعل ذلك؟ – لا تفعله إذا كان يضايقك. وأوافق ليعهد إليَّ بمهمة أيًّا تكن. وأمضي لأوزِّع أوراقًا على أصحاب الحوانيت والمارة، يتناولونها بدهشة، يُلقون عليها نظرة سريعة، يبتسمون ثم يواصلون العمل أو المشي. وأرجع إليه عند رأس الحارة فيسألني: مبسوط؟ أعرب له عن سروري الذي لا حدَّ له فيقول محذِّرًا: إياك أن تخبر عمي أو امرأة عمي. ولا أعلم أنني كنت أوزِّع منشورات سياسية إلا بعد مرور فترة غير قصيرة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/14/
الحكاية رقم «١٤»
يبدأ هذا اليوم بمظاهرة هزلية، من عجب أنهم يهزلون في الفترات القصيرة التي تفصل بين المصادمات الدامية، ها هي مظاهرة ضخمة تسوق في مقدمتها حمارًا بقماش أبيض نُقِش عليه بالأحمر: «السلطان فؤاد». ابن بلد يمتطي الحمار واضعًا على رأسه قبعة بريطانية، والهدير يصطخب: وتستقبل كالعادة بالهتاف والزغاريد. وأحمل لأبي خبرًا من الحارة أثار خيالي، فأقول له: يقولون إن اسم سعد يُرى منقوشًا على البيض بعد خروجه من الدجاج. فيضحك أبي، ويضحك ضيفٌ يجالسه، ويقول الضيف عن سعد: كان أعداؤه يتجنبون النظر في عينيه وهم يجادلونه تفاديًا للشعاع الحادِّ الذي ينطلق منهما. ويطرب أبي للكلام ويتمتم: إنه هدية السماء إلينا. فيقول الضيف متحمِّسًا: انتهت سنون النحس وبدأت أيام السعد. ويتنهَّد أبي قائلًا: يا أسفي على الرجل الشيخ المريض في منفاه. فأذهل وأسأل: سعد مريض، كيف هذا يا بابا؟ ولا يعيرني التفاتًا فأصرُّ قائلًا: سعد لا يمكن أن يمرض. ثم بيقين أشد: لم يبقَ إلا أن تقول إنه سيموت مثل همام ابن أختي!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/15/
الحكاية رقم «١٥»
ويزور أبي جماعة من الأصدقاء فيدور الحديث عن الثورة، لا حديث هذه الأيام إلا عن الثورة. حتى حديثنا نحن الغلمان يرطن بلغة الثورة، ولَعِبُنا في الحارة مظاهرات وهتافات، وتصبح دوريات الإنجليز منظرًا مألوفًا لدينا، نمعن في الجنود النظر بذهول، ونقارن بين ما نسمع عن وحشيتهم وما نرى من جمال وجوههم وأناقتهم ونتعجب. يدور الحديث بين الزوار عن الثورة. – مَن يصدِّق هذا كله أو بعضه؟! – إنه الله الرحمن الرحيم. – يخلق الحي من الميت. – الفلاحون والعمال والطلبة والموظفون والنساء يَقتلون ويُقتلون. – الفلاح يحمل السلاح ويتحدَّى الإمبراطورية. – انقطعت المواصلات تمامًا، أصبحَتْ مصر دويلات مستقلة! – والمذابح؟ – مذبحة الأزهر. – مذبحة أسيوط. – العزيزية والبدرشين. – الحسينية. – لا أنا ولا أنت، ليحيا سعد! – إي والله، ليحيا الساحر العظيم! – ولكن الأموات يفوقون الحصر. – أحياء عند ربهم. وينبري رجل ليقص سيرة سعد كما يعرفها، ومواقفه مع الإنجليز والخديوي قبل الثورة. وألمحُ أبي تغرورق عيناه بالدموع. أراقبه بذهول محتقنًا بانفعال صامت وفيض من الدموع ينهمر على خدي.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/16/
الحكاية رقم «١٦»
سلُّومة أول شهيد من أبناء حارتنا، حقيقةً إن علوة صبي الفرَّان أول مَن قُتل في حارتنا ولكنه في الأصل من أبناء كفر الزغاري، وعم طلبة — أبو سلُّومة — بيَّاع يسرح بعربة غزل البنات، وكان سلُّومة يعاونه، وينام على مقدم العربة إذا أنهكه التعب. وتخترق مظاهرة ميدان بيت القاضي فينضم إليها سلومة بتلقائية دون أن ينتبه إليه أبوه. وتنقض على المظاهرة قوة إنجليزية في خان جعفر، وتطلق عليها النار، يُصاب سلُّومة برصاصة في رأسه ويسقط قتيلًا. وينتشر الخبر في الحارة، فيجتاحها حزن، ويهزها الفخار والإكبار، ويُقبل الناس على عم طلبة يعزونه وينثرون بين يدَيه لآلئ الكلمات، ورغم حزن الرجل وتهالُكه؛ فإنه يُمارس إحساسًا جديدًا لم يعرفه من قبلُ، يرى نفسه لأول مرة محوطة بأهل الحارة من كافة الطبقات، يفوز بإكبار مَن لم يبالوا من قبلُ بردِّ تحياته، وتنهال عليه نفحات الموسرين من التجَّار والمعلمين. وتكون جنازة سلومة أعظم جنازة تشهدها حارتنا، تصغر إلى جانبها أيُّ جنازة سابقة من جنازات الفتوات والأعيان ورجال الدين، سعى وراء النعش المكلَّل بالعلَم جميع الذكور، وحيَّاه النساء من النوافذ والأسطح، وانضم إلى المُشيعين مئات من الحواري المجاورة، فبلغت الحسين في ضخامةِ مظاهرةٍ وجلالها. وتصير الجنازة حديث الناس، ويُمسي سلُّومة اسمًا ورمزًا، ويحظى الأب الكادح المصاب بمكانة مرموقة، وينوِّه المعلقون بعجائب الحياة المغيِّرة للقيم في لحظة من اللحظات الساحرة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/17/
الحكاية رقم «١٧»
استيقظت ذات صباح فأجد في بيتنا امرأة وفتاة. وتقول أمي: تعالَ سلِّم على عمتك وبنت عمتك سعاد. أسلِّم بحياء مَن يراهما لأول مرة، المرأة تشبه أبي حقًّا، الفتاة غاية في الجمال. وتسألني عمتي: في أيِّ سنة دراسية يا حبيبي؟ – الثانية الابتدائية. وأُفتَن بالفتاة فتملؤني بسحر لطيف وأحلام عذبة. وأعرف أن عمتي جاءت مع ابنتها من المنيا لتجهزها، وأن زفافها وشيك، وتشغل أيامهما المعدودة بالقاهرة بالتردُّد مع أبي على محال الأثاث والنجارين والمنجِّدين. وفي أوقات الراحة تتبدَّى سعاد في ثوب أنيق وزينة جذابة، تتألَّق بألوان العرائس وتعبق بشذاهن. وأختلسُ منها النظرات بقلب حنان وشوق غامض. وتقول لي وهي تنظر إلى الحارة من خصاص النافذة: حارتكم مسلية جدًّا. – تعالي أفرِّجك على أزِقَّتها والقبو والتكية. تتجاهل دعوتي، تتسلل نظراتي إلى عنقها وأسفل ساقيها، أتوق إلى تلاقٍ غامض، وإشباع مُبهَم ومغامرة مجهولة، أريد أن ألمس خدَّها المتورِّد، لا أريد أن أصدِّق أنها سترحل بعد أيام، وأن قلبي لن يجد مَن يؤنسه. وأستجمع شجاعتي وأقول: أتعرفين؟ وينقطع الصوت والتفكير، فتتساءل هي بنبرة محرِّضة على مواصلة الحديث: أتعرفين؟ ألوذ بالصمت فتسألني: لماذا تنظر إليَّ هكذا؟ – أنا؟! – نعم، رأيتُك، لا تنكر. وتضحك ضحكة قصيرة ثم تقول: أنت ولد شقي. وينقبض قلبي من الشعور بالذنب. ••• وأرى أمي وعمتي ذات يوم وهما يتناوبان النظر في صورة فوتوغرافية لسعاد، وتقول عمتي: أصرَّ العريس على رؤية الصورة. – وأبوها وافق؟ – يعني. ويترامى إلينا صوت أبي من حجرته: تصرُّف غير لائق! فتقول أمي: الزمان غير الزمان! وتقول عمتي: ما هي إلا صورة، والعريس لُقطة وابن ناس. فيقول أبي بنبرة لا تخلو من احتجاج: على خيرة الله. أتابعُ الحديث بحزن خفي، تطالعني من ثناياه نذر الفراق الأبدي، ووجه الكآبة في الأفق. وتمُرُّ أيام الزيارة بسرعة فائقة وأنا عاجز عن إيقافها. وتجيء لحظة الوداع. وأرنو إلى خد سعاد المورَّد كرغيف خارج لتوِّه من الفرن. وتذهب الأسرة كما ذهب آل بشير من قبلُ. وتضحك أمي من لوعتي دون أن تفطن إلى عمق أشجاني.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/18/
الحكاية رقم «١٨»
الفرحة ترقص في القلوب، والنشوة تشتعل في النفوس، يوم عودة سعد. أبي يرجع من الخارج كأنما هو راجع من خناقة، زرُّ طربوشه مفقود، عقدة رباط عنقه غائصة في ثنية الياقة. جاكتته تنضح بالعرق والتراب، صوتُه مبحوح كأنه سعلَ دهرًا، ولكنَّ عينَيه تتألقان بنور ظافر، يستلقي على الكنبة ويقول: هتفتُ حتى ضاع صوتي، نسيتُ نفسي تمامًا. ثم بارتياح عميق: تجمَّعَتِ الدنيا كلها في ميدان السيدة، سبحانك يا ربي، ما أكثر عبادك! ويجتاح الحارة إحساس غامض بالنصر، ويعتقد كلُّ قلب أن الحرية تدقُّ الأبواب، وتُطبِق المظاهرات على حيِّنا لا تريد أن تنتهي. سعد .. سعد .. يحيا سعد! وتلهب حرارة الهتافات خيالي، وآسَفُ على أن المظاهرات لا تدخل حارتنا شِبه المسدودة التي لا مخرج لها من طرفها الآخَر إلا الممر الضيق المحاذي للتكية، والمفضي إلى القرافة. وأسأل أمي: سيرحل الإنجليز؟ فتجيبني بيقين: إلى غير رجعة. وفي الليل تحتفل حارتنا بعودة الزعيم احتفالًا خاصًّا، تُضاء الكلوبات في هامات الدكاكين. ترتفع الأعلام، تدوي الزغاريد وتتطوع العالمة ألماظية بإحياء الليلة، تقيم سدتها في الوسط أمام الوكالة، يحفُّ بها تختها، ترصُّ الكراسي أمامها، وعلى أنغام العود والقانون والناي والرق يرقص الرجال، وتغني هي: وتغني أيضًا: وتختم بأغنية ضاحكة مطلعها: وتكتظ البوظة بالسكارى وتشتعل الغرز بنيران المجامر، وحتى المجاذيب والمتشردون واللصوص يسهرون ويفرحون، ويشارك عم طلبة أبو الشهيد في الحفل، والشيخ لبيب يحضره. وأسهر أنا في النافذة، وقوى مجهولة تشحن قلبي الصغير بحيوية سحرية.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/19/
الحكاية رقم «١٩»
أبي ينظر إليَّ نظرة غامضة ويسألني: ماذا فعلت؟ فأجيبه بسرور وزهو: اشتركتُ في المظاهرة الكبرى. – كان يمكن أن تدوسك الأقدام. – كان الصغار كثيرين. ويداري أبي ابتسامة ويسألني بنبرة ممتحِن: الآن سعد زغلول هو رئيس الوزراء، فلِمَ تُضرِبون؟ – أضربنا لتأييده في موقفه ضد الملك. – مَن قال لك ذلك؟ – رئيس الطلبة، قال إن سعد زغلول قدَّم استقالته احتجاجًا على موقف الملك من الدستور، وأننا ذاهبون لتأييد الزعيم. – هل عرفتَ وجه الخلاف بين سعد والملك؟ وأتوقف عن الاسترسال مرتبكًا، فيضحك أبي ولكني أبادره: نحن مع سعد وضد الملك! – عظيم، وماذا كان هتافكم في عابدين؟ – سعد أو الثورة. – ما معنى ذلك؟ وأتفكَّر قليلًا ثم أقول: معناه واضح، سعد أو الثورة! وهو يبتسم: عظيم، ومَن الذي انتصر؟ – سعد، وهتفنا: عاش الملك ويحيا سعد. ثم أقول بحماس: الاشتراك في المظاهرة أمتع من أي شيء في الدنيا. فيبتسم أبي ويقول: بشرط ألا يشترك فيها الإنجليز!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/20/
الحكاية رقم «٢٠»
يحيى مدكور أمهر لاعب كرة في مدرستنا، وصديقي المفضَّل في المدرسة الابتدائية. أجده يومًا يقرأ كتابًا في الفسحة فأسأله: ما هذا؟ – ابن جونسون .. الحلقة الأولى من مسلسلة بوليسية جديدة. ويُعيرني الكتاب بعد فراغه فأقرؤه بسعادة لم أجد مثلها من قبل، وأواظب على قراءة السلسلة، ثم أنتقل من سلسلة إلى أخرى، ومن كتاب إلى آخَر، ثم أدمن القراءة. وأصير مع الزمن بطلًا من أبطال القراءة، أما صديقي فيهجرها سريعًا ثم يتربع على عرش الكرة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/21/
الحكاية رقم «٢١»
إبراهيم توفيق مقترِن في ذاكرتي بالتهريج والتحدِّي، خفيف الروح نصف مجنون، بطل هواة لعب الكرة «الزلط» في فناء المدرسة، ننتقي عادةً من كوم التراب وراء السبيل زلطة في حجم الجوزة لتقوم مقام الكرة، نخوض بها مباراة يومية في فسحة بعد الغداء، والمباراة «الزلطية» ممنوعة رسميًّا، ولكن يُغضى عنها عادةً، وتُمارَس بعنف في أثناء تناول الضباط طعامهم، ويُكَفُّ عنها فورًا عند مرور الناظر، أما عواقبها الوخيمة على الأحذية فيدفع ثمنها الآباء. وفي الفسحة القصيرة يضغط إبراهيم توفيق طربوشه حتى يصير مثل طاقية، ويرتدي جاكتته بالمقلوب، ويحاكي مشية شارلي شابلن ذهابًا وإيابًا على إيقاع تصفيقنا، ثم يختم لعبه بإنشاد مونولوج: ويومًا يتباهى بالمقالب التي يدبِّرها لزوج أمه فيقول له أحدنا: أتحداك أن تأكل قرن فلفل حامي! والتحدي يستفزه لمصارعة المحال فيهتف: آكل عشرة! ويتراهن فريقان، نبتاع من بيَّاع الفول عشرة قرون فلفل حامية، وتحلَّقناه في حماس! يتناول إبراهيم القرن الأول ويأكله مُبدِيًا ثباتًا واستهانةً. ويتناول الثاني محافظًا على ثباته واستهانته. ويتناول الثالث فلا يتغير من مظهره شيء إلا أنه ازدرد ريقه بصورة ملموسة. ويتناول الرابع فيسعل سعلة مكتومة. ويتناول الخامس فتدمع عيناه رغم قوة إرادته، ويسعل بشيء من العنف. وعقب تناول السادس يبدو كأنه يقاوم عدوًّا مجهولًا اندسَّ في أعماقه، وتفيض عيناه بالدمع! وهو يأكل السابع يسيل الماء من أنفه ويصطبغ أنفه بحمرة عميقة .. ويصيح بعضُ ضعاف القلوب: أوقِفوا الرهان! ولكنه يرفض بحركة من رأسه دون أن ينبس وكأنما لا يستطيع النطق. ويلتقي ماء عينَيه بماء أنفه في مجرى على ذقنه وعنقه، وينتابه سعال متقطِّع. ويستحيل وجهه قرمزيًّا وتنتفخ شفتاه، ولكنه يلتهم القرون حتى آخِرها وسط التهليل والتصفيق، ويربح! ولكن لعله لا يشعر للنصر بلذة، إنه صامت مُحتقَن زائغ البصر، وعلى هذه الحال ندخل حصة الدين، والشيخ يطارده بالتسميع لما هو معروف عنه من الإهمال والشقاوة، يقول له: إبراهيم توفيق، سمِّع تَبَارَكَ الَّذِي. ويلبث إبراهيم صامتًا مغمورًا بهمومه الخفية، فيصيح به الشيخ: قف يا ولد وسمِّع. ولكن إبراهيم لا يتحرك، على حين تصدر من الأركان همهمة يظنها الشيخ لعبة متفقًا عليها فيصيح: الأدب يا أولاد الكلاب، قم يا مجرم .. قم لا بارك الله فيك ولا فيمَن أنجبك! ويقترب الشيخ منه في مجلسه في آخِر الحجرة، فيهوله منظر وجهه، فيتوقف متسائلًا: ماذا بك؟ .. لماذا تبكي؟ عند ذاك يتكلم عنه كثيرون فيسمع الشيخ ويتعجَّب ويقول: أعوذ بالله .. يا أولاد الأبالسة، كلكم مجرم وابن مجرم. ويذهب بإبراهيم إلى الخارج ليُسعف في حجرة الطبيب .. ولكن إبراهيم لا يكف أبدًا عن التهريج والتحدي!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/22/
الحكاية رقم «٢٢»
هاشم زايد يجلس إلى جانبي على قمطر واحد. طويل القامة، مفتول العضلات، ولكنه وديع خجول، وطيب وحسن السلوك، أمه أرملة غنية تملك بيوت زقاق برمته، وشريكة أكبر عطَّار في الحارة، لذلك نخُصُّه بنظرة تجمع بين الإعجاب والحسد، تتهادى إليه نكات إبراهيم توفيق من وراء، فلا يملك إلا أن يضحك، فيراه المدرِّس دون الفاعل الحقيقي فينال جزاءه صفعة أو لكمة أو ركلة باستسلام التلميذ المؤدب. ويفشل هاشم في المدرسة فيتركها، وتموت أمه فيصير من أكبر أعيان الحارة في لحظة واحدة. وتفرِّق بيننا السبل، أراه أحيانًا مستقلًّا الكارِتَّة أو جالسًا في ملابسه البلدية وسط هالة من المريدين، إنه يتحول إلى شخصية غريبة فأتجنَّبُ حتى مصافحته، إنه يتكبَّر ويتعالى ويستثمر قوته في العدوان وفرض إرادته على العباد، كيف يتحول الصبي الخجول الطيب إلى وحش شرس؟ إني أتفكَّر وأتخيَّل دون جدوى! لا يمُرُّ يوم في حياته بلا معركة، اللكمة عنده أسرع من الكلمة، والنَّبُّوت مُفضَّل على اللكمة، ويحل بالمكان فيتجنبه الناس كأنه وباء! لو امتد زمن الفتوات إلى زمانه لفرض نفسه فتوة، وهو يزعج القسم كما يزعج الحارة، ويبيت أيامًا بسجن النقطة، ولكنه يرشو المخبرين وشيخ الحارة. تحفُّ به دائمًا بطانة ولكن لا صديق له، ولم يتزوج رغم ثرائه، ولا يُعرف عنه أيُّ ولع بالنساء. وعلاقته بذكرى أمه مثيرة محيِّرة، يتذكرها أحيانًا بحزن عميق ويتنزل على روحها الرحمات، وأحيانًا ينتقدها بمرارة وسخرية، يقول: كانت بخيلة شحيحة، تهمل نفسها لحد القذارة، وتعامل الخدم بقسوة جنونية. ويغالي مرة في الحملة عليها، ثم — فجأةً — يجهش في البكاء، ينسى نفسه تمامًا ويجهش في البكاء، ثم ينتبه لضعفه فيضحك، ولكنه يصبُّ غضبه على جميع مَن يشهد دموعه، ويبدو أنه يضمر لهم أو أنه سيضمر لهم السوء! ويختفي هاشم زايد من الحارة ومن البيت. وتطول غيبته حتى يذوب رويدًا رويدًا في ظلمة النسيان. وتسمع مَن يقول إنه هاجر، وتسمع من يهمس بأنه قُتل وأُخفِيَت جثته.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/23/
الحكاية رقم «٢٣»
ذات صباح تدهمني اليقظة بعنف، أستيقظ مجذوبًا من عالم الغيب بقبضة مبهمة، يلفني تيار من الطنين، أنصتُ فيقف شعر رأسي من ترقُّب الشر، أصوات بكاء تتسلَّل إليَّ من الصالة، تغرز أفكار السوء أسنانها في لحمي، ويتخايل لعيني شبح الموت. أثب من الفراش مندفعًا نحو الباب المغلَق، أتردَّد لحظةً ثم أفتحه بشدة، لأواجه المجهول. أرى أبي جالسًا، أمي مستندة إلى الكونصول، الخادمة واقفة عند الباب، الجميع يبكون! وتراني أمي فتُقبل عليَّ وهي تقول: أفزعناك .. لا تنزعج يا بني! أتساءل بريقٍ جاف: ماذا؟ فتهمس في أذني بنبرة مختنقة: سعد زغلول .. البقية في حياتك! فأهتف من أعماقي: سعد! وأتراجع إلى حجرتي. وتتجسد الكآبة في كل منظر.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/24/
الحكاية رقم «٢٤»
القطة الأم مستلقية على جنبها مترعة الحلمات، والصغار تتلاطم مغمضات الأعين في حضنها، أنا وحيد في الحجرة، أتابع المنظر باهتمام، فجأةً تتردَّد أنفاس على كثب مني فألتفتُّ فأرى سنية، هي بكرية جارنا ساعي البريد، دقيقة القسمات خفيفة الروح، مليئة بالحيوية والمرح، تكبرني ببضعة أعوام، تنظر إلى القطة بشغف وتهمس: ما أجملها! أوافق بإيماءة من رأسي فتقول: أحب القطط، وأنت؟ أجيب وشعوري بتوحُّدنا يغمرني: وأنا … وتقترب لترى بوضوح أكثر، فأحس مسَّ صدرها لكتفي، تواصل الحديث فلا أتابعها، إني أضطرم فيلتهم اللهيب حيائي، أستدير فأضمها إلى صدري، وتبدأ علاقة وطيدة، مفعمة من ناحيتي بالسرور والندم. أزداد بها معرفةً، جميلة جسورة بقدر ما هي حريصة، رغم سكراتها المنغومة، فبيننا حدود لا يمكن تخطيها، ألبِّي إشاراتها، أهرع إلى ظلها، أما هي فلا تعرف النجوى ولا الحلم ولا البراءة، تجذبني إلى حديقة الورد، ثم تضرم فيها نيران الجحيم، لا نعرف السكينة ولا الأمان، نقطف الثمار في رعدة من الرقباء، نجري في حومة الحب خطَّافين نشَّالين مجانين، نراوح بين الصراع المكتوب والنعاس المفتوح العينَين، وتنقلب الحياة أغنية مجنونة تتفجر بالعذوبة والعذاب. وتتزوج سنية عقب عامَين من حبنا. ونلتقي بعد أعوام وأعوام من زواجها. أجدها مفرطة في البدانة، غافية النظرة، رزينة، جليلة، راسخة الاستقرار والوقار، نتصافح ونتبادل حديثًا روتينيًّا عن الأحوال والناس، لا بسمة ذات معنى، ولا إشارة إلى عهد انقضى. سيدة مصونة ورمز حي للأمومة، ومثال للتديُّن والورع. وأتخطى الحاضر راجعًا إلى عهد صباها النضير، وهي فراشة متعدِّدة الألوان، تفاحة طازجة، وردة فواحة، ينبوع متدفق. تلك الأيام السعيدة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/25/
الحكاية رقم «٢٥»
فتحية، الأخت الصغرى لسنية، تماثلني في العمر. مثال للهدوء العذب والرصانة والعمق. نظراتنا تتسلل في استحياء فيستحوذ عليَّ أملٌ خلَّاب، أمد يدي فأقبض على راحتها فتسحبها بلطف، وبرِقَّة تقول لي: لا أحب العبث. وأضيق بجديتها فأقول: إنك لا تعرفين الحب. فتقول بأسى: أنت الذي لا تعرفه. وتقول معاتبة: أثبِتْ لي أنك تعرفه مثلما أعرفه. ليست قطرات الندى مثل ذوب الشمع المحترق، ويصرفني اليأس، فأتعزَّى بالزهد، أمضي مُصمِّمًا على النسيان، ولكن تُرجعني الأشواق أو رسالة عتاب، أو لقاء غير متوقَّع، فأجد نفسي مرةً أخرى حيال قلب محب وعاطفة طاهرة وإرادة لا تلين. وطريقي شاقة وطويلة، وفتاتي محبوبة كثيرة الخُطَّاب، يقول لها أبوها: معنى الرفض أن تنتظري عشرة أعوام. ثم يقول بحزم: القلوب تتغير بعد عشرة أعوام. ويصر على تزويجها من رجل مناسب، فتُزَفُّ إليه كسيرة القلب، وتنجب أطفالًا، وترعى بيتًا يُعَد مثالًا للحياة الزوجية الموفَّقة. وتغيب عن عيني وخيالي دهرًا طويلًا. وألتقي بها في مأتم وهي في الستين من عمرها، أرملة منذ عشرة أعوام، فنتصافح وتطالعني بنظرة صافية، تتألق فيها بسمة ذكريات قديمة، يتحرك في أعماقي شيء غامض، تجتاحني موجة من التذكُّر والأسى، وشعور فادح بطول الزمن المطروح ورائي. وأعلم بأنها تعيش وحيدة بعد زواج بناتها مع خادم عجوز، وأجدني أحادثها رغم كلِّ شيء بجرأة مستمدة من ضآلة ما يتبقى من العمر، وأعزم على زيارتها، وأتخيل، وأسباب الابتسامة والمرارة تتجاذبني، ثم أبتهل في خشوع إلى أشجان الوداع.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/26/
الحكاية رقم «٢٦»
ست نجية امرأة وحيدة. عهدي بها وحيدة دائمًا، في بيتها وحيدة، مقطوعة من شجرة، يَرِد اسمها بلا لقب، لا أب ولا أم ولا أخ ولا أخت، ولكنها معروفة بأنها امرأة غنية. صورتها لا تُنسى، قصيرة جدًّا، مطبوعة بطابع كساح يتجلى في تقوُّس ساقَيها وبروز ذقنها، ولها أنف كبير مثل أذن حمار، دميمة ولكنها غير مُنفِّرة؛ لخِفَّة روحها وسخريتها اللاذعة من نفسها ومن الناس. تجيء معها في زيارتها لنا بالمرح والضحك، فلا نهاية لنوادرها وقفشاتها، وأتصورها دائمًا أسعد الناس. بيتها مزرعة قطط وكلاب، تُولَد وتُنشَّأ في عزها مُكرَّمة مُدلَّلة، لكلٍّ اسمُه وخدماته الغذائية والصحية والرياضية، هي مولعة بهنَّ، وهُنَّ مولعات بها، وفي رحابها المترعة بالرحمة والسخاء تنمحي الخصومة الغريزية بين الكلاب والقطط؛ فهُنَّ يعشن في إخاء ومودة. تسألها أمي: لمْ نرَكِ من مدة يا ست نجية؟ فتقول: كانت نرجس متوعكة المزاج. أو تقول: كانت بَرَكة تلِدُ. ودائمًا تتحدث عن عفريت من الجن يؤاخيها، وتحكي عن علاقتهما الخاصة باعتزاز وتنوِّه بنوادره. تقول بجدية: أمس شعرت بأنفاسه تتردَّد على وجهي قبيل الفجر .. أو تقول: وجدتُ بلَّاص العسل فارغًا، فقلت له بالهنا والشفا! بالصدق والجدية تتكلم، لعلها لا تتخلى عن المزاح إلا حين الحديث عن أخيها الخفيِّ. وتزعم أيضًا أن الكلاب والقطط تخاطبها بلغاتها الخاصة وأنها تفهمها، ولكي تثبت صحة كلامها تمضي في محاكاة اللهجات القطية والكلبية فنغرق في الضحك. ولها خبرة راسخة في قراءة الفنجان، والورق، وتفسير الأحلام، وتُتَّهم أحيانًا بممارسة السحر والشبشبة حتى إن أم عبده لعنتها جهرًا في الحارة عقب اختفاء ابنتها إحسان، ولكن طيبتها خصلة يشهد لها بها أكثر الناس. لا يكاد يطرق بابها أحد، لكثرة الكلاب يتجنَّب الناس زيارتها، حتى الخدم لا يطيقون خدمتها، فهي وحيدة في بيتها، ولكن تؤنس وحدتها الكلاب والقطط والعفريت المؤاخي! تقول لها أمي وهي بصدد الحديث عن وحدتها: على الإنسان أن يعمل حسابه لساعة الأجل. فتُجيبها جادةً وهي تبتسم: ستنبح الكلاب حول جثتي وتموء القطط، ويحضر أخي ليُغمِض عينيَّ، ثم يفعل الله ما يشاء!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/27/
الحكاية رقم «٢٧»
تقول ضيفة لأمي: نَظْلة، الله يسامحها! فتسأل أمي عن الأخبار فتقول الضيفة: ما زالت بالجدع حتى أوقعَتْه فتزوَّجها، رعاها وجعلها من أسعد نسوان الحارة، وها هي الفاجرة تهجره عندما أعجزه المرض! وتسأل أمي عن حاله فتواصل المرأة: طريح الفراش، وحيد، يبصق دمًا ويسعل حتى تنخلع ضلوعه، يتمنى الموت، ولما أزوره يقول لي: «انظري يا امرأة خالي ما فعلَتْه نَظْلة» فأشجعه وأواسيه وقلبي يتقطع! وأتخيل أنا المريض والدم والمرأة الفاجرة. ويمضي زمن ثم تزور الضيفة أمي وتقول: شوفي العجائب، لم يكَدْ يمُرُّ شهر على وفاة المرحوم حسن حتى أوقعَتِ الفاجرة شقيقَه خليل فتزوجها! فتهتف أمي: نَظْلة؟! – ومَن غيرها يفعل ذلك؟ إلهي ينتقم منك يا نَظْلة يا بنت أمُّونة! وأتخيل أنا الميت والعاشق والفاجرة. ويمضي زمن، ها أنا أذاكر دروسي في حجرتي، فيترامى إليَّ صوت أمي وهي ترحِّب بضيفة قائلة: أهلًا بك يا ست نَظْلة. وأتساءل باهتمام تُرى أهي الفاجرة؟ وأتسلَّل إلى الصالة محتميًا بظلمتها وأرسل الطرف إلى حجرة الاستقبال، فأرى امرأة — بين الأربعين والخمسين — بضة الجسم حسنة التكوين أنيقة الملبس، أعترف بأنها امرأة مثيرة، وأنها تستحق أن تُعشَق، وأعرف عنها معلومات جديدة، منها أن زوجها الثاني — خليل — تُوفِّي أيضًا بعد أن أنجبَتْ منه ولدًا، وأنها تركَتْ شقتها قبيل القبو لتقيم في شقة صغيرة في بيت قريب هنا، وأدرك أيضًا أن أمي لا ترحِّب في أعماقها بزيارتها لنا، وأقول: إنها شريرة! ولكن أمي تقول بحذر: الله وحده هو المطَّلِع على الأفئدة! – تعطفين عليها رغم أنك لا ترحبين بها. – سمعتُ الكثير ولكني أرى امرأة ضعيفة، وأمًّا لولد لا رجُلَ لها ولا مال! وأراقبها من النافذة كلما سنحت فرصة، وتُخيِّم عليَّ ذكريات المرحوم حسن وخليل ولكني لا أبالي. وأشعر بأنني مقبِل على مغامرة أخطَر من جميع ما مرَّ بي من مغامرات، ولكن القصة لم تبدأ. ذات صباح، تهز حارتنا صرخة مدوية. ينتشر خبر بأن جارة ألقَتْ على وجه نَظْلة ماء نار، مُتَّهِمةً إياها بمحاولة خطف زوجها. تفقد نظلة سحرها إلى الأبد. تُضطَّر إلى العمل في حمَّام الحارة. يشتد بي الحزن فترة من الزمن، وأردِّد ما سبق أن قالته أمي: الله وحده هو المطلع على الأفئدة!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/28/
الحكاية رقم «٢٨»
يزورنا كثيرًا. أحبه لأنه يكاد أن يكون صورة مُتقَنة لأبي؛ من أحاديثه المكرَّرة في إلحاحٍ أبديٍّ أن يخاطب أبي قائلًا: أيُرضيك حالي هذا يا خالي؟ فيقول له أبي: يا محسن، اعتمد على الله وعلى نفسك. – يؤلمني أنني غنيٌّ بما أملك من مالٍ في الأوقاف، ولكني عاجز عن صرف مليم واحد منه. – هذا حال كثير من المستحقين. ويُضطَّر إلى أن يعمل كاتبًا بثلاثة جنيهات شهريًّا في وكالة الأخشاب بحارتنا، وتحاصره ظروفه القاسية فيتزوج من سوسن بنت نعمات الدلَّالة العاطلة من الجمال والمال، ويتقدم به العمر دون أن ينجب، فيمضي حياته متحسِّرًا، وتضَّرِعُ زوجتُه إلى الله ألا يحلَّ عقدة الوقف، وتقول لأمي: لولا الفقر لفَجَر، لولا الفقر لطردني! لا حديث له إلا الوقف، الوقف يا خالي، الوقف يا امرأة خالي، وأسمعُه يردِّد بحرارة: يا رب، نفسي في لقمة حلوة ومسكن نظيف وملبس لائق وأنثى، أنثى حقيقية لا تمثال خشبي في هيئة امرأة، يا رب نفسي في ولد أو حتى في بنت! وتتقدَّم به السن أكثر، وتدمع عيناه أحيانًا وهو يرثي نفسه حتى ينال مني التأثُّر. وتندفع الأحداث فتُغيِّر من إيقاع الزمن ورؤيته وتنحل عقدة الوقف! ويرقص ابن عمتي من الفرح فأسأله: ما مقدار البدل الذي سيصرف لك؟ فيقول بزهو: أربعون ألفًا من الجنيهات! يدور رأسي، أتفرَّس في وجهه بعجب، إنه يدنو من السبعين، أبيض الرأس، ضعيف البصر، هزيل الجسد، ليس فيه سنَّة ولا ضرس، أسأله: ماذا ستصنع بثروتك؟ فيقول متهلِّلًا: قلبي يحدثني بأنني سأمرح في نعمته عز وجل. ثم يستطرد: سأشتري بيت عيُّوشة الحكيمة، وأركِّب طاقم أسنان، وأتزوَّج! – تتزوج؟ – وسأنجب أيضًا، سوف ترى! ويجدِّد نفسه بتصميمٍ كما يجدِّد الحياة من حوله، أبقى على سوسن، ولكنه يتزوج من توحيدة بنت بيَّاع الطرشي، وهي بنت جميلة دون العشرين. ويخبرني ذات يوم قائلًا: وليُّ العهد يتكون بإذن الرحمن. ويُفرط في الطعام بنهَم لا يناسب سِنَّه، ثم يلزم الفراش عقب ستة أشهر من الزواج. وأعوده فيقول لي بصوت خافت: لستُ نادمًا، أبدًا، الحمد لله رب العالمين! وكان قد بنى مقبرة جديدة وجميلة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/29/
الحكاية رقم «٢٩»
علي البنَّان صاحب محل البُنِّ في حارتنا صديق، يموت أبوه فيحل مكانه وهو في طور المراهقة. وذات يوم يسألني وأنا أجالسه في المحل: هل تعرف أنيسة بنت أمينة الفرَّانة؟ فأجيبه ورائحة البُنِّ الصارمة تسيطر على حواسي: أعرفها طبعًا، حارتنا كلها تعرفها! – ما رأيك فيها؟ – بنت فائقة الجمال وهي تشارك أمها في العمل. – ماذا تعرف عن أخلاقها؟ فأضحك قائلًا: ما أكثر ما يُقال! – ولكنني متأكد من الكثير! ويُحكِم العمامة فوق رأسه، ويقول: أعرف أنها سقطت أول ما سقطت مع حمدان صبي الفرَّان. أهز رأسي موافقًا، فيمضي هو قائلًا بنبرة اعترافية ثقيلة: ضُبِطَت أيضًا مع الحنفي صبي محل الطرشي تحت القبو. – إنك تتكلم بلهجة حزينة أكثر من الضروري! – وقيل كلام أيضًا عن علاقتها بخفير الدرك! فأسأله ضاحكًا: هل تنوي كتابة سيرة لها؟ – وأيضًا مع حسنين السقَّاء! فأغرق في الضحك وأقول: إنه لسلوك يستحق التأمُّل. – ولعلَّ ما خفي كان أعظم. – مَن يدري فلعلها ليست الوحيدة في حارتنا! فيتنهَّد قائلًا: ولكنها الوحيدة التي أحبها! فأخرجُ دفعةً واحدة من جو المرح وأسأله: أتريد أن تنضم إلى طابور العشاق؟ فينظر إليَّ طويلًا ثم يقول: كلَّا، لقد قررتُ أن أتزوجها! – لا أصدِّق!! فيقول بجدٍّ وتجهم: إنه قرار اتُّخِذ بعد عذاب طويل، ولا رجعة فيه، ولا يهمني ما يُقال! وينفِّذ علي البنَّان قراره.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/30/
الحكاية رقم «٣٠»
يشب بطريق الحموي فيجد نفسه متزوِّجًا. كان أبوه مقاول بنَّاء أميًّا، فأراد أن يفرح بآخِر العنقود في حياته، فاختار له بنتًا وزوَّجه منها وهو تلميذ في الرابعة عشرة من عمره. يسعد التلميذ باللعبة الجديدة، فيجعل منها حكاية يُشعل بها قلوب أقرانه المتلهِّفة وأخيلتهم المحمومة. وينجح «بطريق» في حياته المدرسية، ويتفوق فيكمل تعليمه العالي، ثم يُبعث إلى إنجلترا عامَين. وعقب عودته يتعذَّر عليه التوافُق مع ماضيه، زوجته خاصةً، يتنافران في كل شيء، يضيق بجهلها وخرافاتها، يتهاوى في الغربة والفشل، ويقول لخاصته: لا يمكن أن تمضي الحياة هكذا! ويتخذ قرارًا حاسمًا وقاسيًا، من خلال معاناة طويلة، فيُطلِّقها. ويلهج كلُّ لسان في الحارة بلَعْنِه ومروقه، ولكنه يلقى المدَّ المُعادي ببرود، بل ويتحدَّاه أكثر فيرجع ذات يوم بزوجة جديدة أجنبية، يزعم أنها فرنسية، ويصر أهل حارتنا على أنها رومية من بين السوريين! ويذهبان ويجيئان معًا وهي تشع سفورًا ونورًا، ترمقهما الأعين بازدراء واستنكار، ويترحَّم المترحمون على المعلم الحموي. وتتطاير تساؤلات محرجة عن سلوك الزوجة الجديدة واختلاطها بالرجال، وما يُقال عن إدمانها الخمر، وعن صحة عقيدتها الدينية، هل يُعتبر إسلامها حقيقيًّا؟ هل تنشِّئ أبناءها نشأة إسلامية سَوِيَّة؟ يُعاني بطريق الحموي ذلك كلَّه، ويتصدى له بما يستطيع من قوة واستهانة. ولكن ثمة متاعب جديدة من داخل بيته تهب عليه بلا رحمة، ها هي زوجته تضيق بالحارة وأهلها، وعاداته الأصيلة تتعرَّض لمؤاخذتها وسخريتها، وهو كلما تهاون في حقٍّ طُولِب بالمزيد من الاستسلام، حتى يُسلِّم في النهاية بأنه غارق في التعاسة حتى أذنَيه. ويُقال له: طلِّقها وأمرك لله! ولكنه يجيب بإصرار: محال أن أُسلِّم بالهزيمة! أما هي فتقترح الطلاق من ناحيتها، ولكنه يرفضه بإباء. وإذا بها تهجره ذات يوم، فتغادر الحارة والوطن. وتمضي الأعوام وبطريق الحموي أعزب لا يفكر في الزواج. يقترح عليه إخوته أن يردَّ زوجته الأولى، فيقول ساخطًا: هذا سخف! – هل تعتزم استرداد الثانية؟ – إنه الجنون نفسه. ثم يقول برزانة وتأمُّل: لا بد من الزواج، وعاجلًا أيضًا، لم تَضِع التجربة هباءً، فإني على الأقل الآن أعرف ما أريد!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/31/
الحكاية رقم «٣١»
من قصص الحب المؤثرة في حارتنا قصة سيدة كريم. ينشأ حب عفيف مستور في خفاء بينها وبين إدريس القاضي ابن الجيران، رغم التكتُّم والحياء تفضحهما النظرات وأحوال العاشقين، ينشب خصام بين الشيخ كريم مدرِّس اللغة العربية وعم حسنين القاضي بيَّاع الحلوى: أدِّب ابنك، ابني مؤدب، كلمة من هنا وكلمة من هنا، فيوشك الكلام أن يتحوَّل إلى فعل، لولا تدخُّل أهل الخير، ولكن يستيقظ الرقباء وتحدُّ الأعين فيعاني العاشقان في صمت وقهر، وعندما ينتهي إدريس من المرحلة الثانوية يقنع أباه بأن يخطب له سيدة، فيمضي الرجل على مضض إلى الشيخ كريم، طالبًا يد ابنته، ولكن الشيخ يقول له بجفاء: ابنك تلميذ وبنتي لا يمكن أن تنتظره. ثم يقول الشيخ لبعض خلصائه: كيف يطمع في مصاهرتي ذلك البيَّاع الحقير؟! ويتقدم ابن الحلال المناسب لطلب يد سيدة. ولكن سيدة ترفضه! ليس الرفض بالأمر الهيِّن ولا المألوف، إنه في الواقع ثورة غير متوقعة أذهلت الشيخ والجيران، وزلزلت الأسرة بالغضب والعنف والتأديب، ولكن سيدة تصِرُّ على الرفض، وتصارح أباها بأنها تمارس حقَّها الديني! وكالعادة المرذولة في حارتنا تغمغم الألسنة بالشائعات والشكوك وتختلق الأوهام، ويتناهى ذلك إلى الشيخ كريم، فيركبه حزن ثقيل حتى ينوء به كاهله فيختطفه الموت وهو يُلقي درسه في الفصل. وتتحمل سيدة مسئولية موت أبيها أمام الأسرة والناس، تصبح ملعونة، شؤمًا، متهمة، مُتجنَّبة كالمرض المعدي. وتتزحزح الأعوام فلا يتقدم لها خاطب. وينجح إدريس في دراسته العالية فيتقدم إلى عم حبيبته طالبًا يدها! ولكن لا يلقى إلا الرفض والتجهم، حتى الأم لا توافق! وتمُرُّ الأعوام، ثقيلة عند المعاناة، خفيفة لدى العدِّ والإحصاء، سيدة شبه سجينة لا يطلبها أحد، وإدريس موظَّف يثير التساؤلات بإعراضه عن الزواج، ولا يشك أحد من المقربين إليها أو المقربين إليه في صمود الحب، وإصراره وتحديه المتواصل لكافة العراقيل. ويُندَب إدريس للعمل في بعض البلاد العربية، وتنقطع أخباره أعوامًا، على حين تجاوز سيدة ربيع الشباب، ويغيض رونق صباها، وتتلبسها صورة تعاسة مجسَّدة. ويرجع إدريس من غربته رجلًا في منتصف الحلقة الخامسة. لم يعُد أحد يذكر قصته، ولم تعُد القصة تثير أيَّ اهتمام عند مَن يتذكرونها. وتُعرف حقيقة غير مألوفة في حارتنا وهي أن إدريس ما يزال أعزب، لم يدخل دنيا ولم يمارس أبوة. ويمضي إدريس إلى أم سيدة يطلب يد ابنتها! ويدهش كلُّ مَن يعلم بالخبر، معلِّقًا عليه بأن سيدة لم تعُد عروسًا تسُرُّ الحبيب. ويتم الزواج متوجًا حياة منصهرة بالعذاب والإصرار والوفاء.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/32/
الحكاية رقم «٣٢»
سنان شلبي يعمل في مطحن الغِلال فيما يلي السبيل القديم، تلوح منه نظرة نحو النافذة في البيت القائم أمام المطحن، فيلمح وجهًا أسَرَّ فؤاده وسيطر على أقداره، يأسر فؤاده ويستحوذ على إرادته بقوة لم يكن يتصوَّر وجودها بحال، وقال لنفسه: «لقد جننت يا سنان وما كان كان.» والجميلة لا تغادر البيت فيما يعلم، ولكن أم سعد هي التي تتصدى للمعاملة والتسوُّق، وهي امرأة معروفة في الحارة، والعلاقة بين أم سعد والجميلة غامضة، عرضة لشتى الاحتمالات، فالأسرة لا تزور ولا تُزار، فمَن يكون سعد؟ أين هو؟ والمرأة أهي أمُّ الجميلة؟ قريبتها؟ خادمتها؟ ثم تنتشر أقوال تسيء ولا تسُرُّ. يقول سنان شلبي: أريدها، إني مجنون بها، بالحلال أو بالحرام أريدها، ولو دفعتُ حياتي الغالية ثمنًا لها! ويوثِّق سنان علاقته بأم سعد في تردُّدها الدوريِّ على المطحن، ويُلمِّح لها عن رغباته الخيالية، ولكنها تتجاهله وتشجعه في آنٍ، فينفحها بالهدايا الصغيرة التي يطيقها من اللبان والحنتيت والسكر، وعند ذاك تقول له: الجوهرة غالية، وأنت رجل على قد حالك! فيقبض الفقر قلبه ولكن الجنون يبسطه فيقول: ربنا يقدرنا. ويدرك لتوه أن الجميلة تحترف الحب ولكن ذلك لا يثنيه عن سَعْيه؛ فإن جنون العشق يتسلَّط على إرادته بعنف ويأسره، فلا يترك له اختيارًا أو مجالًا للتردُّد. وتقول له أم سعد: الأمر ليس يسيرًا، يوجد حرَّاس لا تراهم، وغاية ما أستطيعه أن أدلُّك على الطريق! وتمدُّ له يدها بحركة ذات مغزى فيضع لها فيها قطعة فضية من ذات الخمسة القروش، ولكنها تردُّها بإباء ولا تقبل بأقل من عشرة قروش، أو عُشر أجرِ سنان في شهر كامل! وتقول له: أتعرف المعلم حلمبوحة؟ قل له إنك حاضر من طرفي، إنه راعيها ووليُّ أمرها، وهو الذي جاء بها إلى حارتنا من المجهول! فيقول سنان بضيق: ظننتُكِ ستوصلينني بغير وسيط! – لا أملك إلا أن أدلُّكَ على الطريق! ويذهب سنان إلى حلمبوحة في دكانه الصغير الذي يبيع فيه الدخان والمنزول، يجده كما يعهده عجوزًا أعمش جافَّ الخلق، فيُحيِّيه ويقول له همسًا: إني قادم من طرف أم سعد. فيرمقه بازدراء ويقول باقتضاب حاسم: جنيه مصري! فيقول سنان بارتياع: إنه مبلغ جسيم يا معلم! فيُعرِض عنه قائلًا: وفَّر نقودك واذهب لحالك. لا شيء يمكن أن يثني سنان عن مطمحه، إنه يبيع خاتمه الفضي الموروث عن أبيه بجنيه، ويهبه لحلمبوحة مُسلِّمًا أمره للمقادر. يتفحَّص الرجل الجنيه، يدسُّه في جيبه، ثم يقول لسنان: لم يبقَ إلا هريدي الحملاوي، تعرفه؟ يغوص قلب سنان في صدره ويسأله: ما شأنه؟ – إنه خطيب البنت، ولا يرضى بأقل من جنيهَين. فيتأوَّه سنان قائلًا: إنها ثروة، ثم إنها سلسلة بلا نهاية! – هريدي ختام السلسلة. – ولكن من أين لي بالجنيهَين؟ – خذ نقودك واذهب! ويرد إليه الجنيه بحدة، يتناول سنان الجنيه بقلب طافح باليأس، ثم يمضي بلا هدف، وتقوده قدماه إلى البوظة، فيسكر حتى يقول لنفسه: سأبلغ مناي ولو طِرتُ إليه فوق سحابة! ويذهب من توِّه إلى أم عليش بيَّاعة البيض بحجرتها الخشبية فوق سطح أم علي الداية، فتقول له مستاءة: إني لا أتعامل مع الزبائن في حجرتي! فيرمي بثقله فوقها فجأة ويكتم أنفاسها ولا يتخلى عنها إلا وهي جثة هامدة. ••• إنه يعي تمامًا ضرورة أن يهرب في الحال قبل أن تُكشف الجريمة، لا يشك أن كثيرين رأوه وهو يتخبَّط في الحارة، ثم وهو يتسلَّل إلى بيت أم علي الداية. إنه يعي تمامًا ضرورة الهرب، ولكنه لا يفكر إلا في الحب. ويذهب إلى المعلم حلمبوحة فينقده الجنيه ثم يمضي إلى هريدي الحملاوي بالجنيهَين، فيصحبه الحملاوي إلى بيت أم سعد. ••• يقول الرواة إن سنان دخل حجرة محبوبته كمن يدخل الملكوت، وفي نشوة الخمر ارتمى على قدمَيها في هيام، وما يدري إلا وهو يبكي من الوجد، واجتاحته لحظة ثراء، فأشرق وجدانه بالصراحة والصدق فقال: لقد قتلتُ! ولم تفهم المحبوبة كلمة، ولم يُقدِم هو على الفعل. وانطرح الزمن خارج وعيه حتى هلَّ أول شعاع للضياء. وارتفعت من الطريق جلبة، ودقَّتِ الأرضَ أقدامٌ ثقيلة، فتلقى سنان أول إشارة خفية، واستسلم بأريحية للمقادر.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/33/
الحكاية رقم «٣٣»
مرَّتْ فترة بحارتنا يمكن أن تُسمَّى بعصر زينب. الأب بيَّاع فاكهة، والأم بياعة بيض، وزينب آخِر عنقود مثقل بالذكور، وهي جميلة، فَلْتة رائعة من الجمال، وفي جمالها تتلخَّص حكايتها. في طفولتها كانت لعبة تتخاطفها الأيدي، في صباها تألَّقَت تباشير الفتنة، في الشباب استوَتْ آية من البهاء والأبَّهة. ويقول زيدان الأب لزوجه: البنت يجب أن تُحجَب في البيت. فتوافق الأم كارهة؛ إذ إنها تفضِّل بطبيعة الحال لو كان في الإمكان أن تسعى زينب لرزقها. ويتكالب الخُطَّاب عليها، فترتبك الأسرة حيال الطُلَّاب، وتقول الأم: من العدل أن يكون حظها في قوة جمالها! لذلك ترفض يد ابن أختها سوَّاق الكارو، فتتمزَّق أواصر الأخوَّة، وتنشب معركة بين الأختَين تتفرج عليها الحارة، ما بين شامِت ومتعجِّب ولاعِن. ويتقدم لها في وقت واحد تقريبًا حسن «صبي طرابيشي» وخليل «صبي جزَّار» فيُجَرَّان إلى معركة عنيفة يخرجان منها بعاهتَين مستديمتَين. وإذا بفراج الدري المدرِّس يطلب يدها، أفندي محترم وموظَّف حكومة، ويُعتبَر بالقياس إلى بيئة زينب حلمًا من الأحلام، وتقول الأم: هذا مَن نرحِّب به. ولكن علي بيَّاع القُلل يعترض سبيل المدرِّس ذات يوم ويهمس في أذنه: إن تكن تحب الحياة حقًّا فابعد عن زينب! ويستعين المدرِّس بقريب قوي من أهل التحرُّش والتحدي، فيعتدي الرجل على بيَّاع القلل، ولكن بيَّاع القُلَلِ يضطغِنُها في نفسه ويتربَّص لفراج أفندي ثم يفقأ عينه! عند ذاك يجفل المحترمون من أبناء حارتنا إيثارًا للسلامة ولا يبقى إلا الحرافيش. وتهتف الأم المغيظة: يا ميلة البخت! وتحتدم المنافسات، وتتعدَّد الاعتداءات، وتتساقط التهديدات، ويلتزم آل زيدان الحياد التامَّ خوفًا من العدوان، ورغم بلواهم وكربهم تلفحهم أنفاس الحاسدين وألسنتهم، حتى يقول زيدان لبعض أصدقائه: لقد حلَّت بنا نقمة اسمها الجمال! وتتكرَّر الخناقات وتكثر الإصابات، وتمضي زينب وأسرتها لعنة مُجسَّدة تستقطب الكراهية والحقد والحسد ورغبة خفية في الانتقام. عم زيدان لا يجد فرصة ليتنفس في هدوء، ويخاف أن يغدر غادِر بزينب نفسها. ويطلع صباح فلا نقف لآل زيدان على أثر، ويتفشَّى الوجوم والكدر، وأُمْنى بخيبة لا يدري بها أحد، وبحزن أتساءل: ألا يتيسر للجمال أن يهنأ بالبقاء في حارتنا؟
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/34/
الحكاية رقم «٣٤»
هنية بنت علوانة الدلَّالة من بطلات الحب في حارتنا. أتساءل كثيرًا عن سر حبها لحمام صبيِّ الخياط البلدي، إنه فتى سيِّئ الصورة والسمعة، شرس الطباع، تعكس عيناه نظرة تحَدٍّ وعدوان، يرتدي جلبابه على اللحم ويمضي حافي القدمَين، ثم إن هنية بنت متعلمة، مكثَتْ في الكُتَّاب ثلاث سنوات، تفكُّ الخط وتجمع الأرقام وتحفظ جزء عمَّ، وأمها ميسورة الحال، ووقت الغداء تفوح رائحة القَلْي من مطبخهم. وهنية ترفض يد حامد المراكيبي بيَّاع المراكيب عندما يتقدَّم لخطبتها، وتبكي الأم بحرارة وهي تحكي مأساتها لأمي: تصوَّري، حامد المراكيبي الرجل الكامل صاحب القرش. فتتساءل أمي: كيف وبنتك عاقلة وحافظة كلام ربنا؟ – قالوا لي إنه معمول لها عمل، فذهبت إلى الشيخ لبيب، وزرت الأضرحة ونذرتُ النذور. ولكن هنية تصر على رفض يد حامد، وتغضب أمها وتلطمها على وجهها وتصيح بها: تُفضِّلين عليه المجرم؟ بُعدِك، ولكن مكتوب عليك الشقا. ويتراجع حامد المراكيبي ويتلاشى، ويبدأ حمام جادًّا في التفكير في أعباء الزواج وما يقتضيه من التزامات جديدة نحو مظهره وسلوكه، غير أنه يُتَّهم في هذه الأثناء بجريمة السرقة مع الإكراه، فيُقبَض عليه ويُزَج في السجن عامَين. تبتهج علوانة الدلَّالة بالحل الذي جادت به السماء، وتقول لهنية: أرأيتِ؟ سبحان الله الذي لا يعلو على برهانه برهان. ولكن هنية تصر على رفض حامد المراكيبي، وتغرق في حزن عميق، حتى يشفق عليها الغاضبون، ويقول كثيرون إنه لا حيلة لها في الحزن، وإن حمام لا يُقتَلع من قلبها بلا أثر. ولكنها تصِرُّ على الرفض حتى يمُرَّ العامان ويرجع حمام إلى الحارة، وتدب الحياة من جديد في هنية ويُجَنُّ جنون أمها. ويلقى حمام صعوبةً في العودة إلى عمله الأول أو الالتحاق بأي عمل آخَر، ثم يُرى سارحًا بلحمة رأس وطبلية، ويتساءل كثيرون: من أين جاء برأس المال؟ ولا يُعلَم إلا فيما بعد أن هنية هي التي أمدَّته بأسورة ذهبية. وتثور علوانة ثورة عنيفة، وتستعدي على ابنتها القريب والجار، غير أن هنية تعقد قرانها بحمام في القسم، وتحت حماية الشرطة. وأشهد بأنها زيجة مُوفَّقة، فهنية تشاركه في العمل وتدبِّره له بحكمة يعجز عنها عقلُه المشتَّت حتى ينجح — أو بالأحرى تنجح هي — في فتح دكان له، أما الذكريات القديمة، فلم يعُد من المهم أن يذكرها أحد.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/35/
الحكاية رقم «٣٥»
في موسم القرافة نزور أحيانًا حوشًا غير بعيد من حوشنا، أرى رجلًا يقيم في حجرة المواسم إقامة دائمة، كما يستدل من وجود الفراش والكنبة والصوان، أسأل أمي عن هويته فتقول: ابن عمة أبيك رضوان أفندي. – لماذا يقيم في الحوش؟ تتجاهل وقتها سؤالي، وألاحظ خلوَّ الحجرة من الرجل في عامٍ تالٍ، وأعلم أنه انتقل من الحجرة إلى القبر، ثم أسمع قصته فيما بعد لمناسبة لا أذكرها. أسرة رضوان أفندي تتكون منه ومن حرَمه ومن صبيٍّ وصبية، الأم تشغف بالصبيِّ، على حين يشغف الأب بالصبية، يناهز الأخوان البلوغ، فيمارس الأخ قوته في معاملة أخته باسم الغيرة والرجولة، حتى تضيق به وبالحياة فيغضب الأب لها، وتسوء العلاقات بينه وبين ابنه، أو على قول أمي: سكن الشيطان بينهما! يتطور النزاع إلى خصام أغبر، تأديب من ناحية الأب بلا رحمة، وتمرُّد من ناحية الابن بلا حذر، حتى تفصل بينهما الكراهية العمياء، فيتمنى كلٌّ للآخَر الهلاك والفناء جهرًا وبلا تحفُّظ. وفي ختام المرحلة الثانوية يمرض الشاب بالسل، ثم يفارق الحياة عقب اكتشاف المرض بستة أشهر، موت قاسٍ مطويٌّ على المكر والخديعة والسخرية، فانهارت الأم وتلاشت آمالها في الحياة وزُلزِل الأب زلزال الخوف والندم، ويقول رضوان لأبي: إنها عملية نشل، والخجل يمنعني من مواجهة أمه. وبعد مرور عام واحد لوفاة الابن تمرض أخته بنفس المرض. وذات ليلة يجيئنا رضوان أفندي وهو يجري حافيًا من أقصى الحارة، مشعث الشعر دامي العينَين فتهب الأسرة نحوه متسائلة وهي على يقين مما تتساءل عنه، يقول الرجل وهو يلهث ويطالعهم بعينَين انطفأ فيهما نور الحياة: انتهى كل شيء! يصفِّي الرجل بعد ذلك تجارته، يهجر بيته إلى حوش القرافة، ويقيم هناك على مقربة من قبر الفقيدَين، وتصر حياته على الامتداد حتى يوافيه الأجل. أما الأم فهي تواظب على زيارتنا، وأراها وأتصل بها وأنا صغير وهي عجوز، يبدو أنها لا تذكر الماضي، وتحب التسلية باستقراء الكوتشينة عن البخت، أتذكر جلستها وراء الأوراق المفنَّدة وتكوُّمي أمامها في تشوُّف، وهي تشير إلى صورة وتقول: في سِكتَك واحدة ليست من دمك. وتبتسم كثيرًا فأقول لأمي: تيزة وليدة خفيفة وتحب الضحك. فتتمتم أمي: ربنا معها ومع كل جريح.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/36/
الحكاية رقم «٣٦»
في إحدى ليالي الأرق أرى من نافذتي هذا المنظر. أرى شبح رجل يترنَّح، يتلاطم مع الجدران، يتعثَّر فيقع ثم يقوم بمشقة، تندلق من فيه السائب أغنية «أنا أبله كنت هبلة» ثم يندفع فاقد التوازن كأنه ثور يتوثب للنطح، وبعد مغالبة للقوى المجهولة ينطرح كالقتيل. يراه بعض أهل الخير فيحمله أحدهم — لعله فرَّان — ليطرحه على لوح عجين، ثم يتعاون مع آخرين على رفعه، ويمضون به! يصادفهم على بُعد خطوات سكران آخَر يترنَّح ويتعثر ويقوم ويقع، وإذا بالسكران الأول يضحك من فوق لوح العجين ويصيح بالآخَر: إخص، حقيقة إنك مرة، تسكر حتى تقع من طولك وتضحك عليك الناس؟ اسْفُخْص. في زمن متأخِّر، وفي ظروف غاية في الجدية، يعاودني ذلك المنظر حاملًا إليَّ معاني جديدة لم تخطر لي على بالٍ من قبلُ حين رؤيته.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/37/
الحكاية رقم «٣٧»
عم ينسون الصرماتي كهل لا تشوب سمعته شائبة، يموت ابنه رمضان عقِب مرضٍ لم يُمهله طويلًا. يحزن الكهل كالمتوقَّع، ولكنه يُقدِم على فعل غريب يجعل منه أحدوثة الحارة قبل أن تجف دموعه، ما ندري إلا وهو يعقد زواجه على دليلة خطيبة ابنه المتوفَّى، يعقد زواجه عليها ولمَّا يمُر على الوفاة شهر واحد! هل جُنَّ الرجل؟ وعلى فرض جنونه، ألا يسعه أن ينتظر عامًا أو بعض عام؟ وكيف توافق دليلة وفارق السن بينهما أكثر من أربعين عامًا؟ ولكن الخبر حقيقة لا شك فيها، وها هي دليلة تنتقل إلى بيت عم ينسون لتعيش فيه مع زوجته وبقية أسرته. وتتلوَّى الألسنة هامسة، كان شيء بين المرحوم رمضان ودليلة، يسره الزواج الوشيك، والثقة بغدٍ لم يأتِ، وتدخَّل الموت فقلب الميزان، وتبدَّد الأمان، فسقطت دليلة في مأزق بلا حماية ولا أمل. وتقف أمها على السر، تفضي به إلى أم رمضان، وترمي به هذه على زوجها المحزون، مصيبة جديدة، مصيبة بكل معنى الكلمة، ولكن لا يمكن تجاهلها بحال، البنت في مأزق، الجاني هو الابن الذي يسأل له الرحمة، ويفكِّر ويفكِّر ثم يعزم، ثم يُقدِم على أعجب زواج شهدته حارتنا. تصبح دليلة زوجته، وتلد في بيته وليدها. وثمة أناس باركوا فعل الرجل ودعوا له بحسن الجزاء. وآخَرون في غفلة وبراءة رموه بالحماقة والجنون. أما غواة السخرية فيشيرون إليه ثم يتهامسون: هذا هو أبو حفيده.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/38/
الحكاية رقم «٣٨»
وأنا ألعب في الحارة تنطلق زغرودة من بيت الديب. أكثر من صوت يتساءل: خير إن شاء الله! فيبشرنا أحدهم قائلًا: قُرئت فاتحة نعيمة السقاف على شيخون الدُّهُل. يتناهى الخبر إلى فتحية قيسون وهي تغسل ملابس في طست أمام مسكنها، تنتتر واثبة كالملدوغة، تفك عقدة جلبابها، تربط منديلها حاشرةً ما تبعثر من شعرها تحته بلهوجة، تتناول ملاءتها من فوق حجَر، فتتلفَّع بها بسرعة مجنونة محرِّكة طرفَيها كجناحَيْ طائر كاسر، تلوح بقبضتها مُهدِّدة، ترجع رأسها إلى الوراء متوثبة ثم تندفع في طريقها على يقين من هدفها وهي تصيح: والنبي ومن نبَّى النبي لأسوِّد حظه وأطيِّن عيشته وأشوِّه وجهه حتى إن أمه نفسها لن تعرفه. وتمضي مخلِّفة وراءها توقُّعات خطيرة، ورغبة محمومة في الاستطلاع، وعواطف تتراوح بين الإشفاق والشماتة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/39/
الحكاية رقم «٣٩»
صبري الجواني يثير دائمًا عاصفة من التساؤلات. من بيئة كادحة، يعمل في دكان خردوات، ثم يُندَب للجَوَلان بشتَّى الخردوات في الأحياء المجاورة، يتغير جلده بسرعةٍ تفوقُ كلَّ تقدير، تتحسَّن صحته ويكتسي بحُلة النعمة الزاهية، ينتقل إلى مسكن جديد، يُرى وهو راجع حاملًا ورقة لحمة وفاكهة الموسم، يجلس مساءً في المقهى يدخِّن البوري، ويحتسي الزنجبيل، ويقضي بعض السهرات في غرزة المواويلي. ويتزوَّج من بنت ناس، ويرتدي البدلة بدلًا من الجلباب، وتنطق ملامحه بالرضى والثقة والأمان. وفي ليلة دخلة صديقه الحلاج يسكر ويرقص ويُغنِّي ويُبدي من فنون الانبساط ما لا يتصوره عقل. وعقب الزفة يغادر الفرح ليرجع إلى بيته، ولكنه لا يرجع إلى بيته. يختفي فلا يقف له على أثر أو خبر.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/40/
الحكاية رقم «٤٠»
يجلس وراء نافذةٍ مصفَّحةٍ بالقضبان، يحملق في لا شيء، تتحجر في عينَيه نظرة لا معنى لها، رأسه صغير أصلع، يغمغم بين آنٍ وآن: أين أنتِ يا حبيبتي! نرمقه من بعيد بحب استطلاع، نتجنَّب إثارته كما نبَّه علينا، نتهامس: انظر إلى عينَيه! – ماذا يعني؟ – إنه مجنون. كان يُرى قديمًا هائمًا صامتًا، يتابع امرأة محجَّبة باهتمام، يعترض طريقها فيفصل بينهما أهل المروءة. ويُقال إنه رأى في حلم بنتًا جميلة شغف بها أيَّما شغف، وأن الحلم يتكرَّر، وأنه يمضي باحثًا عنها. ويفقد الصبر فيأخذ في التهجُّم على النساء، ويهم بجذب النقاب، ويتعرض بذلك للزجر والضرب والعنف، ويؤمن أهله بأنه ممسوس فيطوفون به على الأضرحة والشيخ لبيب، ولكنه لا يبشر بشفاء. ويقولون لأبيه: المستشفى لأمثاله وسلِّم للمقادر. ولكنه يحبسه في الحجرة ويُصفِّح النافذة بالقضبان. ويقبع نهاره وراء النافذة، يحملق في لا شيء، ويتقدَّم في السن، ويغمغم من آنٍ لآن: أين أنتِ يا حبيبتي؟
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/41/
الحكاية رقم «٤١»
إبراهيم القرد أضخم بناء إنساني تشهده عيناي، لا أتصوَّر أن يُوجَد بين البشر مَن هو أطول أو أعرض منه، مئذنة، يتحسَّس طريقه بنَبُّوت رهيب، تحمله قدماه حافيتان كأنهما سلحفاتان، يقول أهل حارتنا إنه من لُطف الله أن يخلق إبراهيم القرد ضريرًا. وهو الشحاذ الوحيد في حارتنا، فمنذ احترف التسوُّل لم يتجرأ شحَّاذ آخَر على ترديد «لله يا محسنين!» يقعد الساعات متربِّعًا عند مدخل القبو، معتمدًا على نَبُّوته، يصمت طويلًا، ينفجر بصوت كالرعد «يا أكرم من سُئِلَ»، يجيئه الطعام في أوقاته، تتراكم الملاليم في جيبه، يتبادل التحيات مع السابلة. وبسبب من حدة التناقض بين قوته الخارقة وبين حرفته المستضعَفة، فإنه مثار للابتسام، ولكن بلا حنق أو حقد، فحسبه أنه ابن حارتنا، وحسبه أنه لا يستثمر قوَّته في العدوان. ويشاء الحظ أن أشهد معركته الكبرى. ففي أحد المواسم يهبط حارتنا زلومة — شحَّاذ ضرير أيضًا — من القبو راجعًا من القرافة مثقلًا بالفطير والتمر، فيختار مجلسًا غير بعيد من القرد ليستريح من عناء يوم مظفر. ها هما الشحاذان الضريران يجلسان على جانبي مدخل القبو كأنهما حارسان، ويتلقى القرد بأذنَيه الحادتَين رسائل خفية من حركات شفتَي زلومة، كما يتلقى أنفُه رسائل مغرية من جراب الأغذية، يتجه رأسه نحو الرجل باهتمام وتساؤل وتحفُّز. ويهتف زلومة في غبطة: يا حسين يا حبيب النبي يا سيد الشهداء .. مدد. فيقطب إبراهيم القرد ويتساءل بغلظة: مَن؟ فيُجيبه زلومة ببراءة: سائل على وجه الكريم! – وماذا جاء بك إلى هنا يا بن الزانية؟ فيسأل زلومة بحدة: أملكتَ أرض الله؟ – ألا تراني؟ – إني أرى بنور القلب. فيتمتم إبراهيم القرد: عظيم. يتمطَّى بنيانه قائمًا ويمضي نحو زلومة وكأنما يراه، يقبض على منكبه، لا أدري ماذا يفعل به ولكني أرى الرجل وهو يصرخ ويتلوَّى ويستغيث. ويتجمهر أناس كثيرون، يُخلِّصون بينهما بعناء شديد، يبدر من البعض كلمات غاضبة: افتراء وظلم. – أنت وحش. – أنت لا تخاف الله! ويصيح إبراهيم القرد: عليكم اللعنات. ويغضب أحدهم فيرميه بسلة مُحطَّمة ملقاة. ويثور القرد، أجل يثور ثورة أكبر من ثورة مظاهرة زاخرة، كأنما هرستَ له دملًا، يُجَن جنونه، يهدر بأقذع الشتائم، يشهر نَبُّوته ويدور به ويضرب به كلَّ مكان فيرتطم بالجدران والأشياء، ينشر الفزع في دائرة آخذة في الاتساع، يتفرَّق الرجال، يركضون، يتلاطمون، يعثرون فيسقطون، يصيحون، يستغيثون، القرد ينقلب قوة عمياء مدمِّرة تجتاح الحارة، يلوذ الناس بالأزقة الجانبية، تُغلق الدكاكين، تتحطَّم الكراسي والسلع وتنقلب السلال والمقاطف. وتتدفَّق قوات الشرطة على الحارة، يذهل الضابط عندما يدرك أن المعتدي ما هو إلا شحَّاذ ضرير، ثم يأمر جنوده بإلقاء القبض عليه. وتتجدَّد المعركة بين القرد والجنود، يخوضها الجنود، عُزَّلًا من السلاح بأمرٍ من الضابط ولكنهم لا يلبثون أن يتطايروا في الهواء كاللعب، إنه قوة لا تُغلَب. ويتجمَّع الغلمان في الأطراف ويشجعون القرد بهتاف صاخب، الحق أنني لم أرَ رجال الداخلية من قبلُ على حالٍ من التعاسة كما أراهم الآن، ويصيح الضابط من داخل بدلته البيضاء ذات الشريط الأحمر: يا قرد، ستُضرَب بالرصاص إن لم تسلِّم نفسك في الحال. ولكن القرد يتمادى في التحدِّي منتشيًا بثورة القوة والنصر، ويرحمه الضابط فلا يأمر باستعمال هراوة أو بندقية، ولكنه يستدعي بعض رجال المطافئ. ويتدفق الماء من الخرطوم كالشلال، فينصَبُّ بقوته التي لا مفَرَّ منها على القرد، يرتبك القرد ويتعثر ويدور حول نفسه مترنِّحًا منهزِمًا حانقًا قاذِفًا بسيل من السباب المقذع، ثم يتهاوى فوق أديم الأرض بلا حول، فينقضُّ عليه الجنود بالأغلال. ويغيب القرد عن حارتنا فترة من الزمن، ولكنه يرجع ذات يوم ببنيانه الضخم وهامته المرفوعة فيلقى استقبالًا حميمًا وتحيات حارة .. فيواصل حياته السابقة متعملقًا عند مدخل القبو مثل أسطورة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/42/
الحكاية رقم «٤٢»
البرجاوي مُنهمِك في عمله بدكان الطعمية. يمُرُّ به الكفراوي فيطلب منه شربة ماء، تتملك البرجاوي نزوة مزاح فيشير إلى حوض الماء الذي منه تُسقى الحمير والبغال ويقول: إليك الحوض فاشرب. ويضحك أناس من الزبائن، فيغضب الكفراوي ويصيح به: أنت جبان وقليل الأدب. فيغضب البرجاوي بدوره ويصيح به: ملعون أبوك وأجدادك! وتتبادل قذائف من السباب ويتجمَّع مشاهدون من أعمار متفاوتة، ويسعى إمام الجامع لفضِّ الموقف ولكنَّ أحدًا لا يُلقي إليه أذنًا فينسحب مستاءً. ويتصاعد النضال فيتناول الكفراوي طوبة يقذف بها الدكان، فتحطَّمَ المصباح الغازي الكبير المدلَّى من السقف، ويفقد البرجاوي أعصابه فيقبض على يد طاسة الطعمية ثم ينقض على الكفراوي فيضرب بها وجهه ورأسه ولا يتركه إلا جثة هامدة. ويهرع إلى مكان الحادث أهلُ الكفراوي وأهلُ البرجاوي فيخوضون معركة دامية يستعمل فيها الطوب والعصيِّ والسكاكين، فيُقتل مَن يُقتل، وينتهي مصير الباقي إلى السجون. وأعيش عمرًا فلا أرى في دارَي البرجاوي والكفراوي إلا نساء وبنات يسعين في السواد، يحزنني ذلك بطبيعة الحال وأعلِّق عليه بما يناسبه. غير أن كثيرين من أهل حارتنا يفخرون بذكريات الغضبات الهادرة والملاحم الدموية، ويتشرفون جهرًا بالسجون والمشانق.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/43/
الحكاية رقم «٤٣»
حوَّاش العدَّاد من أصحاب المزاج في حارتنا. في ليلة عيد يُقرِّر أن يُحيي سهرة كبرى في بيته، يُلبِّي دعوته كثيرون من الصحاب والمعلمين والمطربين والعوالم والراقصات، وتلعب الأوتار وتتهادى الأنغام في جوٍّ من العربدة يهيِّج أشواق المحرومين، ويثير استهجان أهل التقوى والورع. ويتواصل الطرب والعربدة حتى قبيل الفجر بقليل، ثم يخلد الجميع لنوم عميق. وعند ضُحى اليوم التالي، والحارة ثَمِلة بأفراح العيد، تصدر عن بيت حوَّاش العدَّاد ضجة غريبة وصيحات فزع كأن صاعقة انقضَّت عليه. ويهرع الناس نحو البيت وهم يتساءلون، ثم تنتشر أخبار لم يُسمَع بمثلها من قبل. يقول الرواة إن الداعي والمدعوين استيقظوا فوجدوا أنفسهم مبعثرين في عالم خراب شامل لا يُتصَوَّر ولا يُوصَف، إنهم يتذكرون كيف أن النوم سرقهم من بين أحضان المسرات وهم على خير ما يحبون، ولكنهم فتحوا أعينهم على عالَم لا يُرى إلا في أعقاب زلزال مدمِّر، فالأثاث النفيس قد تحطَّم إربًا، الكنب والدواوين والمقاعد والموائد تتفتَّت أكوامًا ونثارًا، الشلت والمساند والستائر والأغطية قد تهتَّكَت وتمزَّقَت، وتطايرَ حَشْوُها ندفًا، والقوارير والكئوس والأطباق والمواقد والجوَز قد تكسَّرَت وانتشر كسارها، كذلك المصابيح والتُّحف، وحتى السجاد والأبسطة والملابس. ماذا حدث، لماذا حدث، كيف حدث؟! وتحضر الشرطة فتُعاين وتُسجِّل وتستجوب، ولكن التحقيق لا يُسفِر عن شيء، ويُقال هنا وهناك إن خلافًا دبَّ بين السكارى فانقلب معركة حامية لم تُبقِ على شيء، وأن رجالًا من ذوي الجاه توسَّطوا عند المأمور فغطَّى على الحادث بالحفظ، ولكن لم يُسمع أن أحدًا من المدعوين جُرح جرحًا عميقًا أو أصيب بعاهة. ويُقال أيضًا إن أعداء لحوَّاش العدَّاد دسُّوا لهم مُنوِّمًا حتى ناموا ثم دمَّروا كلَّ شيء بتصميم شامل ودقة ووحشية بالغة، ولكن ألَمْ يكُن من المنطق أكثر أن يوجهوا انتقامهم إلى الأشخاص أنفسهم؟ وعلى ذلك فلم يكن يُصدِّق أحدٌ هذا القول. ويذاع كلام أيضًا عن أن ما حاقَ ببيت حوَّاش إنما جاء نتيجة لغضب من الله استحقَّه باستهتاره وفسوقه وعربدته وأن الداعي والمدعوين هم الذين خربوا دارهم وهم ذاهِلون في غيبوبة، ثم تداعَوْا نيامًا شبه أموات. وهذا تفسير يلقى عادةً أذنًا مصغية في حارتنا، ومثلُه ما قيل عن دَوْر العفاريت في الأمر نتيجة لنذرٍ نذرَهُ حوَّاش ولم يُوفِّه. وتمُرُّ أيام وأعوام فلا يذكر أحد من حارتنا حادث ليلة العيد بدار حوَّاش العدَّاد حتى يبسمل ويحوقل ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/44/
الحكاية رقم «٤٤»
هذه حكاية تُروى عن عهد قديم لم أشهده. كانت الزاوية حديثة البناء وكان إمامها وقتذاك الشيخ أمل المهدي، صعد الشيخ إلى شرفة المئذنة ليؤذن الفجر، فانتبه إلى صوت يصدر عن البيت المواجه للزاوية، مدَّ بصره نحوه فرأى امرأة تفتح النافذة، ورجلًا يطبق يده على فيها ليمنعها من الاستغاثة، ثم يجذبها إلى الداخل تحت المصباح الغازي المضيء، ثم ينهال عليها ضربًا بشيء في يده حتى تهاوَت ساقطة. عرف المرأة كما عرف الرجل، أما المرأة فهي ست سكينة، أرملة صاحب مقلى، وأما الرجل فهو المعلم محمد الزمر صاحب وكالة خشب. تسمَّرَ الشيخ أمل المهدي في مكانه متدثِّرًا بالظلام، مرتعد الفرائص من الرعب حتى أغلق المعلم النافذة، وراح يتمتم: لقد قضى على المرأة. وخانه صوته فلم يستطع أن يؤدي الأذان. جريمة قتل، ماذا أوجد المعلم في هذه الساعة ببيت الست؟ توجد أكثر من جريمة، ارحمنا يا رب السماوات والأرض! وهبط السلم الحلزوني بمشقة، ثم جلس على الأرض راكنًا إلى المنبر ظهره، وجاء أوائل المصلين فهالهم منظره وسأله بعضهم: لِمَ لَمْ نسمع صوتك يا شيخ أمل؟ فأجاب لاهثًا: بي مرض والله أعلم. وكان المعلم محمد الزمر هو مَن تبرَّع ببناء الزاوية، وهو الذي اختار الشيخَ إمامًا لها، ورتَّب له أجره، تذكَّر الشيخ ذلك فقال يخاطب نفسه: يا له من امتحان عسير من رب العالمين! ورقد الشيخ في بيته ثلاثة أيام ولم يفتح فمه. وانتشرت أنباء الجريمة في الحارة فعرف كلُّ مَن هبَّ ودبَّ أن الست سكينة وُجدَت قتيلة في حجرة نومها وهي بجلباب النوم، وبدأ التحقيق، واستُدعي فيمَن استُدعوا الشيخ أمل المهدي. سأله المحقِّق: ألم تسمع صرخةً أو صوتًا ملفتًا للسمع وأنت تؤذن؟ فأجاب: كنت مريضًا فلمْ أؤذِّن تلك الليلة. – أنت جارٌ للقتيل، ألا تعرف شيئًا عن علاقتها بأحد؟ – كانت سيدة فاضلة ولا علم لي بشيء. وغادرَ الشيخ حجرة المحقِّق وهو يقول لنفسه: «إني لمِن الهالكين.» وجعل يبكي بشدة من الحزن والعجز. واكتشف في أثناء التحقيق سرقة بعض قِطَع من الحُليِّ فحامت الشبهات حول صبي كوَّاء كان يتردَّد على البيت، وفُتِّش مسكنه فعُثر على الحُليِّ، وبذلك وُجِّهَت إلى الشاب تهمة القتل. وبدا ذلك كله منطقيًّا إلا عند الشيخ أمل، تابع الشيخ أنباء الجريمة باهتمام جنوني، مضى يحترق في صميم أعماقه، وينهار عصبًا بعد عصب، كان ورِعًا تقيًّا، ولكن شجاعته كانت دون ورعه وتقواه. ومن شدة القلق والحزن تهدَّم ودبَّ الضعف في أعصابه. والتقى ذات يوم بالمعلم محمد الزمر أمام السبيل القديم، فشدَّ على يده كالعادة، وعند ذاك انتفض كأنما مسَّ ثعبانًا، وحدَّق فيه بقوة غريبة حتى تساءل المعلم: ما لك يا شيخ أمل؟ فوجد نفسه يقول: لقد رآك الله! فدهش الرجل وسأله: ماذا تعني؟ .. أنت مريض؟ فهتف به: اعترف بجريمتك يا قاتل! ثم هرول إلى الزاوية فأغلقها على نفسه بالمفتاح والمزلاج، لبث في سجنه يومَين كاملين لا يستجيب لأهله ولا لأحد من الناس. وعند مغرب اليوم الثالث فاجأ أهل الحارة بظهوره في شرفة المئذنة، ولكن أي ظهور كان؟ تطلعت إليه الأبصار بذهول وراحوا يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله! – الرجل الطيب عارٍ تمامًا. – يا شيخ أمل وحِّد الله! ومضى يدور في الشرفة متبخترًا ويُغنِّي بصوت متحشرج:
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/45/
الحكاية رقم «٤٥»
بحارتنا عامل بالسرجة يُدعى عاشور الدنف، متزوج، أب لعشرة، في الأربعين من عمره، يتميَّز بقوة شديدة وملامح خشنة وفقر مدقع، يتواصل عمله من الضحى حتى منتصف الليل، لا يعرف الراحة كما لا يعرف الشبع، يحتقن بالحسرات إذا رأى الناعمين في المقهى أو تطايرت إلى أنفه رائحة التقلية، وهو يغبط حمار الطاحونة في السرجة كما يغبط العطَّار أو صاحب وكالة الخشب. ويقول ذات يوم لسيدنا إمام الجامع: الله يخلق الرزق ولكنه ينسى أبنائي. فيغضب الإمام ويصيح به: لقد بات سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بعض لياليه رابطًا على بطنه حجرًا ليسكِّن به جوعه، اذهب عليك اللعنة. ••• ويرجع عاشور الدنف عند منتصف ليلة من السرجة يشق الظلماء فيتهادى إليه صوت هامس ناعم يقول: يا عم عاشور! يتوقف متلفِّتًا أمام نافذة مغلقة في دور أرضي ببيت الست فضيلة الأرملة المستحقة في وقف الشنانيري، ويتساءل: مَن ينادي؟ فيجيبه الصوت: أريد منك خدمة فادخل. المكان مظلم، حتى شبح التمساح المحنَّط فوق الباب لا يُرى، يمرق من الباب ويمضي نحو المنظرة مهتديًا بضوء يلوح في شرَّاعة بابها، يرى السيدة فضيلة متربعة على كنبة تُركية، فيقف بين يدَيها ناشرًا في المكان رائحة عرقه الفظَّة النافذة. – أريد زيتًا وكسبة. تقولها ببلاهة، بلاهة تفضح مكرًا ساذجًا، وتنضح بشرتها باعتراف قرمزي، ويلمح في جفنَيها المسبلَين معجزة الرِّضى والاستسلام، ولكنه ليس الاستسلام الذي تبادر إلى خياله، فما تزال حصينة وعاقلة ومدبِّرة، ويغادرها بعد أن يوقن بأنها تريده في الحلال! ••• ويلبث دهرًا لا يصدق، يتوهم أنه يتعامل مع حلم من الأحلام، ولكنه يتزوج من الأرملة الغنية، ويجري ذكره في الحارة نادرةً من النوادر، ومثالًا من الأمثلة، لا يُبالي طبعًا أن يترك لها العصمة في يدها، ويترك عمله بالسرجة كما شرطت عليه، ثم يطالع الناس في زي جديد وجلد جديد وهالة جديدة أضفاها عليه النعيم، وبمشيئة ست فضيلة لا يطلق زوجته القديمة، وترتِّب لها ولأولادها ما يكفيهم، فيباركون الزواج من أعماق قلوبهم، هكذا يعيش عاشور أحلامه القديمة، فيشبع ويسعد. ••• وست فضيلة سيدة جميلة وكاملة، تحبه وتسهر على راحته وتعيد خلقه من جديد. وهي لا تفرِّط في شيء منه، ناعمة مهذَّبة وفية ولكنها لا تفرِّط في قيراط منه، ومنذ اللحظة الأولى يشعر عاشور بأنها حريصة على ملكيته ملكية كاملة، ظاهره وباطنه، أصله وظله، حتى فكره وأحلامه، فهو يعيش بين يدَيها، في الحديقة أو المنظرة، وحتى الساعة التي يقضيها في المقهى يرى شبحها وراء خصاص النافذة يُطل عليه، ولكنه ينعَم رغم كل شيء بالحب والراحة والشبع. ••• وعندما يعتاد عاشور الطيبات، عندما تطوي العادة معجزات الهناء، يتسلَّل إلى روحه التثاؤب. يتوق إلى ساعة يخلو فيها إلى نفسه، يهيم على وجهه، يمازح صديقًا، يرتكب حماقة بريئة، ولكنه يشعر دومًا بأنه مراقب، خاضع، مطارد. الحق أنه لا ينقصه شيء ولكنه سجين، ثمة أغلال من حرير تحزُّ عنقه مكان الأغلال الحديدية القديمة، ويتدفَّق في روحه التثاؤب. ويجد الزمن طويلًا، ويجد الزمن ثقيلًا، ويجد الزمن عدوًّا. ويقول لها ذات يوم: افتحي لي دكانًا. فتقول له: لديك ما تشتهيه النفس، ماذا ينقصك؟ فيقول متشكِّيًا: كلُّ رجل يعمل حتى الشحاذون. ويوقن بأنها تخاف أن يستغني عنها بالعمل أو يستقل عنها بالنجاح، وهو لا يريد من العمل إلا أن يُهيِّئ له قَدْرًا من الحرية، بعيدًا عن نظرتها المستقرة. ••• ويرتدُّ عاشور الدنف إلى التجهُّم والاحتجاج. ويردِّد لسانه ألفاظ التذمُّر والظلم ونوادرهما. ويغلي غضبه ويفور، فيقرِّر أن يفعل ما يشاء، فتجتاح رياح الشقاق هدوء البيت السعيد. ويتمادى في غضبه فيلطمها على خدها الأسيل، فتطرده من الجنة فيذهب متحدِّيًا. ••• ويتعرض في تشرده لمتاعب كثيرة، يلتقط رزقه بعناء، يتورَّط في أعمال مريبة، يُجلَد مرة في القسم. وتحنُّ الست إليه فتعرض عليه الصلح بشروطها، ولكنه يرفض، يصرُّ على الرفض، يمضي في سبيله المحفوف بالمتاعب والمخاطر. يستحق عند ذاك أن يكون نادرة من نوع جديد في حارتنا.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/46/
الحكاية رقم «٤٦»
كنت أعود سعد الجبلي في مرضه الأخير عندما ترامت إلى الحجرة من الحاكي أغنية: فتنهَّد سعد وابتسم وتمتم: إي والله، بإيدك يا قلبي. وتبادرت نظرة نطقت بتذكُّرنا لحياته المغامِرة الحافلة بالمسرَّات والآلام. ••• سعد الجبلي كاتب حسابات بدكان الرهونات بحارتنا، طَموح بعيد الأحلام فيبيع أرضًا يمتلكها ويستقيل من عمله ثم يتاجر في الروائح العطرية، يربح أرباحًا كثيرة، يصير من أثرياء الحارة، ولكنه لا يتمتع في الواقع بأخلاق التجَّار الاقتصادية. كل ليلة يدعو إلى بيته نخبة من الصحاب، يقدِّم الطعام والشراب، يعود بأوتار العود، يغني مَن له صوت مقبول، تمتد السهرة حتى منتصف الليل. ثم يخيب تقديره في صفقة كبيرة، لا يجد لديه من المدَّخَر ما يسُدُّ به العجز، يُشهر إفلاسه. يجد نفسه هو وقبيلة مكونة من زوجة وأبناء وأخوات على باب الله! تمر به أيام قاسية شديدة، تؤذي صحته وكبرياءه معًا، ولكنه يبدو دائمًا رجلًا قويًّا راسخ الأركان، يرجع إلى عمله الأصلي في دكان الرهونات، يعطي دروسًا خصوصية في الحساب، يعيش عيشة التقشُّف. وإيمانه قوي عميق. أجل يشرب كثيرًا، لا يلتزم بالفرائض، ولكنه مؤمن حقًّا، يعتقد بأن لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأنه لا مفرَّ من المكتوب. ولا يُقعِده عن العمل إلا المرض فيلزم الفراش. وأفكِّر بحال أسرته فيملؤني الأسى. وأشير إلى مَن يلعب في الحجرة من الصغار وأقول: ربنا يشفيك من أجل هؤلاء! فيقول باستسلام: أما الصحة فقد انتهت. ثم يستطرد بثقة: أما الأولاد فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ويرفع إصبعه إلى فوق ويقول: الخوف كفر بالله، أعوذ بالله من الخوف. ثم بنبرة ساخرة: أحسبتَ أن حياتي أطعَمَتْهم حتى تخاف أن يُجيعهم موتي؟ أتمعَّن إيمانه منبهرًا من قوته. غير أن سعد الجبلي لا ينسى الدعابة حتى وهو في أعماق المحنة، فما أن يردِّد الحاكي: حتى يتمتم باسمًا: إي والله، بإيدك يا قلبي!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/47/
الحكاية رقم «٤٧»
وشلبي الألايلي له حكاية تستحق الرثاء. لطيف ومحبوب ولكنْ ثمة لحنٌ مميَّز في حديثه هو الإعجاب بأبيه، والفخر بالآباء شعار مألوف في حارتنا، ولكن المغالاة فيه لا تخلو من دلالة، ولا يسلم على المدى من تهكُّم، وأبوه كان كاتبًا في دكان الخردوات، وكان طويلًا عريضًا، والرجال يُقيَّمون بالطول والعرض في حارتنا. يقول لي شلبي وهو يتنهَّد: طالما رأيت أبي بعينَي طفل أو من خلال عينَي أمي أيضًا! فأقول له: هذا حال كثيرين منا. – ولكن الطفل يكبر ثم يعمل عادةً في حرفة أبيه فيتسنَّى له أن يراه على حقيقته، أما أنا فدخلت المدرسة وواصلت تعليمي فظلَّ أبي في خيالي أسطورة. – أي أسطورة يا شلبي؟ – أسطورة الجلال والثراء! ثم يواصل بعد صمت قصير: ومات الرجل فهتك الستر من ورائه عن عالم غريب. – عالم غريب؟ – لم يترك مِلِّيمًا واحدًا، كانت صدمة، وقلت إنه الكرم قد أهلك ثروته! ويمضي في قصته، أو في اعترافه، فيقول إنه توظَّف، وطمح ذات يوم إلى الزواج من كريمة تاجر الغلال، وأراد أن يزكِّي نفسه عنده فأخبره أنه ابن الألايلي. – ودهمني الرفض، تحرَّيت عن السبب بإلحاح شديد حتى عثرتُ عليه في ذكريات أبي! – هكذا؟ – تصوَّر حالي إن استطعت. ويجري لاهثًا وراء مزيد من التحريات ينبش بها قبر الراحل فتتكشف له حقائق مريرة خافية، أخطرها بلا شك اتهامه في شبابه بالسرقة والحكم عليه بالسجن عامًا، وقد قبل تاجر الخردوات بتوظيفه كاتبًا عنده لصداقة قديمة بينهما. شلبي الألايلي يجترُّ همومه وحده، حتى أمه لا تدري شيئًا، وهو يُفشي أسراره الدفينة، لا ليجد شريكًا يبثه همه، ولكن لتوهُّمه أن سيرة أبيه أصبحت نادرة على كلِّ لسان. وتُحدث الحقائق المكتشفة آثارًا قاسية مناقضة في حياته، فها هو يلتزم بحياة مستقيمة نقية بل مثالية في عمله وحارته، وها هو يتحرَّر بالفضيحة من سيطرة آراء الناس عليه، فيعمل الصواب دون مبالاة بالآخَرين، ويعدل عن طموحه إلى الزواج الممتاز، ويثابر على التنويه بمآثر أبيه! ويقول لي مرة بصراحة صلبة: أهم شيء في هذه الدنيا أن نعرف الحقيقة. ويغمغم بثقة وأسى معًا: الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/48/
الحكاية رقم «٤٨»
الأب موظف حكومي صغير وذاك أمر — على أيِّ حال — نادر في حارتنا، لذلك ينشأ الابن — صقر الموازيني — محسودًا بين أقرانه، ولكنه يقول لي ذات يوم: لو كان أبي صعلوكًا ما عرفتُ الهم أو الغم! ويتوظف صقر مثل أبيه، وبعد عام من توظيفه يتوفى أبوه موظفًا صغيرًا فقيرًا، لا يورثه إلا أسرة مكونة من أم وعمة وأختَين في سن الزواج وكلبة، كما يورثه أيضًا تقاليد راسخة تتعلَّق بالكرامة وتطلُّعات جامحة نحو الحياة الجميلة. وأكثرية النساء في حارتنا يرتزقن، أما في أسرة الموازيني وأمثالها فمقضيٌّ عليهن بالانتظار، واجترار الأحلام، ومقضيٌّ على صقر وحده أن يعمل بمرتَّب ضئيل ليعول أربع نساء وكلبة. وتمضي الحياة ثقيلة مغلقة النوافذ، ولا فرجة له إلا المقهى حتى منتصف الليل. ويجد راحته في الشكوى، فيقول: لن تتزوج أختاي أبدًا، فنحن لا نرضى بالصعاليك، وأولاد الناس لا يرضون بنا، ومن ثَم فلن يتاح لي الزواج أبدًا. أسرة تعاني الأشواق والحرمان، حتى الأم والعمة لم يجاوزا الخمسين. وصقر شاب مستقيم رغم حيويته، ذو استعداد شديد للحياة الزوجية ويحِنُّ لها حنينًا: بيت صغير وزوجة وأبناء، تلك هي الجنة! ويتنهَّد وتذوب نظرته حسرةً وأحلامًا. ••• وتضطرب جوانحه بعنف الكبت، فيطفر في صفحة وجهه الشحوب والشرود، وبمُضيِّ الأيام يتفجر الحرمان سخطًا على الأهل والنفس والناس، ثم ينطبع البيت بطابع الشحناء ومرارة الملاحاة. والنساء مجبرات على البقاء في البيت — إلا لضرورة — منعًا للقيل والقال، تحبسهن التقاليد، يجمعهن الحرمان، يعذِّبهن الفراغ، يتسلين بالنقار. أسرة في صراع دائم مع الحرمان والأهواء واليأس، ونضال خفي مع حارسها الذي لا يقلُّ عنها يأسًا وعذابًا. حتى الكلبة تضطرب في جنبات البيت مختنقة، ممنوعة من الانطلاق خوفًا من القذارة، تلاعب الضيف بعنف، تنقضُّ على ساقه تتمسَّح بها، يُجَنُّ جنونها لدى سماع نباح يترامى. ••• ويتقدم العمر، صقر يغطُّ في عزوبته، وهنَّ يذبلن ويغُصْن في الماء، ويتسربل الجوُّ بالقتامة. والشاب بقدر ما يثير من عطف، بقدر ما يستوجب من ازدراء، لا علة واضحة لذلك، ربما لأنه يصبح مثالًا للإذعان، والانحناء حيال المصير المحتوم، ومرآة للاصطلاحات والأساليب النسوية المقتبسة من البيت. ويومًا أرى كلبته في الطريق وقد تدلَّت بطنها وانتفخت، فأرمقها بابتسام وإعجاب: الكلبة وحدها وهَبَت حارتنا ذرية جديدة. أما صقر فبات يمقت أسرته، ويقول عنها: أسرة لا تعرف الموت، كما لا تعرف الحياة!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/49/
الحكاية رقم «٤٩»
أمنية كلِّ صغير في حارتنا أن يطوف به في منامه زائر الليل. إنه شخصية حقيقية بلا ريب، ولكن مملكتها المضيئة تستقرُّ في القلوب البريئة، في ليالي المواسم الأعياد يقولون لنا: استحم وادخل فراشك، فاقرأ الفاتحة، وتمنَّ ما تشاء، واستسلم للنوم فربما أسعدك الحظ بمجيء زائر الليل ليحقِّق لك أمانيك! وتتابعَتْ تمنياتي خلال مراحل متلاحقة من العمر، ابتهالات يزفرها القلب بين يدَي زائر الليل. – يا زائر الليل أغلِق الكُتَّاب وخذ سيدنا. – يا زائر الليل افتح لي باب التكية واملأ حِجري بالتوت. يا زائر الليل جدِّد مباني حارتنا القديمة. يا زائر الليل نجِّنا من الفقر والجهل والموت. ••• وفي صباي شهدتُ موكبًا فخمًا يشقُّ حارتنا، يتوسَّطُه رجل بالغ الروعة، اكتَّظَت الحارة بالرجال وسُدَّت النوافذ بالنساء، جلجلت الزغاريد والهتافات، صدحت المزامير والطبول. زار الدكاكينَ دكانًا دكانًا، والوكالة والسرجة والفرن والحمَّام والكُتَّاب والمدرسة والسبيل الأثريَّ والقبو والزاوية والساحات، حتى البوظة والغرزة والقرافة طاف بها. بهرني منظره فانبعثت في قلبي فرحة لا حدود لها، وانتفض وجداني عن عقيدة راسخة «إن هذا الرجل الرائع هو زائر الليل» وأنه جاء أخيرًا استجابةً لابتهالاتي في هدأة الليل. وهتفتُ بصوتي الرفيع الذي لم يناهز البلوغ: ليحيا زائر الليل! وحدثَ ما لم أتوقَّعه أبدًا، فقد وجم الناس، وتقلَّصت وجوههم، كأنما اندلق في أفواههم عصير الليمون المالح، وقرص إمام الزاوية أذني وصاح بي: يا لك من ولد قليل الأدب! وأمر صاحب الوكالة أحد خفراءه قائلًا: أبعِد هذا الولد الشقي! ودفعتني الأيدي إلى بيتي وأنا من القهر والمهانة في نهاية. وجلستُ واجمًا محزونًا دامع العينَين حتى قال لي أبي: إنك أحمق، أنسيت أن زائر الليل لا يجيء إلا في المنام؟!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/50/
الحكاية رقم «٥٠»
في زمن مضى لم أدرك منه إلا ذيله كانت الفتْوَنة هي القوة الجوهرية في حارتنا، هي السلطة، هي النظام، هي الدفاع، هي الهجوم، هي الكرامة، هي الذل، هي السعادة، وهي العذاب! جعلص الدنانيري فتوَّة خطير، ومن أشد الفتوات تأثيرًا في حياة حارتنا، يجلس في المقهى كالطود أو يتقدَّم موكبه مثل بنيان ضخم، وأنظر إليه بانبهار فيشدني أبي من يدي قائلًا: سِر في حالك يا مجنون. وأسأل أبي: أهو أقوى من عنترة؟ فيقول باسمًا: عنترة حكاية، أما هذا فحقيقة والله المستعان. وهو عملاق مترامي الأطراف طولًا وعرضًا، ذو كرش مثل قبة جامع، ووجه في حجم عجيزة ست أم زكي، يتمايل فوق صهوة حصانه كالمحمل، ولكنه سريع الانقضاض كالريح، ويلعب بالنَّبُّوت في رشاقة الحواة، وعند القتال يقاتل بنَبُّوته ورأسِه وقدمَيه وأتباعه. لا يُسمَع صوته إلا مزمجرًا أو هادرًا أو صارخًا، ودائمًا قاذفًا سيلًا من الشتائم، يخاطب أحباءه بيا ابن كذا وكذا، يسبُّ الدين وهو ذاهب للصلاة أو راجع منها، لا يُرى باسمًا أو هاشًّا حتى وهو يتلقَّى الإتاوات ويُصغي إلى الملَق، يستوي في ذلك عنده صاحب الوكالة وحمودة القوَّاد، وعلى مسمع ومرأى من وجهاء الحارة وأعيانها يضرط أو يكشف عن عورته! يعجز مرةً أحد التجار عن دفع الإتاوة فيستمهله أسبوعًا، ولكنه لا يقبل فيُضطَّر الرجل إلى البقاء في بيته مع الحريم حتى يجيئه الفرج. ويعاقب ناظرُ المدرسة ابنَ أحد أتباعه فيعترضه لدى مغادرته المدرسة، ويأمره بأن يخلع ملابسه ليذهب إلى بيته عاريًا، يتوسل إليه الناظر أن يعفو عنه ويستحلفه بالحسين وقبر الرسول، وجعلص متجهِّم متوثِّب ينتظر تنفيذ أمره، ويُضطَّر الناظر إلى أن ينزع ملابسه قطعةً فقطعة وهو يبكي، يتوقَّف عندما لم يبقَ إلا السروال، فيزمجر الدنانيري، فيرتعد الرجل ويخلع سرواله ثم يستر عورته بيدَيه ويجري نحو مسكنه مُشيَّعًا بقهقهات العصابة. وهو يهزأ من التقاليد الراسخة، فلا يتردد عن إجبار شخص على تطليق زوجته ليتزوَّجها، وهو كثير الزواج والطلاق، ولا يجرؤ أحد على الزواج من إحدى مُطلَّقاته فيلقين الحياة وحيدات يتسوَّلن أو ينحرفن. ويمرض يومًا، فيلازم الفراش أسبوعًا، ويخبره أحدُ قُرَّاء الغيب بأن ما أصابه إنما أصابه نتيجة لدعاء بعض أهل الحارة عليه، فلما يبرأ من مرضه يأمر بألا يحتفل أحد بعيد الفطر المبارك، حتى زيارة المقابر حُرِّمَت علينا، وتمُرُّ أيام العيد والحارة خالية والدكاكين مُغلَقة والبيوت صامتة ويغشانا ما يشبه الحِداد. أيامه أيام رُعب وجُبن وذُل ونفاق، أيام الأشباح والأنَّات المكتومة، أيام الشياطين والأساطير المخزية، أيام التعاسة واليأس والطرق المسدودة. ولكنه يرعب أيضًا الحارات المجاورة، ويسحق فتوَّات الحسينية والعطوف والدرَّاسة، فتمضي زفة العريس من حارتنا بلا حراسة، ويتجنَّب الناس وَقْع خطانا اتقاءً لتجهُّم المقادر. ••• ويُقدَّر لهذا الجبل الشامخ أن ينهار فيما يشبه اللعبة. يُدعى إلى فرح في الدرب الأحمر، وعند مدخل البيت يتقدَّم منه غلام ويقول له: يا عم. فينظر إليه من علٍ باستغراب ويسأله: ماذا تريد يا ولد؟ وبسرعة البرق. أجل بسرعة البرق يُخرج من جلبابه سكينًا فيطعنه في أعلى الكرش، ثم يشد السكين وكأنه يتعلَّق بها حتى المثانة! بسرعة البرق وقعَ ذلك. ويتجمَّد جعلص الدنانيري كأنما دهمه نوم، وتنحطُّ معدته خارج جسمه، ثم يتهاوى كعمارة بكل ما يتضمَّن من قوة وإقدام ووحشية وثقة في النفس والدنيا. ويُتبَيَّن أن الغلام ابن أحد ضحاياه من كفر الزغاري، درَّبَته أمه وأعَدَّته لتلك اللحظة. ••• ويجتاح الخبر حارتنا كالنار المستطيرة، نذهل ونفزع ونبكي ونصرخ. ونتمعَّن الخبر ونتبادل النظر فيتسلل إلى جوانحنا استرخاء وأمان وامتنان وفرح. ويستقر بنا الحال، فنؤمن بأن علينا أن نحزن رغم أننا فرحون، وأن علينا أن نغضب رغم أننا راضون، وأن علينا أن ننتقم رغم أننا شاكرون. ويضرُّ بنا موته كما أضرَّتْ بنا حياته، وتكفهِرُّ الحياة بلعنات الشياطين.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/51/
الحكاية رقم «٥١»
ألعب أمام البيت مبتهجًا بشمس الشتاء. في الناحية المقابلة يلعب عبده ابن الجيران. وهو ذو نظرة حالمة وصوت عذب وملامح آسرة، ويعجبني صوته وهو يغني: وفجأة يصمت عبده، وتُعرِب ملامحه عن حزن بلا سبب ظاهر، ويُخيَّل إليَّ أنه يرمقني باهتمام. – ما لك يا عبده؟ ولكنه لا يرد، أو بالأحرى لم يسمع، وكأنما يشرع في الضحك، ولكنه لا يضحك، وتندُّ عنه صرخة ثم يسقط على وجهه، يتصلب عودُه وترتعد أطرافه ويطفح الزبد من شدقَيه. ويحمله أهل الخير إلى داخل بيته. وأقصُّ على أمي ما رأيت فهتفت بحرارة: الله معه ومع أمه المسكينة. وأسمع همسًا أنه ممسوس، وأنه لا يوجد له دواء عند أهل الأرض. وتسوء حاله ويسيطر عليه البلَهُ. ويومًا يرجع جعلص الدنانيري من القرافة في موكبه فتقف له الحارة على الصفَّين ويركبها الهول، إلا عبده، فإنه يعترض سبيل الفتوَّة بلا مبالاة، ويقول: إني ألعنك وطظ فيك! وأقول لنفسي جزعًا: لقد هلك عبده. ولكن الجبار يبتسم، بل ويتأبَّط ذراعه، ويمضيان معًا في سلام. لم يرحم الجبار أحدًا في حارتنا إلا عبده. وتعلمني الخبرة مع الأيام أن حارتنا تقدِّس طائفتَين: الفتوَّات والبلهاء. وتحوم أحلام صباي حول الطائفتَين. أحلم حينًا بالفَتْوَنة وجلالها. وأحلم حينًا بالبلاهة وبركاتها!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/52/
الحكاية رقم «٥٢»
يقف زيَّان صبي مبيِّض النحاس بين يدَي فتوة حارتنا السناوي مبتهلًا، فيقول له الفتوة: إن كنتَ صادقًا فدعني أجربك. فيقول زيان بحماس: تحت أمرك يا سيد المعلمين. فيقول السناوي بهدوء: اقتل أم علي الداية. ثم يأمره بالانصراف فينصرف قبل أن يفيق من ذهوله. ويغوص زيان في هاوية من الاضطراب ويتمتم لنفسه: إنها لمصيبة لم تجرِ لي في خاطر! ••• قبيل ذلك اللقاء، كان زيان فردًا مغمورًا من أهل حارتنا، ومن الشبان الكادحين في سبيل لقمة العيش. وكان يطوي قلبه على حب مضطرم لأم علي الداية، بالرغم من أنها تكبره بعشرين عامًا. ويفكِّر في حاله فتراءى له طريقه مسدودًا، ورزقه محدودًا، وأنه لن يروق في عينَي أم علي إن لم يقلب حاله رأسًا على عقب بضربة سحرية. لذلك حلم بالانضمام إلى عصابة السناوي ليثب فوق حاجز الحظ وثبة موفقة. ويتشفَّع لدى الفتوَّة بصديق لأبيه هو ميمون الأعور، فيزكيه الرجل عند السناوي ويقدِّمه إليه، غير أن اللقاء لم يستغرق إلا دقيقة واحدة أمَرَه في ختامها أمْرَه المرعب: اقتل أم علي الداية! ••• ويهيم زيان على وجهه في الساحة أمام التكية، ولكن الله لم يهدِهِ إلى مخرج، ويتسلل إلى ميمون الأعور ليلًا في الغرزة، فيقبِّل يده ويقول له: يا معلم، إني خجلان، ولكنني لا أستطيع قتل أم علي الداية. ويظنُّ ميمون أن عجزه راجع إلى قلة الحيلة، فيقول له: ليس أسهل من ذلك، فهي تُدعى عادةً إلى البيوت في أواخر الليل. فيقول يائسًا: أمنيتي أن أتزوج منها ذات يوم. فيقول ميمون باستهانة: اقتلها لتثبت جدارتك ثم تزوَّج من غيرها، فالنسوان في حارتنا أكثر من الذباب! – ولماذا أم علي بالذات؟ – هذا أمر المعلم ولا مناقشة فيه، وهو يريد أن يجرِّبك، بل لعله علم برغبتك في المرأة. فيقول متنهِّدًا: الحق أنني لا أستطيع القتل! فيغضب ميمون ويصفعه ثم يقول: أحسبتَ الانضمام للعصابة لهوًا؟! – أعرف الآن أنني لا أستحق هذا الشرف. – فات الوقت! – فات الوقت؟ – لن يغفر لك تراجعك ولن تحلو لك الحياة في الحارة. ويمضي زيان وهو يعُدُّ نفسه في الضائعين. ويفضي بهمه إلى أمه فتنصحه بالهرب، وتحثه عليه، وقبيل الفجر يغادر زيان بيته حاملًا بقجة ملابسه وخمسين قرشًا، هاجرًا بيته وحارته وعمله، مستقبلًا العناء والمجهول. وكان فارق الزمن بين سَعْيه إلى الفتونة وبين ضياعه عشرين ساعة من عمر حارتنا.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/53/
الحكاية رقم «٥٣»
ومن فتوات حارتنا حمودة الحلواني، ويُحكى أنه الوحيد بينهم الذي عمَّر حتى بلغ التسعين من عمره، كما أنه الوحيد الذي اعتزل الفتونة بحكم العجز والكبر. وقد تاب وحج ولزم المسجد في آخِر أيامه. ومما يُؤثر من سيرته أنه جلس مع الإمام ذات مساء يتسامران عقب درس العصر، فقال للإمام: كثيرون يسيئون الظن بالفتوَّات ولكن أولاد الحلال بينهم كثيرون! فابتسم الإمام وقال متهكِّمًا: إنك على رأس أولاد الحلال. فقال حمودة بإيمان: حصتي من الخير لا يُستهان بها. – عظيم، أعطِني مثلًا يا معلم حمودة؟ – أتذكرُ رجُلَ الفُل الذي اشتُهر بمغازلة الزوجات المصونات؟ أنا الذي دبَّرْت مصرعه! – ولكنها جريمة يا معلم. – أبدًا، وأنا الذي قتلت سُمْعة الدنش الذي قتل ابن زوجته. – ولكن ذلك لم يثبت وقد برَّأته المحكمة! – طظ في المحكمة، كان قلبي دليلي وهو أصدق الحاكمين! ثم بعد استراحة قصيرة؛ إذ كان الكلام يرهقه في أواخِر عمره: ومن حسناتي أنني قتلتُ فهيمة الآلاتية القوَّادة المعروفة! فقال الإمام بازدراء لم تره عينا العجوز الضعيفتان: قيل وقتها لأسباب لا علاقة لها بحرفتها! – لا تصدِّق كثيرًا مما يُقال! فضحك الإمام وقال: زدني علمًا بحسناتك! – وقتلتُ أيضًا يمني الخيشي. – وماذا كان ذنبه؟ – العجرفة، كان يسير في الحارة كأنه خالقها. – تعني أن نفسه سوَّلَت له أن يقلِّد فتوَّته! – إنك عنيد ولا تريد أن تعترف لي بفضل. – لا تغضب وزدني علمًا بحسناتك! فضحك حمودة عن فمْ لم يبقَ فيه ناب واحد ولا ضرس ثم قال: حوادث القتل الباقية لا تُعَدُّ من الحسنات وقد تاب الله عليَّ والحمد لله. فقال الإمام بعد تردُّد: ولكن أعجب ما سمعت من حوادث القتل ما ذاع عن مقتل قرقوش العبد؟! فضحك حمودة واستغفرَ الله، فقال الإمام بإلحاح: حدِّثني بخبَرِه يا معلم حمودة. فقال الرجل الذي لم يبدُ قط أن ذكريات جرائمه تؤرِّقه: كنت جالسًا في داخل المقهى عندما جاء قرقوش العبد ليدخِّن البوري، لم يكن بيني وبينه شيء على الإطلاق، فدخَّن البوري وشرب قهوته، ثم قام لينصرف وهو يقول لصاحب المقهى «غدًا سأكون عندك في مثل هذا الوقت بالدقيقة والثانية كما اتفقنا فلا تنسَ»، وما أدري إلا والغضب يجتاحني فقررتُ في الحال قتله، ولم يطلع عليه الصبح! – أذلك كلُّ ما كان؟ – بلا زيادة ولا نقصان! – ولكن ما الذي أغضبك؟ – لا أدري، حتى اليوم لا أدري. – ولكن لا بد من سبب! – ربما أحنقَتْني ثقته البالغة في نفسه وفي غده، كان يتكلَّم بثقة وطمأنينة! – ولكن لا بد من سبب غير ذلك؟ – قُل إنه قتل بلا سبب! فتعجَّبَ الإمام ورمق الرجل بغرابة وذهول، وكان الكبر قد أهزله فلم يبقَ منه إلا هيكل عظمي.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/54/
الحكاية رقم «٥٥»
ومما يُحكى أنه كان بحارتنا شاب صعلوك، يُدعى عباس الجحش، لم يكُن يُوفَّق أبدًا في إتقان حرفة ولا يمكث في دكان أكثر من أيام، ثم يُطرَد شرَّ طردة، وذات يوم رأى عباس عنباية المتولي بنت بياع الدندورمة، فأترع قلبه برحيق الحب المسكر، ولم يجِد سبيلًا مشروعًا إليها، فتفتَّق عقله عن حيلة، أن يتآمر مع صَحْبه من الصعاليك على أن يُمثِّلوا مع الفتاة دور المتحرِّشين، وعلى أن يمثِّل هو دور ابن البلد الشهم، وخرجت عنباية لتتسوَّق في ليلة عاشوراء فحاصرها الصعاليك متظاهرين بالعربدة، فوثبَ عباس الجحش من مجلسه على سلم السبيل، فانقضَّ عليهم كالوحش، صرَعَهم واحدًا في إثر واحد حتى طرحهم أرضًا، ثم تقدَّم من البنت وهو يلهثُ قائلًا: مصحوبة بالسلامة. فشكرَتْه ومضت مُعجبة بقوته الخارقة، وجعلت من مغامرته حكاية تتناقلها النساء والرجال. وصادف ذلك وقتًا خلَتْ فيه الحارة من فتوَّة — ولم تكن الفَتْوَنة قد زالت بعدُ — فتساءل أناس تُرى هل آنَ لحارتنا أن يكون لها فتوة؟ ورأى أحدهم عباس وهو يحوم حول بيت بيَّاع الدندورمة، فهتف به: أهلًا بالجحش فتوة حارتنا! واهتزَ عباس بالهتاف، ولعبَتْ برأسه الأحلام، وتحت سطوة المخدرات قال لنفسه: فلنجرب هذه اللعبة! وجمع أصحابه، ومضى على رأسهم نحو المقهى بعد أن فرشَ طريقه بالدعاية المناسبة، وكانت الحارة في حاجة مُلِحَّة إلى فتوَّة لتحفظ ذاتها وكرامتها بين الحواري المتصارعة، فاستقبلَتْ عباس الجحش وصحابه بزفَّة وبايعته فتوَّةً لها، وتحوَّل الصعاليك إلى عصابة، وانهالت عليهم الإتاوات، فتحسَّنت أحوالهم، وازدهتهم الخيلاء، فخطروا في الأرض كالجِمال، ورويدًا رويدًا صدَّقوا أوهامهم. وطلب عباس الجحش يد عنباية المتولي فقال له أبوها بوجه طافح بالبِشر: بُشرى لنا يا معلم! وعُقد القران. أما الدخلة فلا تتم إلا بعد الزفة. وتنبَّه عباس متأخرًا إلى أن زفة الفتوة يجب أن تطوف بالحي كله، وأنها الاختبار الرهيب للفتوَّة، تجابهه فيها تحديات الأعداء، فيرجع منها إلى شهر العسل وعرش الفَتْوَنة أو يمضي إلى القرافة. لا بدَّ مما ليس منه بد، وماذا يمنع الحظ من أن يخدمه مرة أخرى؟ وسكِرَ وسكِرَ أصحابُه. ومضت الزفة على أنغام المزامير وأضواء المشاعل، وسار فيها رجال الحارة. وعند باب زويلة. عند باب زويلة اعترض الطريق فتوَّة العطوف ورجاله. رآه عباس فطارت الخمر من رأسه. ولعب فتوة العطوف بنَبُّوته بخفة بهلوان، فسقط قلب الجحش حتى ركبتَيه. وهتف أهل حارتنا في حماس وبراءة، فاضطُرَّ عباس إلى أن ليعب بنَبُّوته كذلك. لا يمكن تأجيل القضاء إلى ما لا نهاية. وتقدَّم خطوات في سكون ثقيل، فتقدَّم فتوَّة العطوف في غاية من الحذر. واندفع عباس نحو خصمه حتى ذهل أصحابه. وفجأةً. وفجأةً وبسرعة البرق انحرف نحو عطفة الحنفي، ثم انطلق في ظلماتها مثل رصاصة، لائذًا بالفرار! ووجم الجميع دقيقة لا ينطقون ولا يفهمون. ثم هدر المكان بالضحك والقهقهات والصياح. ولم يُرَ عباس بعد ذلك في حيِّنا كله، وظلَّ قرانه معقودًا حتى سقط بمضي المدة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/55/
الحكاية رقم «٥٤»
الويل لنا عندما يشتد النزاع بين الحارات، عندما تتصارع التحديات بين الفتوات. نتوقع في الليل أن تجتاحنا هجمة غادرة، نتعرض في تجوالنا في الحي لتحرُّشات مباغتة، تنقلب أفراحنا إلى معارك دامية، يسوَدُّ وجه الحياة ويكفهرُّ. ويغدو الانطلاق إلى الميدان محفوفًا بالمخاطر، أما التسلُّل عن طريق القرافة فيتهدَّده الشياطين وقُطَّاع الطرق، فننحصر في حارتنا كالفئران في المصيدة. ذاك ما رواه الرواة عن فترةٍ من حياة حارتنا الماضية. ••• ويقترح بعض أهل الحكمة هدم جزء من السور الشرقي، يقولون: لا بأس من هدمه لنتسلَّل منه إلى صحراء الجبل، ومنها إلى أطراف الأحياء البعيدة التي نتعامل معها ونحن في مأمن من الأخطار المحدقة بنا. والسور العتيق يكوِّن الجناح الشرقي للحارة، ويقع على مبعدة يسيرة من سفح المقطم، وتطيب الفكرة لنا فنعهد إلى أحد المقاولين من أبناء حارتنا بتنفيذ الفكرة، ويتساءل أناس: ألا يمكن أن يهتدي العدو إليها فيباغتنا منها؟ فيجيب أصحاب الفكرة: الوصول إليها عسير، فبينها وبين العمران صحراء لا تدوسها قدمٌ، فضلًا عن أنه من اليسير حراستها! ويشرع العاملون في العمل، ويتهيأ لنا ممر إلى الصحراء نطلق عليه «ممر السبيل»، حيث إنه يبدأ من نقطة تقع وراء السبيل الأثري مباشرةً، هكذا نخلق ممرًّا سريًّا للعالم الخارجي متجنِّبين طريقَي الميدان والقرافة اللذين يحدان حارتنا من طرفَيها. ويتحدث مدرِّس الجغرافيا ذات مساء في المقهى فيقول: نحن نتوهَّم أننا حقَّقنا الأمان لأنفسنا وأنه لم يعُدْ ثمة ما نخافه! فيتعجَّب السامعون لقوله، فيقول: كأن معاركنا مع الحارات المجاورة هي جملة ما يهدِّد سلامتنا! فيزداد تعجُّب الناس من قوله وادعائه، أما هو فيمضي قائلًا: هنالك خطر هائل لا يفطن له أحد ولكنه كفيل بالقضاء على حارتنا كلها بضربة واحدة. ولما يسألونه عن الخطر المزعوم يُجيب: الممَرُّ الذي شُقَّ في السور الشرقي. – ممَرُّ السبيل؟ – لو ينهمر من السماء سَيْل فيكتسح السفح وينقضُّ على الممَرِّ فيُغرق الحارة! وتتجمَّع في أعينهم أمارات الذهول والسخرية، ويقولون: إنها لا تمطر في العام إلا مطرة واحدة وهي مطرة خفيفة كالدعابة. ولكنه يستطرد غير مبالٍ باعتراضهم: الجبل فوقنا ونحن نربض عند قدمَيه، وحارتنا منخفضة في الوسط. ويضحك الجماعة ويقولون ساخرين: يريد منا أن نستهين بخطر داهم عاجل لاتقاء خطر وهمي لا يقع إلا في خياله. ••• وتمضي أعوام والحارة منهمكة في صراعها اليومي، المدرس يكرِّر تحذيره بين آونة وأخرى، فلا يلقى إلا هازئًا حتى أُطلق عليه «الأستاذ مسيلمة». ••• وتربد السماء ذات شتاء فتتراكم السحب وتسوَدُّ وتهبط فوق المآذن، وتهب عاصفة تدك العلالي فوق الأسطح وتلعب بأشجار التوت في التكية. وينهل المطر كأنه أنهار تتدفَّق من علٍ. ويتواصل انهلاله ثلاثة أيام كاملة. حدثٌ كوني لم نعرفه من قبل، غضبة فلكية كاسرة، وينصبُّ من الجبل طوفان، فيندفع نحو الممر بسرعة قطار صاخب، ويزمجر في هدير شامل تحت التماعات البرق الخاطفة وهزيم الرعد المجعجع. وتختفي أرض الحارة تحت طبقات من المياه المركَّزة المحصورة، وتأخذ المياه في الارتفاع فتغرق البدرومات وتكتسح الدكاكين والوكالات والأدوار السفلية، وباحة السبيل وفناء المدرسة، وتجعل من القبو خزَّانًا، ومن الساحة بحيرة، ومن الممَرِّ الضيق بين التكية والسور نهرًا زاخرًا، ثم تجتاح المياه المقابر فتجرفها وتقذف بالعظام والجثث في أخاديد لا حصر لها، تغطيها الأكفان والخرق البالية. وتنهدم بيوت وتنقلب الأسقف مصافي وثقوبًا، فيهجر الحارة أهلها مذعورين وينتشرون في الصحراء لاجئين مشرَّدين، والخراب يحيط بهم وارثًا الأرض وما عليها. محنة لا تُنسى. وذكرى مُبلَّلة بالدموع.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/56/
الحكاية رقم «٥٦»
لعب الطموح بقلب عبدون الحلوة العامل بالوكالة، فقرر — كما فعل زيان في زمن أسبق — محاولة الانضمام إلى عصابة «الدقمة» فتوة حارتنا، واسترشد بأحد كبار العارفين فقال له: احذر أن تقترب منه بهذه السحنة أو هذه الرائحة أو هذا الجلباب المزيِّت، كن مثل الماء الصافي النقي ثم جرب حظك. وقال له أيضًا: فتوَّتنا يحب الجمال والنقاء، وهو طراز وحده في سلسلة فتوَّاتنا، فافهم ذلك جيدًا. واقتنع عبدون بأن الطريق إلى الدقمة مُمهَّد ميسور، فذهب إلى الحمَّام ليغيِّر جلده في المغطس، وأعدَّ جلبابًا ومركوبًا جديدين، وفيما هو منهمك في تجديد نفسه سأله صاحب له: ماذا هناك يا عبدون؟ هل تفكِّر في الزواج؟ فباح له بسره، وكان الآخَر صاحبًا أمينًا، فقال له: ليست النظافة وحدها هي ما تهم الدقمة، إنه أيضًا يحب الحكايات. – الحكايات؟ – عنترة وأبو زيد وغيرهما، فإن لم تعرف السِّيَر تعذَّر عليك أن تواصل الحديث دقيقة واحدة مع الدقمة. – ولكن تحصيل ذلك يطول! – عندك الراوي في المقهى فلا تضيِّع وقتًا إن كنت صادق الإرادة حقًّا! ثم قال له وهو يمضي عنه: تغير الزمن يا عبدون، في بادئ الأمر كان الدقمة يرحِّب بأي رجل يروم الانضمام إليه، أما اليوم فهو يستوي على عرش القوة دون منازع. وتفكَّر عبدون في الأمر مليًّا، وكان عبدون رجلًا عاقلًا، قال لنفسه إنه من الحكمة أن يأخذ الأمور بالهوادة والصبر والإتقان، وألا يتكالب على هدفه تكالبًا يفسده عليه، لبث في الوكالة يعمل بِهِمَّة، وتزوَّج، وواظب على السهر في المقهى يتلقى الحكايات على أنغام الرباب. لم تعُد الحياة يسيرة أو مريحة، فالعمل في الوكالة شاقٌّ، وأعباء الأسرة لا يُستهان بها، ومتابعة الحكايات مع استيعابها جهد متواصل، ولكنه كان يُهادن متاعبه بتخيُّل حلمه العذب يوم يَمْثل بين يدَي الدقمة في نقاء الماء وثراء الرباب. وذاع سره، وعرف كلُّ مَن هبَّ ودبَّ أن عبدون الحلوة يُعِدُّ نفسه للفتونة. وانبرى له كثيرون من أهل الخير والنصح، فقال له أحدهم: النظافة مهمة، والحكاية مهمة، ولكن الشجاعة عند الدقمة أهم من الاثنين. – الشجاعة؟ – أجل، واحذر في الوقت نفسه أن تستثير غيرته، فيحنق عليك بدلًا من أن يرضى! – وكيف أوفِّق بين هذا وذاك؟ – تلك هي مشكلتك وعليك أن تحلها بالفطنة يا عبدون يا ابن الحلوة! وقال له آخَر: والقوة مهمة أيضًا، عليك أن تثبت قوتك، عليك أن تثبت أنك قادر على توجيه الضربات الحاسمة، وأنك قادر أيضًا على تحمُّل الضربات مهما اشتدت .. وعليك أن تثبت له أيضًا أن قوتك لا توزن بحال بقوته. – ولكن كيف يتأتى لي ذلك كله؟ – تلك هي مشكلتك يا عبدون! ساورَتْه الحيرة، ولكنه أراد أن يُطمئن نفسه فقال: أهل الخبرة يقولون إنه يحب الجمال والنقاء والخير، أشهد أن معاملته للَّبَّان تقطع بميله الأصيل للخير! فتساءل الآخَر في حذر: وماذا عن معاملته للسقَّاء؟ فانقبض قلب عبدون لحظةً، ولكنه قال بإصرار: أخبرني أبي ذات مرة أنه يحب الفقراء. – بوسعي أن أعُدَّ لك عشرة على الأقل من أفقر فقراء حارتنا قد نكَّل بهم وشردهم. خرج عبدون من الأحاديث معتمًا مهمومًا حائرًا، حتى العدول عن الطريق خطر له، ولكن الحلم كان قد سيطر على روحه فلم يسعه النكوص، وتشعَّبت أهداف الحياة بين الوكالة والزوجة والرباب وتجارب القوة والشجاعة ومغامراتهما، ومضى — رغم صلابته — ينوء بالعبء، وتنزلق قدمه، وتتراخى قبضته، تبدَّد وقته وتشتَّت عقله، وارتكب حماقات متلاحقة، وتمادى في طُرُقه المتشعِّبة بجنون حتى فقد السيطرة على حياته، وانتهى دأبه بالخيبة فطُرد من الوكالة، وطلَّق — عقب مشاحنات كثيرة — زوجته. لم يكترث لذلك كثيرًا وظنَّ أن الوقت أزف للقاء الدقمة الذي لم يبقَ له غيره. وتفحصه الفتوة مليًّا ثم سأله: ماذا تريد؟ فأجاب عبدون: أن أصير من خدامك. – أترى نفسك أهلًا لذلك؟ فأحنى رأسه ليخفي زهوه بمنظره الأنيق وقال: عندي ما يريد معلمي وزيادة! فقال الدقمة بجفاء: لستُ في حاجة إليك. فذهل عبدون وقال بضراعة: في سبيلك فقدت أسباب حياتي جميعًا. فقال الدقمة بلا اكتراث: أعرف ذلك. – وتطردني رغم ذلك؟ فقال الرجل بنفاد صبر: بل أطردك بسبب ذلك! وبات عبدون الحلوة نادرة تُروَى.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/57/
الحكاية رقم «٥٧»
زغرب البلاقيطي من فتوَّات حارتنا المعدودين، وهو خاتم الفتوَّات الكبار، فمن بعده لم تقُم للفتونة قائمة تُذكر. رشيق، مديد القامة، أبيض الوجه، غزير الشارب، خفيف الحركة بالنَّبُّوت، لعِّيب، ولولا إيمانه — وهذا حقيقةً — بأن هيبة الفتونة لا ترسخ إلا بالنصر ما خاض معركة قط، ويصادفه التوفيق في معاركه فيضرب فتوَّة الدرَّاسة ويصرع فتوَّة العطوف، ثم يمتد ظِلُّه فوقنا كالشجرة السامقة بالفخر والطمأنينة، ونحبه جميعًا ونتغنى بانتصاراته وننعم بأبوته اللطيفة، وهو يجلس كثيرًا في المقهى ليتابع الحكايات، ويقرِّب إليه أهل النكتة والمنشدين والزجالين، أحيِّيه على صِغَر سِنِّي فيرد التحية بذوق يبعث في أعماقي النشوة والأمل، وسلوكه معنا فريد غير مسبوق بشبيه، يفرض على جميع أعوانه أن يكسبوا رزقهم بعرق الجبين لا بالبلطجة، حتى هو نفسه يعمل تاجر جملة للمخدرات، ولا يطالب بإتاوة إلا للضرورة القصوى. ••• ولكن الفتونة هي الفتونة على أي حال. فكلمة زغرب البلاقيطي هي الأولى والأخيرة في أيِّ أمر من الأمور، والتحكُّم مرٌّ ولو كان طول العمر نتيجته، إنه يحذِّر الرجال من العربدة، ويمنع النساء من الزينة المفرطة، ويقيد حرية الغلمان في لعبهم. ويغالي في التدخُّل فيما لا يعنيه حتى يحمل شاعر الرباب على التحيُّز لبطولة أبي زيد، ويُبطل الزواج الذي يراه غير متكافئ، والطلاق الذي لا يعجبه وإن رضي به الطرفان، ولم يكن أحدٌ يتجرَّأ على طلب الكراوية أو الأنيسون عند وجوده في المقهى لنفوره منهما. وفي كلمة كبَّلنا بالأغلال رغم حسن نواياه وطيبة خُلقه، وزاد من حرج الموقف تكاثُر المتعلمين في حارتنا يومًا بعد يوم، وشدة حساسيتهم، وحدة ألسنتهم. – اللعنة .. لم يبقَ إلا أن نتنفس بأمره. – إنه مستبد ولكنه عادل. – مستبد يعني أنه غير عادل. يُسمع ما لم يكن يُسمع بحارتنا، لأول مرة نعاصر حملة على الفتونة في ذاتها، وبصرف النظر عن مزاياها، لأول مرة يُقال إنه نظام بالٍ، وإنه آنَ للشرطي أن يحمي العباد، لأول مرة يُلعَن الفتوة الطيب كما كان يُلعَن الفتوة الشرير. ويترامى التهامس إلى زغرب البلاقيطي فيغضب ويصيح: أهذا جزاء مَن يعدل ويرحم يا أبناء الزنا! ويتجهم وينذر بالعنف. ••• وتتوجه قلوب نحو هجار الأقرع. عملاق ورع وفيه شيء لله، إذا اقتنع بخير أقدم عليه مُلقيًا بالعواقب جانبًا. وهو يقبع في الليالي في الساحة أمام التكية يردِّد الأناشيد ويحدث نفسه، يتسلَّل إليه في الظلماء رجل داهية، ويهمس بصوت حنون: أتريد يا هجار أن تُرضي ربك؟ فيعتقد هجار أنه يسمع هاتفًا من الغيب فيقول: لبيك! فيهمس الرجل: لقد أُعطيت القوة والبأس فحطِّم الأغلال! ••• وينطلق هجار في الحارة بحماسِ مَن يحمل رسالة مقدَّسة. وتوقَّع الطيبون أن ينهار سجن الأغلال. ويلوح هجار المارد بنَبُّوته، وفجأةً يضرب إمام الزاوية، ويثنِّي بامرأة ماضية في الطريق. وينهال بنَبُّوته على تجار وعمال وتلاميذ! وهاجت الحارة وماجت، وتصايح الناس: جُنَّ الأقرع! – اقبضوا عليه! – حاصروه واضربوه! ورُمي بالطوب من كلِّ موقع حتى سقط مضرجًا بدمه. ••• لم نفقه لما حدث معنى، وظنَّ كثيرون أن الرجل لم يفهم الرسالة أو أنه أساء فهمها، أو أن في الأمر سرًّا ما زال خافيًا. ولكن التذمُّر من زغرب البلاقيطي يتزايد، ويجهر كثيرون بما يضمرون، ويعتدي الفتوة على أناس فيقابلون العدوان بالمقاومة، وتسري في الحارة روح تمرُّد لا عهد لنا بها من قبل. وتتتابع أحداث مؤسفة ودامية، ولكنها تقضي في النهاية على تراث خطير، وتفتح الأبواب لعصر جديد. وتُستعاد حادثة هجار الأقرع في ضوء جديد من الإدراك فيصبح رمزًا للحياة الجديدة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/58/
الحكاية رقم «٥٨»
يجيء ربيع ونحن على شفا هاوية من الهلاك، في الحارة عصابات متخاصمة، وبين الحارات المتجاورة خصام مستعِر، ويغلي الحقد الأسود، وتمجُّ القلوب كراهيةً وتتكاثر حوادث الاغتيال، وينذر الغد بكارثة. وعند الظهيرة من يوم مشرق يقع في مسرح الكون حدث غامض. ثمة تجمُّعات من السحب القاتمة تنتشر في الأفق، غريبة في غير زمانها، ثم تنتشر بكثافة متصاعدة مقبضة للنفس، وتتطاول نحو كبد السماء وتنداح فتُخفي إحداها الشمس وتواري الضوء المنير. وتمضي التجمُّعات في التكاثر والتقارب، وتتصل وتتلاصق فتتحول إلى تكتُّلات شاسعة، في بطء ولكن في ثبات وإصرار، حتى تشكِّل في النهاية سقفًا غليظًا من السواد العميق. وتشخص الأعين نحو السماء متسائلة، من الطريق والدكاكين والنوافذ والأسطح تشخص الأعين نحو السماء. وتدب في السقف الأسود حركة متوتِّرة، فيبدو متموِّجًا متصارعًا متلاطمًا كأنه محيط من الظلمات مشتبكًا في نضال ضار. ويهرع الناس من البيوت إلى الحارة، يتابعون الأسرار الغامضة، لا يدرون عمَّ تتمخض؟ ويتوقعون مزيدًا من الإثارة المقلقة. ويمضي الجو يتشرَّب بلون رمادي غامق، يزداد قتامة وتجهُّمًا، ويمضي بحر السواد يقطر نتفًا سودًا، تنتشر في الجو ثم تزحف هابطة في هدوء مخيف. ويهجر الناس الحارة إلى الميدان، كذلك يفعل أهل الحارات المجاورة، يُنشدون في الانطلاق والتجمُّع البشري ما يفتقدون من أمان. وتنفذ إلى حواس الشم رائحة ترابية مثيرة للأعصاب، ويأخذ الكون في الاختفاء، وتتخايل الأشباح، ثم يغرق كل شيء في ظلام دامس. وترتفع الأصوات المتهدجة: يا ألطاف الله! – ارحمنا يا رب العالمين! وتشملنا ساعة من التوقُّع المتوتر لأي خطر داهم لم يجرِ لنا في خيال من قبلُ. وتتلاحم الأيدي في الظلام لا تدري يد في أيِّ يد تُوضَع.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/59/
الحكاية رقم «٥٩»
غنَّام أبو رابية له قصة طريفة. من ناحية الأصل يُعَدُّ من فقراء حارتنا، تفوَّق في المدرسة وعُيِّن بوزارة الداخلية، وترقَّى في درجاتها حتى شغل منصب المشرف المالي على الأموال السرية. يتميَّز على صعاليك أسرته بالمسكن النظيف، والزوجة الجميلة، والغذاء الطيب، وله في مظهره هيبة، وفي مجلسه قطب يقصده ذوو الحاجات. ••• ويختفي ذات يوم غنَّام أبو رابية فلا تراه عين. يتردَّد السؤال عنه في البيت والمقهى، بين المعارف والأقارب والحُسَّاد، لا يظفر أحد بجواب حاسم، ثمة غموض يكتنف الموضوع ويثير الحيرة والريب، ليس الرجل مريضًا ولا على سفر ولا صلة له بالسياسة مَدِّها وجَزْرها، ولا خصوم له على الإطلاق، فلم يبقَ إلا أن تحوم الظنون حول أمور غاية في الحساسية، وأن تختلف فيها الآراء تبعًا للنوايا والعواطف الشخصية، فنسمع حينًا أنه هرب، ونسمع حينًا آخَر أنه قُتل. ويظهر غنَّام أبو رابية ذات يوم فجأةً، كما اختفى فجأةً، ويتزاحم المهنِّئون في داره، ويفسِّر الرجل سرَّ غيابه بخصام احتدم بينه وبين كبير مسئول في الداخلية، تطوَّر إلى اعتداء من جانبه باليد على الكبير المسئول، فقُبض عليه، ولكنه أصَرَّ على موقفه حتى أُفرِج عنه. ويصدِّق الناس ذلك، ويعدُّونه بطولة، ويُحال غنَّام أبو رابية على المعاش قبل ميعاده القانوني بعشرة أعوام، فيُعتبر شهيدًا، والناس ذوو استعداد فطري لسوء الظن بالداخلية. ••• ومع الأيام تناقل الناس حكاية جديدة عن غياب غنَّام أبو رابية، لا أدري كيف نشأت، ولا مَن كان أول ناشر لها، ولا مدى ما تنطوي عليه من صدق، ولكنها رغم ذلك كله تنتشر وترسخ وتنضم إلى تاريخ حارتنا. يُقال، والله أعلم، إن غنَّام أبو رابية استغلَّ مركزه كمشرف مالي على الأموال السرية، فاختلس منها عشرة آلاف جنيه من الجنيهات، وقيل أكثر من ذلك، وأنه ضُبط وحُقِّق معه واعترف، كان الموقف غاية في الدقة والحرج، فالرجل مُحيط بأسماء مَن تُوزَّع عليهم الأموال السرية في جميع المواقع، وبوسعه أن يثير فضيحة شاملة تعصف بجميع العملاء وتنزع الثقة من جهاز الأمن بغير رجعة، فما العمل؟ طالبوه برد المبلغ في نظير العفو الشامل عنه، ولكنه رفض، ألقوا القبض عليه لإرهابه ولكنه لم يبالِ، لم يعثروا للمبلغ على أثر، وتجنبوا تقديمه للنيابة حتى لا يبوح هناك بأسراره، وكرَّروا المحاولة للاتفاق معه دون جدوى، أدرك منذ بادئ الأمر أنه في الموقع الأقوى وتلقَّى كافة التهديدات بسخرية، وقال لهم: ألوف وألوف وألوف تُنفق كلَّ يوم على أوغاد بلا خلق، فما الجريمة في أن أنال قروشًا لنفسي وترابُ حذائي أشرف من أكبر رأس فيهم؟ إني أرفض رد مليم واحد وأطالب بتقديمي للنيابة العمومية. ولم يكن في وسعهم أن يعتقلوه إلى الأبد، ولا أن يتحملوا مسئولية القبض عليه دون تقديمه إلى النيابة أكثر من ذلك، فاتفقوا معه على أن يلتزم بصون أمانة المهنة لقاء ألا يُسأل عما اختلس مع إحالته على المعاش في الوقت نفسه. وقد اشترى الرجل خرابة وشيَّد فيها عمارة، واعتُبر منذ ذلك الوقت من أعيان حارتنا.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/60/
الحكاية رقم «٦٠»
حليم رمانة من شباب حارتنا العاملين في نقش الأواني النحاسية، يغيب فجأةً عن الدكان بلا اعتذار، ويُرى هائمًا على وجهه في الساحة أمام التكية، لا يعرف أحدًا ولا يعرف نفسه، وسمعَتْ أمه بالخبر، فمضت إليه ولكنه لم يعرفها، نادته باسمه فبدا وكأنه يسمعه لأول مرة، إنه غريب تمامًا، وكأنما ولد لساعته. واتجهت الظنون إلى المخدرات ولكن ذهوله طال، تجاوز اليوم، ويومًا بعد اليوم، ثم استقرَّ كحال جديدة ثابتة، أصبح رمانة وعاءً خاليًا من الذكريات والعلاقات البشرية، أصبح جثة غير هامدة، وقيل — كالعادة في حارتنا — إنه ممسوس، وعولج بوصفات شتى من الطب الشعبي المناسب، كالبخور وزيارة الأضرحة والزار، ولكنه لم يبرأ فسُلِّم الأمر فيه إلى الرحمن. ••• وذات صباح تقرأ أمه في عينَيه نظرة جديدة، نظرة متألقة تعكس شخصية غائبة كأنما هي ترجع فجأةً من سفر طويل، يخفق قلب الأم بالأمل وتهتف: رمانة! فينظر رمانة إلى شعاع الشمس الهابط من نافذة البدروم ويقول بجزع: تأخرت عن الدكان. ويمضي مسرعًا إلى الدكان وأمه تجهش في البكاء. ويُقبل على معلمه قائلًا: غلبني النوم فمعذرةً يا معلم. ويرمقه الرجل في صمت وارتياب، ولكنه يتركه يزاول عمله وهو يحدس بفراسة صادقة ما طرأ على الشاب، وينظر رمانة فيما حوله باهتمام، ولمَّا لا يجد ما يبحث عنه يسأل: أين بيومي؟ بيومي صديقه وقرين طفولته، توقَّع أن يراه كالعادة قبالته، ولكنه لا يوجد، ولا يريد أحد أن يُعير سؤاله عنه اهتمامًا. ••• ويعلم رمانة رويدًا أنه غاب عن الوجود أشهرًا كاملة، يتلقى هذه الحقيقة بنعومة وأناة، ومع ذلك لا يدري كيف يهضمها، ويعود للسؤال عن صديقه بيومي فيُقال له: البقية في حياتك! فيصرخ: بيومي مات! – بل شنق! – شنق؟! – اتُّهم بقتل زينب بياعة الحليِّ الزجاجية! ويتمتم بذهول: بيومي قتل زينب! ••• قليلون جدًّا الذين عرفوا أن رمانة فقد صديقه الوحيد وحبيبته الوحيدة، وأولئك قالوا أيضًا: وهو يعلم الآن أنه فُجع في الحب والصداقة أيضًا! وقالوا: لقد ذهبا مخلفين له الخيانة والخواء. ••• وعانى رمانة تغيُّرًا في الشخصية. لم يرتد إلى الغيبوبة، لكن تسلل إلى صميم روحه الخمول وخيَّم عليه الصمت، عاش محتجًّا رافضًا كارهًا، يذبل ويهزل، حتى مرض مرضًا أقعده عن العمل، واسودَّ الأفق في عينَيه. وأرادت أمه أن تُعزِّيه فقالت: لستَ فريدًا في مصابك فمصائب الدنيا لا تُعَدُّ ولا تحصى! فغادر المسكن من فوره قاصدًا قسم الجمالية، مَثُلَ بين يدَي المأمور وقال بهدوء: أنا قاتل زينب بياعة الحليِّ الزجاجية.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/61/
الحكاية رقم «٦١»
ابن عيشة صعلوك من صعاليك حارتنا، يعيش بالتسوُّل وخفة اليد، تسلَّل ليلةً إلى بيت ست ماشاالله عندما ثبت له غيابها في فرح، ولسبب ما رجعَتْ ماشاالله مبكِّرة على غير توقُّع، فما يدري إلا وهي مُقبِلة نحو حجرة النوم، فانذعر واندسَّ تحت الفراش وهو يرتعد. أشعلت المرأة المصباح، رأى ابن عيشة قدمَيها وأسفل ساقَيها وهي تذهب وتجيء، وسمعها وهي تترنَّم بحنان: ترى متى يُتاح له الهرب بأمان؟! وغابت ست ماشاالله دقائق، ثم رجعت بأربع أقدام! ثمة طرف جلباب مقلم ومركوب أخضر، فانقبض صدر ابن عيشة، وأيقن أن حبسه سيطول! قالت المرأة: آنست ونوَّرت. فقال صوت غليظ: لا يتصوَّر أحد إلا أننا في الفرح. وتناهى إلى أذن ابن عيشة صوت مدغم بقبلات وهمسات مرحة. قالت المرأة: لن يتخيَّل مهما تخيَّل أنني أفلتُّ من زحمة الفرح. فقال الصوت الغليظ: سيقتلنا يومًا إن لم نقتله! وطالت المطارحة الغرامية وهو قابع تحت الفراش، وبدأ تأثير المنزول ينمِّل حواسه ويزحف نحو جهازه التنفسي، وينتشر في روحه منذرًا بعواقبه المألوفة. وسبح ابن عيشة في بحر لا شاطئ له، ثم مضى يطير في الفضاء بتؤدة وهيمان، حتى بلغ ذروة عالية نظر منها إلى حجرة ست ماشاالله فرآها بشيء من الوضوح على ضوء المصباح، رأى العاشقَين، وحتى الرجل المختفي تحت الفراش رآه، تبدت المرأة عارية متموجة في سحابة من دخان رمادي على حين مضى الرجل — كقرد — يثب بين غصون شجرة فارعة، وترامى اللعب بلا نهاية، غير أن عاصفة اجتاحت المكان المتواري، فتطاير الدخان وتلاطمت الأوراق، وأكثر من صوت نادى بالدم، وتتابعت أصوات الارتطام والدق، وتُبُودلت ضربات غاية في العنف والقسوة، وأقبلت قوات جديدة من قلب الظلام فلم يعُد للحب أثر. وقرر ابن عيشة أن يواصل طيرانه في الفضاء مبتعدًا ما أمكن عن كوابيس الأرض، ولكنه ارتطم بشيء أو لعل شيئًا ارتطم به. وبمشقة استطاع أن يتملص من قبضة وأمكنه أن يحرك عنقه، وأن يرى الضوء. وجُرَّ جَرًّا من تحت الفراش. وقف مترنحًا في الحجرة ينظر في الوجوه المحدِّقة به بذهول. وقال شيخ الحارة لضابط النقطة: هذا ابن عيشة .. نشَّال يا فندم. فقال الضابط: أخيرًا تعلَّم كيف يقتل. وقبض عليه. ولكن التحقيق لم يُسفر عن إدانته بتهمة قتل ست ماشاالله وعشيقها، ثم قبض على القاتل في أثناء التحقيق. وكان ابن عيشة يحكي قصته مرة كلَّ ساعة، وقد أصابه لطف في آخِر أيامه، وكان يُقال إن الدروشة هبطت عليه تحت فراش ست ماشاالله.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/62/
الحكاية رقم «٦٢»
كان الحاج علي الخلفاوي من أغنياء حارتنا، عُرف بالطيبة والصلاح أكثر مما عُرف بالثراء، يعطف على المظلومين، ويُعين الفقراء، ويبرُّ ذوي القربى، ومع الأيام ازدادَ ورعًا وتقوى ورحمة، ولكنه خصَّ آل مهران برعاية شاملة لم يظفر بمثلها أحد ممَّن يُظلُّهم عطفه، وكان آل مهران قومًا فقراء، وبسبب الفقر انحرف كثيرون منهم فتورَّطوا في الجُنَح والجرائم واشتُهروا بالعنف والبلطجة. ولما شعر الحاج علي بدُنوِّ الأجل استدعى إليه أكبر أبنائه، وقال له: لقد رأيت حلمًا. فرمقه الابن بعطف واستطلاع فقال الحاج: آنَ لي أن أزيح عن صدري جبل الهم الأكبر. فسأله ابنه: ما الحلم؟ وما الهم الأكبر؟ فاستغفر الحاج ربه وقال: بخلاف الظاهر يا بني كانت حياتي مريرة! – لمَ يا أطيب الناس؟ فقال الحاج وهو يتنفس بمشقة: أريد أن أحدثك عن آل مهران. – إنهم أناس يأخذون منك أكثر مما يستحقون، بل الحق أنهم لا يستحقون إلا العقاب. فأسبل الحاج جفنَيه وقال: إنهم يستحقون كلَّ ما نملك! ثم اعترف الحاج لابنه بأنه كان شريكًا لمهران الأب في شبابه الأول، وأن الوفاة حضرت الرجل وهما في سفر، فسرق ماله. – المال الذي استثمرته فصِرنا به إلى ما نحن فيه وصار آل مهران بفقده إلى ما هم فيه. قال الابن باضطراب: إنك لا تعني ما تقول يا أبي. – إنها الحقيقة بلا زيادة ولا نقصان. وغمرهما صمت مشحون بالقلق والاختناق، حتى قال الحاج: كانت الحياة مريرة، أريد أن أجنِّبك اللعنة، أريد أن يُرَدُّ المال لأصحابه. فتساءل الابن محتجًّا: هل نعترف بأننا لصوص؟! فقال الأب بضراعة: هذه هي مشكلتك يا بني. – بل هي مشكلتك أنت يا أبي. – إني أتردَّى في حضرة الموت. فتساءل الابن بجفاء: ولِمَ لَمْ تفكر في التكفير من قبل؟! وأغمض الحاج عينَيه كأنما تلقَّى لطمة، وغمغم: اللهم مُدَّ في عمري حتى أهيِّئ نفسي للُقْياك. ولكنه مات قبل ذلك، بل إن رواة القصة يتهمون ابنه بالعبث بدوائه ليُعجِّل بنهايته. هكذا تُرْوَىَ الحكايات، وبدقة في التفاصيل لا تُتاح إلا لمَن شهدها. ولكن هكذا تُروى الحكايات في حارتنا!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/63/
الحكاية رقم «٦٣»
بذرت الكراهية بين شلضم وقرمة في ضفاف الصبا، في أحد الأعياد مزَّق شلضم جلباب قرمة الجديد فاشتبكا في خناقة حامية، فضرب قرمة شلضم بمقدم قبقابه، فقطع حاجبه، وسجَّل في وجهه أثرًا باقيًا. منذ ذلك التاريخ القديم عشَّشتْ عاصفة صفراء ضاربة للسواد في أعماقهما، ويجمعهما اللعب مع الصبيان والاختلاط في المناسبات، ولكن الجرثومة الشرهة تظل رابضة ونفَّاثة للحنق، ويظل منظر أحدهما قوة غادرة ومتحدية للآخَر. في الكُتَّاب يتبادلان الغمز واللمز، يتحرَّش أحدهما بالآخَر ويحرِّض عليه سيدنا الشيخ عند أية فرصة سانحة. ومات أبو شلضم، وأُقيم سرادق العزاء كالعادة، ووقف قرمة فوق سطح غير بعيد وراح يغني: ولما خطب شلضم بنت الفسخاني حاول قرمة خطفها منه، بالحيلة وبِتَسْويء سُمعته عند أهلها، وفي خلال ذلك تشاجرا بعنف، فقطع شلضم قطعة من أذن قرمة وترك به أثرًا باقيًا كالذي تركه بوجهه من قبل. وتزوج كلٌّ منهما وأنجب، وتفرَّقت بهما سبل العمل، وتقدَّم بهما العمر شوطًا، ولكن العقدة الكامنة لم تنحل، حتى إنهما تبادلا السباب مرة في أثناء صلاة الجمعة، وحتى صاح بهما الإمام: لعنة الله على الشيطان وصحبه. وصارا في حارتنا نكتة، تستثير الضحك من بعيد، وتنذر بشرٍّ متجدِّد. وتحسَّنت أحوال قرمة، ظهرت عليه النعمة، فتح دكانًا للدخان بأنواعه، لمع الذهب في أصابعه وأسنانه، وادَّعى أمام الخلق أنه ربح ورقة نصيب فاستثمر ربحها، ولكن شلضم راح يحلف بالطلاق أنه اغتال أموال معلمه، وأنه لصٌّ لا أكثر ولا أقل. وتوهَّم شلضم أنه قادر على أن يشق سبيله مثله، فامتدت يده إلى مال معلمه، ولكنه ضُبط وحُكم عليه بالسجن بضع سنين، وغادره مُفلِسًا ضائعًا يرى غريمه في عداد الأعيان فجُنَّ جنونه، ولم يجد بابًا مفتوحًا إلا باب البلطجة، فولجه بعنف ورغبة متصاعدة في الانتقام، وجعل هدفه الأول المعلم قرمة، حتى أثار مخاوف الرجل على نفسه وعلى أولاده، لم يعُد قرمة صعلوكًا كما كان من قبل، إنه يملك الآن مالًا وبنين وأسرة وجاهًا ويريد أن يحافظ عليهما جميعًا، وأن يتمسك بالحياة من خلال تمسُّكه بها، ولو تجشَّم في سبيل ذلك مهادنة شلضم وشراءه حتى يتحين له فرصة للقضاء عليه. واستجاب شلضم لسياسة خصمه ليبتز ماله وليتمادى في ذلك بلا نهاية وبلا حياء، واستحرَّ الموقف، وأصبحت الحياة لا تُطاق ولا علاج لها إلا الموت. ودبَّر قرمة خطة لقتل شلضم بوساطة رجل ممَّن يُؤجَّرون للقتل، وتوجَّس شلضم خيفة فقرر أن يقتل قرمة قبل أن يقتله. وتربَّص له بليل ثم قتله. ولكنه لم ينعم بالحياة بعده إلا ساعات، إذ قتله القاتل المأجور ليستوفي بقية مستحقاته من أرملة قرمة. هكذا قُتل الرجلان في ليلة واحدة. ••• ويقول أبي بعد أن يحكي هذه الحكاية: الكراهية من الشيطان يا بُني ولكن الإنسان مثير للدهشة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/64/
الحكاية رقم «٦٤»
عُرف الخفير سلامة بالضمير الحي .. كان من القلة النادرة التي تقدِّس القانون في حارتنا التي لم تتعوَّد بعدُ على احترام القانون لحداثة تحرُّرها من الفتونة وتقاليدها المتحدية الاستفزازية، ولاستقامته أثار دهشة أهل الحارة واستحقَّ عن جدارة احترام المأمور والضباط. وتزوَّج سلامة أرملة تكبره في السن ذات ابن يافع اشتُهر بالفساد فوجد نفسه في محنة لم تخطر له على بال، وأكَّد الشاب — ويُدعى برهومة — المحنة بسطوه ليلًا على أحد الحوانيت، وضبطه متلبِّسًا الخفيرُ الساهر اليقظ سلامة، وأعادَ الخفير المسروقات وغطَّى على الخبر مكتفيًا بضرب ابن زوجته ضربًا مبرحًا، وأفاق بعد حين قليل فأدرك أنه خسر جوهره الذي ميَّزه بين الناس، وشعر بالخزي وخامرَهُ حزن عميق، وتمادى برهومة في فساده فثار غضب سلامة وجعل ينهال عليه بالضرب حتى ضاق به الشاب، وقال له مرة: لا تضربني .. إني أحذِّرُك! فانقض عليه ليؤدبه ولكنه تراجع إلى ركن وصاح به: سأعترف، سأذهب إلى القسم وأعترف بكل شيء، وأعترف أيضًا بتستُّرك عليَّ! إن ضربتني مرة أخرى فسأعترف! وذهل سلامة، وسأله وهو يكتم فيضان غضبه: أنت تهدِّدني بعد كل ما فعلتُ من أجلك؟ – لا تضربني وإلا اعترفتُ. فصاح به: إذن أقلِع عن فسادك. فهتف وهو يفِرُّ من وجهه: أنا حر! وقال سلامة لنفسه محسورًا: إني أفقد كلَّ يوم شيئًا ثمينًا لا يُعَوَّض. ولاحظ كثيرون أن الخفير سلامة قد تغيَّر، وأن شائبة قد شابت استقامة قامته، وهو من ناحيته شعر أن الناس يتغيرون أيضًا، ينظرون إليه باستهانة ما، يجاملونه ولكن نظراتهم لا تخلو من سخرية، لقد أوشكوا يومًا مع إعجابهم به أن يحقدوا عليه لصلابة أخلاقه، أما اليوم فهم يعطفون ويسخرون. ••• وأنهى سلامة عذابه بأن ذهب إلى المأمور واعترف. وتأثَّر المأمور، أمر بالقبض على برهومة، وقال لسلامة: قدِّم استقالتك كيلا تُرفَت، إني أعطيك هذه الفرصة إكرامًا لتاريخك. ••• ولم يُهمَل سلامة بلا عمل طويلًا، فاستخدمه صاحب مخزن الغِلال خفيرًا عنده. وعُدَّ سلوكه مثالًا طيبًا عند أناس، كما اعتُبر نوعًا من البَلَهِ عند أناس آخَرين.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/65/
الحكاية رقم «٦٥»
الشيخ لبيب وجه عتيق في حارتنا، تراءى لعيني مَعْلَمًا من معالم الحارة مثل التكية والقبو والسبيل، كان يتخذ مجلسه قبيل مدخل القبو، على فروة يجلس، وبين يديه مبخرة تنفث رائحة دسمة مخدرة، ذو جلباب أبيض وطاقية خضراء، مكحول العينَين ضعيف البصر، يطوِّق عنقه بمسبحة طويلة تستقر شُرابتها في حجره. تتقاطر النسوان على مجلسه، يجلسن القرفصاء صامتات، يرمين بمناديلهنَّ وينتظرن كلمة تخرج من فمه، يغمغم ويتثاءب ثم يتمطَّى، ينطق بكلمة مفردة مثل «تُفرَج» أو بمثَل من الأمثال مثل «يا رايحين ربنا يكفيكم شر الجايين» فتفهم المرأة ما تفهم، فيتهلَّل وجهها فرحًا أو يغمق كآبة، ثم تدسُّ المقسوم تحت طرف الفروة وتمضي. عاش الرجل دهرًا رزقه يجري، وكراماته تُروَى، واسمه يتردَّد على شفاه ذوي القلوب الكسيرة وما أكثرهم في حارتنا. ••• ويطعن الشيخ لبيب في السن وتتغيَّر الأحوال. يندر تردُّد الزائرات عليه حتى ينقطع أو يكاد، ويتكاثر التلاميذ ممَّن لا يرعون له حرمة، ويطاردونه بالسخريات والأزجال العابثة، ويهتف الشيخ: ملعونة المدارس المفتوحة لكم. وتسوء حاله، وصحته أيضًا، ويتوعَّد الناس والزمان بعقاب الآخِرة، ويتحسَّر على أيام الطيبين الذاهبين. ••• وأخيرًا يسلِّم للزمن، يتسوَّل، يمضي هاتفًا مادًّا يده كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/66/
الحكاية رقم «٦٦»
وراء قضبان بدروم يلوح وجه صبي صغير، إذا رأى عابر سبيل أليف المنظر هتف به: يا عم! فيقف العابر ويسأله عما يريد فيقول: أريد أن أخرج. – وماذا يمنعك؟ – باب الحجرة مغلق. – ألا يوجد أحد معك؟ – كلَّا. – أين أمك؟ – أغلقت الباب وذهبت. – وأبوك؟ – سافر من زمان. ويدرك العابر الموقف على نحو ما فيبتسم إليه مشجعًا ويذهب، ويلوح وجه الصبي الصغير وراء القضبان وهو يتطلَّع بشوق إلى الناس والطريق.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/67/
الحكاية رقم «٦٧»
عبده السكري ابن أحد حَمَلَة القماقم والمباخر، أسرة فقيرة كثيرة العدد تضمها حجرة واحدة. كان عبده آخِر العنقود، فأدخله عم السكري الكُتَّاب فأحرز التفوُّق من أول يوم، ونصحَه سيدنا الشيخ بإلحاقه بالمدرسة الابتدائية، فتردَّد الرجل مليًّا بين إرساله إلى معلم ليحترف حرفة وبين طريق المدرسة الطويل، ثم قرَّر في النهاية إلحاقه بالمدرسة، كان قرارًا صعبًا، يعني أن يعيش عبده عالة عليه دهرًا طويلًا بدلًا من أن يُعينه بيوميته، ولكن تفوُّق عبده أنساه متاعبه ونفخ جناحَيه بالفخر، وعند انتهاء المرحلة الابتدائية قال عم السكري بزهو: أصبح لي ابن من موظفي الحكومة! ولكن عبده أصرَّ على دخول المرحلة الثانوية، كان يمضي إلى المدرسة ببدلته القديمة المهترئة وحذائه المرقَّع وطربوشه المزيت، ولكن مرفوع الرأس بتفوُّقه، ويتكلَّم في السياسة أيضًا، واستحق بعد ذلك أن يُقبَل بمدرسة المهندسخانة بالمجَّان، وأن يُختار بعد ذلك عضوًا بالبعثة بإنجلترا. من يومها أطلق على عم السكري «أبو المهندس»، وذاع صيته في الحارة، وضُرب بذكاء ابنه المثل. كان حلم عم السكري في شبابه أن ينضم إلى عصابة فتوة أو ينتصر في خناقة، ولكن الزمن تغيَّر ويأتي بالأعاجيب! ••• ويشغل عبده وظيفة مرموقة في الوزارة، وبفضله قام أول مصباح غازي في حارتنا.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/68/
الحكاية رقم «٦٨»
من حكايات حارتنا التي لا تُنسى حكاية عبدون اللَّاله. الأب كان عاملًا في البوظة والأم بيَّاعة باذنجان مخلل، أما عبدون فيعمل صبيًّا في الفرن. يجيء بالعجين ويذهب بالخبز، ولكنه شاب ولا كل الشبان، يحب سلمى بنت ونس الكنَّاس فيتزوج منها ويمارس حياة زوجية سعيدة وهادئة. نشيط ذو همة عالية، يعمل من طلعة الصبح حتى أول الليل، لا يرتاح ولا يهمد، لا يتذمر ولا يشكو، المعلم يقدِّره والزبائن يحبونه، يصلي العشاء في الزاوية، يحضر الدرس يؤاخي الإمام ويسترشد بآرائه فيما يعنُّ له من مشكلات، نُزْهته الوحيدة سماع الشاعر في المقهى ثم يرجع إلى بيته متسوِّقًا بطيخة أو خيارًا أو سمكًا مقليًّا. وهو حليم يتحمل نزوات المعلم، وسخافات بعض الزبائن، وسخريات الأصدقاء بأدب وابتسام. ما أعجبه في حارتنا، كأنه لا يسمع سبابها ولا يشهد منازعاتها ولا يتعامل مع أهل المعاصي والفتن من أهلها. ••• وذات يوم يظهر في الحارة بجلباب أبيض كالحليب وطاقية مزركشة ومركوب أحمر، وكلما التقى بصاحب عانقه أو بذي مقام قبَّل يده، وقد أضرب عن العمل، ولم ينطق في ذلك اليوم إلا بجملة واحدة قال: اقتربت الساعة. ويختفي ساعةً ثم يلوح فوق سطح القبو وهو يستقبل الحارة بوجهه صامتًا، ويتعجَّب الناس ويتجمهرون عند القبو، كيف صعد عبدون إلى سطح القبو؟ ماذا يفعل في مرتع الثعابين ووكر العفاريت؟ ينادونه فلا يرُدُّ. ثم يثب من أعلى السطح فيتهاوى حتى يرتطم بعنف بأرض الحارة. وأقول لنفسي كلما تذكَّرت مصرع عبدون اللَّاله: أن أعرف لماذا أحيا أسهل كثيرًا من أن أعرف لماذا عبدون انتحر!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/69/
الحكاية رقم «٦٩»
نادرًا ما يخرج إلى الحارة، وإذ يخرج لحاجة يمضي مهرولًا، في عينَيه حذر وتوجُّس، في أذنيه صمم يغلقهما دون اللعن ويفتحهما لما ينتفع به، لا يخترق القبو، لا يزور المقابر، يعيش وحيدًا في بدروم، لم يتزوج، لم يُذعن لنزوة، يقرض النقود بالربا، يُدعَى أبو المكارم. ويلعنه الناس ولكنهم يقصدونه عند الضرورة. وبلغ السبعين من العمر، يتجمَّع لديه مال وفير، ثم يكفُّ عن العمل. يتغير حاله، تظهر عليه أعراض غريبة، يُرى من نافذة البدروم وهو متربع على الأرض مستقبلًا الجدار بوجهه، تمضي الساعات وهو لا يتحرك. ويذهب ذات مساء إلى الإمام فيقف أمامه صامتًا حتى يسأله الشيخ: لماذا جاء أبو المكارم؟ فيقول بلا مقدمات: حلمتُ حلمًا. فيسأله عنه فيقول: جاءني شخص في المنام وأمرني بأن أحرق مالي عن آخِره! فيبتسم الإمام ويقول: ربنا يجعله خيرًا. – ولكنه يتكرَّر ليلةً بعد أخرى! – ما شكل ذلك الزائر؟ – لا أدري، جفناي ينطبقان في حضرته. فيسأله الإمام باهتمام: من نوره؟ – أظن ذلك! – هل أعلنَ عن هويته؟ – كلَّا. فيصمت الإمام مليًّا ثم يقول: أتستطيع أن تتصدق بمالك على الفقراء؟ فيرمقه بريبة ثم يذهب. وذات يوم من أيام الصيف، وأديم الأرض والجدران تشتعل بنار الشمس المحرقة، يتنبَّه الناس إلى دخان يتصاعد من نافذة بدروم أبو المكارم، يهرعون إلى النافذة فيرون أبو المكارم واقفًا عاريًا تمامًا والنار تشتعل في ماله. ••• ويهيم بعد ذلك على وجهه عاريًا، يلتقط الطعام من أكوام القمامة، ثم يقبع في ظلمة القبو. ويعثر عليه يومًا ميتًا تحت القبو فيُدفن في قبور الصدقة. ويرى أحد الأعيان حلمًا، يزوره سيدنا الخضر، ويبلِّغه أن أبو المكارم وليٌّ من أولياء الله، وأنه — العين — مكلَّف بإقامة ضريح فوق قبره. ويقيم الرجل الضريح، وبمرور الزمن تتلاشى ذكريات أبو المكارم وتبقى له الولاية. وأسأل أبي: وكيف عرف الوجيه أن سيدنا الخضر هو الذي زاره في المنام؟ فيجيبني: لعله صارحه بذلك. فأسأل: لو كان أبو المكارم وليًّا حقًّا ألم يكن الأفضل أن يتصدَّق بماله على الفقراء؟ – في تلك الحال كنا نعُدُّه محسنًا لا وليًّا! ثم يستطرد بعد صمت: العبرة بالحلم، لقد مَنَّ الله عليه بحلم، فهل تملك أنت حلمًا مثله؟
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/70/
الحكاية رقم «٧٠»
سُحُب الخريف تتراكم فتقطر قتامة على حارتنا، ها هم الباعة يترنمون بحلاوة الجوافة والبطاطا. ويشير رجل نحو القبو ويهتف: يا ألطاف الله! ينظرون فيرون رجلًا خارجًا من ظلمات القبو، عاريًا كما ولدته أمه، يتأوَّه ويترنَّح، تخذله ساقاه فيقع على الأرض، ثم ينهض متشبِّثًا بالجدران، يتلفَّت حواليه ويبكي. يهرع إليه أهل الخير، يغطُّونه، يضمدون جرحًا غائرًا في رأسه، يسألونه: ماذا حدث لك؟ ولكنه لا يجيب فيسألونه: مَن أنت، ما اسمك؟ يواصل أنينه بلا جواب فيسألونه: من أين أتيت؟ لا جواب ولا أمل في جواب: أي مكان تقصد؟ وبالتخمين وحده يُعرف على نحو ما ما وقع له، فيؤمن الجميع بأنه ضحية لقُطَّاع الطرق. ويندمل الجرح ولكن العقل يذهب فيصبح من أهل اللطف، ويعيش في الحارة لا يبرحها، آنِسًا إلى ما يلقى من ستر ورحمة، تطعمه الصدقات، ينام تحت القبو شتاءً، وعند سور التكية صيفًا، كلامه هذيان أو أصوات مبهمة، يضحك ويبكي لغير ما سبب، ويظل مجهول الاسم والأصل والهوية والهدف. ولما كانت دواعي الإهمال والاحتقار هي نفس دواعي الإجلال والتعظيم في حارتنا، فإن عبد الله — هكذا سُمِّيَ باعتباره اسم مَنْ لا اسم له — يحتل مع الأيام مكانة سامية وتتحلَّق حوله هالة مُبهَمة من القداسة، يُحَيُّونه، يلاطفونه، يتودَّدون إليه، يحيطونه بأسرار، يؤوِّلون أصواته المُبهَمة يتوارون وراءه إزاء المصائب المجهولة والأقدار الخفية. وأسمعُ ذات يوم رجلًا يدافع عن «ولاية» عبد الله، فيقول: أيُّ فرد منا لا تتيسر له الحياة إلا بفضل معرفته للأصل الذي جاء منه والهدف الذي يسعى إليه، أما عبد الله فقد تيسَّرت له الحياة وحظي ببركاتها مع جهله بكل ذلك، ومَن ينعم بملكوت الحياة وهو يجهل أصله وهدفه ومعنى حياته جدير بالولاية والتقديس!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/71/
الحكاية رقم «٧١»
رجل غريب في المقهى. الغريب في حارتنا يسترعي النظر، فمن أين جاء الرجل؟ جاء من ناحية القبو وهو ما يعني أنه جاء من ناحية القرافة غير مبارك الخطوات. ويمضي الغريب إلى الزاوية فيسلِّم على الإمام وهو يقول: لا خاب مَن استرشد. فيقول له الإمام: نهديك بما نعلم والهداية من الله. – إنما أريد معلومات عن يوسف المُر؟ – لماذا يا أخي؟ – كلَّفني بذلك أناس طيبون وأنت سيد العارفين. فأدرك الإمام أن الرجل ينشد المعلومات لحساب أهل فتاة يريد يوسف أن يتزوَّج منها، فقال: ولكنه متزوج! – الدين يسر والحمد لله! – عائلة المُر قديمة في الحارة وحرفتهم العطارة. – وعمره! – في الثلاثين، يعمل في دكان أبيه، له ثلاثة أبناء. – يغيب أحيانًا عن الحارة أسبوعًا أو أكثر؟ فيبتسم الإمام ويقول: يبدو أنك تعرف عنه الكثير، ولكنه يغيب في رحلات تجارية. ثم يتساءل الإمام: مَن الذي كلفك بالتحري؟ فيقول معتذرًا: لستُ في حِلٍّ من ذكره. فيتضايق الإمام ويسأل بجفاء: وحضرتك مَن تكون؟ – أُدعى عبد الآخِر المقاول. – أي مقاولات؟ – كلَّا، إنه لقبي، أما عملي فطحَّان غلال. ويودِّعه ثم ينصرف. ويتناهى الخبر إلى يوسف فيدهش، فيحلف بالله على أنه لا يسعى لزواج جديد، وما خطر له ذلك على بال، وتكثر التساؤلات عن الغريب وسره، تحتدم مليًّا ثم تخفُّ وتتلاشى. وذات مساء يُرى الغريب قادمًا من ناحية الميدان. يشق الحارة بلا توقُّف حتى يختفي في القبو، ثم يميل إلى الممر الضيق بين السور العتيق وبين سور التكية ويمضي نحو القرافة. ويعلم يوسف المُر بخبره، فينطلق في أثره حتى يغوص في ظلمة القبو. وتمضي ساعة فيقلق الأب، ويذهب في أثر ابنه حاملًا فانوسًا لينير له الطريق مصحوبًا ببعض عُمَّاله. في القبو تترامى إليهم تراتيل الأوردة الأعجمية، آتية من التكية، وفي الساحة، وعلى ضوء الفانوس، يعثرون على يوسف المُر مطروحًا على الأرض وقد فارق الحياة. ومع أن الطبيب الشرعي قرَّر فيما بعد أن الرجل مات بالسكتة، إلا أن قراره لم يُحترم لحظة واحدة في حارتنا. يهزُّون رءوسهم ويتمتمون: الرجل الغريب! ولكن من الغريب؟ ولِمَ قتل يوسف المُر؟ هنا تتبادل النظرات وتتناجى الهمسات وتنداح في الجو موجة من الأسرار الخارقة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/72/
الحكاية رقم «٧٢»
وعكلة الصرماتي حكايته حكاية. كان أبوه صاحب سيرك، كان قويًّا وخلَّاقًا، يُشتَهر علكة منذ صباه بالرشاقة الخلَّابة في الملعب. يتوفى الأب فيهجر الابن السيرك بلا سبب مقنع، ينضم إلى عصابة فتوة، فيثبت صلابته وينال حظًّا من الثروة، وهو ذو رائحة خفية تجذب أشواق النساء، فيستوي على عرش الهوى فتنة للقلوب، ويوغر صدور الرجال حتى يقول له الفتوة: تأدَّب وإلا شوَّهتُ وجهك. وكأن قلبه لا يعرف الحب الحقيقي، يهيم بالمرأة حينًا ثم ينبذها، وتفوق غزواته كلَّ خياله، ويؤمن أناس بأنه يؤاخي الشياطين ويستعمل السحر. وفجأة يتزوج. يتزوج من أرملة تكبره بأعوام لا جمال لها، ويستقر في بيت الزوجية استقرارًا يبشِّر بالدوام. ويزهد في الفتونة كما زهد في السيرك من قبلُ ويفتح دكان حلوى، ويربح ثروة لا بأس بها. وبعد أعوام قليلة يسأم تجارته الرابحة فيصفِّيها، ويفتح مطعم لحمة رأس وكبدة، فينجح ويحقِّق ثروة أكبر من الأولى. ويجتاحه حب المال، يحل من نفسه محل النساء والسيرك والفتونة، فيتاجر في المخدرات والأراضي، ويبتاع بيتًا ودوكارًا ويتحلَّى بالذهب. ويقرِّر ذات يوم أن ينقل مقامه من الحارة إلى المدينة الكبيرة، يبني قصرًا ويعيش عيشة الأكابر، ويشتري عزبة، ثم لا يُرى في حارتنا إلا عند عقد الصفقات. ويعشق الترحُّل، وما أن يجرِّبه حتى يخلب لُبَّه، فهو يومًا بالإسكندرية ويومًا في أسوان، ويزور البلاد العربية، بل ويغامر برحلات في أوروبا. عندما تعجبه بقعة من الأرض يُفتتَن بها، ويصرِّح بأنه لن يبرحها حتى نهاية العمر، ثم يعتادها ويروم غيرها، ويعذِّبه عشق الأماكن كما عذَّبه عشق النساء والمال وغيرها من قبل، وبين كل رحلة وأخرى يرجع إلى حارتنا لرؤية الأصدقاء وعقد الصفقات. ويجلس ذات مساء بين أصدقائه من تجَّار المخدرات فيتساءل: ماذا يمكن أن يصنع الإنسان أيضًا؟ ويحدثهم عن رحلاته وهم يتابعونه بغير مبالاة، شأن من لا يغادر الحارة إلا لضرورة. ويتساءل عكلة: ترى أين جبال الواق؟ ثم يتساءل مرة أخرى: وأين سور الدنيا؟ وإذا أطلَّ الإنسان منه فماذا يجد؟ ••• وتترامى عنه أخبار وأخبار. يقال إنه أدمن الشراب، يقال إنه يدمن المقامرة، يقال إنه يرتكب حماقات لا عدَّ لها ولا حصر. ويطول غيابه في الخارج حتى يُظَن أنه لن يرجع. واعتبره الأهل مفقودًا. وتمضي السنون. وذات صباح يعثر على جثة كهل في الساحة أمام التكية شبه عارٍ. ويتعرف أهلُ حارتنا فيه على عكلة الصرماتي، ينظرون إلى جثته ذاهلين متسائلين وهو معزول عنهم بالصمت الأبدي والسر المنطوي. كانت حياته أسطورة، وموته لطمة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/73/
الحكاية رقم «٧٣»
مصطفى الدهشوري ابن سقَّاء، ولكنه من القِلة الراسخة في العلم في حارتنا، وهو أحد المدرِّسين بمدرستنا وصديق لأبي. يسأل أبي وهو يجالسه ذات مساء في بيتنا: ما معنى الحياة؟ يبتسم، ولما يجده جادًّا في سؤاله ومصرًّا عليه يحدِّثه بما يعلم عن الأصل والهدف، والحياة والموت، والبعث والحساب، فيقول الدهشوري: إذن فأنت واثق من كل شيء، من الحياة والموت وما بعد الموت، أعندك فكرة عما يحدث في القبر؟ فيحدِّثه أبي عن التلقين وحساب الملكَين ومستقَر الروح وشفاعة النجاة في الآخِرة، وعند ذلك يقول الدهشوري: إليك قصة الجسد البشري ساعةً بساعة من الوفاة حتى يستحيل هيكلًا عظميًّا. ويردِّد حديثًا مرعبًا ومقززًا كأنه كابوس طويل، فيهتف أبي محتجًّا: كفى، ماذا تريد؟ – أريد أن أصوِّر لك حقيقةً لا شك فيها. فيسأله أبي ساخرًا: ألا تؤمن بالله؟ فيبتسم قائلًا: بلى، لا حيلة في ذلك. ثم يواصل حديثه: ولكنه لا يتصل بي وأنا عاجز عن الاتصال به، بيننا صمت قاتل وأرى في الحالة شرًّا لا تفسير له، وأرى في الطبيعة عجزًا ونقصًا، ولا أفهم لذلك معنى، فلم أشُك في أنه — سبحانه — قرَّر أن يتركنا لأنفسنا، بلا اتصال وبلا عناية! ويصارحه أبي بأنه يجدِّف تجديفًا خطيرًا، ولكن الدهشوري يستمر قائلًا: وإذن فالإيمان بالله يقتضي الإيمان بتجاهله لعالمنا، كما يقتضي منها الاعتماد الكلي على النفس وحدها. وسأله أبي غاضبًا: أتتخيَّل حال الناس لو آمنوا بفكرتك؟ – لن يكونوا أسوأ مما هم بحال من الأحوال، وثمة أمل بأن يكونوا أحسن. ثم يشرح فكرته قائلًا: لا تخشَ أن يأخذ الناس الحياة مأخذ العبث، إذ إنها أمانة ملقاة علينا، ولا مفَرَّ من حملها بكل جدية وإلا هلكنا، وإذا أمكن أن يوجد أحيانًا أمثال الخيَّام وأبي نواس، فإنما يُوجَدون لا بفضل فلسفتهم ولكن بفضل الجادين الكادحين الذين يقومون بحمل الأمانة عنهم، ولو اعتنق الجميع مذهب العبث، فمَن يصنع لهم الخبز والخمر والرياض؟ وإذن فلا تخشَ أن يأخذ الناس الحياة مأخذ اللهو إن وجدوا أنفسهم في عالم بلا إله، لا مفَرَّ من الجدية، ومن الإبداع، ومن الأخلاق، ومن القانون، ومن العقاب، وقد يستعينون أيضًا بالعقاقير الطبية لمقاومة الضعف في السلوك والتفكير كما يستعينون بها في مقاومة الأمراض، وسيفعلون ذلك بإصرار، ولن تهون عزيمتهم بسببِ أنهم يجدون أنفسهم في سفينة بلا مرشد في بحر بلا شطآن في زمن بلا بداية ولا نهاية، ولن تختفي البطولة ولا النبل ولا الاستشهاد. ويتريَّث قليلًا متسامحًا مع غضب أبي وسخريته ثم يستطرد: وذات يوم سيُحقِّق الإنسان نوعًا من الكمال في نفسه ومجتمعه، وعند ذاك، وعند ذاك فقط، ستسمح له شخصيته الجديدة بإدراك معنى الألوهية وتتجلى له حقيقتها الأبدية. ويتواصل النقاش حتى ينال منهما التعب، ثم يتساءل مصطفى الدهشوري باهتمام: كيف يمكن أن أنشر أفكاري في حارتنا؟ فيقول له أبي بحدة: أهل حارتنا غارقون في هموم الحياة اليومية، يطحنهم الفقر والجهل والبطش والعداوة. – ولكنها مشكلات لا تُحل الحل الأمثل إلا بأفكاري؟ – أهل حارتنا لا يفهمون إلا لغة واحدة هي اللغة المشتقة من همومهم، الحاوية لعذاباتهم، المقدسة بأوراد الكائن المرجوِّ عند الشدة الذي تريد أن تنزعه من قلوبهم. ورغم حرص مصطفى الدهشوري، تُنسب إليه أفكار خارقة تسيء إلى سمعته بين الناس، فيثير لغطًا يُفصَل بسببه من وظيفته وتتجهَّمه الحياة في حارتنا.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/74/
الحكاية رقم «٧٤»
الأعور يتأهل لموعد غرامي في الساحة أمام التكية، يعزم على إنعاش شجاعته بكَمْ قَرعة من البوظة، ولكنه يسترسل في الشرب حتى يفقد ذاته تمامًا. يغادر الخمَّارة عقب منتصف الليل، فيذوب في الظلام، ويذوب في الحب، ولا يدري أين يتجه، يرتطم في الظلام بنؤنؤ المجنون، وهو يهيم على وجهه، حيث إن جنونه غير مؤذٍ، فيقبض على ذراعه دون أن يعرفه، ويقول له: أرشِدني إلى طريق التكية. فيتحرك نؤنؤ المجنون وهو يقول له: لا تترك ذراعي .. لماذا تريد التكية في هذه الساعة من الليل؟ – أتريد الحق؟ إني ذاهب للقاء حبيبتي. – عظيم .. وأنا ذاهب أيضًا للقاء حبيبتي. – في الساحة مثلي؟ – بل في التكية نفسها. – ولكن الأسوار عالية. – لا مستحيل في الليل. ويكاد الأعور أن يسقط من شدة الترنُّح فيقول متشكيًّا: نحن نسير منذ عام ولم نصل بعد؟ – لم يمضِ على سيرنا إلا أسبوع واحد. فيعتذر الأعور عن خطئه فيقول: الزمن لا يُرى في الظلام. – والمحبوبة هل تُرى في الظلام؟ فيضحك السكران ويقول: إني لا أعتمد على عيني للتعرُّف على المحبوبة. – إذن فأنت مجنون! – ولكن أين التكية؟ – نحن لم نَسِر بشهادتك إلا أسبوعًا واحدًا. – ولكني أقطع الحارة نهارًا في ربع ساعة. – في الليل تطول المسافة، ألا ترى أننا لا نتوقف عن السير؟ ويدوخ الأعور، وتعجز ساقاه عن حمله، فيسقط على وجهه، ويروح في سبات عميق لا يستيقظ منه إلا مع أول شعاع للشمس، ينظر فيما حوله بذهول فيجد نفسه أمام الخمَّارة لم يبتعد عنها خطوة واحدة. ••• ويقول راوي هذه الحكاية — صبي الخمَّارة — إنه كان يقف عند الباب، يسمع حوار السكران والمجنون، ويراهما وهما يدوران حول نفسيهما متوهمين أنهما يتقدمان. ومن يومها والمثل يضرب بهذه الحكاية في حارتنا فيقال لمن يسترشد بمن لا يرشد: «أنت سكران وهو مجنون فكيف تصلان إلى التكية؟»
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/75/
الحكاية رقم «٧٥»
يدخل عمر المرجاني البوظة في غاية من الأبَّهَة والأناقة. جلبابه الأبيض يشع نورًا، عمامته المُقَلْوَظة تتوِّج رأسه، مركوبه الأحمر يتألق، تحت إبطه خيزرانة رشيقة. يحيِّي الحاضرين ببِشر ويقول: لتمتلئْ قلوبكم بالهنا والأفراح. ويكرع أول قَرعة فتتحرك النشوة في أعماقه ويبتسم. وعقب القَرعة الثانية تعانقه فرحةٌ شاملة فيهتز طربًا ويقول لمَن حوله: صدِّقوني إن الحزن في هذه الدنيا ليس إلا وهمًا عابرًا. ويفرغ القَرعة الثالثة في جوفه ويقول: ملعون مَن يلعن الدنيا، لقمة حلوة ومُرَّة، حلوة وإيمان حلو، ماذا تريدون بعد ذلك؟ ويقف برشاقة فيلعب بعصاه ويقول: أنا سعيد يا جدعان! ويرقص بخفة وبهجة! وإذا بصوتٍ خشن لم يحدد مصدره يهتف به: نريد الهدوء. ولكنه يواصل الرقص، ويأخذ في الغناء أيضًا: فيعود الصوت الخشن قائلًا: احترم نفسك واجلس! ولكنه يستمر في معانقة الفرحة. ويرتفع نَبُّوت في الهواء ثم يهوي على رأسه! عند ذاك يتوقف عن الرقص، يسكت عن الغناء، تتصلب سحنته نافضة عنها لآلئ السعادة .. ثم يتهاوى على الأرض.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/76/
الحكاية رقم «٧٦»
بسرعة الشُّهب انتشر خبر يقول إن الحكومة ستهدم التكية ضمن مشروعٍ للمرافق العامة، في لحظة يصير حديث البيوت والدكاكين والوكالات والغرز والبوظة والخرابات في حارتنا. – حارتنا ميمونة ببركة التكية. – الخضرة والأزهار لا تُرى إلا في التكية. – والأغنيات الإلهية أين تُسمع إلا في التكية. – وما المكان الذي لم يضمر أذًى لإنسان إلا التكية. وبالبحث والتحري تُكشف حقيقة غريبة وهي أن صاحب المشروع هو المهندس عبده السكري ابن حارتنا! ويقول عبده: التكية تعترض مجرى الحارة كالسد، وتحول دون انطلاقنا نحو الشمال. فيقولون له: وهل علمتَ أننا متضايقون من ذلك؟ وألا يوجد أكثر من سبيل إلى الشمال؟ – لا تنسوا أن القرافة ستُنقَل عما قريب إلى صحراء الخفير وسيحل محلها عمران شامل. – طول عمرنا نسمع أن القرافة ستُنقل. وها هي باقية لا تتحرك، فكيف هان عليك أن تقترح إزالة التكية المباركة؟ واشتدَّ النقاش، وحمي الانفعال، وكُتبت العرائض، وحلَّ بحارتنا توتُّر وحزن لم تعرفهما من قبل. ويرتفع صوت معتدل يقول: لا وجه للعجلة، فلننتظر حتى يتقرر بصفة نهائية نقل القرافة، ويشرع في ذلك بالفعل، عند ذاك يحقُّ لنا أن نناقش مسألة هدم التكية. وغلب هذا الرأي فتراجعت الوزارة وتأجَّل المشروع. أما الأكثرية فقد رفضت الفكرة جملة وتفصيلًا. وأما القلة المعتدلة فهي تقول: فلتبقَ التكية ما بقيَتِ القرافة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/77/
الحكاية رقم «٧٧»
أنور جلال جالس على سلم السبيل الأثري وهو يضحك عاليًا، أنظر إليه فيخطر لي أنه سكران أو مسطول فأمضي نحوه وأجلس إلى جانبه ثم أسأله: ماذا يضحكك؟ فيجيبني وهو لا يكفُّ عن الضحك: تذكرت أنني طالب بين طلبة متنافسين، في مدرسة تجمع بين طلبة الأزِقَّة المتخاصمة، في حارة وسط حارات متعادية، وأني كائن بين ملايين الكائنات المنظورة وغير المنظورة، في كرة أرضية تهيم وسط مجموعة شمسية لا سلطان لي عليها، والمجموعة ضائعة في سديم هائل، والسديم تائه في كون لا نهائي، وأن الحياة التي أنتمي إليها مثل نقطة الندى فوق ورقة شجرة فارعة، وأن عليَّ أن أسلِّم بذلك كله ثم أعيش لأهتم بالأحزان والأفراح، لذلك لا أتمالك نفسي من الضحك. فأضحك معه طويلًا حتى يحدجني بنظرة ساخرة ويسألني: هل تضمن أن تشرق الشمس غدًا؟ فأقول بثقة: أستطيع أن أراهن على ذلك. فيقول وهو يضحك: طوبى للحمقى فهم السعداء.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/27250583/
حكايات حارتنا
نجيب محفوظ
«أستيقظُ فأجدني وحيدًا في الساحة، حتى الشمسُ توارَت وراء السور العتيق، ونسائمُ الربيع تهبط مُشبعة بأنفاس الأصيل. عليَّ أن أَمرُق من القبو إلى الحارة قبل أن يَدلهِمَّ الظلام. وأنهض مُتوثِّبًا، ولكنَّ إحساسًا خفيًّا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أَهِيم في مجالِ جاذبيةٍ لطيف، وأنَّ ثمة نظرةً رحيبة تستقرُّ على قلبي، فأنظرُ ناحيةَ التكيَّة.»هل فكَّرتَ يومًا في الطفولةِ التي عاشها «نجيب محفوظ»؛ الطفولةِ التي كانت المحطة البِكر في حياة كاتبنا، والتي مَنحَته من اتِّساع الخيال وجمال الصورة ما مَكَّنه من سرد آلاف القصص والشخصيات التي استلهمها من حارتِه التي عاش فيها، وسكَّانِها الذين تَجسَّدوا أمام عينَيه؟ في هذا الكتاب البديع نرى «نجيب محفوظ» الطفل، ونستشعر نظرتَه الطفولية للحياة؛ تلك النظرةَ البريئة التي جعلَته يَتلمَّس جمال الأشياء، ويَمنحها الخلود بكلماته الدافئة، وتعبيراته الساحرة، فيَسرد حكاياتٍ كثيرةً عن حارته التي كانت البطلَ الأول في حياته، ومُلهِمتَه التي ظلَّ وفيًّا لها طَوال عمره؛ فبدأها بالحديث عن التكيَّة، ثم تَحدَّث عن «أم زكي»، و«زوجة المأمور»، و«بنات القيرواني»، و«مشهد كسوف الشمس». وتَتوالى الحكايات المحفوظية الخلَّابة التي يختمها بالحكاية رقم «٧٨»، التي يَتجلَّى فيها ولَع «محفوظ» بالتكيَّة وشيخها.
https://www.hindawi.org/books/27250583/78/
الحكاية رقم «٧٨»
عرفت الشيخ عمر فكري في بيتنا وهو في زيارة لأبي، هو كاتب محامٍ متقاعد، فتح عقب تقاعده مكتبًا للأعمال لمعاونة أهل حارتنا في شئون الحياة بعد أن توثَّقت أسباب الاتصال بين الحارة وبين المدينة الكبيرة، ويقع مكتبه فيما بين الزاوية والمدرسة، ويقدِّم خدمات متنوعة للقاصدين، مثل تأجير البيوت ونقل الأثاث وتجهيز الجنازات والسمسرة التجارية وشئون الزواج والطلاق. سَمِعتُه وهو يقول لأبي بكل ثقة واعتزاز: من خبرتي الطويلة أستطيع أن أقدِّم شتى الخدمات في أي ميدان من ميادين الحياة! تحرَّكَت في أعماقي رغبة قديمة كامنة فسألته: أتستطيع أن تقدِّم لي خدمة؟ فنظر إليَّ باسمًا وسألني: ماذا تريد يا بني؟ – أريد رؤية شيخ التكية الأكبر! فضحك الشيخ عمر عاليًا، وشاركه أبي، ثم قال: إن الخدمات التي أقدِّمها جدية وتتعلق بجوهر الحياة العملية! – ولكنك قلت إنك تقدِّم شتى الخدمات في أي ميدان من ميادين الحياة! – ولكن التكية خارج أسوار الحياة؟ – هي ليست كذلك في الواقع. وقال لي أبي: أسمِعه بعض ما تحفظ من أشعارها. فردَّدتُ بسرور: بلبلي خون دلي خورد وكلي حاصل كرد. فقال الشيخ عمر فكري مخاطبًا أبي: ما أكثر الذين يردِّدون هذه الأشعار بلا فهم، «ثم ناظرًا نحوي» أتفهم معنى كلمة واحدة مما ردَّدتَ؟ فهززتُ رأسي نفيًا فقال: إنهم غرباء ذوو لغة غريبة، ولكن حارتنا مجنونة بهم. فقلت له: إنك قادر على كل شيء. فتمتم أبي: أستغفر الله العظيم. وسألني الشيخ: وما أهمية رؤية شيخ الدراويش لك؟ – لأتأكد من تجربة مرَّت بي في طفولتي. وقصَّ عليه أبي قصتي القديمة فضحك الشيخ عمر وقال: أعترف لكما بأنني رغبت ذات يوم في رؤية الشيخ الأكبر. – حقًّا؟! – قلت لنفسي إن الحارة كلها تردِّد ذكره رغم أنه لا يكاد يزعم أحد أنه رآه، وولعتُ بفكرة رؤيته ولع الأطفال، ماذا يحول بيني وبين ذلك؟ ومضيت إلى التكية، طلبت مقابلة أيَّ مسئول بها، ولكنهم لاقوني من وراء السور بتجهُّم وقلق، ولم يُبدوا أي استعداد للتفاهم، تكلمت بالإشارة فأجفلوا وأوجسوا خيفةً، حتى أسفتُ على ما أحدثت لهم من اضطراب، ورجعت معترفًا بحماقتي، يائسًا من تحقيق فكرتي بالاتصال المباشر، مقتنعًا في الوقت نفسه بأن اقتحام التكية بالطريق المشروع متعذَّر أو مستحيل، وأن اقتحامها بالتسلُّل خرقٌ للقانون لا شك فيه، لا يُتوقَّع من رجل يقوم عمله في الحياة على احترام القانون. – هكذا عدلتَ عن رغبتك؟ – لم أعدل عنها كما ظننت، ولكنني جربت وسيلة ثانية، طفت بالطاعنين في السن من أهل حارتنا ممَّن عُرفوا بالتقوى، فادَّعى بعضهم أنهم رأوه، ولكن لم يتفق اثنان منهم على وصف مُحدَّد له، اختلفوا لحدِّ التناقض، وهذا يعني في نظري أن أحدًا منهم لم يرَه. فقلت بحماس: ولكني رأيته. – إنكم لا تكذبون ولكنكم تتخيلون. – وما وجه الاستحالة في رؤيته، ألا يخطر له أحيانًا أن يتمشى في الحديقة مثلًا؟ – ومن أين تعلم أن الذي تراه هو الشيخ الأكبر وليس درويشًا من الدراويش؟ – وهكذا نفضت يدك من المسألة؟ – أبدًا، كنت مجنونًا أكثر مما تتصوَّر، ذهبت إلى ديوان الأوقاف متحدِّيًا، حصلت على معلومات لا بأس بها عن أوقاف التكية وعن فرقتهم الصوفية، عن الدرويش المخصَّص لتسلُّم الرَّيع، ولكن لم أعثر على كلمة واحدة تخُصُّ الشيخ الأكبر، فضلًا عن كراماته التي تؤمن بها حارتنا. فغصصت بالخيبة ورمقتُه بحنق، ثم قلت: توجد وسائل أخرى ولا شك؟ فقال باسمًا: يوجد العقل، هو الذي خلَّصني من رغبتي المحمومة، قال لي إننا نرى التكية والدراويش، ولا نرى الشيخ الأكبر! فسأله أبي: هل يصلح هذا دليلًا على عدم وجوده؟ – إنه لا يقول ذلك، إنه يقرِّر حقيقةً نعرفها جميعًا وهي أننا نرى التكية والدراويش ولا نرى الشيخ الأكبر. فقلت: ولكن توجد وسيلة ولا شك للتثبُّت من وجوده ومن رؤيته؟ – لن يتأتى ذلك بالطرق المشروعة فيما أعتقد، وإني كما تعلم لا أحيد عن القانون أبدًا. فضحك أبي وقال: اعترف أنه توجد خدمة واحدة على الأقل لا تستطيع أن تؤديها يا شيخ عمر. فجاراه في ضحكه قائلًا: ليكن، ولكن ما جدوى رؤية الشيخ الأكبر؟ ألم تكن رغبة مضحكة؟! فسألتُه بحرارة: لمَ يغلقون في وجوهنا الأبواب؟ – التكية شُيِّدت في الأصل في خلاء؛ لأنهم قوم ينشدون العزلة والبعد عن الدنيا والناس، ولكن بمرور الزمن امتدَّ العمران إليهم، وأحاط بهم الأحياء والأموات فأغلقوا الأبواب كوسيلة أخيرة لتحقيق العزلة. وابتسم ابتسامة فاترة وقال: لقد مددتُك بكافة المعلومات الممكنة، وهي وإن تكن غير مجدية في تحقيق رغبتك، إلا أنها قاطعة في أنه لا يمكن تحقيق الرغبة إلا بوسيلة غير مشروعة خارقة للقانون. ••• تلك ذكرى لا تنسى. وحتى اليوم لم أجِد الشجاعة الكافية لمخالفة القانون، ولكنني في الوقت نفسه لا أستطيع تصوُّر تكية بلا شيخ أكبر. وبمضيِّ الأيام لم أعُد أرى التكية إلا في موسم زيارة المقابر، فأُلقي عليها نظرة باسمة، وأستقبل ذكرى أو أكثر، وأحاول أن أتذكَّر صورة الشيخ أو مَن توهَّمتُ ذات مرة أنه الشيخ، ثم أمضي نحو الممَرِّ الضيِّق الموصل إلى القرافة.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/59682731/
الوردة الشامية
مأمون عبد اللطيف الرحال
«وقبل أن أودِّعكم أذكِّركم بنفسي فأقول: أنا الوردة الشامية، مَلِكة الأزهار. اشتُهرت بالوردة الدمشقية، لا روزا داما سكينا، وأنا الورد السلطاني، والورد المحمَّدي. أحتَلُّ المرتبةَ الأولى من حيث الأهمية. عِطري من أغلى عطور العالَم؛ أثمنُ من الذهب، وأبقى من النفط.»اشتُهرتُ برَوعة ألواني، ويُستخرَج مني أجملُ عطور العالَم. مَنشَئي بلادُ الشام، ولكنْ لإعجاب الناس بي فقد أخذوني إلى كل بلاد العالَم. أحبَّني الكُتَّاب الكبار مثل «شكسبير» و«هوميروس». تعالَ معي لنَتعرَّف أكثرَ على مميِّزاتي.
https://www.hindawi.org/books/59682731/1/
الوردة الشامية
حملتُ اسم أقدم عواصم العالم، وتجذَّرت فيها واستوطنت. كلُّ الذين مرُّوا من هنا أغراهم جمالي الآسر الأخَّاذ، ورائحتي العطرة النفَّاذة، ومنظري الذي يبعث في النفس الطمأنينة، ولون أزهاري الذي يَسر الناظرين؛ فحملوني مع قوافلهم التجارية، ومع قوافل الحُجَّاج المسلمين، وانتقلت أطوف معهم إلى معظم بلاد العالم القديم؛ إلى فرنسا وبلغاريا، وإلى بلاد المغرب العربي، وتركيا، وإيران، والهند، ولبنان. ومن سوق البزورية في دمشق شُحنَت عشرات الأطنان من أزهاري إلى أوروبا؛ لأحط رحالي ضيفةً عزيزةً في معامل الخبرة الفرنسية، يستخلصون مني زيتًا ثمينًا، وماءً سلسبيلًا، فيه الصفاء، والعطر والطيب، والدواء. تُوِّجتُ ملكةً على الورود، وأصبحت سفيرة سوريا إلى العالم، وخُلِّد اسمي في روائع الأعمال الأدبية العالمية؛ في الأوديسة والألياذة. وفي إحدى روايات الكاتب البريطاني الشهير وليم شكسبير عندما أراد وصف جمال امرأة في إحدى مسرحياته فقال: جميلة كجمال وردة دمشق. أنا شجيرة قائمة كبيرة الحجم، قوية النمو، كثيرة التفرُّع، معمِّرة متساقطة الأوراق، واسعة التحمُّل للظروف البيئية المختلفة. غرسني المزارع منذ قديم الزمان حول بستانه في غوطة دمشق، وحول منزله الريفي، فكنت حارسًا أمينًا، يُضفي على البستان جمالًا، ويوفِّر له حمايةً وأمانًا، يساعدني في ذلك أشواكي الحادة التي أتسلَّح بها، والمنتشرة على فروعي الكثيرة المتشابكة، تشكِّل حزام أمان للمنزل والبستان وأصحابه، ولأعشاش الشحرور التي وجدت في حضني سكنًا وملاذًا آمنًا تأوي إليه وتحتمي به من المتطفِّلين والمفترسين. أزهاري عطرية وردية اللون، تخرج في عناقيد مشطية المظهر، تتفتَّح في فصل الربيع خلال شهر أيار، وقد تتفتَّح ثانيةً في الأراضي المروية، فتُضفي على الكون جمالًا بألوانها المتميِّزة، ناشرةً أريجًا يعطِّر النسمات، ويعبق الأنفاس ويبعث النشاط في النفوس. منذ ساعات الفجر الأولى وقبل شروق الشمس، تستقبل أزهاري فتيات القرية ونساءَها، وقد اجتمعن يحملن السلال فرحات يتبادلن الأحاديث والنكات، ويقطفن برفق أزهاري التي تفتَّحت للتو تشرشر عطرها، ناشرةً شذاها، يتسابقن في قطاف أكبر كمية منها قبل ارتفاع حرارة الشمس حفاظًا على زيوتها العطرية، والتي ستتحوَّل بعد ساعات من قطافها إلى سائل عطري يسكن زجاجات جميلةً تملأ رفوف المحلات، وتحتَل مكانًا في مطبخ الأسرة، أو خزانة ربة المنزل، سائلًا عطريًّا نقيًّا فيه خلاصة الجمال الطبيعي ونكهته دون إضافات. يجمعن بتلات أزهاري ويفرغن الحمولة كلما امتلأت السلال في ذلك المكان بعيدًا عن أشعة الشمس، ومنه إلى جهاز التقطير الخاص بالأسرة. وجهاز التقطير هو حلة نحاسية كبيرة لها غطاء، والغطاء هو أيضًا على شكل طنجرة أصغر، يمر منه أنبوب يسمح للبخار المتصاعد من الطنجرة الأساسية بالمرور خلاله والتكاثف فيه إلى قطرات تتجمع داخله وتسيل؛ لتُصب في إناء الجمع، وهو عادةً قارورة زجاجية. يسمُّون جهاز التقطير هذا بالكركة، والنوع الجيد يُصنع من النحاس، ويُعطي ناتجًا أفضل بكثير من تلك المصنوعة من معادن أخرى كالألمنيوم أو التوتياء. توضع أزهاري المقطوفة في الطنجرة وتُغمر بالماء، بحيث تكون كمية الماء مساويةً لكمية الأزهار، وحسب سعة الطنجرة، فإذا كانت كمية الأزهار في وعاء التقطير خمسة كيلوغرامات، يُضاف فوقها خمسة ليترات من الماء، فيكون ناتج التقطير خمسة ليترات من ماء الورد الطبيعي دون أية إضافات. يتم تعبئتها في زجاجات تستقبل قطرات ماء الورد من أنبوب التقطير، أمَّا الغطاء فيُملأ بالماء البارد لتبريد الأنبوب من أجل تكاثف البخار المار به وتحويله إلى سائل، ويتم إبدال ماء التبريد الموجود في الغطاء كلما سخن؛ لزيادة نسبة تكاثف بخار الماء المتصاعد من الكركة داخل أنبوب التقطير. وتتوقَّف جَودة مائي وجَودة الزيت الناتج عن تقطيره على كمية أزهاري الموضوعة في الكركة، وعلى قوة وحجم النار المستخدمة في الغلي؛ فكلما قلَّت كمية الأزهار بحيث لا تُرص كثيرًا، كانت النكهة أجود والرائحة أزكى، وكلما كانت النار هادئةً قليلة الاتساع، طال زمن تكاثف البخار، وبالتالي يتم الحصول على مائي الغني بحمض الفال، وحمض الليمون، والزيت العطري بجَودة عالية. الماء المستخلص من أزهاري هو ماء الورد الطبيعي، يُفيد بشرتكم ويغذِّيها ويرممِّها وينقِّيها ويرطِّبها، ويدخل في العديد من صناعاتكم الطبية والصيدلانية ومستحضرات التجميل والنظافة، وفي صناعاتكم الغذائية الكثيرة، ومنه تصنعون شراب الورد الطبيعي الذي يتكوَّن من مقطَّر مائي، ومغلي بتلاتي، إضافةً إلى السكر، يُشرب باردًا، مفيد لكم ينعشكم صيفًا وشتاءً، وهو غني بالفيتامين (سي)، منظِّم للهضم، وملطِّف لتَهيُّج الأغشية المخاطية. أمَّا زيتي الصافي المستخلص من تقطير أزهاري، فهو ثمين جدًّا؛ فلحصولكم على واحد مللي ليتر منه يلزمكم «٦٠٠» زهرة. وهو المكوِّن الرئيس في تحضير خلطات العطور العالمية، وله خواص طبية علاجية؛ فهو مضاد فطري، بكتيري، وفيروسي لكل المشكلات التي تتعرَّض لها البشرة، وهو مفتِّح للونها وقابض لمسامها، يُستخدم في الالتهابات العينية الخفيفة، ومغطِّس للأطفال في حالة الحساسية والاحمرار، ولمعالجة حموضة المعدة، وتنظيم ضربات القلب. أمَّا عن أزرار وردتي المشهورة؛ فهي براعمي الزهرية التي يتم قطفها قُبيل تمام تفتُّحها، وتُجفَّف للحصول على الزهورات الشامية التي تضم البتلات الملوَّنة، وأعضاء التأنيث والتذكير في الزهرة الحاوية على العديد من العناصر الغذائية المهمَّة مثل: البكتين، والسكر، ونسبة عالية من فيتامين ج، وعلى العديد من المواد الصباغية وأحماض الفواكه، ممَّا يجعلها من النباتات المفيدة والمهمَّة لأجسامكم، تساعد على زيادة مناعتها حين استخدامها مشروبًا صحيًّا طبيًّا على مدار العام؛ وذلك بنقعها بالماء المغلي عدة دقائق للحصول على مشروب زهورات الوردة الشامية. ولها فوائد كثيرة في معالجة أمراض الجهاز التنفُّسي والهضمي؛ لغناها بزيوت طيَّارة مضادة للأكسدة، إضافةً إلى عناصر كثيرة غيرها. ليس هذا فحسب، بل تُطحن براعمي المجفَّفة ويضاف مسحوقها كبهار منكه إلى الحلوى والكعك والقهوة، فيُضفي عليها طعمًا ونكهةً لطيفة. أمَّا عن ثماري فهي كبسولية الشكل، حمراء اللون، غنية جدًّا بفيتامين «سي»؛ ولذلك كانت رفيق البحَّارة، يحملونها معهم في أسفارهم، ويتغذُّون عليها للوقاية من مرض الأسقربوط. تُغلى ثماري مع بذورها وتُشرب لمعالجة الحصى والرمل في الكُلى. وكما ترون ممَّا سبق، فأنا منجم طبيعي يُستخرج منه كل ما يفيد بني البشر؛ فمن أزهاري الطازجة المتفتِّحة، ومن براعمي الجافة غير المتفتِّحة، ومن ثماري الطازجة والجافة، حصلتم على الغذاء والدواء، وعلى الشراب البارد المنعش، والشراب الساخن المدفِّئ، وعلى المنظر الجميل والهواء النقي العليل. منتجاتي عديدة منها: «زيت الورد، ماء الورد، مربَّى الورد، أزرار الورد أو زهورات الوردة الشامية، والعشرات من منتجات أدوات التجميل والمساج ولوازم النظافة الشخصية كالصابون والشامبو، وملطِّفات الجو والعطور، والمركَّبات الصيدلانية الكثيرة». تنجح زراعة شُجيراتي في بيئات قاسية لا تصلح لزراعة نباتات أخرى فيها؛ فأساعد بذلك على نشر الجمال والغطاء الأخضر، والحد من التصحُّر، إضافةً إلى زيادة رُقعة الأماكن المشجَّرة وما يتبع ذلك من إشادةٍ للمنشآت العمرانية، والنشاط السكَّاني، وتوفير فرص العمل في قطاعات عديدة. وهكذا اكتسبتُ شهرتي وأهميتي لكثرة فوائدي العطرية والطبية والغذائية والتجميلية والجمالية والاقتصادية التي أقدِّمها لكم؛ فأولتني الدولة الرعاية والاهتمام الكبير بهدف التوسُّع في زراعتي وتقديم كل ما يلزم لاستثمار وتسويق منتجاتي بالشكل الأمثل؛ فهي أغلى من الذهب، وأبقى من النفط. وقبل أن أودِّعكم أذكِّركم بنفسي فأقول: أنا الوردة الشامية، ملكة الأزهار. اشتُهرت بالوردة الدمشقية، لا روزا داما سكينا، وأنا الورد السلطاني، والورد المحمَّدي. أحتَلُّ المرتبة الأولى من حيث الأهمية. عطري من أغلى عطور العالم. أثمن من الذهب، وأبقى من النفط. منجم مهم من مناجم الطبيعة؛ فمن أزهاري حصلتم على زيت الورد؛ ذلك السائل الثمين المشهور عالميًّا كأساس لصناعة العطور، متعدِّد الاستعمالات. وحصلتم على ماء الورد، الذي لا يخلو منه منزل، أو صناعة غذائية، أو صيدلانية طبية، أو وصفة شعبية. وحصلتم على أزرار الورد، وشراب الورد، ومربَّى الورد. يمكنني التلاؤم مع البيئات المختلفة، وأساهم في الحد من التصحُّر، وتنشيط السياحة البيئية، وتوفير بيئة مناسبة لتربية النحل وإنتاج العسل الذي جعل الله فيه شفاءً لكم.
مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها.  بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية.  أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية. مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها. بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية. أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية.
https://www.hindawi.org/books/80924807/
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
null
«وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقَدَ هيبتَه كلها حالما توقَّفَت عينُه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالِده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفِخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يَعُد هناك فيلٌ حقيقي، مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي، والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر، اللذين قتلاه من أجلهما.»عبْرَ خمسَ عشرةَ قصةً قصيرة نُبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة «همنجواي» التي تَسبِر أغوارَ النفس، مُستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رَحِم الحياة؛ ففي قصة «الفراشة والدبَّابة» يَدفع شابٌّ مرِحٌ حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة «حاضرة الدنيا» التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أمَّا «قصة أفريقية» فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيلٍ ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل «ديفيد» والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه.
https://www.hindawi.org/books/80924807/0.2/
مقدمة
لعل أحدًا من الروائيين الذين يكتبون بالإنجليزية لم يحْظَ من الشهرة وسَعة الانتشار في العصر الحديث قدْرَ ما حظِي الكاتب الأمريكي العظيم إرنست همنجواي. فبالإضافة إلى المحصول الوافر من الروايات والقصص التي تركها همنجواي وراءه عند مماته في ١٩٦١م، فإن حياته تُشكِّل جانبًا مستقِلًّا، له من الأهمية ما لأدبه بالنسبة لقُرَّائه ولدارسيه، وهذا ما حدا بالنُّقاد إلى الاهتمام بحياته والأحداث الكثيرة التي تزاحمت فيها قدْرَ اهتمامهم بنصوصه الأدبية. وعلاوةً على ذلك فإن أدب همنجواي وكتاباته مغموسةٌ كلها بدم الحياة التي عاشها، فهو يستمدُّ أدبه من تجاريب حياته، وتدفعه هذه الحياة إلى تطوير أدبه ومزجه بتجاربه. وقد دفعَت الحياة الغريبة التي عاشها هذا الكاتب العظيم بعض النقاد إلى الحديث عن الرغبة في الموت التي تتحكم في لا وعي همنجواي وأعماله، وطبَّقوها على انغماسه الغريب في الحروب والمعارك، وفي رحلات الصيد الخطرة، ومصارعات الثيران الدموية. وقالوا أيضًا: إن همنجواي كان يُريد قهر الخوف من الموت، ولذلك لم يكن يحب انتظار الموت بل يبحث عنه في مكمنه. وُلِد إرنست ميلر همنجواي، مغامر عصْره، في يوم ٢١ يوليو ١٨٩٩م، في مدينةٍ يُطلَق عليها عادةً اسم عاصمة الطبقة الوُسطى وهي «أوك بارك» من ضواحي شيكاغو. وكانت أمه من النساء ذوات النشاط الديني الفعَّال، شغلَت وقت فراغها بالعزف في الكنائس وفي المحافل الدينية. أما أبوه فهو الدكتور كلارنس إدموندز همنجواي، وكان طبيبًا محليًّا معروفًا، يُفضِّل الذهاب للقنْص وصيد السمك في منزل العائلة الصيفي بجانب خليج «هورتون» على الاشتغال بمهنته، وعكَف والده منذ صِغره على تلقينه فنون الهوايات التي شُغِف بها هو نفسه، فأهداه في عيد ميلاده الثالث قصبةً للصيد، كما كان يُعلِّمه فنون الرماية منذ كان في المهد صبيًّا. ومما يُروى عنه: أنه اشترك وهو في هذه السن في الاستعراض العسكري في المدينة، وسار وقد علَّق مسدس جده إلى جانبه وهو يختال وسط الجنود في مشيةٍ عسكريةٍ صارمة. ولكن والدته لم تكن راضيةً عن تلك التنشئة المبكرة، وكانت تُعِدُّ لابنها مشروعاتٍ مخالفةً بالنسبة لمستقبَله، مما جعلها تُعارض والده على طول الخَطِّ وتسخط على ما يفعله مع ابنهما … ويبدو أن همنجواي لم يغفر لها بعد ذلك هذا الموقف إطلاقًا، كما يبدو أن ضِيقه منها قد انعكس في كل ما كان يكتبه ويخلقه من الشخصيات النسائية في رواياته وقِصصه. وفي العاشرة من عمره، أهداه والده بندقية، وأهدَته والدته آلة تشيللو للعزف، ولكنه أوضح بعد ذلك أنه لم يكن يميل لعزف الموسيقى، وكان يهرب من دروس العزف ليصطاد السمك، وكان من نتيجة هذا الشدِّ والجذب للصبي بين عالَم والده وعالم والدته أن أصبح همنجواي شابًّا عاكفًا على التفكير، شديد الحساسية في نفس الوقت. وقد قال مرةً بعد ذلك عن أيام حياته الأولى: «إن أفضل مدرسة للكاتب هي طفولةٌ شقيَّة» وقد تسببَت هذه الأيام في إصابته ببعض «التهْتَهة الخفيفة» في كلامه، لازمَته طوال حياته. وتلقَّى همنجواي تعليمه في مدرسة «أوك بارك»، حيث الْتحق بفريق كرة القدم بها. وفيها ظهر مَيله للكتابة لأول مرة، فكان يكتب بعض القصص القصيرة على الآلة الكاتبة، عن تجاربه في الصيد وعن الهنود الحمر، وينشرها في المجلة الأدبية للمدرسة. وقد اشتغل وقت فراغه في هذه الأيام والْتحق بمدرسةٍ لتعليم الملاكمة. وبعد أن حصل على شهادته الثانوية من المدرسة عام ١٩١٧م، كانت الولايات المتحدة قد دخلَت الحرب العالمية الأولى التي اندلعَت نيرانها منذ سنواتٍ ثلاث في أوروبا، وهجر همنجواي كل مشروعاته بشأن الجامعة وبشأن المستقبَل وتطوَّع في الجيش، ولكنه رسب في الكشف الطبي بسبب عيبٍ كان قد أصاب عينه في إحدى مباريات الملاكمة. وفشلَت محاولات همنجواي في الالتحاق بأي سلاحٍ من أسلحة الجيش، وبعدها نجحَت مجموعةٌ من الأكاذيب، ونقْص في الموظفين إبَّان الحرب، ونفوذ أحد أعمامه في حصوله على عملٍ في صحيفة «كانساس سيتي ستار» التي كانت تُعتَبر أيامَها أكبر مدرسة للصحافة في الغرب الأمريكي. وقد تعلم فيها كيف يقصُّ الخبر بأسلوب الصحيفة المعروف عنها: الأحدوثة المباشَرةً المقتضبَة والفقرات القصيرة واللغة القوية. وقد قال همنجواي بعد ذلك عن هذه الفترة من حياته: إنه قد تعلَّم في هذه الشهور عن الكتابة وعن الصحافة أكثر مما تعلمه في أي فترةٍ أخرى من فترات حياته. وبعدها قرأ عن حاجة الصليب الأحمر العاجلة لمتطوِّعين للعمل على الجبهة الإيطالية، فتقدَّم لهذا العمل وقُبِل فيه في أبريل ١٩١٨م كسائقٍ لعربة إسعاف، وكان أصغرَ المتطوِّعين سِنًّا فلم يكن يتجاوز التاسعة عشرة من عمره. وارتحل من نيويورك إلى باريس عن طريق البحر، ثم أرسلوا به إلى ميلانو حيث عمِل في خط النار. وبعد أسبوعٍ من الأحداث المثيرة، أصابَته قنبلةٌ من مدفع مورتار نمسوي حين كان يحاول إنقاذ أحد الضباط الإيطاليين الجرحى، وأطاحت بطاسة ركبته وجرحَته في رأسه. وفي مستشفى «ماجيوري» بميلانو، أجرَوا له سلسلةً من العمليات أخرجوا بها ٢٢٧ شظية من ساقه. ولم يخرجوا كل الشظايا رغم ذلك، فقد أجرَوا له عمليةً أخرى عام ١٩٥٩م أخرجوا بها من ساقه شظيةً أخرى استقرَّت فيها منذ ذلك الوقت. وفي مستشفى ميلانو تعرَّف على ممرضةٍ إنجليزيةٍ حسناء من ممرضات الصليب الأحمر، عقَد معها علاقةً عاطفيةً ألهمَته فيما بعدُ حبكة روايته المشهورة «وداعًا للسلاح». وقد طاف همنجواي بعد شفائه بصفوف القتال على الجبهة الإيطالية مرتديًا سترةً عسكريةً أمريكية ليبعث الحماس في قلوب المحاربين ويقصَّ عليهم قصة بطولته في الحرب، وكان نتيجة هذا أن أنعمَت عليه السلطات الإيطالية بالميدالية الفضية للشجاعة العسكرية ووسام الاستحقاق الحربي. وعاد همنجواي في ٢١ يناير ١٩١٩م إلى نيويورك واستُقبِل فيها استقبال الفاتحين، فقد كان من أوائل العائدين الذين اشتركوا في الحرب العالمية الأولى من الأمريكيين. ولكن جوُّ بلدته «أوك بارك» بدا له خانقًا قاتلًا، خاصةً الآن بعد أن ذاق طعم الحرية والإثارة، فدفعه ذلك إلى الاستقلال بحياته عن والديه، وعاش وحدَه في شيكاغو بعد أن حصل على عملٍ يُقيم به أوده عن طريق كتابة بعض القِطع الصحفية لجريدتَي «تورنتو ديلي ستار»، «وتورنتو ستار ويكلي». وكان يُقسِّم وقت فراغه ما بين صالة الألعاب الرياضية، والتمرُّس على فنون الكتابة. وفي أثناء رحلةٍ له إلى «ميتشجان» في هذا الوقت، تعرَّف على فتاةٍ أمريكية ذات موهبةٍ في العزف على البيانو تُدعَى «هادلي ريتشاردسون» تزوَّجها أخيرًا في سبتمبر ١٩٢١م. واقترح همنجواي على أصحاب الصحيفتين اللتين يعمل فيهما أن يُعيِّنوه مُراسلًا لهما في باريس، حيث يوافيهم بمقالاته وقِصصه من هناك، ووافقوا على ذلك. وحمَّله صديقُه شرود أندرسون، بخطابات توصيةٍ إلى معارفه الأدبيين في باريس، أمثال جرترودشتاين وعزرا باوند، وتُعَدُّ سنواته الأولى هذه في باريس من أخصب أيام عمره، قضاها طوَّافًا في البلاد والمدن الأوروبية، يعقِد الصداقات مع شخصيات الأدب والفن المشهورين. وفي باريس تعلَّم همنجواي التمييز بين الأصل والمزيَّف، بين العبقرية والتصنُّع، وتعلم كما قال بنفسه: «كيف يكتب القِصص بالتطلُّع إلى اللوحات في متحف اللوكسمبرج في باريس»، وعندما ألمح له الرسَّام بيكاسو عن مصارعات الثيران في مدريد، صمَّم همنجواي على خوض هذه التجارب الفريدة، فشدَّ رحاله على الفور هو وزوجته إلى إسبانيا حيث شهد أول عرض لمصارعات الثيران في حياته، وقضى بها عدة أسابيع قبل أن يعود إلى باريس. وكانت هذه نقطة البداية في حُبِّه العريض للبلاد الإسبانية ولمصارعة الثيران التي لازمته طوال حياته ولم يكد يخلو كتابٌ من كتبه من أيٍّ منهما. وبعد ذلك أبرقَت له الصحيفة بالتوجُّه إلى إيطاليا لتغطية أخبار المؤتمَر الاقتصادي في «جنوه»، وبعدها طار إلى القسطنطينية ليُغطِّي أحداث الحرب التركية اليونانية التي استعر أوارها في تلك الأثناء. وفي القسطنطينية شهِد فظائع انسحاب الجيش اليوناني من المدن التركية وتقدُّم الجيوش التركية للاستيلاء على هذه المدن؛ وقد ألهمه هذا الانسحاب الوصْفَ الذي ورد بعد ذلك في مشهد انسحابٍ من «كابريتو» في «وداعًا للسلاح» … وبعد عودته من تلك المهمة بقليلٍ طار إلى لوزان لتغطية مؤتمر السلام هناك. وهكذا تحقق حلم همنجواي بأن أصبح مراسلًا أمريكيًّا جوَّالًا في البلاد الأوروبية. وحصل همنجواي على الطلاق من هادلي في عام ١٩٢٧م، وتزوج بعدها حبيبته الجديدة بولين. وقد اضطُر لإتمام هذا الزواج أن يتحوَّل من المذهب البروتستانتي إلى الكاثوليكية؛ لأن بولين كانت من هذا المذهب. وبدأ بعد ذلك مباشرةً في الإعداد لأقرب المشروعات حبًّا لفؤاده، وهو كتابة روايةٍ عن تجاربه في الحرب العالمية الأولى. وحرص همنجواي على أن يكون في وسط المعارك التي تدور بين الملكيين والجمهوريين، وكم من مرة تحطَّم زجاج نافذة الغرفة التي يُقيم فيها في فندق فلوريدا بمدريد؛ نتيجة قنبلةٍ تقع على مقربةٍ منه، ولكنه كان يتحمل كل ذلك ويختزن في ذهنه تجارب الأهوال التي يراها والتي اقترنَت بهذه الحرب البشعة التي مات في العام الأول لها ما يزيد على نصف مليون إسباني. وتعرَّف في مدريد على مراسلةٍ صحفيةٍ شقراء صغيرة السن تُدعَى «مارتا جلهورن»، كانت قد برزت في عملها ونجحت فيه نجاحًا ملحوظًا، وتوثَّقَت عُرى المودة بينهما في هذه الفترة، بحيث لم يكونا يكادان يفترقان. وبعد طلاق همنجواي من بولين بسبعة عشر يومًا، تزوج مارتا، وكان في الثانية والأربعين من عمره، بينما كانت مارتا في الثامنة والعشرين. وطارا بعد الزواج إلى الشرق الأقصى ليُغطِّيا أنباء الحرب اليابانية الصينية لصالح صحيفتَين مختلفتَين. وكانت رحلةً شاقَّةً إلى مناطق القتال. وقضيا أربعة شهور في الصين، لمَس همنجواي فيها مدى الصَّدع الذي حدَث بين شيانج كاي شيك وبين الشيوعيين الصينيين وحذَّر من نتائجه المرتقَبة على مستقبَل الصين. وبعد شهر العسل هذا، الذي استطال إلى أربعة شهور وسط جبهة القتال، عاد العروسان إلى ضيعة الزوج في كوبا، حيث اعتزم همنجواي العزوف عن خوض غِمار الحروب بعد ذلك، رغم أن بلاده كانت قد دخلَتها رسميًّا آنذاك بعد واقعة بيرول هاربور المشهورة. وكان هذا هو الوقت الذي بدأ همنجواي فيه يُطلِق لحيته التي اشتُهر بها، وكان يزعم أنه اضطُر إلى ذلك من جرَّاء مرضٍ جلديٍّ أصاب وجهه وجعل من حلاقة ذقنه أمرًا عسيرًا. وبدأت زوجته الجديدة تشعر بالملل، ووجدَت أن مثل هذا الزواج لن يتفق مع طموحها الواسع في التقدُّم في عملها الصحفي، فكان أن طارت بمفردها إلى أوروبا لتغطِّي أنباء الحرب العالمية لصالح مجلة كوليير. وبعد سفَرها بستة أشهرٍ طار همنجواي إلى خطوط القتال في أوروبا ليوافي مجلة كوليير هو الآخر بالتحقيقات الصحفية عن الحرب، ولكنه لم يكن مع زوجته، بل قضى معظم وقته مع مراسلةٍ صحفية تُدعَى «ماري ولش». وقد اشترك همنجواي في القتال فعلًا على الجبهة الفرنسية حين كان الحلفاء يُعِدُّون العُدَّة للغزو النورماندي، وكوَّن فرقةً من الفدائيين ترأَّسهم وكانوا ينادونه بلقب «بابا همنجواي»، وقد شاعت هذه التسمية بعد ذلك بين أصدقائه ومحبيه. وكانت هذه الفرقة هي أول جنود من صفِّ الحلفاء تدخل باريس، وكان أول شيء فعله همنجواي بعد دخوله العاصمة الفرنسية أن حرَّر فندقه الأثير «الريتز»، وعبَّ من خموره المعتَّقة. وقد حُوكِم همنجواي أمام محكمةٍ عسكريةٍ بعد ذلك لتخطِّيه حدود قوانين المراسلين الصحفيين باشتراكه الفعلي في القتال، ولكن لم يتقدَّم أحدٌ للشهادة على تلك الجريمة، فسقطَت عنه، كما مُنِح ميداليةً برونزية تقديرًا لشجاعته. ولكن انهماك همنجواي في العمل والكتابة إبَّان هذه السنوات لم يمنعه من القيام بالرحلات التي يحبها، فجال في إيطاليا، وعاد ثانيةً إلى إسبانيا بعد أن سمحت له السلطات بذلك، وشهد مصارعات الثيران مرةً أخرى، وطاف بمسارح شبابه فيها وفي الأماكن التي كتب عنها أحداث روايته «وتشرق الشمس ثانيةً». وحنَّ ثانيةً إلى أفريقيا، فاصطحب مس ماري في رحلة صيد إلى أفريقيا موَّلتها مجلة «لوك». وكانت الرحلة موفَّقةً في قسمها الأول، فطاف همنجواي وماري في أدغال كينيا وتوجَّها مرةً إلى الكونغو. ولكن حدث أن سقطَت بهم الطائرة التي كانت تُقلُّهم فوق شلالات «مورشيون» ونجا من فيها بأعجوبة. وقضوا ليلتهم بين الوحوش الهائمة إلى أن أنقذهم قارب الاستطلاع الذي يجوب هذه المنطقة. وفي هذه الأثناء، طيَّرَت وكالات الأنباء خبر فقدان همنجواي، وصدرَت الصحف وفيها نعي الكاتب الكبير، وهزَّ الواثقون من وجود رغبةٍ خفية في الموت لدى همنجواي رءوسهم في عرفان. وجاءت طائرةٌ لتُقل آل همنجواي بعد الحادثة إلى «عنتيبي» ولكن سوء الحظ لازمهم، فاصطدمَت بالأرض وشبَّت فيها النيران، وقد سببَت هذه الحادثة إصابات خطيرةً لهمنجواي في الكليتَين والكبد وحروقًا في الرأس والساعدَين والساقَين لازمَته آثارها بقيَّة حياته. وعاد همنجواي بعد رحلته المشئومة تلك إلى «فينكا فيخيا» مع مس ماري. ووصلَته الأنباء بعدها من «استكهلم» بقرار الأكاديمية السويدية: منْحه جائزة نوبل للآداب لعام ١٩٥٥م؛ لسيطرته القوية على أسلوب فن الرواية، التي تبدَّت أخيرًا في «العجوز والبحر». وقد قَبِل همنجواي الجائزة شاكرًا وإن اعتذَر عن عدم استطاعته الذهاب إلى السويد لحضور حفل استلامها، وأرسل خطابًا ألقاه نيابةً عنه هناك سفير الولايات المتحدة في السويد. وحين عاد همنجواي في أواخر عام ١٩٦٠م إلى منزله بكيتشوم في ولاية «آيداهو»، بدأ الأصدقاء المقربون منه يلاحظون عليه تغيُّرًا كبيرًا. كان المرح والانطلاق قد زايَلاه، وبدأت تهاجمه الشكوك والريب في استمراره ككاتب، وفي مستقبَله في مهنته، كما بدأ يجد صعوبةً وثقلًا في الكتابة. وسِرُّ ذلك أنه كان قد تعوَّد أن يعيش على مستوًى معيَّن من القوة والنشاط والإقدام في كل شيء، في ممارسة الرياضة، وفي الصيد، وفي الكتابة وفي الشراب، وفي الرحلات، وفي كل أوجُه الحياة، فلمَّا بدأت هذه القوة تضعف فيه، فقدَ الثقة في نفسه وفي فنِّه. وهكذا لاقى همنجواي الموت الذي طالما كتب عنه ودارت معظم رواياته وقصصه حوله. تم اختيار المجموعة التي يجدها القارئ بين يديه بحيث تُقدِّم له صورةً كاملةً لفن القصة القصيرة لدى همنجواي. ورغم أن الكاتب قد اشتُهر برواياته، فإن قصصه القصيرة تُقدِّم هي الأخرى نماذج قصصيةً ذات معمارٍ فنيٍّ مُحكَم مما يجعل من معظم تلك القصص أعمالًا خالدة ضمن إنتاج الكاتب. وقد صدرَت قصص همنجواي القصيرة أول ما صدرَت في مجموعاتٍ هي: في زماننا (١٩٢٥م)، رجال بلا نساء (١٩٢٧م)، المنتصر لا يربح شيئًا (١٩٣٣م). كما نشر الكاتب عددًا آخر من قصصه في الصحف والمجلات بخلاف تلك الكتب الثلاثة. وتُقدِّم المجموعة الحالية عدة قصصٍ تُنشَر لأول مرةٍ باللغة العربية. وكان همنجواي يُحب أن يكتب عن موضوعاتٍ وتجارب مرَّ بها بالفعل؛ نجد ذلك في رواياته كما نجده في قصصه. وضمن مجموعة قصصه القصيرة — التي بلغَت في مُجمَلها حوالي الثمانين — نجد سلسلة قصص «نك آدمز» التي تُصوِّره صبيًّا وشابًّا ورجلًا يتعرض لمواقف مختلفة تزيد من تجاربه بالحياة والطبيعة الإنسانية، وهو يظهر هنا في قصص: المخيم الهندي، الطبيب وزوجة الطبيب، قصة أفريقية، عشرة هنود. وكتب همنجواي عن إسبانيا، البلد الذي أحبَّه وعشِق رياضته الشهيرة وهي مُصارَعة الثيران، وتعاطَف مع أهله إلى درجة أنه شارك في الحرب الأهلية التي نشبَت هناك لمدة أعوامٍ ثلاثة. وتُقدِّم المجموعة الحالية إسبانيا في قصص: الفراشة والدبابة، حاضرة الدنيا، مكانٌ نظيفٌ حسن الإضاءة. أما عن القصص الأفريقية فنُقدِّم منها هنا: ثلوج كليمنجارو، وقصة أفريقية. والقصة القصيرة عند همنجواي تتصف بالتركيز الشديد، وتُشرك القارئ في مطالعة تجربةٍ إنسانيةٍ. وأسلوب الكاتب هنا يمثل رأيه في فكرة جبل الثلج العائم الذي لا يظهر للعيان منه سوى ثُمن حجمه فقط، بينما بقيَّته مختفية تحت الماء. فالرواية عنده يمكن أن تُظهِر من ذلك الجبل الثلجي الكثير مما هو مختف، فطبيعتها تسمح بوجود التفاصيل الضرورية التي تكتمل معها الصورة الشاملة التي تقدمها الرواية. أما القصة القصيرة فهي تُقدِّم الجزء الظاهر فحسب، وتترك للقارئ تشرُّب البقية وفقًا لإحساسه ودرجة تجاربه في الحياة. والقصة القصيرة على ذلك الوجه قد سمحَت لهمنجواي — أكثر مما سمحَت له الرواية — أن يتجلَّى في أسلوبه اللغوي المشهور القائم على التركيز والتخلِّي عن المحسِّنات اللفظية والصفات التي لا تخدم الحدث أو الشخصيات، مما سمَّاه النقاد بأسلوب الاقتصاد في التعبير. وهو أيضًا يستخدم الحوار على نحوٍ خاصٍّ به، يتصف بالإيجاز، والتكرار المقصود، واستخدام المفردات الشائعة المعروفة لدى من يتحدث من شخصيات القصة. وينجح كل ذلك في نقل اللمحات الإنسانية التي يحاول المؤلف أن ينقلها إلى القارئ كما شعر هو بها وهو يكتب القصة (انظر قصة قطة تحت المطر). وهو ينجح في ذلك إلى درجةٍ جعلَته واحدًا من كبار مؤلفي القصة القصيرة، مثلما هو من كبار مؤلفي الرواية.
null
https://www.hindawi.org/books/80924807/
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
null
«وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقَدَ هيبتَه كلها حالما توقَّفَت عينُه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالِده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفِخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يَعُد هناك فيلٌ حقيقي، مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي، والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر، اللذين قتلاه من أجلهما.»عبْرَ خمسَ عشرةَ قصةً قصيرة نُبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة «همنجواي» التي تَسبِر أغوارَ النفس، مُستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رَحِم الحياة؛ ففي قصة «الفراشة والدبَّابة» يَدفع شابٌّ مرِحٌ حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة «حاضرة الدنيا» التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أمَّا «قصة أفريقية» فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيلٍ ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل «ديفيد» والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه.
https://www.hindawi.org/books/80924807/1/
الفراشة والدبابة
في تلك الليلة كنت أسيرُ في طريق العودة إلى مكتب الرقابة إلى فندق «فلوريدا» — وهو بمثابة منزلي — تحت المطر. وفي منتصف الطريق شعرتُ بالضيق من البلل وتوقفتُ في بار «تشيكوتي» من أجل جرعة شرابٍ عابرة. كان هذا هو ثاني شتاءٍ تتعرض فيه مدريد المُحاصَرة للقذائف الجوية، وهناك نقْص في كل شيء، بما في ذلك التبغ وصبْر الناس، ويشعر المرء بالجوع دائمًا، ويمكن له أن يضيق فجأةً وبلا سببٍ من الأشياء التي لا يملك أي شيء إزاءها مثل الطقس. كان يتعيَّن عليَّ أن أذهب إلى البيت، كان على مبعدة خمسة شوارع فحسب، ولكني حين رأيت باب تشيكوتي جال بخاطري أن أتناول شرابًا سريعًا ثم أسير تلك الشوارع الخمسة عبر «الجران فيا» فوق الطين ومخلَّفات الطُّرق التي حطمَتها الغارات الجوية. كان المكان مزدحمًا، ولا يمكنك أن تدنو من البار، والموائد مشغولةٌ، والجو يعبق بدخان السجائر، والغناء، والرجال في البزة العسكرية، ورائحة المعاطف الجلدية المبلَّلة. وكانوا يتناولون الأشربة عبر جمهرةٍ بلغَت ثلاثة صفوفٍ أمام البار. وعثر نادلٌ أعرفه على مقعدٍ خالٍ وجذبه إلى مائدةٍ جلستُ إليها مع ألمانيٍّ رفيع أبيض الوجه بارز الحنجرة، أعرفه لأنه يعمل في الرقابة، وشخصَين آخرَين لا أعرفهما. وكانت المائدة في وسط القاعة، على يمينك حين تدخل. ولم يكن بوسعك أن تسمع نفسك حين تتكلم من صخب الغناء، وطلبتُ كأسًا من «الجين» ممزوجًا بشراب «الأنجوستورا» كيما أُخفف من إحساسي بالبلل من المطر. كان المكان مكتظًّا حقًّا، وجوٌّ من المرح البالغ يلف الجميع، ربما مرحٌ زائد عن الحد بسبب المشروب الكحولي القطلوني الذي تمَّ صُنعه حديثًا، والذي كان معظمهم يحتسونه. ولطمني اثنان من الناس لا أعرفهما على ظهري، وحين قالت الفتاة الجالسة إلى مائدتنا شيئًا لي لم أسمع ما تقول، فأجبت: بالطبع. والآن حين توقفتُ عن التطلُّع من حولي وبدأتُ أتطلع إلى مائدتنا وجدتُ أن الفتاة مريعة المنظر، مريعة المنظر حقًّا. واتضح حين أتى النادل أن ما سألَتني إيَّاه هو أنها طلبَت مشروبًا، ولم يكن يبدو على الرجل الذي معها أي نشاطٍ أو قوة، ولكنها هي التي كانت قويةً بالقدر الذي يكفيهما معًا. كان لها ذلك الوجه القوي نصف الكلاسيكي، يُشبه في تكوينه وجه مروِّضي الأسود؛ وبدا على الولد الذي معها أنه كان يتعيَّن عليه أن يرتدي ربطة عنقٍ مدرسيةً قديمة. لكنه لم يكن يرتدي رباط عنق، كان يرتدي معطفًا جلديًّا مثله مثل بقيتنا. غير أن معطفه لم يكن مُبلَّلًا؛ لأنهما كانا في البار قبل أن يهطل المطر. وكانت هي ترتدي معطفًا جلديًّا أيضًا، وكان يليق بمواصفات وجهها. وعند ذاك تمنيتُ ألَّا أكون قد توقفتُ عند تشيكوتي وإنما توجهتُ مباشرةً إلى البيت حيث بإمكاني أن أُغيِّر ملابسي وأُجفِّف نفسي، وأتناول شرابًا وأنا مستريحٌ في فراشي رافعًا قدماي عاليًا. وكنت ضجِرًا من النظر إلى هذين الشخصَين الحديثي السن. الحياة قصيرةٌ، والنسوة القبيحات أطول عُمرًا وها هن جالسات إلى الموائد. وقررتُ أنه برغم أنني كاتبٌ ومن المفروض أن أشعر بفضولٍ لا يُشبَع عن كل أنواع الناس، فإنني لم أكن أهتم بمعرفة ما إذا كان هذان الاثنان متزوجَين أم لا، أو ما هو رأي أحدهما في الآخر، أو ما هي آراؤهما السياسية، أو ما إذا كان لديه بعض المال، أو إذا ما كان لديها بعض المال، أو أي شيء عنهما. وخلصتُ إلى أنهما لا بد يعملان في الإذاعة. كل مرةٍ ترى مدنيين في مدريد ذوي مظاهر غريبةٍ حقًّا فهم يعملون في الإذاعة. ولذلك حتى أقول شيئًا رفعتُ صوتي كي يعلو على الضجيج وسألتُ: أتعملان في الإذاعة؟ قالت الفتاة: أجل. إذن فالأمر كذلك. يعملان في الإذاعة. وقلت للألماني: كيف حالك يا رفيق؟ – الحمد لله. وأنت؟ قلت: يغطيني البلل. وضحك مائلًا برأسه جانبًا. سأل: أمعك سيجارة؟ وناولتُه علبة سجائري التي لم يكن عندي إلا واحدة غيرها، وتناوَل منها سيجارتين. وأخذَت الفتاة القوية اثنتين والشاب الذي كان يمكن أن يليق به رباط العنق القديم واحدةً. وصِحتُ به: خُذ أخرى. وردَّ: كلَّا شكرًا. وأخذها الألماني بدلًا منه وتساءل باسمًا: هل تأذن لي؟ قلت: بالطبع. كنت في الحقيقة لا أُرحب بأخذه السيجارة وكان يعرف ذلك. ولكنه كان في أشدِّ الحاجة للسجائر لدرجة لم يُبالِ معها بشيء. وكان الغناء قد توقَّف برهةً، أو كانت هناك استراحة كما يحدث في وقت العواصف أحيانًا. وأصبح بوسعنا أن نسمع ما نقول. سألتني الفتاة القوية: هل أنت هنا من زمن طويل؟ ونطقَت الزاي ثاءً كما في كلمة ثمن. قلت: إني أرحل وأعود. قال الألماني: يجب أن يكون حديثنا جادًّا. أريد أن أُجري حديثًا معك. متى يمكننا أن نتحدث؟ قلت: سوف أتصل بك. كان هذا الألماني من نوعٍ غريب جدًّا بالفعل، ولم يكن أحدٌ من الألمان الحميدين يحبه. عاش تحت وهم أنه يمكنه أن يصبح عازف بيانو، ولكن لو أنه بقي بعيدًا عن أي بيانو لَمَا اكترث ما دام يشرب الكحوليات أو أُتيحَت له فرصة النميمة، ولم يتمكن أحد من إبعاده عن أيٍّ من هذين الشيئين بعد. كانت النميمة أفضل ما يفعله، وكان دائمًا يعرف شيئًا جديدًا مُشينًا للغاية عن أي شخصٍ يمكن أن تذكره في مدريد وبلنسية وبرشلونة وغيرها من المراكز السياسية. ثم بدأ الغناء ثانيةً، ولا يمكن لك أن تُمارس النميمة ممارسة جيدة بصوتٍ عال، ولذلك بدا ذلك الأصيل في «تشيكوتي» مملًّا وقررتُ أن أرحل حالما أحصُل على شرابٍ لنفسي. وعند ذلك بدأ الأمر. دخل البار رجلٌ مدنيٌّ في حلةٍ بُنية اللون وقميصٍ أبيض وربطة عنق سوداء، شَعره ممشَّط إلى الخلف مُبينًا جبهةً عريضة، وأخذ يتنقل من مائدة إلى أخرى يُهرِّج مع الحاضرين، وأطلَق وابلًا من الماء على نادلٍ من رشَّاشة ماءٍ يحملها معه. وضحك الجميع ما عدا النادل الذي كان يحمل وقتها صينيةً مليئة بأقداح الشراب. كان حانقًا. ونظرتُ حولي عبثًا عن مكانٍ أحتمي به. وكان النادل الثاني ساخطًا أيضًا، وبخَّ رجل رشاشة الماء عليه مرتين بعد ذلك في خفَّةٍ ومرَح. كان بعض الحاضرين يعتقدون أن الأمر باعثٌ على الضحك، بمن فيهم الفتاة القوية. ولكن النادل وقَف وهو يهزُّ رأسه. كانت شفتاه ترتعشان. كان رجلًا هرِمًا عمل في تشيكوتي لمدة عشرة أعوام حسب معلوماتي. وعاد الرجال الثلاثة تبدو عليهم علائم الجِد والصرامة وأنهم قاموا بواجبهم. ثم دار الباب ودخل رجل الرشاشة المائية. كان شعره مُسدَلًا فوق عينيه، وتغطي وجهه دماء، وربطة عنقه ملتوية، وقميصه ممزَّق. كان يحمل رشاشة الماء ثانيةً، وحين اندفع إلى القاعة جاحظ العينين ممتقع الوجه، أطلق رشَّةً من الماء متحدِّيةً عامة بلا هدف، موجِّهًا رشاشته تجاه كلِّ مَن في القاعة. ورأيتُ واحدًا من الرجال الثلاثة ينهض متجهًا نحوه، ورأيت وجه ذلك الرجل. كان معه عددٌ أكبر من الرجال الآن، وحشروا رجل رشاشة الماء بين مائدتين في نهاية القاعة إلى اليسار حين تدلف إلى المحل، بينما رجل الرشاشة المائية يجاهدهم الآن بقوة، وحين انطلقَت الرصاصة أمسكتُ بذراع الفتاة القوية وجذبتُها نحو باب المطبخ. وكان باب المطبخ مُغلَقًا، وحين حاولت فتحه بكتفي لم يستجب. قلت: «اختبئي هنا خلف زاوية البار.» وانحنَت هناك. قلت وأنا أدفعها إلى أسفل: «ارقدي.» كانت ثائرةً. كان كل رجلٍ في القاعة قد أخرج مسدسه ما عدا الألماني — الذي كمن خلف المائدة — والولد الذي يشبه تلاميذ المدارس العمومية، والذي وقف في ركنٍ إلى جوار الحائط؛ وكانت ثلاث فتيات ذوات شعرٍ شديد الصفرة بينما هو أسود عند جذوره، يقفْن على أطراف أصابعهن فوق منصةٍ خشبيةٍ على طول الحائط كيما يشاهدْن ما يحدث وهن يصرخْن باستمرار. قالت الفتاة القوية: إني غير خائفةٍ. هذا سخفٌ. قلت: إنك لا تُحبِّين أن تُصابي بطلقة رصاصٍ في شجار بالمقهى. لو أن لهذا الرجل ذي رشاشة الماء أصدقاء هنا فستصبح العاقبة وخِيمة. ولكن كان من الواضح أنه لم يكن له أصدقاء؛ لأن الناس بدأت تُعيد مسدساتها إلى مكانها. وعمل أحدهم على إسكات الصارخات الشقراوات، وابتعَد كل شخصٍ كان قد دنا من رجل رشاشة الماء عنه إذ هو مُسجًّى بهدوء على ظهره فوق الأرض. وصاح أحدهم من عند الباب: لا أحد يُغادر المكان حتى تحضر الشرطة. وكان رجلان من الشرطة يحملان البنادق قد حضرا من دورية الطريق ووقفا عند الباب. وعند ذلك الإعلان رأيت ستة رجالٍ يصطفُّون كأنهم أعضاء فريق الفوتبول وهم يدلفون إلى الملعب، وخرجوا من الباب. كان ثلاثة منهم هم الذين ألقَوا رجل رشاشة الماء إلى الخارج. وكان واحدٌ آخر هو من أطلَق عليه الرصاص. ساروا خارجًا عبر رجُلي الشرطة ذوَي البنادق كأنهم لاعبون يمررون الكرة فيما بينهم. وبعد أن خرجوا، وضع واحدٌ من رجُلي الشرطة بندقيته عبر الباب وصاح: لا أحد يمكنه الخروج. لا أحد على الإطلاق. – ولماذا خرج أولئك الرجال؟ لماذا تُبقوننا ما دام البعض قد خرج؟! – إنهم فنيُّو محركات الطائرات وعليهم العودة إلى المطار الحربي. – ولكن إذا خرج أي شخصٍ فمن الحماقة الإبقاء على الآخرين. – يجب على الجميع انتظار فريق الأمن. يجب اتباع القانون والنظام. – ولكن، ألا ترى أنه إذا غادر أي شخصٍ المكان فمن الحماقة إبقاء الآخرين؟ – لا يمكن لأحدٍ المغادَرة. على الجميع أن ينتظروا. قلت للفتاة القوية: إنه أمرٌ مضحك. – كلا. إنه أمرٌ مريع. كنا وقوفًا الآن وكانت تتطلع بسخطٍ حيث كان رجل رشاشة الماء راقدًا. كانت ذراعاه مبسوطتَين على آخرهما وإحدى ساقيه مثنية. – سأذهب لأساعد هذا الرجل المسكين الجريح. لماذا لم يساعده أحد أو يفعل شيئًا من أجله؟ قلت: دعيه. الأفضل ألَّا تتدخلي في ذلك الأمر. – ولكن هذا غير إنسانيٍّ. لقد تدربتُ على عمل الممرضات وسوف أُقدِّم له المساعدة. قلت: دعيه. لا تقتربي منه. – لماذا؟ كانت شديدة الاضطراب وفي حالةٍ تقترب من الهستيريا. قلت: لأنه ميتٌ. وحين جاءت الشرطة احتجزَت كل شخصٍ هناك لمدة ثلاث ساعات. وبدأَت بأن اشتمَّت فوهات كل المسدسات، فبهذه الطريقة يمكن أن يعثروا على المسدس الذي تم إطلاقه حديثًا. وبعد ما يقرب من أربعين مسدسًا، يبدو أنهم ضجروا من العملية، وعلى كل حالٍ كان كل ما يمكن أن يشمُّوه هو رائحة المعاطف الجلدية المبلَّلة. ثم جلسوا إلى مائدةٍ خلف المرحوم حامل رشاشة الماء مباشَرةً، وهو يرقد على الأرض كأنه رسم كاريكاتوري من الشمع الرمادي، بيدين شمعيتين ووجه شمعيٍّ رمادي، وجعلوا يفحصون أوراق الحاضرين. ومع تمزُّق قميص رجل رشاشة الماء يمكنك أن ترى أنه لا يرتدي فانلةً داخلية، وكان حذاؤه متهرئًا. كان يبدو ضئيل الحجم مُثيرًا للشفقة؛ إذ هو ممددٌ على الأرض. ويجب عليك أن تخطو فوقه كي تذهب إلى المائدة التي جلس إليها اثنان من الشرطة في ملابس مدنية يفحصان أوراق هوية كل شخصٍ. وفقدَ الزوج أوراقه وعثر عليها مراتٍ عديدة من فرط عصبيته. كان لديه تصريح مرور، ولكنه نسي في أي جيبٍ وضعه، واستمر يبحث عنه وهو ينضح عرقًا إلى أن عثر عليه. ثم وضعه في جيبٍ آخر وطفِق يبحث عنه مرةً أخرى.\ وكان ينضح بالعرق الغزير وهو يقوم بذلك؛ مما جعل شعره يتجعَّد ووجهه يحمرُّ. وكان يبدو الآن كما لو كان يجب أن يرتدي، لا ربطة عنقٍ مدرسية قديمة فحسب، بل وأيضًا إحدى تلك القبعات الصغيرة التي يرتديها صِبية المدارس في إنجلترا. أنت قد سمعت كيف تزيد الأحداث الناسَ هرمًا. حسنًا لقد جعله إطلاق النار هذا يبدو أصغر من سِنِّه بعشر سنوات. وبينما كنا ننتظر، قلتُ للفتاة القوية إنني أعتقد أن الأمر كله يصلح أن يكون قصةً جيدة وإنني سوف أكتبها يومًا ما، فالطريقة التي انتظم بها الرجال الستة في صفٍّ واحد وخرجوا سريعًا من ذلك الباب شيء رائع. وصدمها ما قلت، فأجابت بأنه لا يمكنني أن أكتب القصة؛ لأنها ستكون ضارةً بقضية الجمهورية الإسبانية. فقلت إنني قضيتُ وقتًا طويلًا في إسبانيا، وإنهم كانوا يقومون بالكثير من إطلاق النار قديمًا فيما حول مدينة بلنسية أيام حكم الملكية، وإنه قبل الجمهورية بمئات السنين كان الناس يقطعون أجساد بعضهم البعض بسكاكين كبيرة تُدعَى «نافاخاس» في إقليم الأندلس، وإنني إذا شاهدتُ إطلاق نارٍ فكاهيَّا في بار تشيكوتي خلال الحرب فبوسعي أن أكتب عنه كما لو أنه حدث في نيويورك أو شيكاغو أو كي وست أو مرسيليا، فهو لا علاقة له بالسياسة على الإطلاق. قالت إنه يجب عليَّ ألا أفعل ذلك. وربما يقول كثير من الناس الآخرين مثل قولها أيضًا. ومع ذلك، كان الألماني يعتقد فيما يبدو أنها قصةٌ جيدة، وأعطيته آخر سيجارة من نوع «الجمل» كانت معي. حسنًا، فعلى كل حال، أخيرًا وبعد حوالي ثلاث ساعات قالت الشرطة إن بوسعنا الخروج. وقد شعروا بالقلق من أجلي في فندق فلوريدا؛ لأنه في تلك الأيام، مع الغارات، إذا توجهتَ عائدًا إلى بيتك على قدميك ولم تصِل بعد موعد إغلاق الحانات في السابعة والنصف مساءً يشعر الناس بالقلق. وكنت فرِحًا بالعودة، وحكيتُ القصة ونحن نطهو طعام العشاء على موقدٍ كهربائي، ولاقت نجاحًا كبيرًا. حسنًا. كان المطر قد توقَّف بالليل، وجاء الغد يوم شتاءٍ مبكر، باردًا وساطعًا وجميلًا؛ وفي الساعة الثانية عشرة وخمس وأربعين دقيقة دفعتُ الباب الدوَّار في تشيكوتي من أجل قليلٍ من «الجين» بالمياه المعدنية قبل الغداء. كان هناك عددٌ قليل جدًّا من الناس في تلك الساعة، وجاء لمائدتي نادلان ومدير المحل. كانوا جميعًا يبتسمون. سألت: هل قبضوا على القاتل؟ قال المدير: لا تُلقي نكاتًا في هذا الوقت المبكر. هل رأيته يُقتَل؟ قلت له: أجل. قال: «وأنا أيضًا، كنت هناك حين حدث ذلك.» وأشار إلى مائدةٍ في أحد الأركان .. «لقد وضع المسدس على صدر الرجل مباشَرةً حين أطلَق النار.» – إلى متى احتجزوا الناس هنا؟ – أوه. بعد الثانية من هذا الصباح. قال نادل: «لم يجيئوا من أجل «اللحم».» مستخدمًا الكلمة الإسبانية العامية التي تعني الجثة، وهي نفس الكلمة المكتوبة في قائمة الطعام لتشير إلى شرائح اللحم البارد .. «إلا في الحادية عشرة هذا الصباح فحسب.» قال المدير: ولكنك لم تعرف الأمر بعد. قال نادل: كلا، إنه لا يعرف. قال النادل الآخر: إنه شيءٌ غريبٌ للغاية. قال المدير: ومحزنٌ أيضًا. وهزَّ رأسه. قال النادل: أجل. محزنٌ وغريب. محزنٌ جدًّا. – أخبرني. قال المدير: إنه شيءٌ غريبٌ جدًّا. – أخبرني. هيا، أخبرني. وانحنى المدير فوق المائدة في حذرٍ شديد. قال: أتعرف .. كان يضع في رشاشته ماء الكولونيا. يا للرجل المسكين. قال النادل: لم يكن الأمر مزحةً خاليةً من الذوق، أترى؟ قال المدير: كان الأمر في الواقع مجرد إشاعة المرح. لم يكن لأحدٍ أن يشعر بالغضب. يا للرجل المسكين. قلت: فهمت. كان يريد تسلية الجميع فحسب. قال المدير: أجل. كان الأمر في الواقع مجرد سوء تفاهمٍ مؤسف. – وماذا عن رشاشة الماء؟ أخذتها الشرطة. لقد أرسلوها إلى أسرته. قلت: أتصوَّر أنهم سيُسَرُّون بالحصول عليها. قال المدير: أجل. بالطبع. فرشاشة الماء نافعةٌ دائمًا. – ومن كان هو؟ – صانع خزانات خشبية. – متزوج؟ – أجل، كانت زوجته هنا مع الشرطة هذا الصباح. – وماذا قالت؟ – ارتمت إلى جواره وصاحت: بدرو. ماذا فعلوا بك يا بدرو؟ من فعل بك هذا يا بدرو؟ أوه، بدرو. وقال النادل: ثم اضطُرَّت الشرطة إلى إبعادها؛ لأنها لم تستطع السيطرة على نفسها. قال المدير: يبدو أنه كان يُعاني مرضًا في صدره. لقد حارب في الأيام الأولى للحركة. قالوا إنه قد حارب في الجبال، ولكنه كان من ضعف الصدر بحيث إنه لم يتمكن من الاستمرار. وقلتُ مُرجِّحًا: وفي أصيل أمس توجه إلى وسط المدينة كي يُشيع المرح في النفوس. قال المدير: كلا. أترى، إنه لأمرٌ شديد الغرابة. كل شيءٍ غريبٌ جدًّا. علمتُ هذا من الشرطة التي تتميز بكفاءةٍ عاليةٍ إذا أُتيح لها الوقت المناسب. لقد استجوبوا رفاقه في المحل الذي يعمل به. وقد عرفوا المحل من بطاقة عضويته النقابية التي كانت في جيبه. وقد اشترى رشاشة الماء ومياه الكولونيا بالأمس لاستخدامهما كمزحة يقوم بها في أحد الأفراح. وقد أعلن عن نيته تلك. واشتراهما من محلٍّ عبر الشارع. هناك بطاقةٌ على زجاجة الكولونيا بها العنوان. كانت الزجاجة في دورة مياه البار. وهناك كان يملأ الرشاشة بماء الكولونيا. ولا بد أنه قد دخل هنا عندما بدأ المطر يهطل. قال نادل: إنِّي أتذكره حين دخل. – وفي هذا الجو المرِح، ومع الغناء، انتابه المرح هو أيضًا. قلت: كان مرِحًا زيادةً عن اللزوم. كان كأنما يطفو في المكان. وتمسَّك المدير بالمنطق الإسباني الذي لا يلين. قال: إن ذلك هو المرح الذي ينتج عن الشراب مع ضَعف الصدر. قلت: إني لا أحب هذه الحكاية على الإطلاق. قال المدير: اسمع. إنها شديدة الغرابة. إن مرحه قد اصطدم بجديَّة الحرب مثل الفراشة. قلت: أوه، تمامًا مثل فراشة. مثل فراشة. قال المدير: إني لا أمزح. أترى؟ مثل فراشة تلتقي بدبابة. وقد أفعمه ذلك بالسرور. كان يخطو داخل الميتافيزيقا الإسبانية الحقيقية. قال: خُذْ شرابًا على حساب المحل. يجب عليك أن تكتب قصةً عن ذلك. وتذكرت رجل رشاشة الماء بيديه الشمعيتين الرماديتين ووجهه الشمعي الرمادي، وذراعاه مبسوطتان على اتساعهما وساقه مثنية وكان يبدو أشبه بالفراشة شيئًا ما. ليس كثيرًا. بيد أنه لم يكن يبدو إنسانًا أيضًا. كان يُذكِّرني أكثر بعصفورٍ ميت. قلت: سآخذ كوبًا من الجين مع مياه الصودا شويبس. قال المدير: يجب أن تكتب قصةً عن هذا الموضوع. هاك، هاك الفرصة. قلت: الفرصة. انظر. قالت لي فتاةٌ إنجليزية ليلة أمس: إنني يجب ألا أكتب عنه. وهو سيكون شيئًا سيِّئًا جدًّا للقضية. قال المدير: يا للهراء. إنه شيءٌ مشوقٌ ومهم، المرح الذي أُسيء فهمه حين يتقابل مع الجدية المميتة الموجودة هنا دائمًا. في رأيي أنه من أغرب الأشياء التي رأيتها من زمن وأكثرها تشويقًا. يجب أن تكتبه. قلت: وهو كذلك. بالتأكيد. أعنده أولاد؟ قال: كلَّا. سألتُ الشرطة، ولكن يجب أن تكتبه وأن تسمِّيه الفراشة والدبابة. قلت: وهو كذلك بالتأكيد. ولكني لا أحب العنوان كثيرًا. قال المدير: العنوان جميلٌ. إنه أدبٌ صِرف. قلت: وهو كذلك. بالتأكيد. سأُسمِّيه كذلك. الفراشة والدبابة. وجلستُ هناك في ذلك الصباح المشرق البهيج، والمكان يعبق بالنظافة والهواء المُتجدِّد والكنس، والمدير الذي كان صديقًا قديمًا لي ويغمره السرور الآن بالأدب الذي نصنعه سويًّا. وأخذتُ جرعةً من الجين وماء الصودا، ونظرتُ عبر النافذة تحيط بها أكياس الرمل. ومرَّت بخاطري صورة الزوجة راكعة هناك تقول: بدرو .. بدرو .. من فعل ذلك بك يا بدرو؟ ومرَّ بخاطري أن الشرطة لن يمكنها أبدًا أن تخبرها حتى لو كان لديها اسم الرجل الذي ضغط على الزناد.
null
https://www.hindawi.org/books/80924807/
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
null
«وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقَدَ هيبتَه كلها حالما توقَّفَت عينُه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالِده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفِخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يَعُد هناك فيلٌ حقيقي، مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي، والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر، اللذين قتلاه من أجلهما.»عبْرَ خمسَ عشرةَ قصةً قصيرة نُبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة «همنجواي» التي تَسبِر أغوارَ النفس، مُستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رَحِم الحياة؛ ففي قصة «الفراشة والدبَّابة» يَدفع شابٌّ مرِحٌ حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة «حاضرة الدنيا» التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أمَّا «قصة أفريقية» فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيلٍ ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل «ديفيد» والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه.
https://www.hindawi.org/books/80924807/2/
قطَّةٌ تحت المطر
لم يكن في الفندق من أمريكيٍّ سوى رجلٍ وزوجته، ولم يكونا يعرفان أي شخصٍ يصادفانه على السلالم في طريقهما من الحجرة وإليها. كانت حجرتهما في الطابق الثاني وتُطلُّ على البحر … وكانت تُطلُّ أيضًا على الحديقة العامة وعلى النُّصب التذكاري المُقام لذكرى الحرب. كانت الحديقة العامة تغصُّ بالنخيلات الضخام وبالمقاعد الخضراء. وحين يكون الجو صافيًا، كان يفد إليها باستمرارٍ أحد الفنانين حاملًا معه لوحة الرسم. وكان الفنانون يحبون طريقة نمو النخيل، والألوان الناصعة للفندق المواجه للحدائق وللبحر. وكان الإيطاليون يفدون من أقصى البقاع لمشاهدة النصب التذكاري، وكان مصنوعًا من البرونز ويلتمع حين تهطل عليه الأمطار. أخذَت السماء تمطر، وطفق ماؤها يقطر من على أفنان النخيل، وتكوَّنَت بحيراتٌ صغيرة من الماء على الممرات المغطاة بالحصباء. وتدفقَت موجات البحر في خيطٍ طويلٍ تحت الأمطار، ثم انحسرت ثانيةً على الشاطئ لتعود مرةً أخرى متدفقةً في خيطٍ طويل تحت الأمطار. وانقضَّت السيارات من حول النصب التذكاري في الميدان. وعبْر الميدان، وقف نادلٌ في ممر المقهى، يتطلع أمامه إلى الميدان المقفر. ووقفَت الزوجة الأمريكية تتطلَّع إلى الخارج من النافذة. وهناك، وتحت نافذتها تمامًا، كانت ثمة قطَّة تُقعي تحت مائدةٍ خضراء تقطر بمياه المطر. وكانت القطة تحاول أن تلملم نفسها حتى لا يصيبها رذاذ الماء. قالت المرأة الأمريكية: سأهبط إلى أسفل لأحضِر هذه القُطيطة. فتطوَّع زوجها قائلًا وهو يرقد على الفراش: سأقوم أنا بهذه المهمة. – كلا. سأحضرها أنا بنفسي، تلك القُطيطة المسكينة في الخارج تحاول أن تتقي الأمطار تحت المائدة. وواصل الزوج قراءته وهو راقدٌ يرتكز على زوجٍ من الحشايا في نهاية الفراش. قال: حاذري أن يُصيبك البلل. وهبطَت الزوجة إلى الطابق السفلي، ووقف صاحب الفندق وانحنى لها حين مرت أمام غرفته. كان مكتبه في الطرف الأقصى من الغرفة. كان رجلًا مسنًّا بالغ الطول. قالت الزوجة بالإيطالية: إن المطر يهطل. وكانت معجبةً بصاحب الفندق. – أجل، أجل يا سنيورا. إن الجو سيئٌ للغاية. ووقف خلف مكتبه في الطرف الأقصى من الغرفة المعتمة. كانت الزوجة معجبةً به. معجبة بالطريقة الصارمة الجادة التي يتلقَّى بها أي شكوى من النزلاء، معجبة بهيبته، معجبة بطريقة خدمته لها، معجبة بالطريقة التي كان يشعر بها بمكانته كصاحب الفندق، معجبة بوجهه العجوز الثقيل ويديه الكبيرتين. وفتحَت الباب وهي ممتلئةٌ إعجابًا به ونظرَت إلى الخارج. كان المطر يهطل بشدةٍ. وكان ثمة رجل يرتدي قبعةً من المطاط يعبر الميدان المقفِر متجهًا إلى المقهى. لا بد أن القطة في الناحية اليمنى. وربما تستطيع أن تتجه إليها محتميةً بأفاريز السطح. وإذ كانت تقف في المدخل أحسَّت بمظلةٍ تنفتح إلى جوارها. كانت خادمة غرفتها. وقالت لها بالإيطالية وهي تبتسم: «يجب ألا تبُلَّكِ مياه الأمطار.» لا بد أن صاحب الفندق قد بعث بها خلفها. وسارت على طول الممر المغطَّى بالحصباء والخادمة تمسك بالمظلة فوقها حتى وصلت إلى أسفل نافذة غرفتها. وعثرَت هناك على المائدة، يلتمع سطحها الأخضر مغسولًا بمياه الأمطار، ولكن القطة لم تكن موجودةً تحتها. وغمرَتها فجأةً موجةٌ من خيبة الأمل. وتطلَّعت إليها الخادمة، وقالت بالإيطالية: هل ضاع منك شيء يا سنيورا؟ فقالت الزوجة الأمريكية: لقد كانت هنا قطة. – قطة؟ فقالت بالإيطالية: أجل، القطة. فضحكت الخادمة وقالت: قطة، قطة تحت المطر؟ – أجل، تحت المائدة. أوه، لقد أردتُ أن أحصل عليها. أردت أن أحصل على قُطيطة. واربد وجه الخادمة حين كانت الزوجة تتحدث بالإنجليزية، وقالت: هيا يا سنيورا، لا بد أن نعود إلى الداخل. سوف تُصيبك مياه الأمطار. فقالت الزوجة الأمريكية: أظن ذلك. وعادا مرةً أخرى عبر الممر المغطَّى بالحصباء ودخلا من الباب، وبقيَت الخادمة في الخارج لتُغلق المظلة. وحين مرت الزوجة الأمريكية بغرفة صاحب الفندق انحنى لها الرجل من وراء مكتبه وأحسَّت الزوجة بشيءٍ ضئيلٍ ومُحكَمٍ في داخلها. لقد جعلها صاحب الفندق تشعر بشدة ضآلتها وأهميتها الحقيقية في ذات الوقت. وشعرَت شعورًا وقتيًّا بأهميتها القصوى. وصعدَت السلالم، وفتحَت باب الغرفة. وكان زوجها «جورج» راقدًا على الفراش .. يقرأ. وسألها وهو يضع الكتاب جانبًا: هل حصلتِ على القطة؟ – لقد اختفت؟ فقال وهو يرفع عينيه من القراءة: إني لأعجب أين ذهبت! وجلسَت هي على الفراش إلى جواره. قالت: لقد كنت أرغب جدًّا فيها. لا أعرف لماذا أريدها بهذه الطريقة؟ لقد أردتُ تلك القطيطة المسكينة. لم يكن مناسبًا ترك مثل هذه القطيطة المسكينة هناك تحت المطر. وواصَل «جورج» قراءته. وسارت الزوجة عبر الغرفة وجلسَت أمام التسريحة تتطلع إلى نفسها في مرآة اليد. ودرسَت صورة وجهها الجانبي، الجانب الأيمن أولًا ثم الجانب الأيسر. ثم درست خلفية رأسها ثم عنقها. قالت وهي تنظر مرةً أخرى إلى جانب وجهها: ألا تظن أنه من الأفضل أن أُطيل شعري قليلًا؟ ونظر «جورج» إليها ورأى عنقها من الخلف وقد بدا واضحًا كأنه عنق صبيٍّ: إني أحبُّه هكذا. فقالت: لقد مللتُ ذلك. مللتُ أن أبدو وكأنني صبيٌّ صغير. واعتدل «جورج» في رقدته على الفراش، ولم يكن قد أزاح عنها بصره منذ أن بدأت تتحدث. وقال: إنك تبدين لطيفةً جميلةً رائعة. ووضعَت المرآة على التسريحة وسارت إلى النافذة ونظرَت منها. كان الظلام قد بدأ ينسدل. قالت: أريد أن أُسدل شعري على ظهري مسترسلًا ناعمًا، وأجعل منه ضفيرةً كبيرة أستطيع أن أتحسَّسها، وأريد أن يكون لي قطيطة أُجلسها على حجري وتهر حين أربتُ على ظهرها. فقال «جورج» من على الفراش: ماذا؟ – وأريد أن آكل على مائدةٍ بملاعقي الفضية الخاصة وأريد شموعًا على المائدة. وأريد أن نكون في فصل الربيع، وأريد أن أُنسق شعري أمام مرآة، وأريد قطيطة وأريد بعض الملابس الجديدة. فقال «جورج» وهو يعاود القراءة: أوه، اصمتي وخذي شيئًا فاقرئيه. وكانت زوجته تتطلع من النافذة. وكان الظلام قد لفَّ الآن كلَّ شيء وما زال المطر يتساقط فوق النخيل. قالت: على كل حال، أريد قطة. أريد قطة. أريد قطةً الآن. فإذا لم يكن باستطاعتي أن أُطيل شعري أو أن أحصل على أي متعةٍ أخرى، فباستطاعتي الحصول على قطة. ولم يكن «جورج» يُنصت إليها. كان يقرأ في كتابه. وتطلعت زوجته خارج النافذة حيث بدأ الضوء يسطع على الميدان. ودقَّ أحدهم على الباب. قال «جورج»: ادخل! ورفع عينيه من الكتاب. وعلى عتبة الغرفة كانت الخادمة تقف ممسكةً بقطةٍ كبيرةٍ مصنوعة من البلاستيك وهي تضمها إليها في إحكامٍ وتحملها على صدرها. وقالت: عفوًا يا سيدي، لقد طلب منِّي صاحب الفندق أن أُحضر هذه القطة للسنيورا.
null
https://www.hindawi.org/books/80924807/
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
null
«وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقَدَ هيبتَه كلها حالما توقَّفَت عينُه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالِده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفِخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يَعُد هناك فيلٌ حقيقي، مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي، والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر، اللذين قتلاه من أجلهما.»عبْرَ خمسَ عشرةَ قصةً قصيرة نُبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة «همنجواي» التي تَسبِر أغوارَ النفس، مُستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رَحِم الحياة؛ ففي قصة «الفراشة والدبَّابة» يَدفع شابٌّ مرِحٌ حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة «حاضرة الدنيا» التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أمَّا «قصة أفريقية» فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيلٍ ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل «ديفيد» والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه.
https://www.hindawi.org/books/80924807/3/
التحوُّل
قال الرجل: حسنًا. وماذا نفعل الآن؟ قالت الفتاة: كلا. لا أستطيع. – تريدين أن تقولي إنك لا ترغبين؟ قالت: لا أستطيع. لا أريد أن أقول شيئًا آخر. – بلى. تريدين أن تقولي إنك لا ترغبين. قالت الفتاة: كما تحب. – إن ذلك ليس هو ما أحب. كم أودُّ أن أكون قد فعلتُ ما أحب. قالت الفتاة: لقد فعلت ما تحب لفترةٍ طويلة. كان الوقت مبكرًا، ولم يكن في المقهى إلا البارمان وهذان الاثنان يجلسان معًا إلى مائدة في الركن. كان الصيف في نهايته وكان كلاهما قد لوحَته الشمس فكان مظهرهما مختلفًا عن أهل باريس. وارتدَت الفتاة حُلةً من التويد، وبدا جلدها ذا سمرةٍ ذهبيةٍ ناعمة، وشعرها الأشقر قصيرًا ينبت في جمال بعيدًا عن جبهتها. ونظر الرجل إليها. قال: سوف أقتلها. قالت الفتاة: أرجو ألا تفعل. كانت يداها رقيقتين جدًّا وتطلَّع الرجل إليهما. كانتا نحيلتين سمراوين غايةً في الجمال. – سأفعل. أقسم بالله أن أفعل ذلك. – لن يجعلك ذلك سعيدًا. – ألم يكن بوسعك أن تفعلي شيئًا آخر؟ ألم يكن بوسعك الوقوع في مشكلةٍ مختلفةٍ؟ قالت الفتاة: لا أعتقد ذلك فيما يبدو. ماذا ستفعل بشأن هذا الأمر؟ – لقد قلت لكِ. – لا. أقصد عن جد. قال: لا أعرف. ونظر إلى يديها ولكنه لم يلمس يدها بيده. قال: كلَّا، شكرًا. – هل يُجدي أن أقول لك إنِّي آسفة؟ – كلا. – ولا إذا شرحتُ لك كيف حدث الأمر؟ – أُفضِّل ألا أعرف. – إنِّي أُحبُّك جدًّا. – أجل. وهذا هو ما يُبرهن على ذلك. قالت: إنِّي آسفة .. آسفة إذا كنتَ لا تتفهم الأمر. – أنا فاهمٌ. وهذه هي المشكلة. أنا فاهمٌ. قالت: أنت فاهمٌ. إن ذلك يجعل الأمر أكثر سوءًا بالطبع. قال: بالتأكيد. إني سأفهم طوال الوقت. كل يومٍ وكل ليلة. خصوصًا كل ليلة. لا تشُكِّي في ذلك. قالت: إنِّي آسفة. – لو أنه كان رجلًا … – لا تقل هذا. لن يكون رجلًا. أنت تعرف ذلك. ألا تثق فيَّ؟ قال: هذا غريبٌ. أثق فيك؟ هذا غريبٌ حقًّا. قالت: إني آسفةٌ. هذا كل ما أقوله فيما يبدو، ولكن حين يفهم الواحد منَّا الآخر فلا فائدة من التظاهر بخلاف ذلك. قال: كلا. أعتقد ذلك. – سوف أعود إذا أردتَ ذلك. – لا. لا أريدكِ. ومرَّت برهةٌ لم يقولا فيها شيئًا. سألَت الفتاة: أنت لا تصدق أنِّي أحبك؟ قال الرجل: دعينا من الهراء. – ألا تصدق حقًّا أني أحبك؟ – لماذا لا تبرهنين على ذلك؟ – إنك لم تكن كذلك من قبل. إنك لم تطلب منِّي أبدًا أن أُبرهن على أي شيء. إن هذا أمرٌ غريبٌ مهذَّب. – إنك فتاةٌ غريبة. – أنت لستَ غريبًا. إنك رجلٌ رائع وإن قلبي يتألم أن أذهب وأتركك. – عليكِ أن تذهبي، بالطبع. قالت: أجل. إني مضطَرةٌ لذلك، وأنت تعرف هذا. ولم يقل شيئًا. ونظرَت إليه ومدَّت يدها نحوه مرةً ثانية. كان البارمان يقف في الطرف الأقصى من البار. كان وجهه أبيض وكذلك سترته. كان يعرف الاثنين ويعتقد أنهما زوج من الشباب الوسيم. وقد شاهد أكثر من رجل وامرأة من الشباب الوسيم يفترقان، ثم يقيم كلٌّ منهما علاقةً أخرى ثم يفترقان ثانية. أما النادل فلم يكن يفكِّر في ذلك، بل كان يفكر في حصان. ففي خلال نصف ساعة سيكون بوُسعه أن يُرسل أحدَ الأشخاص إلى الناحية الأخرى من الطريق كيما يرى إذا كان الحصان الذي راهن عليه قد فاز في السباق. سألَت الفتاة: ألا يمكنك أن تكون طيبًا وتدعني أذهب؟ – وماذا تظنين أنني سأفعل؟ ودخل شخصان من الباب وجلسا إلى البار. وتلقَّى البارمان طلبهما قائلًا: أجل يا سيدي. وسألت الفتاة: ألا يمكنك أن تغفر لي إذا علمتَ كيف كان الأمر؟ – كلا. – ألا تعتقد أن ما فعلْنا ومررْنا به يمكن أن يُغيِّر أفكارك؟ قال الشاب بمرارة: «الخطيئة وَحشٌ ذو سحنةٍ مخيفة، ويجب على المرء أن يراه كي يُدرك حقيقته. وحينئذٍ … لا أعرف ماذا ولا كيف … نَقبَله بعدها. إني عاجزٌ عن إتمام المثل.» ولم يستطع أن يتذكر الاقتباس. قالت: لا تقل خطيئة. إن ذلك ليس من الأدب في شيء. قال: انحرافٌ خلُقي. وقال أحد الزبونَين للبارمان: جيمس. إنك تبدو في أحسَن حالٍ. قال البارمان: وأنت أيضًا تبدو في أحسَن حالٍ. قال الزبون الآخر: عزيزي جيمس. لقد زاد وزنك يا جيمس. قال البارمان: إن ذلك فظيعٌ. زيادة وزني. قال الزبون الأول: لا تنسَ أن تُضيف البراندي. قال البارمان: كلَّا يا سيدي. فلتثق بي. ونظر الاثنان الجالسان إلى البار إلى الاثنين الجالسين إلى المائدة، ثم نظرا مرةً أخرى إلى البارمان. كانت جهة البارمان هي الجهة المريحة لهما. قالت الفتاة: أفضِّل ألا تستخدم كلماتٍ كهذه. ليست هناك ضرورةٌ لأن تستخدم كلمةً كهذه. – ماذا تريدينني أن أُسمِّي أمرًا كهذا؟ – لستَ مضطَرًا إلى تسميته. لستَ مضطَرًا إلى وصفه بأي اسم. – إن هذا هو اسمه. قالت: كلا. إننا مجبولون من أشياء كثيرةٍ متنوعة. إنك قد عرفتَ ذلك. لقد استفدتَ منه بما فيه الكفاية. – لستِ مضطَرةً لأن تقولي ذلك ثانيةً. – لأن ذلك يُفسِّر لك الأمر. قال: وهو كذلك. وهو كذلك. – تعني أن الأمر ليس كذلك. أعرف. إنه ليس كذلك. ولكني سأعود. قلت لك إنني سأعود. سوف أعود من فَوري. – كلَّا. لن تعودي. – سأعود. – كلا، لن تعودي. لن تعودي لي. – سترى. قال: أجل. إن هذا هو أسوأ شيء. فبإمكانك أن تعودي. – بالطبع سوف أعود. – اذهبي إذن. – حقًّا؟ لم تكن تصدقه، ولكن صوتها كان سعيدًا. – اذهبي. بدا صوته غريبًا في أذنيه. كان يتطلع إليها، إلى الطريقة الذي يتحرك بها فمها وانحناءة عظام وجنتها، إلى عينيها، وإلى كيفية نمو شعرها على جبهتها وإلى طرف أذنها وإلى عنقها. قالت: كلا. أوه، إنك لطيفٌ جدًّا. إنك شديد اللطف معي. – وحين تعودين قولي لي كل شيء عن الأمر. وبدا صوته غريبًا جدًّا. لم يتعرف عليه. ونظرَت إليه. كان ينتوي شيئًا. سألَت بجدِّيةٍ: أتريدني أن أذهب؟ قال بجدِّيةٍ: أجل. على الفور. كان صوته مختلفًا، وكان فمه شديد الجفاف. قال: الآن. ووقفَت وخرجَت بسرعة، ولم تنظر خلفها إليه. وراقبَها تذهب. ولم يعد يبدو بمظهر الرجل الذي كانه قبل أن يخبرها أن تذهب. ونهض من المائدة، تناوَل ورقتَي الحساب وتوجَّه بهما إلى البار. قال للبارمان: إنني رجلٌ مختلفٌ يا جيمس. إنك ترى أمامك رجلًا مختلفًا تمامًا. قال جيمس: ماذا يا سيدي؟ قال الرجل الأسمر: الخطيئة شيءٌ غريبٌ جدًّا يا جيمس. وتطلع عبر الباب. ورآها تسير في الطريق. وحين نظر إلى الزجاج، رأى أن منظره قد تغيَّر تمامًا بالفعل. وتحرك الرجلان اللذان عند البار كيما يُفسحا له مكانًا. قال جيمس: إنك على حقٍّ تمامًا في ذلك يا سيدي. وتحرك الرجلان أكثر حتى يمكن للشاب أن يجلس براحته. وشاهد الشاب نفسه في المرآة التي خلف البار. قال: لقد قلتُ إني رجلٌ مختلف يا جيمس. وحين نظر إلى المرآة، رأى أن ذلك صحيحٌ تمامًا. قال جيمس: إنك تبدو في أحسن حالٍ يا سيدي. لا بد أنك قضيتَ صيفًا جميلًا جدًّا.
null
https://www.hindawi.org/books/80924807/
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
null
«وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقَدَ هيبتَه كلها حالما توقَّفَت عينُه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالِده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفِخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يَعُد هناك فيلٌ حقيقي، مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي، والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر، اللذين قتلاه من أجلهما.»عبْرَ خمسَ عشرةَ قصةً قصيرة نُبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة «همنجواي» التي تَسبِر أغوارَ النفس، مُستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رَحِم الحياة؛ ففي قصة «الفراشة والدبَّابة» يَدفع شابٌّ مرِحٌ حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة «حاضرة الدنيا» التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أمَّا «قصة أفريقية» فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيلٍ ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل «ديفيد» والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه.
https://www.hindawi.org/books/80924807/4/
المُخيَّم الهندي
كان ثمة قاربٌ آخر مربوطًا إلى ضفة البحيرة. ووقف الهنديان ينتظران. ودلف «نك» ووالده إلى مؤخرة القارب، ودفعه الهنديان، وقفز أحدهما إليه كي يجدِّف. وجلس العم «جورج» في مؤخرة قارب المخيم. ودفع الهندي الشاب قارب المخيم وقفز إليه كي يجدِّف بالعم جورج. وانطلق القاربان في الظلمة. وسمع «نك» ضربات مجداف القارب الآخر على مسافةٍ أمامهم في وسط الضباب. كان الهنديان يُجدفان بضرباتٍ متقطعةٍ سريعة. واستلقى نك على ظهره وذراعُ والده تُطوِّقه. كان الجو باردًا فوق صفحة المياه. وكان الهندي الذي يجدف بهما يبذل قصارى جهده، غير أن القارب الآخر كان يبتعد عنهما رويدًا رويدًا إلى الأمام وسط الضباب. تساءل «نك»: إلى أين أنت ذاهب يا أبي؟ – إلى المخيم الهندي. هناك امرأةٌ هندية اشتدَّ بها المرض. قال «نك»: آه. وعبر الخليج، وجدوا القارب الآخر راسيًا. وكان العم جورج يُدخِّن سيجارًا في الظلمة. وجذب الهندي الشاب القارب فوق الشاطئ. وأعطى العمُّ جورج كلا الهنديين سيجارًا. وساروا مصعدين من الشاطئ خلال مرجٍ بلَّله الندى، مُقتَفِين أثرَ الهندي الشاب الذي كان يحمل قنديلًا. ثم دلفوا إلى الغاب، وساروا في ممرٍّ أفضى بهم إلى طريق قطع الأشجار الذي يتشعب إلى التلال. وكان السير أيسر في طريق قطع الأشجار؛ إذ إن الأخشاب كانت مقطوعةً على جانبَي الطريق. وتوقَّف الهندي الشاب وأطفأ قنديله، ثم غذوا السير جميعًا مرةً ثانية. وبلغوا منعطفًا، وظهر أمامهم كلبٌ ينبح. وتبدَّت لهم أنوار الأكواخ التي يعيش فيها الهنود الذين يعملون في قَطع لحاء الأشجار. واندفع نحوهم المزيد من الكلاب، وهشَّ بها الهنديان مرةً أخرى نحو الأكواخ. وفي أقرب كوخ للطريق كان ثمة نور يلتمع في النافذة. وكانت امرأةٌ عجوز تقف عند مدخل الباب تحمل مصباحًا. وفي الداخل، كانت هناك امرأةٌ هندية شابة ترقد على سريرٍ خشبيٍّ من دورَين. كانت تُجاهد لولادة طفلها طوال يومين، وكانت جميع النسوة العجائز في المعسكر يساعدْنها. أما الرجال فقد ابتعدوا ناحية الطريق وجلسوا يدخِّنون في الظلمة بعيدًا عن الضوضاء التي يُحدثها صراخ المرأة. وكانت تصرخ حين تبِع «نك» والهنديان الوالد والعم جورج إلى داخل الكوخ. كانت المرأة ترقد في اللوح السفلي من السرير، ضخمة الجثة تحت اللحاف. وكان رأسها مائلًا نحو جهةٍ واحدة. وكان زوجها يرقد على اللوح العلوي. كان قد جرح قدمه جرحًا بليغًا بالبلطة منذ عدة أيام. وكان يدخِّن غليونًا، وعبقت الحجرة برائحةٍ كريهة. وأمر والد «نك» بإحضار بعض الماء ووضعه على الموقد. وبينما كان الماء يسخن بادل «نك» الحديث. قال: هذه المرأة على وشك أن تلد. قال نك: أعرف. قال والده: إنك لا تعرف. استمِع لي. إن ما تمر به الآن هو حالة الطَّلق. إن الطفل يريد أن يُولَد وهي تريد له أن يُولَد. إن هذا هو ما يحدث حين تصرخ. قال نك: فهمت. وحينئذٍ صرخَت المرأة. تساءل «نك»: آه يا أبي. ألا يمكنك أن تُعطيها شيئًا يجعلها تكفُّ عن الصراخ؟ قال والده: كلا. ليس لديَّ أي مخدرٍ. ولكن صرخاتها ليست بذات أهمية. إني لا أسمعها، إنها ليست بذات أهمية. واستدار الزوج في مرقده باللوح الأعلى تجاه الحائط. وأشارت المرأة الموجودة بالمطبخ للطبيب بأن الماء قد سخن. وذهب والد «نك» إلى المطبخ وصبَّ حوالي نصف الماء من الغلَّاية الكبيرة إلى طستٍ صغيرٍ. ووضع في الماء الباقي بالغلاية عدة أشياء أخرجها من صُرة معه. قال: يجب ترْك هذه الأشياء حتى تغلي. ثم طفِق يحكُّ يديه في طست الماء الساخن بقطعة صابون أحضرها من المخيم. وراقَب «نك» يدَي والده تحكَّان بعضهما بقطعة الصابون. وتكلَّم والده وهو يغسل يده بكل دقةٍ وعنايةٍ: أتعرف يا نك … من المفروض أن يُولَد الأطفال ورأسهم في المقدمة. ولكن لا يحدث هذا أحيانًا. وحين يكون الأمر خلاف العادة، فإنهم يُسببون المتاعب لكل شخص، ربما تعيَّن عليَّ أن أُجري عمليةً لهذه المرأة، سنعرف بعد هنيهة. وحين رضي عن نظافة يدَيه، دلف إلى الداخل وتهيَّأ للعمل. قال: اكشف هذا الغطاء يا جورج، أُفضِّل ألا ألمسه بيدي. وبعد ذلك، حين بدأ يُجري العملية، أمسك العم جورج وثلاثُ رجالٍ من الهنود بالمرأة حتى لا تتحرك. وقد عضَّت العم جورج في ذراعه. وقال العم جورج: «عليكِ اللعنة أيتها الكلبة!» وضحك الهندي الشاب الذي جدَّف قارب العم جورج لذلك الحادث. وحمل «نك» الطست لوالده. واستغرق كل ذلك وقتًا طويلًا. وجذب الوالد الطفل إلى أعلى ولطَمه كيما يجعله يتنفس، ثم ناوَله للمرأة العجوز. قال: انظر يا «نك»، إنه ولدٌ. ما رأيك وأنت تعمل الآن مساعِدًا للطبيب؟ قال نك: حسَن. وكان يُشيح ببصره كيما لا يرى ما كان والده يقوم به. قال الوالد: «هكذا، هذا يُنهي الأمر.» ووضَع شيئًا في الطست. ولم ينظر «نك» إلى ذلك الشيء. قال والده: الآن عليَّ أن أخيط بضع غرزات. لك أن ترى هذا يا «نك» أو لا تراه، حسبما تريد. سوف أخيط الجرح الذي فتحتُه. ولم ينظر «نك». كان حبُّ الاستطلاع قد فارَقه منذ مدةٍ طويلة. وفرغ والده من عمله ونهض واقفًا. ونهض العم جورج والهنود الثلاثة. وأخرج «نك» الطست إلى المطبخ. وتطلَّع العم جورج إلى ذراعه، وابتسم الهندي الشاب وهو يتذكر ما حدث. وقال الطبيب: سوف أضع لك مُطهرًا على الجرح يا جورج. انحنى فوق المرأة الهندية. كانت هادئةً الآن، وقد انغلقَت عيناها. كان يبدو عليها الشحوب الشديد. ولم تكن تعرف ماذا حدث للطفل أو أي شيء. قال الطبيب وهو ينهض: سوف أحضر مرةً أخرى في الصباح. يجب أن تكون ممرضة مستشفى «سان إجناس» هنا عند الظهيرة، وسوف تُحضر معها كل ما نحتاج. كان يشعر بالغبطة وبالرغبة في الكلام، كشعور لاعبي كرة القدم في غرفة الملابس بعد المباراة. قال: «هذا خبرٌ جدير بالصحيفة الطبية يا جورج. طبيبٌ يُجري عمليةً قيصرية بمطواة، ويخيط الجرح بخيوط أمعاء رفيعة طولها تسعة أقدام.» وكان العم جورج يقف مستنِدًا إلى الحائط وهو يتطلع إلى جرحه. قال: «أوه، إنك رجلٌ عظيم، وهو كذلك.» قال الطبيب: يجب أن نُلقي نظرةً على الأب الفخور. إن الآباء عادةً هم أكثر من يعانون في مثل هذه الظروف. يجب أن أعترف بأنه قد تحمَّل كل شيء في هدوء. وكشفَت الملاءة عن رأس الأب الهندي. وعادت إليه يده مبللة. وصعد على حافة اللوح الأسفل من السرير وهو يحمل المصباح في إحدى يديه، ونظر أمامه. كان الهندي يرقد ووجهه إلى الحائط. كان عنقه مقطوعًا من الأذن للأذن. وسال الدم منه مكوِّنًا بحيرةً عند جسده الذي أغرق مضجعه. وكان رأسه مرتكزًا على ذراعه اليسرى. وكان موسى الحلاقة يرقد مفتوحًا وسط الملاءة وحده إلى أعلى. قال الطبيب: خذ «نك» خارج الكوخ يا جورج. ولم تكن ثمة حاجة إلى ذلك. كان «نك»، وقد وقف عند باب الكوخ، يرى بوضوحٍ اللوح الأعلى من السرير حين أمال والده رأس الهندي جانبًا والمصباح في يده. كان الصباح قد بدأ يطلع حين سار «نك» ووالده عائدَين على طول طريق قطع الأشجار في طريقهما إلى البحيرة. قال والده وقد راح عنه كل ما انتابه من نشوةٍ عقب نجاح العملية: «إنني جد آسفٍ لإحضارك معي يا «نك». لقد كان موقفًا صعبًا، لم يكن من الواجب أن أجعلك تشهده.» وتساءل «نك»: هل تمرُّ النساء دائمًا بمثل هذه المحنة حين يلدْن؟ – كلا. لقد كانت هذه حالةً استثنائية للغاية. – ولماذا قتَل الزوج نفسَه يا أبي؟! – لا أدري يا «نك». أظن أنه لم يتحمل هذا الموقف. – هل يقتُل كثيرٌ من الرجال أنفسهم يا أبي؟ – ليس كثيرًا جدًّا يا «نك». – وماذا عن النساء؟ – نادرًا. – ألا يقتلْن أنفسهن أبدًا؟ – أوه، أجل. أحيانًا. – أبي؟ – ماذا يا «نك»؟ – أين ذهب العم جورج؟ – إنه سيعود سليمًا مُعافى. – هل الموت صعب يا أبي؟ – كلا. أعتقد أنه سهلٌ جدًّا يا «نك». إن الأمر يختلف باختلاف الظروف. وجلسا في القارب، «نك» في المؤخرة، ووالده يقوم بالتجديف. وكانت الشمس تبزغ من وراء التلال. وقفزَت سمكة فأحدثَت دائرة في المياه. ومرر «نك» يده في مياه البحيرة، وشعر بها دافئةً في برودة الصباح الحادة. وفي خضمِّ الصباح الباكر فوق البحيرة، إذ نك جالس في مؤخرة القارب ووالده يجدف به، شعر شعورًا أكيدًا بأنه لن يموت أبدًا.
null
https://www.hindawi.org/books/80924807/
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
null
«وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقَدَ هيبتَه كلها حالما توقَّفَت عينُه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالِده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفِخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يَعُد هناك فيلٌ حقيقي، مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي، والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر، اللذين قتلاه من أجلهما.»عبْرَ خمسَ عشرةَ قصةً قصيرة نُبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة «همنجواي» التي تَسبِر أغوارَ النفس، مُستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رَحِم الحياة؛ ففي قصة «الفراشة والدبَّابة» يَدفع شابٌّ مرِحٌ حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة «حاضرة الدنيا» التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أمَّا «قصة أفريقية» فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيلٍ ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل «ديفيد» والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه.
https://www.hindawi.org/books/80924807/5/
الطبيب وزوجة الطبيب
جاء «ديك بولتون» من المعسكر الهندي كيما يقطع كُتل الخشب لوالد «نك». وأحضر معه ابنه «إدي» وهنديًّا آخر اسمه «بيلي تيبشو». جاءوا عبر البوابة الخلفية من الغابة. كان «إدي» يحمل منشار القطع العريض، يهتز فوق كتفه ويُصدر صوتًا موسيقيًّا حينما يسير. وحمل «بيلي تيبشو» خُطَّافَين معقوفَين كبيرَين. وكان مع ديك ثلاث بلطاتٍ تحت ذراعه. استدار وأغلق البوابة. وسار الآخران في المقدمة تجاه شاطئ البحيرة حيث كانت كُتل الخشب مطمورةً في الرمال. كانت كُتل الخشب قد تسربَت من الحاجز الكبير حيث تتجمَّع كُتل الأخشاب كلها إلى أن تجرَّها الباخرة «ماجيك» إلى الطاحونة. ولكن تلك الكتل تسربَت إلى الشاطئ، وإذا لم يحدث شيء سيحضر ملاحو الباخرة إن عاجلًا أو آجلًا في قارب ويشاهدون الأخشاب المتسربة فيقومون بدفع سيخٍ حديديٍّ ذي حلقة في نهاية كل كتلةٍ خشبيةٍ ويجرونها إلى البحيرة حيث يصنعون منها حاجزًا جديدًا. ولكن المشرفين على الأخشاب قد لا يهتمون بها؛ لأن كتلًا قليلة من الخشب لا تساوي أجر البحَّارة الذين سيجمعونها. وإذا لم يحضر أحدٌ لجمْعها فهي تبقى حتى تمتلئ بالماء وتتعفن على الشاطئ. وكان والد «نك» يفترض أن هذا هو الذي يحدث، وقد استأجر الهنود كي يحضروا من المعسكر ويقطعوا الكتل الخشبية بالمنشار العريض، ثم يشقُّوها بالوتد حتى تصبح قِطعًا خشبية تصلح لمدفأة المنزل. وسار «ديك بولتون» عبر الكوخ إلى البحيرة. كانت هناك أربع كتل ضخمة من خشب الزان. وعلَّق إدي المنشار من قبضته في فرع شجرة. ووضع ديك البلطات الثلاث على المرسى الصغير. كان ديك مخلَّطًا، وكان كثير من المزارعين فيما حول البحيرة يعتقدون أنه رجلٌ أبيض. كان كسولًا جدًّا، ولكنه يبدي همةً في العمل حالما يبدأ. تناول حفنة من التبغ من جيبه، وأخذ يمضغها، وتكلَّم بلغة «الأوجيبواي» الهندية إلى إدي وبيلي تيبشو. وغرز أطراف الخطافَين المعقوفَين في إحدى الكتل الخشبية وحرَّكاها كيما يستخرجاها من الرمال. كانا يضعان بكل ثقلهما على قصبتَي الخطافَين. وتحركَت الكتلة الخشبية بين الرمال. واستدار ديك بولتون إلى والد «نك». قال: حسنًا يا دوك. لقد سرقتَ مجموعةً جيدة من الأخشاب. قال الطبيب: لا تكلمني بهذه الطريقة. إنها قِطعٌ جرفها التيار. كان إدي وبيلي قد حرَّكا كتلة الخشب من الرمال المبتلة ودحرجاها ناحية الماء. وصاح ديك بولتون: ضعاها جيدًا في المياه. وتساءل الطبيب: لماذا تفعل ذلك؟ قال ديك: كيما أغسلها. أغسلها من الرمال من أجل المنشار. وأريد أن أعرف من هو صاحبها. وأصبحت كتلة الخشب في مياه البحيرة. وانحنى إدي وبيلي تيبشو على خطافيهما وهما ينضحان عرقًا. وركع ديك على الرمال وتطلَّع إلى علامة المطرقة في الخشب في نهاية الكتلة. قال وهو يقف وينفض الرمال من ركبة بنطاله: إنها تخصُّ شركة «هوايت آند ماكنللي». وشعر الطبيب بالضيق. قال باقتضابٍ: إذن يحسن بك ألا تقوم بنشرها. قال ديك: لا تغضب يا دوك. لا تغضب. لا يهمني ممن تكون قد سرقتها. هذا لا يعنيني. قال الطبيب وقد احمرَّ وجهه: إذا كنت تعتقد أن كتل الخشب مسروقةٌ فاتركها وخذ أدواتك وعدْ إلى المعسكر. قال ديك: «لا تترك العمل في منتصفه.» وبصق مضغة تبغٍ فوق كتلة الخشب، فانزلقَت فوقعت متفسخة في المياه. «أنت تعرف مثلي تمامًا أنها مسروقةٌ.» – حسنًا. إذا كنت تظن أن الأخشاب مسروقة، خذ متاعك واغرب عن هنا. – هيه يا دوك … – خذ متاعك واغرب عن هنا. – اسمع يا دوك. – إذا ناديتَني ثانيةً باسم دوك فسوف أُحطِّم أسنانك. – أوه، كلا، إنك لن تفعل ذلك يا دوك. وتطلع ديك بولتون إلى الطبيب. كان ديك رجلًا ضخمًا. وكان يعرف أنه ضخمٌ. كان يحب الدخول في معارك. كان سعيدًا. وانحنى إدي وبيلي تيبشو على خطافَيهما وتطلعا إلى الطبيب. ومضغ الطبيب طرف لحيته تحت شفته ونظر إلى ديك بولتون. ثم استدار وسار فوق التل تجاه كوخه. كان بوسعهم أن يروا من منظر ظهره كيف هو غاضبٌ. وشاهَده الجميع يصعَّد في التل ويدخل إلى الكوخ. وقال ديك شيئًا بلغة الأوجيبواي. وضحك إدي ولكن بيلي تيبشو بدا جادًّا للغاية. لم يكن يعرف الإنجليزية ولكنه كان ينضح بالعرق طوال فترة الشجار. كان سمينًا ذا شاربٍ قليل الشعر مثل الصينيين. والْتقط الخطَّافَين. وحمل ديك البلطات وأنزل إدي المنشار من على فرع الشجرة. وانطلقوا سائرين عبر الكوخ خارجين من البوابة الخلفية إلى الغابة. وترك ديك البوابة مفتوحةً. وعاد بيلي تيبشو وأغلقها ثم اختفوا داخل الغابة. وفي الكوخ كان الطبيب جالسًا على سريره في غرفته، ورأى كومةً من المجلات الطبية على الأرض بجوار المكتب. كانت ما تزال في أغلفتها لم يفضَّها أحد. وضايقه ذلك. وتساءلَت زوجة الطبيب من الحجرة التي كانت ترقد فيها وقد أسدلَت ستائرها: ألن تعود إلى العمل يا عزيزي؟ – كلا. – أحدَث شيء؟ – تشاجرتُ مع ديك بولتون. قالت الزوجة: أوه. أرجو ألا تكون قد فقدت أعصابك يا هنري. قال الطبيب: كلا. قالت الزوجة: «تذكر .. إن من يتحكَّم في أعصابه أعظم ممن يغزو بلدًا.» كانت من أتباع كنيسة السينتولوجي. وكان الكتاب المقدس، ونسختها من مجلة العلم والصحة، ومجلة «كوارترلي» على المنضدة بجوار سريرها في الغرفة المظلمة. ولم يرُدَّ زوجها. كان يجلس على فِراشه الآن، يُنظف بندقية. وجذب خزان البندقية المليء بالطلقات الصفراء الثقيلة وأخرجها. وتناثرَت على الفراش. ونادت زوجته: هنري. وصمتَت برهةً .. هنري. قال الطبيب: نعم. – إنك لم تقل لبولتون شيئًا يُسبب غضبه. أفعلتَ ذلك؟ قال الطبيب: كلا. – لماذا تشاجرتما يا عزيزي؟ – لا شيء. – قل لي يا هنري. أرجو ألا تُخفي عنِّي شيئًا. لماذا تشاجرتما؟ – حسنًا. إن ديك بولتون مدينٌ لي بالكثير من المال لعلاجي زوجته من الالتهاب الرئوي. وأظن أنه أراد افتعال شجارٍ معي حتى لا يُضطَر إلى العمل مقابل ما يدين لي به. وصمتَت زوجته. ومسح الطبيب بندقيته بعناية بخرقة من القماش. ووضع الطلقات ثانيةً في خزان البندقية. وجلس والبندقية على ركبتيه. كان شغوفًا جدًّا بها. وسمع صوت زوجته آتيًا من الغرفة المظلمة: عزيزي. إني لا أظن .. لا أظن أحدًا بقادرٍ على أن يفعل شيئًا كهذا. قال الطبيب: لا تظنين؟ – كلا. لا أستطيع أن أظن أن أي شخصٍ بوسعه أن يفعل ذلك عن قصد. ونهض الطبيب ووضع البندقية في ركنٍ خلف دولاب الملابس. قالت زوجته: هل ستخرج يا عزيزي؟ قال الطبيب: أظن أنني سأذهب لأتمشى قليلًا. قالت زوجته: إذا رأيت «نك» يا عزيزي، هل لك أن تخبره أن والدته تريد أن تراه. وخرج الطبيب إلى شرفة المنزل. وانغلق الباب الأمامي وراءه بعنفٍ. وسمع زوجته تشهق حين انغلق الباب. قال عبر نافذتها المغطاة بالستائر: آسف. قالت: لا عليك يا عزيزي. وسار في الجو الحار خارجًا من البوابة على طول الممر إلى غابة أشجار الشوكران. كان الجو رطيبًا في الغابة حتى في هذا اليوم الحار. ووجد «نك» جالسًا مُسنِدًا ظهره إلى شجرة وهو يقرأ. قال الطبيب: والدتك تريدك أن تذهب وتراها. قال «نك»: أريد أن أذهب معك. وتطلَّع والده إليه. قال والده: حسنًا. تعالَ إذن. أعطني الكتاب. سأضعه في جيبي. قال «نك»: إني أعرف مكان السناجب السوداء يا أبي. قال والده: حسنًا. هيَّا بنا إلى هناك.
null
https://www.hindawi.org/books/80924807/
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
null
«وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقَدَ هيبتَه كلها حالما توقَّفَت عينُه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالِده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفِخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يَعُد هناك فيلٌ حقيقي، مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي، والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر، اللذين قتلاه من أجلهما.»عبْرَ خمسَ عشرةَ قصةً قصيرة نُبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة «همنجواي» التي تَسبِر أغوارَ النفس، مُستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رَحِم الحياة؛ ففي قصة «الفراشة والدبَّابة» يَدفع شابٌّ مرِحٌ حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة «حاضرة الدنيا» التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أمَّا «قصة أفريقية» فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيلٍ ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل «ديفيد» والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه.
https://www.hindawi.org/books/80924807/6/
حاضرة الدنيا
تزخر مدريد بفتيانٍ يحملون اسم «باكو»، وهو تصغير اسم «فرانسيسكو». وثمة مزحة إسبانية تحكي أن أبًا نزل في مدريد ونشر إعلانًا في الأعمدة الخاصة بجريدة «الليبرال» يقول: «إلى باكو، قابلني في فندق مونتانا ظهر يوم الثلاثاء. غفرتُ لك كل شيء.» وبعدها، تطلَّب الأمر استدعاء فرقة من قوات الشرطة لتفريق الثمانمائة شاب الذين حضروا استجابةً للإعلان. أما «باكو» بطل قصتنا هذه، الذي يعمل ساقيًا في خان «اللواركا»، فلم يكن له أبٌ ليغفر له، كما أنه لم يرتكب ما يغفره له الأب. له أختان تكبرانه سِنًّا، تعمل كلتاهما خادمةً بالخان، وقد عثرتا على هذا العمل بفضل إحدى خادمات الخان السابقات التي أتت من نفس بلدة الأختَين، وأثبتَت جدارتها وأمانتها فأكسبَت بذلك بلدتها وأهل بلدتها سمعةً طيبة. وقد دفعَت الأختان ثمن تذكرة السفر لشقيقهما إلى مدريد، ومهدَتا له سبيل العمل ساقيًا تحت التمرين. كان «باكو» من قرية من أعمال مقاطعة «إكستريمادورا»، تسودها أحوال معيشةٍ بدائية للغاية، ومنها نُدرة الطعام، والجهلُ بوسائل الراحة الحديثة، وكان العمل فيها شاقًّا منذ بدأ يعي ما حوله من أشياء. كان فتًى حسَن البنية، ذا شعرٍ فاحم السواد متموجٍ إلى حدٍّ ما، وبشرة تحسده عليها أختاه، وابتسامة دائمة صافية. كان نشيطًا يؤدي عمله بمهارة، ودودًا تجاه أختيه اللتَين تتسمان بمظاهر الجمال والصراحة، وقد أحبَّ مدريد التي بدَت له كعادته مكانًا قصيَّ المنال. وأحب عمله الذي بدا له غايةً في الجمال والرومانسية، وهو يُباشره تحت الأضواء البرَّاقة في ملابسه البيضاء الخاصة بالسهرة، والطعام الوفير في المطبخ. كان هناك ما يقرب من ثمانية نزلاء إلى اثني عشر نزيلًا قد اعتادوا الإقامة في الخان والأكلَ في صالة الطعام، ولكن «باكو» — وهو أصغر ثلاثة سُقاةٍ يخدمون على الموائد — لم يكن يشعر شعورًا حقيقيًّا بأحدٍ من الموجودين سوى مُصارِعي الثيران. وكان عددٌ من مُصارِعي الثيران من الدرجة الثانية يعيشون في ذلك الخان؛ لأن موقعه في «شارع خيرونيمو» كان مُناسبًا، والطعام فيه ممتازًا، وأجرُ المبيت والأكل رخيصًا. ومن المفيد لمُصارع الثيران الحفاظ على المَظاهر، إذا لم يكن مَظهر الثراء فليكن مظهر الاحترام على الأقل؛ لأنه في إسبانيا تعلو قيمة النسق والهيبة على قيمة الشجاعة في نظر الناس، ولذلك كان المصارعون ينزلون في «اللواركا» حتى ينتهي آخر قرش يملكونه. وليس هناك ما يثبت أن أي مصارع للثيران قد ترك «اللواركا» إلى أي خان أفضل أو أكثر منه بذخًا؛ لأنه لا يمكن لمصارع ثيران من الدرجة الثانية أن يرتقي إلى الدرجة الأولى، أما النزول إلى مستوى أقل من «اللواركا» فكان مألوفًا كثيرَ الوقوع، فقد كان بوُسع أي امرئ — ما دام يعمل في أي شيء كان — أن ينزل في «اللواركا». ولم تكن فاتورة الحساب تُقدَّم إلى النزيل ما لم يطلبها، إلى أن تُدرك مديرة الخان أن الحالة ميئوسٌ منها. في ذلك الوقت، كان بالخان ثلاثة مصارعين، واثنان من فرسان المصارعة البارعين، وراشق سهامٍ ممتاز. وكان «اللواركا» مكانًا باذخًا بالنسبة لفرسان المصارعة وراشقي السهام الوافدين من «إشبيلية» يبحثون عن سكنٍ مع أُسَرهم خلال فصل الربيع، إلا أن أجرهم كان كبيرًا، ولهم عملٌ ثابت مع مصارعين مثقلين بعقود عملٍ كثيرة خلال الموسم القادم. ولا شك أن دخْل كلٍّ من هؤلاء الثلاثة «الملازمين» سيفوق دخْل أيٍّ من المصارعين الثلاثة الآخرين. كان مصارعٌ من المصارعين الثلاثة مريضًا ويحاول إخفاء مرضه، والآخر قد ولَّت أيام شهرته القصيرة ككل شيء مستحدَث، وكان ثالثهم جبانًا. وكان الجبان شجاعًا يومًا ما إلى درجةٍ غير عاديةٍ وماهرًا للغاية، إلى أن أصابه قرن ثورٍ قاسٍ عنيف بجرح في أسفل بطنه في بداية موسمه الأول كمصارع كامل الأهلية، وكان لا يزال عالقًا به بعض عاداته التي تعود إلى أيام نجاحه. كان مرِحًا إلى حدِّ التطرف، يضحك دومًا بسببٍ وبلا سبب. وكان في أيام نجاحه مُدمنًا على تدبير المقالب لأصدقائه، ولكنه ترك تلك العادة الآن، فمن المؤكد أنه لم يعد يشعر بمَيل إليها. وكان هذا المصارع ذا وجهٍ ذكيٍّ صريح، وكانت تصرفاته يشوبها شيء من الادعاء. وكان المصارع المريض حريصًا على إخفاء ما يدل على مرضه، ويحرص على أن يتذوَّق كل صنفٍ من أصناف الطعام التي تُقدَّم على المائدة. وكانت لديه مجموعةٌ كبيرة من المناديل يغسلها ويكويها بنفسه في حجرته. وقد بدأ أخيرًا في بيع حلل المصارعة التي يحوزها، فباع واحدةً منها بثمنٍ بخس قبل عيد الميلاد، وثانيةً في الأسبوع الأول من أبريل. كانت حللًا باذخة، طالما اعتنى بها. وكانت لديه واحدة أخرى باقية. وقبل أن يُصيبه المرض، كان عمله يُبشِّر بالخير كمصارع، حتى ولو من ناحية الإثارة. ورغم أنه لا يعرف القراءة، فقد كان يحتفظ بقصاصات صحفٍ تقول عنه أنه خلال ظهوره لأول مرةٍ في مدريد كان أحسن من المصارع الشهير «بلمونتي». كان يتناول طعامه وحيدًا على مائدةٍ صغيرة، ولا يكاد يرفع عينيه إلى ما أمامه. وكان المصارع الذي كانت طريقته حدثًا — يومًا ما — قصيرًا جدًّا، أسمر اللون، بالغ الرزانة. وكان يتناول طعامه أيضًا على مائدةٍ منفصلة، ونادرًا ما يبتسم، ولا يضحك أبدًا. كان من «بلد الوليد» حيث يسود الناس الجد. وكان مصارعًا ماهرًا، غير أن طريقته قد أصبحَت قديمة حتى قبل أن ينجح في اجتذاب حبِّ الجمهور عن طريق مزاياه من الشجاعة والقدرة والرصانة، ولم يعد وجود اسمه في الإعلانات الآن يجتذب أيَّ امرئ إلى حلبة المصارعة. وكان الشيء الجديد فيه أنه قصيرٌ جدًّا حتى إنه لا يكاد يرى ما وراء كاهل الثور. غير أنه كان هناك عددٌ آخر من المصارعين قصار القامة، ولم ينجح هو في فرض نفسه على مزاج الجمهور. أما فارسا المصارعة، فكان أحدهما نحيفًا ذا وجهٍ كوجه الصقر، رمادي الشعر، خفيف البنية، ذا ذراعين وساقين في صلابة الحديد، يرتدي أحذية رعاة، ويشرب حتى الثمالة كل مساء، مُحدقًا في كل امرأةٍ في الخان في وجد وهيام. أما الآخر فكان ضخمًا، أسمر الوجه، وسيم الشكل، ذا شعرٍ أسود كالهنود ويدَين كبيرتَين. كان كلٌّ منهما فارس مصارعة عظيمًا، رغم ما قيل عن الأول من فقدانه الكثير من قدرته بسبب الشراب والتبذل، وما قيل عن الثاني أنه صعب المراس ميَّالٌ إلى الشجار، حتى لا يكاد يستمر في العمل مع أي مصارعٍ أكثر من فصلٍ واحد في الموسم كله. وكان راشق السهام رجلًا في أواسط العمر، سنجابي اللون، سريع الحركة رغم تقدمه في العمر، وكان يبدو إذ يجلس إلى المائدة رجل أعمال على شيء من يُسر الحال. وكانت قدماه لا تزالان صالحتَين للعمل في هذا الموسم، وكان من الذكاء والخبرة بمكانٍ حتى إن باستطاعته أن يعمل بانتظامٍ حين تذهب السنون بصلابتهما. ولن يكون ثمة فرق حين تذهب سرعة قدميه عن الآن سوى أنه سيكون خائفًا على الدوام، بينما هو الآن هادئٌ واثقٌ من نفسه في الحلبة وفي خارجها. وفي هذه الليلة، كان الجميع قد غادروا غرفة الطعام ما عدا الفارس ذا وجه الصقر الذي يُفرط في الشراب، ودلال الساعات ذا الوجه الذي ينمُّ عن مكان نشأته، والذي يعمل متنقِّلًا في مهرجانات إسبانيا وأعيادها، وكان يفرط في الشراب هو الآخر، وقسَّين من جليقية جلسا إلى مائدةٍ في الزاوية يشربان في سَعة، إن لم يكن في إفراط. وفي ذلك الزمان، كان النبيذ داخلًا في حساب الإقامة في «اللواركا». وكان الساقيان قد جلبا لتوِّهما زجاجاتٍ جديدةً من «الفالدبينياس» إلى مائدة الدلال، ثم إلى مائدة الفارس، وأخيرًا إلى مائدة القسَّين. وقف السُّقاة الثلاثة في نهاية الحجرة، وكانت القاعدة المتبَعة في ذلك الخان أن يبقوا في الخدمة حتى ينهض الزبائن من الموائد التي تدخل خدمتها في نطاق عمل كلٍّ منهم، غير أن ذلك الذي كان يقوم على مائدة القسين كان مرتبطًا بموعدٍ لحضور اجتماع نقابة «الفوضويين»، ووافق «باكو» على أن يحلَّ محله في خدمة تلك المائدة. وفي الطابق العلوي، كان المصارع المريض يرقد وحيدًا على فراشه ووجهه إلى أسفل. وجلس المصارع الذي لم يعد حدَثًا ينظر من النافذة مستعدًّا للخروج إلى المقهى، بينما كانت أخت «باكو» الكبرى في حجرة المصارع الثالث الجبان، وكان يحاول إقناعها بالقيام بشيء ترفضه وهي تضحك. كان يقول لها: «هيا أيتها المتوحشة الصغيرة.» وقالت الأخت: كلا، لماذا أفعل ذلك؟ – من أجلي. – لقد أكلتَ وتريد الآن أن تحلِّي بي. – مرة واحدة، ما الضرر في ذلك؟ – دعني، قلت لك دعني. – إنه أمرٌ بسيطٌ للغاية. – قلت لك دعني. وفي أسفل، في حجرة الطعام، قال الساقي الطويل الذي فات موعد انتهائه من العمل: «انظر إلى هذه الخنازير السوداء وهي تشرب.» فقال الساقي الثاني: ليس هكذا يصحُّ الحديث. إنهم زبائن لُطاف لا يُفرطون في الشراب. فقال الطويل: هذه طريقةٌ حسنة للحديث بالنسبة لي، فهنا تُوجَد لعنتا إسبانيا الاثنتان: المصارعون والقسس. وقال الثاني: ولكن ليس الموضوع موضوع مصارعٍ معين أو قسٍّ معين بالذات. فقال الساقي الطويل: أبدًا لا يمكنك أن تهاجم الطبقة إلا عن طريق الفرد. من الضروري أن تقتل المصارعين الأفراد والقسس الأفراد جميعهم، وعندئذٍ لن يُوجَد أحد منهم. وقال الساقي الآخر: وفِّرْ هذا إلى حين الاجتماع. قال الساقي الطويل: انظر إلى وحشية مدريد، الساعة الآن الحادية عشرة والنصف، ولا يزال هؤلاء يعبون الشراب. فقال الساقي الآخر: إنهم لم يبدءوا الأكل إلا في العاشرة، وكما تعرف .. هناك أصنافٌ كثيرة من الطعام، وهذا النبيذ رخيص الثمن، وقد دفعوا ثمنه. إنه ليس شديد المفعول. وتساءل الساقي الطويل: كيف يمكن أن ينجح تضامُنٌ للعمال وهناك أغنياء مثلك! فقال الساقي الآخر الذي كان يناهز الخمسين: لقد عملتُ طوال عمري، ويجب عليَّ أن أعمل ما تبقَّى لي من العمر. إني لا أشكو من العمل، فالعمل هو الشيء الطبيعي. – أجل، ولكن الافتقار إلى العمل يقتل المرء. فقال الساقي الآخر: لقد عملتَ على الدوام. اذهب إلى اجتماعك، فلا ضرورة هناك لبقائك. فقال الساقي الطويل: إنك زميلٌ طيِّب، ولكنك تفتقر إلى الإيمان بعقيدة. فقال الساقي العجوز: من الأفضل الافتقار إلى ذلك عن الافتقار إلى العمل. اذهب إلى اجتماعك. ولم يقل «باكو» شيئًا، بل إنه لم يكن يفهم السياسة، غير أنه كان يسرُّه دائمًا أن يستمع إلى الساقي الطويل وهو يتحدث عن ضرورة قتْل جميع القسس ورجال الشرطة. كان الساقي الطويل يُمثِّل له رمز الثورة، والثورة أيضًا فكرةٌ رومانسية، وكان هو نفسه يرغب في أن يكون كاثوليكيًّا صالحًا ثائرًا، وأن يكون لديه عملٌ منتظم مثل هذا، على شرْط أن يكون مصارعًا للثيران في نفس الوقت. قال باكو: اذهب إلى الاجتماع يا «إجناثيو»، سوف أتولى عنك عملك. فقال الساقي العجوز: سنتولى عنك نحن الاثنان. فقال باكو: يكفي واحدٌ فقط، اذهب إلى الاجتماع. فقال الساقي الطويل: سأذهب إذن، وشكرًا. وفي هذا الوقت، في الطابق الأعلى، كانت أخت باكو قد نجحَت في الإفلات من قبضة مصارع الثيران في مهارةٍ تشبه مهارة المصارعين في الإفلات من طَوق خصومهم، وقالت في غضبٍ هذه المرة: هذه سمة الناس الجائعين. مصارع ثيرانٍ فاشل، مُثقَل بالخوف. إذا كان لديك الكثير من الجرأة، استعملها في حلبة المصارعة. – هذه طريقة العاهرات في الحديث. – العاهرة أيضًا امرأة. ولكني لست بعاهرة. – ستكونينها. – لن يكون ذلك على يدي. فقال المصارع: اتركيني وحدي. وكان قد شعر الآن بعد أن صدَّته الفتاة ورغبَت عنه بجبنه وخوفه العاريَين يعودان إليه. فقالت الأخت: أتركك؟ ومن لم يتركك؟ ألا تريدني أن أُرتب الفراش؟ إنِّي أتقاضى أجرًا على ذلك. قال المصارع وقد تغضَّن وجهه العريض الوسيم في تجهُّمٍ هو أشبه بالبكاء: اتركيني أيتها العاهرة، أيتها العاهرة الصغيرة القذرة. فقالت إذ هي تغلق الباب خلفها: أيها المصارع، يا مصارعي! وفي داخل الحجرة، جلس المصارع على الفراش، ولا يزال يعلو وجهَه ذلك التجهُّم الذي كان يحيله في الحلبة إلى ابتسامٍ دائمٍ يخيف النظارة الأماميين ممن يدركون حقيقة ما يشاهدون. وكان يردد لنفسه بصوتٍ مسموع: «وهذا … وهذا … وهذا.» كان بوسعه أن يتذكر أيام نجاحه، ولم يكن قد مضى عليها سوى ثلاث سنوات. كان بوسعه أن يتذكر حُلة المصارعة الثقيلة الموشَّاة بالذهب على كتفيه، في ذلك الأصيل القائظ من شهر مايو، حين كان صوته في الحلبة يختلف عن صوته إذ هو يجلس في المقهى، وكيف كان يصوِّب النصل المشرَع الطرف المرهف إلى ذلك المكان الذي يسوده الغبار في أعلى كتف الثور، على كتلة العضلات السوداء ذات الزغب فوق القرنَين العريضَين مقوضي الأشجار، ذوي الطرفَين المتشققَين اللذين يهبطان إلى أسفل إذ هو يهمُّ بقتل الثور، وكيف يغوص السيف في جسمه في سهولةٍ مثل كومةٍ من الزبد اليابس، وراحة يده تدفع مقبض السيف، وذراعه اليسرى تلتوي إلى أسفل، وكتفه اليسرى إلى الأمام، مرتكزًا بثقله على ساقه اليسرى. أما تلك المرة فلم يكن ثقله على ساقه، كان ثقله على أسفل بطنه. وحين رفع الثور رأسه غاص القرن في جسده وتأرجح عليه مرتين قبل أن يجرُّوه بعيدًا. والآن إذا ما تأهَّب لقتل الثور في الحلبة — ونادرًا ما يفعل — لم يكن في استطاعته أن ينظر إلى قرنيه، لكن … أنَّى لأيةٍ عاهرة أن تدرك معاناته قبل أن يُقدِم على المصارعة؟ وما هي تجارب هؤلاء الذين يسخرون منه؟ أنهم جميعًا عاهرات، ويدركون كيف يستغلون ذلك. وفي أسفل، في حجرة الطعام، جلس الفارس ينظر إلى القسين. لو كانت هناك سيدات في الحجرة لتطلع إليهن، أما حين لا يكون هناك نساءٌ فإنه يتسلَّى بالحملقة في أي أجنبي، إنجليزي مثلًا. ولمَّا لم يكن هناك سيدات ولا أجانب في الحجرة آنذاك، فقد أخذ يحملق في متعةٍ ووقاحةٍ في القسين. وبينما هو مشغول بالحملقة، نهض الدلال ذو الوجه المتميز وطوى منشفته وخرج تاركًا نصف النبيذ في الزجاجة الأخيرة التي طلبها. ولو أنه كان قد دفع حسابه في الخان لكان قد أفرغ الزجاجة. ولم يَرُدَّ القسَّان على نظرات الفارس بمثلها. كان أحدهما يقول: «منذ عشرة أيام وأنا هنا أحاول مقابلته، وكل يوم أجلس في غرفة الاستقبال ثم لا يقابلني.» – ماذا يمكن أن نفعل! – لا شيء … ماذا يمكن أن يُفعَل؟ لا يمكن معارضة السلطات. – لقد مكثتُ هنا أسبوعين دون فائدةٍ. إنني أنتظر ولن يقابلني أحد. – إننا من أقاصي الريف. ماذا يهم مدريد من شأن جليقية؟ إن مقاطعتنا فقيرة. – وهكذا بدأتُ أفهم حقيقة ما قام به أخونا «باسيليو». – ما زلتُ لا أثق ثقةً حقيقيةً في أمانة «باسيليو». – إن مدريد هي المكان الذي يتعلم المرء فيه كيف يفهم. مدريد تقتل إسبانيا. – لو أنهم يقابلون المرء ثم يرفضون. – كلا، يجب أن يهدموك ويبلوك بالانتظار. – حسن .. سنرى. يمكنني الانتظار مع الآخرين. وفي هذه اللحظة، نهض الفارس منتصبًا، وتوجَّه إلى مائدة القسين وتوقَّف عندها، برأسه الأسمر ووجهه الشبيه بالصقر، يحملق فيهما ويبتسم … وقال قسٌّ منهما لزميله: إنه مصارع ثيران. فقال الفارس: «ومصارعٌ بارع». ثم خرج من غرفة الطعام في حُلته السمراء، أنيق الخاصرة، مقوس الساقين، يرتدي سراويل ضيقةً فوق حذائه الريفي عالي الكعبين الذي يدقُّ على الأرض إذ يترنَّح في انتظامٍ رتيبٍ وهو يبتسم لنفسه. كان يعيش في عالم من الكفاءة الذاتية، عالم صغير، محكَم، مِهَني، من الاحتفال كل ليلة بالمشروبات الروحية، ومن الوقاحة. والآن أشعَل سيجارًا وأمال قبعته على زاويةٍ من رأسه ومضى عبر القاعة إلى المقهى … وغادر القِسَّان الغرفة توًّا بعد الفارس، في عجلة، شاعرَين بأنهما آخر من بقي في حجرة الطعام. ولم يعد هناك في الحجرة غير «باكو» والساقي متوسط العمر. ونظَّفا الموائد وحملا الزجاجات إلى المطبخ. وكان الغلام المكلَّف بغسل الأطباق في المطبخ يكبر باكو بثلاثة أعوام، وكان مفعمًا بالسخرية والشعور بالمرارة. وقال الساقي متوسط العمر وهو يصبُّ كوبًا من نبيذ «الفالدبينياس» للغلام: خذ هذا. وقال الغلام وهو يتناول الكوب: بكل سرور. وقال الساقي: وأنت يا باكو؟ فقال باكو: شكرًا لك … وشرب ثلاثتهم. وقال الساقي متوسط العمر: سأذهب الآن. وقالا له: مع السلامة. وذهب. وبقيا وحدهما. وتناول «باكو» منشفةً كان أحد القسَّين قد استعملها، ووقف منتصبًا، ثابت الكعبين، وأرخى المنشفة إلى أسفل، ولوَّح بذراعَيه ورأسه يتابع الحركة في اهتزازٍ يماثل حركة مصارَعة الثيران البطيئة، وتحوَّل، وتقدَّم بقدمه اليمنى قليلًا، وأجرى هجومًا ثانيًا سيطر به إلى حدٍّ ما على الثور الخيالي، وهجم لثالث مرةٍ في بطءٍ ودقة وخفة تامة، ثم جمع المنشفة إلى وسطه ودار بعجزَيه بعيدًا عن الثور في نصف حركةٍ أخرى. وكان غاسل الأطباق، ويُسمَّى «إنريكي»، يراقبه في انتقادٍ واستهزاء. قال له: كيف حال الثور؟ قال باكو: شجاعٌ للغاية .. انظر! وانتصب بقامته الهيفاء، وأجرى أربع حركاتٍ هجوميةً أخرى بالغة الإحكام، في خفةٍ ورشاقةٍ ودقة. وقال إنريكي وهو مُرتَدٍ ميدعته، مرتكِزًا على الحوض المعدني وممسكًا بكوب نبيذه: وما حال الثور؟ وقال باكو: ما زالت فيه بقية … فقال إنريكي: إنك تملؤني سقمًا. – لماذا؟ – انظر؟ وأزاح «إنريكي» ميدعته، ثم أشاح للثور الخيالي، وقام بأربع حركات مصارعةٍ كاملة مسترخية على طريقة الغجر، وأنهاها بدورة جعلت الميدعة تلتوي على شكل قوسٍ حادٍّ قريبًا من أنف الثور إذ هو يمضي بعيدًا عنه. قال: انظر إلى هذا، ومع ذلك فأنا أغسل الأطباق. – لماذا؟ فقال إنريكي: الخوف .. الخوف .. نفس الخوف الذي تشعر به في الحلبة مع الثور الحقيقي. قال «باكو»: كلا، أنا لا أخاف. فقال «إنريكي»: كاذب. الكل يخاف. ولكن المصارع يستطيع أن يتحكم في خوفه حتى يتمكن من السيطرة على الثور. لقد ذهبتُ إلى مصارعة للهواه وشعرتُ بخوفٍ شديدٍ حتى إنني لم أستطع منع نفسي من الفرار، ونظر الجميع إلى المسألة باعتبارها شيئًا طريفًا. وعلى ذلك ستخاف أنت أيضًا. ولولا الخوف لتحوَّل كل ماسح أحذيةٍ في إسبانيا إلى مُصارِع للثيران. إنك من الريف وستخاف أكثر مما أخاف أنا. قال باكو: كلا. لقد مارس المصارعة كثيرًا في خياله، وشاهَد القرون مراتٍ عديدة، وفم الثور المبلَّل، وأذنيه تختلجان، ثم تهبط رأسه إلى أسفل ويشرع في الهجوم، وتدقُّ حوافره على الأرض، ويمر به الثور الهائج بينما هو يهزُّ الوشاح. ويهاجمه ثانيةً حين يهزه مرةً أخرى، وأخرى، وأخرى، وأخرى، إلى أن ينتهي بثنْي الثور حوله في نصف حركةٍ عظيمة، ويسير متثنيًا وقد علقَت بعض شعرات الثور بوَشْيِ حُلِّتِه الذهبية من فَرط قربه منه، والثور واقفٌ كأنما قد نام نومًا مغناطيسيًّا، والجمهور يهتف مصفقًا … كلا، إنه لن يخاف. ربما يخاف الآخرون، أجل … ولكن … هو، إنه يعلم أنه لن يخاف. وحتى لو حدث وشعر بالخوف فقد كان يعلم أنه يستطيع القيام بها على أي حال. إنه واثقٌ من نفسه. قال: «لن أخاف …» وقال «إنريكي» مرةً أخرى: «كاذب.» ثم أضاف: «لماذا لا نجرب؟» – كيف؟ قال إنريكي: انظر، إنك تحسب حساب الثور ولكنك تغفل عن القرون، للثور قوةٌ عظيمة في قرونه تلك التي تعمل على السكين، فهي تطعن كالحربة، وتقتل كالهراوة، انظر … وفتح درج مائدةٍ وتناول منه سكينَي لحم وأضاف قائلًا: سوف أربط هذين السكينَين إلى قدمَي أحد المَقاعد، ثم أُمثِّل دور الثور معك حاملًا المقعد، بالسكينين كالقرنين، في مقدمة رأسي. فإذا نجحتَ في محاورة هذين فإنك عندئذٍ تعني شيئًا. فقال «باكو»: أعرْني ميدعتك، سوف نقوم بذلك المشهد في حجرة الطعام. فقال إنريكي فجأةً دونما مرارة: كلا، لا تفعل ذلك يا باكو. قال «باكو»: بلى، إنني لست خائفًا. – ستشعر بالخوف حين ترى السكينين يندفعان نحوك. قال باكو: سنرى، أعطني الميدعة. وفي هذه الأثناء، حين كان «إنريكي» يربط سكينَي اللحم ثقيلَي النصْل، مرهفَي الحد، إلى قدمَي المقعد في إحكام بمنشفتَين مستعمَلتَين حول النصف الأسفل من كل سكين، يلفهما بإحكام ويعقد عليهما، كانت أختا «باكو»، الخادمتان، في طريقهما إلى السينما لمشاهدة «جريتا جاربو» في فيلم «آنا كريستي». وكان واحد من القسَّين يجلس في ملابسه الداخلية يقرأ في كتاب الصلوات، والآخر يرتدي قميص نومٍ ويتلو صلواته على المسبحة، بينما ذهب جميع المصارعين ما عدا ذلك المريض إلى مقهى «فورنوس» حيث كان الفارس الضخم الأسود الشعر يلعب البلياردو، والمصارع الرزين القصير القامة يجلس إلى مائدةٍ مزدحمةٍ وأمامه القهوة واللبن، ومعه راشق السهام متوسط العمر، وعُمَّال جادُّون آخرون. وكان الفارس الأشيَب الرأس الذي يُفرط في الشراب جالسًا وأمامه كأسٌ من نبيذ «كاتلاس»، يُحملقُ في سرورٍ في المائدة التي جلس إليها المصارع الذي تخلَّت عنه شجاعته مع مصارعٍ آخر نبَذ السيف ليعود راشقًا للسهام، ومعهما اثنتان من العاهرات تبدو عليهما مظاهر التعب. ووقف الدلال على جانب الطريق يتحدث مع بعض الأصدقاء، وكان الساقي طويل القامة في اجتماع نقابة الفوضويين ينتظر فرصةً للحديث. وجلس الساقي متوسط العمر في شرفة مقهى «ألفاريث» يشرب زجاجةً صغيرة من البيرة. وكانت المرأة التي تملك خان «اللواركا» نائمةً في فراشها، ترقد فيه على ظهرها والوسادة تحت قدميها: ضخمة، سمينة، شريفة نظيفة، سهلة التعامل، في غاية التديُّن، ولم تفُتها تلاوة الصلاة كل يوم لزوجها الذي مات منذ عشرين عامًا. وكان المصارع المريض في غرفته، وحيدًا، يرقد على فراشه ووجهه إلى أسفل، وقد أسند منديلًا إلى فمه. والآن، في حجرة الطعام الخالية، ربط «إنريكي» العقدة الأخيرة في المنشفتَين اللتين طوَّقتا السكينين إلى قدمَي المقعد، ثم رفع المقعد، ووجَّه الأرجل وعليها السكينان إلى الأمام، وأمسك بالمقعد فوق رأسه، وطرفا السكينين متوجهان إلى الأمام مباشَرةً، واحدٌ من كل جانبٍ من رأسه، كقرنَي الثور تمامًا. قال: إنهما ثقيلان، انظر يا باكو … إنهما خطيران جدًّا … لا تفعل ذلك. كان ينضح عرقًا. ووقف «باكو» في مواجَهته، مُمسكًا بالميدعة ناشرًا إيَّاها وقد أمسك بثنية منها في كل يد، وإبهاماه إلى أعلى، والأصبع الأول إلى أسفل، ناشرًا إيَّاها ليجذب انتباه الثور. قال: اهجم مباشَرةً، دُر كالثور، اهجم مراتٍ عديدةً كما تريد. وسأل إنريكي: ولكن، متى ستعرف المرة التي يجب أن تصدَّ فيها الهجوم؟ من الأفضل تحديدها بثلاث مرات ثم تقوم بنصف دورة بعدها. قال باكو: حسن، ولكن اهجمْ مباشَرةً … ها … أيها الثور! تعال، تعال أيها الثور الصغير. وأقبل «إنريكي» نحوه وقد خفض رأسه إلى أسفل، وهزَّ باكو الميدعة بمحاذاة نصْل السكين حين مرَّ بالقرب من بطنه، اجتازه كأنه بالنسبة له قرنٌ حقيقي، أبيض الطرف، أسود، ثقيل. وحين مرَّ به «إنريكي» ودار ليهجم ثانيةً عليه، كان ثورًا حار الدماء هو الذي يهاجمه، فدار كالقط وأتاه ثانيةً وهو يهزُّ الوشاح في بطء، ودار الثور وهاجم مرةً أخرى، وتقدم «باكو» بقدمه بوصتَين وهو يراقب النصْل المشرَع، ولكن السكين لم يمر، بل انحرف وغاص في جسده كما لو كان زق خمر. وتفجَّر انبثاقٌ حارٌّ مبخَّر فوق كتلة النصْل الداخلية وحولها، وهتف إنريكي: آه، آه، دعني أخرجه. وانزلق «باكو» إلى الأمام على المقعد وهو لا يزال ممسكًا بالميدعة، الوشاح، وإنريكي يجذب المقعد بينما السكين يتقلَّب في جسده، في جسده، في «باكو» … وأخرج السكين. وجلس على الأرض في وسط البحيرة الدافئة التي تتسع. وقال إنريكي: ضع المنشفة على الجرح … أمسكها جيدًا … سأجري في طلب الطبيب … يجب أن تمسك النزيف. قال باكو: «كان يجب أن يكون هناك قدحٌ مطاطي.» كان قد رأى ذلك يُستخدَم في الحلبة في مثل هذه الحالات. قال إنريكي وهو يبكي: سأعود حالًا. ما أردتُ سوى أن أُريك خطورة ذلك. قال باكو وصوتُه يبدو آتيًا من بعيد: «لا عليك … ولكن، أحضر الطبيب.» في الحلبة يرفعونك ويحملونك ويجْرُون بك إلى غرفة العمليات، فإذا نزفَت شرايين الفخِذ آخر قطراتها من الدماء قبل أن تبلغها فإنهم يستدعون القسيس. قال «باكو» وهو يمسك المنشفة في إحكام حول أسفل بطنه: أخطر أحد القسس. لم يكن بإمكانه أن يصدق أن هذا حدث له. ولكن «إنريكي» جرى عبر شارع «سان خيرونيمو» إلى محطة الإسعاف الأولية التي تعمل ليل نهار، وظل «باكو» وحده. جلس في البداية، ثم تكوَّم مقعيًّا، ثم تمدد على الأرض، حتى انتهى كل شيء، شاعرًا أن حياته تتسلل منه كما تتسرب المياه القذرة من حوض استحمامٍ حين تنزع سدادته. كان فزِعًا، يشعر بالخور، وحاول أن يتلو صلاة التوبة، تذكَّر بدايتها ولكن قبل أن يقول بأسرع ما يمكنه: آه يا إلهي، إنني آسفٌ أشد الأسف لأنني أخطأتُ في حقك يا من تستحق حبِّي، وإنني أعزم عزمًا قويًّا … شعر بالإغماء ينتابه. وكان يرقد ووجهه ناحية الأرض، وانتهى الأمر بمنتهى السرعة، إن شريان الفخذ المقطوع ينزف دمه بأسرع ما يتصور أحد. وحين كان طبيب مركز الإسعافات الأولية يصعد الدرج مصطحبًا رجل الشرطة الذي أمسك بذراع «إنريكي»، كانت أختا «باكو» لا تزالان في دار السينما في «الجران فيا» حيث شعرَتا بخيبة أملٍ شديدةٍ من فيلم «جريتا جاربو» الذي ظهرَت فيه نجمة السينما العظيمة في بيئةٍ حقيرةٍ بائسة، في حين كانتا معتادتَين رؤيتها محاطةً بالأبهة والعظمة. واستاء الجمهور من الفيلم إلى درجةٍ بالغة، وأعلن احتجاجه بالصفير ودقِّ الأقدام على الأرض، أما نزلاء الخان الآخرون فكانوا تقريبًا يفعلون ما كانوا يقومون به حين وقعَت الحادثة ما عدا أن القسَّين كانا قد انتهيا من صلواتهما واستعدَّا للنوم، وأن الفارس الأشيب قد انتقل بشرابه ليجلس مع العاهرتَين المنهكتَين، وبعد فترةٍ وجيزة، خرج من المقهى مع إحداهما، وهي تلك التي كان المصارع الجبان يدفع لهما ثمن ما تشرب. ولم يعرف الفتى «باكو» شيئًا عن ذلك، ولا عما سوف يفعل كل هؤلاء الناس في اليوم التالي وفي الأيام التالية. لم يكن لديه أية فكرةٍ عن طريقة معيشتهم ولا كيف انتهوا. بل لم يكن يدرك أنهم انتهوا. لقد مات مليئًا بالآمال، كما يقول المثَل الإسباني. ولم تنفسح أمامه الحياة ليفقد أيًّا من تلك الآمال، ولا كيما يكمل في النهاية أسفه عليها. بل لم يكن أمامه متسعٌ من الوقت كيما يخِيب أمله في فيلم «جريتا جاربو» الذي خيَّب أمل مدريد كلها لمدة أسبوع.
null
https://www.hindawi.org/books/80924807/
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
null
«وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقَدَ هيبتَه كلها حالما توقَّفَت عينُه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالِده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفِخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يَعُد هناك فيلٌ حقيقي، مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي، والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر، اللذين قتلاه من أجلهما.»عبْرَ خمسَ عشرةَ قصةً قصيرة نُبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة «همنجواي» التي تَسبِر أغوارَ النفس، مُستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رَحِم الحياة؛ ففي قصة «الفراشة والدبَّابة» يَدفع شابٌّ مرِحٌ حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة «حاضرة الدنيا» التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أمَّا «قصة أفريقية» فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيلٍ ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل «ديفيد» والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه.
https://www.hindawi.org/books/80924807/7/
يوم انتظار
دلف إلى الحجرة كيما يغلق النوافذ، بينما كنا ما نزال في الفراش ورأيته تبدو عليه علائم المرض. كان يرتجف ممتقع الوجه ويمشي ببطءٍ كما لو أنه يتعب عندما يسير. – ما الأمر يا شاتز؟ – أشعر بصداعٍ. – يحسن بك أن تعود إلى الفراش. – كلَّا. إني على ما يُرام. – اذهب إلى الفراش. سأراك بعد أن أرتدي ملابسي. ولكن حين هبطتُ إلى أسفل وجدتُه مرتديًا ملابسه وجالسًا إلى جوار نيران المدفأة، يبدو عليه وهو صبيٌّ في التاسعة علائم المرض الشديد والبؤس. وحين وضعت يدي على جبهته أدركتُ أنه يعاني من الحمَّى. قلت: اذهب إلى فراشك. إنك مريضٌ. قال: إني على ما يُرام. وحين حضر الطبيب، قاس درجة حرارته. سألتُه: كم؟ – مائة واثنتان. وفي الطابق السفلي، ترك الطبيب ثلاثة أنواعٍ من الأدوية في كبسولاتٍ مختلفة اللون مع تعليمات بكيفية تناولها. أحد الأدوية لخفض الحمى، وآخر مطهر للمعدة، والثالث لعلاج الحموضة. وشرح قائلًا: إن جراثيم الإنفلونزا لا يمكن لها أن تُوجَد إلا في وسط حالةٍ من حالات الحموضة. وبدا أنه يعرف كل شيءٍ عن الإنفلونزا وقال: إن الأمر لا يدعو للقلق إذا لم تتجاوز الحمى درجة مائة وأربع. كان وباءً خفيفًا للإنفلونزا فلا خطر منه إذا أنت تجنبتَ الإصابة بالالتهاب الرئوي. وحين عدتُ إلى الحجرة كتبتُ درجة حرارة الصبي ووضعتُ مذكرةً بالوقت الذي يجب أن أُعطيه الأدوية المختلفة. – هل تريدني أن أقرأ لك؟ قال الصبي: حسنًا. إذا رغبتَ في ذلك. كان وجهه شديد البياض وكانت تحت عينيه هالاتٌ سوداء. ومكث لا يتحرك في فِراشه، وبدا قصِيًّا عما يحدث من حوله. وقرأتُ له بصوتٍ عالٍ من «كتاب القراصنة» تأليف «هوارد بابل»، ولكني كنت أرى أنه لا يتابع ما أقرأ. وسألتُه: كيف حالك الآن يا شاتز. قال: نفس الشيء، حتى الآن. جلستُ عند قاعدة السرير أقرأ لنفسي وأنا أنتظر موعد إعطائه الدواء التالي. كان من الطبيعي أن يكون مُستغرقًا في النوم، ولكن حين نظرتُ إليه وجدتُه يتطلَّع إلى قاعدة السرير ويبدو غريبًا جدًّا. – لماذا لا تحاول أن تنام؟ سوف أوقظك حين يحين موعد الدواء. – أفضِّل أن أبقى مُستيقظًا. وقال لي بعد برهة: لستَ مضطَرًّا أن تبقى معي هنا يا بابا، إذا كان ذلك يضايقك. – إن ذلك لا يضايقني. – كلا، أعنِي أنه ليس عليك أن تبقى إذا كان يضايقك. وجال بخاطري أنه ربما كان يشعر بشيءٍ من الدوار، وبعد أن أعطيتُه الكبسولة المقرَّرة في الحادية عشرة خرجتُ برهة. كان يومًا باردًا ساطعًا، والأرض مغطَّاة بثلجٍ ذائبٍ تجمَّد حتى بدا كما لو أن الأشجار العارية والشجيرات والأجمات والحشائش كلها والأرض العارية قد وُشِّحَت بالثلج. واصطحبتُ الكلب الآيلندي الصغير في نزهةٍ قصيرةٍ عبر الطريق على السطح الزجاجي، وتعثَّر الكلب الأحمر وتلوَّى بينما سقطتُ أنا مرتين، بشدة، ومرةً منهما سقطَت بندقيتي وانزلقَت بعيدًا فوق الجليد. وإثرنا مجموعة من طيور السمَّاني كانت أسفل هضبةٍ صلصاليةٍ مرتفعة تُغطِّيها الشجيرات، واصطدتُ اثنين منها حين اختفيا عن الأنظار فوق قمة المنحدر. وهبطَت بعض الطيور فوق فروع الشجر، بيد أن معظمها انتشر بين أكوام الشجيرات، وكان من الضروري أن أقفز فوق آكام الشجيرات المغطَّاة بالثلج عدة مراتٍ قبل أن أجعلها تطير من مكامنها. وحين تخرج وأنا في مكاني فوق الأكمات الثلجية المهتزة يكون من الصعب أن أُطلق النار في هذا الوضع؛ واصطدتُ اثنين وأخطأتُ خمسة، وقفلتُ عائدًا سعيدًا بأن عثرتُ على مجموعة الطيور تلك بالقرب من المنزل، وسعيدًا بوجود الكثير منها ما تزال كي أصطادها يومًا آخر. وفي المنزل، قالوا لي: إن الصبي رفض أن يدخل غرفته أي شخصٍ. كان يقول لهم: لا يمكنكم الدخول. يجب ألا أنقل إليكم مرضي. وصعدتُ إليه ووجدتُه في نفس الوضع الذي تركته عليه تمامًا، ممتقع الوجه، ولكن كانت وجنتاه متوهجةً بفعل الحمى، وما يزال يُحدق كما يحدق سابقًا في اتجاه قاعدة السرير. وقِستُ حرارته. – كم درجة؟ قلت: حوالي المائة. كانت حرارته مائة درجة واثنتين وأربعة أعشار. قال: كانت مائة واثنتين. – من قال ذلك؟ – الطبيب. قلت: إن حرارتك على ما يُرام. ليس هناك ما يدعو للقلق. قال: إني لا أشعر بالقلق. ولكني لا أستطيع أن أمنع نفسي عن التفكير. قلت: لا تفكر. خُذ الأمور ببساطة. قال وهو يتطلع أمامه: إنني آخذها ببساطة. كان من الواضح أنه كان يُخفي شيئًا يعتمل بداخله. – خذْ هذا مع بعض الماء. – هل تعتقد أنه سيكون له أي فائدة؟ – بالطبع. وجلستُ وفتحتُ كتاب القرصان وبدأتُ في القراءة، ولكني لاحظتُ أنه لا يتابعني؛ لذلك توقفتُ. سأل: متى تعتقد أنني سوف أموت؟ – ماذا؟ – كم من الوقت سيمرُّ قبل أن أموت؟ – إنك لن تموت. ما الذي دهاك؟ – أوه، أجل. لقد سمعتُه يقول مائة درجة واثنتين. – لا أحد يموت من حُمَّى درجتها مائة واثنتان. إن هذا قولٌ سخيف. – إني أعرف أنهم يموتون. لقد أخبرني الأولاد في المدرسة في فرنسا أنه لا يمكن لأحدٍ أن يعيش بدرجة حرارة أربعة وأربعين. وأنا عندي مائة واثنتان. قلت: يا لك من مسكين يا شاتز. أي شاتز العزيز المسكين .. إن الأمر يُماثل الأميال والكيلومترات. إنك لن تموت. إن مقياس الحرارة مختلفٌ، هناك في ذلك المقياس الفرنسي تكون درجة الحرارة العادية سبعة وثلاثين. وفي مقياسنا ثمانية وتسعون. – هل أنت متأكِّد؟ قلت: طبعًا. إن الأمر يُماثل الأميال والكيلومترات. أتعرف .. مثل كم كيلومترًا يكون حين نقطع سبعين ميلًا بالسيارة. قال: أوه. ولكن نظرته إلى قاعدة السرير استرخَت نوعًا ما. واسترخى توتره الداخلي أيضًا في نهاية الأمر. وفي اليوم التالي كان هادئًا للغاية، ويبكي بسهولةٍ لأمورٍ صغيرةٍ ليست لها أي أهمية.
null
https://www.hindawi.org/books/80924807/
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
null
«وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقَدَ هيبتَه كلها حالما توقَّفَت عينُه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالِده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفِخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يَعُد هناك فيلٌ حقيقي، مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي، والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر، اللذين قتلاه من أجلهما.»عبْرَ خمسَ عشرةَ قصةً قصيرة نُبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة «همنجواي» التي تَسبِر أغوارَ النفس، مُستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رَحِم الحياة؛ ففي قصة «الفراشة والدبَّابة» يَدفع شابٌّ مرِحٌ حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة «حاضرة الدنيا» التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أمَّا «قصة أفريقية» فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيلٍ ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل «ديفيد» والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه.
https://www.hindawi.org/books/80924807/8/
تلال كالأفيال البيضاء
كانت التلال عبر وادي نهر «إبرو» عاليةً بيضاء، ولم يكن في هذا الجانب من ظلالٍ ولا أشجار. كانت المحطة تقع في الشمس بين خطَّين من القضبان. وأمام جانب المحطة مباشَرةً ترتسم الظلال الدافئة للمبنى والستائر التي صُنعَت من خرزات «البامبو» وعُلِّقَت على باب البار المفتوح؛ كيما تذود عنه الذباب. وجلس الأمريكي والفتاة التي معه إلى مائدةٍ في الظل خارج المبنى. كان الجو حارًّا، وسيأتي القطار السريع من «برشلونة» بعد أربعين دقيقة. ويقف القطار عند هذه المحطة دقيقتين ثم يواصل سَيره إلى مدريد. سألَت الفتاة: «ماذا نشرب؟» وكانت قد خلعَت قبعتها ووضعتها على المائدة. قال الرجل: إن الحَر لعينٌ. – فلنشرب بيرة. فصاح الرجل عبر الستارة: «اتنين بيرة.» وسألَت امرأةٌ من عند الباب: كبيرة؟ – أجل. اتنين بيرة كبيرة. وأحضرَت المرأة زجاجتَي بيرة وطبقين من الفلِّين. ووضعَت طبقَي الفلين وزجاجتي البيرة على المائدة ونظرَت إلى الرجل والفتاة. كانت الفتاة تشْخص ببصرها إلى صفِّ التلال. كانت تبدو بيضاء تحت وهج الشمس، والبلدة سمراء جافة. قالت: إنها تبدو مثل الأفيال البيضاء. – إني لم أرَ أبدًا أفيالًا بيضاء. وشرب الرجل زجاجته. – كلا. لم تكن لتراها. فقال الرجل: كان يمكن أن أراها. إنكِ لم تُثبتي شيئًا بقولكِ لم تكن لتراها. ونظرَت الفتاة إلى الستارة المصنوعة من الخرز. قالت: هناك شيءٌ مكتوب عليها .. ماذا يعني؟ – «أنيس دل تورو». إنه اسم مشروب. – هل نتذوقه؟ ونادى الرجل بإنجليزيةٍ عبر الستارة. وخرجَت المرأة من البار. – نريد كأسين من «أنيس دل تورو». – بالماء. – أتريدينه بالماء؟ فقالت الفتاة: لا أعرف. أهو أفضل بالماء؟ – أجل. فسألَت المرأة: أتريدهما بالماء؟ – أجل بالماء. قالت الفتاة وهي تضع كأسها: إن مذاقه كحوليٌّ. – هكذا كل المشروبات. قالت الفتاة: أجل كل شيء مذاقه كحولي خاصةً الأشياء التي انتظرتها طويلًا، مثل «الأبسنت». – أوه، دعينا من هذا. فقالت الفتاة: أنت الذي بدأتَ، لقد كنت ألهو، كنت أستمتع بوقتي. – إذن، فلنحاول الاستمتاع بوقتنا. – موافقة. كنت أحاول. قلتَ إن الجبال تشبه الأفيال البيضاء. ألم يكن تعبيرًا جميلًا؟ – كان جميلًا. – ورغبتُ في تجربة ذلك الشراب الجديد. هذا كل ما نفعل، أليس كذلك؟ ننظر إلى الأشياء ونجرِّب المشروبات الجديدة. – أظن ذلك. وتطلعَت الفتاة إلى التلال. قالت: إنها تلالٌ جميلةٌ. إنها لا تشبه الأفيال البيضاء حقًّا، إنما عنيت لون جلدها عبر الأشجار. – أ نطلب مشروبًا آخر؟ – حسن. وانصفقَت الرياح الدافئة فطوَّحَت بالستارة الخرزية على جانب المائدة. قال الرجل: البيرةُ لذيذةٌ ومثلجةٌ. فقالت الفتاة: إنها لذيذةٌ. قال الرجل: إنها مجرد عمليةٍ بسيطةٍ صغيرة يا «جيج». إنها ليست عملية على الإطلاق. ونظرَت الفتاة إلى الأرض التي تقوم عليها أرجل المائدة. – أعرف أنها لا تُخيفك يا «جيج». إنها لا شيء في الحقيقة. مجرد السماح للهواء بالدخول. ولم تنطق الفتاة بحرف. – سأذهب معك وأبقى معك طوال الوقت. سوف يُدخلون الهواء ثم يسير كل شيءٍ سيرًا طبيعيًّا. – وماذا سنفعل بعد ذلك؟ – سنصبح على ما يُرام، مثلما كُنَّا من قبل. – وماذا يجعلك تظن ذلك الظن؟ – إن هذا هو الشيء الوحيد الذي يُضايقنا. إنه الشيء الوحيد الذي أشقانا. ونظرَت الفتاة إلى ستارة الخرز ومدَّت يدها وأمسكَت بخيطَين من خيوطها. – وهل تعتقد أننا سنصبح آنذاك على ما يُرام وسعداء؟ – أعرف أننا سنكون كذلك. لا تخافي. أعرف كثيرًا من الناس فعلوا ذلك. فقالت الفتاة: وأنا أيضًا. ولقد أصبحوا سعداء تمامًا بعدها. فقال الرجل: حسَن. إنني لن أرغمكِ على ذلك إن لم تكوني راغبةً فيه. لن أضطَركِ لهذا لو لم تكوني ترغبينه. ولكني أعلم أن العملية بسيطةٌ تمامًا. – وهل تريد ذلك حقًّا؟ – أعتقد أن ذلك هو أفضل ما يمكن عمله. ولكني لا أريدكِ أن تفعليها لو لم تكوني راغبةً حقًّا في ذلك. – ولو أنني فعلتها ستكون سعيدًا وتعود الحياة إلى مجاريها وستحبني؟ – إنِّي أحبكِ الآن. أنتِ تعلمين أنني أحبكِ. – أعرف. ولكن لو أنني فعلتُها فسوف تشعر بالسرور إذا قلت شيئًا مثل الأفيال البيضاء مرةً أخرى، ولسوف يعجبك ذلك؟ – سوف يعجبني. إني معجبٌ به الآن، ولكني عاجزٌ عن التفكير فيه. إنك تعلمين حالتي حين أكون قلقًا. – ألن تقلق أبدًا لو أنني فعلتها؟ – لن أقلق على ذلك. لأنها بسيطةٌ جدًّا. – إذن سأفعلها. لأنني لا تهمني نفسي. – ماذا تعنين؟ – إنني لا تهمني نفسي. – حسَنٌ. أنا أهتم بكِ. – آه، أجل. ولكن لا تهمني نفسي. وسأفعلها، وسيكون كل شيءٍ على ما يُرام. – أريدكِ ألا تفعليها إن أنتِ رغبتِ في ذلك. ونهضَت الفتاة وسارت حتى نهاية المحطة. وعلى الجانب الآخر، كانت هناك حقول القمح وأشجارٌ تقوم على ضفتَي نهر «الإبرو»، وثمة جبال على البعد القَصي خلف النهر. وتحركت ظلال سحابةٍ فوق حقل القمح، وشاهدَت الفتاة النهر من خلال الأشجار. قالت: سيكون بإمكاننا أن نحصل على كل هذا. سيكون بإمكاننا أن نحصل على كل شيءٍ ونجعل الأمر أكثر استحالةً يومًا عن يوم. – ماذا تقولين؟ – أقول سيكون بإمكاننا أن نحصل على كل شيء. – أجل يمكننا الحصول على كل شيء. – كلا، ليس بإمكاننا ذلك. – بإمكاننا أن نحصل على الدنيا كلها. – كلا. – بإمكاننا أن نذهب إلى أي مكان. – كلا، لا نستطيع ذلك. لم تعد دنيانا بعدُ. – إنها دنيانا. – كلا. وإذا أخذوها منك مرةً، فإنك لا تستعيدها أبدًا بعد ذلك. – ولكنهم لم يأخذوها. – سننتظر ونرى. قال: تعالَي إلى الظل. يجب ألَّا تُفكري بهذه الطريقة. فقالت الفتاة: إني لا أفكر في شيء. إني أعرف الأشياء ليس إلا. – لا أريدك أن تفعلي شيئًا لا ترغبين فيه. قالت: ولا هذا أيضًا. إني أعرف. هل نتناول مزيدًا من البيرة؟ – حسَن. ولكن يجب أن تُدركي. فقالت الفتاة: إني أدرك. ألا يمكن أن نكفَّ عن الحديث؟ وجلسا إلى المائدة، ونظرَت الفتاة إلى التلال على الجانب الجاف من الوادي. ونظر الرجل إليها وإلى المائدة. قال: يجب أن تُدركي أنني لا أريدكِ أن تفعليها إن لم تكوني تريدين ذلك. إنني على استعدادٍ تامٍّ لتحمُّل الأمر لو أنه يعني أي شيء بالنسبة لكِ. – ألا يعني أي شيء بالنسبة لك؟ يمكننا أن نتحمل. – بالطبع يعنيني. ولكني لا أريد أحدًا سواكِ. لا أريد أحدًا آخر، وإني أعلم أنها عمليةٌ بسيطةٌ للغاية. – أجل أنت تعلم أنها بسيطةٌ للغاية. – إنه مجرد شيء تقولينه، ولكني أعلم تمامًا. – هل لك أن تُسدي لي معروفًا الآن؟ – إني أفعل أي شيءٍ من أجلكِ. – أرجوك أرجوك أرجوك أرجوك أرجوك أرجوك أن تكفَّ عن الكلام. ولم يقل شيئًا بل نظر إلى الحقائب المُسنَدة إلى جدار المحطة. كانت عليها بطاقات الفنادق التي قضيا فيها لياليهما. قال: ولكني لا أريدك أن تفعليها. لا يهمني أي شيء. قالت الفتاة: سأصرخ. وأقبلَت المرأة من بين ستارة الخرز ومعها زجاجتان أُخرَيان من البيرة، ووضعَتهما على طبقَين من الفلِّين الندي. قالت المرأة: سيصل القطار في خلال خمس دقائق. فسألت الفتاة: ماذا قالت؟ – إن القطار سيصل في خلال خمس دقائق. وابتسمَت الفتاة للمرأة في بهاءٍ شاكرةً لها. قال الرجل: يحسُن أن أحمل الحقائب إلى الجانب الآخر من المحطة. وابتسمَت له، ثم قالت: حسَن. وتعالَ بعدها لنشرب البيرة. والتقط الحقيبتين الثقيلتين وحملهما حول المحطة إلى الجانب الآخر. ونظر على طول الطريق ولكنه لم يرَ أي قطارٍ قادم. وعاد وسار عبر غرفة البار حيث كان بها المسافرون المنتظرون يشربون. وشرب كأسًا من «الأنيس» على البار وتطلَّع إلى الناس. كانوا جميعًا ينتظرون القطار في وقار. وخرج عن طريق الستارة الخرز. وكانت الفتاة تجلس إلى المائدة تبتسم له. سألها: هل تشعرين بتحسُّن؟ قالت: إني على ما يُرام. لا شيء بي. إني على ما يُرام.
null
https://www.hindawi.org/books/80924807/
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
null
«وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقَدَ هيبتَه كلها حالما توقَّفَت عينُه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالِده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفِخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يَعُد هناك فيلٌ حقيقي، مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي، والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر، اللذين قتلاه من أجلهما.»عبْرَ خمسَ عشرةَ قصةً قصيرة نُبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة «همنجواي» التي تَسبِر أغوارَ النفس، مُستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رَحِم الحياة؛ ففي قصة «الفراشة والدبَّابة» يَدفع شابٌّ مرِحٌ حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة «حاضرة الدنيا» التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أمَّا «قصة أفريقية» فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيلٍ ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل «ديفيد» والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه.
https://www.hindawi.org/books/80924807/9/
قصة أفريقية
كان ينتظر بزوغ القمر وأحسَّ بشَعر «كيبو» ينتصب تحت يده إذ هو يربتُ عليه كي يبقى هادئًا. وتطلَّع كلاهما وأنصتا والقمر يبزغ ويُلقي ظلَّيهما على الأرض. كانت ذراعه الآن حول رقبة الكلب وكان يحسُّ به يرتجف. كان كل صوتٍ في الليل قد توقَّف. ولم يسمعا الفيل ولم يرَه «ديفيد» إلى أن أدار الكلب رأسه وبدا كأنه يقع في حجره. وعندها غطَّاهما ظِلُّ الفيل وعبر دون أن يُصدر صوتًا على الإطلاق وشمَّا رائحته في الريح الخفيفة التي جاءت من ناحية الجبل. كانت رائحة نفَّاذة وإن كانت عتيقة. وحين مرَّ الفيل رأى ديفيد أن نابه العاجي طويلٌ جدًّا حتى إنه بدا وكأنه يُلامس الأرض. وانتظرا. بيد أنه لم يظهر أي فيلٍ آخر. ثم بدأ ديفيد والكلب يجريان تحت ضوء القمر. وبقي الكلب وراءه على مقربةٍ منه، وحين توقَّف ديفيد ألصق الكلب خطمه في خلفية ركبته. وكان على ديفيد أن يرى الفيل ثانية. ولقياه عند حافة الغابة. كان يرتحل تجاه الجبل ويتحرك في بطءٍ عبْر نسمة الليل الرتيبة. واقترب ديفيد منه بما يكفي لأنْ يراه يحتجز ضوء القمر مرةً ثانية وأن يشمَّ رائحة العتاقة الحِريفة، ولكنه لم يتمكن من رؤية نابه اليمين. كان يخشى أن يقترب أكثر مع الكلب، فعاد معه مع هبوب الريح، ودفع به إلى جذع شجرة وحاول أن يجعله يتفهَّم الأمر. واعتقد أن الكلب سيبقى في مكانه، وقد بقي فعلًا، ولكن حين تحرك ديفيد ناحية كتلة الفيل شعر بالخطم المبلَّل خلف ركبته مرةً أخرى. وتبِع الاثنان الفيل إلى أن وصل إلى بقعةٍ خالية من الأشجار. وتوقَّف هناك يحرك أذنيه الهائلتَي الحجم. كانت كتلته لا تُلقي أي ظِل، فلا بد أن ضوء القمر يسقط عموديًّا عليه. ووصل ديفيد خلفه وأغلق فكَّي الكلب بيده في رفق، ثم تقدَّم بخفة دون أن يتنفس إلى يمين الفيل، مع هبَّات نسمة الليل يشعر بها على خده، يتبعها ولا يدعها أبدًا تقف بينه وبين كتلة الفيل إلى أن استطاع أن يرى رأس الفيل والأذنين الكبيرتين تتحركان. كان ناب اليمين سميكًا كفخِذه هو، ومقوسًا يكاد يلامس الأرض. وشعر ديفيد بالتعب حالما عاد إلى ذلك الطريق مرةً ثانية مع والده ومع «جمعة». كان قد شعر لمدةٍ طويلة أنه أكثر انتباهًا وأفضل حالًا من الرجُلين اللذين معه، ولا يصبر على خطواتهما البطيئة والتوقفات المنتظمة التي يقوم بها والده كل ساعة. كان بوسعه أن يسير قُدمًا بسرعة أكبر من جمعة ومن والده، ولكن حين بدأ يشعر بالتعب كانا هما على نفس وضعهما السابق، وعند الظهيرة لم يأخذا سوى راحة الخمس دقائق المعتادة. ورأى أن جمعة يزيد من سرعة خطوته قليلًا. ربما لم يكن ذلك صحيحًا. ربما بدَت له خطوته أسرع قليلًا ليس إلا، ولكن روث الفيل كان أكثر طزاجة الآن، مع أنه لم يكن دافئ الملمس. وأعطاه جمعة البندقية ليحملها بعد أن وصلوا إلى آخر كومة روث، ولكن بعد ساعةٍ نظر إليه وأخذ منه البندقية مرةً أخرى. كانوا يصعَّدون في السير عبر منحدرٍ من الجبل، ولكن الطريق كان يهبط الآن، ومن خلال فجوةٍ في الغابة رأى أمامه الأرض الوعرة. قال والده: هنا يبدأ الجانب الصعب يا ديفي. وعند ذلك أدرك أنه كان يجب عليهما أن يعيداه إلى المزرعة بعد أن أوضح لهما الطريق. كان جمعة يعرف ذلك منذ وقتٍ طويل، ووالده يعرفه الآن، ولكن لا يمكن عمَل أي شيءٍ بشأنه. كانت غلطة أخرى يرتكبها، وليس أمامه شيء يفعله الآن سوى المقامرة أن يكون حظُّه سعيدًا. وتطلَّع ديفيد من أعلى على الدائرة المستوية الكبيرة لأثر قدم الفيل، ورأى المكان الذي انضغطَت فيه النباتات، وحيث كان ساقُ عشبٍ برِّيٍّ مقطوعٍ يذبل. والْتقطَه جمعة ونظر إلى الشمس. وناول جمعة العشب المقطوع لوالد ديفيد، ولفَّه والده حول أصابعه. ولاحظ ديفيد الأزهار البيضاء مائلةً تذوي. ولكنها لم تذبل تحت الشمس ولا نفضَت عنها نواراتها. قال والده: لا بد أنه مريعٌ. هيا بنا. وعند أواخر الأصيل كانوا ما يزالون يقتفون الأثر خلال الأرض الوعرة. كان النعاس يسيطر على ديفيد الآن منذ وقتٍ طويل، وحين تطلَّع إلى الرجلين عرف أن الشعور بالنوم هو عدوه الحقيقي، وتتبع خطاهما وحاول أن يتحرك نافضًا عنه النعاس الذي يُصيبه بالخمول. وتناوب الرجلان اقتفاء أثر الطريق كل ساعة، وكان الذي في الخلف ينظر وراءه إلى ديفيد في فتراتٍ منتظمةٍ؛ ليتحقق أنه معهم. وحين أقاما مُخيمًا في العراء بعد أن حلَّ الظلام في الغابة استغرق في النوم حالمًا جالسًا، وصحا على منظر جمعة يحمل حذاءه ويتحسس قدميه العاريتين بحثًا عما فيهما من تقرُّحات. كان والده قد بسط معطفه فوق ديفيد وجلس إلى جواره، ومعه قطعة من اللحم المطبوخ البارد وقطعتان من البسكويت، وقدَّم له شايًا باردًا في زجاجة مياه. قال والده: يجب أن تأكل يا دافي. قدماك في حالةٍ جيدة. إنهما عَفيَّتان مثل قدمَي جمعة. كُل هذا ببطء واشرب بعض الشاي ثم عُد إلى النوم مرةً ثانية. ليست عندنا أي مشكلة. – إنِّي آسف لأن النوم كان يغالبني. – لقد اصطدتَ ورحلتَ أنت وكيبو الليلة الماضية، فكيف لا تكون نعسانًا؟ بوسعك أخذُ مزيد من اللحم إذا رغبتَ. – أنا لست جائعًا. – حسنًا. لدينا ما يكفي لثلاثة أيام. وسوف نصل إلى الماء ثانيةً غدًا. كثير من الجداول تهبط عبر الجبل. – إلى أين ذهب الفيل؟ – يعتقد جمعة أنه يعرف. – أليس ذلك بالأمر السيئ؟ – ليس الأمر بالغ السوء يا ديفي. قال ديفيد: سأعود إلى النوم. إنِّي لا أحتاج إلى معطفك. قال والده: أنا وجمعة على ما يُرام. إنِّي أشعر بالدفء حين أنام. كان ديفيد قد نام بالفعل حتى قبل أن يقول له والده ليلةً طيبة. ثم استيقظ مرةً حين سقط ضوء القمر على وجهه، وجال بخاطره منظر الفيل وهو يتحرك بأذنيه الكبيرتين حين كان واقفًا في الغابة ورأسه يميل إلى أسفل بفعل ثقل نابيه. واعتقد ديفيد عندها في الليل أن الشعور بالخواء الذي انتابه حين تذكَّر الفيل يرجع إلى أنه استيقظ جائعًا. ولكن ذلك لم يكن هو السبب، وعرف ذلك خلال الأيام الثلاثة التالية. كان اليوم التالي بالغ السوء؛ لأنه عرف قبل الظهيرة بكثيرٍ أن الحاجة إلى النوم ليست هي الشيء الوحيد الذي يُميز الصبي عن الرجل. كان هو أكثر نشاطًا منهما خلال الساعات الثلاث الأولى، وطلب من جمعة أن يحمل البندقية عيار ٣٠٣، ولكن جمعة هزَّ رأسه. لم يبتسم، وكان دائمًا أفضل أصدقاء ديفيد وعلَّمه كيف يصطاد. وجال بخاطر ديفيد: إنه قدمها لي بالأمس، وأنا اليوم في حالةٍ أفضل مما كنت عليه بالأمس. كذلك كانت حالته هو أيضًا، ولكن ما إن حانت الساعة العاشرة حتى عرف أن اليوم سيكون سيئًا مثل الأمس أو أكثر سوءًا. كان من الحمق أن يظن أنه يستطيع أن يقتفي الأثر مع والده، مثلما يظن أنه يستطيع أن يتشاجر معه. وعرف أيضًا أن الأمر لا يعود إلى كونهما رجلين كبيرين فحسب، فهُما صيادان محترفان. وعرف الآن أن هذا هو السبب في أن جمعة لا يُسرف في أي شيء يفعله، حتى لو كان ابتسامة. كانا يعرفان كل شيءٍ قام به الفيل، وأوضحا الدليل على ذلك كلٌّ منهما للآخر دون أن يتكلَّما، وحين يصبح اقتفاء الأثر صعبًا كان والده دائمًا يترك لجمعة اتخاذ القرار. وحين توقفوا ليملئوا زجاجات المياه من جدولٍ قال والده: «تحمَّل هذا اليوم فقط يا ديفي.» وحين خلَّفوا الأرض الوعرة وراءهم وصعدوا نحو الغابة توجهَت آثار الفيل تجاه اليمين في مسار فيلٍ آخر، ورأى والده وجمعة يتحادثان، وحين أدركهما وجد جمعة ينظر خلفه إلى الطريق الذي اتخذوه، ثم يتطلع بعيدًا أمامه نحو مجموعة من التلال الصخرية وسط طريقٍ جاف، وبدا كأنه يبحث عن وجهته من قمم ثلاثة تلال بعيدةٍ زرقاء وراء الأفق. وشرح الوالد: «جمعة يعرف الآن أين يذهب. كان يظن أنه قد عرف قبل ذلك ولكنه وقع على هذا الطريق (ونظر خلفه إلى الطريق الذي قطعوه طوال اليوم)، الطريق الذي يسير فيه الآن جيد جدًّا ولكن علينا أن نرتقبه صعودًا.» وطبخ جمعة الطائرَين بعد أن رشقهما في عصًا فوق نيران جمراتٍ صغيرة. وشرب والده ويسكي بالماء من قدح غطاء قنينته، ورقدا يرقبان جمعة وهو يطبخ. وبعد ذلك أعطى جمعة لكل واحد منهما صدر طائر وبه القلب، وأكل هو عنق الطائرين وظهريهما وأرجلهما. قال والده: إن ذلك عظيم الفائدة يا ديفي. إن لدينا زادًا طيبًا جدًّا الآن. وسأل ديفيد: كم نبعد عنه الآن؟ قال والده: إننا قريبون جدًّا. إن ذلك يعتمد على ما إذا كان يرتحل حين يظهر القمر أم لا. هذا يعني ساعةً أخرى هذا المساء وساعتين منذ رأيتَه أنت. – لماذا يعتقد جمعة أنه يعرف طريقه؟ – لقد جرحه وقتل صديقه على مقربةٍ من هنا. – ومتى حدث ذلك؟ – يقول إن ذلك حدث منذ خمس سنوات. هذا يعني أي وقت. يقول حين كنتَ أنت طفلًا. – وهل أصبح الفيل وحيدًا منذ ذلك الوقت؟ – إنه يقول ذلك. هو لم يرَه بعد ذلك. سمع عنه فحسب. – ماذا يقول عن حجمه؟ – يقارب المائتين. أكبر من أي شيء رأيته. يقول إنه لا يُوجَد إلا فيلٌ واحدٌ أكبر منه، وهو من نفس هذه المنطقة أيضًا. قال ديفيد: يحسُن بي أن أنام. أرجو أن أشعر بتحسُّنٍ غدًا. قال والده: لقد كنتَ عظيمًا اليوم. إني جد فخورٍ بك. وجمعة أيضًا. وفي الليل استيقظ حين سطع القمر، وكان على يقينٍ بأنهما لم يكونا فخورَين به إلا لمهارته في اصطياد الطائرين. لقد عثر على الفيل ليلًا وتتبعه؛ كيما يرى أن لديه نابيه الاثنين ثم عاد باحثًا عن الرجلين ليدلهما على الطريق. وعلِم ديفيد أنهما فخوران بذلك. ولكن ما إن بدأَت الرحلة القاتلة، أصبح بلا فائدةٍ لهما، ويمثل خطرًا على نجاحهما مثلما كان كيبو بالنسبة له حين اقترب من الفيل خلال ظلمة الليل، وعرف أن كلًّا من الرجلين يندم بشدةٍ لأنهما لم يحملاه على العودة حين كان الوقت مناسبًا لذلك. كان نابا الفيل يزِنان مائتَي رطْلٍ للواحد منهما. ومنذ أن نما هذان النابان فوق حجمهما الطبيعي أصبح الفيل هدفًا للصيد، وسوف يقتله ثلاثتهم الآن من أجلهما. كان ديفيد واثقًا أنهما سيقتلان الفيل الآن؛ لأنه — أي ديفيد — قد تحمَّل اليوم بطوله وتحامل بعد أن دمَّره السير بحلول الظهيرة. ولذلك فمن المحتمل أنهما كانا فخورين به أن قام بذلك. بيد أنه لم يُسهم بشيءٍ مفيدٍ في عملية الصيد، وكان من الأفضل لهما بكثيرٍ ألا يكون معهما. وقد تمنَّى مراتٍ كثيرةً خلال اليوم ألا يكون قد خان الفيل، وعند الأصيل تذكر أنه تمنى ألا يكون قد رآه قط. وأدرك وهو مستيقظٌ تحت ضوء القمر أن ذلك غير صحيحٍ. وفي اليوم التالي كانوا يقتفون آثار الفيل على طريقٍ قديم للأفيال يابس التربة يشقُّ الغابة. كان يبدو كما لو أن الأفيال قد رحلَت عبره منذ أن بردَت الحمم من على الجبل، وبدأَت الأشجار تنمو عاليًا بالقرب منه. كان جمعة واثقًا من نفسه وبدءوا يتحركون بسرعةٍ. كان والده وجمعة يبدوان على ثقةٍ من نفسَيهما، والسيرُ على طريق الأفيال سهلًا حتى إن جمعة أعطاه البندقية ليحملها حين وصلوا إلى المكان الذي لا ينفذ الضوء إليه في الغابة. وعندئذٍ فقدوا الأثر من جرَّاء أكوامٍ تبخر من روثٍ طازج، وآثار أقدامٍ مسطحةٍ دائرية لقطيعٍ من الأفيال سارت في ذلك الطريق من الغابة الكثيفة التي تقع على يسار الأثر. وأخذ جمعة البندقية من ديفيد في غضبٍ. وعند الظهر وصلوا عند القطيع ومن حوله، ورأوا الكُتل الرمادية عبر الأشجار وحركات الآذان الضخمة والزلُّومات تبحث ملتفةً وغيرَ ملتفة، وسمعوا صوت الأغصان تتحطم، وانكسار الأشجار، ودمدمة بطون الأفيال، وصوت الروث وهو يسقط على الأرض. ووجدوا أخيرًا طريق الفيل العجوز. وحين انحرف الأثر إلى طريقٍ أصغر نظر جمعة إلى والد ديفيد مبتسمًا فظهرَت أسنانه المصفوفة، ونغض والده رأسه وظهَرا كأنما يتشاطران سرًّا قذرًا، تمامًا كما ظهرا حين وجدهما تلك الليلة في المزرعة. ولم يطُل بهما الأمر أن عثرا على السر. كان موجودًا في الغابة على اليمين قليلًا، وهدَتهما إليه آثار الفيل العجوز. كانت جمجمة عالية تصل إلى صدر ديفيد، بيضاء من الشمس والمطر. كان بها غورٌ عميق في الجبهة، ثَمَّة فلق يجري بين محجرَي العين الفارغين الأبيضين وينتثر في ثقوبٍ مكسورة فارغة مكان النابَين اللذين جرى قطعهما. وأشار جمعة إلى المكان الذي توقَّف فيه الفيل الضخم، بينما كان ينظر إلى الجمجمة وإلى المكان الذي دفعَتها إليه زلُّومة الفيل على مبعدةٍ قليلة من البقعة التي كانت بها سابقًا، وحيث لمس ناباه الأرض بجوار الجمجمة. وبيَّن لديفيد الثقب الوحيد في الغور العميق في العظام البيضاء للجبهة ثم الثقوب الأربعة المتجاورة في العظمة المحيطة بثقب الأذن. وابتسم لديفيد ولوالده، وأخرج طلقة بندقيةٍ من جيبه وأرسى طرفها في ثُقب عظمة الجبهة. قال والده: لقد جرح جمعة الفيل الكبير في هذا المكان. كان أحد جنود الفيل صاحبَ هذه الجمجمة. صديقه في الواقع؛ لأنه كان هو الآخر فيلًا كبيرًا. وقد هاجم جمعة فأوقع به ثم أنهى عليه بطلقةٍ في الأذن. وكان جمعة يُشير إلى العظام المتناثرة وكيف مشى الفيل الضخم بينها. كان جمعة ووالده مسرورَين جدًّا بما وجداه. سأل ديفيد والده: كم من الوقت تظن أنه ظل مع صديقه الفيل الآخر؟ قال والده: ليست عندي أي فكرةٍ. اسأل جمعة. – اسأله أنت من فضلك. وتحادث والده مع جمعة، ونظر جمعة إليه وضحك. وأخبره والده: ربما بمقدار أربعة أضعاف عمرك. إنه لا يعرف، أو لا يهتم بالأمر. وجال في خاطر ديفيد: أنا أهتم بذلك الأمر. فقد رأيتُه في ضوء القمر وكان وحدَه، ولكنِّي كنت مع كيبو. وكيبو كان معي. ولم يكن الفيل يقوم بأي ضرر، وها نحن الآن نتعقبه بعد أن جاء ليرى صديقه الميت، وسوف نقتله هو الآن. إنها غلطتي. لقد خنته. والآن، حدد جمعة أثر الطريق وأشار لوالده وانطلقا. وجال بخاطر ديفيد: لا حاجة لوالدي أن يقتل أفيالًا كيما يعيش. لم يكن بوسع جمعة أن يعثر على الفيل لو أنني لم أرَه. لقد أُتيحَت له الفرصة لصَيده ولكنه لم يفعل إلا أن أصابه بجروحٍ وقتَل صديقه. وجدناه أنا وكيبو ولم يكن من الواجب عليَّ أن أخبرهما، بل أن أحتفظ بسرِّه ويكون لي وحدي دائمًا وأدعهما سكارَى من شُرب البيرة في المزرعة. كان جمعة ثملًا إلى حدٍّ لم تستطع معه إيقاظه. وسوف أحتفظ بكل شيءٍ سرًّا على الدوام. لن أقول لهما أي شيء بعد ذلك أبدًا. لو قتَلا الفيل فإن جمعة سوف يُنفق نصيبه من ثمن العاج على الشراب، أو يبتاع لنفسه زوجةً أخرى. لماذا لم تساعد الفيل حين كان ذلك بإمكانك؟ كل ما كان عليك أن تفعله هو ألا تذهب معهما في اليوم الثاني. كلا، لم يكن هذا ليمنعهما. كان جمعة سيستمر. كان يجب عليك ألا تخبرهما أبدًا، أبدًا. حاول أن تتذكر ذلك. لا تقل لأي شخصٍ أيَّ شيءٍ أبدًا. لا تقل لأي شخصٍ أيَّ شيءٍ مرةً أخرى أبدًا. وانتظر والده إلى أن لحق بهما، وقال برقَّةٍ بالغة: لقد استراح هنا. إنه لا يسير كما كان قبلًا. سوف نلحق به في أي وقتٍ الآن. قال ديفيد بهدوءٍ شديد: اللعنة على صَيد الأفيال. قال له والده وهو ينظر إليه ببرود: احذر أن تفسد الأمر. جال بخاطر ديفيد: إن الأمر مؤكَّدٌ. إنه ليس غبيًّا. إنه يعلم كل شيء الآن ولن يثق به ثانيةً. هذا حسنٌ. لا أريده أن يثق بي؛ لأنني لن أخبره ولا أي شخصٍ آخر أي شيءٍ أبدًا مرةً ثانية، أي شيءٍ مرةً ثانيةً أبدًا. أبدًا أبدًا مطلقًا. وفي الصباح كان عند المنحدر الأقصى من الجبل مرةً أخرى. ولم يكن الفيل بعدُ مرتحلًا كما كان سابقًا، بل كان يتحرك بلا هدفٍ الآن، ويتغذَّى أحيانًا، وكان ديفيد يعلم أنهم يقتربون منه. وحاوَل أن يتذكر كيف كان شعوره. لم يَكن يُكِن الحب للفيل بعدُ، لا بد أن يتذكر ذلك. كان ينتابه شجنٌ فحسب نتيجة تعبِه، وهو ما جعله يتعاطف مع حالة كبر السن. فعن طريق صِغره في السن تعلَّم كيف يكون الأمر عند التقدُّم في العمر. وأحسَّ بالوحدة دون كيبو وتفكَّر كيف أن قيام جمعة بقتل صديق الفيل قد جعله يكره جمعة وجعل الفيل أخًا له. وعرف عندها كم كان مهمًّا بالنسبة له أن رأى الفيل في ضوء القمر وتبعه، واقترب منه كثيرًا حتى إنه رأى نابَيه الهائلَين. ولكنه لم يعرف أنه لن يكون هناك شيءٌ جميل كهذا بعد ذلك أبدًا. كان يعرف الآن أنهما سيقتلان الفيل وأنه ليس بوسعه القيام بأي شيءٍ بشأن هذا الأمر. لقد خان الفيل حين عاد إلى المزرعة وأخبرهما بوجوده. وجال بخاطره: إنهما لَيَقتلاني ويقتُلان كيبو لو كان لنا عاج. وعرف أن ذلك غير صحيحٍ. ربما سيعثر الفيل على مكان مولده وهما سيقتلانه هناك. كان هذا ما ينقص كي يجعلا الأمر كاملًا! كانا يفضِّلان أن يقتلاه في المكان الذي قتلا فيه صديقه. كان ذلك ليملؤهما نشوةً. كان ذلك ليُفعمهما سرورًا. قاتِلا الصديقِ الملعونان. كانا قد تحركا الآن نحو الحافة ذات الستار الكثيف، وكان الفيل قريبًا. كان بوسع ديفيد أن يشمَّه، وكلهم يمكنهم سماعه يُسقط فروع الأشجار، وصوتها وهي تتكسَّر. ووضع الوالد يده على كتف ديفيد كي يوقفه في المؤخرة ويجعله ينتظر في الخارج، ثم تناول حفنةً كبيرة من الرماد من الكيس الذي في جيبه ونثرها في الهواء. وانحرف الرماد قليلًا في اتجاههما حين سقط، وأشار والده برأسه إلى جمعة، وانحنى كيما يتبعه داخل الساتر الكثيف. وتطلع ديفيد إلى ظهرَيهما ومؤخرتَيهما تدخُل وتغيب عن الأنظار. كان ديفيد واقفًا لا يتحرك، واستمع إلى الفيل وهو يأكل. كان بوسعه أن يشمَّه بقوةٍ تُماثِل القوة التي شمَّه بها ليلة ضوء القمر، حين كان قريبًا منه ورأى نابَيه الرائعَين. ثم ساد الصمت وهو واقفٌ هناك ولم يَعُد بوسعه أن يشمَّ الفيل. ثم سمِع عويلًا وأصوات حُطامٍ وطلقةً من البندقية عيار ٣٠٣، ثم طلقة والده الثنائية الثقيلة عيار ٤٥٠، ثم تواصل التحطيم والتهشيم متباعدًا بطريقةٍ تدريجية، وذهب هو إلى حيث كانا، ووجد جمعة مرتاعًا ينزف من جبهته والدم يغطِّي وجهه، ووالده غاضبٌ شاحب اللون. قال والده: «لقد أصبْناه في الرئة والمعدة.» وأضاف: «ستجده راقدًا أو ساكنًا، أرجو ذلك.» ووجده ساكنًا، يُعاني في يأسٍ لدرجةٍ لا يتمكن معها من الحركة. كان قد اصطدم بالساتر الكثيف الذي كان يأكل فيه، وعبَر طريقًا في الغابة المفتوحة، وجرى ديفيد ووالده على طول الطريق الملَطَّخ بالدماء الغزيرة. كان الفيل قد توجَّه إلى الغابة الكثيفة ورآه ديفيد أمامهما يقف رماديًّا هائلًا مستنِدًا إلى جذع إحدى الأشجار. ولم يكن بوسع ديفيد أن يرى سوى ذيله، وبعدها تقدَّم والده وتبعه ديفيد ووصلا إلى جوار الفيل الذي بدا كأنه سفينة، ورأى ديفيد الدماء تسيل من جنباته وتخرُّ إلى أسفل، ثم رفع والده البندقية وأطلق النار، وأدار الفيلُ رأسه، وناباه الهائلان يتحرَّكان بثقلٍ وبطء ونظر إليهما. وحين أطلق والده الشحنة الثانية بدا الفيل كأنه يترنَّح كالشجرة الساقطة وهوى على الأرض تجاههما. ولكنه لم يكن ميتًا. كان قد استكن وها هو الآن يرقد على الأرض مكسور الكتف. لم يتحرك، ولكن عينه كانت حيةً ونظر إلى ديفيد. كانت رموشه طويلةً جدًّا، وكانت عينه أكثر شيءٍ حيٍّ رآه ديفيد في حياته. قال والده: أطلِق عليه النار في ثقب أذنه من بندقية ٣٠٣، هيا. قال ديفيد: افعل أنت ذلك. وجاء جمعة يعرج تغطِّيه الدماء، وجلْد جبهته ساقطٌ على عينه اليسرى، وعظْمة أنفه مكشوفة، وإحدى أذنَيه ممزَّقة، وتناول البندقية من ديفيد دون أن يتكلم ودفع فوهتها داخل ثقب الأذن تقريبًا وأطلق النار مرتَين وهو يهزُّ المتراس ويدفع به إلى الداخل في غضبٍ. وانفتحت عين الفيل على اتساعها عند الطلقة الأولى، ثم بدأَت تلمع كالزجاج، وانبثق الدم من الأذن وانْسال في خطَّين ظاهرَين على الجلد الرمادي المتغضِّن. كان لون الدم مختلفًا، وجال بخاطر ديفيد: يجب أن أتذكَّر هذا. وتذكَّره دومًا ولكن لم يُجدِ ذلك نفعًا له قطُّ. والآن، كانت كل هيبة الفيل وجلاله وكل جماله قد ذهبَت عنه وأصبح مجرَّد كومةٍ مغضَّنةٍ ضخمة. وذهب إليه جمعة مبتسمًا، ومعه ذيل الفيل الذي كان خاليًا من أي شعرٍ على الإطلاق. وحكيا مزحةً بذيئة، ثم بدأ والده يتحدث بالسواحيلية في سرعة. كم يبعد مكان المياه عنهم؟ أين يتعين الذهاب لجلب أناسٍ لحمل النابَين من هنا؟ كيف حالك أيها الخنزير العجوز اللعين التافه؟ ماذا انكسر من جسدك؟ وقال والده بعد أن عرف إجابة تلك الأسئلة: سوف نعود أنت وأنا لإحضار الحقائب من حيث تركناها. بإمكان جمعة أن يُحضر الأخشاب ويوقد النار. إن معدَّاتي الطبية موجودة في حقيبتي. علينا إحضار الحقائب قبل حلول الظلام. لن تتعفن جراحه. إنها ليست من مخالب الفيل. هيا بنا. وذلك المساء، حين جلس ديفيد بجوار النيران وتطلَّع إلى جمعة بوجهه المليء بالغرز وأضلاعه المحطمة، تساءل ما إذا كان الفيل قد تعرف عليه حين حاول قتله. وخامره أملٌ أن يكون الأمر كذلك. لقد أصبح الفيل بطله الآن، كما كان والده لفترةٍ طويلة من قبلُ. وجال بخاطره: لم أكن أصدِّق أن بإمكانه أن يفعل ذلك بعد أن شاخ وناله التعب. كان يمكنه أن يقتل جمعة أيضًا. ولكنه لم ينظر لي نظرةَ مَن ينوي قتلي، بل نظر لي نظرةً حزينة، نفْس الحزن الذي كنت أشعر به. لقد زار صديقه القديم في اليوم نفسه الذي مات فيه. وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقد هيبته كلها حالما توقفَت عينه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يعد هناك فيلٌ حقيقيٌّ. مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر اللذين قتلاه من أجلهما. كان النابان ملَطَّخَين بالدماء الجافة، وكشط ديفيد قطعةً من هذه الدماء بظفر إبهامه كأنها قطعةٌ جافة من شمع الأختام، ووضعها في جيب قميصه. كان هذا كل ما أخذه من الفيل عدا بداية إدراكه لمعنى الوحدة. وبعد المجزرة، حاول والده أن يتحدث معه تلك الليلة إلى جوار النيران، قال: إنك تعلم يا ديفي أنه كان قاتلًا. يقول جمعة إنه لا أحد يعلم كم قتل من الناس. – كان كلهم يحاولون قتله، أليس كذلك؟ قال والده: بالطبع. مع ما لديه من زوج النياب! – إذن كيف يمكن اعتبارُه قاتلًا؟ قال والده: كما تحبُّ. إني آسفٌ لأن الأمور مختلطةٌ عليك بالنسبة له. قال ديفيد: أودُّ لو أنه كان قد قتل جمعة. قال والده: أعتقد أنك بذلك تُحمِّل الأمور أكثر مما يجب. إن جمعة صديقك. – لم يعد صديقي. – لا ضرورة لأن تقول له ذلك. قال ديفيد: إنه يعرف. قال والده: أعتقد أنك تُسيء الحكم عليه. وتركا الموضوع عند ذلك الحد. وبعد ذلك، عادوا أخيرًا سالمين مع النابَين بعد كل ما حدث من أشياء، وكان النابان مستندَين إلى جدار البيت المصنوع من العصِي والطين، مستندَين هناك يتلامس طرفاهما؛ النابان طويلان وسميكان لدرجةٍ لا يصدقها أي شخص، حتى ولو لمسهما بيده، ولا يستطيع أحد، ولا حتى والده، أن يصل إلى المنحنى حيث يلتويان ليلتقي طرفاهما؛ هناك حيث أصبح جمعة ووالده وهو أبطالًا، وأصبح كيبو كلب بطل، وأصبح الرجال الذين حملوا النابَين أبطالًا؛ أبطالًا نصفَ سُكارى، أو سيصبحون سكارى. وقال والده: هل تريد أن نتصالح يا ديفي؟ قال: وهو كذلك، لأنه عرف أن هذا هو بداية سياسة عدم البوح بما يعرف قط، التي قرر أن يتبعها. قال والده: إنِّي سعيدٌ جدًّا لذلك. إن هذا أبسط وأفضل كثيرًا. وظلَّا جالسَين على المقاعد الواطئة تحت ظلال شجرة التين، والنابان يستندان إلى حائط الكوخ، وشرِبا البيرة من أقداح الفلِّين قدمَتها لهما فتاةٌ شابةٌ وأخوها الأصغر، خادم الأبطال، إذ هما جالسَين وسط الغبار إلى جوار كلب البطل البطولي الذي يمسك ديكًا عجوزًا جرى ترفيعه حديثًا لدرجة الديك المفضل للبطل. وجلسا هناك يحتسيان البيرة بينما بدأَت الطبلة الكبيرة تقرع دقاتها والرقص يتَّخذ مساره على إيقاعها.
null
https://www.hindawi.org/books/80924807/
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
null
«وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقَدَ هيبتَه كلها حالما توقَّفَت عينُه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالِده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفِخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يَعُد هناك فيلٌ حقيقي، مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي، والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر، اللذين قتلاه من أجلهما.»عبْرَ خمسَ عشرةَ قصةً قصيرة نُبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة «همنجواي» التي تَسبِر أغوارَ النفس، مُستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رَحِم الحياة؛ ففي قصة «الفراشة والدبَّابة» يَدفع شابٌّ مرِحٌ حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة «حاضرة الدنيا» التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أمَّا «قصة أفريقية» فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيلٍ ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل «ديفيد» والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه.
https://www.hindawi.org/books/80924807/10/
مكانٌ نظيفٌ حسَن الإضاءة
كان الوقت متأخِّرًا، وقد غادر الجميع الحانة ما عدا رجلًا عجوزًا جلس في ظل شجرةٍ تعكس أضواء الكهرباء. كان الطريق متربًا أثناء النهار، أما في الليل فقد أزال الندى الغبار، وأحب العجوز أن يبقى حتى هذا الوقت المتأخر؛ لأن الهدوء كان يعمُّ كل شيء. وكان النادلان داخل الحانة يدركان أن العجوز قد ثمل إلى حدٍّ ما. ورغم أنه كان زبونًا طيِّبًا فقد كانا يعلمان أنه إذا ثمل تمامًا فسوف يخرج دون أن يدفع الحساب؛ لذلك فقد ظلَّا يراقبانه … قال أحدهما للآخر: لقد حاول الانتحار في الأسبوع الماضي. – لماذا؟ – كان يائسًا! – من لا شيء! – كيف عرفتَ أنه لا شيء؟ – لأنه يملك مالًا كثيرًا. وجلسا معًا إلى مائدةٍ مجاوِرة بالقرب من باب الحانة. ونظرَا إلى الصالة حيث الموائد خالية عدا تلك التي يجلس إليها العجوز في ظل أوراق الشجرة التي تميل ببطءٍ مع النسيم … ودقَّ العجوز بكوبه على الطبق، وذهب إليه النادل الشاب: ماذا تريد؟ ونظر إليه العجوز وقال: مزيدًا من البراندي! وقال النادل الشاب: أخشى عليك أن تثمل. فنظر إليه العجوز نظرة استنكار، فدار النادل على عقبيه ليحمل إليه ما يريد. وفي طريق عودته قال لزميله المسنِّ: إنه سيبقى طول الليل وأنا أشعر بالنعاس … إنني لا أذهب لفراشي قبل الثالثة صباحًا … كان يحسُن به أن يقتل نفسه في الأسبوع الماضي. وتناول النادل زجاجةً من البراندي وبطاقة حسابٍ أخرى من مائدة الصراف في داخل الحانة، وخرج بهما إلى مائدة العجوز، ووضع البطاقة ثم ملأ الكوب بالبراندي، وقال للعجوز الأصم: كان يحسن بك أن تقتل نفسك في الأسبوع الماضي. وأشار الرجل العجوز بأصبعه وقال: مزيدًا! فأفرغ النادل مزيدًا من البراندي حتى سال من القدح وسقط على بطاقات الحساب. قال العجوز: شكرًا. وأعاد النادل الشاب الزجاجة إلى داخل الحانة وجلس مرةً أخرى إلى المائدة مع زميله المسن وقال له: إنه الآن قد ثمل. فأجابه: إنه ثَملٌ كل ليلة. – لماذا حاول أن يقتل نفسه؟ – من أين لي أن أعلم. – وكيف فعل ذلك؟ – حاول أن يشنق نفسه بحبْل. – ومن أنقذه؟ – ابنة أخيه. – ولماذا أنقذوه؟ – خوفًا على حياته. – كم يملك من المال؟ – الكثير. – لا بد أنه قد قارَب الثمانين من عمره. – أعتقدُ أنه في الثمانين. – إنِّي أتمنى لو عاد إلى بيته الآن. إني لا أذهب إلى فراشي قبل الثالثة صباحًا كل يوم، ويا لها من ساعةٍ يأوي فيها الإنسان لفراشه! – إنه يبقى هنا لأنه يحب ذلك. – إنه وحيدٌ، أما أنا فلي زوجة تنتظرني. – وهو أيضًا كانت له زوجةٌ يومًا ما. – إن الزوجة ليست بذات فائدةٍ له الآن. – مَن أدراك، قد يكون أفضلَ حالًا لو كانت معه زوجةٌ. – إن ابنة أخيه تُعنَى بحاله. – أعرف ذلك. لقد قلت لك إنها هي التي أنقذَته. – أنا لا أتمنى أن أكون في مِثل سنِّه، إن الكِبَر في السن شيءٌ مزعج. – ليس دائمًا، فهذا العجوز رجلٌ نظيفٌ ويشرب دون أن يريق النبيذ حتى وهو ثمل، انظر إليه! – لا أريد أن أنظر إليه. كم أتمنى أن يعود إلى منزله! – إنه لا يُلقي بالًا للذين يعملون. ونظر العجوز من فوق قدحه عبر الصالة المستديرة، ثم إلى النادلين، ونادى مشيرًا إلى قدحه: مزيدًا من البراندي! وذهب إليه النادل الشاب المتلهِّف على العودة وقال له: خلاص! لا مزيد الليلة … سنغلق! وقال العجوز: كوبًا آخر! – كلَّا … خلاص! ومسح النادل طرف المائدة بمنشفةٍ وهو يهزُّ رأسه، فنهض العجوز ببطءٍ وعدَّ بطاقات الحساب التي أمامه، ثم أخرج حافظة نقودٍ جلديةً من جيبه ودفع ثمن المشروبات، تاركًا نصف «بيزيتة» كبقشيش. ونظر إليه النادل وهو يسير في الطريق … رجلٌ بالغ الهرم يسير مترنحًا وإن يكن بوقار. وسأل النادل المسن زميله وهما يغلقان مصاريع النوافذ: لماذا لم تدعْه يبقى ويشرب … إنها لم تكد تبلغ الثانية والنصف؟ – أريد أن آوي إلى فراشي. – وماذا في ساعةٍ أخرى؟ – إنها أهم عندي عنها لديه. – إن ساعة زمنٍ هي ساعة زمن! – إنك تتحدث كرجلٍ عجوزٍ أنت الآخر … إن باستطاعته أن يشتري زجاجةً يشربها في منزله. – إن ذلك مختلفٌ. – نعم إن ذلك مختلف .. معك حقٌّ. – وأنت؟ ألا تخشى أن تعود لبيتك قبل ساعتك المعتادة؟ – أتحاول إهانتي؟ – كلا أيها الرجل، إنما أنا أمزح فقط. وقال النادل المتعجِّل وهو ينهض بعد أن فرغ من إغلاق المصاريع المعدنية: «كلا، إنِّي واثقٌ من نفسي، إن كلِّي ثقة!» قال النادل العجوز: إن لديك الشباب، والثقة، والعمل، أنت تملك كل شيء. – وماذا ينقصك أنت؟ – كل شيء إلا العمل. – إن لديك كل ما لديَّ. – كلا. لم أثق في شيءٍ قط … ثم إنني لست شابًّا. – هيا، فلنكُفَّ عن هذا الهراء ولنغلق المحل. فقال النادل العجوز: أنا من الذين يحبون البقاء في الحانة حتى وقتٍ متأخر، مع أولئك الذين لا يرغبون في العودة إلى الفراش، مع أولئك الذين يحتاجون للنور في الليل. – أما أنا فأريد العودة إلى منزلي وفراشي. – إننا على طرفَي نقيض … إنها ليست مسألة شبابٍ وثِقة فقط، مع أن هذه الأشياء جميلة. إني أُبطئ في الإغلاق كل ليلة، فربما كان هناك أحد في حاجة إلى القهوة. – يا رجل، هناك حاناتٌ كثيرة تظل مفتوحةً طوال الليل. – إنك لا تفهمني! هذه حانةٌ نظيفة تشرح الصدر، إنها حسنة الإضاءة، والضوء شيءٌ جميل! قال النادل الشاب: سعِدتَ مساءً. وبعد أن أطفأ النور، واصل النادل الآخر الحديث مع نفسه: «إن النور هو المهم طبعًا، ولكن يلزم أيضًا أن يكون المكان نظيفًا بهيجًا، الموسيقى غير ضرورية، لا حاجة للموسيقى بكل تأكيد، كما أن المرء لا يستطيع الشراب في إحدى الحانات مع الاحتفاظ بوقاره، رغم أن تلك الأماكن هي التي تبقى مفتوحةً في مثل هذه الساعات … ممَّ يخاف؟ لم يكن خوفًا أو خشية، بل هي لا شيئية يعرفها تمام المعرفة … إن الأمر كله لا شيء، والإنسان أيضًا لا شيء، إن الأمر كله كذلك، ولا يحتاج إلا إلى النور وبعض النظافة والترتيب. إن بعض الناس يعيشون في اللاشيء دون أن يشعروا أبدًا بحقيقته … أما هو فإنه كان يعلم أنه لا شيء ثم لا شيء، ولا شيء ثم لا شيء. لا شيئًا الذي في اللاشيء، لا شيء اسمك، لا شيء ملكوتك، لتكن مشيئتك لا شيء في لا شيء، كما هي في اللاشيء، أعطنا هذا اللاشيء، لا شيئَنا اليومي … ولا تشيئنا في اللاشيء، بل نجِّنا من اللاشيء من أجل لا شيء! … سلامًا أيها اللاشيء المليء باللاشيء … لا شيء معك.» وابتسم الرجل، ووقف أمام إحدى الحانات في الطريق، حيث كانت ثمة آلة لصنع القهوة تعمل بضغط البخار. وسأله البارمان: ماذا تطلب؟ وأجابه: لا شيء! فقال البارمان: مجنونٌ آخر! فقال النادل المسن: كأسًا صغيرًا … وصبَّ له البارمان كأسًا، وقال النادل: النور ساطعٌ جدًّا، ولكن البار غير مصقول! فنظر إليه البارمان دون أن يُجيبه … كان الوقت متأخرًا لتبادل مثل هذا الحديث … وسأله البارمان: أتريد شيئًا آخر؟ فقال النادل: كلا، شكرًا! ثم خرج. كان يكره البارات والحانات، غير أن حانةً نظيفةً حسنة الإضاءة .. شيءٌ مختلف تمامًا. والآن، بدون مزيدٍ من التفكير سيعود إلى حجرته الموحشة، ويرقد على الفراش، ويستغرق في النوم أخيرًا مع تباشير صباحٍ جديد. وقال لنفسه: على كل حال، قد تكون هذه إحدى حالات الأرق التي تُصيب الكثيرين.
null
https://www.hindawi.org/books/80924807/
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
null
«وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقَدَ هيبتَه كلها حالما توقَّفَت عينُه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالِده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفِخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يَعُد هناك فيلٌ حقيقي، مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي، والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر، اللذين قتلاه من أجلهما.»عبْرَ خمسَ عشرةَ قصةً قصيرة نُبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة «همنجواي» التي تَسبِر أغوارَ النفس، مُستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رَحِم الحياة؛ ففي قصة «الفراشة والدبَّابة» يَدفع شابٌّ مرِحٌ حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة «حاضرة الدنيا» التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أمَّا «قصة أفريقية» فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيلٍ ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل «ديفيد» والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه.
https://www.hindawi.org/books/80924807/11/
ثلوج كليمنجارو
كليمنجارو جبلٌ تُغطِّيه الثلوج، ارتفاعه ١٩٧١ قدمًا، ويُقال إنه أعلى جبلٍ في أفريقيا. وقمَّتُه الغربية تُسمَّى «ماسي نجاج نجاج»، بيت الله. وإلى جوار القمة الغربية ثمة جثة فهدٍ جافة متجمدة. ولم يفسِّر أحد ما كان الفهد ينشد في تلك الأعالي. ••• قال: الشيء المدهش أن الجرحَ غير مؤلمٍ. وبذلك يعرف المرء متى يبدأ العفن. – أحقًّا؟ – بالتأكيد. ورغم ذلك فإني آسفٌ للغاية على الرائحة. إنها لا بد تضايقكِ. – لا تقل هذا أرجوك. أرجوك. قال: انظري إلى هذه الطيور. أهو المنظر أو الرائحة ما يجعلها تأتي على هذا النحو؟ كانت المحفَّة التي يرقد عليها الرجل تقع في الظل العريض الذي تُلقيه شجرة «ميموزا»، وإذ كان يتطلع عبر الظل إلى وهج السهل، كان ثمة ثلاثة طيورٍ ضخمة جالسة القرفصاء في بذاءة، بينما حفنةٌ أخرى منها تحوم في السماء، مُلقية ظلالًا وهي تهرع في مرورها. قال: لقد جاءت منذ أن انكسرَت الشاحنة. واليوم هو أول مرةٍ يهبط أيٌّ منها إلى الأرض. لقد راقبتُ طريقة طيرانها بدقَّةٍ في البداية، فلربما احتجتُ إلى استخدام ذلك في قصةٍ أكتبها. ولكن هذا يبدو مضحكًا الآن. قالت: أودُّ لو لم تفعل. قال: إني أتكلم لا غير. إني أشعر بتحسُّنٍ حين أتكلم. ولكني لا أودُّ أن أُضايقكِ. قالت: أنت تعرف أن ذلك لا يُضايقني، إنما قد أصبحتُ عصبيةً للغاية لعدم استطاعتي عمل أي شيءٍ. أعتقد أن علينا أن نُيسِّر الأمور قدْرَ استطاعتنا إلى أن تأتي الطائرة. – أو إلى ألَّا تأتي! – أرجوك قل لي ماذا بوسعي أن أفعل. لا بد أن هناك شيئًا أستطيع أن أقوم به. – بإمكانكِ أن تبتُري الساق وقد يُوقِف ذلك التعفُّن، رغم أنني أشكُّ في ذلك. أو بإمكانكِ أن تُطلقي عليَّ النار. إنك ماهرةٌ في الرماية الآن. لقد علمتكِ الرماية، أليس كذلك؟ – أرجوك ألَّا تتحدث هذا. أليس بإمكاني أن أقرأ لك؟ – تقرئين ماذا؟ – أيَّ شيءٍ في حقيبة الكتب التي لم تقرأها بعدُ. قال: لا أستطيع أن أُنصت إلى قراءتكِ. الكلام هو أسهل شيءٍ. إننا نتعارك وهذا يجعل الوقت يمر. – إنِّي لا أتعارك. إنني لا أريد أبدًا أن أتعارك. دعْنا لا نتعارك بعد الآن أبدًا. مهما كُنَّا عصبيَّين. ربما عادوا اليوم بشاحنةٍ أخرى. وربما تأتي الطائرة. قال الرجل: لا أريد أن أتحرَّك. لا معنى هناك لأنْ أتحرك الآن إلا كيما أُسهِّل عليكِ الأمور. – إن هذا جبنٌ. – ألا تدَعِين رجلًا يموت بأقصى قدرٍ ممكنٍ من الراحة دون أن تشتميه؟ ما فائدة شتائمكِ لي الآن؟ – إنك لن تموت. – لا تكوني حمقاء. إنني أموت الآن. اسألي هؤلاء الملاعين. وتطلَّع إلى حيث جلسَت الطيور الضخمة القذرة ورءوسها العارية مدفونةٌ في ريشها المقوس. وهبط طائرٌ رابعٌ وطفِق يجري بسرعةٍ ثم اتَّجه ببطءٍ ناحية الطيور الثلاثة الأخرى. – إنها دائمًا تكون حيث تُوجَد مخيمات. إنها لا تكاد تُلحَظ. لا يمكن أن تموت إذا لم تستسلم. – أين قرأتِ هذا؟ إنك لحمقاء سخيفة. – بإمكانك التفكير في شخصٍ آخر. قال: بحق الله، إن هذه هي مهنتي. وعندها اضطجع وهدأ بعض الشيء، وتطلَّع عبر الوميض الحار للسهل إلى طرف الأجمة. كان هناك بعض العصافير الصغيرة بدَت منمنمةً بيضاء مقابل اصفرار السهل، وشاهَد على البُعد قطيعًا من الحُمُر الوحشية، بيضاء مقابل خضرة الأجمة. كان هذا مخيمًا لطيفًا مُقامًا تحت أشجارٍ ضخمةٍ في مواجهة أحد التلال، به مياهٌ جارية، وبالقرب منه عين ماءٍ كادت تجفُّ حيث تطير منها كلَّ صباحٍ طيور الطيهوج. سألَت: ألا تودُّ أن أقرأ لك؟ إن هناك نسمةً تهبُّ. كانت تجلس على مقعدٍ من الخيش إلى جانب محفَّته. – كلَّا شكرًا. – ربما حضرَت الشاحنة. – أنا لا تهمني الشاحنة في شيءٍ. – إنها تهمني أنا. – إنك تهتمين بأشياء كثيرة جدًّا لا تهمني في شيءٍ. – ليس كثيرًا جدًّا يا هاري. – ما رأيكِ في شراب؟ – من المفروض أن الشراب ضارٌّ بك. إن دليل «بلاك» الطبي يقول بضرورة تجنُّب المشروبات الروحية. يجب ألا تشرب. قالت: يجب ألا تفعل ذلك. هذا ما كنت أعنيه بالاستسلام. إنه يذكر أن ذلك ضارٌّ بصحتك. إني أعرف أن ذلك ضارٌّ بك. قال: كلا. إن ذلك مفيدٌ لي. وجال في فكره أن الآن قد انتهى كل شيء. الآن لن تكون أمامه فرصةٌ أبدًا كيما يُنهي الكتاب الذي بدأه. هكذا انتهى الأمر بعراكٍ حول شراب. ومنذ نخرَت الغنغرينة في ساقه اليُمنى لم يعُد يشعر بألم، وذهب الخوف بذهاب الألم، وكل ما يشعر به الآن تعبٌ شديدٌ وغضبٌ من أن يكون هذا هو نهاية الأمر. ذلك أنه لم يعد يشعر بكثير حُبِّ استطلاعٍ والنهاية آتية. لقد تسلَّطَت عليه سنين كثيرة، ولكن لم تعد الآن تعني شيئًا في حدِّ ذاتها. كان غريبًا أن يتخلص من هذه الفكرة المستحوذة بسهولة من شعوره بالتعب. والآن لن يستطيع أبدًا أن يكتب الأشياء التي ادَّخر كتابتها حتى يعلم عنها ما فيه الكفاية كيما يكتبها بحذق. حسَن، وهو لن يفشل كذلك في محاولة كتابتها. ربما لم يكن في مستطاعك أبدًا كتابتها، ولهذا أرجأت الأمر وأخَّرت البداية. حسَن، إنه لن يعرف الآن أبدًا. قالت المرأة: أتمنَّى لو لم نكُن قد جئنا هنا. كانت تنظر إليه وهو يحمل الكأس وتعضُّ على شفتَيها … «إنك لم تكن لتُصاب بشيءٍ من هذا في باريس. كنتَ تقول دائمًا إنك تحب باريس. كان بوسعنا البقاء في باريس أو الذهاب إلى أيِّ مكانٍ. كنتُ مستعدةً للذهاب إلى أي مكان. قلتُ إنني كنتُ مستعدةً للذهاب إلى أي مكانٍ تريد. لو كنتَ تريد الاصطياد كان بوسعنا الذهاب إلى هنغاريا حيث نكون مرتاحَين.» قال: «أموالك اللعينة!» قالت: هذا ليس عدلًا. لقد كانت دائمًا أموالك بقدر ما هي أموالي، لقد تركتَ كل شيء وذهبتَ إلى حيث تريد أن تذهب وفعلتَ ما تريد أن تفعل. ولكني أتمنى لو لم نكن قد جئنا هنا. – لقد قلتِ إنك تُحبِّين ذلك. – كنتُ أحبُّه حينما كنتَ أنت على ما يُرام. ولكني أكرهه الآن. إنني لا أفهم لماذا يجب أن يحدث هذا لساقك؟ ماذا فعلْنا كيما نستحق أن يحدث هذا لنا؟ – أظن أن ما فعلتُ هو أنني نسيتُ أن أضع اليود على المكان الذي حككتُه أول مرة. ثم لم ألتفت إليه بعد ذلك لأنني لا أُصاب أبدًا بالعدوى. وبعدئذ، حين تعقَّدت الأمور، ربما كان استعمال محلول الفنيك الخفيف ذاك، حين نفدَت جميع المطهرات الأخرى، هو الذي شلَّ الأوعية الدموية الدقيقة وبدأ الغنغرينة. ونظر إليها ثم قال: ماذا غير ذلك؟! – إني لا أعني ذلك. – لو أننا استخدَمنا ميكانيكيًّا ماهرًا بدلًا من السائق غير المدرَّب، لكان قد فحص الزيت ولمَا كان قد حرق أبدًا محمل الكُريات في الشاحنة. – إني لا أعني ذلك. – لو أنكِ لم تهجري أهلكِ، أهل مقاطعات «أولد وستبري» و«ساراتوجا» و«بالم بيتش» الملاعين كيما تحبيني …؟ – لقد أحببتك. هذا ليس عدلًا. إنني أحبك الآن. سوف أُحبك دائمًا. ألا تحبني؟ قال الرجل: «كلا. لا أظن ذلك. إنني لم أحبكِ أبدًا.» – ماذا تقول يا هاري؟ لقد جُنِنتَ. – كلا. ليس لدي عقلٌ حتى أُجَن! قالت: لا تشرب هذا. أرجوك يا حبيبي ألَّا تشرب هذا. يجب أن نبذل كل ما في وسعنا. قال: افعلي أنتِ ذلك. أنا متعَبٌ. والآن، في خياله، رأى محطة سككٍ حديدية في «كاراجاتش» وكان واقفًا فيها ومعه صُرَّة أمتعته. وكان النور الأمامي للقطار يقطع الظلمة الآن، وهو يغادر منطقة «تراس» بعد الانسحاب. كان ذلك أحد الأشياء التي ادَّخرها ليكتب عنها بعد ذلك. في الصباح عند الإفطار إذ يتطلع من النافذة ويرى الثلج على الجبال في بلغاريا وسكرتيرة «نانسن» تسأل الرجل العجوز إذا كان ذلك ثلجًا، فينظر العجوز ويقول لا، ليس هذا ثلجًا، الوقت مبكِّرٌ لنزول الثلج. والسكرتيرة تردِّد على مسامع الفتيات الأخريات: كلا، أترَين، إنه ليس ثلجًا، وهُن جميعًا يصحْن: إنه ليس ثلجًا، لقد كنا مخطئات. ولكن الحقيقة هي أنه كان ثلجًا، وقد بعثهن ذلك الضابط العجوز يخضْن فيه حين عقد اتفاقية تبادُل السكان. ولقد كان ثلجًا ما وطئنه هناك إلى أن مِتن جميعًا ذلك الشتاء. ولقد كان ثلجًا أيضًا ذلك الذي هطل طيلة أسبوع عيد الميلاد تلك السنة هناك في «جاروتال»، تلك السنة كانوا يقيمون في منزل قاطع الأشجار، وفيه الموقِد الصيني المربَّع الكبير الذي احتلَّ نصف الحجرة، وكانوا ينامون على حشايا من ورق أشجار الزان، في ذلك الوقت الذي جاء فيه الجندي الهارب وقدماه داميتان على الثلج. قال إن الشرطة تُطارده، فأعطَوه جوارب من الصوف وشغَلوا رجال الدرك بالتحدُّث إليهم إلى أن انْمحَت آثار الأقدام بفعل الرياح. وفي «شرونر»، يوم عيد الميلاد، كان الثلج باهرًا لدرجةٍ تؤذي العين، حين ينظر المرء من الحانة ويرى الناس تعود إلى بيوتها من الكنيسة. كان ذلك حيث صعدوًا في الطريق الذي مهَّدَته الزحَّافات ذات اللون الأصفر على طول النهر وتلال أشجار الصنوبر الشديدة الانحدار، وأدوات الانزلاق على الجليد فوق أكتافهم، وحيث جروا ذلك الجرْي الشديد عبر الطريق الجليدي عند منزل «مادلنر»، والثلج منبسطٌ كالكعكة يُحيط بها الصقيع، والنُّدف تهبط خفيفةً كالبودرة. واستعان في ذهنه الاندفاع الصامت الناتج عن السرعة إذ يهبط المرء كالطائر وهو ينزلق على الجليد. كان الثلج قد احتجزهم طوال أسبوعٍ في منزل «مادلنر» ذلك الوقت عندما هبَّت العاصفة، فأخذوا يلعبون الورق وسط الدخان على ضوء القنديل، وكانت الرهانات تزداد كلما زادت خسارة الهر «لنت». وأخيرًا خسر كل شيءٍ، كل شيء؛ نُقود مدرسة الانزلاق على الجليد وكل مكسب الموسم، ثم خسر رأسماله نفسه. وكان باستطاعته أن يراه بأنفه الطويل يلتقط الورق ثم يفتح لعبة «عمياء». كان يُوجَد دائمًا ألعاب قمارٍ وقتها. وحين لا يكون هناك ثلج، نُقامر، وحين يكون هناك ثلج أكثر من اللازم نقامر. وفكَّر في الوقت الذي قضاه يُقامر على طول حياته. ولكنه لم يكتب سطرًا عن ذلك، ولا عن يوم عيد الميلاد ذاك البارد الباهر، والجبال تتراءى عبر السهل حين طار جونسون عبر الخطوط ليقذف بالقنابل القطار الذي يُقِلُّ الضباط النمساويين الحاصلين على إجازة، ويحصدهم بمدافعه حين انتثروا يجرُون. وتذكر إذ جاء جونسون بعد ذلك إلى حجرة الطعام وأخذ يحكي القصة وكيف ساد الصمت بعد ذلك، ثم أحدهم يصيح: أيها الوغد القاتل اللعين! وكان هؤلاء النمساويون الذين قتلوهم آنذاك هم نفس النمساويين الذين شاركهم الانزلاقَ على الجليد بعد ذلك. كان «هانز» — الذي انزلق معه طوال تلك السنة — ضابطًا في قوات القيصر، وحين ذهبا معًا لصيد الأرانب البريَّة هناك عند التلِّ الصغير وراء طاحونة نشْر الخشب، تحدَّثا عن القتال في «باسوبيو»، وعن الهجوم على «برتيكا» و«أسالون»، وهو لم يكتب بعدُ حرفًا عن ذلك. ولا عن «مونتي كورنو» ولا عن «سيتي كومون» ولا عن «أرسبيدو». كم شتاءً عاشه في نزُلَي «فوراك» و«آرل»؟ أربعة شتاءات. ثم تذكَّر الرجل الذي كان يعرض ثعلبًا للبيع حين كان يسير مع زوجته في بستان «بلودنز»، يستهدفان شراء هدايا هذه المرة، وطعم الكريز من شراب «الكيرش» المعتَّق، والاندفاع المُنفلِت لمسرى بودرة الثلج على قشرة الأرض، وهي تغنِّي «هاي هو!» إذ المرء يجري آخر مسافةٍ نحو الثلج المصمت، ثم يجري قاطعًا البستان في ثلاث دورات، ويخرج عبر الحفرة وعلى الطريق الجليدي وراء النزُل. ثم يحلُّ المرء أربطته ويخلع عنه زحافتَي الانزلاق ويسندها إلى حائط النزُل الخشبي، بينما يتبدَّى ضوء المصباح من النافذة. وفي الداخل، في وسط الدفء الداخن الذي يعبق برائحة النبيذ الطازج، كان ثمة من يعزف على الأوكورديون. وسأل المرأة التي كانت تجلس إلى جواره في مقعدٍ من الخيش، الآن، في أفريقيا: أين نزلنا في باريس؟ – في فندق «كريون». أنت تعرف ذلك. – ولماذا تظنِّين أنني أعرف ذلك؟! – إننا ننزل دائمًا هناك. – كلا. ليس دائمًا. – هناك وفي «بافيلون هنري الرابع» في سان جرمان. لقد قلتَ إنك تحب ذلك الفندق. فقال «هاري»: الحب كومة قاذورات. وأنا هو الديك الذي يقف فوقها كيما يصيح. قالت: هل من الضروري إذا تعيَّن عليك أن ترحل أن تقتل كل شيء تخلِّفُه وراءك؟ أعني، أيتعيَّن عليك أن تأخذ معك كل شيءٍ؟ عليك أن تقتل جوادك وزوجتك وتحرق سرجك ودرعك؟ قال: أجل. إن نقودكِ اللعينة كانت درعي. طيري ودرعي. – لا تقل هذا. – وهو كذلك. سأكفُّ عن قول ذلك. لا أريد أن أجرح شعوركِ. – لقد جاء ذلك متأخرًا شيئًا ما. – وهو كذلك إذن. سوف أمضي في جرح شعوركِ. إنه يزيد من تسليتي. إن الشيء الوحيد الذي أحببتُ حقًّا أن أفعله معكِ لا يمكنني أن أفعله الآن. – كلا، هذا ليس صحيحًا. لقد كنتَ تحب أشياء كثيرة، وقد نفذتُ كل ما كنتَ تريدني أن أفعل. – أوه، بحق الله كُفِّي عن هذا الشقاق. ونظر إليها فرآها تبكي. قال: اسمعي. هل تظنين أنني أحب ذلك؟ إنني لا أعرف لماذا أفعل ذلك؟ أظن أنه شبيهٌ بمحاولة القتل كيما يستمر المرء على قيد الحياة. لقد كنتُ على ما يُرام حين بدأنا الحديث. إني لم أقصد أن أبدأ هذا الشقاق، والآن ها أنا أبدو أحمق كالبلهاء، وأشد ما أكون قسوةً معك. لا تُلقي بالًا يا عزيزتي إلى ما أقول. إنِّي أحبكِ حقًّا. إنكِ تعرفين أنني أحبكِ. إنني لم أحبَّ أحدًا قط كما أحببتكِ. وانزلَق إلى الكذبة المعهودة التي يلجأ إليها لينال أغراضه. – إنك طيبٌ معي. قال: أيتها اللعينة. أيتها اللعينة الثرية. ذلك شِعر. إنِّي أفيض شِعرًا الآن. سُقمًا وشِعرًا. شِعرًا سقيمًا. – كُفَّ عن ذلك يا «هاري». لماذا يتعيَّن عليك أن تتحول إلى شيطانٍ الآن؟! قال الرجل: إني لا أحب أن أخلف أي شيء. لا أحب أن أخلف شيئًا ورائي. ••• كان الليل قد انسدل الآن وكان قد نام قليلًا. كانت الشمس قد غابت وراء التل، وثمة ظلٌّ يحوم عبر السهل وصغار الحيوانات تأكل بالقرب من المخيم، رءوسٌ سريعة محنية وذيولٌ متحركة. وراقَبها وهي تُقيم فاصلًا بينه وبين الأجمة الآن. ولم تعد الطيور تنتظر على الأرض، بل كانت كلها تجثم في ثقل على إحدى الأشجار. كان هناك المزيد منها. وكان خادمه الصبي يجلس إلى جوار محفته. – كلا. كانت قد ذهبَت لتصطاد قطعةً من اللحم، ولمَّا كانت تعلم مدى شغفه بمراقبة مشهد الصيد فقد ذهبت بعيدًا كيما لا تسبب ضوضاء في ذلك الجانب من السهل على مرمى أبصاره. وجال في خاطره أنها دائمًا ترعى مشاعره، في أي شيءٍ تعرفه أو تكون قد قرأته أو سمعته. لم تكن غلطتها أنه حين عرفها كان قد استُنفد بالفعل. كيف يتأتَّى لامرأةٍ أن تعرف أنك لا تعني شيئًا مما قلت، وأنك لم تقل ما قلت إلا بدافع العادة وكيما تحقق راحتك! وحين لم يعد يعني ما يقول، لاقت أكاذيبه نجاحًا بين النساء أكثر مما كان يُلاقي حين كان يُخبرهن بالحقيقة. لم يكن الأمر بكذبٍ أكثر منه عدم وجود حقٍّ يُقال. لقد عاش حياته وانتهى ثم عاد يحياها من جديدٍ مع أناسٍ مختلفين ومزيدٍ من المال، في أفضل ما عهده من الأماكن، وفي أماكن جديدةٍ عليه أيضًا. كنتَ تتحاشى التفكير وكان كل شيءٍ رائعًا، كنتَ مُزوَّدًا بباطنٍ قوي، حتى إنك لم تتمزق شعاعًا مثلهم، مثل ما حدث لمعظمهم، واتخذتَ موقفًا بألَّا تُعير العمل الذي تعودتَ أن تعمل اهتمامًا الآن حين لم يعد بإمكانك أن تقوم به. غير أنك قلت في داخليَّتِك إنك ستكتب عن هؤلاء الناس، عن المتْخمِين بالثروات، وإنك لستَ منهم في واقع الأمر، بل جاسوسٌ في بلدهم، وإنك سوف تتركهم وتكتب عنهم، حتى يكتب عنهم أخيرًا واحدٌ يعرف حقيقة ما يكتب عنه. ولكنه لم يكتب ذلك إطلاقًا؛ لأن كل يوم من عدم الكتابة، من الراحة والنعيم، من طريقة العيش التي يحتقرها، يُضعف من قدرته ويُوهن من إرادته على العمل، حتى إنه — في النهاية — لم يكتب أبدًا. إن معارفه قد ازدادوا راحةً حين لم يعد يكتب. وأفريقيا هي المكان الذي شعر فيه بأشد سعادة في أحسن أوقات حياته؛ لذلك فقد ذهب إلى هناك كيما يبدأ من جديد. ولقد رتَّب أمر هذه الرحلة بأقل قدرٍ من وسائل الراحة. لم يكن هناك من صعوبات، ولكن لم يكن هناك أيُّ ترفٍ. وظنَّ أن بوسعة العودة إلى الكتابة بالتمرين على هذه الصورة. ظنَّ أن بوسعه — على نحوٍ ما — أن يزيل الصدأ الذي ران على روحه، كما يفعل الملاكم حين يذهب إلى الجبال ليعمل ويتمرَّن كيما يحرق الشحم من جسده. كانت تُحب ذلك منه. قالت إنها تحب ذلك. كانت تحب أي شيءٍ مثير، أي شيءٍ يتضمَّن تغييرًا في الصورة، حيث أُناسٌ جُدُد وحيث الأمور سارَّة. وقد شعر متوهِّمًا بعودة قوة الإرادة الدافعة له على العمل. أما وأن الأمور قد انتهت إلى هذا، وكان يعلم أنها النهاية، فعليه ألَّا يتحول إلى ذلك الثعبان الذي يعضُّ نفسه لأن ظهره قد انكسر. لم يكن ذلك ذنْب هذه المرأة. لو لم تكن هي لكانت أخرى. لو أنه عاش على أكذوبةٍ فيجب أن يحاول أن يموت عليها. وسمع طلقةً فيما وراء التل. كانت بارعةً في الصيد، هذه اللعينة الثرية الطيبة، هذه التي رعَت موهبته في حنان، وهي التي دمرَتها في نفس الوقت. هراء .. لقد دمَّر موهبته بيده. لماذا يتعيَّن عليه إلقاء اللوم على هذه المرأة لرعايتها إيَّاه حق الرعاية؟ لقد دمَّر موهبته بعدم استعمالها، بخيانة نفسه وبخيانة معتقداته، بالإفراط في الشراب حتى انثلمت أطراف مداركه، بالكسل، بالخمول، بالعنجهية، بالكبرياء والهوى، بكل الوسائل. ما هذا السرْد؟ كتالوج كتبٍ قديمة؟ وما هي موهبته على أية حالٍ؟ إنها موهبةٌ أي نعم ولكنه — بدلًا من أن يستخدمها — تاجَر فيها. إنها لم تتمثل أبدًا فيما أنجزه، بل فيما يستطيع إنجازه. ولقد اختار أن يكسب عيشه عن طريقٍ آخر غير القلم والورق. وكان من الغريب أيضًا — أليس كذلك — أنه كلما كان يقع في حبِّ امرأةٍ جديدة يكون لديها مالٌ أكثر مما لدى المرأة السابقة عليها. بيْد أنه حين لم يعُد يشعر بالحب، حين أصبح كَذُوبًا فحسب، كما يحدث الآن مع هذه المرأة التي لديها أكبر قدرٍ من المال، التي لديها المال كله، والتي كان لديها زوجٌ وأولاد، والتي كان لها عُشَّاق لم ترْضَ عنهم، والتي أحبَّته حبًّا صادقًا بوصْفه كاتبًا وإنسانًا وصديقًا، وبوصْفه من ثمين المقتنيات، من الغريب أنه حين لم يكن يحبُّها على الإطلاق كان كذوبًا في ادعائه الحب، استطاع أن يُعطي مقابل النقود أكثر مما كان يُعطي عادةً بدافع الحب الحقيقي. وجال في خاطره أنه لا بد أننا قد خُلِقنا مهيئين لِما نفعل، والمرء مع ذلك يكسب عيشه من مواهبه. لقد باع حيويته، بشكلٍ أو بآخر، طوال حياته، وعندما لا يكون لعواطفه شأن بعلاقاته فإنه يوجِّه اهتمامًا أكبر للمال. لقد اكتشف ذلك، ولكن ليس بوسعه الآن أن يكتب عنه. كلا، إنه لن يكتب عن ذلك الأمر، رغم أنه يستحق. ثم تجيء هي في الصورة الآن — في أفريقيا — تسير عبر الفضاء المكشوف تجاه المخيم. كانت ترتدي ملابس الصيد وتحمل بندقيتها. وكان كلٌّ من الصبيَّين يحمل مدفعًا رشاشًا، ويسيران خلفها. وجال بفكره أنها لا تزال امرأةً جميلة، وجسمها لطيف، وكانت ذات موهبةٍ عظيمة في أمور الحب والغرام. لم تكن بالحسناء، ولكنه يُحب وجهها، كما أنها تقرأ بشراهة، وتحب ركوب الخيل والصيد، وهي بالتأكيد تُفرط في الشراب. كان زوجها قد مات وهي لا تزال على درجةٍ من الشباب، فكرَّست نفسها وقتًا ما لولدَيها الفتيَّين، اللذين لم يكونا بحاجةٍ إليها ويشعران بالحرج وهي معهما، ولممتلكاتها من الخيول، وللكتب، ولزجاجات الشراب. وكانت تحب أن تقرأ في المساء قبل تناوُل العشاء، وتشرب الويسكي بالصودا وهي تقرأ. وحين يحل وقت العشاء تكون قد ثملت إلى حدٍّ ما، أما بعد زجاجة من النبيذ مع الطعام فإنها تكون ثملةً بما يكفي للذهاب إلى النوم. كان ذلك قبل مرحلة العشق. فبعد أن اتخذَت عُشَّاقًا لم تعُد تُفرط في الشراب؛ لأنها لم تعُد مضطَرةً إلى الشرب كيما تنام. ولكن عُشَّاقها كانوا يبعثون فيها الملل. لقد كانت زوجةً لرجل لم يُثر فيها مللًا على الإطلاق، ولكن هؤلاء الناس أضجروها إلى حدٍّ بعيد. ثم حدَث أن قُتل أحد ولدَيها في حادث طائرة، ولمَّا مضى وقتٌ على ذلك لم تعُد بحاجةٍ إلى عُشَّاق، وكان عليها أن تُولَد من جديد؛ لأن الشراب لم يعد يخفف من آلامها، وتملَّكها رعبٌ فجائي من الوحدة. ولكنها كانت تريد إلى جوارها شخصًا تحترمه. وبدأ الأمر بسيطًا للغاية. كانت تحب ما يكتب، وكانت دائمًا تحسده على الحياة التي يحياها. كانت تعتقد أنه يفعل ما يريد تمامًا. ولقد كانت الخطوات التي حازَته عن طريقها، والطريقة التي وقعَت بها أخيرًا في غرامه جزءًا من سلسلةٍ منتظمةٍ أقامت بها لنفسها حياةً جديدة، بينما باع هو ما تبقَّى له من حياةٍ سابقة. لقد باعها مقابل الأمان، ومقابل الرفاهية أيضًا، لا سبيل إلى إنكار ذلك. ومقابل ماذا أيضًا؟ إنه لا يعرف. إنها كانت لتجلب له أي شيءٍ يريد، كان يعرف ذلك. ولقد كانت امرأةً لطيفة، ولَعِينة في نفس الوقت. وقد كان يُفضِّل حبها على حبِّ أي واحدةٍ أخرى، هي لأنها أغنى، لأنها لطيفةٌ جدًّا وحسَّاسة، ولأنها لم تثُر عليه مطلقًا. والآن، فإن هذه الحياة الجديدة التي شيدَتها لنفسها تؤذن بالنهاية؛ لأنه لم يستخدم صبغة اليود منذ أسبوعَين حين دخلَت شوكة إلى ركبته بينما هم يهرعون لتصوير قطيعٍ من ذكور الظباء تقف رافعة الرأس، تحدِّق أمامها وخياشمها تُطالع الهواء، وآذانها تُرهف السمع استرقاقًا لأول ضوضاءٍ ترسل بها مهطعة داخل الغابة. وقد سقط أيضًا على الأرض قبل أن ينجح في التقاط الصورة. ها هي قد حضرَت الآن. وأدار رأسه على المحفَّة كيما ينظر إليها. قال: أهلًا. فقالت له: لقد اصطدتُ كبشًا. سوف أحضر لك مرقًا دسمًا، وسوف أجعلهم يُعدِّون لك بطاطس مهروسة. كيف حالك الآن؟ – أفضل بكثير. – أليس هذا رائعًا؟ كنتُ على يقينٍ من ذلك. لقد كنتَ نائمًا حين خرجتُ. – لقد نمتُ نومًا عميقًا. هل توغلتِ كثيرًا في الغابة؟ – كلا. وراء التل لا غير. لقد اصطدتُ الكبش بطلقةٍ في الصميم. – إنك بارعةٌ في التصويب. – إني أحب الصيد. لقد أحببتُ أفريقيا. لو أنك كنت على ما يُرام لكانت هذه الرحلة أفضل رحلاتي. إنك لا تعلم أيَّ متعةٍ أحسُّ بها بالصيد معك. لقد أحببتُ هذا البلد. – إني أحبُّه أيضًا. – يا حبيبي! إنك لا تعلم كم هو رائع أن أرى حالك يتحسن! إني لا أحتمل غضبك. عِدْني أنك لن تكلمني غاضبًا كما فعلتَ سابقًا! قال: أجل. إني لا أذكر ما قلتُ. – إنك لستَ مضطَرًّا إلى تدميري. ما أنا إلا امرأة في منتصف العمر تحبُّك وتريد أن تفعل ما تحب. لقد سبق لي أن دُمِّرتُ مرتين أو ثلاث مرات. إنك لن تريد دماري مرةً أخرى. قال: إني أودُّ أن أُدمِّركِ مراتٍ عدةً غرامًا وهيامًا. – أجل. هذا هو الدمار الحسَن. هذه هي الطريقة التي خُلقنا كي نُدمَّر بها. ستكون الطائرة هنا غدًا. – كيف تعرفين؟ – إني متأكدةٌ من ذلك. لا مفرَّ من وصولها. ولقد جهَّز الأولاد الأخشاب والحشائش لتمييز مكان الهبوط. لقد ذهبتُ إلى هناك ورأيتُ المهبط مرةً أخرى اليوم. هناك متسعٌ من المكان للهبوط، وقد جهَّزْنا العلامات على الجانبَين. – ما الذي يجعلكِ تعتقدين أنها ستصل غدًا؟ – إني متأكدةٌ من ذلك. لقد حان موعد وصولها منذ فترة. وعندئذٍ سوف يعالجون ساقك، ثم يتهيأ لنا أن نُدمِّر نفسَينا غرامًا. ولن نعود إلى ذلك الحديث المرعب. – هل لنا في كأس؟ لقد غربت الشمس. – أتظنُّ أن ذلك مناسب؟ – إني أتناول كأسًا الآن. – إذن، سنشرب معًا. وهتفَت باللغة المحلية: يا غلام، اثنين ويسكي بالصودا. وقال لها: يحسُن بك ارتداء حذاء الرقبة الواقي من الناموس. – سأنتظر حتى أستحم … وشربا معًا بينما الظلمة تتكاثف. وقبل أن ينسدل الظلام ولا يعود هناك ما يكفي من الضوء للصيد، عبر ضبع الخلاء أمامهما في طريقه للدوران حول التل. قال الرجل: هذا اللعين يمرُّ من هنا كل ليلة. كل ليلة طوال أسبوعين. – إنه ذلك الذي يصيح في الليل. لا يهمني ذلك. رغم أنه حيوانٌ قذر. وكان باستطاعته، إذ هما يشربان معًا وليس ثمة من ألمٍ سوى عناء الاضطجاع في وضعٍ واحد، وإذ الصِّبية يوقدون نارًا تتقافز ظلالها على المخيمات، أن يشعر بعودة التوافُق إلى هذه الحياة المتمثلة في الاستسلام اللذيذ. إنها طيبةٌ جدًّا معه. وكان هو قاسيًا وظالمًا تجاهها هذا الأصيل. إنها امرأةٌ ممتازة. رائعة حقًّا. وعندئذٍ خطر له أنه سوف يموت. جاءه هذا الخاطر مندفعًا، ليس كاندفاع المياه أو الرياح، بل على صورة فراغٍ فُجائي يعبق بالشر، والشيء الغريب أن الضبع كان يواكب حافة ذلك الخاطر. سألَته: ما الأمر يا «هاري»؟ قال: لا شيء. يحسُن بكِ أن تتحولي إلى الجانب الآخر. ناحية الريح. – هل بدَّل الغلام أغطية الفراش؟ – أجل. إنني أستخدم حامض البوريك الآن. – وكيف تشعر؟ – مهزوزٌ شيئًا ما. قالت: سوف أذهب الآن لأستحم. وبعد ذلك سآكل معك ثم نُدخل محفتك إلى الخيمة. قال لنفسه إنهما أحسَنا صنعًا بالكفِّ عن الشجار. إنه لم يتشاجر أبدًا لمدةٍ طويلة مع هذه المرأة، بينما كان يتشاجر مع النساء اللائي أحبَّهن حبًّا صادقًا، شجارات طويلة لدرجةٍ مات معها كل شيءٍ جميل بينه وبينهن. لقد أحبَّ أكثر من اللازم، وطلب أكثر من اللازم، وضيَّع كل شيء. وفكَّر في ذلك الوقت عندما كان وحيدًا في مدينة القسطنطينية، بعد أن تشاجر في باريس ورحل. وتردد أولًا على العاهرات، وحين انتهى من ذلك ولم ينجح في قتل شعوره بالوحدة بل زادها سوءًا، كتب إليها، الأولى التي هجرَته، خطابًا يُخبرها فيه كيف أنه لم ينجح أبدًا في قتل حبِّها في قلبه … وكيف أنه ظن ذات مرةٍ أنه يراها خارج فندق «الريجنس» فكاد أن يُغمَى عليه وشعر بالدوار، وكيف أنه يتتبع أي امرأةٍ تشبهها في أي شيء، على طول البوليفار، خائفًا أن يكتشف أنها ليست هي، خائفًا أن يفقد الشعور الذي يهبه له هذا الظن، وكيف أن أي امرأةٍ عرفها جعلَته يفتقدها أكثر وأكثر، وكيف أنه لا يهم أي شيء فعلَته؛ لأنه يعرف أنه لا يستطيع أبدًا مداواة نفسه من غرامها. وكتب هذا الخطاب في النادي، في هدوءٍ واتزان، وبعثه إلى نيويورك طالبًا منها أن تراسله على عنوان مكتب عمله في باريس. بدا له هذا آمنًا. وفكَّر في تلك الليلة التي اشتدَّ فيها شوقه إليها على نحوٍ ملأ نفسه بالفراغ والغثيان، فطفق يدور أمام محل «مكسيم»، ثم تعرَّف على فتاةٍ أخذها معه للعشاء. وبعد ذلك ذهبا معًا يرقصان، وكانت لا تجيد الرقص، فتركها ليرقص مع أرمينيةٍ حسناء احتضنته بذراعيها. وأخذها من جنديٍّ بريطانيٍّ بعد عراكٍ معه. وطلب منه الجندي أن يذهب معه إلى الخارج، وتعاركا في الشارع على البلاط وسط الظلام. وضربه مرتين، بشدة، على جانب الفك، ولمَّا لم يسقط عرف من فوره أن المعركة ستكون طويلةً. وضربه الجندي في بطنه، ثم إلى جوار عينه. وتطوَّح واقعًا، وهجم عليه الجندي ومزَّق ردن معطفه، ولكنه لَكَم الجندي مرتين وراء أذنه ثم طوَّحه بعيدًا عنه مُهمِّشًا إيَّاه بقبضته اليمنى. وحين سقط الجندي عنه، ارتطمَت رأسه بأحجار الطريق، أما هو فجرى سريعًا بالفتاة لأنهما سمعا الشرطة الحربية في الطريق إليهم. ودلفا إلى عربة أجرةٍ وذهبا إلى فندق «هيسا» على ضفاف البوسفور حيث أمضيا ليلتهما. وتركها وحدها عند مطلع النهار، وتوجَّه إلى «بيرا بالاس» بعينٍ سوداء وهو يحمل معطفه على ذراعه لأن أحد ردفيه قد تمزق. ورحل في نفس تلك الليلة إلى الأناضول. وتذكَّر كيف كان القطار خلال الرحلة يخترق حقول الخشخاش التي يزرعونها للحصول على الأفيون، والشعور الغريب الذي يبعثه المنظر في النفس، وكيف تبدو جميع المسافات خاطئة، ثم تذكَّر الهجوم الذي شنُّوه مع ضباط القسطنطينية الذين وصلوا حديثًا، والذين لم يكونوا يعرفون شيئًا قط، وكيف أطلقَت المدفعية النيران على القوات، والمراقب البريطاني وهو يبكي كالطفل. كان ذلك هو يوم شاهَد لأول مرةٍ رجالًا موتى يرتدون تنورات الباليه البيضاء وأحذيةً مقلوبة عليها كرياتٌ صوفية. وكان الأتراك يتقدمون باطِّرادٍ وبثقل، وشاهَد الرجال ذوي التنورات يجرون، والضباط يطلقون عليهم النار ثم يجرون هم أنفسهم، وجرى هو والمراقب البريطاني أيضًا حتى آلمَته رئتَيه وامتلأ فمُه بطعم المرارة. وتوقَّفا وراء بعض الصخور، وخلفهم كان الأتراك يتقدمون بثقلهم المعهود. وشهد بعد ذلك الأشياء التي لم يكن بقدرته أن يفكر فيها، وشهد بعدها أيضًا أشياء أسوأ بكثير. ولذلك فإنه حين عاد إلى باريس تلك المرة لم يستطع أن يحكي عن تلك الأيام أو أن يتحمَّل ذكْرَها. وهناك، حين كان يمر أمام المقهى كان يرى ذلك الشاعر الأمريكي جالسًا وأمامه كومٌ من الأطباق، وعلى وجهه البطاطسي ترتسم نظرة غباء، يتحدث عن حركة الدادائية مع روماني يقول إن اسمه «تريستان تزارا» يرتدي دائمًا مونوكلًا ويشكو الصداع. ثم هناك في الشقة مع زوجته التي عاد إليه حبُّها مرةً أخرى، وانتهى كل الشجار، وانتهى كل الغضب، سعيدًا بعودته إلى بيته، ومكتبه يرسل له بريده إلى الشقة. وهكذا، يومًا ما، وصل الخطاب الذي يردُّ على الرسالة التي سبق أن بعثها إلى صديقته، على صحفةٍ ذات صباح، وحين رأى الخط تجمَّد جسده كله وحاول أن يدسَّ الخطاب تحت خطابٍ آخر. ولكن زوجته صاحت به: ممن هذا الخطاب يا عزيزي؟ وكان هذا نهاية بداية ذلك الموضوع. عادت إلى ذهنه الأوقات الجميلة معهن جميعًا، والمشاجرات. كن دائمًا يختزنُ أحسَن الأماكن كيما يبدأن فيها الشجار. ولماذا كُنَّ يتشاجرْن حينما يكون هو في أفضل حالاته؟ إنه لم يكتب أبدًا عن ذلك؛ لأنه في البداية لم يكن يريد أن يُسبِّب ألمًا لأيٍّ منهن، وكذلك لأنه كان هناك، فيما يبدو، موضوعاتٌ كثيرةٌ أخرى يكتب عنها. ولكنه كان يعتقد أنه سوف يكتب أيضًا عن تلك الموضوعات الأخرى يومًا ما. كان هناك الكثير مما يصلح للكتابة. لقد رأى العالمَ وهو يمرُّ بنقطة تحوُّل، لا الأحداث فحسب، رغم أنه رأى الكثير من الأحداث وراقب الناس فيها، ولكنه كان يرى أيضًا التحوُّل الدقيق ويستطيع أن يتذكَّر كيف كان حال الناس في أوقاتٍ مختلفة. لقد عاش ذلك ورصَده ومن واجبه أن يكتب عنه، ولكنه الآن لن يفعل ذلك أبدًا. قالت: كيف حالك الآن؟ كانت قد خرجَت من الخيمة بعد أن استحمَّت. – على ما يُرام. – أيمكنك أن تأكل الآن؟ ورأى الصبيَّ خلفها يحمل المنضدة الصغيرة والصبي الآخر يحمل الأطباق. قال: أريد أن أكتب. – يجب أن تتناول بعض المرق كيما يشد أزرك. قال: سوف أموت الليلة. لا حاجة بي إلى شدِّ أزري. قالت: لا تبالغ في الأمور يا هاري أرجوك. – لماذا لا تستخدمين أنفك؟ لقد تعفَّن نصف فخذي الآن. لماذا بحق الجحيم أتناول المرق؟ يا غلام أحضر لي ويسكي بالصودا. فقالت برِفق: أرجوك أن تتناول المرق. – حاضر. وكان المرق ساخنًا جدًّا، وتعيَّن عليه أن يمسك بالفنجان إلى أن يبرد بما فيه الكفاية ثم دفعه إلى جوفه دون أن يتذوقه. قال: إنكِ امرأةٌ لطيفة. لا تُلقي بالًا لما أقول. ونظرَت إليه بوجهها الحبيب المعروف الذي طالما ظهر في المجلَّات النسائية الشهيرة، والذي لم يتدهور إلا قليلًا من جرَّاء الشراب، ومن جرَّاء السهر، إلا أن تلك المجلات لم تُظهر محاسنها الخفية، ولا يدَيها الرقيقتين الصغيرتين. وإذ نظر ورأى ابتسامتها اللطيفة المعهودة، شعر بالموت يأتي ثانيةً. وفي هذه المرة لم يكن في عجلةٍ من أمره. كان نفخة هواءٍ كالريح الذي يُمايل الشمعة ويُطيل شعلتها. – يمكنهم أن يحضروا شبكة النوم فيما بعد ويعلقوها من الأشجار ويوقدوا النيران. إني لن أدخل إلى الخيمة هذه الليلة. لا يستحق الأمر عناء الانتقال. إنها ليلةٌ صافية. ولن يسقط المطر. إذن … فهكذا تموت، وسط همسات لا تسمعها. حسَن، لن يكون هناك مزيدٌ من الشجار. إن بوسعه أن يَعِد بذلك. إنه لن يفسد الآن التجربة الوحيدة التي لم يمر بها أبدًا من قبل. قد ينجح في ذلك. إنه قد أفسد كل شيءٍ. ولكن … ربما ينجح هذه المرة. – هل يُمكنكِ أن تكتبي ما أُمليه؟ قالت: إنني لم أتعلَّم ذلك من قبل. – لا عليكِ. ليس هناك متسعٌ من الوقت طبعًا، ولو أن الأمر يبدو واضحًا لدرجةٍ قد يمكنك معها أن تضعه كله في فقرةٍ واحدة إذا أمكنك أن تُجيد صياغتها. كان هناك بيتٌ من كُتل الأخشاب ملطَّخٌ هنا وهناك بالمونة البيضاء قائمٌ على تلٍّ أعلى البحيرة. وكان ثمة جرسٌ مُقامٌ على عمودٍ خشبيٍّ إلى جوار الباب لدعوة الناس إلى تناوُل الطعام. وخلف المنزل تقع الحقول، وخلف الحقول الأشجار التي يُؤخَذ منها الخشب. وثمة صفٌّ من شجر الحور اللومباردي يمتدُّ من المنزل حتى المدفأة. وأشجار حول أخرى على طول النتوء البحري. وثمة طريقٌ يصِل إلى التلال على طول حافة الأشجار، وكان يقطف الفراولة البرية من ذلك الطريق. ثم حدث أن احترق ذلك البيت الخشبي، واحترقَت كل البنادق التي كانت معلقةً على الرفوف المصنوعة من أقدام الغزلان فوق المدفأة المكشوفة، وبعد ذلك أصبحَت مواسير البنادق — والرصاص ذائبٌ في خزاناتها وكعوبها محترقةٌ تمامًا — ملقاةً على كومة الرماد الذي كان يُستخدَم كقلويٍّ لصناعة الصابون في الغلَّايات الحديدية الكبيرة، وسألت جدَّك إذا كان يمكنك أخْذُها لتلعب بها فقال: كلا. أترى، أنها كانت لا تزال بنادقه، ولم يشترِ أي بنادق أخرى غيرها، كما أنه لم يعُد يصطاد بعدها أبدًا. وأُعيدَ بناء المنزل في نفس موقعه من العروق الخشبية هذه المرة، وطُلِي باللون الأبيض، ومن شُرفته يرى المرء أشجار الحور ووراءها البحيرة، ولكن لم تكن هناك بنادق أخرى بعد ذلك. وأضحَت خزانات البنادق التي كانت معلَّقةً على أقدام الغزلان على الحائط في المنزل الخشبي القديم راقدةً هناك على كومة الرماد ولم يلمسها أحدٌ قط. وبعد الحرب، في الغابة السوداء، قُمنا باستئجار غديرٍ يزخر بأسماك الأطروط. وكان ثمة طريقان للوصول إليه، أولهما من الوادي عند «ترايبورج» إلى طريقٍ جانبيٍّ يصعد في الجبال، مرورًا بكثيرٍ من المزارع الصغيرة ذات البيوت التي يشتهر بها الريف الألماني، إلى أن يفضي إلى الغدير، حيث يبدأ صيدنا. والطريق الثاني يمرُّ من حافة الغابة إلى أعلى التلال من خلال غابات الصنوبر، خروجًا إلى حافة المرج إلى الجسر. وكانت هناك أشجار سندر على طول الغدير، الذي لم يكن كبيرًا بل كان ضيقًا، صافيًا، جاريًا، مكوِّنًا بحيراتٍ في الأمكنة التي ضربَت فيها جذور الأشجار. وكان موسم الصيد طيبًا بالنسبة لصاحب الفندق في «ترايبورج». كان كل شيءٍ بهيجًا، وكنا جميعًا أصدقاء حميمين. وفي العام التالي جاء التضخم ولم يكْفِ المال الذي ربحه صاحب الفندق في العام الذي قبله لشراء التجهيزات اللازمة لفتح الفندق فشنق نفسه. بإمكانك أن تُملي هذا ولكن ليس بإمكانك أن تُملي مشاهد ميدان «كونتر سكارب»، في باريس، حيث بائعو الأزهار يصبغون أزهارهم في الطريق وتسيل الصبغة على الرصيف عند رأس خط الأوتوبيس، والشيوخ والعجائز سُكارى على الدوام بالنبيذ وبالبراندي الرديء، والأطفال سائلةٌ أنوفهم في البرد، ورائحة العرق النتن والفاقة والسكْر في مقهى «أما تيرز»، والعاهرات في مرقص «ميزيت» الذي كان يُقيمان أعلاه. وبوابة المبنى التي احتفَت بجندي الحرس الجمهوري في شقتها، وخلع عنه خوذته ذات الريش المصنوع من شَعر الجياد ووضعها على الكرسي. ونزيلة الحجرة التي تقع في آخر الصالة، التي يعمل زوجها في سباق الدراجات، وفرحَتُها ذلك الصباح في محل الألبان حين فتحَت صحيفة «الأوتو» ووجدَت أنه قد حاز المرتبة الثالثة في سباق «باريس-تور»، أول سباقٍ كبيرٍ يشترك فيه، وتورَّد وجهها وضحكَت ثم صعدَت إلى الطابق العلوي تصيح وهي تمسك الصحيفة الرياضية الصفراء في يدها. وزوج السيدة التي تدير مرقص ميزيت، ويعمل سائقًا للتاكسي، وحين كان يتعيَّن عليه هو، «هاري»، اللحاق بطائرة الصباح الباكر، طرَق عليه الزوج الباب لإيقاظه وشرب كلاهما كأسًا من النبيذ الأبيض عند حوض البار قبل أن ينطلقا إلى المطار. كان يعرف كلَّ جيرانه في ذلك الحي آنذاك، لأنهم كانوا جميعهم فقراء. وكان قاطنو ذلك الميدان ينقسمون إلى فئتين: السُّكارى، والرياضيون. فالسكارى يقتلون فاقتهم عن طريق الشراب، والرياضيون يستهلكونها في الرياضة. كانوا سلالة أهل «كوميون باريس»، ولم يكن صعبًا عليهم معرفةُ أين ينحازون في السياسة. كانوا يعرفون من أغتال آباءهم وأقاربهم وإخوانهم وأصدقاءهم حين جاءت قوَّات «فرساي» واحتلَّت المدينة بعد «الكوميون» وأعدمَت كل شخصٍ وجدَته متورِّمَ اليدين أو يرتدي قلنسوة، أو يحمل أيَّة علامةٍ أخرى تنمُّ عن أنه عاملٌ وفي هذه الفاقة، وفي ذلك الحي المجاور لجزارة «شفالين» وبقالة النبيذ، قام بكتابة خطة كل ما سوف يكتبه بعد ذلك. لم يكن هناك مكان في باريس أحبَّه مثل هذا المكان: الأشجار المنبسطة في غير نظام، البيوت البيضاء العتيقة المكسوة بالجص والمطلي أسفلها باللون البُنِّي، والصف الأخضر الطويل من الأوتوبيسات في ذلك الميدان، وصبغة الأزهار الأرجوانية على الرصيف، والانحدار المفاجئ للتل عند شارع «الكاردينال ليموان» نحو نهر «السين»، وفي الناحية الأخرى العالم الضيق المزدحم لشارع «موفتار». وذلك الطريق الذي يفضي إلى «البانثيون» والآخر الذي كان يقطعه دومًا بالدراجة — الوحيد المُغطَّى بالأسفلت في ذلك الحي، الذي ينبسط ممهَّدًا تحت عجلات الكاوتشوك — بمنازله الطويلة الضيقة والفندق الرخيص العالي الذي مات فيه الشاعر «بول فرلين». كانت الشقة التي يعيشان فيها لا تحتوي إلا على غرفتين فقط، وكانت لديه غرفةٌ في الطابق العلوي من ذلك الفندق يدفع فيها ستِّين فرنكًا في الشهر، حيث كان يكتب، وبوسعه أن يرى منها أسطُح باريس ومداخنها وكل تلالها. أما في الشقة فلا يمكنك سوى رؤية الغابة ومحل بائع الفحم. وكان يبيع النبيذ أيضًا، النبيذ الرديء … ورأس الحصان الذهبي خارج جزارة «شيفالين» حيث اللحوم حمراء وذهبيةٌ مُعلَّقة في الفترينة المكشوفة، ومحل البقالة المطلي بالأخضر حيث كانوا يشترون نبيذهم، نبيذٌ جيدٌ ورخيص. وما بقي بعد ذلك فهو الجدران المطلية بالجص ونوافذ الجيران. الجيران الذين يفتحون نوافذهم ويأخذون في الهمهمة حين يستلقي أحدهم سكرانًا بالليل يئنُّ ويتوجع في تلك الحالة من الثمالة الفرنسية المشهورة التي كانوا يحاولون قبل ذلك أن يجعلوك تعتقد أنها لا تُوجَد أبدًا. يهمهمون: «أين رجل الشرطة؟ حين لا نريده يكون دائمًا واقفًا هناك. إنه ينام في أحد الفنادق. اتصلوا بقسم الشرطة.» إلى أن يُلقي أحدهم جردل ماءٍ من إحدى النوافذ فيتوقف الأنين. «ما هذا؟ ماء؟ هذا عظيمٌ!» وتغلق النوافذ «وماري»، الخادمة، تحتجُّ على يوم العمل ذي الثماني ساعات بدلًا من التسع ساعات فتقول: «إذا كان الزوج يعمل حتى السادسة مساء، فإنه لا يثمل إلا قليلًا عند عودته إلى المنزل ولا يضيع نقودًا كثيرة. أما إذا عمل حتى الخامسة مساء فقط فإنه سيشرب كل ليلةٍ ولن يتبقى معه أية نقود. إن الزوجة هي التي ستُعاني حقيقةً من تقصير ساعات العمل.» وكانت المرأة تسأله الآن، هنا، في أفريقيا: هل تحب أن تتناول مزيدًا من المرق؟ – كلا، وشكرًا جزيلًا. إنه لذيذ للغاية. – حاوِل أن تشرب قليلًا. – إني أُفضِّل تناوُل بعض الويسكي بالصودا. – إنه ليس مناسبًا لصحتك. – كلا، إنه ضارٌّ بي. لقد كتب «كول بورتر» كلمات الأغنية وموسيقاها، إنكِ ستجنين بي غرامًا. – إنك تعرف أنني أُحب أن أدعك تشرب كما يحلو لك. – أوه، أجل، إلا أنه ضارٌّ بي. وجال في فكره: حين تذهب، سأفعل ما يحلو لي، لا كل ما يحلو لي بل كل ما هو موجود. آه … لقد كان متعبًا. متعبًا جدًّا. سوف ينام بعض الوقت. ورقد ساكنًا، ولم يكن الموت موجودًا. لا بد أنه ذهب إلى مكانٍ آخر. إنه يتجول اثنين اثنين، بالدرَّاجات، وفي صمتٍ شديد، فوق الأرصفة. كلا، إنه لم يكتب أبدًا عن باريس. ليس باريس التي يُحبها. ولكن … ماذا عن بقية الأشياء التي لم يكتب عنها أبدًا؟ ماذا عن المزرعة، واللون الرمادي الفضِّي لشجرة «المريمية»، والمياه الرقراقة السريعة في قنوات الري، واخضرار البرسيم القاتم، ويمضي الطريق صُعُدًا في التلال. والماشية في الصيف خجولة كالغزلان والثغاء، والضوضاء المنتظمة، والكتلة البطيئة التحرُّك تُثير غبارًا والقطيع يهبط في الخريف. وخلف الجبال، ووضوح القمة الحاد على ضوء الماء، والهبوط ركوبًا بمحاذاة خط القطار في ضوء القمر الباهر عبر الوادي. وتذكَّر الآن الهبوط عبر الأشجار في وسط الظلمة مُمسكًا بذيل الحصان حين لم يكن باستطاعته الرؤية، وكل القِصص التي انتوى أن يكتبها. عن الصبي الشغَّال نصف المعتوه الذي تركوه في المزرعة ذلك الوقت وقالوا له أن يحرس التبن، وذلك الوغد العجوز من «فوركس» الذي ضرب الصبي عندما حاول منعه من سرقة بعض العلف. ورفض الصبي وقول العجوز إنه سيضربه ثانية. وأحضر الصبي بندقيةً من المطبخ وأطلق عليه النار حين حاول الدخول إلى المخزن. وحين عادوا إلى المزرعة كان قد مضى أسبوعٌ على العجوز وهو ميتٌ، وقد تجمَّد جسده في حظيرة المواشي، والكلاب قد أكلَت أجزاء من جثته. وجمعتَ أنت ما تبقَّى، ملفوفًا في ملاءةٍ ووضعتَه على زحافة وربطتَه عليها بالحبال وجعلتَ الصبي يُساعدك في جرِّها، واصطحبتموها أنتما الاثنان وقطعتُما الطريق على زلَّاجات الجليد ستِّين ميلًا إلى المدينة لتسليم الصبي، وهو لم تكن لديه فكرةٌ أنهم سيقبضون عليه. يظن أنه قد أدَّى واجبه وأنك صديقه وأنهم سيكافئونه على ما فعل. وهو قد ساعد على جرِّ جثة العجوز حتى يعرف كل شخصٍ كيف كان العجوز شريرًا وكيف أنه حاول سرقة بعض العلف الذي لا يخصُّه، وحين وضع الضابط القيود في يدَي الصبي لم يصدق عينيه، ثم أخذ في البكاء. هذه قصةٌ ادَّخرها كيما يكتبها. كان يعرف عشرين قصةً جيدة على الأقل من تلك الأيام. ولكنه لم يكتب أبدًا واحدةً منها. لماذا؟ قال: قولي لهم أنتِ لماذا؟ – لماذا ماذا يا عزيزي؟ – لماذا لا شيء. إنها لم تكن تُفرط في الشراب، الآن، منذ أن استولَت عليه. ولكنه إن عاش فلن يكتب عنها أبدًا، إنه متأكدٌ الآن من ذلك. ولا عن أيٍّ منهن. فالثريات مضجرات ويُفرطن في الشراب، أو هن يدمن لعب الطاولة. إنهن مضجرات ويُكرِّرن أنفسهن. وتذكَّر «جوليان» المسكين ورُعبَه الرومانسي من الأثرياء وكيف أنه بدأ مرةً قصةً بقوله: «إن المفرطين في الثراء يختلفون عنِّي وعنك.» وكيف أن أحدهم قال لجوليان: «أجل، فإنهم يملكون نقودًا أكثر.» ولكن هذا لم يَرُق لجوليان. كان يعتقد أنهم جنسٌ خاصٌّ فاتن، وحين اكتشف أنهم ليسوا كذلك حطَّمه ذلك الاكتشاف مثلما حطَّمه أي شيءٍ آخر. لقد كان يحتقر أولئك الذين يتحطمون. ليس على المرء أن يحب الأمور لأنه يفهمها. لقد آمن أن بإمكانه أن يقهر أي شيء، لأنه ما من شيء أصابه بالأذى لو أنه لم يكن يهتم به. حسَن. الآن لن يهتم بالموت. إنه الشيء الوحيد الذي أحسَّ بالخشية منه دائمًا هو الألم. إن بوسعه احتمال الألم ككل رجلٍ آخر، إلا إذا استمر مدةً طويلة وأضناه، ولكن هنا، كان ثمة شيء يؤلمه أشد الألم، وعندما أحسَّ به يُحطمه تحطيمًا، توقف الألم. وتذكَّر منذ زمان طويل حين أُصيب «ويليامسون»، ضابط المدفعية، بقنبلةٍ يدوية ألقاها أحد أفراد دوريةٍ ألمانية، حين كان آتيًا عبر الأسلاك الشائكة، وتضرَّع للجميع وهو يصرخ أن يقتلوه كان رجلًا بدينًا، عظيم الشجاعة، وضابطًا ماهرًا، رغم أنه يدمن التهويل في الأمور. ولكنه في تلك الليلة أُصيب وهو بين الأسلاك الشائكة، وشعلةٌ من النار تُضيئه، وأمعاؤه مدلاةٌ على الأسلاك، ولذلك فإنهم كي يحملوه اضطُروا إلى قصِّ الأسلاك حتى يخلصوه منها. وصاح بي: أطلق النار عليَّ يا «هاري». بحق المسيح اقتلني. وكانوا قد تناقشوا مرةً بأن الله لا يمكن أن يُنزل بأحدٍ مصيبةً إلا في حدود احتماله، وكانت نظرية أحدهم أن تفسير ذلك هو أنه أحيانًا يُصيب الألم الشديد صاحبه بالإغماء بطريقةٍ آليةٍ فلا يشعر بشيءٍ بعد ذلك. ولكنه دائمًا كان يتذكر «ويليامسون» في تلك الليلة؛ إذ إنه لم يُصبْ بالإغماء، إلى أن أعطاه كلَّ ما لديه من أقراص المورفين التي ادَّخرها لنفسه، وحتى حينذاك فإنها لم تؤدِّ مفعولها على نحوٍ فوريٍّ. وحتى ما يحدث الآن، ما يمرُّ به، كان هيِّنًا جدًّا. وإذا لم يتدهور الحال مع مرور الوقت فلا ثمة داعٍ للقلق. عدا أنه كان يفضِّل رفقةً أفضل. وفكَّر برهةً في الرفقة التي يودُّ أن تكون معه. وجال بخاطره: كلا، إذا كان كل ما تقوم به تنجزه في مدةٍ طويلةٍ جدًّا، وفي وقتٍ متأخرٍ جدًّا، فلا يمكن لك أن تتوقع أن يكون الناس ما زالوا في انتظارك. لقد رحل الناس جميعًا، انتهى الحفل، وأنت الآن وحدك مع مضيفتك، وجال في خاطره: إنني أحسُّ بالملل وأنا أموت كما أحسستُ دائمًا مع كل شيءٍ آخر. قال بصوتٍ مرتفعٍ: إنه شيءٌ مملٌّ. – ماذا يا عزيزي؟ – أي شيء يستغرق المرء وقتًا طويلًا في أدائه. وتطلَّع إلى وجهها الذي يقوم بينه وبين النيران. كانت تضطجع إلى الوراء في المقعد وضوء النيران يلتمع على وجهها ذي القسمات اللطيفة، وكان بوسعه أن يرى أنها غافية. وسمع الضبع يُطلق أصواتًا فيما وراء مجال النيران مباشَرةً. قال: لقد كنتُ أكتب، ولكني تعبتُ. – هل تعتقد أن بوسعك أن تنام؟ – بالتأكيد. لماذا لا تأوين إلى فراشك؟ – أحبُّ أن أجلس هنا معك. سألها: هل تُحِسِّين بأي شيءٍ غريب؟ – كلا. إنني نعسانة ليس إلا. قال: أما أنا فأشعر بشيءٍ غريب. كان قد شعر لتوِّه بالموت يأتي مرةً أخرى. قال لها: أتعلمين، إن الشيء الذي لم أفقده أبدًا هو حبُّ الاستطلاع. – إنك لم تفقد أي شيءٍ مطلقًا. إنك أكثر من عرفتُ كمالًا. قال: يا إلهي … ما أقل ما تعرف النساء! ما هذا؟ حدسكِ؟ ذلك أنه في تلك اللحظة حضر الموت وأرسى رأسه على قدم المحفَّة. وكان بوسعه أن يشمَّ أنفاسه. وتحرك فوقه الآن، ولكنه لم يعُد له أي شكلٍ بعدُ. كان يشغل حيِّزًا وحسب. – قولي له أن يرحل. ولكنه لم يرحل، بل اقترب منه. قال له: إن أنفاسك تحرقني، أنت أيها اللعين. واقترب منه أكثر فأكثر، ولم يستطع الآن أن يتحدث إليه، وحين أدرك أنه لا يستطيع الكلام اقترب منه أكثر، وحاول الآن أن يُزيحه عنه دون أن يتحدث، ولكنه تحرك فجثم عليه حتى أصبح كل ثقله على صدره، وإذ هو جاثمٌ عليه وهو لا يستطيع الحركة أو الكلام، سمع المرأة تقول: «السيد نائمٌ الآن. احملوا المحفة برفقٍ وأدخلوها إلى الخيمة.» ولم يستطع أن يتكلم كي يقول لها أن تجعله يرحل عنه، وكان الآن جاثمًا بثقلٍ أكبر حتى إنه يمنعه عن التنفس. وحينئذ، وحين كان الصبيَّان يرفعان المحفة، استقام الحال فجأةً وانزاح العبء الذي كان جاثمًا فوق صدره. كان الوقت نهارًا، والصباح قد طلع منذ فترة، وسمع صوت الطائرة. وظهرَت صغيرةً جدًّا ثم دارت دورةً عريضة وجرى الصِّبية وأوقدوا النيران، مستخدمين الكيروسين، كوَّموا الحشائش كعلامات حتى أصبح هناك صفَّان كبيران في كل ناحيةٍ من المكان الممهَّد، وأطارَتها نسمة الصباح نحو المخيم. ودارت الطائرة دورتَين أخريين، خفيضة هذه المرة، ثم انسابت هابطةً واستقامت وهبطَت في سلاسة. ثم ها هو «كومبتون» العجوز يأتي ماشيًا تجاهه مرتديًا بنطالًا عليه سترة من التويد وقبعةٌ بُنِّية من اللباد. قال «كومبتون»: ما الأمر أيها الديك العجوز؟ قال له: ساقٌ معطوبة. هل لك في بعض الفطور؟ – شكرًا. سأتناول بعض الشاي فحسب. لن أتمكن من اصطحاب السيدة. ليس هناك مكان إلا لشخصٍ واحد. إن شاحنتك في الطريق. وانتحَت الزوجة ﺑ «كومبتون» جانبًا وطفقَت تتحدث إليه. وعاد «كومبتون» وقد زاد انشراحه. قال: سندخلك إليها على ما يُرام. وسوف أعود لاصطحاب السيدة. والآن فإني أخشى أنه يتعين علينا الوقوف في «أروشا» للتزوُّد بالوقود. يحسن بنا أن نُسرع. – والشاي؟ – لا يهمُّ. ورفع الصِّبية المحفة وحملوها حول الخيمات الخضراء وعبر الصخرة، وخرجوا بها إلى السهل وعلى طول صفوف العلامات، التي كانت الآن تشتعل متوهجةً وقد التهمَت النار كل الحشائش، والهواء يروح عليها، إلى أن وصلوا إلى الطائرة الصغيرة. وكان من الصعب إدخاله إليها، ولكن ما إن دخل حتى اضطجع على المقعد الجلدي، وبرزت الساق المعطوبة من أحد جانبَي المقعد حيث يجلس «كومبتون» وأدار «كومبتون» المحرك ودلف إلى مكانه. ولوَّح مودِّعًا زوجته والصِّبية. وإذ تحول الضجيج إلى الزفير المعهود، مالا جانبًا «وكومبتون» يُراقب الحُفر التي تحفرها الخنازير البريَّة في الأرض، وزأرَت الطائرة وارتجَّت على طول الممرِّ بين النيران وارتفعَت مع آخر رجَّةٍ. وشاهدهم جميعًا يقفون أسفل منه، يلوِّحون بأذرعتهم، والمخيم إلى جوار التل، منبسطٌ الآن، في حين تمتدُّ آثار الحيوانات الآن في سلاسة حتى المستنقعات الجافة، وكان ثمة حياةٌ جديدة لم يرَها أبدًا من قبل. والآن … ظهور الحمُر الوحشية المستديرة الصغيرة، والتياتل، نقاطًا كبيرة الرأس تبدو وكأنها تتسلق إذ هي تتحرك في خطوطٍ طويلةٍ تجاه السهل، تتفرق الآن إذ الظل يرتفع في اتجاههما، فهي صغيرةٌ الآن، وحركتها ليس بها أي ركض، والسهل منبسطٌ على مشارف البصر، رمادي أصفر الآن، وأمامه ظهر «كومبتون» العجوز التويدي والقبعة البُنِّية اللبادية. ثم أشرفا على أول التلال والتياتل تنساب مصعدةً فوقها، ثم حلَّقا فوق جبالٍ ذات أعماق. وحينئذ، بدلًا من الذهاب تجاه «أروشا»، انحرفا يسارًا، فاستنتج أن في الوقود بقية، ورأى حين نظر تحته سحابةً وردية اللون مليئةً بالثقوب، تتحرك فوق الأرض، وفي الهواء، كنُدف الثلج التي تُنذر بعاصفةٍ جليدية، تأتي من لا مكان، وعرف أنها جحافل الجراد الذي يأتي من الجنوب. ثم أخذا يصعدان ويتَّجهان نحو الشرق فيما يبدو، ثم أظلم الجو ودخلا في عاصفة، والمطر كثيفٌ فكأنما يطيران فوق شلال، ثم خرجا منها وأدار «كومبتون» رأسه وابتسم وأشار بيده. وهناك، أمامه، كان كل ما يستطيع أن يرى عريضًا عرض الدنيا بحالها، عظيمًا، سامقًا، ناصع البياض في الشمس إلى درجةٍ لا تُصدَّق، القمة الرباعية لجبل «كليمنجارو». وحينئذٍ عرف أنه ذاهبٌ إلى ذلك المكان. ••• وعند ذاك فحسب توقف الضبع عن الخوار في الليل، وبدأ يُصدر صوتًا غريبًا بشريًّا يقترب من البكاء. وسمعَته المرأة وتحركَّت في قلق. ولم تستيقظ. ورأت نفسها في الحلم في بيتها في «لونج آيلاند» بولاية نيويورك، في الليلة التي تسبق ظهور ابنتها على المسرح لأول مرة. وبطريقةٍ ما، كان والدها حاضرًا، وكان جافًّا جدًّا معها. ثم تعالى ضجيج الضبع إلى درجةٍ أيقظَتها، وللحظةٍ لم تدْرِ أين هي وانتابها خوفٌ شديدٌ، ثم تناولت البطارية وسلَّطَت ضوءها على المحفة الأخرى التي أدخلوها إلى الخيمة بعد أن استغرق «هاري» في النوم. كان بوسعها أن ترى هيئته تحت حاجز الناموسية، ولكن ساقه كانت بارزةً على نحوٍ ما ومعلقةً على طرف المحفة. وكانت الضمادات قد سقطت كلها ولم يكن باستطاعتها أن تنظر إليها. صاحت: يا غلام! يا غلا… يا غلا… ثم قالت: «هاري»، «هاري»! ثم ارتفع صوتها صائحًا: «هاري»! آه يا «هاري»! ولم يكن ثمة جواب. ولم يكن بوسعها أن تسمعه يتنفس. وخارج الخيمة كان الضبع يُطلق نفس الضجيج الغريب الذي أيقظها. ولكنها لم تسمعه لأن صوت دقات قلبها كان يعلو عليه.
null
https://www.hindawi.org/books/80924807/
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
null
«وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقَدَ هيبتَه كلها حالما توقَّفَت عينُه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالِده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفِخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يَعُد هناك فيلٌ حقيقي، مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي، والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر، اللذين قتلاه من أجلهما.»عبْرَ خمسَ عشرةَ قصةً قصيرة نُبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة «همنجواي» التي تَسبِر أغوارَ النفس، مُستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رَحِم الحياة؛ ففي قصة «الفراشة والدبَّابة» يَدفع شابٌّ مرِحٌ حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة «حاضرة الدنيا» التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أمَّا «قصة أفريقية» فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيلٍ ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل «ديفيد» والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه.
https://www.hindawi.org/books/80924807/12/
الآن أرقد لأنام
في تلك الليلة رقدْنا على الأرض في الغرفة وأنصتُ إلى دود القز وهو يأكل. كان دود القز يتغذَّى في رفوفٍ مليئة بأوراق التوت ويمكنك سماعه طوال الليل وهو يأكل، وسماع صوته وهو يتحرك بين الأوراق. وأنا نفسي لم أرغب في النوم؛ لأني عشتُ فترةً طويلة تُسيطر عليَّ فكرة أنني لو أغمضتُ عينيَّ في الظلمة وتركتُ نفسي للنوم، ستخرج روحي من جسدي. وقد بقيتُ على تلك الحال وقتًا طويلًا منذ أن أُصِبتُ في انفجارٍ بالليل وشعرتُ بروحي تخرج منِّي ثم تعود لي. وحاولتُ ألَّا أفكر في ذلك أبدًا، ولكنها بدأت تخرج من يومها، في الليل، في نفس اللحظة التي أبدأ النوم فيها، ولا يمكنني الإبقاء عليها إلا بمجهودٍ شاقٍّ للغاية. ولذلك في حين أعلم يقينًا الآن أنها لم تكن تخرج حقيقة، ففي ذلك الصيف لم أكن على استعدادٍ لأنْ أمرَّ بتلك التجربة. كانت عندي طرقٌ مختلفة أشْغل بها نفسي حين أرقد مستيقظًا. كنت أفكر في غديرٍ تعودتُ أن أصطاد فيه أسماك الطاروط عندما كنت صبيًّا؛ فأعود ثانيةً في ذهني إلى الصيد بكل تفاصيله على طول الغدير، أنظر تحت كل جذوع الأشجار، أتفحَّص كل منحنيات الضفة، أصطاد في المناطق العميقة والمسطحات الضحلة الصافية، أصيد أسماكًا أحيانًا، وأحيانًا تهرب الأسماك منِّي. ثم أتوقف عن الصيد في الظهيرة كي أتناول غدائي، أجلس أحيانًا على جذع شجرةٍ عند الغدير، وأحيانًا أخرى فوق ضفةٍ عالية، أو تحت شجرة، وآكل دائمًا ببطءٍ متأملًا الغدير الذي يجري من تحتي وأنا آكل. وكثيرًا ما ينفَد طُعم الصيد منِّي لأني لا أحمل معي سوى عشر ديدان داخل علبة تبغٍ. وحين استعملها كلها يتعيَّن عليَّ أن أبحث عن مزيدٍ من الديدان، وأحيانًا يكون صعبًا أن أحفر في شاطئ الغدير حيث أشجار الدردار تحجب ضوء الشمس ولا تُوجَد حشائش، بل التربة الرطبة العارية، وكثيرًا لا أجد أي ديدانٍ هناك. ومع ذلك، كنت دائمًا أجد نوعًا ما من الطعم؛ وحدث مرةً أنني لم أتمكن من العثور على أي طعمٍ مما اضطَرَّني إلى أن أقطع جزءًا من السمكة التي اصطدتُها كي استخدمه كطعم. وكنت أعثر أحيانًا على حشرات في مراعي المستنقع، في الحشائش أو تحت النباتات، فاستخدمها في الصيد. كانت هناك خنافس وحشرات لها أرجلٌ مثل أعواد العشب، ويرقانات في كتلٍ خشبيةٍ متعفنة، يرقانات بيضاء ذات رءوسٍ صغيرةٍ بُنِّية اللون لا تستقر على خُطَّاف السنارة وتضيع في ثنايا المياه الباردة، وقرادات الخشب تحت كُتَل الشجر المقطوع، حيث أعثر أحيانًا على ديدان الصيد التي تُسرع بالاختباء في التربة حالما أرفع كتلة الخشب عاليًا. وقد استخدمتُ في إحدى المرَّات عظاية سالامندر وجدتُه تحت جذعٍ عتيق. كان السالامندر صغيرًا جدًّا ومنمَّقًا خفيف الحركة وذا لونٍ جميل. كانت قدماه صغيرتين وحاول أن يثبت على الخطاف، وبعد تلك المرة الوحيدة لم أستخدم السالامندر كطُعمٍ أبدًا، رغم أنني كنت أعثر على الكثير منه. كما أنني لم أستخدم صراصير الجداجد بسبب الطريقة التي تتحرك بها فوق الخطاف. وأحيانًا يكون الغدير يمرُّ في وسط مرجٍ فسيح، وفي حشائشه الجافة كنت أمسك بالجراد وأستخدمه طُعمًا؛ وأحيانًا أمسك بالجرادة وأُلقي بها في الغدير وأراقبها تطفو سابحةً فوق الماء وتدور على سطحه حيث يقذفها التيار ثم تختفي حين تظهر سمكة طاروط فتبتلعها. وأحيانًا كنتُ أصطاد في أربع أو خمس غدران مختلفة في الليلة الواحدة، بادئًا من أقرب نقطةٍ أستطيع تخيُّلها من منابعها ثم أصطاد على طول الغدير. وحين أنتهي بسرعةٍ أكثر من اللازم ولا يمر الوقت في الليل، أُكرِّر الصيد في الغدير نفسه مرةً أخرى، بادئًا من المصَبِّ في البحيرة وأصطاد عائدًا إلى المنبع، محاوِلًا صيد كل الطاروط الذي لم أستطعْ صيده في المرة الأولى. وفي بعض الليالي كنتُ أخترع الغدران في خيالي، وكان بعضها شائقًا جدًّا، وكان الأمر مثلما يكون المرء صاحيًا ويحلم في نفس الوقت. وما زلت أذكر بعض تلك الغدران وأعتقد أنني اصطدتُ فيها، وأنها اختلطَت بغدرانٍ حقيقية اصطدتُ فيها في الواقع. وخلعتُ عليها جميعًا أسماء، وذهبتُ إليها بالقطار وأحيانًا مشيتُ أميالًا طوالًا كيما أصِل إليها. ولكن في بعض الليالي لم أكن أستطيع الصيد، وفي تلك الليالي أبقى مُستيقظًا أتلو صلواتي مرارًا وتكرارًا، وأحاول أن أُصلِّي من أجل كل الناس الذين عرفتُهم وكان ذلك يستغرق وقتًا طويلًا، فإنك حين تحاول أن تتذكر كل الناس الذين عرفتَهم، وتعود إلى أولئك الأشخاص الذين يمكنك أن تتذكرهم حسب المكان الذي كانوا فيه — والذي كان في حالتي غرفةَ السطوح في البيت الذي وُلِدتُ فيه — وكعكة زفاف والدي ووالدتي في صندوقٍ من الصفيح معلَّقٌ في عارضٍ خشبي، وبرطمانات بها ثعابين وعيِّناتٌ أخرى من الحيوانات التي جمعها والدي حين كان صبيًّا وحفظها في الكحول، وترسَّب الكحول في البرطمانات حتى إنَّ أظَهُر بعض الثعابين والحيوانات الأخرى أصبحَت ظاهرةً واستحالت إلى اللون الأبيض. ولو عُدتَ بذاكرتك إلى تلك الأيام القصيَّة لتذكرتَ عددًا كبيرًا من الناس، وإذا أنت صلَّيتَ من أجلهم جميعًا، فتتلوا: «السلام عليك يا ماري» و«أبانا الذي في السماوات» لكل واحدٍ منهم فإن ذلك يستغرق وقتًا طويلًا، فيبزغ ضوء النهار في النهاية، وعندها تستطيع أن تنام، لو أنك كنتَ في مكانٍ تستطيع النوم فيه في ضوء النهار. وفي تلك الليالي، حاولتُ أن أتذكَّر كل شيءٍ حدث لي، فأبدأ من قبل أن أذهب إلى الحرب وأعود بذاكرتي من شيءٍ لآخر. ووجدتُ أنه ليس بوسعي أن أتذكَّر أبعدَ من غرفة السطوح تلك في منزل جدِّي. وعندما أبدأ من هناك وأسترسل مع ذكرياتي إلى أن أصل إلى الحرب. وأتذكَّر أنه بعد وفاة جدِّي أننا انتقلْنا من ذلك المنزل إلى منزلٍ جديد صممَته وابتنَته والدتي. وحرقْنا كثيرًا من الأشياء التي لم نستطع نقْلها في الفناء الخلفي، وأتذكَّر تلك البرطمانات التي في حجرة السطوح وهي تُلقَى في النيران، وكيف أنها أحدثَت فرقعةً من حرارة النار وتوهَّجَت النيران من جرَّاء الكحول الذي كان فيها، أتذكر الثعابين وهي تحترق في الفناء الخلفي. ولكن لم يكن هناك أناسٌ في تلك الذكريات وإنما أشياء فحسب، ولم أستطع حتى أن أتذكَّر من هو الذي قام بحرق الأشياء، وأستمر في ذلك حتى أصل إلى الأشخاص فأتوقَّف وأُصلِّي من أجلهم. وأتذكَّر عن المنزل الجديد كيف أن والدتي كانت تُنظِّف الأشياء على الدوام وترتبها. ومرةً حين كان والدي غائبًا في رحلة صيدٍ قامت بعملية تنظيفٍ شاملةٍ في البدروم وأحرقَت كل شيء لم يكن له لزومٌ هناك. وحين عاد والدي وهبط من مركبته الصغيرة وربط الحصان كانت النيران ما زالت مشتعلةً في الطريق المجاوِر للمنزل. وخرجتُ لمقابلته. وناولَني بندقيته ونظر إلى النار وتساءل: ما هذا؟ وقالت والدتي من الشُّرفة: إنني كنت أُنظِّف البدروم يا عزيزي. كانت واقفةً هناك لملاقاته وهي تبتسم. وتطلَّع والدي إلى النيران وركَل شيئًا بقدمه. ثم انحنى والتقط شيئًا من وسط الرماد. قال لي: أحضر جاروفًا يا نك. وذهبتُ إلى البدروم وأحضرتُ جاروفًا، ونبش والدي الرماد بعنايةٍ كبيرة. وأخرج من بين الرماد بلطاتٍ حجريةً وسكاكين سلخٍ من الحجر وأدواتٍ لصُنع رءوس السهام، والكثير من رءوس السهام. كانت كلها مُسودَّةً متكسِّرةً بفعل النيران. وأخرجها والدي كلها بالجاروف بعنايةٍ شديدةٍ وبسطها على الحشائش بجوار الطريق. وكانت بندقيته في جِرابها الجلدي، وحقيبتا صيده على الحشائش حيث تركها حين هبط من مركبته. قال: خُذ البندقية والحقيبتين إلى المنزل يا نك، وأحضر لي صحيفة. وكانت والدتي قد دلفت إلى داخل المنزل. وتناولتُ البندقية وكانت ثقيلةَ الحمْل تَضرِب في ساقيَّ وحقيبتَي الصيد، واتجهتُ بها إلى المنزل. قال والدي: خُذ كل واحدةٍ على حِدَة. لا تحاول أن تحمل الكثير مرةً واحدة. فوضعتُ حقيبتَي الصيد وأخذتُ البندقية إلى المنزل وأحضرتُ صحيفةً من كوم الصحف المتراكمة في مكتب والدي. وفرد والدي كل القِطع الحجرية المسودَّة المكسورة على الصحيفة ثم لفَّهم فيها. قال: لقد تهشَّمَت أفضل رءوس السهام. ودلف إلى المنزل بحمولته بينما مكثتُ أنا بالخارج على الحشائش مع حقيبتَي الصيد. وبعد برهةٍ حملتُهما إلى داخل المنزل. وحين أتذكَّر ذلك، لم يكن هناك سوى شخصَين، ولهذا فإنِّي أُصلِّي من أجْلهما. ومع ذلك فهناك بعض الليالي التي لا أتمكن فيها حتى أن أتذكَّر صلواتي. كان بوسعي أن أصِل فقط إلى جملة «كما في السماء كذلك على الأرض»، ثم يتعيَّن عليَّ أن أعود ثانيةً من البداية، ولكني لا أتمكن مُطلَقًا من تجاوُز تلك العبارة. وعند ذاك أُضطَرُّ إلى الاعتراف بأنني لا أتذكَّر وأترك صلواتي تلك الليلة وأحاول شيئًا آخر. وهكذا، في بعض الليالي أحاول أن أتذكَّر جميع الحيوانات الموجودة في العالم بأسمائها ثم الطيور ثم الأسماك ثم البلاد والمدن ثم أنواع الطعام وأسماء جميع الطرق التي يمكن أن أتذكَّرها في شيكاغو، وحين لا أستطيع أن أتذكر أي شيءٍ على الإطلاق بعد ذلك أعْمد إلى الإصغاء. ولا أتذكَّر أي ليلةٍ لم يكن بوسعي أن أسمع أشياء فيها. ولو كنت أستطيع الحصول على ضوءٍ لَما كنتُ أخاف أن أنام، لأنني أعرف أن روحي لن تخرج منِّي إلا في حالة الظلام. ولذلك كان من الطبيعي أن أكون في كثيرٍ من الليالي في مكانٍ أستطيع فيه الحصول على ضوء، وعندها أنام؛ لأنني أكون دائمًا تقريبًا متعَبًا، وكثيرًا ما أكون نعسانًا للغاية. وإنني متأكدٌ أيضًا أنني قد نِمتُ مراتٍ كثيرةً دون أن أشعر، ولكني لم أنم مُطلقًا مع علمي بأنني سوف أنام. وفي تلك الليلة كنتُ أستمع إلى صوت دود القز. كان بوسعك سماع دود القز وهو يأكل بكل وضوحٍ في الليل، وأنا أرقد وعيناي مفتوحتان أستمع له. وكان هناك شخصٌ واحدٌ آخر معي في الحجرة وكان مستيقظًا كذلك. واستمعتُ إليه وهو مستيقظٌ لمدةٍ طويلة. لم يكن باستطاعته أن يرقد ساكنًا في هدوءٍ كما أفعل أنا؛ لأنه ربما لم يتعوَّد مثلي على أن يكون مستيقظًا. كنا راقدَين على بطانياتٍ مفروشة فوق أكوامٍّ من القش، وحين يتحرك كان القشُّ يُصدر صوتًا، بيْد أن دود القز لم يكن يفزع من أي ضوضاء تصدر عنَّا واستمر يأكل بانتظامٍ. كانت هناك أيضًا ضوضاء الليل على مبعدة سبعة كيلومترات وراء خطوط القتال في الخارج، ولكنها كانت مختلفةً عن الضوضاء الخفيفة داخل الحجرة في الظلام. كان الرجل الآخر في الحجرة يحاول الرقاد في هدوء. ثم تحرَّك ثانية. وتحركتُ أنا أيضًا حتى يعلم أنني مستيقظٌ. كان قد عاش عشر سنوات في شيكاغو. وقد تمَّ تجنيده عام ١٩١٤م حين عاد إلى إيطاليا لزيارة أسرته، وخصصوه كي يكون جنديَّ مراسَلة لي لأنه يتحدث الإنجليزية. وسمعتُه يُنصت، ولذلك تحركتُ ثانيةً وسط بطاطيني. سألني: ألا تستطيع النوم يا سيدي الملازم؟ – كلا. – ولا أنا أيضًا. – ما الأمر؟ – لا أعرف. لا أستطيع النوم. – أتشعر أنك على ما يُرام؟ – بالتأكيد. إنِّي على ما يُرام. فقط لا أستطيع النوم. سألتُه: هل تريد أن نتحدَّث برهة؟ – بالتأكيد. ماذا يمكنك أن تتحدث عنه في ذلك المكان اللعين؟ قلت: هذا المكان حسنٌ جدًّا. قال: بالتأكيد. إنه على ما يُرام. قلتُ: احكِ لي عن حياتك في شيكاغو. قال: أوه. لقد حدثتُك عن كل ذلك من قبل. – قل لي كيف تزوجت؟ – لقد قلت لك ذلك أيضًا. – هل كان الخطاب الذي تلقَّيتَه يوم الاثنين منها؟ – بالتأكيد. إنها تكتب لي دائمًا. إنها تكسب مالًا كثيرًا من ذلك المكان. – سيكون لك مكانٌ جميلٌ حين تعود. – بالتأكيد. إنها تُديره ببراعةٍ. وهي تكسب مالًا وفيرًا. – سألتُه: ألا تظن أننا سنوقظهم بحديثنا؟ قال: كلا: لا يمكنهم سماعنا. وعلى كل حال، إنهم ينامون كالخنازير. أنا لست كذلك. أنا عصبيٌّ. قلت: تحدَّث بهدوءٍ. أتريد أن تُدخِّن؟ ودخنَّا بمهارةٍ رغم الظلام. – إنك لا تُدخِّن كثيرًا يا سيدي الملازم. – كلا. إنني على وشك الإقلاع عن التدخين. قال: حسنًا. إن التدخين لا يعود عليك بأي نفع، وأعتقد أنك بذلك لن تفتقده. هل سمعتَ أبدًا عن رجلٍ كفيف لا يريد أن يُدخن لأنه لا يستطيع أن يرى الدخان وهو يخرج؟ – لا أُصدق ذلك. قال: أنا أرى أنه كلامٌ فارغٌ أيضًا. لقد سمعتُ ذلك في جهةٍ ما. تعرف كيف يسمع المرء الأشياء. وصمَتَ كلانا. وأنصتُ إلى دود القز. سأل: هل تسمع ديدان القز تلك اللعينة. بوسع المرء سماعها وهي تمضغ. قلت: هذا غريبٌ. – قل لي يا سيدي الملازم، هل هناك شيءٌ حقًّا يمنعك من النوم؟ إني لا أراك تنام أبدًا. إنك لم تنم أي ليلةٍ منذ أن كنت معك. قلت: لا أعرف يا جون. إني مررتُ بفترةٍ بالغة السوء في مطلع هذا الربيع، وهو ما يزعجني عند حلول الليل. قال: مثلي تمامًا. كان يجب عليَّ ألَّا اشترك في هذه الحرب. إنِّي شديد العصبية. – ربما تتحسن حالتك. – قُل لي يا سيدي الملازم، لماذا اشتركتَ في هذه الحرب على أية حالٍ؟ – لا أعرف يا جون. كنت أرغب في ذلك حينذاك. قال: ترغب؟ يا له من سببٍ رائع! قلت: علينا ألا نتحدث بصوتٍ مرتفع. قال: إنهم ينامون كالخنازير. وعلى كل حالٍ هم لا يفهمون اللغة الإنجليزية. إنهم لا يفقهون شيئًا. ماذا تنوي أن تفعل بعد أن تنتهي الحرب وتعود إلى الولايات المتحدة؟ – سألتحق بعملٍ في صحيفة. – في شيكاغو؟ – ربما. – هل قرأتَ مرةً ما يكتب هذا الرجل «برسبين»؟ إن زوجتي تقطع لي مقالاته وتبعث بها لي. – بالتأكيد. – هل قابلتَه يومًا؟ – كلا، ولكني رأيته. – كم أودُّ أن أُقابِل هذا الرجل. إنه كاتبٌ ممتازٌ. زوجتي لا تعرف الإنجليزية ولكنها تشتري الصحيفة، كما تعودتُ وأنا في المنزل، وتقطع لي المقالات وصفحة الرياضة وتبعث بها لي. – كيف حال بناتك؟ – إنَّهن على ما يُرام. إحدى البنات في الصف الرابع الآن. أتعرف يا سيدي الملازم، لو لم يكن عندي أطفالٌ لما كنت الآن جنديَّ المراسَلة لك. كانوا سيُبقون عليَّ في الجبهة طول الوقت. – إنِّي سعيدٌ أن لك أطفالًا. – وأنا أيضًا. إنهن بناتٌ طيبات، ولكني أريد صَبِيًّا. ثلاث بنات وما من صبي. إن هذا شيءٌ محزِنٌ. – لم لا تحاول أن تنام؟ – كلا. لا أستطيع أن أنام الآن. إني مستيقظٌ تمامًا الآن يا سيدي الملازم. ولكني قلقٌ عليك لأنك لا تنام. – سأكون على ما يُرام يا جون. – تصور شابٌّ مثلك ولا ينام! – سأكون على ما يُرام. إنما الأمر يحتاج وقتًا. – يجب أن نكون على ما يُرام. لا يستطيع أحدٌ أن يستمر دونما نومٍ. أهناك أي شيءٍ يُسبب لك قلقًا؟ أيشغل فكرك شيءٌ ما؟ – كلا يا جون. لا أظن ذلك. – عليك أن تتزوج يا سيدي الملازم. عندها لن تقلق على شيء. – لا أعرف. – عليك أن تتزوج. لماذا لا تنتقي لنفسك فتاة إيطالية حسنةً ذات مالٍ وفير؟ إنك تستطيع الحصول على من تريد. أنت شابٌّ وقد حصلتَ على أوسمةٍ جيدة، وذو مظهرٍ حسَن وقد جُرحتَ مرتين. – إني لا أُحسن التحدُّث باللغة الإيطالية. – إنك تتكلمها جيدًا. ولْيذهب الكلام إلى الجحيم. ليس عليك أن تتحدث معهن. تزوجْهُن. – سوف أُفكر في الأمر. – أنت تعرف بعض الفتيات، أليس كذلك؟ – بالتأكيد. – حسنًا، تزوَّجْ إذن من أغنى واحدةٍ فيهن. ستكون أي واحدةٍ زوجةً صالحةً لك بسبب الطريقة التي يُنشَّأن بها هنا. – سوف أفكر في ذلك. – لا تفكِّر في ذلك يا سيدي الملازم، افعل ذلك. – وهو كذلك. – الرجل يجب أن يتزوج. لن تندم مطلَقًا على ذلك. كلُّ رجلٍ يجب أن يكون متزوِّجًا. قلت: وهو كذلك. هيا نحاول أن ننام قليلًا. – وهو كذلك يا سيدي الملازم. سأحاول مرةً أخرى. ولكن تذكَّر ما قلتُه لك. قلت: سأتذكره. والآن هيا ننَمْ قليلًا يا جون. قال: وهو كذلك. أرجو أن تنام يا سيدي الملازم. وسمعتُه يلتفُّ ببطانيته فوق القشِّ ثم أصبح هادئًا جدًّا، وأنصتُّ إليه وهو يتنفس على نحوٍ منتظِم. ثم بدأ شخيره. وقد سمعتُ شخيره لمدةٍ طويلة ثم توقَّفتُ عن الإنصات وأنصتُّ إلى دود القز وهو يأكل. كان يأكل بانتظامٍ وهو يتحرك بين أوراق التُّوت. كان عندي شيءٌ جديد أفكِّر فيه ورقدتُ في الظلام وعيناي مفتوحتان وفكرتُ في جميع الفتيات اللاتي عرفتهن وكيف كان يمكن أن يُصبحن زوجات. كان موضوعًا شائقًا جدًّا للتفكير، وقد تفوَّق فترةً على التفكير في صيد سمك الطاروط وتداخَل مع صلواتي. بيْد أنني في النهاية عُدتُ إلى موضوع صيد السمك، لأنني وجدتُ أن بإمكاني أن أتذكَّر جميع الغدران، وهناك دائمًا شيءٌ جديد عنها، في حين أن الفتيات — بعد أن أفكر فيهن وقتًا ما — تشحب ذكراهن ولا أستطيع استعادتهن في ذهني، وانتهى الأمر إلى أن اختلطَت صورتهن وأصبحْن مُتشابهات إلى حدٍّ ما، وتركت التفكير فيهن كليةً تقريبًا. بيْد أني واصلتُ صلواتي، وصليتُ كثيرًا من أجْل جون خلال الليالي التالية، وقد تم سحب فرقته من الخدمة العاملة قبل هجوم أكتوبر. وكنت سعيدًا بأنه لم يكن هناك، لأنه كان سيصبح مصدر قلقٍ كبيرٍ لي. وقد جاء إلى المستشفى في ميلانو ليزورني بعد ذلك بعدَّة شهور، وكان مُحبَطًا للغاية لأني لم أتزوج حتى الآن، كان يستعد للعودة إلى أمريكا وكان على ثقةٍ تامةٍ من موضوع الزواج وأن الزواج يمكن أن يُصلح كل شيء.
null
https://www.hindawi.org/books/80924807/
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
null
«وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقَدَ هيبتَه كلها حالما توقَّفَت عينُه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالِده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفِخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يَعُد هناك فيلٌ حقيقي، مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي، والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر، اللذين قتلاه من أجلهما.»عبْرَ خمسَ عشرةَ قصةً قصيرة نُبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة «همنجواي» التي تَسبِر أغوارَ النفس، مُستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رَحِم الحياة؛ ففي قصة «الفراشة والدبَّابة» يَدفع شابٌّ مرِحٌ حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة «حاضرة الدنيا» التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أمَّا «قصة أفريقية» فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيلٍ ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل «ديفيد» والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه.
https://www.hindawi.org/books/80924807/13/
عشرة هنود
بعد أحد احتفالات عيد الرابع من يوليو، مرَّ «نك» بتسعة هنودٍ سُكارى على قارعة الطريق، وكان عائدًا من المدينة إلى منزله في وقتٍ متأخرٍ مع «جو جارنر» وأسرته في العربة الكبيرة. ويذكر «نك» أنهم كانوا تسعة أشخاص، لأن «جو جارنر» جذب أعنَّة الجياد وكان يقود العربة في الغسق وقفز إلى الأرض على الطريق، وجذب أحد الهنود من أمام مسار العجلات. وكان الهندي نائمًا وقد دسَّ وجهه في الرمال. وجذبه «جو» بعيدًا إلى ناحية الشجيرات وعاد ثانيةً إلى مكان القيادة في العربة. قال «جو»: هذا يجعل عددهم تسعة. ما بين هذه المنطقة وطرف المدينة. قالت مسز «جارنر»: يا لهؤلاء الهنود! وكان «نك» يجلس في المقعد الخلفي مع ولدَي جارنر. كان يتطلَّع من مكانه في المقعد الخلفي ليرى الهندي مقعيًّا حيث جذبه «جو» بعيدًا عن الطريق. تساءل «كارل»: هل هو «بيللي تابلشو»؟ – كلا. – إن سرواله كبيرٌ يُشبه سروال «بيللي». – كل الهنود يرتدون سراويل مُتشابهة. قال «فرانك» الابن الثاني لجو جارنر: لم أرَه بالمرة. لقد هبط بابا إلى الطريق وعاد ثانيةً قبل أن أرى أي شيءٍ. ظننتُ أنه ذهب يقتل ثعبانًا. قال «جو جارنر»: يبدو لي أن كثيرًا من الهنود سيقتلون ثعابين الليلة. وقالت مسز جارنر: يا لهؤلاء الهنود! وساروا في طريقهم. والْتوى خط السير عند الطريق الرئيسي وسار مصعدًا وسط التلال. وكان الحمل ثقيلًا على الجياد. فنزل الأولاد وساروا على أقدامهم. كان الطريق رمليًّا. وتطلَّع «نك» من على قمة التل إلى مبنى المدرسة. وشاهد أنوار مدينة «بتوسكي»، كما رأى أنوار مرفأ «سبرنجز» عبر خليج «ترافيرس» الصغير. وعادوا مرةً أخرى إلى العربة. قال «جو جارنر»: ينبغي لهم أن ينثروا بعض الحصباء على هذا الطريق. وسارت العربة على طول الطريق وسط الغابات. وجلس «جو» ومسز «جارنر» متجاورَين في المقعد الأمامي. وجلس «نك» بين الصبيَّين. وخرج بهم الطريقُ إلى الخلاء. – هنا بالضبط داس بابا الثعبان بالعربة. – كلا، بعد ذلك. فقال جو، دون أن يُدير رأسه: إن المكان الذي حدثَت فيه تلك الواقعة ليس هو المهم، فبوسع المرء أن يدوس ثعبانًا في أي مكان. فقال «نك»: لقد رأيتُ ذئبَين في الليلة الماضية. – أين؟ – هناك عند البحيرة. كانا يبحثان عن الأسماك الميتة على طول الشاطئ. فقال كارل: ربما كانا مجرد قطَّين. – بل كانا ذئبَين. وأعتقد أنني أعرف منظر الذئاب. فقال كارل: هذا أكيد، فأنت تعرف فتاةً هندية. فقالت مسز جارنر: لا تقُل هذا يا كارل. – حسَن. إنهن يتساوَين في رائحتهن. فضحك جو جارنر. قالت مسز جارنر: كُفَّ عن الضحك يا جو. لا أريد لكارل أن ينطق بمثل هذا الكلام. فسأل جو: هل تعرف فتاةً هنديةً حقًّا يا «نك»؟ – كلا. فقال فرانك: بل يعرف يا بابا أن اسمها «برودنس ميتشل». – كلا. – إنه يراها كل يومٍ. – كلا. وشعر «نك» وهو يجلس بين الصبيَّين وسط الظلام بالخواء والسعادة في داخلية نفسه؛ لأنهم يحاولون استثارته حول موضوع «برودنس ميتشل». قال: إنها ليست فتاتي. قال كارل: ماذا يقول! إنني أراهما معًا كل يومٍ. قالت الأم: إن كارل لا يستطيع أن يعرف أي فتاةٍ ولا حتى هندية. وحافظ كارل على هدوئه. قال فرانك: إن كارل لا يستطيع التعامل مع الفتيات. – اخرس! قال جو جارنر: لا عليك يا كارل، فالفتيات لا يعثُرن على الشبَّان بسهولة هكذا. انظر إلى والدك. فقالت مسز جو وهي تدنو من جو مع اهتزازات العربة: أجل هذا ما تقوله. حسَن، لقد عرفتَ الكثير من الفتيات في زمانك. – أراهن أن بابا لم يُصادق أبدًا فتاةً هندية. فقال جو: لا تظننَّ ذلك! من الأفضل أن تسعى للإبقاء على «برودنس» يا «نك». وهمسَت زوجته ببضع كلماتٍ ضحِك لها جو. تساءل فرانك: علامَ تضحك؟ فحذَّرَته زوجته قائلةً: إيَّاك أن تقول يا جارنر. وضحِك جو ثانية. قال جو جارنر: فليُبْق «نك» على «برودنس»، فإن عندي أنا فتاة رائعة. فقالت مسز جارنر: هكذا يكون الكلام. كانت الجياد تشقُّ طريقها بصعوبة في الرمال. وفرقع جو بسوطه في الظلام صائحًا: هيَّا، إلى الأمام. سيتعيَّن عليكم أن تجرُّوا حِملًا أكبر من هذا غدًا. وركضوا هبوطًا على طُول التلِّ، والعربة ترتجُّ. ونزل الجميع عند البيت. وفتحَت مسز جارنر الباب ودلفت إلى الداخل، ثم ظهرَت ثانيةً وفي يدها مصباحٌ. وأنزل «كارل» و«نك» الحاجيات من على ظهر العربة. وجلس «فرانك» في المقعد الأمامي ليقود العربة إلى المخزن ويحلُّ وثاق الجياد. وصعد «نك» الدرجات وفتح باب المطبخ. وكانت مسز جارنر تُشعل النيران في الموقد. والتفتَت بعد أن صبَّت الغاز على الأخشاب. قال «نك»: مع السلامة يا مسز جارنر. شكرًا على توصيلكم إيَّاي. – أوه، عفوًا يا «نك». – لقد أمضيتُ وقتًا رائعًا. – إننا نستمتع بصحبتك. ألا تبقى قليلًا لتناوُل بعض العشاء؟ – من الأفضل أن أرحل. أظن أن والدي في انتظاري الآن. – حسنًا. هيا إذن. من فضلك أرسل لي «كارل» من الخارج. – حسنًا. – مساء الخير يا «نك». – مساء الخير يا مسز جارنر. وخرج نك من العربة واتَّجه إلى المخزن. وكان جو وفرانك يحلبان الأبقار. قال نك: «مساء الخير. لقد كان وقتًا رائعًا.» فصاح جو جارنر: مساء الخير يا «نك». ألن تبقى لتناول الطعام؟ – كلا. لا أستطيع. هل لك أن تقول لكارل إن والدته تريده؟ – حسنًا. مع السلامة يا «نك». وسار «نك» عاريَ القدمين على الممر خارج المروج التي تقع خلف المخزن. كان الممر صقيلًا والندى رطبًا تحت قدمَيه العاريتَين. وارتقى سورًا عند نهاية المروج وهبط أخدودًا وقدماه مبلَّلتان من طين المستنقعات، ثم ارتقى طريقًا في غابةٍ من أشجار الخوخ الجافة إلى أن شاهد أنوار الكوخ. وصعد على السور واستدار إلى الدهليز الأمامي. ورأى والده من خلال النافذة يجلس إلى المائدة، يقرأ في ضوء المصباح الكبير. وفتح «نك» الباب ودلف إلى الداخل. قال والده: حسنًا يا نك، هل قضيتَ يومًا طيبًا؟ – لقد أمضيتُ وقتًا رائعًا يا أبي. لقد كان احتفالًا عظيمًا بالرابع من يوليو. – هل أنت جائعٌ! – بالطبع. – ماذا فعلتَ بحذائك؟ – لقد تركتُه في العربة عند أسرة جارنر. – تعال إلى المطبخ معي. وسار والد «نك» في المقدِّمة ومعه المصباح. وتوقَّف ورفع غطاء صندوق المثلجات. ودلف «نك» إلى المطبخ. وأحضر والده قطعةً من الدجاج البارد على طبق، وإبريق من اللبن، ووضعهما على المائدة أمام «نك»، وأنزل المصباح. قال: هناك فطيرةٌ أخرى. هل يُناسبك هذا؟ – عظيم! وجلس والده على مقعدٍ إلى جوار المائدة التي يُغطيها المفرش المشمَّع. وكان ظلُّه يترامى ضخمًا على جدار المطبخ. – مَن ربح في مباريات الكرة؟ – فريق «بتوسكي». خمسة لثلاثة. وجلس والده يرقبه وهو يأكل، وملأ كوبه من إبريق اللبن. وشرب «نك» ومسح فمه في المنشفة. ومدَّ والده يده إلى الرف ليحضر الفطيرة وقطع جزءًا كبيرًا ﻟ «نك». كانت فطيرة فراولة. – وماذا فعلتَ أنت يا أبي؟ – لقد ذهبتُ للصيد هذا الصباح. – وماذا اصطدتَ؟ – أسماكًا صغيرةً ليس إلا. وجلس الوالد يرقب نك وهو يأكل الفطيرة. وتساءل نك: وماذا فعلتَ بعد الظهر؟ – ذهبتُ للنزهة عند المخيم الهندي. – وهل رأيتَ أحدًا هناك؟ – كان الهنود جميعًا في المدينة يعبُّون الخمر … – ألم تر أحدًا على الإطلاق؟ – رأيت صديقتك «برودنس». – وأين كانت؟ – كانت في الغابة مع «فرانك» و«شبيرن». قابلَتهم مصادفةً. كانوا يلهون. ولم يكن والده ينظر ناحيته. – ماذا كانوا يفعلون؟ – لم أنتظر لأرى. – قل لي ماذا كانوا يفعلون؟ قال والده: لا أعرف. لقد سمعتُهم يتحادثون ليس إلا … – وكيف عرفتَ أنهم هم؟ – لقد رأيتُهم. – ظننتُ أنك قلتَ إنك لم ترهم؟ – أوه، بل رأيتهم. فسأل نك: ومن كان معها؟ – «فرانك» و«شبيرن». – وهل كانوا … هل كانوا … – هل كانوا ماذا؟ – هل كانوا سعداء؟ – أعتقد ذلك. ونهض والده من على المائدة وخرج من خلال ستارة الباب إلى المطبخ. وحين عاد مرةً أخرى كان «نك» يُحدِّق في طبقه. كان يبكي. وتناول والده السكِّين ليقطع الفطيرة: هل لك في مزيدٍ منها؟ قال «نك». لا. – يحسن بك أن تأخذ قطعةً أخرى. – كلا، لا أريد مزيدًا. ونظَّف والده المائدة. سأل «نك»: وفي أيِّ منطقةٍ من الغابة كانوا؟ – خلف المخيم. وحدَّق نك في طبقه. وقال والده: من الأفضل أن تأوي إلى الفراش يا نك. – حسنًا. وتوجَّه «نك» إلى غرفته، وخلَع ملابسه ودلف إلى فراشه. وسمع والده يجول هنا وهناك في غرفة المعيشة. ورقد «نك» على الفراش فترةً طويلة ووجهُه مدفونٌ في الوسادة. ونسي بعد برهةٍ كل فكرة عن «برودنس»، واستغرق آخر الأمر في النوم. وحين استيقظ في الليل سمع صوت الرياح تعصف وسط أحراج الشوكران خارج الكوخ، وموجات البحيرة تتكسر على الشاطئ، ثم استغرق في النوم مرةً أخرى. وفي الصباح كانت الرياح تعصف والأمواج تتدافع على الشاطئ. وبقي مستيقظًا فترةً طويلة قبل أن يتذكر أن قلبه قد تحطَّم. وجال في خاطره: إن قلبي قد تحطَّم. إذا كان ذلك هو شعوري فلا بد أن قلبي قد تحطَّم. وبعد برهة، سمع والده يطفئ المصباح ويتجه إلى غرفته. وسمع الرياح تعصف وسط الأشجار في الخارج، وشعر بها تدلف باردةً خلال ستارة الباب. ورقد فترةً طويلةً ووجهه مدفونٌ في الوسادة، ونسي …
null
https://www.hindawi.org/books/80924807/
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
null
«وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقَدَ هيبتَه كلها حالما توقَّفَت عينُه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالِده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفِخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يَعُد هناك فيلٌ حقيقي، مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي، والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر، اللذين قتلاه من أجلهما.»عبْرَ خمسَ عشرةَ قصةً قصيرة نُبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة «همنجواي» التي تَسبِر أغوارَ النفس، مُستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رَحِم الحياة؛ ففي قصة «الفراشة والدبَّابة» يَدفع شابٌّ مرِحٌ حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة «حاضرة الدنيا» التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أمَّا «قصة أفريقية» فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيلٍ ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل «ديفيد» والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه.
https://www.hindawi.org/books/80924807/14/
الأسد الطيب
بيد أن ذلك الأسد، الذي نحبه لأنه طيبٌ جدًّا، كان لديه جناحان على ظهره. وبسبب هذين الجناحين، كانت بقية الأسود الأخرى تسخر منه. كانوا يقولون: انظروا إليه بهذين الجناحين على ظهره. ثم ينفجرون ضحكًا عليه. وكانوا يقولون: انظروا ماذا يأكل. لأن الأسد الطيب لم يكن يأكل إلا المكرونة والجمبري لأنه كان شديد الطيبة. وكانت الأسود الشريرة تنفجر ضاحكةً ثم تأكل تاجرًا هنديًّا آخر بينما زوجاتهم تشرَبن دماءه، ويتلمَّظن بألسنتهن: لاب لاب لاب، مثل القطط الكبيرة، ولا يتوقفن إلا كي يزمجرن بالضحك أو يزأرن ضاحكاتٍ من الأسد الطيب والسخرية من جناحيه. كانوا أسودًا غايةً في السوء والشر حقًّا. ولكن الأسد الطيب كان يجلس طاويًا جناحيه ويسأل بأدبٍ إن كان يستطيع الحصول على كوكتيل الجين أو قهوة أمريكية، وكان يشرب ذلك دائمًا بدلًا من دماء التجار الهنود. وفي يومٍ رفض أن يأكل ثمانية أغنامٍ أفريقية، وأكل فحسب بعض الإسباجيتي وشرب كوبًا من عصير الطماطم. وقد أثار هذا غضبًا شديدًا للأسود الشريرة، وقالت إحدى اللبؤات — وكانت أكثرهم شرًّا ولا تستطيع أبدًا إزالة دماء التجار الهنود من على شواربها حتى لو حكت وجهها في الحشائش: مَن تكون أنت حتى تظن أنك أفضل بكثيرٍ منا؟ من أين أتيت أيها الأسد الذي يأكل المكرونة؟ ماذا تفعل هنا على أية حالٍ؟ وزمجرَت في وجهه وزأروا جميعًا ولكن دون أي ضحكاتٍ. – إن أبي يعيش في مدينة يقف فيها تحت ساعة البرج ويتطلع تحته إلى آلاف الحمائم، وكلها من أتباعه. وحين تطير الحمائم تُثير من الضوضاء ما يُماثل هدير النهر. وفي مدينة أبي من القُصور ما يفوق كل قصور أفريقيا، وهناك أربع جيادٍ ضخمةٍ من البرونز تقف في مواجهته، وكل واحدٍ منها يرفع إحدى ساقيه خوفًا من أبي. قالت اللبؤة الشريرة وهي تلعق شواربها: إن والدك كان كلبًا صغيرًا. وقال واحدٌ من الأسود الشريرة: إنك كاذبٌ. لا تُوجَد مثل تلك المدينة. وقال أسدٌ شريرٌ آخر: ناوِلْني قطعةً من لحم تاجرٍ هندي، فلحْم الماشية طازجٌ زيادة عن اللزوم. قالت اللبؤة الأشد شرًّا: إنك كاذبٌ حقيرٌ وابن جروٍ ليس إلا. وأعتقد الآن أني سأقتلك وآكلك كلك بجناحيك. وشعر الأسد الطيب بالفزع الشديد من كلام اللبؤة؛ لأنه كان يرى عينَيها الصفراوين وذيلها يعلو وينخفض والدم يُحيط بشواربها، وهو يشمُّ زفيرها الكريه؛ لأنها لم تكن تُنظِّف أسنانها قطُّ بالفرشاة. وكذلك كان تحت مخالبها نُتفٌ قديمة من لحم تاجرٍ هندي. قال الأسد الطيب: لا تقتليني. إن أبي أسدٌ نبيل والجميع يحترمونه، وكل ما قلتُه عنه صحيح. وعند ذاك قفزَت اللبؤة الشريرة نحوه، ولكنه ارتفع عن الأرض بجناحيه ودار حول الأسود الشريرة دورةً واحدة، وكلهم يزأر وينظر إليه. ونظر إليهم من علٍ وجال بخاطره: كم هم متوحشون هؤلاء الأسود. ودار حولهم مرةً أخرى كي يجعلهم يزأرون بقوةٍ أشد، ثم انقضَّ منخفضًا كيما يرى عينَي اللبؤة الشريرة التي قامت على ساقَيها الخلفيتين حتى تحاول أن تمسَّه بمخالبها. قال: أديوس، فقد كان يتكلم الإسبانية بطلاقةٍ بوصفه أسدًا مثقَّفًا. وناداهم قائلًا بفرنسيته الرائعة: أوريفوار. وزأروا جميعًا وزمجروا بلهجةٍ أسديةٍ أفريقية. ثم طار الأسد الطيب أعلى فأعلى واتخذ وجهته إلى مدينة فينيسيا، وهبط في الميدان الكبير واغتبط الجميع لرؤيته. وطار برهةً وقبَّل أباه على كلا خدَّيه، وشاهد الجياد ما تزال رافعةً أقدامها، والكنيسة تبدو أكثر جمالًا من فقاعة الصابون، والناقوس في مكانه والحمائم تتجه إلى أعشاشها لتمضية المساء. قال أبوه: كيف حال أفريقيا؟ وردَّ الأسد الطيب: وحشيةٌ للغاية يا أبي. قال أبوه: لدينا أنوارٌ تُضاء بالليل الآن هنا. وردَّ الأسد الطيب بوداعة الابن: هذا ما أراه. وأسرَّ له أبوه: إنها تتعب عيني قليلًا. إلى أين ستذهب الآن يا بنيَّ؟ قال الأسد الطيب: إلى بار هاري. قال الأب: بلِّغ سلامي إلى «سيبرياني» وقُل له إنني سأذهب إليه عمَّا قريب كي أدفع فاتورة حسابي. قال الأسد الطيب: أجل يا أبي. ثم هبط إلى الأرض بخفَّةٍ وسار إلى بار هاري على مخالبه الأربعة. وعند سيبرياني لم يكن أي شيء قد تغيَّر. كان هناك جميع أصدقائه. ولكنه هو كان قد تغيَّر نوعًا ما نتيجة إقامته في أفريقيا. وسأله السيد سيبرياني: كوكتيل الجين، سنيور بارون؟ ولكن الأسد الطيب كان قد قطع الطريق كله من أفريقيا، وقد غيَّرَته أفريقيا. سأل: أليس عندك ساندوتشات تاجرٍ هندي؟ – كلا. ولكني أستطيع الحصول على بعضها لك. – وفي الوقت الذي سيستغرقه البحث عنها، أعطني بعض المارتيني الجاف. وأضاف: مع جين جوردون. قال سيبرياني: حسن جدًّا. حسن جدًّا. وتطلَّع الأسد إلى وجوه الناس الطيبين من حوله، وعرف أنه في وطنه، ولكنه أيضًا قد سافر. كان سعيدًا جدًّا.
null
https://www.hindawi.org/books/80924807/
الفراشة والدبابة وقصص أخرى: مختارات قصصية من الأعمال القصصية الكاملة لإرنست همنجواي
null
«وتذكَّر ديفيد كيف أن الفيل قد فقَدَ هيبتَه كلها حالما توقَّفَت عينُه عن الحياة، وكيف أنه حين عاد هو ووالِده بالحقائب كان جسد الفيل قد بدأ ينتفِخ بالفعل رغم برودة المساء. لم يَعُد هناك فيلٌ حقيقي، مجرد الجسم الميت المنتفِخ المتغضِّن الرمادي، والنابَين الهائلَين ذوَي اللونَين البُنِّي والأصفر، اللذين قتلاه من أجلهما.»عبْرَ خمسَ عشرةَ قصةً قصيرة نُبحِر بين أفريقيا وإسبانيا وأوروبا على متن سفينة «همنجواي» التي تَسبِر أغوارَ النفس، مُستعِينين بعدسته التي تكشف الموتَ المنطوي في رَحِم الحياة؛ ففي قصة «الفراشة والدبَّابة» يَدفع شابٌّ مرِحٌ حياتَه ثمنًا للكآبة؛ إذ يدخل حانةً يغلب عليها الكآبةُ نتيجةَ الحرب الدائرة، فيحاول الترويحَ عن مُرتادِيها، لكنَّ رد فِعلِ بعضهم يكون عنيفًا، فيُطلِق عليه أحدُهم رصاصةً تطرحه قتيلًا. وفي قصة «حاضرة الدنيا» التي تدور أحداثُها في إسبانيا، نشهد موتَ شابٍّ كان يحلم أن يكون مُصارِع ثيران. أمَّا «قصة أفريقية» فنكتشف فيها من خلال عمليةِ صيدٍ لفيلٍ ضخمٍ العلاقةَ التي نشأت بين الطفل «ديفيد» والفيل، وأثَر موتِ الفيل عليه.
https://www.hindawi.org/books/80924807/15/
الثور الوفي
يُحكى أنه كان هناك ثورٌ ولم يكن اسمه فرديناند ولم يكن يهتم أبدًا بالزهور. كان يحب القتال، وقاتل جميع الثيران الأخرى التي من سنِّه، أو في أي سِن، وأصبح بطلًا. كان أي شيء يدفعه إلى القتال، وهو يُقاتل بجديَّةٍ شديدة، تمامًا كما يفعل بعض الأشخاص حين يأكلون أو يقرءون أو يذهبون إلى الكنيسة. وكل مرةٍ يُقاتل فيها يفعل ذلك بنيَّة القتل، وكانت الثيران الأخرى لا تخافه لأنها من نسلٍ جيِّد ولا تشعر بالخوف. غير أنهم لم يكونوا يرغبون في إثارته، ولا يرغبون أن يقاتلوه. لم يكن مشاغبًا ولا شرِّيرًا، بيْد أنه كان يحب أن يُقاتل، مثلما يحب أحدهم أن يُغني أو أن يصبح ملِكًا أو رئيس جمهورية. لم يكن يفكر أبدًا. كان القتال التزامه وواجبه وبهجته. كان يُقاتل فوق الأرض المرتفعة الصخرية. ويقاتل تحت أشجار البلُّوط الفلِّينية، ويُقاتل في المروج الخصبة بجوار النهر. وكان يمشي خمسة عشر ميلًا كل يوم من عند النهر إلى الأرض المرتفعة الصخرية ويُقاتل أي ثورٍ ينظر إليه. ومع ذلك، لم يكن يغضب أبدًا. ولكن ذلك ليس صحيحًا على إطلاقه، فقد كان يصطخب غضبًا في داخله. ولم يكن يعرف سبب ذلك لأنه لم يكن بوسعه أن يفكر. كان نبيلًا للغاية وكان يحب القتال. فماذا حدث له إذن؟ لقد عرف الرجل الذي يقتنيه — إذا كان لأي شخصٍ أن يقتني هذا الثور — كم هو ثورٌ عظيم، ولكنه مع ذلك كان قلقًا؛ لأن هذا الثور كان يُكلفه الكثير من المال لقتاله الثيران الأخرى. كان ثمن كل ثورٍ يفوق الألف دولار، وبعد أن يقاتلوا الثور العظيم تصبح قيمتهم أقل من مائتي دولار فقط، وأحيانًا أقل من ذلك. لهذا فقد قرر الرجل — وكان رجلًا حميدًا — أن ينقل دماء ثوره العظيم إلى سلالة ثيران أخرى بدلًا من إرساله إلى حلبة المصارعة الحقيقية ليُقتَل هناك، لذلك فقد انتقاه كي يُهجِّن الأبقار. بيد أن ذلك الثور كان ثورًا غريبًا. فحين أطلقوه أول مرةٍ إلى المرعى مع الأبقار الوَلُود، رأى بقرةً شابةً جميلةً ورشيقة ذات عضلاتٍ حسنة وأكثر إشراقًا وأجمل من كل الأبقار الأخرى. ولهذا، لما لم يكن بوسعه القتال، وقع في غرامها ولم يلتفت لأيٍّ من الأبقار الأخرى. كان يرغب أن يبقى معها وحسب، ولم تكن الأخريات تعني له أي شيء. وكان الرجل الذي يمتلك مزرعة الثيران يأمل أن يتغيَّر الثور، أو يتعلم، أو يصبح مختلفًا عما كان عليه. ولكن الثور بقي على ما هو عليه يحبُّ ما أَحبَّ ولا واحدة غيرها. كان يريد أن يظل معها وحسب، ولا تعني له الأخريات أي شيء بالمرة. ولذلك، أرسله الرجل مع خمسة ثيران أخرى كي يُقتَل في حلبة المصارعة، فقد كان الثور على الأقل يجيد القتال، رغم أنه كان وفيًّا. وقد صارع على نحوٍ رائع وأُعجِب الجميع به، وكان أكثر المعجبين به هو المصارع الذي قتله. ولكن سترة الرجل الذي قتله والذي يسمى «الماتادور» كانت مبللةً تمامًا في النهاية، وكان فمه جافًّا للغاية. قال الماتادور وهو يناول سيفه لمساعده: يا له من ثورٍ شجاع. وناول المساعد السيف مرفوع المقبض، بينما النصْل يقطر دمًا من قلب الثور الشجاع الذي لم يعد لديه مشاكل من أي نوعٍ بينما أربعة جيادٍ تجرُّه خارج الحلبة. قال المساعد، الذي يعرف كل شيءٍ: أجل إنه ثورٌ كان على الماركيز دي فيَّامور أن يتخلص منه لأنه كان وفيًّا. قال الماتادور: ربما كان علينا كلنا أن نكون أوفياء.
null
https://www.hindawi.org/books/69263975/
مختارات من القصص القصيرة
جيروم كيه جيروم
مجموعةُ القصص القصيرة التي بين أيدينا هي جزءٌ من مجموعةٍ قصصية ألَّفها الروائي والكاتب المسرحي الإنجليزي المعروف «جيروم كيه جيروم»، وظهرَت لأول مرة في عام ١٩٠٧م. تضم المجموعة ثلاثةَ أعمال تربط بينها فكرةٌ رئيسة واحدة؛ أَلا وهي التغيُّرات التي تطرأ على حياة الشخصيات من جرَّاء تدخُّل «رجل غريب» لا يُفصِح الكاتب عن هُوِيته، بل يترك للقارئ مهمةَ تخمينها، حسب قراءته للأحداث. تحكي القصة الأولى عن غريب غامض وتَقِي يستدعي إلى الأذهان صورةَ المسيح، يُقِيم لبعض الوقت في نُزُل متهالك فيغيِّر من حَيَوات سُكانه. وتختلف القصص الثلاث في جوِّها العام وأسلوبِها عن الطابع الكوميدي المميَّز للكاتب؛ إذ تتَّخِذ الأولى طابعًا اجتماعيًّا ودينيًّا جادًّا، أمَّا القِصتان الأُخريان فيغلب عليهما الطابع الفلسفي.
https://www.hindawi.org/books/69263975/1/
ساكن الغرفة الخلفية بالطابق الثالث
لم يَكُن ميدان بلومزبيري سكوير، مع دقات الساعة الرابعة في عصر أحد أيام نوفمبر، مُزدحمًا إلى حدٍّ يَقي الغريب، ذا المظهر المختلِف بنحوٍ أو بآخَر عن المعتاد، من الملاحَظة. ففي أثناء مروره، توقَّف صبيُّ متجَر تيبس فجأةً عن الصَّدْح بالغناء، وتراجع خطوة للخلف حتى خَطا على أصابعِ قدمِ شابةٍ طَلْقةِ اللسان تدفعُ عربةَ أطفال، وبدا أن أذنَيْه قد صُمَّتا عن سماعِ تعليقاتها الشخصية بعض الشيء عليه. ولم يَستجمِع شتات نفسه ويَسترجع اهتمامَه بشئونه إلا بعدما بلغَ ناصيةَ الشارع التالية، مُستكمِلًا أغنيتَه التي بَدَت الآن دمدمةً خفيضة بلا معنًى. أمَّا السيدة الشابة نفسُها، فقد نسِيَتْ ما لحِقَ بها من أذًى بينما كانت تتأمَّلُ ظَهرَ الغريب الذي تخطَّاها ببضعِ ياردات. كان هناك شيء غريب في ظهره؛ إذ لم يكُنْ مستقيمًا تمامًا؛ بل كان مُنحنيًا انحناءةً لا تُخطِئها العين. حدَّثَت السيدةُ الثرثارة نفسَها قائلة: «إنها ليستْ حَدَبةً ولا تبدو لي تقوُّسًا في العمود الفقري. يا للعجب، يبدو وكأنه يحملُ كومةً من الغسيل أعلى ظهرِه تحت مِعْطفِه.» لمح الشرطيُّ، في خِضَم مُحاوَلاته للتظاهُر بالانشغال، الغريبَ بينما كان يَقترب منه، فحوَّلَ اهتمامَه ناحيتَه. وقال في نفسه: «يا لمِشْيتك العجيبة، أيها الشاب! عليك الاحتراس كي لا تَتعثَّرَ فتسقط مُنقلبًا.» ثم غمغَمَ بعدما تجاوَزَه الغريب: «إنه شابٌّ كما توقَّعتُ. وجهُه وجهُ شابٍّ دون شك.» كان ضوءُ النهار آخِذًا في الخفوت. ولمَّا عجز الغريب عن قراءة اسم الشارع الموجود فوق البيت الذي عند ناصية الشارع، استدارَ عائدًا. حدَّثَ الشرطيُّ نفسَه قائلًا: «عجبًا، إنه بالفعل شابٌّ صغير؛ بل مجردُ فتًى.» توجَّهَ إليه الغريبُ بالحديث قائلًا: «عُذرًا، هلَّا تُرشِدني إلى ميدان بلومزبيري سكوير؟» ردَّ الشرطيُّ مُوضِّحًا: «هذا ميدان بلومزبيري سكوير، أو بدءًا من الناصية القادِمة على وجه الدقة. ما رقمُ البيتِ الذي تُريده؟» أخرَجَ الغريبُ من أحد جيوب مِعْطفِه الطويل المُغلَقِ الأزرار قُصاصةً من الورق، ثم فتَحَها وقرأ: «نُزُل السيدة بنيتشيري. رقم ٤٨.» قال له الشُّرطي: «الناصية القادِمة، جهة اليسار، المنزلُ الرابع. هل أوصى لكَ أحدُهم بالإقامة هناك؟» «نعم … صديقٌ لي. أشكرُكَ جزيلَ الشكر.» غمغَمَ الشرطيُّ في سرِّه: «هكذا إذن، أُراهِن أنك لن تَظَلَّ تدعوه صديقي بعدما تَقْضي أسبوعًا في هذا المكان، أيها الشاب …» ثم أضاف بينما كان يُحدِّق في هيئةِ الغريب المبتعِدة: «يا للعجب! لقد رأيتُ الكثيرَ ممَّن يَبدون أصغرَ سنًّا من ظهورِهم وعندما تَطَّلِع على وجوههم تَجِدهم أكبرَ عمرًا. لكنَّ هذا الرجل على ما يبدو يحملُ وجهَ شابٍّ وظهرَ شيخ. أُراهِن أن جانبَه الشابَّ سيَشِيخ بدوره إنْ أقامَ طويلًا عند هذه المرأة التي تُدعى بنيتشيري؛ تلك العجوز البخيلة.» كان لدى رجال الشرطة، ممَّن تتضمَّن مُناوباتهم ميدان بلومزبيري سكوير، أسبابٌ تَدْفعُهم لكراهيةِ السيدة بنيتشيري. وحقًّا قد يكون من الصعب العثورُ على إنسانٍ لديه ما يدفعه لحب هذه السيدةِ ذات الملامح الحادَّة. وربما كانت إدارةُ نُزُلٍ من الدرجة الثانية في ميدان بلومزبيري سكوير نشاطًا لا يؤدِّي بصاحبِه إلى اكتسابِ فضيلتَي الكرم واللُّطف. في هذه الأثناء، كان الغريب قد بلَغَ وجهتَه، وقرَع جرسَ البيت رقم ٤٨. استرَقَت السيدةُ بنيتشيري النظرَ من أعلى السلالم المؤدِّية إلى المنزل لامحةً رجلًا ذا وجهٍ وسيم وإنْ كان ذا طابعٍ أُنثويٍّ بعضَ الشيء، فأسرعتْ بتعديلِ قبعة الأرملة التي تَرتديها أمام المرآة، وأمرَت الخادمةَ ماري جين باصطحاب الغريب إلى غُرفة الطعام، تَحسُّبًا لأن يكون مُستأجرًا مثيرًا للمَتاعب، وإشعال مصابيح الغاز. وكانت تعليماتها الأخرى كالتالي: «ولا تتوقَّفي عن الثرثرة معه، ولا تأخُذِي على عاتقِكِ الإجابة عن أسئلته. قولي له إنَّني سأَحضرُ في غضون دقيقة، وراعي ألا تُظهِري يدَيْكِ قدرَ استطاعتكِ.» ••• سألت السيدة بنيتشيري ماري جين، الخادمة المتَّسخة الثياب، بعدما عادت عَقبَ بضعِ دقائق: «علامَ تضحكين؟» ردَّت ماري جين بنَبرةٍ خانعة: «لم أكن أضحك؛ كنتُ أبتسم لنفسي فقط.» «لماذا؟» قالت: «لا أعرف.» وواصَلَت الابتسام بالرغم من ذلك. سألت السيدة بنيتشيري: «كيف يبدو إذَن الرجل؟» كان رأيُ ماري هو: «ليس من النوع المُعتاد.» فصاحت السيدة بنيتشيري في ورع: «حمدًا لله على ذلك.» «يقول إنَّ صديقًا قد أوصى له بهذا النُّزُل.» «مَن يكون هذا الصديق؟» «قال «صديقًا» فحسب. ولم يَذكر اسمًا.» صمتَتِ السيدة بنيتشيري لحظةً مُفكِّرةً. ثم سألتها: «لم تَبْدُ عليه أَماراتُ السخرية، أليس كذلك؟» قالت لها ماري جين إنه لم يَبدُ عليه ذلك على الإطلاق. وقد كانَت واثِقة من ذلك. صعدت السيدة بنيتشيري السلالمَ بينما لا تزال غارقةً في أفكارها. وما إنْ دلفَتِ إلى الغرفة حتى قام الغريب وانحنى لها. لقد كانت تلك الانحناءة في غاية البَساطة، إلا أنها بعثَتْ في قَلبها دَفْقةً من أحاسيسَ طواها النِّسيانُ منذ سنوات. ولِلَحظةٍ رأت نفسَها سيدةً لطيفةً ذاتَ أصلٍ راقٍ، أرملةَ مُحامٍ، تَستقبِل ضيفًا جاء لزيارتها. لكنَّ هذا الخيالَ العابر تبخَّرَ بسرعة. ففي اللحظة التالية عاوَدَها واقِعُها. إنها لا تزال نفْسَها، السيدةَ بنيتشيري، صاحبةَ النُّزُل التي تَقتاتُ بين الحين والآخَر على وجباتٍ يومية من البُخل الحقير، وهي الآن تَستعدُّ لخوْضِ سِجالٍ مع ساكن جديد مُحتمَل، يبدو، لحُسْن الحظ، شابًّا مهذبًا بلا خبرة. بدأت السيدة بنيتشيري حديثَها قائلة: «تقول إنَّ أحدَهم قد رشَّحَ لك نُزُلي، هلا تذكر مَن هو؟» لكن الغريب رفَض الرد على السؤال مُعتبرًا إياه غير مُهم. وقال مُبتسمًا: «قد لا تتذكَّرينه. لقد رأى أن في وُسْعي قضاءَ الأشهُرِ القليلة التي تبقَّتْ لي … في لندن أعني، هنا في نُزُلك. فهل تَقْبلين استضافتي؟» اعتقدت السيدة بنيتشيري أنَّ في وُسْعِها استضافتَه. أضاف الغريبُ مُوضِّحًا: «كلُّ ما أحتاجه هو غرفةٌ للنوم — أيُّ غرفةٍ ستَفِي بالغرض — وطعامٌ وشراب يَكْفي لرجلٍ واحد.» استأنفَت السيدة بنيتشيري حديثَها قائلةً: «دائمًا ما أُقدِّم في وجبة الإفطار …» فقاطَعَها الغريب: «بالتأكيد، طعامًا جيدًا ومُناسِبًا، أنا واثِقٌ من ذلك. أرجوكِ لا داعيَ لإرهاقِ نفسِكِ بسرْدِ التفاصيل يا سيدة بنيتشيري. سأَرضى بأيٍّ ممَّا ستُقدِّمينه لي.» ألقَتِ السيدةُ بنيتشيري وهي مُتحيِّرة نظرةً سريعة على الغريب، لكنَّ وجهَه، على الرغم من ابتسامِ عينَيْه الطيبتَين، كان صادقًا وجادًّا. قالت السيدة بنيتشيري مُقترحة: «على أيِّ حال، سترى الغرفةَ قبل أن نُناقِشَ الشروط.» قال الغريب مُوافقًا: «بالتأكيد. إنني مُتعَب قليلًا وسأكون مُمتنًّا لو ارتحتُ هناك بعض الوقت.» قادت السيدة بنيتشيري الغريبَ عبر السلالم حتى وصَلا إلى بسطة الطابق الثالث، وحينها توقَّفتْ لحظةً في تردُّد، ثمَّ فتحتْ بابَ غرفةِ النوم الخلفية. علَّقَ الغريب قائلًا: «إنها مُريحةٌ جدًّا.» اندفعت السيدة بنيتشيري قائلةً: «إيجارُ هذه الغرفة، مع الإقامة الكاملة التي تَشتمِل على …» قاطَعَها الغريب مجددًا بابتسامته الهادئة الجادة: «كل ما يَحتاجه المرءُ. هذا أمر معروف.» عاوَدت السيدةُ بنيتشيري الحديثَ قائلة: «عادةً ما أتقاضى أربعةَ جنيهات أسبوعيًّا لقاءَ هذه الغرفة. أما بالنسبة إليك …» ثم فجأةً غشيَ صوتَها دونَ درايةٍ منها نبرةُ كرمٍ بالغ وأضافت: «فلأنَّ أحدًا قد أوصى لكَ بهذا النُّزُل، فَلْنَقُل إن إيجارَها سيكون ثلاثة جنيهات وعشَرة شلنات.» رد الغريبُ: «سيدتي العزيزة، هذا كرمٌ منكِ. كما خمَّنتِ، أنا لستُ رجلًا ثَريًّا. وإذا لم يُعدَّ ذلك إثقالًا عليكِ، فإني أقبلُ هذا الإيجارَ المُخفَّض بكلِّ امتنان.» مرةً أخرى ألقتِ السيدة بنيتشيري، التي تَأْلف جيدًا الأسلوب الساخر، نظرةً مُتشكِّكة على الغريب، لكنها لم تَجِد في ذاك الوجهِ الصَّبُوح الصافي أيًّا ممَّا قد يُعبِّر ولو للحظة عن سخرية. حقًّا كان وجهُه بسيطًا مثل طَبْعه. «الغاز، بالطبع، له حسابٌ مُنفصِل.» وافَقَها الغريب قائلًا: «بالطبع.» «أمَّا الفحم …» للمرة الثالثة قاطَعَها الغريب قائلًا: «لن نَختلِف. لقد كنتِ في غايةِ اللطف معي حتى الآن. وأشعر، يا سيدة بنيتشيري، أنَّ في وُسْعي أنْ أَعهدَ نفسي إلى رعايتِكِ بكل اطمئنان.» بدا الغريب يَتُوق إلى الانفراد بنفسِه. فتوجَّهت السيدةُ بنيتشيري نحو الباب مُغادِرةً بعدما أوقَدَتِ المِدفأة. لكنَّ تلك اللحظةَ شَهِدتْ تطورًا غير مُتوقَّع، فقد بدَرَ من السيدة بنيتشيري، المعروفةِ بسجلٍّ لا تَشُوبه شائبةٌ من رجاحة العقل، سلوكٌ كانت قبلَ خمسِ دقائقَ فحسب تظنُّ هي نفسها استحالةَ صدورِه عنها؛ سلوكٌ لن يُصدِّقه كائنٌ حيٌّ عرفها من قبلُ، حتى وإن جثَتْ على ركبتَيْها وأقسمت له على حدوثه. إذ سألت الغريب ويدُها على مقبض الباب: «لقد طلبتُ منك ثلاثةَ جنيهات وعشَرةَ شلنات، أليس كذلك؟» كانت تتحدَّث بضِيق. وكانت تَشعُر باستياءٍ من الغريب ومن نفسها، وخاصةً من نفسها. رد الغريب: «لقد بلَغْتِ من الكرم حدَّ تخفيضِه إلى ذلك القدْرِ، لكن إذا وجدْتِ بعد تَفكيرٍ أنكِ لن تَقْدِري على …» قاطَعَتْه السيدة بنيتشيري بقولها: «لقد ارتكبتُ خطأً؛ كان عليَّ أن أُخبركَ أن الإيجار جنيهان وعشَرةُ شلنات.» صاح الغريب: «لا أستطيع … لن أَقْبلَ بتضحيةٍ كهذه، فبوُسْعي التكفُّلُ بثلاثة جنيهات وعشَرة شلنات.» قالت السيدة بنيتشيري بحدة: «جنيهان وعشَرةُ شلنات، هذا شَرْطي. إذا كنتَ مُصِرًّا على دفع المزيد، فَلْتتوجَّه إلى نُزُل آخَر. ستجد الكثيرَ ممَّن يُسعِدهم تلبية رغبتِك.» لا بدَّ أن احتدادَها قد أثَّرَ على الغريب. فابتسم قائلًا: «لن نتجادلَ أكثرَ من ذلك. لقد كنتُ أخشى فحسب أن تَدْفعَكِ طِيبةُ قلبِكِ البالغة …» دمدمتِ السيدةُ بنيتشيري مُقاطِعةً إياه: «أوه! لستُ بتلك الطِّيبة أبدًا.» رد الغريب: «لستُ واثقًا من ذلك. إني أشكُّ قليلًا في كلامكِ هذا. لكنَّ امرأةً في مثلِ إصرارك، لا بدَّ لها، كما أرى، من تحقيقِ إرادتها.» مدَّ الغريب يدَه ليُصافِحَها، وبدا للسيدة بنيتشيري في هذه اللحظة أن التصرُّف الأمثل والأكثر طبيعية هو مُصافَحته مُصافَحةَ صديقٍ قديم عزيز، وإنهاء المحادَثةِ بضحكةٍ تشعُّ سرورًا، بالرغم من أن الضحك نشاطٌ لا تَسمح السيدةُ بنيتشيري لنفسها بالانغماس فيه كثيرًا. كانت ماري جين تقف بجوار النافذة عاقِدةً يدَيها عندما عادت السيدة بنيتشيري إلى المطبخ. والواقفُ بجوارِ النافذة كان يَلْمح أشجارَ ميدان بلومزبيري سكوير، وعبْرَ أغصانها العارية كان يرى السماء. قالت السيدةُ بنيتشيري مُقترحة: «لا يُوجد أمامنا الكثيرُ من العمل في نصف الساعة القادمة، إلى أن تأتيَ الطبَّاخة. سأراقب الباب إذا رغبتِ في الخروج بعضَ الوقت.» قَبلَت الفتاةُ العرضَ بمجرد أن استعادتْ قُدْرتَها على الكلام: «سيكون ذلك رائعًا؛ فذلك الوقت من اليوم هو المفضَّل لديَّ.» أضافت السيدة بنيتشيري: «لا تتأخَّري عن نصف ساعة.» اجتمع سكانُ النُّزل بعد العَشاءِ في غُرفةِ المعيشة وتناقَشوا في أمر الغريب، بالتحرُّرِ والجُرْأة اللذَين يتَّسِم بهما هؤلاء السكان عند التحدُّث عن شخصٍ غائب. «لا يبدو لي شابًّا ذكيًّا»، كان هذا رأي أوجستس لونجكورد، صاحب إحدى الشركات في الحي التجاري بلندن. أمَّا شريكُه إزيدور فكان تعليقُه: «بالحديث عن نفسي، لا أرى نفعًا للشابِّ الذكي. إن العالَمَ يَعجُّ بأمثاله.» ضحك شريكه قائلًا: «لا بدَّ أنه ذكيٌّ جدًّا إذا كنت تراه من الأذكياء الكُثر الذين تتحدَّث عنهم.» إذا وُجِد وصفٌ يَنطبق على الدردشة المَرِحة الذكية لصُحْبةِ سكانِ هذا النُّزل، فهو كالتالي: كانت مُحادَثتهم بسيطةً في تركيبها، وسهلةً في فَهْمها. قالت الآنسة كايت ذات الشعر المصبوغ باللون الذهبي والوجه الذي تُغطِّيه مساحيق التجميل: «أمَّا أنا، فإنَّ النظر إليه فحسب يُولِّد لديَّ شعورًا طيبًا. ربما كانت ملابسُه هي السبب؛ فقد ذكَّرَتْني بنُوح وسفينته، وما إلى ذلك.» ردَّتْ عليها الآنسة ديفاين، الفاترة الهمَّة، في تثاقُل: «الملابسُ هي ما تجعلك تفكِّرين في أيِّ شيء.» كانت الآنسة ديفاين فتاةً طويلةً حسنةَ المظهر، وكانت مُنشغلة في هذه اللحظة بمُحاوَلاتٍ عقيمة للتمدُّد على أريكةٍ من شَعر الحِصان، في وضعٍ يُوفِّر لها الراحةَ ويُحافظ على مَظْهرها الأنيق على حدٍّ سواء. ولأنَّ شعبيةَ الآنسة كايت كانت قليلة في تلك الأمسية، إثرَ استيلائها على الكرسيِّ الوحيد المريح في المكان، فإنَّ تعليقَ الآنسة ديفاين على عباراتها لاقَى من الحضور استحسانًا يزيد على الأرجح عمَّا يستحقُّه. تساءلَت الآنسة كايت في جدية: «ما قَصدكِ بهذا الرد؛ الطرافة أم الوَقاحة؟» «الاثنتان»، كان هذا زعم الآنسة ديفاين. صاح والِدُ الفتاة الطويلة، المعروفُ بالكولونيل، قائلًا: «هلا أدلي بدلوي في الأمر؟ يجب أن أعترف بأنني أراه رجلًا أحمق.» همهمتْ زوجتُه، وهي سيدةٌ قصيرةٌ ممتلئةُ الجسم، مبتسمةً: «لقد بدا لي أنَّ هناك الكثيرَ من الانسجامِ بينكما.» رد زوجها بسرعة: «ربما كان الأمرُ كذلك بالفعل. لقد عوَّدَني القدَرُ على مُصاحَبة الحمقى.» صاحَت ابنتهما البارَّةُ من فوق الأريكة: «من المُحزِن أن تبدآ في الشِّجار بعد العشاء مباشَرةً، فلن تجدا على هذا النحو ما يُسلِّيكما في باقي الأُمسية.» علقت السيدة التي كانت قريبة أحد البارونيتات: «لم يَبْدُ لي مُتحدِّثًا لَبقًا، إلا أنه مرَّرَ طبقَ الخضراوات قبل أن يتناوَلَ نصيبَه. تلك اللفتات تنمُّ عن حُسْن التربية.» رد عليها أوجستس الظريفُ ضاحكًا: «أو ربما لم يَكُن يعرفكِ وظنَّ أنكِ قد تَتْركين له نصفَ ملعقة من الخضراوات.» صاح الكولونيل: «ما لا أستطيع فَهْمه بشأنه …» دخل الغريب الغرفةَ. فانزوى الكولونيل في ركنٍ حاملًا صحيفةَ المساء. أمَّا الآنسةُ كايت، فتناوَلتْ من فوقِ رفِّ المدفأة مروحةً ورقية ورفعَتْها أمامَ وجهها في خجلٍ مُتصنَّع. بينما اعتدلت الآنسة ديفاين في جلستها على الأريكة المصنوعة من شعر الخيل وعدَّلتْ من تنورتها. سأل أوجستس الغريب، كاسِرًا حاجزَ الصمت الذي بدأ يُلاحَظ: «ألديكَ أيُّ أخبار؟» بدا جليًّا أن الغريب لم يَفْهم سؤالَه. وكان لازمًا على أوجستس، الظريف، مُواصَلة الحديثِ لتجاوُزِ هذا الصمت الغريب. «مَن تَعتقِد سيفوز بسباق لينكولن لتحمُّل الخيل؟ قُلْ لي اسمَ الحِصان الفائز، وسوف أخرجُ من فوري وأُراهِن عليه بكل ما أملك.» ابتسم الغريب قائلًا: «سيكون ذلك تصرُّفًا غيرَ حكيمٍ في رأيي. فليس لديَّ خبرة بهذا الموضوع.» «حقًّا؟! لِمَ أخبروني إذن أنك كاتبُ عمودِ «أسرار السباق» في صحيفة «سبورتنج لايف»، لكنك مُتنكِّر؟» سيكون من الصعب أن تكون هناك دُعابة أسخف من تلك الدُّعابة. لم يضحك أحدٌ بالطبع على دعابة السيد أوجستس لونجكورد، وعجَزَ هو عن فَهمِ سبب ذلك، وربما لم يكن لأيٍّ من الحاضرين أن يُخبرَه به؛ لأن السيد لونجكورد في هذا النُّزل كان يُعَد صاحبَ حسِّ دعابة. أمَّا الغريب نفسه فبدا أنه لم يُدرِك كونَه محلَّ سخرية. إذ ردَّ مُؤكِّدًا: «معلوماتُك خاطئةٌ يا سيدي.» قال السيد أوجستس لونجكورد: «مَعذرة إذن.» ردَّ الغريب بصوته العَذْب الخفيض: «لا داعيَ للاعتذار»، وتجاوَزَ الأمر. تحوَّل السيد لونجكورد إلى صديقِه وشريكه سائلًا إياه: «حسنًا، فيما يتعلَّق بالذهاب إلى المسرح، أترغبُ في الذهاب أم لا؟» كان السيد لونجكورد مُتوترًا. رد السيد إزيدور: «لدينا التذاكرُ، فَلْنذهب على أي حال.» «سمعتُ أنها مسرحيةٌ في غاية التفاهة.» قال إزيدور: «معظمُ ما يُعرَض هذه الأيامَ تافه على نحو أو آخر.» وأضاف: «لكن من الخسارة أن نُهدِر التذاكر»، وخرج الاثنان معًا. رفعت الآنسة كايت عينَيْها المُتمرستَيْن نحو الغريب وسألته: «هل ستمكثُ طويلًا في لندن؟» أجابها الغريب: «لا، ليس لفترةٍ طويلة. أنا لا أعرف تحديدًا. الأمر يَعتمِد على الظروف.» ساد في غرفة المعيشة هدوءٌ استثنائي، وهي الغرفةُ التي عادةً ما كانت تَعجُّ بأصواتِ شاغليها الصاخبة في هذا الوقت من اليوم. ظلَّ الكولونيل مشغولًا بجريدته. بينما جلسَت السيدةُ ديفاين عاقدة يدَيها البيضاوين المُمتلئتين فوق حِجرها، وكان مُستحيلًا معرفةُ أهي نائمةٌ أم مُستيقِظة. أمَّا السيدةُ قريبة البارونيت، فقد حرَّكتْ كرسيَّها تحت الثُّريا المُضاءة بالغاز، وأخذت تَحِيكُ قطعةَ الكروشيه التي لا تنتهي أبدًا. وتوجَّهَت الآنسةُ ديفاين الفاترة الهمَّة نحو البيانو، وجلست على مقعده وأخذتْ أصابعُها تُداعِبُ برفقٍ مَفاتيحَه التي بحاجةٍ إلى ضبط، مُولِيةً ظهرَها للغرفةِ الباردة القليلةِ الأثاث. قالت الآنسةُ كايت للغريب بأسلوبها الوَقِح، مُشِيرةً بمروحتِها إلى الكرسي الشاغر بجوارها: «اجلس. وحدِّثني عن نفسِك. إنك تُثير اهتمامي.» كانت الآنسة كايت تتبنَّى سلوكًا سُلطويًّا إلى حدٍّ ما مع جميعِ أعضاء الجنس الآخَر ممَّن تبدو عليهم أمارات الشباب. وكان ذلك مُنسجمًا مع بشرتها الخوخية اللون وشَعرها الذهبي، ومُناسِبًا لها عمومًا. رد الغريب ساحبًا الكرسيَّ الذي أشارت إليه: «سعيد أني أثَرْتُ اهتمامَك. كنتُ بالفعل أرغب في ذلك.» ردَّت الآنسة كايت: «أنت فتًى جريء للغاية.» ثم أخفَضَت مروحتَها من أجل النظر بخُبثٍ مِن فوق حافتها، وعندئذٍ التقتْ عيناها لأول مرةٍ بعينَي الغريب اللتَين كانتا تنظران إلى عينَيها. وحينها اختبرَت الآنسة كايت الشعورَ العجيب نفسَه الذي بثَّ الاضطرابَ في نفس السيدة بنيتشيري قبل ساعةٍ أو أكثر، عندما أقدَمَ الغريبُ لأول مرة على الانحناءِ لها. وبدا للآنسة كايت أنها لم تَعُد المرأةَ التي تَثِق أنها كانت ستَراها إذا ما نهضَت عن كرسيِّها وتحرَّكتْ نحو المرآة المتَّسِخة المعلَّقة فوق رفِّ المِدفأة الرخامي، بل امرأة أخرى، مُبتهجة تشعُّ عيناها حيويةً ونشاطًا وتدنو من مُنتصَف العمر، لكن لا تزال حسنةَ المظهر على الرغم ممَّا اعترى بشرتَها من ذبول وخصلات شعرِها البُنِّي من ضعف. وشعرتْ بموجةٍ من الغيرة تجتاحها؛ فتلك المرأةُ المُتوسِّطةُ العمر بَدَتْ لها إجمالًا أكثرَ جاذبيةً. كانت تعكس قَدْرًا من رجاحةِ العقل وحُسنِ الأخلاق وسَعَةِ الأُفق، يجعل المرءَ يَنجذِب إليها غريزيًّا. إنها امرأةٌ لا تقيِّدها — مثل الآنسة كايت نفسِها — الحاجةُ للظهور بمَظهرِ فتاةٍ يتراوح عمرها بين الثامنة عشرة والثانية والعشرين؛ كان المرءُ يشعر أن في وُسعِ تلك النسخة الأخرى من الآنسة كايت التحدُّثَ بمَنطقٍ واضح، بل بذكاءٍ متَّقِد. إنها امرأةٌ لطيفة بمعنًى الكلمة، وتلك حقيقةٌ لم يَسَع الآنسة كايت، وإن كانت تَشعُر بالغِيرة، إنكارُها. وقد تمنَّت الآنسة كايت مِن أعماقِ قلبها لو لم تَرَ قطُّ تلك النسخةَ الأخرى منها. فصورتُها الخاطفة تركتها شاعرةً بالاستياء من نفسها. استأنَفَ الغريب المحادَثةَ قائلًا: «أنا لستُ فتًى، ولا أريد أن أكون من النوع الجريء.» ردَّت الآنسة كايت: «أعرف ذلك. إنها مجردُ ملاحظةٍ سخيفة. لا أعرف لمَ قُلْتُها. يبدو أنني أصبحتُ عجوزًا حمقاء.» ضحك الغريب. وقال: «قطعًا أنتِ لستِ عجوزًا.» ردت الآنسة كايت بحدَّة: «عمري تسعةٌ وثلاثون عامًا. لا أظنُّك تَراني في ريعانِ الشباب؟» أصَرَّ الغريبُ على رأيه قائلًا: «أرى أنكِ في مرحلة عمرية رائعة؛ فأنتِ لم تَتقدَّمي في العمر إلى حدٍّ يُفقِدُكِ بهجة الشباب، لكنكِ بلغتِ من كِبَر السن ما يَكفي للتحلِّي بالتعاطف.» ردَّت الآنسة كايت: «أوه، جميعُ الأعمار جميلةٌ في نظركَ على ما أَعتقِد. سأخلد إلى النوم.» ثم نهضت. وكانت مروحتُها الورقية قد انحلَّت دون أن تَدْري كيف. فألقَتْ أجزاءها في المدفأة. قال الغريب مُتوسِّلًا: «لا يزال الوقتُ مُبكرًا، كنتُ أتطلَّعُ للتحدُّث إليكِ.» ردَّت الآنسة كايت: «حسنًا فَلْتستمرَّ في التطلُّع إذن. تُصبِح على خير.» في الحقيقة كانت الآنسة كايت تَتُوق إلى مُطالَعة صورتها في المرآة في حرم غُرفتها وخلف بابها المغلَق. ونظرًا لأنَّ صورتها ذات الوجه الصافي الشاحب والشعر البُني كانت حيةً بشدة في خيالها، فقد تساءلت هل حلَّتْ عليها نوبةٌ من فقدان الذاكرة المؤقَّت بينما كانت تَرتدي ملابسها لتناوُل العشاء هذا المساءَ جعلتها تَنْسى صورتها الأخرى. أمَّا الغريب، بعدما ترَكه الآخَرون لشأنه، فقد سار نحو الطاولة المُستديرة باحثًا عن شيء يَقْرؤه. فخاطَبَته السيدةُ قريبة البارونيت قائلةً: «يبدو أنكَ أخَفْتَ الآنسةَ كايت.» أومأ الغريبُ برأسه مقرًّا: «يبدو الأمر كذلك.» قالت السيدة التي كانت تَحيك قطعة الكروشيه: «إن ابنَ عمي، السير ويليام بوستر، مُتزوِّج من ابنة أخت اللورد إيجام العجوز؛ هل قابَلتَ أحدًا من آل إيجام من قبل؟» رد الغريب: «حتى الآن، لم أحظَ بهذا الشرف.» «إنها عائلةٌ في غايةِ اللطف والاحترام. السير ويليام، ابن عمي، يَعْجز عن فَهْم ما يَدفعني للبقاء هنا. في كل مرةٍ يراني، لا يَملُّ من قول: «عزيزتي إميلي، كيف تتحمَّلين البقاءَ وسطَ نوعية الأشخاص الذين يُصادفهم المرء في أي نُزُل؟» لكن الناس هنا يُسَلونَني كثيرًا.» وافَقَها الغريب قائلًا إن حسَّ الفكاهة ميزةٌ في جميع الأحوال. واصَلَت السيدةُ قريبة السير ويليام حديثَها بصوتٍ رتيب هادئ: «إن عائلتَنا من جهةِ أمي كانت تَمُتُّ بصلةٍ إلى آل تاتون-جونز، الذين كانوا في عهد الملك جورج الرابع …» ثم قطَعتْ حديثَها للحظةٍ كي تَجلبَ كرةً إضافية من خيوط الكروشيه، وعندئذٍ رفعتْ عينَيْها فالتقَتا بعينَي الغريب. ثم أضافَت السيدةُ قريبة السير ويليام بنَبرةٍ يَشُوبها التوتُّر: «لا أعرف بالتأكيد لمَ أخبرك بكل هذا! إنها أمورٌ على الأرجح لن تُثِير اهتمامَك.» طَمْأنها الغريبُ بجدية قائلًا: «كل ما يتعلَّق بكِ يُثير اهتمامي.» تنهَّدَت السيدةُ قريبة السير ويليام ثم ردَّت دونَ اقتناع: «ذلك لطفٌ شديد منك، وأخشى أنني أسبِّب أحيانًا المللَ لمَن حولي.» امتنَعَ الغريبُ المهذَّب عن مُناقَضة كلامها. فواصَلَت السيدة المسكينة حديثها: «أتدري، أنا أنتمي حقًّا إلى عائلةٍ نبيلة.» قال الغريب: «سيدتي العزيزة، يَشهد وجهُكِ النبيل وصوتُكِ الرقيق وسلوكُكِ الدَّمِث جميعًا لكِ بهذا.» نظرت السيدةُ إلى عينَي الغريب في ثبات، وشيئًا فشيئًا شاعَت على وجهِها ابتسامةٌ طرَدتْ ما خيَّمَ على ملامحِها مِن بلادة. «يا لحماقتي!» واصَلتِ السيدة حديثَها، وإن بَدَتِ الآن تُحدِّث نفسَها لا الغريب. «لا شك أن الناس — الذين يُهمُّك ترْكُ انطباعٍ حسنٍ لديهم — يَحْكمون عليكَ بما أنتَ عليه حقًّا، لا بما تدَّعِيه لنفسكَ في كل مناسَبة.» ظلَّ الغريب صامتًا. قالت: «إني أرملةُ طبيبٍ كان يعمل في المقاطَعات، ودَخْلي السنوي لا يَزيد عن مائتين وثلاثين جنيهًا فحسب. لذا تَقتضي الحكمةُ أن أُحسِن استغلالَ ذلك المبلغ المحدود، وألَّا أَشغَل بالي بأقاربي الأرستقراطيين وذوي النفوذ هؤلاء إلا بقدرِ ما يَشْغلون هُمْ بالَهم بي.» بدا على الغريب أنه لا يستطيع أن يَجِد ما يستحقُّ القول. أردفَت ابنةُ عمِّ السير ويليام متذكرةً: «لديَّ أقاربُ آخَرون؛ أهل زوجي المسكين، الذين يمكن ألَّا أبدوَ في أعيُنِهم «القريبة الفقيرة»، بل الراعية الكريمة. إنهم أهلي الحقيقيُّون؛ أو كانوا سيُصبحون كذلك — مُضيفة بمرارة — لو لم أكُن امرأةً مُتكبِّرة فظَّة.» تورَّدَ خدُّها خجلًا فورَ أن لفظتْ بتلك الكلمات، ثم نهضَتْ من مكانها وبدأتْ تستعدُّ في عُجالةٍ لمغادَرة الغرفة. تنهَّدَ الغريب قائلًا: «يبدو أني أفسدتُ أمسيتَكِ.» ردَّت السيدةُ بشيءٍ من الانفعال: «بعدما دُعِيت بالمتكبِّرة الفظَّة، أظنُّ أن الوقت قد حان لرحيلي.» قال الغريب مُذكِّرًا إياها: «لكنَّ تلك كانت كلماتك.» تمتمت السيدة المستاءة: «أيًّا كان دافعي لذلك، لا يَصحُّ أن تصِفَ سيدةٌ محترمة نفسَها بتلك الألفاظ، خاصةً في صُحبةِ شخصٍ غريب عنها تمامًا.» ثم صمتَت السيدة المسكينة في حيرة. وأضافت موضحةً: «هناك شيء غريب للغاية فيَّ هذه الأمسية لا أستطيع فهمه. يبدو أنَّني عاجزةٌ عن تجنُّبِ الإساءة إلى نفسي.» وهكذا، بينما لا تزال تُحاوِطُها الحيرة، تمنَّتْ ليلةً سعيدة للغريب، آملةً أن تكون في حالةٍ أفضلَ مع لقائهما التالي. فتح الغريبُ لها الباب، آمِلًا في ذلك أيضًا، وأغلقَه ثانيةً وراءَها. ضحكت الآنسة ديفاين، التي تمكَّنتْ بفعل موهبتِها من تطويعِ ذاك البيانو المتهالِك ليُصدِرَ قَدْرًا من التناغُم، ثم سألت الغريب: «قل لي كيف تمكَّنتَ من فِعلِ ذلك؟ أريد أن أَعرف.» تساءَلَ الغريب: «فِعل ماذا؟» «تدبُّر التخلُّص من هاتَين العجوزَين الشمطاوَين بتلك السرعة.» قال الغريبُ: «يا لبراعَتِكِ في العزف! لقد أدركتُ موهبتَكِ الموسيقية الفذَّة ما إن وقَعتْ عيناي عليكِ.» «كيف تمكَّنتَ من ذلك؟» «موهبتُكِ تَظهر جَلِيةً على وَجهكِ.» ضحكت الفتاةُ مسرورةً. وقالت: «يبدو أنك أَخضعتَ وجهي لدراسةٍ مُتأنية.» قالَ الغريب: «إنه وجهٌ جميلٌ وباعِث على الاهتمام.» أدارت الآنسة ديفاين مقعدَ البيانو بقوة، والتقتْ عيناها بعينَيه. «أتستطيع قراءةَ الوجوه؟» «نعم.» «أخبِرْني إذن، ماذا قرأتَ أيضًا في وجهي؟» «قرأتُ الصراحةَ والشجاعة …» «آه، نعم، كلَّ الفضائل. ربما. سنَعتبر ذلك من المسلَّمات.» كان تحوُّلُها المفاجئ إلى الجدية غريبًا. «حدِّثني عن الجانب الآخَر مني.» ردَّ الغريب: «لا أرى جانبًا آخَر. لا أرى سوى فتاةٍ جميلة تقفُ على أعتابِ أنوثةٍ نبيلة.» «فقط؟ أَلَم تَرَ أثرًا لطمعٍ أو غرورٍ أو خِسَّة أو …» ثم فلتَتْ منها ضحكةٌ غاضبة. واستطردت: «وتدَّعي أنكَ قارئُ وجوه!» قال الغريب: «أَلا تُصدِّقينني؟» ثم ابتسم. وأضاف: «هل تَعرفين ما أراه مكتوبًا على وجهكِ في هذه اللحظة؟ أرى حبَّ الحقيقةِ في أشدِّ صوره، أرى ازدراءً للكذب والنِّفاق، أرى تَوْقًا إلى كلِّ ما هو نقي، واحتقارًا لكلِّ ما يستحقُّ الاحتقار، لا سيما ما يستحقُّ الاحتقارَ في النِّساء. أخبريني، هل قراءتي صحيحة؟» فكَّرتِ الفتاة مُتعجِّبة: ألهذا هُرعَت السيدتان الأُخريان كلتاهما خارجَ الغرفة؟ هل يَشْعر الجميعُ بالخِزْي ممَّا تنطوي عليه أنفُسُهم من خِسَّة أمام عينَيكَ الصافيتَيْن اللتَين تُؤمِنان بأفضل ما في البشر؟ خَطَرَ لها أن تسأله: «يبدو أن أبي كان لدَيه الكثيرُ ليُخبِركَ به في أثناء العشاء بينما تتحدَّثان معًا. قُلْ لي عمَّ كنتما تَتحدَّثان؟» «أتقصدين الرجلَ المهذَّبَ ذا المظهر العسكري الذي كان يَجلس على يساري؟ لقد تحدَّثنا معظمَ الوقت عن أمِّك.» ردَّت الفتاةُ شاعرة بالندم على طرح السؤال: «أنا آسفة. كنت آمُلُ أن يكونَ قد اختار موضوعًا آخَرَ للحديث بينكما في أول مساء تَقْضيه معنا هنا!» ردَّ الغريب: «لقد حاوَلَ بالفعل فتْحَ موضوعٍ أو موضوعَين آخرَين، لكنَّ معرفتي بشئون العالَم محدودةٌ للغاية؛ لذا سعدتُ عندما أخَذ يتحدَّث عن نفسِه. أشعُر أننا سنُصبحُ صديقَين. ومن ناحية أخرى، لقد تحدَّثَ بمُنتهى اللُّطْف عن السيدة ديفاين.» علقت الفتاة: «فعلًا؟» «قال لي إنه طوال العشرين عامًا التي قضاها مُتزوجًا من أمك لم يَندَم على زواجه سوى مرةٍ واحدة!» حوَّلتِ الفتاةُ عينَيها السوداوين إليه فجأة، لكنَّ نظرةَ الشك تبدَّدتْ منهما ما إن الْتَقتْ بعينَيْه. فأدارتْ وجهَها كي تُخفِيَ ابتسامتَها. «لقد نَدِم إذن على الزواج … مرةً واحدة.» استطرد الغريب من فوره: «مرةً واحدة فحسب، في نوبةِ ضِيقٍ عابِرة. إن اعترافه يدلُّ على ما يتَّسِم به من صدقٍ شديد. قال لي … أعتقد أنه قد اطمأنَّ إليَّ. في واقع الأمر، استشعرتُ ذلك من تصرُّفاته. قال إنَّ فرصةَ الحديث إلى رجلٍ مثلي لم تُتَح له كثيرًا؛ قال إنه عندما يسافر مع أمكِ دائمًا ما يظنُّهما الناسُ زوجَيْن في شهر العسل. وقد حكى لي بعضَ المواقف البالغة الظرف حقًّا.» ضحك الغريب عندما تذكَّرها ثم أضاف: «حتى هنا في هذا المكان، عادةً ما يُشار إليهما ﺑ «الزوجَيْن المحبَّين بعضهما لبعض إلى الأبد».» قالت الفتاة: «نعم، هذا صحيح. إنَّ السيد لونجكورد هو مَن أطلق عليهما هذا، في مساء اليوم الثاني لوصولنا. لقد اعتُبر لقبًا مُعبِّرًا، لكنه مُبتذَل قليلًا في رأيي.» قال الغريب: «لا يُوجد ما هو أجمل، فيما أرى، من الحبِّ الذي صمَد في مواجَهةِ تقلُّباتِ الحياة ومِحَنها. إن بُرْعُم الحبِّ النقي والرقيق الذي يَنْبت في قلوب الشباب، في قلبٍ كقَلبِك، جميلٌ أيضًا. حُبُّ الشباب هو بدايةُ الحياة. لكنَّ حبَّ الكبار هو بدايةٌ … لمشاعرَ أبقى.» قالت الفتاةُ في تذمُّر: «يبدو أنك ترى كلَّ الأشياء جميلة.» رد الغريب: «لكن أليسَتْ جميعُ الأشياء جميلة؟» كان الكولونيل قد فرغ من جريدته بحلول ذلك الوقت. فقال ملاحظًا وهو يقترب نحوهما: «يبدو أنكما مُنهمِكان في محادَثةٍ مُشوِّقة للغاية!» قالت له ابنتُه موضحةً: «كنا نتحدَّث عن «الأزواج المحبِّين بعضهم لبعض للأبد»، وعن جمالِ الحب الذي صمد في مواجَهةِ تقلُّبات الحياة ومحنها!» ابتسم الكولونيل مُعلِّقًا: «هكذا إذن، ذلك ليس عدلًا. يبدو أن صديقي كان يُعِيد على آذانِ الشباب الساخر اعترافاتِ زوجٍ عاشِق بحبِّه لزوجته التي بلغَتْ مُنتصفَ العمر و…» وهنا وضع الكولونيل، في مزاجه الهازل، يدَه على كتفِ الغريب؛ ما حتَّمَ عليه النظرَ مباشَرةً في عينَيْه. عندئذٍ اعتدل في وقفتِه مُتصلبًا واحمرَّ وجهُه. كان هناك شخص يدعو الكولونيل بالوغد. ولم يَكتفِ بذلك، بل أخذ يَشرح بوضوحٍ بالغ الأسبابَ التي تجعل منه وغدًا كي يتأكَّد من ذلك. «إن حياةَ القِط والفأر التي تَحْياها مع زوجتِكَ عارٌ عليكما معًا. على الأقل راعِ آدابَ اللياقة وحاوِلْ إخفاءَ الأمر عن الناس، بدلًا من المزاحِ حول عارِكَ مع كلِّ عابرِ سبيلٍ. أنت وَغدٌ، يا سيدي، وَغد!» مَن جَرُؤ على التلفُّظ بتلك العبارات؟ بالتأكيد ليس الغريب؛ إنه لم يَتفوَّه بكلمة. هذا فضلًا عن أن الصوتَ ليس صوتَه. بل هو في واقع الأمر أشبهُ كثيرًا بصوتِ الكولونيل نفسِه. حوَّل الكولونيل نظَرَه من ابنتِه إلى الغريب، ثم مِن الغريب إلى ابنته. من الواضح أنهما لم يَسمعا الصوت؛ لقد كان الأمر مجردَ هلوَسة. لذا استردَّ الكولونيل أنفاسَه أخيرًا. بالرغم من ذلك بقِيَ أثرُ الصوت في نفسِه عَصِيًّا على التبدُّد. لا شكَّ أن مزاحَه مع الغريب حولَ موضوعِ زوجتِه كان يَنمُّ عن انعدام الذوق. فذلك أمرٌ لا يُقدِم عليه رجلٌ مهذَّب أبدًا. لكنْ ما مِن رجلٍ مُهذَّب يَسْمح أبدًا بوضْعٍ كالذي بين الكولونيل وزوجتِه. فالرجلُ المهذَّب ما كان ليقضيَ جُلَّ وقتِه في التشاحُن مع زوجته، وقطعًا ما كان ليفعلَ ذلك على مَرْأًى من الناس. فمهما كانت زوجته مصدر إزعاج له، كان سيكون قادرًا على التحكُّم في نفسه. نهضَت السيدة ديفاين من مكانها وتقدَّمتْ ببطءٍ عبر الغرفة نحوَهم. تملَّكَ الخوفُ من الكولونيل. قال في نفسه إنها سوف تَتوجَّهُ إليه بملحوظةٍ ما مُستفِزَّة؛ إذ قرأ ذلك في عينَيْها، والتي كانت ستُثير سخطَه إلى حدٍّ يَدفعُه إلى ردٍّ فظٍّ قاسٍ. حتى هذا الغريب الأحمق كان سيَفْهم لِمَ لقَّبَهما ظريفُ النُّزُل ﺑ «الزوجَيْن المحبَّين بعضهما لبعض إلى الأبد»، وسوف يَسْتوعب أن الكولونيل الشَّهْم كان يَتسلَّى بالسخرية من زوجته في حديثٍ مع غريبٍ جلَس بجواره على مائدة العشاء. هُرع الكولونيل كي يبدأ الحديث، فصاح مُخاطِبًا زوجته: «عزيزتي، أَلَا تَشعُرين بالبرد في هذه الغرفة؟ هلا أحضرتُ لكِ شالًا!» شعر الكولونيل بعبثيةِ مُحاوَلته. فطالما جرَت العادةُ بينه وبين زوجته على إلباسِ أقسى ما يَتبادَلانه من إهاناتٍ قناعَ التهذيب. تقدَّمت الزوجةُ نحوه بينما تُفكِّر في ردٍّ مناسِب؛ مناسب حسب وجهةِ نظرِها بالطبع. قال في نفسه: ستَنكشِفُ الحقيقةُ في أيِّ لحظةٍ الآن. عندئذٍ خطَر بباله احتماليةٌ جامحة رائعة: إذا كان للغريب هذا التأثيرُ عليه، فلماذا لا يكون له نفس التأثير عليها؟ صاح الكولونيل بنَبرةِ صوتٍ فاجأتْ زوجتَه ودفعتها للصمت: «ليتيشا، فَلْتُلقِي نظرةً مُتمعِّنة على وجهِ صديقِنا هنا. ألا يُذكِّركِ بأي أحد؟» ألقَت السيدةُ ديفاين نظرةً طويلة مُتمعِّنة على وجه الغريب كما حثَّها زوجُها. ثم غمغمت وقد تحوَّلتْ إلى زوجها: «نعم، إنه يُذكِّرني بأحد، لكن مَن هو؟» رد الكولونيل: «لا أستطيع التذكُّر تحديدًا؛ ظننتُ أنكِ قد تتذكَّرين.» أردفت السيدة ديفاين مُتأمِّلةً: «سأتذكَّر مع الوقت. إنه وجهُ شخصٍ عرفتُه منذ سنواتٍ بعيدة، في سنواتِ صِبايَ بمُقاطَعة ديفونشاير. سأكون شاكرةً إن أحضرتَ لي شالي يا هاري. لقد تركتُه في غرفة الطعام.» كانت حماقةُ الغريب البالغة هي سببَ كلِّ المتاعب، هكذا شرح السيد أوجستس لونجكورد لشريكه إزيدور. وأضاف: «أنا على أتمِّ استعدادٍ لعَرضِ براعتي في المُعامَلات التجارية على رجالٍ لهم دراية بالأمور، أو يظنُّون أنهم كذلك. لكن هذا الطفل الذي لا حولَ له ولا قوة عندما يَرفُض حتَّى أن يَطَّلِعَ على تقاريري وحساباتي، زاعِمًا أن كلمةَ شرفٍ مني تَكْفيه، ثم يُعطيني دفترَ شيكاته كي أضعَ الرقمَ الذي يُناسبني، حسنًا، أؤكِّد لك أنه لا يَحِيكُ مَكيدةً ما، بل هو مَعتوهٌ تمامًا.» ردَّ شريكه باقتضاب: «المعتوه هو أنتَ يا أوجستس.» رد أوجستس مُقترحًا: «حسنًا، فَلْتذهب إليه يا عزيزي وتتحدَّث إليه بنفسك.» قال الشريك في إصرار: «ذلك تحديدًا ما أنوي فِعلَه.» في المساء التالي لحديثهما، وقف السيد لونجكورد مُستقبلًا شريكَه بينما يصعد السلالمَ بعد حديثٍ طويل أجراه مع الغريب وحدهما في غرفة الطعام، وقال له: «كيف سارَ الأمر؟» رد إزيدور مُحْتدًّا: «أرجوك، لا تَسْألني، إنه رجلٌ أحمقُ سخيف، ذلك كلُّ ما في الأمر.» «ماذا قال لك؟» «لن تَتصوَّرَ ما قاله لي، لقد أخذ يتحدَّث عن اليهود، عن مدى طِيبتِهم، وعما يتعرَّضون له من سوءِ تقديرٍ مِن الناس، إلى آخِر هذا الهراء! لقد أضاف أن بعضًا من أكثر مَن قابلهم احترامًا على مدى حياته كانوا يهودًا. وقد كان يظنُّني واحدًا منهم!» «حسنًا، وهل توصَّلتَ إلى أيِّ اتفاقٍ معه؟» «اتِّفاق! بالطبع لا. لا يَسَعني تشويه صورة اليهود كلِّهم مقابلَ بضعِ مئاتٍ من الجنيهات. تبدو صفقةً خاسرة.» شيئًا فشيئًا توصَّلَ قاطنو النُّزل إلى أن هناك الكثير من الأفعال التي لا تستحقُّ كلَّ هذا العناء الذي يتكبَّدونه من أجلها؛ أفعال مثل التصارُع على طبقِ المرق، والتسابُق لحيازةِ طبقِ الخضراوات أولًا، وغَرْف المرء أكثرَ مِن نصيبه المُستحَق، والتحايُل بغرضِ الاستيلاء على الكرسي المريح، والجلوس على صحيفةِ المساء ثمَّ التظاهُر بعدم رؤيتها، إلى آخِر تلك التصرُّفات الطفولية التافهة. إذ أدركوا أنَّ ما يَتحصَّلون عليه من مَكاسِبَ ضئيلةٍ من تلك السخافات لا يُوازِي الجهدَ المبذولَ في سبيلها. وهكذا توقَّفوا أيضًا عن الأفعالِ السُّوقية على غرارِ التذمُّرِ الدائم من الطعام، والشَّكوى المُتواصِلة من معظم الأشياء، وذمِّ صاحبةِ النُّزل في غيابها أو ذمِّ رفاقِ السكن على سبيل التغيير، والتشاحُنِ فيما بينهم دونَ سببٍ وجيه، وتهكُّمِ بعضهم على بعض، وإذاعةِ الفَضائح بعضهم عن بعض، وإطلاقِ الدُّعابات السخيفة بعضهم على بعض، والتباهي بإنجازاتٍ لا يُصدِّقها أحدٌ. تلك سفاهات ربما يَنخرِط فيها مُستأجِرو الأنزال الأخرى، لكنَّ سكانَ هذا النُّزل كان لديهم من الشرف ما يَحُول بينَهم وبينَ تلك الأفعال. في الحقيقة أصبح سكانُ النُّزل يُحسِنون الظنَّ بأنفسهم، وهم يَدِينون بذلك إلى الغريب وحْدَه. فقد قَدِم الغريب إلى منزلهم ولديه تصوُّر مسبق — الله وحده يَعلم من أين جاء به — مُفاده أن قاطنيه الذين بدَوا أنَّهم من عموم الناس الخَشِني الطباع السيئِي الخُلق، هم في الواقع سادة وسيدات من أرقى الناس وأنبلهم، والظاهرُ أن الوقتَ الذي قضاه بينَهم وملاحظتَه لهم لم يُسهِما إلا في تأكيدِ ذلك التصوُّر اللامعقول. ومن ثَم كانت النتيجةُ الطبيعية أنهم بدءوا في التحوُّل بما يتوافَق مع رأي الغريب فيهم. كان الغريب يُصِرُّ على أن السيدة بنيتشيري سيدةٌ نبيلة بحكم الميلاد والنشأة أجبَرتْها ظروفٌ خارجة عن إرادتها على الانضمام إلى صفوفِ الطبقة الوسطى في عملٍ كادحٍ شريف؛ حيث تضطلع بدورِ الأم الرَّءوم التي لا تَستحقُّ مِن عائلتها الكبيرة سوى كل شُكرٍ وعرفان؛ وهو رأيٌ تشبَّثَت به السيدة بنيتشيري نفسُها الآن عن اقتناعٍ لا يَتزحزح. بالطبع لا يخلو دورُها الجديد من بعضِ المتاعب، لكنها بَدَتْ مُستعدةً لتحمُّلِها عن طِيبِ خاطرٍ. فسيدةٌ نَبيلة مثلها لا يَلِيق بها أن تَحصُل من ضيوفها الكِرَام على ثمنَ فحمٍ وشمع لم يَستخدمُوه قط، والأمُّ الرَّءوم لا يُمكِن أن تُطعِم أولادَها لحمًا مُتوسِّط الجودة مدَّعِيةً أنه من أفضلِ أنواعِ اللحوم. تلك حِيَل قد تَلْجأ إليها صاحبةُ نُزُلٍ عاديةٌ كي تدسَّ الأرباحَ في جيبها. لكنَّ سيدةً على خُلقٍ وتهذيب مثلَها لا يُمكِن لها أبدًا ارتكابُ أفعالٍ كهذه؛ أو بعبارةٍ أخرى شعرت السيدة بنيتشيري أنها لم تَعُد قادرةً على ارتكابِ تلك الأمور. أمَّا الآنسة كايت ففي عين الغريب كانت مُحاوِرةً ذكية ومُثيرة للإعجاب وذاتَ شخصية شديدة الجاذبية. بَيْد أنها كانت تُعانِي من عيبٍ واحد؛ ألا وهو قلةُ الاعتدادِ بالذات. فهي لم تكن تَعِي طبيعةَ جمالِها الرقيق النَّقِي. ولو أُتِيحتْ لها — فحسب — فرصةُ رؤيةِ نفسها بعين الغريب لَتخلَّتْ فورًا عن ذلك التواضُع الذي يَدْفعها إلى التشكُّك في حُسْنها الطبيعي. بدا الغريبُ على يقينٍ شديد من رأيه، حتى إنَّ الآنسة كايت عقَدت العزمَ يومًا ما على وضع ذلك الرأي مَوضعَ التجرِبة. فقد دلفتْ في إحدى الأمسيات قبلَ العشاء بساعة إلى غرفةِ المعيشة، وكان الغريب جالسًا هناك وحْدَه ولم تكُن مصابيحُ الغاز قد أُضِيئتْ بعدُ، وعندما رفَعَ عينَيه وجد أمامه سيدةً لطيفة، حسَنةَ المظهر، ذاتَ بشرةٍ شاحبة قليلًا وشَعرٍ بُنِّي مُصفَّفٍ بعناية، تسأله إنْ كان يَعرفها. كانت تَسْري في جسدِ الآنسة كايت رعشةٌ وبدا صوتُها مُرتجِفًا يُوشِك في أيِّ لحظة على التحوُّل إلى نَحيب. لكنه انقلَبَ إلى ضحكةٍ عندما نظر الغريبُ مباشَرةً إلى عينَيْها وأخبَرَها أنه لِما يُلاحظ من تشابُهٍ بينها وبين الآنسة كايت، فلا بدَّ أنها أختُها الأصغر منها سنًّا، والأجمل منها بكثير، وهكذا كانت تلك هي الأمسية التي اختفَتْ فيها الآنسةُ كايت ذاتُ الشعرِ الذهبي إلى الأبد، ولم يُلمَح وجهُها المُغطَّى بمَساحيق التجميل مجددًا قطُّ في النُّزل، والأعجبُ ربما من هذا والذي كان سيُدهش أيًّا من قاطِني النُّزل فيما سبق، أنه لم يَسأل أيٌّ منهم، ولو عَرَضًا، عما حلَّ بها. وكان الغريب يرى أن السيدة ابنة عم السير ويليام تُعَدُّ مَكْسبًا لأيِّ نُزُل. فهي سيدةٌ تنحدرُ من إحدى عائلات الطبقة الراقية. بالطبع لم يَبْدُ عليها ظاهريًّا أيٌّ مما قد يُوحِي بانتمائها إلى عائلةٍ أرستقراطية. وهي نفسها، بطبيعة الحال، لم تكن لتَذْكر الأمر، غير أنَّ المرء يَستشعِر هذا الانتماءَ بطريقةٍ ما. كانت، بلا وعي منها، تَعكس هالةً من الرُّقِي، وتُشِيع جوًّا من دماثةِ الخُلق. وبالرغم من أن الغريب لم يَقُل لها ذلك تحديدًا، لكنَّها استشفَّتْ ذلك منه وشعرتْ بأنها تتَّفِق معه. وكان الغريب يُكنُّ للسيد لونجكورد وشريكِه احترامًا كبيرًا بوصفهما نموذجَيْن لرجالِ الأعمال كما ينبغي أن يكونوا. وقد كان لهذا الاحترام أثره السيِّئ عليهما. وممَّا يُثير العجبَ أنهما بدَوا راضيَيْن عن الثمن الذي دفعَتْه شركتُهما لأجل أن تظلَّ عند حُسْن ظنِّ الغريب، بل يُقال أيضًا إنها أصبحتْ تستهدفُ في المقام الأول اكتسابَ احترامِ أصحابِ الشرف والنزاهة، في خطوةٍ يُتوقَّع أن تُكلِّفَها ثمنًا غاليًا على المدى الطويل. لكن بالرغم من كل شيء لدينا جميعًا مبادئُ لا نُمانِعُ التضحيةَ بالمال في سبيلها. في البداية، عانى الكولونيل والسيدة ديفاين كثيرًا؛ إذ لم يَكُن سهلًا على مَن في سنِّهما تعلُّمُ طرقٍ جديدة للحياة. وهكذا أخذ كلٌّ منهما يُواسِي الآخَر خلف باب غرفتِهما المُغلَقة. صاح الكولونيل مُتذمِّرًا: «هذا هراء وجنون، أيليق بنا في هذه السن أن نَرجع إلى التغزُّل والتودُّد؟!» ردَّت زوجته: «إن وجهَ اعتراضي هو الإحساس بأني مدفوعةٌ إلى ذلك دفعًا بعض الشيء.» صاح الكولونيل مُزمجِرًا: «أحرامٌ على المرءِ وزوجتِه أن يَسْخرا قليلًا أحدهما من الآخَر، مخافةَ رأيِ ذاك المدَّعي الصفيق؛ تلك مَهزلة لا تُحتمَل؟!» ردت زوجته: «حتى في غيابه، يُخيَّل إليَّ أني أراه ينظر إليَّ بتلك العينَين المزعجتَين. حقًّا لقد أضحى يُطارِدني في كل مكان.» قال الكولونيل مُتأملًا: «لقد قابَلتُه في مكانٍ ما، أُقسِم على ذلك. ليته يُغادر ويُرِيحنا.» مئاتُ التعليقات رغبَ الكولونيل في قولها للسيدة ديفاين على مدى اليوم، ومئات الملاحظات كانت سترغب السيدة ديفاين في توجيهها للكولونيل طوال اليوم. لكن بمجرَّد أن تُتاحَ لهما فرصةُ الانفراد أحدهما بالآخَر؛ حيث لا يستطيع أحدٌ سماعهما، تكون تلك الرغباتُ قد تبدَّدت تمامًا. كان يُواسي الكولونيل نفسَه قائلًا: «النساء هنَّ النساء. لا بدَّ للرجال من احتمالهنَّ؛ فعلى الرجل ألَّا يَنْسى أبدًا أنه سيِّد مُهذَّب.» أمَّا السيدة ديفاين، فبعدما بلغتْ مرحلةً مِن اليأس التي لا ملجأَ منها سوى المزاح، فقد كانت تضحك في سرها قائلة: «أوه، حقًّا، الرجالُ جميعهم على الشاكلة نفسِها. لا فائدة من محاوَلةِ توجيههم؛ ذلك جهدٌ عبثي لا يجلبُ للمرء سوى الضِّيق والإزعاج.» يُوجد نوع خاص من الرضا، ينبع من إحساسِ المرء أنه يتحمَّل بصبرٍ بُطوليٍّ حماقاتِ الآخَرين المُستفِزة. وقد تأتَّى أخيرًا للكولونيل وزوجته التمتُّعُ بهذا الإحساس الرائع مِن الرضا عن الذات. لكن مَن انزعج جدِّيًا من إيمان الغريب الذي لا يتزحزح بالخير المُتأصِّل في طبيعةِ كلِّ مَن كان يقابله كانت الآنسةَ ديفاين الجميلة الفاترة الهمَّة. كان الغريب مُصمِّمًا على أنها شابة تَحْمل من المشاعر أنبلَها، ومن الأخلاق أسماها، وأنها جديرةٌ بمكانة بين جان دارك والبطلةِ الاسكتلندية فلورا ماكدونالد. إلا أنَّ الآنسة ديفاين، على النقيض، كانت تَعْلم جيدًا أنها مُجردُ فتاةٍ لا تملك سوى جمالها، ولا تعشق سوى تَرَفِ العيش؛ فقد كانت على أتمِّ استعدادٍ لبيع نفسها لأول شارٍ قادر على منْحِها أرقى الثياب، وإغراقها بأفخر الأطعمة، وإسكانها أفخمَ البيوت. وكان الشاري المتاحُ أمامَها حاليًّا هو وكيل مُراهَنات مُتقاعِد، كان رجلًا عجوزًا بغيضًا بعض الشيء، لكنه فاحشُ الثراء ومُغرَمٌ بها دون شك. كانت الآنسة ديفاين، بعدما عقَدَت عزمَها على قبولِ هذا الزواج، مُتلهِّفةً على ضرورة إتمام الأمر سريعًا. لذا كان رأيُ الغريب السخيف فيها لا يُثِير سخطَها فحسب، بل يبثُّ الاضطرابَ في نفسها. فمن الصعب على امرأةٍ التصرُّفُ كما لو كانت أحطُّ الغرائز هي دافِعَها الوحيد في الحياة، تحت مَرْأًى ومسمعٍ من الرجل الذي آمَن بأنها التجسيدُ الحي لكلِّ ما هو حَسَن في النساء، مهما كانت حماقته. مرات عديدة عزمَت الآنسة ديفاين على وضْعِ نهايةٍ لتلك المسألة بالقَبول الرسمي لليد الضخمة والمترهِّلة لعاشِقها الكَهْل، ومرات عديدة تدخَّلَ طيفُ عينَي الغريب المَهيبتَين الصادقتَين ليَمْنعها من إعطاءِ جوابٍ نهائي. لكن الغريب كان سيَرْحل يومًا ما. في الواقع، هو نفسه قال لها ذلك، فما هو إلا عابر سبيل. ستُصبح الأمورُ أسهلَ قطعًا عند رحيله. هكذا فكَّرت. وفي عصرِ أحدِ الأيام دلفَ الغريبُ إلى غرفةِ المعيشة بينما كانت الآنسة ديفاين تقف بجوار النافذة مُتطلِّعةً إلى الأغصان العارية للأشجار بميدان بلومزبيري سكوير. وقد تذكَّرتْ فيما بعدُ أن عصرَ يومٍ ضبابي كهذا شهِدَ مجيءَ الغريب منذ ثلاثة أشهر. كانا وحدَهما في الغرفة. أغلَقَ الغريبُ البابَ وتقدَّم نحوها بخُطواته الوثَّابة الغريبة. كان قد أحكَمَ إغلاقَ أزرارِ مِعطَفِه الطويل، وحمَلَ بين يدَيْه قبعتَه القديمة المصنوعة من اللباد وعصاه الغليظة ذات المقبض الأشبه بعكاز. قال الغريب مُوضِّحًا: «لقد جئتُ لأودِّعَكِ. إني راحلٌ اليوم.» سألته الفتاة: «ألن أراكَ مُجدَّدًا إذن؟» رد الغريب: «لا يُمكنني القول. لكن أرجو ألَّا تَنْسيني.» ردَّت الفتاة مبتسمةً: «لن أنساك. أستطيع أن أَعِدك بذلك.» وعَدَها الغريب بدوره: «وأنا لن أنساكِ أبدًا، وأتمنَّى لكِ كلَّ فرحة وبهجة؛ فرحة الحب، وبهجة الزواج السعيد.» جفلت الفتاة. ثم قالت: «الحبُّ والزواجُ قد لا يَجتمعان معًا في جميع الأحوال.» وافَقَها الغريب قائلًا: «نعم ليس في جميع الأحوال، لكن في حالتكِ أنتِ تحديدًا سيَجتمعان.» نظرت إليه. واستكملَ الغريب حديثه مُبتسمًا: «أتظنِّين أنني لم أُلاحِظْ ذلك الشابَّ الوسيمَ المهذَّب والذكي؟ إنه يُحبك وأنتِ تُحبِّينه. لم أكُن لأغادِر دون الاطمئنان على مُستقبلكِ.» شردتْ عيناها نحو الضوء الخافت. ثم ردَّت في نَزَق: «آه! نعم، أنا أُحبه بالفعل. إن عينَيْكَ قادرتان على رؤيةِ الحقيقة متى رغبتا في ذلك. لكنَّ المرءَ لا يَحْيا على الحب في عالَمنا هذا. سأُخبركَ عن الرجل الذي أَنْوي الزواجَ منه إذا كنتَ مُهتمًّا.» كانت عيناها تَتحاشى عينَيْه. وظلَّت مُثبتةً على الأشجار الداكنة والضباب خلفها، بينما تدفَّقت العِبارات مِن فمها سريعةً جارفة: «سأتزوَّج رجلًا قادرًا على مَنْحي كلَّ ما أشتهيه؛ المالَ وكلَّ ما يَقْدر المالُ على شرائه. أنت تظنُّني امرأة، لكنَّني لستُ سوى خنزيرة. إنه كائنٌ مُقزِّز ويتنفَّس مثل الخنازير البَحرية؛ لا يَعرف سوى المَكر والخداع، ولا يُعظِّم سوى شهواتِه. لكني لا أُمانِعُ كلَّ هذا.» كانت تأمُلُ أن تَصْدم كلماتُها الغريبَ دافعةً إياه للمُغادَرة. وأثار سخطَها أنْ سمعَته يَضحك ليس إلا. قال: «لا، لن تتزوَّجيه.» صاحت في غضب: «مَن سيَمْنعني؟» «رُوحُكِ النبيلة.» كان لصَوته رنينٌ آمِرٌ عجيب أجبَرَها على الالتفاتِ والنظر إلى وجهِه. عندئذٍ أدركتْ أنَّ الصورة التي كانت تَحْملها له في مُخيلتها منذ أن وقعَتْ عيناها عليه للمرة الأولى كانت صحيحة. كانت قد الْتَقَته وتحدَّثت إليه؛ في الطُّرُقات الريفية الساكنة وشوارع المدن المُزدحمة؛ لا تَدري أين على وجه التحديد. وكلما كانت تُحادثه كان يَسْمو بروحها: لقد كانت مِثلما كان دومًا يراها. أكمَلَ الغريب حديثَه (وللمرة الأولى لاحظَتِ الآنسةُ ديفاين حضورَه المهيب، وأدركَتْ أن عينَيه الوديعتَين الطفوليتَين يُمكن أن تكونا آمرتَين كذلك): «هناك أناس يُقْدِمون على ذبْحِ رُوحِهم النبيلة بأيديهم والتخلُّص للأبد ممَّا تَجْلبه مِن مَتاعِب. لكنك يا صغيرتي تَركْتِ رُوحَكِ تَبْلغ من القوة ما يُعجِزكِ عن كبتِها؛ لذا ستظلُّ لها اليد العليا دومًا عليكِ. يجب أن تُطِيعيها. وإذا حاوَلتِ الفرارَ منها فستَتْبعكِ، حتى تُدرِكي أنه لا مَهْرب منها. أما إهانتُكِ لها، فلن تَجْلب لكِ سوى شعورٍ مُحتدِم بالعار وتقريعٍ مُؤلم لا يَنتهي للنفس.» ثم تلاشَتِ الصرامةُ من وجهِ الغريب الجميل وعاوَدَتْه رِقَّتُه مجددًا. ووضع يدَه على كتفِ الفتاة الشابَّة. ثم قال: «سوف تتزوَّجين حبيبَك. ومعه ستَقْطعين دُروبَ الحياة، سهلَها ووعرَها.» تطلَّعَتِ الفتاةُ إلى وجهه القوي الهادئ، وأدركت يقنيًا أنَّ ما تلفَّظَ به واقعٌ لا محالةَ، وأنَّ مُقاوَمتها لرُوحِها النبيلة قد تلاشَت من داخلها إلى الأبد. استطرد الغريب: «والآن، فَلْتَصْحبيني إلى الباب. إنَّ لحظات الوداع ليست سوى أحزانٍ لا داعيَ لها. دَعِيني أغادرُ في هدوء. وأَغْلِقي البابَ برِفق من خلفي.» ظنَّت أنه قد يُدِير وجهَه مجددًا ناظرًا إليها، لكنها لم تَلْمح منه سوى الجزء المُستدير العجيب من ظهره البارز من تحت مِعْطَفه المُغلَق بإحكام قبل أن يتلاشى طيفُه مع تكاثُف الضباب. فأغلقَت البابَ برفق.
جيروم كيه جيروم (١٨٥٩-١٩٢٧): روائي وكاتب مسرحي كوميدي إنجليزي. من أشهر أعماله الرواية الكوميدية «ثلاثة رجال في قارب»، والتي حقَّقت ناجحًا ساحقًا، وتُرجِمت إلى العديد من اللغات. ومن أهم أعماله الأخرى «أفكار تافِهة لرجل كسول»، و«ثلاثة رجال في رحلة بالدراجات»، ورواية سيرة ذاتية بعنوان «بول كلفير».
https://www.hindawi.org/books/69263975/
مختارات من القصص القصيرة
جيروم كيه جيروم
مجموعةُ القصص القصيرة التي بين أيدينا هي جزءٌ من مجموعةٍ قصصية ألَّفها الروائي والكاتب المسرحي الإنجليزي المعروف «جيروم كيه جيروم»، وظهرَت لأول مرة في عام ١٩٠٧م. تضم المجموعة ثلاثةَ أعمال تربط بينها فكرةٌ رئيسة واحدة؛ أَلا وهي التغيُّرات التي تطرأ على حياة الشخصيات من جرَّاء تدخُّل «رجل غريب» لا يُفصِح الكاتب عن هُوِيته، بل يترك للقارئ مهمةَ تخمينها، حسب قراءته للأحداث. تحكي القصة الأولى عن غريب غامض وتَقِي يستدعي إلى الأذهان صورةَ المسيح، يُقِيم لبعض الوقت في نُزُل متهالك فيغيِّر من حَيَوات سُكانه. وتختلف القصص الثلاث في جوِّها العام وأسلوبِها عن الطابع الكوميدي المميَّز للكاتب؛ إذ تتَّخِذ الأولى طابعًا اجتماعيًّا ودينيًّا جادًّا، أمَّا القِصتان الأُخريان فيغلب عليهما الطابع الفلسفي.
https://www.hindawi.org/books/69263975/2/
مُزحة الفيلسوف
عن نفسي أنا لا أصدق هذه القصة. لدى ستَّة أشخاص قناعة بصحتها، ولديهم كذلك أمل بإقناع أنفسهم بأنها كانت مجرد هلوسة. لكن ثمَّة مُشكلة واحدة تعترض سبيلهم، وهي أنهم ستة أشخاص. وكل فرد منهم يُدرك بوضوح استحالة أن يكون ما حدث هلوسة. ولسوء الحظ، هم أصدقاء مُقربون، ولا يُمكن لبعضهم تجنُّب البعض؛ وعندما يَلتقون وينظر كلٌّ منهم في أعيُن الآخرين تتجسَّد تلك الواقعة مجددًا في أذهانهم. كان مَن حكى لي القصة، ثم تمنَّى فور انتهائه من سَردها لو لم يكن قد أفصح عنها، هو آرمتيدج. ففي إحدى الليالي، عندما كنتُ أنا وهو الجالسَين الوحيدَين في غُرفة التدخين بالنادي، أخبرني بما حدث. وقد كان سردُه لي عفو الخاطر، حسبما أوضح لي لاحقًا. كان الموقف يلح على ذهنه طوال ذلك اليوم بإصرار غريب؛ وبينما كنتُ أدخل الغرفة خطَرَ له أن عقلًا بليدًا مثل عقلي — دون أن يقصد إهانتي بتلك الكلمات طبعًا — من المؤكَّد أن ينظر إلى تلك المسألة بتشكُّك هزلي، ما قد يُساعد على توجيه انتباهه نحو الجانب غير المعقول منها. وأظنُّ أنني فعلت ما أراده. إذ شكَرني عندما رفضت تصديق القصة برمَّتها واعتبرتها وهمًا وليد عقلٍ مُشوَّش، ورجاني ألا أجيء على ذكر تلك المسألة لأيِّ كائن كان. وعدته بذلك؛ وربما يَجدُر بي هنا التنبيه على أنني لا أَعتبر القصة التي سأَشرع في سردِها الآن ذِكرًا لتلك المسألة. فاسم الرجل الحقيقي ليس آرمتيدج، بل إنَّ اسمه الحقيقي لا يبدأ حتى بحرف الألف. وقد تقرأ هذه القصة ثم تتناول العَشاء بجوار ذلك الرجل في الأمسية نفسها، ولن تعرف مُطلقًا أنه هو مَن ورَد ذكره بالقصة. وبالتأكيد لم أظنَّ أن وعدي له يَمنعني من التحدث عن المسألة، بحذر شديد، مع السيدة آرمتيدج، وهي امرأة في غاية اللطف. وقد انفجَرَت في البكاء ما إن تلفظت بأولى كلماتي حول الموضوع. ولم تهدأ إلا بعد جهد جهيد مني. ثم قالت إنها يُمكن أن تشعر بالراحة عندما تَعزف عن التفكير في هذا الأمر. وأضافت أنها هي وآرمتيدج لا يتحدَّثان عنه قطُّ فيما بينهما؛ وكانت ترى أنهما لو تُركا لحالهما، فربما تمكَّنا أخيرًا من تجاوز هذه الذكرى برمتها. تمنَّت أيضًا لو لم يكونا مُقرَّبين إلى هذه الدرجة من السيد إيفريت وزوجته. كان قد راود هذَين الزوجَين الحلم نفسه الذي حلمت به هي وزوجها؛ على افتراض أنَّ ما حدث كان حلمًا. فالسيد إيفريت ليس من نوعية الرجال الذين ربما يجدر برجل دين، مثل السيد آرمتيدج، مُصادقتهم؛ لكن آرمتيدج لا ينفكُّ يُحاجج بأنه من غير المنطقي أن يكون معلمًا للقيم المسيحية ثم يُنهي صداقته مع رجل لا لسبب سوى أنه آثمٌ نوعًا ما. بل كان يُفضِّل أن يُحافظ على صداقته ويسعى لفرض تأثيره الحسن عليه. كانا يَتناولان العشاء مع آل إيفريت بانتظام في أيام الثلاثاء، وبينما كانا يَجلسان قبالتهما بدا من المستحيل قبول حقيقة أنهم الأربعة قد وقعوا جميعًا، في الوقت نفسه وبالطريقة نفسها، فريسة لنفس الوهم. أظنُّ أنني نجحت في بث قدر من الأمل في نفسها قبل أن أغادر. فقد أقرت بأن القصة تبدو بالفعل سخيفة من منظور المنطق السليم، وهدَّدتني بأن لسانها لن يخاطب لساني مجددًا إذا نبست ببنت شفة عن تلك المسألة أمام أي شخص. إنها امرأة لطيفة حقًّا، كما ذكرت قبلًا. وتشاء الصدفة العجيبة أن أكون في هذا الوقت أحد المديرين في شركة يملكها إيفريت، والتي كان قد رشحها لتوه للاستحواذ على تجارة ساحل البحر الأحمر وتطويرها. لذا تناولت معه هو وزوجته طعام الغداء يوم الأحد التالي للقائي بالسيدة آرمتيدج. إنَّ حديثه مُمتع، وانتابني فضول لمعرفة كيف سيُبرر رجل حصيف للغاية مثله صلته بهذا الوهم المجنون، البالغ الاستحالة الذي حُكيَ لي، ما دفَعني إلى التلميح بمَعرفتي بالقصة. وفجأةً تغيَّر سلوكه هو وزوجته. وأرادا معرفة مَن أخبَرني بالأمر. لكني رفضت الإفصاح عن تلك المعلومة؛ لأنه بدا من الجليِّ أنهما كانا سيَغضبان من ذاك الشخص. كان لدى إيفريت نظرية مُفادها أن ما حدث كان حلمًا راوَدَ واحدًا منهم، كاملفورد على الأرجح، وقد أوحى إلى بقيتِهم أنهم رأوا الحلم نفسه عبر الإيحاء التنويمي. وأضاف أنه كان ليهزأ منذ البداية من الرأي القائل بأن ما حدث لم يكن حلمًا لولا حدث واحد تافه. لكنه رفض أن يخبرني ما هو. إذ إن هدفه، حسبما أوضح لي، هو مُحاولة نسيان الأمر، لا الاستغراق في التفكير فيه. ثم نصَحني، بصفته صديقًا لي، ألَّا أثرثر كثيرًا حول هذه المسألة؛ لكيلا أواجه أي مشكلات فيما يتعلق بما أتلقاه من أتعاب نظير عملي في شركته. كان إيفريت يستخدم أحيانًا أسلوبًا فظًّا في توضيح الأمور. وفي منزل آل إيفريت قابلت، فيما بعد، السيدة كاملفورد، وهي واحدة من أجمل من رأيت في حياتي من النساء. غير أنَّني ارتكبتُ يومها حماقة نابعة من ضعف ذاكراتي فيما يتعلق بالأسماء. فقد نسيت أن السيد كاملفورد وزوجته كانا الطرف الثالث فيما وقع من أحداث، وذكرت القصة زاعمًا أنها حكاية غريبة قرأتها منذ سنوات بعيدة في مجموعة قصصية قديمة. كنتُ آمل أن تكون فاتحة نقاش بيننا عن الصداقة البريئة. لكن السيدة كاملفورد هبت واقفةً ونظرت لي في غضب. عندئذٍ تذكرتُ، وتمنيتُ لو أنَّني لم أقل شيئًا مما قلته. أخذت وقتًا طويلًا كي أصالحها، وسامحَتني أخيرًا بعدما قبلت اعتبار ما قلتُه غلطة نابعة من غبائي ليس إلَّا. كانت هي مُقتنعة تمامًا، كما قالت لي، بأنَّ الأمر كله محض خيال. ولم يكن يُساوِرُها أي شك في ذلك إلا عندما تكون في صحبة باقي الأطراف. كانت ترى أنه إذا اتَّفق الجميع على تجنُّب ذكر هذا الأمر مجددًا، فسوف يتبدَّد كليًّا بنسيانهم له. افترضت السيدة كاملفورد أن زوجها هو مَن أخبرني بالأمر؛ فطالَما كان يرتكب مثل هذه الحماقات. لكن قولها ذلك لم يكن نابعًا من قسوة. إذ قالت إنه في بداية زواجهما، قبل عشر سنوات، لم يكن يضايقها أحد مثله؛ لكنها صادفت العديد من الرجال الآخرين منذ ذلك الحين، وقد جعلها ذلك تعيد النظر إليه بعين الاحترام. وأنا أحبُّ أن أسمع امرأة تُثني على زوجها. وأرى أنه أمر غير معتاد ينبغي، في رأيي، التشجيع عليه أكثر. أكدتُ لها أن كاملفورد ليس المُذنب هنا؛ وبعدما وعدتني بأن تسمحَ لي بزيارتها، لكن ليس كثيرًا، في أيام الخميس، وافقتُها على أن التصرُّف الأمثل هو صرف المسألة برمتها من ذهني والانشغال بدلًا من ذلك بالأمور التي تخصني. لم أكن قد تحدثت كثيرًا مع كاملفورد من قبل، رغم أني أراه في النادي عادةً. هو رجل غريب، يُشاع عنه الكثير من الحكايات. فهو يكسب زرقه من الكتابة في الصحف، ثم يُنفقه في نشر الشعر الذي يكتبه، فيما يبدو، للترويح عن النفس. خطر لي أن النظرية التي كوَّنها عن الحدث ستكون بلا شك مشوقة حقًّا؛ بيد أنه رفض التحدُّث عن الأمر بتاتًا في البداية، وتظاهر أنه قد صرف النظر عن المسألة كلها بوصفِها تُرهات فارغة. كدتُ أن أيأس مِن دفعه إلى الكلام حتى سألني في إحدى الأمسيات، من تلقاء نفسه، عما إذا كنتُ أظنُّ أن السيدة آرمتيدج، التي كان يعلم أن علاقة صداقة تجمعني بها، لا تزال تُعطي أهمية لتلك المسألة. وعندما عبَّرت عن رأيي بخصوص هذه المسألة، الذي كان مُفاده أن السيدة آرمتيدج هي أكثرهم انزعاجًا مما حدَث، بدا مُتضايقًا؛ وحثَّني على ترك بقيتِهم لحالهم، وأن أُكرِّس كل جهدي لمُحاولة إقناعها هي بالذات أن المسألة برمَّتها كانت محض وهم، ولا يُمكن أن تكون سوى ذلك. ثم أقرَّ صراحةً أن الأمر لا يزال لغزًا بالنِّسبة إليه. وكان مِن السهل عليه اعتباره وهمًا، لولا حدث واحد تافه. وظلَّ لفترة طويلة عازفًا عن إخباري عما كان، لكن لهذا النوع من المواقف خلقت المثابرة، وفي النهاية تمكَّنتُ من استخلاص الأمر منه. وإليكم ما حكاه لي. «شاءت الصُّدفة أن نجد أنفسنا، نحن الستة، بمُفردنا في حديقة النباتات الداخلية، في ليلة الحفل الراقص. كان أغلب الحضور قد غادَرُوا بالفِعل. وبينما كانت تَعزف الفِرقة آخر مقطوعة، كان صوت الموسيقى يَتناهى إلى أسماعنا خافتًا. انحنيت كي ألتقط مروحة جيسيكا التي كانت قد أسقطتها أرضًا عندما لفت نظري فجأة شيءٌ ما يَلمع فوق عتبة من الفسيفساء أسفل مجموعة من النخل. لم يكن أيٌّ منا قد تحدث من قبل مع الآخَرين؛ بل كان ذلك المساء أول مرة نتقابل فيها؛ إن كان ما حدث مجرَّد حلمٍ. التقطت ذلك الشيء. وتجمع الآخرون حولي، وعندما نظر كلٌّ منَّا في عين الآخر أدركنا ماهيته؛ كان كأس نبيذ مكسورة، قدحًا غريب الشكل مصنوع من الزجاج البافاري. لقد كان القدح الذي حلمنا جميعًا أننا شربنا منه.» لقد جمعت أجزاء القصة كما تراءى لي أنها قد حدثَت. وعلى أي حال، الأحداث التي سأرويها كلها حقائق. وقد تبدَّلت أحوال أبطال تلك الحكاية منذ ذلك الحين، ما يجعلني آمُل أنهم لن يقرءوها أبدًا. وما كنت لأتكبَّد عناء سردها من الأساس، لولا أنها تحوي عبرة. جلس ستة أشخاص حول الطاولة الكبيرة المصنوعة من خشب البلوط، في قاعة الطعام المكسوَّة جدرانها بألواح خشبية بذلك النُّزل المريح الذي يُدعى «كنيبر هوف» في مدينة كونيجسبيرج الألمانية. كان الوقت قد تأخر ليلًا. في الظروف العادية، ما كانوا ليظلُّوا مُستيقِظين حتى هذه الساعة، لكن بما أنهم وصلُوا في القطار الأخير القادم من دانتسك، وتناولوا عشاءً من أصناف الطعام الألماني؛ فقد بدا من الأفضل البقاء قليلًا وتبادل الحديث. كان الصمت يعمُّ المنزل على نحوٍ غريب. كان قد ترك صاحب المنزل السمين الشموع المخصَّصة للضيوف على البوفيه، وتمنى لهم «ليلة سعيدة» منذ ساعة. وهكذا حوتهم رُوح المنزل القديم بين جنباتها. إذا صُدِّقت الأقاويل، فإن هنا، في هذه الغرفة تحديدًا، طالَما جلس الفيلسوف إيمانويل كانط وتَحاوَر بنفسِه مع آخرين. وعلى الجانب الآخر من الممر الضيق، كسا ضوء القمر الفضي الجدران التي أوت الرجل الضئيل الجسد ذا الوجه الشاحب بينما كان يعمل ويُفكِّر طوال أربعين عامًا؛ في حين أطلَّت النوافذ الثلاث العالية في قاعة الطعام على بُرج الكاتدرائية القديمة الذي يَرقُد جُثمانه أسفله. كانت الفلسفة — التي تهتمُّ بالظواهر البشرية، وتتُوق للتجربة، ولا تخضع للقيود التي يَفرضُها العرف على كافة أشكال التفكير — تحُوم في هواء الغرفة المشبع بالدخان. كان القس ناثانيال آرمتيدج يتحدَّث قائلًا: «لا ليس الأحداث المستقبلية، فمِن الأفضل أن تظل خافية عنا. لكن أرى أنه يَنبغي أن يُسمَح لنا بالاطلاع على مُستقبَل ذواتنا، أي طبعنا وشخصيتنا. ففي سنِّ العِشرين يكون المرء على شاكلة ما؛ وفي الأربعين، يُصبح على شاكلة أخرى كُليةً، فتصير لديه آراء مُختلِفة، واهتمامات مُغايرة، ونظرة أخرى للحياة؛ تجذبُه سمات مختلفة تمامًا عما اعتاد، ويَنفر من الصفات نفسها التي رآها يومًا ما جذَّابة. إنه أمرٌ مُربك حقًّا، لجميع البشر.» ردَّت السيدة إيفريت، بصوتها الحاني المُتفهِّم: «يُسعدني سماع شخصٍ آخر يتحدَّث عن هذا الأمر. لطالَما فكَّرت فيه كثيرًا. في بعض الأحيان كنتُ ألوم نفسي، لكن كيف يسع المرء تجنُّب ذاك المصير؛ الأشياء التي بدَت لنا مُهمَّة، أضحت بلا أهمية؛ واهتمامات جديدة استحوذَت على عقولنا؛ والأبطال الذين نظَرنا إليهم بعين التقديس نراهم اليوم وقد هوَوا من فوق عروشهم.» ضحك السيد إيفريت المرِح قائلًا: «إذا كنتِ تَعتبرينني واحدًا من هؤلاء الأبطال الهاوين، فلا تتردَّدي في قول هذا.» كان رجلًا ضخمًا أحمر الوجه، ذا عينَين صغيرتَين لامعتَين، وفم قوي وجذَّاب. ثم تابع: «فأنا لم أُخلق إنسانًا عاديًّا بإرادتي. ولم أَطلُب من أحد قطُّ اعتباري قديسًا من المرسومين على زجاج النوافذ الملوَّن. لست أنا مَن تغير.» ردَّت زوجته النحيلة بابتسامة خانعة: «أعلم يا عزيزي، أنا مَن تغيَّرت. كنت جميلة بلا شك عندما تزوجتني.» وافقها زوجها قائلًا: «كنت جميلة بالفعل يا عزيزتي. قليل مَن كان يُضاهيك جمالًا في شبابك.» تابعت زوجته: «كانت تلك هي الصفة الوحيدة التي أعجبتك فيَّ، جمالي، ولقد تبدَّدت سريعًا. أشعر أحيانًا وكأنَّني خدعتك.» علَّق القس ناثانيال آرمتيدج: «لكن هناك أيضًا جمال العقل، جمال الروح، الذي يعتبره بعض الرجال أكثر جاذبية من الجَمال الجسدي.» تألقت العينان الحانيتان للسيدة، التي ذوي جمالها، بوميضٍ لحظي مِن السرور. ثم تنهَّدت قائلة: «أخشى أن ديك ليس من هذه النوعية من الرجال.» رد الزوج بنَبرة ودودة: «حسنًا، كما قلت لتوي، أنا لم أَخلق نفسي. لطالما كنتُ عبدًا للجمال وسأظل كذلك على الدوام. لا أرى معنًى في التظاهُر أمام الأصدقاء بأنكِ لم تَفقِدي جمالك، أيتها الفتاة العجوز.» ثم وضع يده القوية على كتفها الهزيل في تعاطف. وأضاف: «لكن لا داعيَ لأن تُزعجي نفسك بهذا الأمر كما لو كنتِ ارتكبتِ تلك الفعلة عن عمد. لا أحد يَعتقِد أن المرأة تزداد جمالًا عندما تتقدم في العمر سوى عاشق.» قالت زوجته: «لكن بعض النساء يَزددن جمالًا مع السن، على ما يبدو.» وتحوَّلت عيناها لا إراديًّا إلى حيث تجلس السيدة كاملفورد التي أراحَت مرفقَيها على الطاولة؛ وتبعتها عينا زوجها الصغيرتَان اللامعتَان إلى الاتجاه نفسه، لا إراديًّا أيضًا. ثمة نوع من النساء يبلغ ذروة جماله في مُنتصَف العمر. في سن العشرين، كانت السيدة كاملفورد، أو جيسيكا ديروود كما كانت تُدعى قبل زواجها، فتاة غريبة الشكل، تخلو من أيِّ ملمح جذاب حسب الذوق الذكوري العام سوى عينيها الكبيرتَين، وحتى عيناها كانتا مُخيفتَين أكثر من كونهما ساحرتَين. أما في سن الأربعين، فهي ربما تَصلُح نموذجًا لتمثال بالحجم الحقيقي للإلهة جونو. غمغم السيد إيفريت، بصوت لا يُسمَع تقريبًا: «أجل، الزمن، إنه ذلك المهرِّج القديم الماكر.» كانت السيدة آرمتيدج تلفُّ لنفسها سيجارة بأصابعها الرشيقة عندما علقت بقولها: «ما كان يجب أن يحدث هو أن يتزوَّج ناثانيال من نيلي.» تحول وجه السيدة إيفريت الشاحب إلى اللون القُرمزي. في حين صاح ناثانيال آرمتيدج مصدومًا وقد احمرَّ وجهُه كذلك: «ماذا تقولين يا عزيزتي؟!» ردَّت زوجته بغضب طفولي: «أوه، ألا يُمكن أن ينطق المرء بالحق بين حين وآخر؟ أنا وأنت لا يصلح أحدنا للآخر بتاتًا؛ الجميع يرى ذلك. عندما كنتُ في التاسعة عشرة من عمري، ظننتُ أن الزواج من قسٍّ أمر رائع ومقدَّس، وتخيَّلت نفسي أحارب الشر بجانبه. هذا فضلًا عن أنك قد تغيَّرت منذ ذلك الحين. في تلك الأيام، كنتَ بشرًا يا عزيزي ناث، وكنتَ أفضل من عرفتهم في الرقص. لو كنت أعرف نفسي حينها، لكنتُ أدركت أن مهارتك في الرقص هي على الأرجح السبب الرئيسي وراء انجذابي إليك. لكن كيف يتأتَّى للمرء معرفة ذاته في سن التاسعة عشرة؟» علق القس آرمتيدج مُذكرًا إياها: «كنا نحبُّ بعضنا.» ردَّت السيدة آرمتيدج: «أعرف أننا كنا نحبُّ بعضنا، بشدَّة حينها، لكننا لم نعد كذلك الآن.» ثم ضحكت ضحكة قصيرة يشوبُها قدر من المرارة. وأضافت: «مسكين ناث! أنا لست سوى ابتلاء آخر يضاف إلى فيضِ ما تعرضتَ له من ابتلاءات. فالمُعتقَدات التي تُؤمن بها والمثُل العليا التي تُجلُّها تبدو لي بلا معنًى؛ مجرَّد عقائد جامدة ضيقة الأفق، فِكر خانق. نيلي كانت هي الزوجة التي ارتضتها لك الطبيعة حالَما تبدَّد جمالها وتبدَّدت معه جميع أفكارها الدنيوية. كان القدر يُهيئها لك، ليتنا عرفنا. أما أنا، فكان سيُناسبني أن أكون زوجة فنان، أو شاعر.» ودون وعي منها، ألقَت عيناها القلقتان دومًا نظرةً خاطفة على حيث جلس هوراشيو كاملفورد، الذي كان ينفث في هواء الغرفة سحابات من الدخان، مُنبعثة من غليون مرشومي أسود ضخم. ثم استطرَدت: «أنا أنتمي إلى العالم البوهيمي. وما كنتُ لألقاه هناك من فقر ومعاناة كانا ليَصيرا مصدر سعادتي. وتنفُّس الهواء المنعش في ذلك العالم، كان ليجعل الحياة تَستحق أن تُعاش.» أرجع هوراشيو كاملفورد ظهره إلى الوراء بينما تركزت عيناه على سقف الغُرفة المصنوع من خشب البلوط. ثم قال: «يُخطئ الفنان عندما يتزوج.» ضحكت السيدة كاملفورد الجميلة بروح مَرِحة. وعلقت: «الفنان، حسبما رأيته منه، ما كان ليعرف الطريقة الصحيحة لارتداء قميصه لو لم تكن زوجتُه موجودة لتُخرج القميص من الدرج وتُساعده في ارتدائه.» رد زوجها: «إنَّ ارتداء الفنان لقميصه بالمقلوب لم يكن ليُحدث فارقًا كبيرًا في العالم. لكن العالم سيتأثَّر إذا ضحَّى بفنِّه في سبيل إعالة زوجته وأسرته.» قال ديك إيفريت بصوته المبتهج: «حسنًا، على أيِّ حال، لا يبدو أنك ضحيت بالكثير يا صديقي.» ثمَّ أضاف: «فالعالم كله يُردِّد اسمك.» رد الشاعر قائلًا: «أبلُغ من العمر واحدًا وأربعين عامًا، وقد انقضَت أفضل سنوات عمري.» ثم أردف: «كرجل، أنا لستُ نادمًا على شيء في حياتي. لقد حظيت بزوجة من أفضل ما يكون، ولديَّ أطفال رائعون. وقد عشت الحياة الهادئة للمُواطن الناجح. لكن لو كنت قد استمعت إلى ما تُمليه عليه ذاتي الحقيقية، لكان ينبغي عليَّ الارتحال إلى البرية؛ فهي الوطن الوحيد للمُعلم، أو النبي. جدير بالفنان أن يتزوَّج فنه. أما الزواج مِن امرأة فهو فعل لا أخلاقي بالنِّسبة إليه. إذا عاد بي الزمن، كنتُ سأظلُّ عَزَبًا.» ضحكت السيدة كاملفورد قائلة: «إنه انتقام الزمن، كما ترى.» ثم أردفَت: «عندما كان ذاك الرجل شابًّا في العشرين من عمره هدَّد بأنه سيَنتحِر إذا لم أُوافق على الزواج منه، وقد وافقتُ حينها رغم أنه لم يكن يُعجبني بتاتًا. والآن بعد انقضاء عشرين عامًا، وما إن بدأت في الاعتياد عليه، يُغير كلامه في هدوء ويقول إن حاله كانت ستُصبح أفضل بدوني.» تدخَّلت السيدة آرمتيدج مُعلقةً: «لقد سمعت بعض أجزاء من تلك الحكاية وقتها.» ثم تابعَت مُوجِّهة حديثها إلى السيدة كاملفورد: «كنتِ واقعة في غرام شخص آخر حينها، أليس كذلك؟» ضحكت السيدة كاملفورد قائلةً: «ألا تَعتقدُون أن هذه المُحادَثة تنساق نحو مسار خطر بعض الشيء؟» وافقتْها السيدة إيفريت معلقةً: «ذلك نفسه ما كنت أفكر فيه. أتصوَّر أن قُوًى غريبة قد استحوذَت علينا، ودفعتنا إلى التصريح بأفكارنا بصوت عالٍ.» قال القس ناثانيال مُقرًّا: «أخشى أنَّ الذنب في ذلك يقع عليَّ.» ثم تابع قائلًا: «لقد أضحى جو هذه الغرفة خانقًا. ألا يُستحسَن أن نأوي إلى أسرَّتنا؟» أصدر المصباح العتيق المُتدلي من عارضة تُلطخها آثار الدخان صوت قرقرة خافتة أشبه بنشيج، ثم انطفأ. وزحف ظل برج الكاتدرائية القديمة ممُتدًّا عبر الغُرفة التي لم يعد يُضيئها سوى ضوء القمر المنسلِّ بين الحين والآخر من وراء السُّحب. وعند الطرف الآخر من الطاولة كان يجلس رجل ضئيل الجسم، ذو وجه شاحب، وذقن حليق، مُرتديًا شَعرًا مُستعارًا ينسدل حتى كتفَيه. قال الرجل الضئيل: «عذرًا.» كان يتحدَّث إنجليزية تشوبها لكنة ثقيلة. ثم أضاف: «يبدو لي أننا في موقف يشتمل على طرفين في وسع كلٍّ منهما تقديم العون للآخر.» تبادل الأصدقاء الستة، المُجتمعُون حول الطاولة، النظرات، لكن لم يَنطِق أحدهم بكلمة. كانت الفكرة التي خطَرت ببال كلٍّ منهم، كما أوضحَ بعضهم لبعضٍ لاحقًا، أنهم قد حملوا الشموع التي تركها لهم صاحب النُّزُل وصعدوا إلى غُرَفهم حيث خلدوا إلى النوم، دون أن يتذكَّروا قيامهم بذلك. وكان ما يرونه الآن هو حلم بكل تأكيد. واصل الرجل الضئيل الشاحب الوجه حديثه قائلًا: «إذا سمحتم لي بإعادتِكم عِشرين سنة إلى الوراء، فسوف يُساعدني ذلك كثيرًا في التجارب التي أُجريها حول الظواهر المُرتبطة بالميول البشرية.» لم يردَّ أيٌّ منهم. وبدا لهم أن هذا السيد العجوز الضئيل الجسد لا بدَّ أنه كان جالسًا بينهم طيلة الوقت، دون أن يُلاحظوا وجوده. تابع الرجل الضئيل ذو الوجه الشاحب: «حسب حديثكم هذه الليلة، يُفترَض أن تُرحِّبوا بعرضي. جميعكم تَبدُون لي في غاية الذكاء. وتُدركون ما ارتكبتُمُوه مِن أخطاء؛ وتتفهَّمون الأسباب التي دفعَتْكم إلى ارتكابها. لم يكن في وسعكم تجنُّبها؛ لأنكم لم يكن بوُسعِكم الاطلاع على المُستقبل. ما أقترحه عليكم هو إعادتكم عشرين سنة إلى الوراء. ستَرجعُون فتيانًا وفتيات من جديد، ولن يَختلِف شيءٌ سوى أمرٍ واحد فقط: سوف تَحتفظون بما عرفتُمُوه عن المُستقبل، عما حدَث لكم تحديدًا.» ثم أردَف مُشجِّعًا: «هيا، لا تتردَّدوا، إنه أمرٌ بسيط حقًّا. فمثلَما أثبتُّ … أقصد مثلَما أثبتَ أحد الفلاسفة بوضوح، العالم ليس سوى نتاج تصوُّراتنا. وعبر وسيلة قد تبدو لكم سحرًا — رغم أنها مجرَّد عملية كيميائية — سوف أمحو مِن أَذهانكم أحداث العشرين عامًا الماضية كلها، باستثناء الأحداث التي تمسُّ شخصياتكم فحسب. سوف تَحتفظُون بالمعرفة التي تخص التغيرات الجسمانية والعَقلية التي يُخبئها لكم المستقبل، ما عدا ذلك سوف يَنمحي من أذهانكم.» أخرج الرجل العجوز الضئيل قارورة صغيرة من جيب صدريته، ثم ملأ كأس نبيذٍ كبيرة من دورق النبيذ، وأضاف إليه نحو ستِّ قطرات من القارورة. ووضع الكأس بعد ذلك في منتصف الطاولة. وتابع الرجل الضئيل الشاحب الوجه حديثه مُبتسمًا: «الشباب مرحلة تحلو العودة إليها. قبل عشرين عامًا من الآن، كانت ليلة الحفل الراقص؛ احتفالًا بموسم الصيد. أتتذكرونها؟» كان إيفريت أول من شرب من الكأس. وقد شرب منه وعيناه الصغيرتان المُتألِّقتان شاخصتان في توق نحو وجه السيدة كاملفورد الجميل والنبيل؛ ثم ناول الكأس إلى زوجته. وكانت هي على الأرجح مَن شرب بأكبر قدر مِن اللهفة. فحياتها مع إيفريت — منذ لحظة أن قامت مِن سرير المرض، بعدما سلَبَها الداء جمالها كله — كانت مريرة. شربَت ويحدوها أمل مجنون ألا يكون ما يحدث حلمًا؛ وبابتهاج نابع مِن لمسة يد الرجل الذي أحبَّته ناولت الكأس إلى آرمتيدج الذي مدَّ يده عبر الطاولة ليأخذها من يدها. كانت السيدة آرمتيدج هي رابع الشاربين. فبعدما تناولت الكأس من زوجها، شربت بابتسامة هادئة، ثم ناولتها إلى كاملفورد. وشرب كاملفورد دون أن يَنظر إلى أحد، ثم وضع الكأس على الطاولة. قال الرجل العجوز الضئيل مُخاطبًا السيدة كاملفورد: «هيا، لم يتبقَّ سواكِ. لن تَكتمل التجربة دون مشاركتك.» ردت السيدة كاملفورد، وعيناها تنشدان عينيَ زوجها، الذي عزف عن النظر إليها: «ليست لديَّ رغبة في الشرب.» ألحَّ الرجل الضئيل مجددًا: «هيا.» وحينئذٍ نظر لها كاملفورد، وضحكَ ضحكةً خاوية. ثم قال: «يُستحسَن أن تَشربي.» وأضاف: «فهذا كله مجرَّد حلم.» أجابته قائلة: «كما تريد.» وتناولت الكأس من يدَيه. ما سأَحكيه لكم الآن استقيت مُعظمه ممَّا حكاه لي آرمتيدج تلك الليلة في غرفة التدخين بالنادي. لقد بدا له أن جميع الأشياء في غرفة الطعام بالنُّزل بدأت تَرتفع ببطء، في حين ظلَّ هو ثابتًا، بيد أنه كان يُعاني من ألم شديد كما لو أن أحشاءه تتمزق؛ وقد شبَّه ذلك الإحساس بما يشعر به المرء أثناء الهبوط في المصعد لكن أشد ألف مرة. وطوال الوقت كان الصمت والظلام يُحاوطانه. وبعد فترة من الزمن، ربما كانت دقائق، وربما كانت سنوات، دنا منه ضوء خافت. ثم اشتد الضوء، وعبر نسمات الهواء التي هبَّت على وجهه تَناهى إلى مسامعه صوت موسيقى آتٍ من بعيد. علا الضوء والموسيقى معًا، وشيئًا فشيئًا، استعاد وعيه. كان جالسًا على مقعد مُبطَّن مُنخفِض تحت مجموعة من النخل. وبجواره كانت تجلس فتاة شابة، لكن وجهها كان مُحولًا عنه. وسمع نفسه يقول: «لم أنتبِه إلى اسمك.» ثم أضاف: «هل تمانعين في إخباري به؟» أدارت الفتاة وجهَها نحوه. كان وجهًا ذا جمال رُوحاني لم يرَ مثيله أبدًا. وضحكت قائلة: «يبدو أني واقعة في وَرطة مُماثلة.» ثم أضافت: «يُستحسَن أن تكتب اسمك على النسخة الخاصة بي من برنامج الحفل، وسوف أكتب اسمي على نُسختك.» وهكذا كتب كلٌّ منهما اسمه على نسخة البرنامج التي تخص الآخر، ثم استعاد كل منهما نسخته. كان الاسم الذي كتبتْه هو أليس بلاتشلي. لم يكن قد رآها قبلًا قط؛ كان بإمكانه أن يتذكَّر هذا. رغم ذلك، كان ثمة جزء قصيٌّ من عقلِه كان مُصرًّا أنه يَعرفها. لقد التقيا في مكانٍ ما منذ زمن بعيد، وتحدَّثا معًا. وشيئًا فشيئًا، مثلَما يتذكَّر المرء حلمًا، عادَت إليه ذكرى ما حدث. في حياة أخرى، تبدو له الآن ضبابية ومُبهَمة، كان قد تزوَّج هذه المرأة. وفي السنوات القليلة الأولى من زواجها، كان كلٌّ منهما يُحبُّ الآخر؛ ثم تباعَدا وازدادت الفجوة بينهما اتساعًا. كانت أصوات قوية صارِمة قد دعَته لأن يَهجُر أحلامه الأنانية، وطموحاته الصبيانية، وأن يَحمل على عاتقه مسئولية واجبٍ عظيم. كان يَحتاج وقتها، أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، إلى مَن يُقدِّم له يد العون وينظر إليه بعين العطف، لكن زوجته تخلَّت عنه. فمُثُله العليا لم تسبب لها سوى الضيق. وقد تمكَّن مِن مقاومة مُحاولاتها لإبعاده عن مساره، لكن ثمن ذلك كان تراكم مشاعر الغضب والاستياء بينَهما يومًا بعد يوم. ثم تجلَّى عبر حلمِه الضبابي وجه آخر، وجه يكسوه تعبير من التفهم لامرأة ذات عينَين حانيتَين؛ وجه المرأة التي كانت ستَجيء له يومًا في المُستقبل بيدَين مُمددتَين سوف يتُوق إلى احتوائهما بين يدَيه. سمع صوت الفتاة التي بجوارِه يقول: «هلا رقَصنا؟» ثم أضاف: «لا أرغب في أن تفوتَني رقصة الفالس.» سارَعا إلى قاعة الرقص. والتفَّ ذراعُه حول خصرها، وبينما كانت عيناها الرائعتان الخجلتان تسعيان، في لحظات نادِرة، إلى مُلاقاة عينَيه، ثم تتوارَى مجددًا خلف رموشها المُرسلة، شعر آرمتيدج الشاب بعقله يغيب وبروحه نفسها تنفلت من عقالها. أثنت الفتاة على رقصه بأسلوبها الساحر، الذي يجمع بين الحياء والاستعلاء في مزيج محبب. فقالت له: «أنت بارع بشدة في الرقص.» ثم تابعت: «يُمكنك أن تطلب مني الرقص مجددًا، في وقت لاحق.» دوَّتْ في عقله كلمات سمعها في ذلك المستقبل الضبابي الذي يُطارد مخيلته. «لو كنت أعرف نفسي حينها، لكنتُ أدركت أن مهارتك في الرقص هي على الأرجح السبب الرئيسي وراء انجذابي إليك.» طوال تلك الأمسية، وطوال الأشهر العديدة التي تلتها كان الحاضر والمستقبل يَتصارعان بداخله. ومثلما عانى ناثانيال آرمتيدج، طالب اللاهوت، عانت أليس بلاتشلي، التي وقعَت في حبِّه من أول نظرة، بعدما أدركت أنه أروع راقص جالت معه قاعة الرقص على أنغام موسيقى الفالس المُثيرة للحواس؛ وعانى هوراشيو كاملفورد، الصحفي والشاعر المغمور، الذي كان عملُه بالصحافة يُكسبه دخلًا يَكفيه بالكاد، لكن شِعرَه كان محطَّ إعجاب النقاد؛ وكذلك عانت جيسيكا ديروود، ذات العينين الباهرتَين، والبشرة الباهتة، التي كانت غارقة حتى أذنَيها وبلا أمل في غرام ديك إيفريت الوسيم، ذي الجسد المفتول واللحية الحمراء، والذي كان رد فعله الوحيد عندما عرف بحبها أن ضحك منها، بطريقتِه الودودة والمتعالية في آنٍ واحد، وأخبرها بصراحة قاسية أن امرأة بلا جمال لا دور لها في الحياة؛ ونال ديك إيفريت أيضًا نصيبه من المعاناة، ذلك الشاب الداهية، الذي لم يَذُق طعم الهزيمة قط، والذي نجح في ترك بصمتِه في الحي التجاري بلندن وهو لم يَتجاوَز الخامسة والعشرين من عمره، ذلك الشاب الذكي، البارِد الأعصاب كالثعالب، باستثناء عندما يَلمح وجه امرأة مليحة، أو يدًا أو كاحلًا حسَن الشكل؛ وعانَت نيلي فانشو، التي كانت وقتها في أوج جمالها الفتَّان، ومَوضع حسد النساء الأخريات وتودُّد جميع الرجال، والتي لم تحبَّ أحدًا سوى نفسها، ولم تُقدِّس شيئًا في حياتها سوى المجوهرات والفساتين الفاخرة والموائد العامرة. في تلك الأمسية، أمسية الحفل الراقص، تشبَّث كلٌّ منهم بأمل أن تكون تلك الذكرى المستقبلية ليست سوى حلم. كانوا قد تعرَّف بعضهم على بعضٍ، وسمع كلٌّ منهم أسماء الآخرين لأول مرة بجفلة نابعة من المعرفة، وتجنَّبوا النظر في أعين بعضِهم، وسارعوا بالانخراط في حديثٍ بلا معنًى، حتى اللحظة التي انحنى فيها كاملفورد الشاب كي يَلتقِط مروحة جيسيكا، ووجَد بقايا تلك الكأس المكسورة المصنوعة من الزجاج البافاري. وعندئذٍ تحوَّلت تلك الذكرى إلى قناعة لا يُمكن التخلص منها، وأصبحت تلك المعرفة التي اكتسبوها عن المستقبل حقيقة لا بدَّ مِن تقبُّلها، مع الأسف. الأمر الذي لم يتوقَّعوه كان أن معرفة المستقبل لم تُؤثِّر إطلاقًا على مشاعرهم في الحاضر. فيومًا بعد يوم، كان ناثانيال آرمتيدج يَزداد عشقًا لأليس بلاتشلي الساحرة. وكانت فكرة زواجها من غيره، لا سيما كاملفورد، ذلك المُتعجرِف، ذو الشَّعر الطويل، تجعل الدم يَغلي في عُروقه؛ هذا فضلًا عن أن أليس الرقيقة قد اعترَفَت له، وذراعاها تُحيطان بعنقِه، أن حياتها بدونه ستكون شقاءً يتعذَّر احتماله، وأن فكرة زواجه من امرأة أخرى، نيلي فانشو تحديدًا، تبدو لها ضربًا من الجنون. ربما كان التصرف السليم، بعدما عرَفا ما يَنتظرهما، أن يُودِّع كلٌّ منهما الآخر. فهي كانت ستَجلب التعاسة إلى حياته. ربما كان من الأفضل أن يُبعدها عنه، وأن يتركها تموت مفطورةً الفؤاد، فذلك مصيرها المحتوم. لكن كيف يستطيع هو، العاشق المتيم، أن يَجعلها تُعاني هكذا؟ كان ينبغي عليه الزواج من نيلي فانشو بطبيعة الحال، لكنه كان لا يُطيق تلك الفتاة. ألا يُعدُّ الزواج من فتاة يَكرهها بشدة لأنها قد تُصبح بعد عشرين عامًا أكثر ملاءمة له بدَلًا من الزواج من المرأة التي يُحبُّها وتُحبُّه الآن أمرًا في قمة العبث؟ أما نيلي فانشو، فلم تَستطِع مُناقشة اقتراح الزواج من قسٍّ تكرهُه فعليًّا، ولا يتجاوَز دخلُه مائة وخمسين جنيهًا سنويًّا، دون أن تَضحك. كان سيأتي زمن لا تعبأ فيه بالثروة، ولن تَكترِث روحها السامية حينها إلا بالرضا النابع من التضحية بالذات. لكن ذاك الزمن لم يكن قد حلَّ بعد. والمشاعر التي كان سوف يَجلبها معه لم يُمكنها حتى تخيُّلها، في وضعها الحالي. إن كيانها كله كان يشتهي كنوز الحياة الدنيا، وتلك الكنوز كانت في مُتناول يدَيها. أيُعقَل أن يُطلب منها التخلي عن ذلك كله لأنها لن تَكترِث به لاحقًا؛ الأمر أشبه بأن تنصح تلميذًا بالمدرسة ألا يَذهب إلى متجر الحلوى؛ لأنه عندما يَكبُر ويَصير رجلًا سوف يَتقزَّز من فكرة الحلوى التي تَلتصِق بالأسنان؟! إذا قُدِّر لقُدرتها على الاستمتاع أن تكون قصيرة الأجل، فذلك سببٌ أدعى كي تُسارع باقتناص مسرات الحياة. وكانت أليس بلاتشلي، عندما لم يكن حبيبها بجانبِها، لا تنفكُّ تُرهق ذهنها مُمعنة التفكير في المسألة منطقيًّا. ألم يكن من الحماقة أن تتسرَّع بالزواج مِن ناث العزيز؟ في سنِّ الأربعين كانت سوف تتمنَّى لو كانت قد تزوَّجت شخصًا آخر. لكن معظم النساء في سن الأربعين يتمنَّين لو كنَّ قد تزوَّجن من شخص آخر، وقد توصَّلَت إلى هذا الاستنتاج من المحادثات التي كانت تسمعها فيما حولها. إذا أنصتت كل فتاة في العشرين من عمرها إلى ما سوف تقوله عندما تبلغ الأربعين، فلن تتزوَّج أي فتاة. ففي سنِّ الأربعين، ستكون امرأة مختلفةً كليًّا. وتلك المرأة الأخرى الكبيرة في السن لم تُثِر اهتمامها. ولم يبدُ لها من الصواب أن يُطلَب من فتاة شابَّة أن تُفسد حياتها لا لسبب إلا لإرضاء نفسها عندما تكون في مُنتصَف العمر. وعلاوة على ذلك، من كانت ستتزوَّج غيره؟ كاملفورد ما كان ليَقبل بها أبدًا؛ فهو لم يرغب فيها حينها؛ وما كان ليرغب فيها في سن الأربعين. لأسباب عمَلية، كان كاملفورد خيارًا مُستحيلًا. قد تتزوَّج شخصًا آخر كليًّا، وتُعاني من مصير أسوأ. وقد تصير عانسًا؛ كانت تكره الكلمة نفسها. إنْ حالَفَها الحظ، قد تُصبح صحفية ذات أصابع ملطَّخة بالحبر؛ وهي لم يكن يُعجبها ذاك المصير. أيكون زواجها مِن ناث العزيز فعلًا أنانيًّا؟ أيَنبغي أن ترفض الزواج منه حفاظًا على مصلحته؟ إنَّ نيلي، تلك القطة الصغيرة، التي سوف تُناسبه في سن الأربعين، ما كانت لترضى به الآن. وإذا كان سيتزوَّج امرأة أخرى غير نيلي، فليتزوَّجها هي إذن. لا يُمكن أن يُصبح قسًّا عَزَبًا؛ فكلمة عَزَب نفسها تكاد تبدو وصفًا غير مُلائم لقس. هذا فضلًا عن أن ناث الحبيب ليس من النوع الذي يظلُّ عَزَبًا. إذا أبعدته عنها لكانت ستَدفع به إلى أحضان فتاةٍ لَعُوب ماكرة. ماذا بوُسعِها أن تفعل؟ في سن الأربعين، وتحت تأثير ثناء النقاد على شعره، كان سيُقنع كاملفورد نفسه بأنه نبيٌّ مُرسَل، وأن حياته كلها يَنبغي أن تُكرس لإنقاذ البشرية. بيد أنه، في سنِّ العشرين، كان يشعر بالرغبة في عيش حياته. وكانت جيسيكا، تلك الفتاة غريبة المظهر ذات العينين الخلابتَين بما تُخفيانه من أسرار، تهمه أكثر مِن باقي أفراد الجنس البشري مُجتمعين. إن معرفة المستقبل، في حالته، لم تُفضِ إلى شيء سوى تأجيج شهوته. فالبشَرة الباهتة سوف يَكسُوها اللونان الأبيض والوردي، والذراعان والساقان النحيفتان سوف تُضحِيان مُمتلئتَين ومتناسقتَين، والعينان اللتان يلمح فيهما الآن نظرة ازدراء سوف تشعان يومًا ما ببريق الحب عند رؤيته. لقد كان يأمُل في حدوث ذاك التحوُّل؛ والآن أضحى متيقنًا من حدوثه. في سنِّ الأربعين، يكون الفنان أقوى من الإنسان؛ لكن في سنِّ العشرين يكون الإنسان أقوى من الفنان. «فتاة غريبة المظهر»، هكذا كان أغلب الناس سيَصِفون جيسيكا ديروود. وقليلون من كانوا سيتخيَّلون أنها ستَصير السيدة كاملفورد اللطيفة الهادئة البال عند بلوغها منتصف العمر. فشهواتها الجسدية التي تأجَّجت في سن العشرين استُنفدت طاقاتها في سن الثلاثين. في سن الثامنة عشرة، كانت جيسيكا غارقة بجنون في حبِّ ديك إيفريت ذي اللحية الحمراء والصوت العميق، حتى إنها كانت لتُلقي بنفسها مسرورةً تحت قدمَيه إذا أشار إليها بطرف إصبعه، وذلك كله على الرغم من المعرفة التي تُحذِّرها مسبقًا من الحياة البائسة التي كانت تَنتظرُها حتمًا معه، على الأقل حتى يَنضج جمالها على المهل بما يجعلُه رهن إشارتها؛ وحينئذٍ ستكون قد أضحت تزدريه. لكن نفسها حدَّثتها بأنَّ الحظ الحسن حليفها؛ إذ لا داعيَ لأن تخشى تغيرًا في موقف ديك، على الرغم من معرفة كلٍّ منهما بالمستقبل. فجمال نيلي فانشو كأنَّما قد أسرَه بسلاسل من حديد، ونيلي ما كانت لتدَع هذ الصيد الثمين يُفلت من يدَيها. وصحيح أن الرجل الذي يهواها يُثير ضيقها أكثر من أي رجل آخر، لكنه على الأقل سيؤمِّن لها ملاذًا يَقيها العوز. إذ كانت جيسيكا فتاة يتيمة، ربَّاها قريب بعيد لها. ولم تكن من الأطفال الذين يَجتذبون محبَّة الآخرين. بل كانت ذات طابع صامت جدِّي، ترى كل فعلٍ فظٍّ طائش إهانة لها أو خطيئة في حقِّها. وبدا لها أن قبول كاملفورد الشاب هو المهرَب الوحيد من حياة أصبحت تراها ابتلاءً. وفي سنِّ الواحدة والأربعين كان سيتمنَّى كاملفورد لو ظل عَزَبًا؛ لكنها كانت ستكون وقتها في الثامنة والثلاثين ولن يُضايقها ذلك. بل ستكون هي نفسها على يقين أن وضعه الآن أفضل كثيرًا. ففي غضون تلك السنوات، كان سيكون قد تولَّد بداخلها إعجاب ناحيته واحترام له. سيكون مشهورًا، وسوف تَفتخِر به. كانت دموعها تَنهمِر رغمًا عنها فوق وسادتها شوقًا لديك الوسيم، لكن خفَّف مِن حزنها فكرة أن نيلي فانشو كانت، بطريقة ما، تحرُسها، وتحميها من رغباتها. أما ديك فكان يُحدِّث نفسه عشر مرات يوميًّا بأنه كان يَنبغي عليه الزواج من جيسيكا. ففي سن الثامنة والثلاثين، كان سيراها نموذجًا للكمال. بيد أنه كان يقشعر عند النظر إليها الآن وهي في الثامنة عشرة. في سن الثلاثين، كانت ستَفقِد نيلي جمالها وسيَفقِد هو اهتمامه بها. لكن متى نجح التفكير في المستقبل في كبح جماح الهوى؛ هل توقَّف عاشق أبدًا لحظة ليُفكِّر فيما يحمله الغد؟ إذا كان جمال نيلي سريع الزوال، ألا يُعدُّ ذلك سببًا أدعى لاقتناصِه بينما لا يزال مُتوهجًا؟ في سن الأربعين، كانت ستُصبح نيلي فانشو قديسة. غير أن هذا المستقبل المُحتمَل لم يُسعدها؛ فهي تكره القدِّيسين والقديسات. وكانت ستُحبُّ حينئذٍ ناثانيال، الرصين المُمل؛ ما جدوى تلك المعرفة لها الآن؟ إنَّ ناثانيال لم يكن يَرغب فيها؛ فقد كان يحبُّ أليس وكانت هي تُبادله الحب. بأي منطق يجلب الثلاثة التعاسة لأنفسهم في شبابهم لربما يَشعُرون بالرضا في كُهولتهم؟ فليَعتنِ الكهول بأنفسهم وليدَعُوا الشباب لفطرتهم. فليُعانِ القدِّيسون الكهول، فالمعاناة هي اختصاصهم على أي حال، وليتركوا الشباب يشربوا من كأس الحياة. من المؤسف أن ديك كان «الصيد» الوحيد المتاح، لكنه كان شابًّا ووسيمًا. الفتيات الأخريات كنَّ لا يَجدن بُدًّا من تحمُّل رجال عجائز في الستين من العمر، ومصابين بالنَّقرس. وفوق ذلك، ثمة نقطة في غاية الخطورة جرى إغفالها. كل الأحداث التي بلغتهم من ذلك المستقبل الضبابي الذي يتذكَّرونه قد حدثت لهم لأنهم عقَدُوا الزيجات التي قد عقدوها بالفعل. لكن تلك المعرفة المستقبلية لم تُخبرهم بالمصير الذي كانوا سيَلقونه إن اختلفت اختياراتهم. في سنِّ الأربعين أصبحت نيلي فانشو شخصية لطيفة وودودة. ألا يَحتمل أن الحياة الشاقة التي خاضتها مع زوجها — بما تطلبته من تضحيات مُستمرة ورباطة جأش يومية — قد ساعدت على هذا التحول؟ أكان من الممكن أن تتحقَّق النتيجة نفسها إن كانت، عوضًا عن ذلك، زوجة قس فقير يضع القيم الأخلاقية السامية صوب عينَيه؟ إن الحُمى التي كانت قد سلبتْها جمالها وحوَّلت مسار أفكارها نحو العقل والرُّوح أصيبت بها لأنَّها جلست بصُحبة كونت إيطالي في شرفة دار الأوبرا بباريس؛ حيث أقيم حفل راقص بملابس تنكرية. لو كانت زوجة قسٍّ تعيش في حي إيست إند بلندن، فمِن المُرجَّح أنها كانت ستُفلت من الإصابة بتلك الحُمى ولن تتعرَّض لتأثيرها المُطهِّر للروح. وألَيْس من الخطر ترك امرأة فاتِنة الجمال مثلها، تفكيرها منصبٌّ على الحياة الدنيا، وتتُوق لتذوُّق ملذَّاتها، كي تحيا في فقر مع رجل لا تُحبه؟ إن تأثير أليس على ناثانيال آرمتيدج، أثناء السنوات الأولى التي شهدَت تكوُّن شخصيته، كان تأثيرًا حسنًا. أكان هو واثقًا من أن زواجَه مِن نيلي لن يُؤدي إلى تردِّي حاله؟ إذا تزوَّجت أليس بلاتشلي من فنان، فكيف كان سيَسعها التأكُّد من أنها في سن الأربعين ستظلُّ متعاطفة مع المُثُل العليا الفنية؟ فحتى عندما كانت طِفلة، ألم تكن رغباتها دائمًا تَسير في الاتجاه المعاكس لرغبات مُربيتها؟ ألم تُؤدِّ قراءة الصحف المحافظة إلى دَفعها بخُطًى ثابتة نحو الراديكالية، وألن يُؤدِّي الفيض المتواصل من الأحاديث الراديكالية حول طاولة زوجها، الفنان، إلى دفعها دفعًا للبحث عن حُججٍ تَدعم النظام الإقطاعي؟ ألا يُمكن أن يكون تنامي النزعات البيورتانية لدى ناثانيال هي التي دفعتْها إلى اشتهاء البوهيمية؟ وبفرض أنها تزوَّجت فنانًا جامحًا، ثم ما إن قاربت مُنتصَف العمر حتى قررت فجأة أن «تتديَّن»، حسب التعبير الشائع، كيف كان سيكون حالها حينئذٍ؟ كان سيَصير وضعها أسوأ من وضعها الأصلي. كاملفورد رجل ضعيف البِنية. وإذا ظلَّ عَزَبًا شارد الذهن، لا يجد من يهتمُّ بتنظيم وجباته والتأكد من تعرُّض ملابسه وأغراضه لتهوية جيدة، فهل كان سيَعيش ليبلغ الأربعين؟ كيف كان سيَسعه التأكد من أن الحياة الأسرية لن تُضيف إلى فنِّه أكثر مما أخذت منه؟ أما جيسيكا ديروود، ذات الطابع العاطفي والانفعالي، فإذا ارتبطَت بزوجٍ سيئ، فربما كانت ستَصلُح في سنِّ الأربعين نموذجًا لتمثالٍ يُجسِّد إيرينيس، إحدى إلهات الانتقام. فجمالها لم يكن ليتبدَّى لو لم تكن حياتها هادئةً ومريحة. إنَّ جمالها من النوع الذي يَتطلَّب سكونًا وطمأنينة كي يَنضجَ على مهَل. كان ديك إيفريت رجلًا يَعرف نفسه جيدًا. ومن ثَم كان يعرف أنه إذا تزوَّج جيسيكا، فمن المستحيل أن يَظلَّ طوال عشر سنوات زوجًا مُخلصًا لزوجة بلا جمال. هذا فضلًا عن أن جيسيكا لم تكن من النساء التي يُمكنُها الصبر كثيرًا على زوجها. فإذا تزوَّجَها في سن العشرين من أجل جمالها عندما تبلغ الثلاثين، فمِن المرجَّح أن تطلب منه الطلاق مع بلوغها سنَّ التاسعة والعشرين. كان إيفريت رجلًا عمليَّ التفكير. لذا أخذ على عاتقه مُهمَّة حسم هذه المسألة. وهكذا اعترف المسئول عن توزيع المشروبات في الحفل الراقص أنَّ مخزون الكئوس لديه قد يَتسرَّب إليه أحيانًا كأسٌ أو اثنتان مصنوعتان من الزجاج الألماني. وقد اعترف أحد النُّدُل بالحفل أنه كسر أكثر من كأس نبيذ في تلك الأمسية بعينها؛ وذلك بعدما تلقَّى وعدًا بأنَّ أحدًا لن يُطالبه بدفع ثمنها؛ وأضاف كذلك أنه مِن غير المُستبعَد أن يكون قد حاوَلَ إخفاء بقايا تلك الكئوس أسفل نخلة قريبة منه. من الواضح إذن أنَّ المسألة برمَّتها كانت حلمًا. كان ذلك هو القرار الذي خلصَت إليه المجموعة الشابَّة وقتها، وبناءً عليه عُقدت ثلاث زيجات في غُضون تسعة أشهر. بعد ذلك بنحو عشر سنوات حكى لي آرمتيدج القصَّة في تلك الأمسية في غرفة التدخين في النادي. كانت السيدة إيفريت قد تعافَت لتوِّها مِن حُمى روماتيزمية حادَّة، أصيبت بها في الربيع السابق في باريس. أما السيدة كاملفورد، التي لم أَلتقِها قبل زواجها، فقد بدَت لي بالتأكيد واحدة مِن أجمل مَن رأيتُ في حياتي من النساء. وأرى أنَّ السيدة آرمتيدج، التي كنتُ أعرفها قبل زواجها، قد أضحت تتمتَّع بجاذبية تفوق ما كان لديها في شبابها. لم أستطع أبدًا أن أفهم ما الذي جذبها إلى آرمتيدج. بعد نحو عشر سنوات من تلك الأُمسية في النادي، سطع نجم كاملفورد في عالم الشعر، لكن المسكين لم يَعِش طويلًا ليتمتَّع بشهرته. أما ديك إيفريت فلا يزال أمامه ستُّ سنوات أخرى من العمل كي يُسدِّد ديونه، بيد أنه حسَنُ السلوك، ويُقال إنَّ التماسًا سوف يُقدَّم للعفو عنه. أعرف أنها قصة عجيبة من أوَّلها إلى آخرها. وكما قلتُ في البداية، أنا نفسي لا أُصدقها.
جيروم كيه جيروم (١٨٥٩-١٩٢٧): روائي وكاتب مسرحي كوميدي إنجليزي. من أشهر أعماله الرواية الكوميدية «ثلاثة رجال في قارب»، والتي حقَّقت ناجحًا ساحقًا، وتُرجِمت إلى العديد من اللغات. ومن أهم أعماله الأخرى «أفكار تافِهة لرجل كسول»، و«ثلاثة رجال في رحلة بالدراجات»، ورواية سيرة ذاتية بعنوان «بول كلفير».
https://www.hindawi.org/books/69263975/
مختارات من القصص القصيرة
جيروم كيه جيروم
مجموعةُ القصص القصيرة التي بين أيدينا هي جزءٌ من مجموعةٍ قصصية ألَّفها الروائي والكاتب المسرحي الإنجليزي المعروف «جيروم كيه جيروم»، وظهرَت لأول مرة في عام ١٩٠٧م. تضم المجموعة ثلاثةَ أعمال تربط بينها فكرةٌ رئيسة واحدة؛ أَلا وهي التغيُّرات التي تطرأ على حياة الشخصيات من جرَّاء تدخُّل «رجل غريب» لا يُفصِح الكاتب عن هُوِيته، بل يترك للقارئ مهمةَ تخمينها، حسب قراءته للأحداث. تحكي القصة الأولى عن غريب غامض وتَقِي يستدعي إلى الأذهان صورةَ المسيح، يُقِيم لبعض الوقت في نُزُل متهالك فيغيِّر من حَيَوات سُكانه. وتختلف القصص الثلاث في جوِّها العام وأسلوبِها عن الطابع الكوميدي المميَّز للكاتب؛ إذ تتَّخِذ الأولى طابعًا اجتماعيًّا ودينيًّا جادًّا، أمَّا القِصتان الأُخريان فيغلب عليهما الطابع الفلسفي.
https://www.hindawi.org/books/69263975/3/
روح نيكولاس سنايدرز أو بخيل زاندام
في سالف الأيام، عاش في مدينة زاندام، التي تقَع بالقرب من خليج زويدر زي، رجلٌ شرير يُدعى نيكولاس سنايدرز. كان رجلًا بخيلًا وقاسيًا، وغليظ الطبع، ولم يَهوَ في هذا العالم سوى شيء واحد؛ ألا وهو الذهب. وحتى الذهب لم يكن يُحبُّه لذاته. بل أحب السلطة التي كان الذهبُ يَمنحها له؛ سلطة ممارسة الظلم والقهر، سُلطة التسبُّب في معاناة الخلق متى شاء. قال الناس إنه بلا رُوح، لكنهم أخطئوا في ذلك. فجميع الرجال يَملكون روحًا، أو بالأصح تمتلكهم أرواحهم؛ وروح نيكولاس سنايدرز كانت رُوحًا شريرة. كان يعيش في طاحونة هوائية قديمة لا تزال قائمة على المرسى، حيث تخدمه فقط الفتاة كريستينا وتتولَّى جميع المهامِّ المنزلية. كانت كريستينا فتاةً يتيمة، مات والداها وهما مَدينان. كان نيكولاس قد برَّأ ذمَّتهما، ولم يُكلِّفه ذلك سوى بضع مئات مِن الفلورين، في مقابل أن تعمل كريستينا لدَيه دُون أجر، وكان ذلك جميلًا لم تنسَه كريستينا أبدًا. كانت كريستينا هي جُلُّ أهل بيته، ولم يَكن يزوره أحد، طوعًا، سوى الأرملة تولاست. كانت السيدة تولاست غنيةً، وكادَت أن تُضاهيَ نيكولاس في البُخل. وذات مرة سألها بصوتِه الأجش: «لمَ لا نتزوَّج أنا وأنتِ؟» ثم أضاف: «إذا وحَّدنا قُوانا فسوف نَصير سادة زاندام كلها.» أجابَتْه السيدة تولاست بضِحكة مُجلجِلة، لكن نيكولاس لم يكن مُتعجِّلًا أبدًا. وفي عصر أحد الأيام، كان نيكولاس سنايدرز جالسًا وحده إلى مكتبِه، في مركز الغرفة الكبرى الشبه الدائرية التي شغلَتْ نصف الطابق الأرضي مِن الطاحونة الهوائية، والتي كانت بمَنزلة مقرِّ عمله، عندما سمع طرقاتٍ على الباب الخارجي. صاح نيكولاس سنايدرز قائلًا: «ادخل.» بيد أن نَبرة صوته كانت ألطف كثيرًا من نبرته المعتادة. إذ كان متيقنًا بشدة مِن أنَّ الطارق هو يان، يان فان دير فورت، البحار الشاب، الذي امتلَكَ سفينة لتوِّه، والذي جاء طالبًا يد كريستينا. وبينما جلَس نيكولاس يترقَّب هذا اللقاء، كان يَتلذَّذ بتخيُّل البهجة التي سيَشعُر بها عند تحطيم آمال يان، عند سماع توسُّلاته ثم هذَيانه الغاضب، عند مُشاهدة الشحوب وهو يَغزُو وجهه الوسيم تدريجيًّا بينما يُوضِّح له نيكولاس، تفصيلًا، عواقب تحدِّي إرادته؛ فأولًا سوف يَطرُد أم يان العجوز مِن منزلها، وسيُودِع أباه العجوز في السجن لما عليه مِن ديون؛ وثانيًا، سيُنزل انتقامه بِيان نفسه دون ذرَّة ندم، فسيَبتاع السفينة التي يَنوي شراءها قبل أن يُتم صفقتَه. كان اللقاء المُرتقَب مع يان تسلية تُلائم روح نيكولاس الدنيئة. ومنذ أن عاد يان أمس، كان نيكولاس يتطلَّع إلى هذا اللقاء. لذا، تخلَّلت البهجة صوتَه عندما صاح: «ادخل»؛ إذ كان متأكِّدًا أنَّ القادم هو يان. لكن القادم لم يكن يان. كان شخصًا لم يرَه نيكولاس سنايدرز قبلًا. ولم يكن ليراه مُجدَّدًا بعد هذه الزيارة الوحيدة. كان ضوء النهار آخذًا في التلاشي، لكنَّ نيكولاس سنايدرز لم يكن ليُضيء الشموع قبل حُلول الظلام التام، لذا لم يَستطِع قطُّ وصفَ مظهر الغريب بأيِّ وجه مِن الدقة. بدا له رجلًا عجوزًا، لكن جميع حركاته كانت تُوحي بالتيقُّظ والانتباه؛ أما عيناه، وهما الشيء الوحيد الذي رآه نيكولاس بقدرٍ من الوضوح، فكانتا ثاقبتَين ومتَّقدتَين ببريقٍ غريب. سأله نيكولاس سنايدرز، دون أن يَبذل جهدًا لإخفاء إحباطه: «مَن أنت؟» أجابه الغريب: «أنا بائع مُتجوِّل.» كان صوته واضحًا، لا يخلو مِن رخامة، ومن مسحة ضئيلة من الخبث. رد نيكولاس سنايدرز بجفاء: «لا أريد شيئًا.» ثم أضاف: «اخرُج وأَغلِق الباب خلفَك، وانتبه لعتبة الباب في طريقِك.» لكن الغريب لم يُغادر، بل حمَل كرسيًّا وجلس على مقربة من نيكولاس، مُتواريًا في الظل، ثم نظر مباشرةً إلى وجهِه وضحك. ثم قال: «أأنت مُتأكِّد من ذلك، يا نيكولاس سنايدرز؟ أأنتَ مُتأكِّد من أنك لا ترغَب في شيء؟» دمدم نيكولاس قائلًا: «لا أرغب في شيء سوى أن أرى ظَهرك وأنت تُغادر.» انحنى الغريب إلى الأمام ولمَس بيده الطويلة النَّحيلة ركبة نيكولاس سنايدرز مازحًا. ثم سأله: «ألا تَرغب في رُوح، يا نيكولاس سنايدرز؟» وقبل أن يَستعيد نيكولاس قُدرتَه على الكلام، أردف البائع المُتجوِّل الغريب: «فكِّر في الأمر.» ثم تابع: «لقد تلذَّذتَ بمَذاقِ القسوة والدناءة طوال أربعين عامًا. ألم تسأم مِن ذاك المذاق يا نيكولاس سنايدرز؟ ألا تُحبِّذ تغييرًا؟ فكِّر في الأمر يا نيكولاس سنايدرز؛ فكِّر في مُتعة أن يُحبَّك الناس، في أن تَسمعَهم يُثنون عليك بدلًا من أن يَلعنوك! ألن يكون ذلك أمرًا مُسليًا، يا نيكولاس سنايدرز، على سبيل التغيير ليس إلا؟ وإذا لم يُعجبْك الوضع، فبإمكانك العودة عن قرارك والرجوع إلى طبيعتِك مجدَّدًا.» لم يستطع نيكولاس سنايدرز، بينما كان يَستعيد ما حدَث لاحقًا، أن يُدرك أبدًا لمَ ظلَّ جالسًا في مكانه، يَستمِع في صبر لحديث هذا الغريب؛ إذ بدا له الأمر، وقت حُدوثه، مجرَّد دُعابة صادِرة من عابر سبيل أحمق. لكنَّ شيئًا ما في ذلك الغريب كان قد أثَّر في نفسه. تابَع البائع الغريب الأطوار: «معي الوسيلة التي ستُمكِّنك من ذلك؛ أما فيما يخصُّ المقابل …» قام الغريب بحرَكة تُشير إلى أنَّ هذه التفاصيل المُملة لا تُهمه. ثم أضاف: «إنَّ مشاهدة نتيجة التجربة هي المقابل الذي أُريده. اعتبِرني فيلسوفًا. فلديَّ اهتمامٌ بتلك المسائل. انظر.» ثم انحنى وأخرج مِن حقيبتِه الموضوعة بين ساقَيه قنينةً فضِّية مُتقَنة الصنع ووضَعَها على الطاولة. وواصل حديثه شارحًا: «إنَّ طعم المادة التي بها ليس كريهًا.» ثم أضاف: «إنه مُرٌّ بعض الشيء، لكن لا تَحتسِ كوبًا كاملًا منها، بل ملء كأس نبيذٍ فحسب، مثلما تَحتسي نبيذ توكاي العتيق، وينبغي أن يُركز ذهن الطرفَين الشاربَين على فكرة واحدة: «فلتحلَّ رُوحي فيه، ولتحلَّ روحُه فيَّ!» إنها عملية بسيطة حقًّا، والسر يَكمُن في هذه المادة.» ثم ربَّت على القنينة الغريبة كما لو كانت كلبًا صغيرًا. «ستقول: «ومَن ذا الذي سيُبادل رُوحه بروح نيكولاس سنايدرز؟»» هكذا أضاف الغريب الذي بدا أنه جاء وهو جاهِز بإجابات على جميع الأسئلة. ثم استطرد قائلًا: «يا صديقي أنتَ رجلٌ ثري، فلا داعي لأن تَخشى شيئًا. فالرُّوح هي الأقل قيمة بين جميع ما يَملكه الرجال. اختر الرُّوح التي ترغب بها واعقِد الصفقة بشُروطكِ. سأدَع ذلك الأمر لك لكنِّي سأُخبرُك بنصيحة واحدة فقط: ستَجد الشباب أكثرَ ترحيبًا بعقد تلك الصفقة مِن العَجائز؛ الشباب الذين يَعدُهم العالم بكل شيء شرط أن يَدفعوا مقابله ذهبًا. اختَر رُوحًا شابَّة ونضرة ورقيقة وجميلة يا نيكولاس سنايدرز، واختَرها سريعًا. فقد بدأ الشيب يَغزو شَعرك يا صديقي. فلتُسرع كي تتذوَّق لذة العيش قبل أن يُدركَك الفناء.» ضحكَ البائع الغريب وبينما كان يَنهض أغلق حقيبتَه. وظلَّ نيكولاس سنايدرز جالسًا دون أن يَتحرَّك أو يَنطق، حتى انتبه مع صليل الباب الضخم إذ يَنغلِق. فانتزع القنينة التي تركها الغريب، وانتفَض واقفًا، عازمًا على إلقائها خلفه في الشارع. لكن انعكاس ضوء النيران على سطح القنينة المصقول أوقَف يده. ثم ضحك ضحكة خافتة أتبعها بقوله: «على أيِّ حال، تبدو قنينة قيِّمة»، ووضعها جانبًا، وأضاء الشمعتَين الطويلتَين، وجلس دافنًا وجهه مجددًا في سجلِّ الحسابات ذي الغلاف الأخضر. ورغم ذلك كانت عيناه تَشرُدان، بين الحين والآخر، ناحية القنينة الفِضية التي ظلَّت في مكانها تكاد الأوراق المتربة تُخفيها. ولاحقًا سمع ثانيةً طرقًا على الباب، وهذه المرة دخل يان الشاب. مدَّ يان يده الفتية عبر المكتب الذي تعمُّه الفوضى. وقال: «لقد افترَقنا غاضبَين في لقائنا السابق يا نيكولاس سنايدرز. وقد كان الخطأ خَطئي. أرجو أن تُسامحَني. كنتُ فقيرًا وقتها. وكان فعلًا أنانيًّا منِّي أن أطلب يد الفتاة الصغيرة كي تُشاركني الفقر. لكني لم أَعُد فقيرًا الآن.» رد نيكولاس سنايدرز بنَبرة لطيفة قائلًا: «اجلس.» ثم أضاف: «لقد سمعتُ بما آل إليه أمرك. لقد أصبحت الآن قائد سفينة ومالكها، سفينتك الخاصة.» ضحك يان مُعلِّقًا: «ستُصبِح سفينتي الخاصة بعد رحلة واحدة أخرى.» ثم أضاف: «لقد وعَدَني ألارت، عمدة المدينة، بذلك.» قال نيكولاس: «الوعد شيء، والوفاء به شيء آخر.» ثم أردَف: «العمدة ألارت ليس رجلًا ثريًّا، وقد يُغريه عرضٌ آخر أعلى سِعرًا. وقد يَسبقُك أحدُهم ويَستحوِذ على مِلكية السفينة.» ضحك يان. ثم قال: «لن يُقدِم على ذلك سوى عدوٍّ لي، لكنِّي، والحمد لله، ليس لي أعداء.» علَّق نيكولاس: «يا لحُسنِ حظك؛ قليلٌ منَّا مَن ليس لهم أعداء. ماذا عن والدَيك، يا يان؛ هل سيَعيشان معكما؟» أجابه يان: «كنَّا نتمنَّى ذلك، أنا وكريستينا. لكنَّ أمي أضحت ضعيفة. وقد اعتادَت على الحياة في الطاحُونة القديمة.» وافقه نيكولاس قائلًا: «يُمكنني تفهُّم ذلك. إذا اقتلعتَ نباتًا مُعترشًا قديمًا بعيدًا عن الحائط الذي ينمو عليه، فسوف يَذبُل ويموت. وماذا عن أبيك يا يان؛ إذ سوف يُثرثِر الناس بشأنه؟ هل الطاحونة تدرُّ دخلًا؟» هز يان رأسه نافيًا. وردَّ بقوله: «لن تدرَّ دخلًا مجدَّدًا أبدًا، والديون تُحاصرُه. لكنِّي أخبرته أن تلك أمور مضَت وانتهَت. فقد وافق الدائنون على التوجُّه إليَّ بمَطالبهم والانتظار حتى أُسدِّدَها.» تساءل نيكولاس: «جميع الدائنين؟» ضحك يان مُعلِّقًا: «كل مَن عرفتُ بوجُودهم.» دفع نيكولاس سنايدرز كرسيَّه إلى الوراء، ونظر إلى يان بينما تَرتسم ابتسامة على وجهه المجعَّد. ثم أردف: «إذن، رتَّبتَ أنت وكريستينا كل شيء؟» رد يان: «شريطة أن نحُوز مُوافَقتك يا سيدي.» سأله نيكولاس: «هل ستَنتظِران حتى تَحصُلا على مُوافَقتي؟» «نودُّ أن نَحصُل عليها يا سيدي.» هكذا قال يان مبتسمًا، بيد أن نبرة صوته كان لها وقعٌ حسن في أذن نيكولاس سنايدرز. فلَطالَما فضَّل ضرب الكلاب التي تُزمجر وتَكشِف عن أنيابها. قال نيكولاس سنايدرز: «حريٌّ بكما ألا تَنتظراها.» ثم أضاف: «فقد يطُول انتظاركما.» نهض يان وقد احمرَّ وجهُه غضبًا. وردَّ قائلًا: «إذن لن يُغيِّر شيء من رأيك يا نيكولاس سنايدرز. حسنًا افعل ما في وُسعِك.» رد نيكولاس: «هل ستتزوَّجها رغمًا عن إرادتي؟» صاح يان ثائرًا: «رغمًا عنك، وعن أصدقائك الشياطين، وعن سيِّدك إبليس نفسه!» فقد كانت رُوح يان روحًا كريمة وشجاعة وحسَّاسة، لكنَّها سريعة الغضب إلى حدٍّ بعيد. فحتى أفضل الأرواح لها عيوبها. قال نيكولاس العجوز: «أنا آسِف.» رد يان: «يسرُّني سماع ذلك.» لكن نيكولاس استطرد قائلًا: «أنا آسف على أمِّك.» ثم تابع حديثه: «أخشى أن السيدة المسكينة ستُصبِح مشرَّدة في شيخوختها. فسوف تُباع الطاحونة القديمة المرهونة في يوم عُرسِك يا يان. وأنا آسف على والدك يا يان. فقد أغفلتَ واحدًا من دائنيه يا يان. يُؤسفني ما سيَلقاه من مصير يا يان. فلطالَما خشيَ السجن. وآسِف حتَّى عليك أنت أيضًا، يا صديقي الشاب. سوف تُضطرُّ إلى بدء حياتك مِن الصفر مجدَّدًا. فالعمدة ألارت رهن إشارتي. وكلُّ ما عليَّ فعله هو التصريح برغبتي في شراء السفينة وسوف تُصبِح لي. أتمنَّى لك السعادة مع عَروسِك، يا صديقي الشاب. لا بد أنك تُحبُّها حبًّا جمًّا؛ فسوف تدفع ثمنًا غاليًا مُقابل الزواج منها.» كانت الابتسامة العريضة التي علَت وجه نيكولاس سنايدرز هي ما أثارت جنون يان. فأخذ يبحث عن شيء يُلقيه مباشرة تجاه ذلك الفم الكريه ليُخرسَه، وبالصدفة وقعت يده على قنينة البائع الفضية. في اللحظة نفسها كانت يد نيكولاس سنايدرز تَقبِض عليها أيضًا. وتبدَّدت البسمة العريضة من فوق وجهِه. صاح نيكولاس سنايدرز آمرًا: «اجلس.» ثم تابع قائلًا: «دعنا نُواصِل حديثنا.» وكان ثمة شيء في نبرة صوتِه حملت يان الشاب على إطاعته. «ربما تتساءل، يا يان، لمَ أَنشُد الغضب والكراهية دومًا. أحيانًا ما أسأل نفسي السؤال نفسه. لمَ لا تَرِد بذهني أفكارٌ حسنة أبدًا، مثلَما ترد إلى غيري من الرجال؟! اسمع، يا يان، أشعُر أنني في مزاج طائش. ما سأقولُه مُستحيل الحدوث، وإذا ظننته مُمكنًا فذلك مجرَّد نزوة مِن نزواتي. بِع لي روحك يا يان، بع لي رُوحك، كي أتمكَّن بدوري من تذوُّق الحب والسعادة اللذَين أسمع عنهما. بعها لي لبعض الوقت يا يان، لبعض الوقت ليس إلا، وسوف أمنحُك كلَّ ما تَشتهيه في المقابل.» وعلى الفور أمسَكَ الرجل العجوز بقلمِه وشرع يكتب. «انظر يا يان، ها هي السفينة قد صارتْ مِلكَكَ، بدون مشاكل؛ والطاحونة صارت خالصة من الديون، ويستطيع أبوك أن يَرفع رأسه عاليًا من جديد. كلُّ ما أطلبه، يا يان، هو أن تحتسيَ كأسًا معي راغبًا في أن تَنتقِل رُوحك من جسدك كي تُصبح رُوح نيكولاس سنايدرز العجوز؛ لبعض الوقت، يا يان، لبعض الوقت ليس إلا.» وبيدَين محمومتَين نزع الرجل سدادة القنينة التي أعطاها له البائع المتجوِّل، وصبَّ القليل من محتواها في كأسين متماثلتين. رغبَ يان في الضحك، لكن تلهُّف الرجل كاد يبلغ حالة من الهياج. لا شك أنه كان مجنونًا، لكن ذلك لا يجعل الورقة التي وقَّعها غير مُلزِمة. الرجل الحقُّ لا يمزح عندما يتعلَّق الأمر برُوحه، لكنَّ وجه كريستينا كان يتراءى ليان مُضيئًا وسط العتمة. همس نيكولاس سنايدرز: «ستَعني ما ستقول، أليس كذلك؟» أجاب يان، بينما يُعيد كأسه فارغة إلى الطاولة: «فلتَنتقل رُوحي من جسدي ولتحلَّ بجسد نيكولاس سنايدرز!» وللحظة من الزمن وقَف الرجلان يَنظر كلٌّ منهما في عينَي الآخر. عندئذٍ ارتجفَ ضوء الشمعتَين الطويلتَين على المكتب المكتظ، ثم انطفأتا، وكأن أحدًا قد أطفأهما، الواحدة تلو الأخرى، بنفحة هواء من فمِه. تردَّد صوت يان في الظلام قائلًا: «عليَّ أن أعود إلى منزلي.» ثم استطرد قائلًا: «لمَ أطفأت الشمعتَين؟» أجابه نيكولاس: «يُمكننا إشعالهما مجددًا مِن نيران المدفأة.» ولم يُضِف أنه كان ينوي طرح السؤال نفسه على يان. دفع نيكولاس الشمعتَين، الواحدة تلو الأخرى، نحو الحطب المُستعِر في المدفأة، وسرعان ما زحفت الظلال عائدةً إلى أركان الغرفة. سأل نيكولاس: «ألن تمرَّ على كريستينا قبل ذهابك؟» أجابه يان: «لا، ليس هذه الليلة.» قال نيكولاس مُذكِّرًا إياه: «الورقة التي وقَّعتها، هل أخذتها؟» ردَّ يان: «لقد نسيتها.» تناوَلَ الرجل العجوز الورقة من فوق المكتب وناولها له. فدفَعها يان في جيبه ومضى خارجًا. أوصد نيكولاس الباب خلفه وعاد إلى مكتبِه؛ وجلَس طويلًا إليه ساندًا مِرفقَيه على سجلِّ الحسابات المفتوح. ثم دفَع السجلَّ بعيدًا وضحك. وحدَّث نفسه قائلًا: «يا لها مِن حماقة! تلك أمور مُستحيلة! لا بد أن ذلك الرجل الغريب قد سحَرني.» عبر نيكولاس الغرفة متَّجهًا نحو المدفأة، وشرع في تدفئة يدَيه أمام النيران المتوهِّجة. وقال في نفسه: «رغم كل شيء، يُسعدني أنه سيتزوَّج الفتاة الشابة. إنه فتًى صالح، فتًى صالح.» لا بد أن النعاس قد غلب نيكولاس أمام المدفأة. فعندما فتح عينَيه، استقبلهما ضوء الفجر الرمادي. كان جسده مُتيبسًا وكان يَشعُر بالبرد والجوع، وبغضبٍ أكيد. لمَ لم توقظه كريستينا وتجلب له عشاءه؟ أظنَّت أنه يَنوي قضاء ليلته جالسًا على الكرسي الخشبي؟ إنها فتاة حمقاء. كان سيصعد السلالم ويُخبرها عبر الباب برأيه فيها. كان الطريق إلى الدَّور العُلوي يمرُّ بالمطبخ. وهناك اندهش لمرأى كريستينا جالسة على مقعد، غافية أمام الموقد المنطفئ. تمتمَ نيكولاس محدثًا نفسه: «عجبًا، يبدو أن أهل هذا البيت لا يَعرفون فائدة الأسِرَّة!» لكن تلك الفتاة النائمة لم تكن كريستينا، هكذا حدث نيكولاس نفسه. إذ إن وجه كريستينا كان يكسُوه تعبير يُذكِّر المرء بأرنبٍ مذعور؛ لطالَما أثار ذاك التعبير ضيقَه. بيد أن تلك الفتاة، حتَّى في نومها، كان يعلو وجهها تعبيرٌ وقح؛ تعبير وقح بيد أنه محبَّب إلى النفس. وعلاوةً على ذلك، تلك الفتاة كانت جميلة؛ رائعة الجمال. وقطعًا لم يرَ نيكولاس فتاة جميلة هكذا طيلة حياتِه. عجبًا، كانت الفتيات مُختلفات تمامًا عندما كان نيكولاس شابًّا! وفجأةً استحوذ على نيكولاس شعورٌ شديد بالمرارة؛ كأنَّما أدرك لتوِّه أنه سُلب شيئًا منذ زمن بعيد دون أن يَعيَ ذلك حينها. تلك الطِّفلة لا بدَّ أنها كانت تشعر بالبرد. جلب نيكولاس عباءَته المبطَّنة بالفِراء ولفها حولها. ثمَّة شيء آخر كان عليه فعله. خطرت له تلك الفكرة بينما يَبسُط عباءته حول كتفَيها، برفقٍ شديد كي لا يُقلق منامها؛ ثمَّة شيء رغب في فعله، ليته يتذكر ما هو. كانت شفتا الفتاة مُنفرجتَين. وبدت كأنَّما تُحدِّثه، تطلُب منه فعل ذاك الشيء؛ أو تُخبرُه بألًّا يفعله. لم يكن نيكولاس مُتأكدًا أي الأمرَين صحيح. مرةً تلو الأخرى، كان يُغادر المطبخ، ثم يتسلَّل عائدًا إلى حيثما جلست غافية بينما يعلو وجهَها ذاك التعبير الوقح المحبَّب إلى النفس، وشفتاها مُنفرجتان. لكن نيكولاس ظلَّ لا يَعرف ماذا تريد، أو ماذا يُريد هو. ربما كانت كريستينا تعلم. ربما كانت كريستينا تعلم مَن هذه الفتاة وكيف جاءت إلى هناك. صعد نيكولاس السلالم، لاعنًا إياها لما تُصدرُه من صرير. كان باب غرفة كريستينا مفتوحًا. لكنَّ الغرفة كانت خالية، وكان السرير مُرتبًا لأنَّ أحدًا لم يَنَم عليه. هبط نيكولاس السلالم التي تُحدِث صريرًا. كانت الفتاة لا تزال نائمة. أتكون هي كريستينا؟ تفحَّص نيكولاس ملامحها الفاتنة، مَلمحًا تلو الآخر. لم يسبق له قط، قدر ما تُسعفه ذاكرته، أن رأى تلك الفتاة؛ رغم ذلك كانت قلادة كريستينا، التي لم يَلحَظها نيكولاس قبلًا، تُطوِّق عنقها، وتعلو وتَهبط مع حركة أنفاسها. كان نيكولاس يعرفها جيدًا؛ فقد كانت هي الشيء الوحيد الذي أصرَّت كريستينا على الاحتفاظ به من مُقتنيات أمها. لقد كانت الشيء الوحيد الذي تحدَّت إرادته كي تَحتفِظ به. إن كريستينا لم تكن لتدَع تلك القلادة تُفارقها قط. لا بدَّ أن هذه الفتاة هي كريستينا نفسها. لكن ماذا حدَث لها؟ أو ماذا حدَث له؟ فجأة تداعَت عليه الذكريات. البائع الغريب! ولقاؤه مع يان! لكن كلُّ ذلك كان حلمًا قَطعًا، أليس كذلك؟ بيد أن القنينة الفضية الخاصة بالبائع كانت لا تزال هناك على سطح المكتب الفوضوي، وبجانبِها كأسا النبيذ المتماثلتان المتَّسختان. حاول نيكولاس أن يُفكر، لكن عقله كان يلفُّ ويدور. مرَّ شُعاع من ضوء الشمس عبر النافذة وسقَط على أرضية الغرفة المُتربة. لم يكن قد رأى نيكولاس الشمس قطُّ قبلًا؛ تلك حقيقة كان بإمكانِه أن يتذكَّرها جيدًا. مدَّ يدَيه لا إراديًّا ناحية الضوء، وشعر بحزنٍ مُفاجئ عندما تلاشى، مخلفًا وراءه الضوء الرمادي فحسب. حلَّ نيكولاس مزاليج الباب الكبير الصَّدئة ثم فتحه على مصراعَيه. أمام ناظرَيه تبدَّى عالم غريب، عالم جديد مليء بأضواء وظلال، تُغازله بجمالها؛ عالم مليء بأصوات خفيضة ناعمة تُناديه. ومجددًا راودَه ذاك الإحساس المرير بأن شيئًا قد سُلبَ منه. غمغم نيكولاس العجوز إلى نفسه: «كانت السعادة في مُتناول يدَيَّ طوال تلك السنوات.» ثم أضاف: «هذه المدينة الصغيرة كان بوُسعي أن أُحبَّها، تلك المدينة القديمة الهادئة، ذات الطابع المحبَّب إلى النفس، طابع الوطن. كان من المُمكن أن أحظى بأصدقاء، برفاق حميمين قُدامى، بل أن أُنجب أبناءً من صُلبي …» ثم تراءَت لعينَيه صورة كريستينا الغافية. كانت قد قَدِمت إلى بيته وهي لا تزال طفلة، لا تَحمل له سوى مشاعر الشُّكر والعرفان. لو كانت لدَيه عينان تَستطيعان رؤيتها، لربما تغيَّر كل شيء. هل فات الأوان؟ إنه ليس عجوزًا جدًّا؛ لا يُعتبَر رجلًا هَرِمًا بأيِّ حال. بل إن دماءً جديدة تَسري في شرايينه. هي لا تَزال تحبُّ يان، لكنها تحبُّ يان الذي كان بالأمس. في المستقبل، ستتحكَّم الروح الشريرة، التي كانت يومًا ما رُوح نيكولاس سنايدرز، في كلِّ كلمة سيَنطقُها يان، وكلِّ فعل ستَقترفُه يداه؛ يتذكَّر نيكولاس هذا جيدًا. أيُمكِن أن تحبَّ امرأة رُوحًا كتلك، حتى وإن كانت تسكن جسدًا ذا وسامة لا تُضاهى؟ أيجبُ عليه، بوصفه رجلًا أمينًا، الاحتفاظ بالرُّوح التي كان قد حازها من يان بوسيلة قد يشوبُها بعض الخداع؟ أجل، يستطيع الاحتفاظ بها؛ إذ كانت الصفقة عادلة، وقد تلقَّى يان الثمن. علاوة على ذلك، يان لم يُشكِّل رُوحه بنفسه؛ بل تشكيل الأرواح يحكمه قانون الصدفة. لمَ يَنبغي أن يُمنح رجلٌ ما ذهبًا ويُمنَح آخر حصى؟ إن حقَّه في رُوح يان لا يقلُّ عن حقِّ الأخير فيها. إنه أكثر حكمة منه، وفي وسعه فعل خيرٍ أكبر بتلك الروح. إن رُوح يان هي التي أحبَّت كريستينا؛ فلندَع رُوح يان تفُز بها إن استطاعت. استمعَت رُوح يان إلى تلك الحُجج، ولم تستطِع إيجاد ما تَعترض به عليها. كانت كريستينا لا تزال غافية عندما دخل نيكولاس المطبخ مُجدَّدًا. أشعل النار، وأعدَّ طعام الإفطار، ثم أيقظَها برفق. وحينئذٍ لم يَعُد يُساورُه شكٌّ في أنها كريستينا. ففي اللحظة التي وقعَت عيناها على وجهه العجوز، عادَت إليها نظرة الأرنب المذعور التي لطالَما ضايقَتْه في الماضي. وقد ضايقَته الآن، لكنَّ الضيق كان موجهًا نحو نفسه. استهلَّت كريستينا الحديث قائلة: «كنتَ مُستغرقًا في نومٍ عميق عندما دلفتُ إلى الغرفة ليلة أمس …» قاطعها نيكولاس قائلًا: «وخفتِ أن تُوقظيني.» ثم أضاف: «ظننتِ أن العجوز الفظَّ سوف يغضب. اسمعي يا كريستينا. لقد دفعتِ أمس آخر دَين مِن دُيون أبيكِ. كان يَدين به لبحَّار عجوز؛ لم أستطِع العثور عليه قبلًا. لقد قضيتِ دينكِ لي، بل يتبقَّى لكِ قدرٌ من المال، جزء مِن أجرك مقابل العمل لديَّ، مقداره مائة فلورين. ذلك مالك الخاص يُمكنكِ أن تطلُبيه منِّي وقتما تشائين.» لم تَستطِع كريستينا فهم ما جرى، لا وقتَها ولا في الأيام التالية؛ ولم يُعطها نيكولاس تفسيرًا. إذ إن رُوح يان كانت قد انتقلت إلى رجل عجوز بالغ الحكمة، أدرك أن الطريقة المُثلى لتَناسي الماضي هو عيش الحاضر بجرأة وشجاعة. كانت مُتأكِّدة وحسب من أن نيكولاس سنايدرز القديم قد اختفى في ظروف غامِضة، وحلَّ محلَّه نيكولاس جديد، كان يتطلَّع إليها بعينَين حانيتَين؛ عينَين صريحتَين وصادقتَين، تُجبِران المرء على الوثوق بهما. وعلى الرغم من أنَّ نيكولاس لم يَقُل ذلك قط، خطر لكريستينا أنها هي نفسها مَن أحدثَت ذلك التغيير العجيب، عبر أثرِها الطيب وطبعِها الدمث. ولم يَبدُ هذا التفسير مُستحيلًا لكريستينا؛ بل بدا مُرضيًا. أضحى منظر المكتب المكدَّس بالأوراق كريهًا في عين نيكولاس. لذا كان يخرج في الصباح الباكر، ويقضي اليوم كله بالخارج، ثم يعود في المساء مُتعبًا لكن مُبتهجًا، جالبًا معه زهورًا، كانت كريستينا تُخبره، وهي تَضحك، أنها مجرَّد حشائش. لكن ماذا تهمُّ المُسمَّيات؟ كان نيكولاس يَراها زهورًا جميلة. في مدينة زاندام، كان الأطفال يهربون منه، والكلاب تَنبح خلفه. لذا كان يفرُّ عبر الطرق الجانبية، مُتوغلًا في الريف المُحيط بالمدينة. وهناك في القرى المتناثِرة، اعتاد الأطفال على رؤية ذلك الرجل العجوز طيب القلب، الذي يَسير مُتمهلًا متكئًا على عصاه، ويُشاهدُهم بينما يلعبون مُستمعًا إلى ضحكاتهم؛ ذاك الرجل الذي كانت جيوبُه الرحبة تَذخر بالحلوى اللذيذة. وكان أهل القرى المارُّون به يتهامسون فيما بينهم مُلاحِظين التشابه بين ملامحِه وملامح نيك العجوز اللئيم، بخيل زاندام، ويتساءلون تُرى مِن أين أتى؟ ولم تكن وجوه الأطفال وحدَها هي ما علَّمت شفتَي نيكولاس الابتسام. في بداية تحوُّله، كان مُنزعجًا من حقيقة أن العالم يعجُّ بفتيات ذوات جمالٍ فتَّان، بل بنساء جميلات كذلك، جميعهنَّ جديرات بالإعجاب. أربَكَه ذلك. لكنه وجد أن كريستينا ظلَّت دومًا في خاطره الأجمل بين جميع مَن رأى من نساء، وأكثرهنَّ إثارة للإعجاب. ومنذ ذاك الحين صار كلُّ وجه جميل يُبهجه؛ إذ كان يُذكِّره بوجه كريستينا. عند عودتِه من تجواله في اليوم الثاني، قابلتْه كريستينا والحزن في عينَيها. كان قد جاء المزارع بيرستراتر، وهو صديق قديم لوالدِها، لزيارة نيكولاس؛ وعندما لم يجدْه، تحدث قليلًا مع كريستينا. حكى لها أن دائنًا قاسيَ القلب كان يسعى لطردِه مِن مزرعتِه. تظاهرت كريستينا أنها لا تَعلم أن ذلك الدائن كان نيكولاس نفسه، وأبدَت تعجُّبها من تصرُّفات أولئك الرجال ذوي الطابع اللئيم. لم يردَّ نيكولاس بشيء، لكن في اليوم التالي قدِم المزارع بيرستراتر مُجددًا بوجهٍ فرحٍ مُستبشِر، وشرع يُردِّد عبارات الشكر ويُعبِّر عن عظيم دهشتِه. أخذ يتساءل المزارع بيرستراتر مرةً تلو الأخرى: «لكن ما الذي يُمكن أن يكون قد حلَّ به يا تُرى؟» ابتسَمَت كريستينا مجيبةً أنَّ الرب الرحيم قد زَرَع في قلبه الرحمة على الأرجح؛ لكنَّها فكرت في نفسها أنه ربما كان تحوُّله بفعل تأثير طيب من مصدر آخر. ذاعت القصة في المدينة. وأحاط الناس بكريستينا من كلِّ صوب، طالِبين شفاعتها لدى نيكولاس، ولما كان لتدخُّلاتها من أثر ناجع، زاد رضا الفتاة عن نفسِها يومًا بعد يوم، وزاد رضاها عن نيكولاس بالتبعية. إذ كان نيكولاس عجوزًا ماكرًا. وقد استمتَعَت رُوح يان التي بداخلِه بمحو ما ارتكبتْه رُوح نيكولاس من شرور. لكن عقل نيكولاس سنايدرز الذي لم يُغادِره قطُّ كان يَهمِس له: «فلتدَع الصَّبية الشابة تظنُّ أنها هي مَن تسبَّبت في ذلك كله.» بلغت الأخبار مسامع السيدة تولاست. وفي الليلة نفسها كانت جالسة على المقعد المُجاوِر للمدفأة في مقابل نيكولاس سنايدرز، الذي كان يُدخِّن وبدا عليه الملل. خاطبته السيدة تولاست قائلة: «إنَّ أفعالك تجعلُك تبدو كالأحمق يا نيكولاس سنايدرز.» ثم أضافت: «الجميع يَسخرُون منك.» رد نيكولاس مُمتعضًا: «أُفضِّل أن يَسخروا منِّي على أن يَلعنوني.» سألته السيدة تولاست: «هل نسيتَ كلَّ ما دار بيننا؟» تنهَّد نيكولاس ثم أردف: «ليتَني أستطيع ذلك.» تابعت السيدة تولاست حديثها قائلة: «في سنِّك هذا …» قاطعها نيكولاس: «أشعر أنني أكثر شبابًا ممَّا شعرت طيلة حياتي.» علَّقت السيدة تولاست قائلة: «لا يبدو عليك ذلك الشباب.» ردَّ نيكولاس بحدَّة: «ماذا تُهمُّ المظاهر؟» ثم أردَف قائلًا: «إنَّ رُوح الإنسان هي الأهم.» ردَّت السيدة تولاست مُوضِّحة: «بل لها أهمية، على أرض الواقع.» ثم استطردت قائلة: «عجبًا، إن وددتُ السير على خطاك وجعل نفسي أضحوكة، فسأَجد الكثير من الرجال الأكثر شبابًا وفتوَّة ووسامة …» قاطعها نيكولاس بسرعة قائلًا: «لا تدعيني أقف في طريقكِ إذن.» ثم استطرد قائلًا: «أنا عجوز سيئ الطِّباع مثلما تقولين. لا بدَّ أن هناك رجالًا كُثرًا أفضل منِّي، رجالًا أجدر بكِ مني.» ردَّت السيدة تولاست: «أعرف ذلك، لكن لا أحد يُناسبُني أكثر منك. الفتيات يُناسبهنَّ الصبيان، أما النساء الكُبريات سنًّا فيُناسبهنَّ رجالٌ مِن سنِّهن. لو كنتَ قد فقدت عقلَك، يا نيكولاس سنايدرز، فأنا لم أُجنَّ بعد. عندما تَرجع إلى طبيعتِك مرةً أخرى …» انتفض نيكولاس وافقًا. وصاح مقاطعًا: «أنا على طبيعتي، وأنوي أن أظلَّ على طبيعتي! مَن يجرؤ على زعم أني لستُ على طبيعتي؟» ردَّت السيدة تولاست ببرُود يُثير الغيظ: «أنا أزعم ذلك.» وتابعت قائلةً: «نيكولاس سنايدرز لا يكون على طبيعتِه عندما يُلقي بأمواله من النافذة بكلتا يدَيه بأمرٍ مِن دُمية حسَنة الوجه. بل هو رجل مسحُور، وأنا أرثي لحاله. سوف تخدعُك لمصلحة أصدقائها حتى تُبدِّد آخر سنتٍ لديك، وعندئذٍ سوف تَسخر منك. عندما تعود لطبيعتِك يا نيكولاس سنايدرز، سوف تَشعُر بغضب عارم من نفسك؛ تذكَّر كلماتي.» ثم غادرت السيدة تولاست وصفقت الباب خلفها. «الفتيات يُناسبهنَّ الصبيان، أما النساء الكُبريات سنًّا فيُناسبهنَّ رجال من سنِّهن.» ظلت تلك العبارة تتردَّد في أذنَي نيكولاس. قبل الآن كانت السعادة التي وجَدَها مُؤخرًا تملأ عليه حياته، دُون أن تترك مجالًا للفكر. لكن كلمات السيدة تولاست العجوز زرَعت في نفسه بذور التأمل. هل كريستينا كانت تخدعُه؟ الفكرة نفسها مستحيلة. فهي لم تَطلُب لنفسها شيئًا قط، ولم تشفع ليان مُطلقًا. تلك الفكرة الشريرة وليدة عقل السيدة تولاست الخبيث. إن كريستينا كانت تحبه. فوجهها يُضيء عندما تراه. وقد تبدَّد خوفها منه؛ وحلَّ محلَّه نوع لطيف من التحكم. لكن هل كان الحب مُبتغاه؟ إن رُوح يان التي حلَّت بجسد نيك العجوز رُوحٌ شابة متَّقدة العاطفة. تلك الروح لم تنظر إلى كريستينا بوصفِها ابنة، بل رغبَت فيها كزوجة. أمن المُمكن أن تفوز تلك الرُّوح بحبِّها رغمًا عن جسد نيك العجوز؟ لم يكن الصبر من خصال روح يان. فمن الأفضل للمرء أن يَعرف يَقينًا بدلًا من أن يُترك لشكوكه. قال نيكولاس لكريستينا: «لا تُضيئي الشموع، دعينا نتحدث قليلًا على ضوء المدفأة فقط.» سحبت كريستينا مُبتسمة كرسيَّها مُقتربةً من اللهب المتوهِّج. لكن نيكولاس ظلَّ جالسًا في الظل. قال نيكولاس: «أنتِ تزدادين جمالًا يومًا بعد يوم يا كريستينا، وتزدادين عذوبة وأُنوثة كذلك. يا لسعدِ مَن سيَحظى بك زوجة له.» تبدَّدت الابتسامة مِن وجه كريستينا. وردَّت قائلة: «لن أتزوَّج أبدًا.» علق نيكولاس: «أبدًا كلمة كبيرة يا صغيرتي.» ردَّت كريستينا: «المرأة الشريفة لا تتزوَّج رجلًا لا تحبُّه.» ابتسم نيكولاس قائلًا: «لكن ألا تَستطيع الزواج مِن الرجل الذي تُحبُّه؟» أجابته كريستينا: «في بعض الأحيان لا تَستطيع.» «ومتى يَحدث ذلك؟» أشاحت كريستينا بوجهِها. وأجابت: «عندما يَتوقَّف عن حبها.» غمرت البهجة الرُّوح في جسد نيك العجوز. فقال: «إنه لا يَستحقُّك يا كريستينا. لقد غيَّرَته الثروة الجديدة التي جمَعها. أليس هذا ما حدَث؟ إنه لا يُفكِّر إلا في المال. يبدو وكأن رُوح رجلٍ بخيل قد حلَّت بجسده. لن يتورَّع عن الزواج حتَّى مِن السيدة تولاست نفسها، لما تملك مِن طواحين، وزكائب مليئة بالذهب، وأراضٍ شاسعة، فقط إذا قَبلَت به. ألا تستطيعين نسيانه؟» ردَّت كريستينا: «لن أنساه أبدًا. ولن أحبَّ رجلًا آخر أبدًا. أُحاول إخفاء مشاعري؛ وفي أغلب الأحيان أشعر بالرضا لأنَّ بوسعي تقديم الكثير إلى هذا العالم. لكنَّ قلبي يَنفطر.» ثم نهضَت وركعت بجواره، وأحاطَته بذراعَيها. وقالت: «أنا مُمتنَّة لأنكَ تركتَني أحكي لك.» ثم أضافت: «لولا وجودُك لم أكن لأتحمَّل تلك المِحنة. أنت تُعاملني برِفق وطيبة لا تُضاهى.» ردَّ نيكولاس بمُداعبة شعرها الذهبي الذي تبعثَر فوق ركبتَيه الضعيفتَين بيده العجوز. فتطلعت إليه بعينَين ملؤهما الدمع، لكنَّهما كانتا تبتسمان. أردفت كريستينا: «لا أستطيع فهم ماذا حدث.» وأضافت: «أشكُّ أحيانًا في أنَّكما قد تبادَلتُما رُوحَيكما. فهو أصبح قاسيًا وبخيلًا وغليظ القلب، مثلما كنتَ أنت سابقًا.» ثم ضحكَت وشعر نيكولاس بذراعَيها تتمسَّكان به أكثر للحظة. واستطردَت: «والآن أصبحتَ أنت طيب القلب وحنونًا ورائعًا، مثلما كان هو قبلًا. يبدو الأمر كما لو أنَّ الرب الرحيم قد حرَمَني مِن حبيبي كي يَمنحني أبًا.» قال نيكولاس: «اسمَعي يا كريستينا.» ثم أضاف: «إن رُوح الرجل هي التي تُهمُّ، لا جسده. ألا يُمكنكِ أن تحبِّيني لأجل روحي الجديدة؟» أجابته كريستينا، مبتسمةً من بين دموعِها: «لكني أُحبك بالفعل.» فسألها: «ألا يُمكنك أن تحبِّيني بصفتي زوجًا؟» عندئذٍ سقَط ضوء المدفأة على وجه كريستينا. وكانت يدا نيكولاس العجوزتان تُحيطان بوجهها، فتطلَّعت عيناه إليه طويلًا وبتمعُّن؛ ولما قرأ ما على صفحته، ضمَّه إليه وشرع يُربِّت على شعر كريستينا مهدئًا بيده العجوز. قال نيكولاس: «لقد كنتُ أُداعبك ليس إلا يا صغيرتي.» ثم أضاف: «الفتيات يُناسبهنَّ الصبيان، أما النساء الكُبريات سنًّا فيُناسبهنَّ رجال من سنِّهن. حسنًا، ألا زلتِ تُحبِّين يان، رغم كل شيء؟» أجابته كريستينا: «أحبُّه. ولا أستطيع التوقُّف عن حبِّه.» قال نيكولاس: «وإذا رغب في الزواج منكِ، فهل ستتزوجينه، أيًّا كانت الرُّوح القابعة داخل جسده؟» كرَّرت كريستينا مجيبةً: «أُحبُّه. لا أستطيع التوقُّف عن حبه.» جلس نيكولاس العجوز وحده بجوار النِّيران التي أوشكت أن تخمد. وتساءل في نفسه: أيهما يمثل جوهر الرجل، رُوحه أم جسده؟ ولم تكن الإجابة بالبساطة التي اعتقدها. تمتَم نيكولاس مُحدِّثًا النِّيران المُحتضَرة: «كريستينا أحبَّت يان، عندما كانت رُوحه في جسده. وهي لا تزال تحبُّه على الرغم مِن أن رُوح نيكولاس سنايدرز قد انتقلَت إليه. عندما سألتها هل بوسعها أن تحبَّني، قرأت الذُّعر في عينَيها، على الرغم مِن أن رُوح يان تسكن الآن بداخلي؛ وقد استشعرَت كريستينا وجودَها. لا بدَّ إذن أن جسد يان هو جوهر يان الحقيقي، وجسد نيكولاس هو جوهر نيكولاس الحقيقي. إذا انتقلَت رُوح كريستينا إلى جسد السيدة تولاست، فهل يَنبغي عليَّ حينئذٍ الابتعاد عن كريستينا، عن شَعرها الذهبي، وعينَيها العميقتَين، وشفتَيها الجذابتَين، كي أشتهيَ جسد السيدة تولاست الضامر المُتغضِّن؟ لا، سيظلُّ النفور يَنتابني عند التفكير بها. رغم أنني لم أكن أمقتها عندما كانت رُوح نيكولاس سنايدرز بداخلي، وطوال ذلك الوقت لم تُهمَّني كريستينا البتَّة. لا بد أننا نحبُّ بأرواحِنا إذن، لولا ذلك لظلَّ يان يحبُّ كريستينا ولظللتُ أنا نيك البخيل. لكن ها أنا ذا أحب كريستينا وأستغلُّ عقل نيكولاس سنايدرز وذهبَه لإحباط جميع مُخططاته، وأمارس جميع الأفعال التي أعرف أنها ستُثير غضبه عندما يعود إلى جسده؛ وعلى النقيض من ذلك، لم يَعُد يان يَعبأ بكريستينا، وسوف يتزوَّج السيدة تولاست لما تَملِك من أراضٍ شاسعة وطواحين عديدة. لا شك أن الروح هي الجوهر الحقيقي للإنسان. إذن، أمن المفترض أن تُسعدَني فكرة الرجوع إلى جسدي، عالِمًا أنني سأستطيع حينها الزواج من كريستينا؟ لكنِّي لست سعيدًا؛ بل أشعر بتعاسة لا حد لها. فأنا، نيكولاس، لن أنتقل مع روح يان، أشعر بذلك؛ بل إنَّ روحي، روح نيكولاس، سوف تعود إليَّ. وسأُصبح مجددًا ذلك العجوز البخيل القاسي الغليظ القلب الذي كنتُه قبلًا، باستثناء أني سأكون فقيرًا ولا حول لي ولا قوة. سوف يَسخر الناس مني، وسوف ألعنُهم، لكنِّي سأعجز عن إيذائهم. وحتى السيدة تولاست لن ترغب فيَّ عندما تعرف كل شيء. ومع ذلك، لا بدَّ أن أنفِّذ تلك الخطة. طالَما أن رُوح يان تسكن جسدي، فسأظلُّ أحب كريستينا أكثر مما أحبُّ نفسي. لا بد أن أفعل ذلك لأجل خاطرها. أنا أُحبها، ولا أستطيع التوقُّف عن حبها.» نهض نيكولاس العجوز، وأخرج القنينة الفضية المُتقَنة الصنع، مِن حيث خبَّأها قبل شهر. ثم قال متأملًا، بينما يرجُّ برفق القنينة بجوار أذنه: «لم يتبقَّ بها سوى ملء كأسَين.» ووضعها على المكتب أمامه، ثم فتَح سجلَّ الحسابات الأخضر القديم من جديد، فكان لا يزال أمامه عمل لا بد مِن إنجازه. أيقَظ كريستينا مبكرًا. وقال لها آمرًا: «خذي تلك الخطابات، يا كريستينا.» ثم أضاف: «عندما تُسلمينها كلها، وليس قبل ذلك، اذهبي إلى يان، وأَخبريه أنني أرغب في مقابلته هنا لمناقشة أمر عاجل يتعلَّق بالعمل.» ثم قبَّلها وبدا أنه كاره لرُؤيتها وهي ترحل. ابتسمت كريستينا قائلةً: «سأَغيب لبعض الوقت فحسب.» ردَّ عليها: «وما الفراق سوى غياب لبعض الوقت فحسب.» كان نيكولاس العجوز قد توقَّع المتاعب التي كان سيَلقاها بعد ذلك. فيان كان سعيدًا بحاله، ولم يَرغب مُطلقًا في أن يعود شابًّا عاطفيًّا أحمق، يتُوق إلى تكبيل نفسِه بالزواج من فتاة لا تملك سنتًا. بل كان لدى يان أحلام أخرى. بيد أن نيكولاس صاح به في نفاد صبر: «اشرَب، يا رجل، اشرب، قبل أن أُغيِّر رأيي. سوف تُصبح كريستينا أغنى عَروس في زاندام إذا تعهَّدت بالزواج منها. إليك عقد البيع هذا؛ اقرأه، اقرأه بسرعة.» عندئذٍ قبِل يان، وشرب الرجلان. ومرة أخرى شعَرا بنفحة من الهواء تمرُّ بينهما، فغطَّى يان بيديه عينَيه للحظة. كان ذلك مِن سوء حظِّ يان على الأرجح؛ لأنَّ نيكولاس انتزع في اللحظة نفسها عقد البيع الموضوع بجوار يان على المكتب. وفي اللحظة التالية كان يَحترق بلهيب نيران المدفأة. وتعالى صوت نيكولاس الخشن مُردِّدًا: «أنا لستُ فقيرًا مثلما ظننت! أنا لستُ فقيرًا مثلما ظننت! أستطيع البدء مِن جديد، أستطيع البدء من جديد!» وشرع ذلك المخلوق يتراقَص بينما تتردَّد ضحكاته الشنيعة، فاردًا ذراعَيه العجوزَين أمام النيران المشتعلة، تحسبًا لأن يُحاوِل يان إنقاذ مهر كريستينا المُحترِق قبل أن يَصير هباءً. لم يُخبر يان كريستينا بما حدث. فمهما قال لها، كانت سوف تعود إلى بيت نيكولاس. وعندما رجعت طردها نيكولاس قبل أن تدلف من الباب مصحوبةً باللعنات. لم تستطع فهم ما جرى. كل ما أدركتْه بوضوح هو أن يان كان قد عاد إليها. فسَّر يان موقفه قائلًا: «نوبة عجيبة من الجنون تملَّكتني.» ثم أضاف: «سوف يُساعدنا نسيم البحر العليل على استعادة صحتنا.» وهكذا وقف يان وكريستينا على سطح سفينة يان، وراقَبا مدينة زاندام القديمة وهي تَبتعِد رويدًا رويدًا إلى أن اختفَت عن ناظريهما. بكت كريستينا قليلًا عندما فكرت أنها لن ترى المدينة مجددًا أبدًا؛ لكن يان واساها، وفيما بعد حلَّت وجوه جديدة محلَّ الوجوه القديمة. أما نيكولاس العجوز فتزوَّج من السيدة تولاست، ولحُسن الحظ لم يَعِش ليمارس شرَّه إلا لبضع سنوات إضافية. وبعد زمن طويل، حكى يان لكريستينا القصة كاملةً، لكنها بدت لها بعيدة الاحتمال جدًّا، ولم تُصدِّقها — رغم أنها لم تَقُل ذلك ليان طبعًا — بل اعتقدت أن يان كان يُحاول تفسير الشهر الغريب الذي كان قد قضاه في التودُّد للسيدة تولاست. رغم ذلك، كان مِن العجيب حقًّا أن نيكولاس تبدَّل كليًّا في ذلك الشهر القصير نفسه. فكَّرت كريستينا: «ربما لو لم أُخبر نيكولاس أني أحبُّ يان، لما عاد إلى سيرته الأولى. يا لَلرجل العجوز المسكين! لا شكَّ أنه رجع كما كان بدافع اليأس.»
جيروم كيه جيروم (١٨٥٩-١٩٢٧): روائي وكاتب مسرحي كوميدي إنجليزي. من أشهر أعماله الرواية الكوميدية «ثلاثة رجال في قارب»، والتي حقَّقت ناجحًا ساحقًا، وتُرجِمت إلى العديد من اللغات. ومن أهم أعماله الأخرى «أفكار تافِهة لرجل كسول»، و«ثلاثة رجال في رحلة بالدراجات»، ورواية سيرة ذاتية بعنوان «بول كلفير».
https://www.hindawi.org/books/83841857/
النسيان
أحمد فؤاد الأهواني
«حقًّا إن الثقة بالنفس فضيلة في كل شخصٍ يريد أن يعيش في هذه الحياة سيدًا لا مَسودًا، وحاكمًا لا محكومًا، وعزيزًا لا ذليلًا. وهي ألزمُ الفضائل لمصر في عهدها الجديد. وهي أول شرط من شروط التذكُّر؛ لأن الذاكرة ليست شيئًا آخر إلا «النفس»، فالثقة بها حياة الذاكرة، أو حياتها.»الذاكرة هي الماضي الذي عليه نستند، وهي الأساس لثقتنا في أنفسنا وخوض معارك الحياة وتأسيس العلاقات وقطعها، وتبادُل الحب والكُره وسائر مشاعر النفس، وتَدبُّر العقل وممارسة التفكير. وفي كتاب «النسيان» يُناقِش الدكتور «أحمد فؤاد الأهواني» أسرار الذاكرة وعلاقتها بشخصية الإنسان، ويُبيِّن لنا علةَ النسيان وأسبابَه العلمية وطُرقَ الحفظ وأنواعَه. وبأسلوبه السهل البسيط الذي يُشعرك أنك تقرأ قصةً أدبية يُفسِّر لنا أسباب نسيان الأحلام وذكريات الطفولة وما نعيشه في حياتنا اليومية، ويُقدِّم لنا دليلًا للتدرب على عدم النسيان أو تقوية الذاكرة عَبْر إرشاداتٍ سبعة بسيطة باستطاعة الجميع تنفيذُها والاعتيادُ عليها.
https://www.hindawi.org/books/83841857/1/
فوائد الذكر وغوائل النسيان
أدام الله عليك نعمة الثقة بالنفس، وعمَّر قلبك بالإيمان، وأيَّدكَ بفضيلة الذكر، وأبعد عنكَ آفة النسيان. وقد رجَوتُ منك — أيها الأخ الصديق — أن تذكُر ما طلبتُه منك، فزعمتَ أنك لا تنسى! اللهم وجلَّ مَنْ لا يسهو، سبحانه وتعالى؛ فهو القائل في محكم التنزيل: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا (البقرة: ٢٨٦)، فكيف تذهب في ثقتكَ بنفسكَ، واعتزازكَ بها، واطمئنانكَ إليها، واعتمادكَ عليها إلى دعوى العصمة من النسيان؟ حقًّا إن الثقة بالنفس فضيلة في كل شخصٍ يريد أن يعيش في هذه الحياة سيدًا لا مَسودًا، وحاكمًا لا محكومًا، وعزيزًا لا ذليلًا. وهي ألزمُ الفضائل لمصر في عهدها الجديد. وهي أول شرط من شروط التذكُّر؛ لأن الذاكرة ليست شيئًا آخر إلا «النفس»، فالثقة بها حياة الذاكرة، أو حياتها. ولا تحسبَن أني ألعب بالألفاظ حين أجعل النفس مرادفة للذاكرة؛ فأنت تعرف ولا ريب مذهب برجسون، وتعرف كتابه المشهور «المادة والذاكرة» الذي يقابل فيه بين الجسم والنفس، بين المخ والشعور، إلى أن يقول في ختام كتابه: «بالذاكرة نصبح حقًّا في ميدان النفس.» وسأزيدك بهذه النظرية بيانًا خلال فصول هذا الكتاب. وإنكَ لعلى حقٍّ حين عوَّلتَ على الذاكرة وأودعتَها ثقتك؛ لأن فوائد الذاكرة في الحياة النفسية والاجتماعية من الخطر، بحيث تبطل كل حياةٍ تخلو من الذاكرة، وترتقي الأحياء مع سعتها وشمولها وحسن استخدامها. ولعلك تَعجَب من نسبة الذاكرة لسائر الكائنات الحية كالنبات والحيوان، ولكن عجبك يزول بعد النظر إلى أصناف الذاكرة، أو إلى قسمَيها المشهورَين؛ الآلية والشعورية. والعادة ميلٌ إلى أداء عمل من الأعمال نتيجة التكرار، حتى يصبح هذا العمل «آليًّا» كالمشي والكتابة وتناول الطعام وما إلى ذلك. ويتجه معظم علماء النفس المحدَثين إلى إخراج هذه الأعمال الآلية من ميدان الذاكرة التي يقصُرونها على الأمور التي ندركها مع شعور ومعرفة. ومع ذلك، فنحن نلاحظ في حياتنا اليومية اختلال بعض الأعمال العادية التي نُكرِّرها آليًّا، ولا يمكن أن نُعلِّل هذا الاختلال إلا بالنسيان. مثال ذلك الذي يصلي العصر وهو يعلم أنه أربع ركعات، يُكرِّرها اعتيادًا، وقد ينسى فيزيد ركعة أو ينقص ركعة من غير أن يدري، إذا كان مشغول البال. ورأيتُ زميلًا في أيام التلمذة منذ أكثر من ثلاثين عامًا وقد لبس وهو ذاهب إلى المدرسة «لبدة» فوق رأسه، بدلًا من الطربوش، فلما نبَّهتُه إلى ذلك عاد إلى منزله مسرعًا وغيَّر لباس رأسه؛ ذلك أنه كان معتادًا أن يصلي الصبح مغطيًا رأسه بهذه اللبدة، فنسِيَها على رأسه مع العجَلة. ويُروى عن أديسون — فيما أذكر — أنه أخذ يَحُل مسألةً رياضية عويصة اشتغل بها عقله وهو في الشارع، فأخرج من جيبه قطعة من الطباشير، ورأى أمامه عربة أجرة ظهرها أسود كالسبُّورة، فشرع يكتب عليها، حتى إذا سارت العربة رأى الناسُ رجلًا يجري وراءها وهو ممسك بالطباشير ولا يزال يكتب. من أجل ذلك عدَّ بعض علماء النفس الأعمال العادية من جملة الذاكرة، وفسَّروا اختلالها بالنسيان ولو أنه صادر عن اللاشعور. ولنرجع إلى بيان فوائد الذاكرة بوجهٍ عام، دون اقتصار على ذاكرة المعرفة والشعور؛ فقد تُفسِّر لنا هذه النظرة الشاملة حقيقة الذكر وطبيعة النسيان. وتَتبَّع العلماء نشأة الذاكرة في أنواع الحيوان كالأسماك والزواحف والطيور والثدييات المختلفة، وانتهوا إلى هذا القانون الخاص بالذاكرة وهو: يزيد النسيان مع الجذْر التربيعي للزمن الذي ينقضي بعد الحفظ والاكتساب. وهذا القانون، قانون النسيان الذي ينطبق على الحيوانات، ينطبق كذلك على الإنسان، مما يدل على أن الطبيعة تجري من حيث الحفظ والاكتساب، ومن حيث النسيان تبعًا لقانونٍ واحد. فالعادات التي تُكتسَب مع التكرار تُسهِّل العمل، وتجعله أدقَّ وأسرع وأتقن. ولا نَودُّ الإطناب في بيان فوائد الذاكرة الآلية، ولنتحدث عن مزايا ذاكرة المعرفة التي تمتاز بالشعور وبإدراك الزمان الماضي. لقد ارتدَّت هذه الفتاة كالطفل الرضيع قبل أن يدرك؛ فالطفل في الشهر السادس يبدأ بمسك الأشياء التي تُحيطه بيدَيه، كالكوب مثلًا أو الصندوق، فيضع يده بداخله، ويتحسس جوانبه، ويظل على هذه الحال مدةً طويلة؛ لأن إدراك الصندوق بالبصر لا يؤدي إلى معرفة طوله وعرضه وعمقه، بل تتدخل في معرفته عدة إحساساتٍ بصرية ولمسية، وسمعية أيضًا لإدراك صلابته، وهذه كلها تجتمع وقتًا بعد وقت، وترتبط بعضها ببعضها الآخر، حتى يدرك الطفل بعد اجتماع هذه الخبرة على مر «الزمان» في صفحة «الذاكرة» أن هذا الشيء صندوق. والذاكرة هي التي تعين الإنسان على التصوُّر وعلى التخيُّل السليم أو المريض. فإذا استحضرتَ صورة صديقٍ لك في ذهنك، فإنما تستعين بالذاكرة على استحضارها، وإذا تخيَّل مهندس مشروعًا مثل زراعة الصحراء والبحث عن الوسائل المختلفة لريِّها، فإنه يلجأ إلى معلوماته السابقة. والتمييز بين الذاكرة والتخيُّل معروف من قديم، فهذا أرسطو يقابل بينهما؛ لأن الذاكرة تشمل الصور التي سبق إدراكها في الماضي واختزنَتْها الذاكرة كما تحتفظ الخزانة بالأشياء، فالتذكر في هذه الحالة يؤدي إلى التمييز بين الماضي والحاضر، وبين الحقيقي والمُتخيَّل. إننا نتذكر الواقع، ولكننا أحرار أن نتخيَّل ما نشاء. وفي ذلك يقول كانط: «إذا تخيَّلتُ منزلًا، ففي إمكاني أن أتمثل السقف في أسفله والأساس في الهواء، ولكني حين أتذكَّر منزلًا فأساسه دائمًا في أسفل وسقفه في أعلى الهواء.» وهذا التأليف الوهمي يعتمد على معرفة عناصر البيت وأجزائه التي سبق إدراكها واحتفظَت الذاكرة بها. والحال كذلك في الأحلام. وليس للطفل الوليد شخصية؛ إذ ليس له ماضٍ، وليست له ذاكرة، وهو عند ولادته، ويظل كذلك بضعة أشهر، جزء من العالم كنقطة من ماء البحر، حتى يبدأ في تمييز أنيتُه، والشعور بوجوده ذاتًا مستقلة هي «الأنا»، في مقابل ما عداه؛ أي «اللاأنا». وإذا تأمَّلتَ الطفل في الشهر السادس تجد أنه يقبض على الأشياء بيده ثم يُلقيها بعيدًا عنه، ثم يطلبها حتى إذا قَبضَ عليها ألقاها ثانية، وهكذا حتى يثبُت عنده، أو في «ذاكرته» أن هذه الأشياء مختلفة عنه، وأن «أنا» الطفل مغايرة لهذه الأشياء، فإذا تَتبَّعنا تكوين هذه الأنا، وهي النفس، وهي الشخصية التي تُميِّز هذا الشخصَ عن ذاك وهذا الفردَ عن هذا الفرد، رأينا أنها ليست شيئًا آخر إلا اجتماع الذكريات واختزانها عن الأشياء الخارجية التي نُدركها، وهذه الأشياء ذات فائدةٍ لنا وهي التي نتعامل وإيَّاها. وكلما كَبِر الطفل اتسعَت أمامه دائرة هذه الأشياء، وأصبح لكل فرد عالمٌ خاص يعيش فيه ويذكُره أكثر من غيره. سألني تاجرٌ صديق تلقَّى تعليمًا يسيرًا، فقال إنه يحاول أن يستكمل تعليمه وبخاصة اللغات كالفرنسية والإنجليزية لفائدتهما في عمله، ولكنه لا يُحسُّ في نفسه إقبالًا، ويضيق صدره إذا قرأ كتابًا، وتعلُّم اللغات يحتاج إلى ذاكرةٍ جيدة، مع أن النسيان ليس طبيعة فيه؛ لأنه يتذكر «فواتير» الحساب بأرقامها حتى بعد مُضي عدة سنوات، فما سبب هذا الفتور، وما علة ضعف ذاكرته في غير التجارة؟ وتعليل ذلك يسير؛ لأن شخصيته شخصيةُ تاجر، فهو يذكُر كل ما يتعلق بفنه، والتجارة عنده هي العالم الذي يعيش فيه ولا يَحفِل بسواه. والحال كذلك في كل صاحب صناعة؛ فالممثل المطبوع بحفظ أدوار تمثيليته ولا يجد في ذلك مشقَّة؛ فالشخصية تمتص من العالم الخارجي ما يُلائمها وتذكُره ولا تنساه. إنها تفاعل بين الأنا واللاأنا، تحتفظ فيه الأنا بأمور وتُغفِل غيرها، وهذه الأمور التي تحتفظ بها لا تتوقف على تأثير اللاأنا فقط، بل على استعداد الأنا الطبيعي. وهذا هو السبب في أن الأشقَّاء تختلف شخصياتهم مع أن تأثير البيت واحد. وكذلك تلاميذ المدرسة الواحدة الذين يعيشون معيشةً داخلية، ويخضعون لنظامٍ واحد، ويتأثَّرون بمُعلِّمين بأعيانهم، يختلفون فيما بينهم باختلاف أخذهم عن هذه التأثيرات. والصفات المُكوِّنة للشخصية يكتسبها صاحبها من البيئة وتستقر في نفسه بالتذكُّر، ونعني بهذه الصفات الميلَ إلى الاجتماع أو الانطواء على النفس، وإلى العدوان أو المسالمة، وإلى النظام والترتيب أو الفوضى، وغير ذلك، فالشخصية هي مجموعة ذكرياتٍ معينة تُكتسَب في الماضي وتظل مستمرةً في الحاضر. ذلك أن المعاني الكلية، وهي حجَر الزاوية في الحياة العقلية، تُكتسب من النظر إلى المعاني الجزئية، فيحتفظ الإنسان بالمتشابه منها ويرتفع إلى تكوين معنًى كلي، وهذا ميلٌ طبيعي، نعني القدرة على التعميم، تُعين الذاكرة عليه. ويبدو هذا الميلُ عند الطفل الصغير، فهو يعرف أباه ويُميِّزه رجلًا لأن له شاربًا، فإذا رأى رجلًا آخر له شارب قال عنه «بابا». وعندما يَكبَر بعض الشيء، يجد أن الشارب ليس من الصفات الجوهرية التي تُميِّز الرجال. وعلى هذا النحو يدرك الطفل عندما يبلغ الثالثة أو الرابعة المعاني الكلية العامة للأشياء التي تُحيطه كالتفاح والبرتقال والباب والنافذة والعصفور والقطة والكلب وما إلى ذلك، حتى إذا قَدَّمتَ إليه تفاحة ميَّزها وعرف أنها من هذا الصنف. وعلى هذا النحو أيضًا تنشأ المبادئ العقلية التي تُكتسَب من التجارب وتُحتفَظ بالذاكرة، مثل مبدأ التشابُه الذي رأينا أنه أساسُ تكوين المعاني الكلية، ومبدأ السببية، وهو عماد العلوم. وقد أنكر الفلاسفة حقيقة هذا المبدأ وناقشوا صدقه وذهبوا إلى انعدام الضرورة التي تربط بين الأسباب والمسببات، كما فعل الغزالي وهيوم وكثير من المُحدَثين. ويقول الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» ليست النار هي التي تحرق القطن؛ إذ يجوز في المستقبل أن ينعدم فعل النار. ولكن الطفل الصغير الذي لا يعرف النار ولا يعرف أنها تحرق، يرى ذلك لأول مرة، ويُجرِّب ذلك على نفسه، فإذا اقتربَت يده من النار وأحسَّ بألم إحراقها، ثبَت ذلك في ذاكرته، فلم يعاود اللعب بالنار، وأصبح يُدرك أن النار «علة» الإحراق، بل أكثر من ذلك يُعمِّم الطفل السبب ويطلقه على الأمور المشابهة؛ ولذلك جاء في أمثال العامة: «اللي يخاف من الثعبان يجري من الحبل.» حتى إذا ارتقت الإنسانية، واجتمعَت لديها التجارب جيلًا بعد جيل، اشتدَّ ساعد العلم، وصاغ العلماء القوانين والنظريات. وليست القوانين العلمية إلا تلخيصًا واسعًا للمشاهدات يستند إلى الذاكرة، مثل قولنا الحرارة تُمدِّد الأجسام، والخشب يطفو على وجه الماء، والجسم المغمور في الماء يندفع من أسفل إلى أعلى بقوة تساوي حجم السائل المزاح، وهكذا. وليست هذه القوانين من عمل فردٍ واحد، بل هي أثَرٌ اجتماعي نتيجة الحضارة ونتيجة الذاكرة الاجتماعية وتُقدِّم التجارب البشرية على مر الأجيال، حتى إذا ازدحمَت العقول بالمعلومات، وعجز الفرد الواحد عن استيعابها في صفحة ذاكرته، احتاجت الإنسانية إلى وسيلةٍ أكثر رسوخًا لحفظ هذه المعلومات، فاخترعَت الكتابة، ثم الطباعة، وأُنشئَت المكتبات التي تزخر بآلاف المجلدات والتي تختزن تاريخ الأمم وسير الأفراد والملوك وأنواع العلوم المختلفة مما لا يمكن أن تعيه ذاكرة فردٍ واحد. وكلما ارتقت الحياة الاجتماعية وتقدَّمَت الحضارة، أصبحَت حاجة الإنسان إلى المعرفة الواسعة بالأحداث الجارية والماضية، وبالفنون المختلفة والصناعات المتباينة، وبالعلوم التي تقوم عليها هذه الفنون والصناعات أشد وألزم حتى يستطيع مسايرة ركب الحياة. هذا إلى أن الحياة الحديثة لا تحتاج إلى الثقافة العامة الواسعة فقط، بل إلى «التخصُّص» الشديد في كل فن، حتى لقد انقسَم الطب إلى فروع، واختص في كل ناحية من كل فرعٍ إخصائيٌّ، لا يتعدى أحدهم على اختصاص غيره. وهذا هو الشأن في الزراعة، كالذي يختص بزراعة القطن، أو القمح أو الأرز، أو الخضر، أو الفاكهة. وقد رأيت في الريف قومًا ينقطعون إلى زراعة الطماطم، وآخرون إلى غرس الموز ويُسمَّى الواحد «موَّازًا». وحدَّثَني مزارع أنه مختص بزراعة البطاطس فقط، وكذلك الحال في التجارة وسائر الفنون والصناعات. ولما كانت هذه المعلومات لا تحصل إلا بعد زمانٍ طويل، يقضي المرء بعضه في المدرسة، وبعضه في الحياة العامة، وكانت هذه المعلومات واسعة سَعةً عظيمة تشمل المطوَّلات من الكتب، احتاج الطلاب ولا ريب إلى ذاكرةٍ قوية منظَّمة يستعينون بها على تحصيل هذه المعلومات؛ وبخاصة لأن المجتمع الحديث يحكم على الفرد بمقدار علمه؛ أي بمقدار تحصيله، فلا يقبل صاحب العمل عاملًا أو موظفًا إلا بعد امتحان، ولا ينجح الطالب في المدرسة إلا بعد اجتياز الامتحان، ومن أجل ذلك برزت قيمة الذاكرة عاملًا هامًّا من عوامل النجاح في الحياة. ونشأَت عن ذلك دراساتٌ حديثة تهدف إلى بيان أقوم الطرق للتذكُّر وأحفظها عن النسيان، وأجرى العلماء تجارب استخلصوا منها قوانين التذكُّر وقوانين النسيان، وانتهَوا إلى أن السبيل القويم لحفظ المعلومات واستحضارها عند الحاجة إليها هو حسن تنظيمها وتصنيفها، ثم ربطها بعضها ببعضها الآخر، وأن يكون الإنسان سيد ذكرياته يطلبها حين يحتاج إليها فتستجيب له حتى لا تصبح عبئًا ثقيلًا لا قيمة له. ومع هذه الفوائد الكثيرة للذاكرة في سائر أنواع الحياة، فالنسيان مفيد في كثير من الأحيان، بل قد يكون ضروريًّا. والذاكرة في واقع الأمر مزيج من الذكر والنسيان، حتى لقد ذهب بعض علماء العربية إلى أن لفظ الإنسان مشتق من النسيان. ولا تعجبنَّ من قولنا إن النسيان ضروري للحياة النفسية؛ لأن ما تقع عليه أبصارنا كل يوم وكل ساعة وكل لحظة لا يدخل تحت حصر، وكذلك جميع ما يصل إلينا بطريق الحواس، فلو ذكرنا كل شيء لاختلط الجليل بالتافه، وامتزج المفيد باللغو والباطل. وقد حدَّثتُك عن ميل الطفل الطبيعي إلى صوغ المعاني الكلية التي يُركِّز فيها المجموعة الواسعة من المحسوسات، وحدَّثتُك عن اتجاه الحضارة إلى تلخيص العلوم في صيغة قوانينَ عامة تغني عن الجزئيات. ثم إن الحياة بطبيعتها متطورةٌ متغيرة يحتاج فيها المرء إلى ملاءمة نفسه مع هذه الألوان المتغيرة من الحياة، فيُضطر إلى تحرير نفسه من الماضي بنسيانه؛ ليتسنَّى له التوافق مع الحياة الجديدة؛ لذلك كان النسيان ضروريًّا لحرية الإنسان، فلا يعاود حياته الماضية كما هي. هذا إلى أن كثرة تَرداد الذكريات الماضية يجعلها عاديةً أوتوماتيكية، فيصبح المرء كالآلة، أو كالحيوان الذي يتصرَّف بالغريزة، ويصبح عبدًا لها لا سيدًا حاكمًا صاحبَ سلطان عليها. ويحتاج استخدام الذاكرة إلى اختبار، وينبغي أن نحسن هذا الاختيار إذا أردنا النجاح في الحياة، فلا ينفك المرء عبدًا لحياته الماضية يعيش فيها أبدًا ولا يخرج عن دائرتها. وكثيرًا ما يكون النسيان ردَّ فعلٍ طبيعيًّا لسلامة الحياة واستقامتها؛ فقد تمر بالإنسان ذكرياتٌ فاجعة كلما استعادها تألَّم الألم الشديد، كالذي ذهبت ثروته أو فقد ابنه الوحيد، فإذا لم يستطع إلى النسيان سبيلًا بإرادته، أو لم تُعِنه الطبيعة بفقدان الذاكرة، فضَّل الموت على حياةٍ مملوءة بالآلام، فأقدم على الانتحار، والشواهد على ذلك كثيرة في التاريخ نذكر منها مأساة كليوباترا ومارك أنطوان.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/83841857/
النسيان
أحمد فؤاد الأهواني
«حقًّا إن الثقة بالنفس فضيلة في كل شخصٍ يريد أن يعيش في هذه الحياة سيدًا لا مَسودًا، وحاكمًا لا محكومًا، وعزيزًا لا ذليلًا. وهي ألزمُ الفضائل لمصر في عهدها الجديد. وهي أول شرط من شروط التذكُّر؛ لأن الذاكرة ليست شيئًا آخر إلا «النفس»، فالثقة بها حياة الذاكرة، أو حياتها.»الذاكرة هي الماضي الذي عليه نستند، وهي الأساس لثقتنا في أنفسنا وخوض معارك الحياة وتأسيس العلاقات وقطعها، وتبادُل الحب والكُره وسائر مشاعر النفس، وتَدبُّر العقل وممارسة التفكير. وفي كتاب «النسيان» يُناقِش الدكتور «أحمد فؤاد الأهواني» أسرار الذاكرة وعلاقتها بشخصية الإنسان، ويُبيِّن لنا علةَ النسيان وأسبابَه العلمية وطُرقَ الحفظ وأنواعَه. وبأسلوبه السهل البسيط الذي يُشعرك أنك تقرأ قصةً أدبية يُفسِّر لنا أسباب نسيان الأحلام وذكريات الطفولة وما نعيشه في حياتنا اليومية، ويُقدِّم لنا دليلًا للتدرب على عدم النسيان أو تقوية الذاكرة عَبْر إرشاداتٍ سبعة بسيطة باستطاعة الجميع تنفيذُها والاعتيادُ عليها.
https://www.hindawi.org/books/83841857/2/
صفحات الماضي وأغوار الزمان
ذاكرة المرء كتاب تُسطَّر صفحاته على مر الأيام؛ فهي أشبه بالمفكرة التي يسجل فيها الإنسان يومياته، ويكتب فيها الأحداث التي مرت عليه ليرجع إليها في المستقبل عند الحاجة يقرأ ماضيه. وكلٌّ منا يكتب يومياته في مفكرته على نحوٍ معين هو الذي يهمُّه، وكذلك ذاكرة كل واحدٍ منا لا تحتفظ إلا بما شاء أن يُسجِّله، فهي تُثبت وتمحو، تُثبت ما يهمنا، وتُغفِل ما لا نَحفِل به، فلا تحسبن أن الذاكرة تسجل كل بادرة وخاطرة وواقعة. وكما تُصاب اليوميات بآفاتٍ فتتآكل منها صفحات، ويبهت الحبر الذي تُكتب به بعض الصفحات وبخاصة القديمة منها، وقد يُنتزع منها بعض الصفحات فتتطاير وتضيع، وقد تُصاب بخرمٍ تذهب معه بعض الأوراق، كذلك الذاكرة الإنسانية تُصيبها مثل هذه الآفات، فتضيع منها صفحات، ويبهت بعضها الآخر، ويُمحى بعضها الثالث، وكل ذلك في صفحات الماضي الذي سجَّله المرء خلال الحياة. وهذه الآفات هي التي يُعبَّر عنها بأمراض الذاكرة، وهي التي تُحدِّد أنواع النسيان، مما نفرد له فصلًا برأسه فيما بعدُ. أما الآن فنوَدُّ أن نتحدث عن هذا الزمان الذي يضُم في صدره هذه الذكريات، ما هو؟ وعلى أي هيئةٍ يكون؟ الزمان هو الماضي والحاضر والمستقبل. أو هو ما فات وما هو آتٍ. أما الآن أو الحاضر فهو نقطة وهمية في بحر الزمان؛ لأنك كلما أردتَ الوقوف عندها مر بك الزمان، فإذا بها تصبح من جملة الماضي. وإذا وقفتَ عند الحاضر واستغرقتَ فيه نسيتَ الزمان، ويطول هذا النسيان بمقدار استغراقكَ فيما أنت فيه واستمتاعكَ به. وقد تمر بك الساعة كأنها لحظة، أو تمر بك اللحظة وكأنها دهر. ومن المعروف أن الناس يقطعون الوقت بالحديث والسمَر والاستماع إلى الموسيقى والذهاب إلى السينما أو دور التمثيل، فأنت تقطع الوقت بأن تستغرق في شيءٍ خارجي يُنسيك نفسك فيُنسيك الزمان. من أجل ذلك كان التذكُّر وثيق الصلة بالزمان، أو هو الزمان عند بعض الفلاسفة. قد ترى شخصًا فتُحدِّث نفسك أين رأيتَه، وتُفتِّش في ذاكرتك وتُقلِّب صفحات كتابها حتى تدرك أنك رأيتَه في الإسكندرية في مكانٍ معين من العام الماضي، وقد تُحدِّد الوقت أكثر من ذلك فتعرف اليوم والساعة. مهما يكن من شيء، فالذي يهمنا هو استحضار الذكرى من الماضي إطلاقًا، أما تحديدها في مكانٍ معين وزمانٍ معين فهذا شيءٌ آخر مكمل للذاكرة الجيدة. ولنفرض أنكَ دخلتَ حجرة لأول مرة، فأدركتَ فيها الأثاث موضوعًا بشكلٍ معين، وأدركتَ الصور المعلقة على الجدران، ثم دخلتَ هذه الحجرة نفسها بعد عام، فإنك تدرك في الحال أنكَ قد سبق لك رؤية هذه الأشياء في زمنٍ مضى سواء عرفتَ الوقت الماضي تمامًا في اليوم والساعة، أو عرفتَ فقط أنه كان في الماضي. أما إذا نسيتَ، ووقفتَ في هذه الحجرة وكأن كل شيء فيها جديد بالنسبة إليك، أصبح الماضي الذي مر بك كأن لم يكن، وإذا أنت تعيش في الحاضر فقط. فالنسيان فقدان بعض أحداث الماضي، والنسيان المستمر فقدان الزمان. إنها تذكُر اسمها ولكنها لا تذكر سنها ولا عنوان سكنها، وهي لا تدري أنها كانت ذات مهنة مع أنها زاولت الطب ٢٥ سنة، وكانت تُشرِف بنجاح على أحد المستشفيات. إنها لا تكاد تقرأ الصحيفة حتى تنساها، وتنسى الإجابات عن الأسئلة، والزوُّار الذين يحضرون لرؤيتها، وتعتقد أنها ترى وجوه المتصلين بها منذ مرضها لأول مرة مع أنها تراهم كل يوم. وقد خُيِّل إلى بعض الفلاسفة أن الزمان ليس شيئًا خارجيًّا له حقيقةٌ واقعة، بل هو من أنفسنا، كما ذهب إلى ذلك كانط فقال: إن الزمان صورةٌ عقلية أولية نفرضها على الأشياء حين ندركها. ويقول برجسون في كتابه «المعطيات المباشرة للشعور»: إن التعاقب الذي نراه في مرور عقارب الساعة، إنما يُوجد بالنسبة لملاحظٍ شاعر يتذكر الماضي. ينشأ إدراك الزمن والإحساس به من تقلب المظاهر الخارجية مع اختلافها في النوع والشدة وتناسُبها في الإيقاع، كاختلاف الليل والنهار، وانتقال الشمس من المغرب إلى المشرق وما إلى ذلك، فإذا كنا في النهار ذكَرْنا أننا كنا بالأمس في الليل، ولو نسينا ذلك الليل ما أدركنا هذا التعاقُب. ولو عشنا في ليلٍ مستمر ما عرفنا الأيام. وقد حكى مسجون وُضِع في زنزانة لا نوافذ لها ولا إضاءة فيها أنه لم يعُد يعرف الوقت. وعند زوال تعاقُب الأشياء واختلافها نفقد الإحساس بالزمان الذي يدور، أو بالأشياء التي تتحرك داخل الزمان. وهذا ما يحدث لمن يجلس على شاطئ البحر الهادئ ويستغرق في النظر إليه، فينسى كم لبث وينسى الزمان. ولذلك كان النوم الهادئ العميق من الفترات التي يقطعها المرء خارج الزمان. ونحن لا ندرك كم مضى علينا من الوقت في النوم إلا حين ننظر إلى المظاهر الخارجية، فنرى أن النور قد أشرق، ونعلم أن الصبح قد طلع، وفي ذلك يقول تعالي: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ (البقرة: ٢٥٩). ومع ذلك فالإنسان يستطيع إدراك الوقت دون الاستعانة بمقياسٍ خارجي، كالساعة الدقاقة مثلًا، يدركه وهو نائم، فإذا كنتَ معتادًا أن تستيقظ في الصباح الساعة السادسة كل يوم لتذهب إلى عملك، فإنك تستيقظ في هذا الموعد تمامًا حتى لو كان اليوم يوم عطلة. ورَوَى شخصٌ أنه لم يكن معتادًا النوم بعد الظهر أبدًا إلى أن اضطجع ذات مرة على أريكة، فأخذه النوم عصرًا واستيقظ عند الأصيل فرأى النور باهتًا قبل الغروب، فخُيِّل إليه أنه قد استيقظ في الفجر قبل الميعاد، فأغمض عينَيه ليكمل نومه، ولكنه لم يستغرق في النوم، ففتح عينَيه ليرى أن الظلام قد أصبح دامسًا، وعندئذٍ فقط أدرك أنه كان قد نام بعد العصر. ورُوي عن بعض الفلاسفة المُحدَثين أنه لم يكن يحمل ساعة اعتمادًا على إحساسه الشخصي بالزمن. وهكذا كان الناس يفعلون قبل اختراع الساعات الدقَّاقة. جملة القول: الذاكرة هي التي تمدُّنا بالإحساس بالزمان وتعاقُب الأحداث، وهي التي تُهيِّئ لنا سبيل قياس الزمان. والذاكرة هي التي تمدُّنا بفكرة الزمان المستقبل قياسًا على الماضي، والواقع أننا لا نبصر المستقبل، بل نتبصَّره، أو نتوقَّعه. والحياة في جملتها حركة إلى الأمام يعمل الإنسان حسابها بمقتضى ما فات. ولو ذهب عن الإنسان هذا المعنى لأصبح كالحيوان الذي يعيش في حاضره، أو تُكيِّفه الظروف الخارجية، أو تدفعه الغريزة العمياء، أو كالوليد الرضيع الذي لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ولكنه يعيش مع ذلك. ولسنا نحيا حياة الوليد الذي لم يدرك بعدُ، بل حياة العقلاء الذين يعتمدون على ماضيهم في العمل مستقبلًا. ولقد استطاع الإنسان أن يُجرِّد فكرة الزمان، وأن يستخلصها، وأن يمضي بها في المستقبل إلى غير نهاية، فنشأت من ذلك فكرة «الأبد» وهو لا نهاية الزمان في المستقبل، كما أن «الأزل» لا نهاية الزمان في الماضي، وكان الأزل والأبد عماد سائر الأديان عند المتحضرين، بل لقد طبَّق الإنسان هذه الفكرة على نفسه، فاعتقد في خلود الروح بعد فناء البدن. فالذاكرة هي التي تمدُّنا بفكرة الزمان ماضيه وحاضره ومستقبله، فالذاكرة والزمان متصلان اتصالًا وثيقًا. وقد أجرى بعض العلماء أبحاثًا لبيان هذه الصلة سواء عند الحيوان أو عند الإنسان فيما يختص بما سمَّوه «الزمان الحيوي» أو البيولوجي والزمان الحيوي متصل بالحاجات البيولوجية كالطعام والشراب واليقظة والنوم وإخراج الفضلات وما إلى ذلك. وهذا الزمان الحيوي أساس الذاكرة الآلية التي حدَّثتُك عنها. وقد أثبت العالم الروسي بافلوف هذه الصلة عند بحثه عن الأفعال المنعكسة المتعلقة بشرط. وفي تجربته المشهورة على الكلب، كان يُقدِّم له الطعام في وقتٍ معين فيفرز الكلب اللعاب عند رؤية الطعام؛ لأن الطعام مؤثرٌ طبيعي يدفع إلى إفراز اللعاب. وكان يدُق مع تقديم الطعام جرسًا، وبعد عدة مرات كان يكفي أن يسمع الكلب دقَّة الجرس حتى يفرز اللعاب. ونحن كذلك نُحقِّق حاجاتنا الطبيعية في مواعيدَ تعلَّمناها وتعوَّدناها طبقًا لدورةٍ زمانية لا تخطئ، فإذا حان موعد الغداء شعرنا بالجوع، ويقضي الطفل الرضيع حاجته في مواعيدَ دون أن يلوث فراشه. وإذا تعوَّد أحدنا أن يستيقظ في ساعةٍ معينة استيقظ في هذا الموعد حتى في أيام العطلة. وأول أيام الصوم في رمضان يكون عسيرًا لخروج المرء عما ألفه، وفي بعض الأحيان ينسى الصائم فيأكل نهارًا. ومن الفكاهات التي تُروى أن صائمًا دخل المسجد يُصلِّي الظهر جماعة، فتحسَّس جيبه فوجد فيه بلحًا، فأخرج بلحةً وأخذ يأكلُها، فغَمزَه جاره يريد أن يُنبِّهه ويَنهَره، فقال له: «والله هذه آخر بلحة وليس معي غيرها.» والذاكرة هي أساس الزمان الاجتماعي، هذا الزمان الذي اصطلح المجتمع عليه في تسيير أموره وضبط أحوال معاشه؛ فقد اهتدى قدماء المصريين إلى السنة الشمسية لحاجتهم إلى الزراعة ومعرفة مواعيد الحرث والبذر والحصاد، وأصبح الزمان موضوعيًّا خارجيًّا يُقسَّم إلى أعوام، وتُقسَّم السنة إلى فصول وإلى أيام. ولم يكن الزمن في أول الأمر ثابتًا موضوعيًّا كما أثبت دوركهايم وماوس في أبحاثهما الاجتماعية، بل نشأ أولًا في ضمير الشعوب البدائية لخدمة الاحتفالات الدينية والأعياد والمواسم، ثم نشأ التقويم السنوي تابعًا لهذه الاحتفالات والأعياد، ثم انتقلَت فكرة الزمان من الذاتية إلى الموضوعية وأصبح الزمان عامًّا للمجتمع بأسره، لا ملكًا لشخص، حتى أضحى الفرد مضطرًّا إلى التزام توقيت المجتمع الذي يعيش فيه والخضوع لقيوده. وإذا كره الإنسان المجتمع هرب منه، وهرب من هذه القيود، وتَحلَّل من هذه الالتزامات، فترى الطالب يذهب متأخرًا إلى مدرسته، وكذلك الموظف إلى عمله، أو يستعين المرء بما يجعله ينسى الزمان، فينغمس في شرب الخمر، أو تدخين الأفيون والحشيش، وهذا ما بيَّنه مورو دي تور وكوينسي وبودلير في مذكرات آكل الأفيون، حيث يُخيَّل للمدمن أن الدقيقة دهر، وأن اللحظة التي يعيشها أبدٌ لا ينتهي. وإنما استطردنا إلى الكلام عن الزمان؛ لأنه أساس الذاكرة يحتوي في صدره على سر الأحداث الماضية ويطويها في زوايا النسيان. وإذا أسفر الزمان عن وجهه، أشرقَت الذكريات. وإذا احتجب، حجبها معه وغابت عن الأنظار. فما هي علة إشراقه؟ وكيف تُسجَّل الأحداث على صفحة الزمان؟ وما سبب احتجابه؟ وكيف تختفي الذكريات في خبايا النسيان؟ هذا هو موضوع الفصول المقبلة حيث نتحدث في الفصل الآتي عن طرق التعلُّم والاكتساب، وعما سمَّاه العلماء ﺑ «خط التعلُّم» وكيف يتجه صاعدًا على مر الأيام؛ لأن النسيان متوقف على التعلُّم، فكلما كان التعلُّم أجود وأنظم وأثبت كان النسيان أقل وأبطأ. وإذا أردنا أن نعالج النسيان فعلينا أن نحسن التعلُّم، ثم نتحدث في الفصل الذي يليه عن «خط النسيان» الذي يتجه هابطًا على عكس خط التعلُّم الذي كان يتجه صاعدًا، وكلا الخطَّين يُبيِّنان التعلُّم العادي والنسيان السليم. أما الشذوذ في النسيان الذي يُعَد مرضًا فهذا بابٌ آخر. ولا نَودُّ في هذا الكتاب الصغير أن نشير إلى مذاهب القدماء الذين زعموا أن النفس تعلم كل شيء قبل اتصالها بالبدن، حتى قال أفلاطون إن العلم تذكير والجهل نسيان. أو مذاهب الذين يعتقدون في علم النفس بعد مفارقتها البدن سواء في حالة الحياة أم بعد الموت، كما زعم الرئيس ابن سينا وغيره؛ لأن هذه المباحث تُخرِجنا عن نطاق العلم.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/83841857/
النسيان
أحمد فؤاد الأهواني
«حقًّا إن الثقة بالنفس فضيلة في كل شخصٍ يريد أن يعيش في هذه الحياة سيدًا لا مَسودًا، وحاكمًا لا محكومًا، وعزيزًا لا ذليلًا. وهي ألزمُ الفضائل لمصر في عهدها الجديد. وهي أول شرط من شروط التذكُّر؛ لأن الذاكرة ليست شيئًا آخر إلا «النفس»، فالثقة بها حياة الذاكرة، أو حياتها.»الذاكرة هي الماضي الذي عليه نستند، وهي الأساس لثقتنا في أنفسنا وخوض معارك الحياة وتأسيس العلاقات وقطعها، وتبادُل الحب والكُره وسائر مشاعر النفس، وتَدبُّر العقل وممارسة التفكير. وفي كتاب «النسيان» يُناقِش الدكتور «أحمد فؤاد الأهواني» أسرار الذاكرة وعلاقتها بشخصية الإنسان، ويُبيِّن لنا علةَ النسيان وأسبابَه العلمية وطُرقَ الحفظ وأنواعَه. وبأسلوبه السهل البسيط الذي يُشعرك أنك تقرأ قصةً أدبية يُفسِّر لنا أسباب نسيان الأحلام وذكريات الطفولة وما نعيشه في حياتنا اليومية، ويُقدِّم لنا دليلًا للتدرب على عدم النسيان أو تقوية الذاكرة عَبْر إرشاداتٍ سبعة بسيطة باستطاعة الجميع تنفيذُها والاعتيادُ عليها.
https://www.hindawi.org/books/83841857/3/
خط التعلُّم
حضرتُ العام الماضي «سيرك مدرانو» الذي نصب خيامه بالقرب من ميدان محطة مصر، ولم يكن الدافع لي مجرد اللهو وتزجية الفراغ أو الترويح عن النفس، بل للتأمُّل والدرس والاطلاع على تجاربَ واقعية، أو نتائج التجارب التي أجراها أصحاب السيرك — وهم أشبه بالحُواة — على حيوانات يُخيل إليك أنها أبعد الأشياء عن التدريب والترويض، كالسبع والفيل والنمر والخيل والكلاب وغير ذلك. وقد يُخيَّل إليك أن السبع يسمع كلام مُروِّضه، كما يسمع الطفل المطيع كلام أمه ويُنفِّذ أمرها، فيصعد درجًا، ثم يقفز من خلال حلقةٍ ملتهبة بالنار، ثم ينزل الدرَج من الناحية الأخرى، فكيف وصل المروِّض إلى تدريب هذا الوحش وتأديبه حتى يبلغ به هذا الحد من السلوك المخالف لطبعه من جهة، والمقيد بنظامٍ دقيق موقوت لا يخطئ من جهةٍ أخرى؟ فن الترويض خاضع لقوانينَ نفسانية، وهذه القوانين تعُمُّ الحيوان الأعجم والإنسان الذي يدرك ويفهم. فالإنسان حيوان ولا يمتاز عن سائر الحيوانات إلا بالكلام، ولذلك عرَّفوا الإنسان بأنه حيوانٌ ناطق. وهو يتعلم الحركات الآلية كما يتعلم الحيوان، ويتعلم فوق ذلك كيف يتكلم أي لغة، وقد يتعلم عدة لغات إذا احتاج إلى التفاهُم مع قوم يتكلمون بغير لسانه، بل أصبح الإنسان مع تقدُّم الحضارة وانتشار التعليم في حاجة إلى تعلُّم لغةٍ أخرى أجنبية أو عدة لغات؛ ليطلع على ثمار الأفكار وقرائح العقول وأحدث المختَرَعات وآخر الاكتشافات العلمية حتى يُسايِر ركب الحضارة. واللغة ألفاظ تحمل معاني. واللفظ رمزٌ إذا لم تفهم معناه أصبح مجرد صوتٍ يصعُب تذكُّره. وليست الألفاظ هي الرموز الوحيدة التي تجري بين الناس في المجتمع؛ فالحساب والجبر والقوانين العلمية المختلفة رموز كذلك. وما معنى س + ص = كذا؟ وما معنى جدول الضرب؟ ومع ذلك فالطفل حين يذهب إلى المدرسة مضطر إلى تعلُّم هذه الرموز اللغوية والحسابية وغيرها، على الرغم من خُلوِّها من المعنى وظهورها بمظهر الطلاسم. ولذلك يشقى التلميذ في تعلُّم هذه الأمور، وليس له من سبيل إلا أن يلجأ إلى الذاكرة الصمَّاء. فالذاكرة منها آليةٌ حركية، ومنها لفظية وهي التي سمَّيناها في أول الكتاب ذاكرة المعرفة، وهي المخصوصة بالإنسان. وقد أجرى العلماء تجاربَ كثيرة على كلا النوعَين من الذاكرة. ولنبدأ بالذاكرة الآلية ولننظُر كيف يتعلم الحيوان. والإنسان يتعلم على هذا النحو أيضًا. ولنفرض أن السيد مصطفى عبد العزيز أراد أن يتعلم الآلة الكاتبة، فاشترى آلة حملها إلى منزله، وجلس أمامها وأخذ يجرب كتابة رسالة إلى صديق، وكانت تبدأ كما يلي: «حضرة السيد محمد أبو ريشة.» فلما أراد أن يكتب السطر التالي رأى غلطًا كثيرًا في السطر الأول، قاف بدلًا من ضاد، واو بدلًا من راء، وهكذا، فإنه يضيق ويعاود ثانية، ويحاول تَجنُّب الأخطاء الأولى، فيجد أنه تحسَّن بعض الشيء في المرة الثانية، فيعاود ثالثة، ومن جملة هذه المحاولات التي يتجنَّب فيها الأغلاط السابقة يتحسَّن تعلُّمه ويسير إلى الأمام. يخضع خط التعلُّم هنا لأمورٍ ثلاثة: المحرك، وعدد مرات المحاولة، والمكافأة. أما المحرك فهو الباعث الخارجي الذي يشتاق إليه الحيوان أو الإنسان، فيندفع بجميع قواه النفسية إلى بلوغه؛ فالسلحفاة تريد بلوغ العُش، ومصطفى عبد العزيز يريد تعلُّم الآلة الكاتبة لنفعها في عمله. والأصل في المحرِّك أن يكون طبيعيًّا، ولذلك كان التعلم طبيعيًّا في الكائن الحي، فطلبُ الطعام، والانعطاف نحو الجنس الآخر، وبعض الحاجات الفسيولوجية كلها محركاتٌ فطرية، وهي الأصل كذلك في تحريك الإنسان، لولا أنه مع الحضارة ظهرت محركاتٌ جديدة دعت إليها الضرورة الاجتماعية، كالمال، والمنازل الاجتماعية المختلفة التي تجلب السلطان أو الشهرة أو المجد، والعلم، وغير ذلك. ولا تزال الوظائف الحكومية هي المحرك الأكبر لهمة الشعب في مصر، والسبيل إلى بلوغها هو الالتحاق بالمدارس والحصول على «الشهادة»؛ لأنها مُسوِّغ التعيين في الوظيفة. وحين اجتمعَت كلمة الأمة على إخراج الإنجليز من منطقة قنال السويس، ورأى المصريون ألا سبيل إلى إجلائهم إلا بالقتال، تهافَتوا على تعلُّم السلاح واستعماله، وأُنشئَت معسكرات التدريب في حرم الجامعة وفي غيرها من الميادين، فكان إجلاء الإنجليز هو المحرك لتعلُّم الفدائيين. فإذا فعل المُحرِّك فعله، وبعث الهمة، واندفع الإنسان يتعلَّم، فليس يكفي مرةٌ واحدة يُجرِّب فيها السلوك الجديد كي يتقنه، ولا مرتان، بل مراتٌ كثيرة يتحسَّن خلالها، ويسير «خط التعلُّم» كما رأينا إلى الأمام بسرعة، ثم يبلغ حدًّا يقف عنده. فالتَّكرار ضروري في تثبيت الحفظ وتمكين التعلُّم. هذا هو تفسير التكرار الجسماني وأثره في اكتساب المهارة، أما التكرار اللفظي وأثره في الحفظ فله تعليلٌ آخر نذكره فيما بعدُ. وللتعلُّم طريقٌ آخر خلاف المحاولات والابتعاد عن الغلط هو «التعلُّم الشرطي» الذي بيَّن أساسه العالم الروسي بافلوف وتجربته على الكلب الذي يسيل لعابه عند دق الجرس قد عرفتَها من قبلُ. وقد حدَّثتُك في أول هذا الفصل عن الحيوانات التي يشاهدها المتفرجون في السيرك تقوم بالعجيب من الأفعال. ومن المشاهد المألوفة عندنا القرداتي الذي يعرض فنه على الجمهور فيطلب من القرد أن يضرب «تعظيم سلام»، فيقف على قدمَيه الخلفيتَين ويرفع يدَيه للتحية. أو العرب الذين يُرقِّصون الخيل على صوت الموسيقي، وقد سألتُ أعرابيًّا كيف درَّب حصانه على الرقص، وعجبتُ أن الحصان على غير ما أعتقد لا يسير على توقيع الوزن الموسيقى، بل الراكب هو الذي يشُدُّ اللجام شدًّا معينًا ويضربه بالمهماز ضربًا خاصًّا، بحيث يستجيب الحصان للشدِّ والهمز، فيُخيَّل إليك أنه يستجيب من تلقاء نفسه للموسيقى. ويعتمد هذا التدريب كله على مبدأ ربط المؤثر الطبيعي بمؤثرٍ جديد، بحيث يتعلق المؤثِّر الطبيعي بهذا «الشرط»، ومن أجل ذلك سُمِّي ذلك التعلم شرطيًّا؛ أي متعلقًا بشرط جديد؛ ففي المراعي الواسعة حين يرغبون في رد المواشي عن الأسوار ويُرغمونها على البقاء داخلها، يُكهربون الأسوار حتى إذا هجمَت عليها البقرة أحسَّت بلسعة الكهرباء في أنفها، وفي الوقت نفسه ترى السور، وعندئذٍ يكفي أن ترى البقرة السور فتبتعد عنه. ونحن نتعلم، ونُعلِّم أبناءنا، ونُعلِّم الشعب، طبقًا لهذا القانون. نحن نُعلِّم الطفل الوليد قضاء حاجته في مواعيد وفي إناءٍ خاص. ونُعلِّم أفراد الشعب الذين يقودون السيارات أن يقفوا في الطريق عند رؤية الضوء الأحمر؛ حتى يصبح ذلك عملًا آليًّا يكفي أن يرى السائق النور الأحمر فيقف، ومع ذلك قد ينسى، وهذا منشأ حوادث السيارات. لا ريب أن الذي يتعلم قيادة السيارات يخطئ في البداية، وكلما طال به الزمن ورسخَت في نفسه العادة قل خطؤه؛ فأول شرط في عدم النسيان كثرة التَّكرار ورسوخ العادة. وهناك أسبابٌ أخرى نذكرها في موضعها. ونسيان الأعمال الآلية محتمل، وقد تترتب عليه نتائجُ خطيرة؛ ولذلك ينبغي أن يأخذ المرء حذره حتى لا ينسى فيضر نفسه أو غيره؛ فمدرب النمر أو الأسد في السيرك يمسك بيده مسدسًا خشية نسيان الوحش ما تعلَّمه ورجوعه إلى توحُّشه. وقد ينسى الجراح مِشرطًا أو مِقصًّا في بطن الجريح بعد إجراء العملية، ولذلك يَعُدون المشارط قبل العملية وبعدها توقيًا للنسيان. وهناك مبدأٌ آخر خلاف المحاولة والغلَط والتعلُّم الشرطي هو التعلُّم عن طريق «المحاكاة»، سواء عند الحيوان أو عند الإنسان. ونحن نتعلَّم كثيرًا من ألوان السلوك الاجتماعي عن هذا الطريق، نكتسبها من الأب والأم والأهل في الأُسْرة، ومن المجتمع الذي نعيش فيه؛ كطريقة الأكل والملبس والمشي والنطق والصلاة في المسجد أو الكنيسة، وآداب السلوك المختلفة وغير ذلك. غير أننا حين نُرسل الطفل إلى المدرسة، نطلب منه تعلُّم اللغة والأدب والحساب والجبر والهندسة والطبيعة والكيمياء وعلوم الأحياء، ولا ننتظر منه أن يتعلم بطريق المحاولة والخطأ أو الشرط أو التقليد، بل لا بد أن «يحفظ» هذه العلوم ومبادئها عن ظهر قلب؟ لأنها أساسٌ لا غنى عنه في كسب العلوم بعد ذلك، مثل القرآن الكريم وهو أساس الدين واللغة والعربية، أو على الأقل بعض أجزائه، ومثل المحفوظات في اللغة نَثرًا أو شِعرًا يتأدَّب بها المرء ويتفصَّح لسانه ويعلو بيانه، ومثل جدول الضرب في الحساب، ومنطوق النظريات الهندسية، وبعض القوانين في الميكانيكا والطبيعة والكيمياء، وما إلى ذلك. هذه المحفوظات جميعًا تُسمَّى «لفظية» على خلاف الأعمال العادية التي نتدرَّب عليها ونَمهر في أدائها. والسبيل إلى تعلُّمها وحفظها هو تَكْرارها وتسميعها عدة مرات حتى تثبُت في الذهن. وقد أجرى العلماء على هذا الضرب من التعلُّم اللفظي عدة تجاربَ وخرجوا أيضًا بخط للتعلُّم، وبيَّنوا أثَر مرات التَّكرار، وفائدة التسميع، وفضل التَّكرار الموزَّع على عدة أيام. وقد رُوِيَ عن قوم وُهِبوا ذاكرةً قوية تستطيع حفظ ما يُلقى عليهم أو ما ينظرون فيه بعد مرةٍ واحدة، وهذا نوعٌ من الشذوذ لا ينطبق على أغلبية الناس. رُوي أنه كان المتنبي يجلس في شبابه إلى ورَّاقٍ فوجد عنده كتابًا من كُتب الأصمعي يتكون من نحو ثلاثينَ ورقة، فأخذ ينظر فيه طويلًا. قال له الورَّاق: يا هذا أريد أن أبيعه، وقد قطَعْتني من ذلك، فإن كنتَ تُريد حفظه في هذه المدة القصيرة فبعيد. فقال له المتنبي: إن كنتُ حفظتُه فما لي عليك؟ قال: أهبُ لك الكتاب. ثم أخذ الورَّاق الكتاب، وجعل أبو الطيب يتلوه عليه إلى آخره، ثم أخذه وجعله في كُمِّه وقام، فعلِق به صاحبه وطالبه بالثمن، فقال: ما إلى ذلك سبيل، قد وهبتَه لي. فتَرَكَه عليه. ويُروى عن أحد الخلفاء أنه كان على استعدادٍ أن يدفع وزن القصيدة ذهبًا إذا كانت جديدة، وكان عنده ثلاثُ جوارٍ؛ الأولى تحفظ القصيدة بعد سماعها مرةً واحدة، والثانية بعد مرتَين، والثالثة بعد ثلاثِ مرات، فإذا تقدَّم شاعر إلى بلاط الخليفة، جعل الجواري خلف الستر، وطلب منه إنشادها، فتسمعها الأُولى، فيقول الخليفة هذه قصيدةٌ معروفة وعندي جارية ترويها. فترويها الجارية الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فيخرج الشاعر بغير جائزة. وعرف الشعراء الحيلة، فتقدَّم شاعر بقصيدةٍ معقَّدة يصعب حفظها مطلعها «صوتُ صفيرِ البلبل»، فعجِز الجواري عن تسميعها. ويُستفاد من هذه القصة أن حفظ الأشياء ذات المعنى أيسرُ مما لا معنى له. وإنما يسهُل حفظُ ما له معنى؛ لأنك تستطيع «ربطه» بشيءٍ آخر، وأن تصله بجملةِ ما تعلَّمتَه من قبلُ وأدركتَ معناه. ويلجأ العلماء في تجارب الحفظ إلى اصطناع مقاطعَ لا معنى لها وذلك لقياس المقدرة الصرفة على الحفظ. وفي بعض الأحيان يُجرون التجارب على حفظ أرقام؛ لأن الأرقام لا معنى لها، وكذلك الحال في حفظ الرموز الجبرية والاصطلاحات. لا ريب أن حفظ هذه الأشياء أبطأ، ولكن الذهن البشري يصل مع ذلك إلى حفظها، مع التَّكرار، وبقانون التلازم أحد قوانين الترابُط الثلاثة، وهي التلازُم والتشابُه والتضاد. والتلازُم ضروري في الحفظ، وهو عبارة عن تجاوُر الألفاظ. ومعظم الأطفال يحفظون عن ذلك الطريق، وتُسمَّى الذاكرة حينئذٍ «صمَّاء» أي ذاكرة لفظية بغير معنًى؛ ولذلك يُلاحَظ أن الذين يحفظون بهذه الطريقة يُكرِّرون ما حَفِظوه كالببغاء، وإذا توقَّف أحدهم أو نسي، يكفي أن تَذكُر له أول كلمةٍ في بيت الشعر فيُكرِّر البيت. وسوف نتحدث عن «خط التعلُّم» إطلاقًا سواء أكان خاصًّا بالأعمال الآلية أم المحفوظات اللفظية. وقد درس العلماء هذا الخط، وتتبعوا أشخاصًا سنواتٍ عدة، وأجرَوْا عليهم اختباراتٍ كثيرة بين حين وآخر لمعرفة أثَر التعلُّم. إذا تأملتَ في الرسم البياني رأيتَ خطًّا أفقيًّا، وآخر رأسيًّا، وجرت العادة أن يكون الخط الأفقي خاصًّا بمقدار التعلُّم، والرأسي يعتمد على الأول ويُبيِّن إما مقدار الغلط، أو الزمن المستنفَد، وما إلى ذلك. ولا يجري خط التعلُّم في استقامة، بل يعلو ويهبط غير منتظم؛ لأن قدرة المرء تتذبذب من لحظة إلى أخرى ومن يوم إلى يوم، وهذا يرجع إلى الحالة الجسمية التي تتأثَّر بالنوم والهضم وغير ذلك. يُضاف إلى ذلك أن المتعلم لا يستمر إلى غير نهاية، بل يتوقف بين حين وآخر، وقد تطول فترات التوقُّف أيامًا أو شهورًا. وإذا طال زمن التعلُّم سنوات، أشار خط التعلمُّ إلى ما يُسمَّى بالهضاب. و«هضبة التعلُّم» تدل على الثبات عند حدٍّ معين بلغه الشخص، ويستمر واقفًا عنده. مثال ذلك الذي يتعلم البلياردو فيصل بعد مدة إلى مستوًى معين من الإصابات الصحيحة في الساعة، وليكن أربعين، ثم يحاول بعد عام أن يُعدِّل من فنه فيرتفع إلى ستين، وهكذا. وهناك عواملُ كثيرة تُعين على سرعة التعلُّم. منها قوة الانتباه، أو التذكُّر بالقصد والإرادة؛ فقد ثبت من بعض التجارب في علم النفس — ولم يكن الغرض فيها قياس الذاكرة — أن المجرَّب عليهم لم يتذكَّروا من اللوحة التي عُرضَت عليهم إلا القليل جدًّا. ولذلك يجب البحث في شهادة الشهود في المحكمة؛ إذ قد تقع حادثة أمام عدد من الناس، فيُطلبون للشهادة، فينسى معظمهم تفاصيل ما دار بين الخصوم من حديث ومشاجرة وما إلى ذلك؛ لأن كثيرًا منهم لا يُلقون إلى أصحاب الحادثة بالًا، ولا يحسن التذكُّر إلا مَن انتبه إليهم بوجهٍ خاص. وللانفعالات أثَرٌ في الحفظ وتثبيته ونسيانه أو عدم نسيانه، فالانفعالات السارة التي تبعث البهجة وتُشيع الفرح تساعد على سرعة الحفظ، على حين أن الانفعالات المؤلمة التي تؤدي إلى الضيق والتبرُّم تمنع الحفظ. ويُلاحَظ أن الانفعال إذا كان شديدًا ألقى ضوءًا على ما يُحفظ فلا ينُسى، ولكن الخوف — إذا بلغ حد الرعب — أحدث ما يُشبه التوقُّف والشلل، فتُمحى الأشياء التي كانت مصدر الخوف من صفحة الذهن. ولا يساعد الضرب على التعلُّم على عكس ما يتصور كثير من الناس؛ لأن الضرب يؤلم حين وقوعه ويكون مصدر خوف للطفل قبل توقيعه، وإذا كان الضرب شديدًا لا يتعلم الطفل شيئًا، وإذا تعلم لم يثبت مما يتعلمه شيء في مستقبل حياته، ويُعالَج التعلُّم بالعقاب والثواب، وقد اتضح من التجارب النفسانية أن التعلم بطريق الثواب أشد ثباتًا من العقاب على الأخطاء. مهما يكن من شيء، فالعقاب لا بد منه لأنه شيءٌ طبيعي، كما يمسك الطفل النار فتحرق يده فيتعلَّم الحذر منها والابتعاد منها، ولا ينسى لسعتها. ويتعلم الناس بالمدح والذم، أما الثناء فهو من أعظم البواعث على سرعة الحفظ، وأنت لا تنسى الشخص الذي يُثني عليك، وتتعلق بالأمور التي تجلب لك المدح. وقد أجرى بعض العلماء تجربة على ١٠٦ من التلميذات لبيان أثر المدح والذم في الحث على العمل العقلي، فأعطاهن عددًا من المسائل الحسابية ليرى كم تحل كل تلميذة في ربع ساعة، وراقبهن خلال خمسة أيام، في كل يوم مجموعة جديدة من المسائل. وقسَّم التلميذات أربع مجموعات؛ الأولى يثني على عملها سواء أحسنَّ أم لم يحسنَّ العمل، والثانية تُؤنَّب علانية أمام الفصل على ما ارتكبَت كل واحدة من خطأ، على حين تُمتدح المجموعة الأولى ويثنَى عليها الثناء الجميل. ومجموعة ثالثة تُركَت وشأنها في تجاهل، لم تؤنَّب أي تلميذة منها أو يُثنَ عليها، ولكنهن كن يشهدن المدح والذم للأخريات. أما المجموعة الرابعة فوُضعَت في فصل على حِدَتها، ولم يُمتدح عملها أو يُذَم، ولم تشهد ما يفعله الأخريات، وكانت النتيجة بحسب مقدار العمل والتقدُّم فيه على هذا الترتيب: الأولى الممدوحة، والثانية المؤنَّبة، والثالثة المتجاهَلة، والرابعة المنعزلة، كما يتضح من الرسم البياني. وللاستعداد الفسيولوجي مدخلٌ عظيم في المعاونة على الحفظ أو إعاقته، ولذلك تختلف ساعات النهار وأوقات الليل اختلافًا كبيرًا باختلاف هذه الاستعدادات. غير أن نتائج المشاهدات دلت على أن الاختلاف فرديٌّ بَحْت لا يخضع لقانونٍ عام. أعرف قومًا يطيب لهم الحفظ عند الفجر، وآخرين في أول الليل وهكذا. ويختلف الأمر باختلاف الحالة الصحية أيضًا، وخصوصًا سوء الهضم الذي يُؤدِّي إلى سوء المزاج عمومًا. وقد أجرى العلماء تجارب عدة على الحفظ اللغوي، كالألفاظ، والنثر، والشعر، وأثبتوا أن ما يُحفظ عن طريق القراءة الصامتة والعالية؛ أي عن طريق البصر والسمع أفضل من الصامت فقط أو المسموع فقط. ويجد بعض الأفراد عسرًا في فهم الأشياء إذا قرءوا بصوتٍ عالٍ، ويُفضِّلون القراءة الصامتة. وإذا كتب الإنسان ما يريد حفظه كان ذلك أدعى إلى الثبات. وقراءة المحفوظات موقَّعة منغومة مما يساعد على الحفظ، ولذلك كان حفظ الشعر لأنه موزون أيسَرَ من حفظ النثر، وحفظ القصائد التي تُنشَد وتُغنَّى أشد يسرًا. ولهذا السبب نظم القدماء العلوم في أراجيز مثل ألفية ابن مالك في النحو، وأرجوزة ابن سينا في الطب. وإذا تأملتَ طفلًا في الخامسة تجده يُردِّد ما يسمع في البيت أو المدرسة منغومًا. وهناك طرقٌ تساعد على الاقتصاد في الزمن عند الحفظ، وهي الطريقة الكلية، والتَّكرار الموزَّع على فتراتٍ طويلة، والتسميع. فالطريقة الكلية أن تقرأ القصيدة بأكملها لا بيتًا بيتًا أو مجموعاتٍ صغيرة من عدة أبيات؛ لأن المعنى ينساب في الكل ويربط جميع الأجزاء. ولذلك يُلاحَظ أن الطالب الذي يحفظ مُتَّبِعًا الطريقة الجزئية يقف عند آخر كل جزء ويحتاج إلى من يُذكِّره بأول كلمة في الجزء التالي. ويحسُن بالطلبة الذين يستذكرون دروسهم أن يقرءوا الكتاب كله دفعةً واحدة، ثم يحفظون الفصول فصلًا فصلًا، لا صفحةً صفحة. إذا احتاج الأمر إلى تَكرارِ ما تحفظ عدة مرات، فالأفضل أن تُوزع هذه المرات على فتراتٍ طويلة، فالأجدى أن تقرأ القصيدة التي تريد حفظها مرة كل يوم لمدة سبعة أيام، من أن تقرأها سبع مراتٍ في ليلةٍ واحدة. ومن الطلبة من ينقطع طُولَ العام عن الدرس والحفظ اعتمادًا على الاستذكار قبل الامتحان مباشرة، فيحبس نفسه شهرًا في البيت يُعيد فيه دروسه، فإذا جاء يوم الامتحان وجد أنه قد نَسِي، والعلة في ذلك أن الفترة التي قضاها في الحفظ قليلة. وفضيلة التسميع على مجرَّد القراءة ترجع إلى الاعتماد على الذاكرة، وإرادة الحفظ، هذا إلى معرفة مقدار ما حفظه من يُسمِّع فيحثه ذلك على زيادة الحفظ، إلى جانب أن مرة التسميع تُعَد من مرات التَّكرار. فإذا اتبع المرءُ الطرق القويمة في الحفظ، كان ذلك أدعى إلى الثبات وأبعد عن النسيان.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/83841857/
النسيان
أحمد فؤاد الأهواني
«حقًّا إن الثقة بالنفس فضيلة في كل شخصٍ يريد أن يعيش في هذه الحياة سيدًا لا مَسودًا، وحاكمًا لا محكومًا، وعزيزًا لا ذليلًا. وهي ألزمُ الفضائل لمصر في عهدها الجديد. وهي أول شرط من شروط التذكُّر؛ لأن الذاكرة ليست شيئًا آخر إلا «النفس»، فالثقة بها حياة الذاكرة، أو حياتها.»الذاكرة هي الماضي الذي عليه نستند، وهي الأساس لثقتنا في أنفسنا وخوض معارك الحياة وتأسيس العلاقات وقطعها، وتبادُل الحب والكُره وسائر مشاعر النفس، وتَدبُّر العقل وممارسة التفكير. وفي كتاب «النسيان» يُناقِش الدكتور «أحمد فؤاد الأهواني» أسرار الذاكرة وعلاقتها بشخصية الإنسان، ويُبيِّن لنا علةَ النسيان وأسبابَه العلمية وطُرقَ الحفظ وأنواعَه. وبأسلوبه السهل البسيط الذي يُشعرك أنك تقرأ قصةً أدبية يُفسِّر لنا أسباب نسيان الأحلام وذكريات الطفولة وما نعيشه في حياتنا اليومية، ويُقدِّم لنا دليلًا للتدرب على عدم النسيان أو تقوية الذاكرة عَبْر إرشاداتٍ سبعة بسيطة باستطاعة الجميع تنفيذُها والاعتيادُ عليها.
https://www.hindawi.org/books/83841857/4/
خط النسيان
رأيتَ أن خط التعلم يسير صاعدًا، وسوف نُبيِّن لكَ أن خط النسيان على العكس يتجه هابطًا. وهذا الخط البياني الذي نُحدِّثك عنه يتعلق بالنسيان الطبيعي، أما النسيان الشاذ، أو أمراض الذاكرة، فهذا ما نُرجئ الحديث عنه إلى فصلٍ آخر. وكما أن التعلُّم أنواع فكذلك النسيان، فقد فرَّقنا بين ذاكرة العادة كالسباحة وركوب الدراجة ولعب البلياردو وقيادة السيارة والضرب على الآلة الكاتبة، وبين ذاكرة المعرفة أو الذاكرة اللفظية مثل حفظ سُوَرٍ من القرآن الكريم أو قصائدَ من الشعر أو جدول الضرب في الحساب وغير ذلك؛ وليس نسيان السباحة مثل نسيان سورةٍ قرآنية. ولو انقطعَت عن ركوب الدراجة عشرين عامًا وجرَّبتَ ركوبها بعد ذلك لوجدتَ أنك لم تَنسَ تلك الخبرة التي اكتسبتَها أيام الصبا والشباب، ولكنكَ إذا عُدتَ عشرين عامًا إلى الوراء تسترجع قصيدةً لامرئ القيس كنت تحفظها أيام الطلب لم يَجْرِ على لسانك من أبياتها إلا البيتُ أو البيتان، أو شطرةٌ من بيت. هل يجري النسيان طبقًا لقانون؟ وهل يكون النسيان كاملًا؟ وما هي عوامل النسيان؟ وقد اختلف العلماء في أمر النسيان، فذهب بعضهم إلى أن كل ما يدخل في خبرة المرء ويتأثَّر به لا يزول أبدًا ولا يُمحى، وذهب بعضهم الآخر إلى أن الإنسان لا يمكن أن يحتفظ بكل شيء، وقال بعضهم الثالث إن الأمور التي سبق حفظُها حفظًا جيدًا وثبتَت مع التَّكرار، هي التي لا تُنسى ويمكن استرجاعها في ظروفٍ خاصة، مثل حالات الهذيان، أو التنويم المغناطيس. وقد رُوِيَ عن شخصٍ تكلم بلغةٍ أجنبية كان قد تعلَّمها وهو في سن الثالثة ونَسِيها تمامًا. ويقول «تين» في كتابه «الذكاء» ما فحواه: لا يمكن معرفة حدود هذه الذكريات القديمة، ولا بد أن نُسلِّم بأن أي إحساسٍ مهما يكن عابرًا تافهًا باهتًا، له القدرة على الظهور دون أن يُفقَد منه شيء. روى أبركرومبي في كتابه عن «القوة العقلية» القصة التالية قال: «أُصيبَت سيدةٌ بمرضٍ مزمن فنُقلَت من لندن إلى الريف، وأحضروا إليها ذات يومٍ طفلتها ولم تكن تتكلم بعدُ، حيث مكثَت معها فترةً قليلة ثم أعادوها إلى المدينة. وتُوفِّيَت السيدة بعد أيام، وكَبِرتْ طفلتها دون أن تذكُر شيئًا عن أمها. وأُتيحَت لها فرصة زيارة الحجرة التي تُوفِّيَت أمها فيها، فلما دخلَت الغرفة ارتعشت مع أنها لا تعرفها، فلما سُئلَت عن علة انفعالها أجابت: إني أُحسُّ إحساسًا واضحًا كأني جئتُ من قبلُ إلى هذه الحجرة، وكان في هذا الركن امرأةٌ راقدة، يبدو أنها كانت مريضةً جدًّا، وانعطفَت نحوي وكانت تبكي.» وشبيهٌ بذلك ما رواه كاربنتر في كتابه «الفسيولوجيا العقلية» قال: ذهب رجلٌ له مزاج فنان مع بعض أصدقائه في رحلة على مقربة من قصر الكونت دي سوسكس الذي لا يذكر أنه زاره من قبلُ، فلما اقترب من الباب الكبير أحسَّ إحساسًا شديدًا بأنه سبقَت له رؤيته، بل تذكَّر كذلك قومًا يركبون حميرًا وآخرين يقفون إلى جوارها، فسأل أمه عن حقيقة الحال، فأخبَرَتْه أنه وهو طفل يبلغ ستة عشر شهرًا ذهب إلى ذلك المكان على ظهر حمار، وأنه بقي بالباب مع الحمير والخدم على حين دخل الآخرون القَصْر يتناولون الطعام. وإذا أضفنا إلى ذلك أن بعض علماء النفس الذين يدينون بمذهب اللاشعور وأثَره في الحياة النفسية، يزعمون أن الذكريات التي يُخيَّل إلينا أنها قد انمحَت في الظاهر ولا يمكن استرجاعها، لا تزال موجودة في اللاشعور تعمل وتُؤثِّر وتُحرِّك صاحبها، وهؤلاء العلماء يفترضون أن كل ما يكسب المرء يظل باقيًا في حالة من الكمون. هذه الفكرة، نعني «التشبُّع»، هي التي عَوَّل عليها «ريبو» في بيان أهمية النسيان؛ إذ بفضله يتيسر الاحتفاظ بما يكتسبه المرء فترةً طويلة من الزمن. ومن أجل ذلك رأى بعض العلماء أن النسيان وظيفةٌ حيوية إيجابية، وأنه نشاطٌ ذهني نافع في حذفِ ما لا يحتاجه العقل وما لا أهمية له. وإذا أبعدنا هذه النظريات كلها جانبًا، رأينا أن النسيان حقيقةٌ لا ريب فيها. وقد اتجه بعض العلماء في بحثهم هذا الموضوع اتجاهًا تجريبيًّا، وخرجوا بقانون النسيان الذي صاغوه صياغةً رياضية خاصة، ورسموه في خطٍّ بياني سمَّوه خط النسيان. والفضل في هذه المباحث للعالم النفساني إينجهاوس، وتَبِعَه في ذلك كثيرون. واعلم أن خط النسيان يتذبذب كما هي الحال في خط التعلُّم. والواقع أنه لا ينبغي الفصل بين الحفظ والنسيان؛ إذ كلاهما مكملٌ للآخر، أو قل إن التعلُّم صراع بين الحفظ الذي يتميز بالممارسة، والنسيان الذي يزيد بالترك. ولذلك قيل في الأمثال «آفة النسيان الترك.» وتتضح هذه الحقيقة من الرسم البياني الآتي: وتُجرى التجارب على النسيان، بأن يحفظ عددٌ من الطلبة شيئًا مُعينًا مثل بعض الألفاظ، ثم يُختبرون بعد ذلك، البعض بعد ساعة، والبعض الآخر بعد يوم، والبعض الثالث بعد يومَين وهكذا. وقد دلَّت التجارب على أن النسيان يكون سريعًا جدًّا بعد الحفظ مباشرة. وأوَّل من أجرى هذه التجارب هو هرمان إينجهاوس الذي جرَّب على نفسه أن يحفظ مقاطعَ لا معنى لها، ثم اختبر نفسه في اليوم التالي، فوجد أنه لم يسترجع إلا ثُلثها تقريبًا، واستمر النسيان بعد ذلك ولكن ببطء. على أن قيمة تجارب إينجهاوس ترجع إثبات هذه الحقيقة، وهي أن ما سبق اكتسابه ونُسِي، يمكن أن يحيا باكتسابٍ جديد مع الاقتصاد في الزمن، وهذا دليل على بقاءِ أثَر ما حُفِظ. مثال ذلك أنه إذا لزم تكرار مقاطع لا معنى لها ٢٠ مرة لحفظها، فإنه يكفي إذا نسيت أن تُكرَّر ٥ مرات؛ أي إن نسبة الاقتصاد هي ١٥ إلى ٢٠ أي ٧٥٪، وتحتاج بعد ذلك إلى اقتصاد ١٠ مرات أي ٥٠٪ وهكذا. ويتضح بمقتضى هذه التجارب أن النسيان أمرٌ طبيعي وتلقائي ومنتظم، ولو أن بعض العلماء من أصحاب التحليل النفساني، وعلى رأسهم فرويد، يَرَوْن غير هذا الرأي، فيذهبون إلى أن النسيان راجع إلى «الكبت» وإلى الرغبة اللاشعورية في هذا النسيان. وقد حَسبَ كثير من العلماء في تجاربهم على الاقتصاد في الزمن واتجاه خط النسيان وطلعوا بنتائجَ متقاربة. وهذه إحدى التجارب: وهذا هو الخط البياني للنسيان: ويُصاغ هذا القانون في معادلةٍ جبرية، فإذا رمزنا للزمن بحرف م، وبالمادة التي تحفظ بحرف د، وبمقدار الاقتصاد بحرف ق كانت المعادلة كما يأتي: هذا القانون عام، ولكنا إذا نظرنا إلى الأفراد نجد أنهم يختلفون فيما بينهم اختلافًا كبيرًا، وكذلك إذا نظرنا إلى طبيعة الأشياء التي حُفِظَت ثم تُنسَى فيما بعدُ. فالأعمال الآلية أعظم ثباتًا كما تُوضِّح التجارب الآتية: تعلَّم شخصٌ الآلة الكاتبة حتى بلغ من المهارة أن يكتب ١١٠٠ كلمة في الساعة بعد تدريب استمر ٤٨ يومًا، ثم انقطع عن الكتابة سنتَين، فاحتاج إلى عشرة أيام ليبلغ المستوى السابق؛ أي باقتصاد قدره ٧٩٪. أما الذاكرة اللفظية فلها شأنٌ آخر؛ لأن الألفاظ منها حروف، ومنها مقاطعُ لا معنى لها، ومنها أسماء أعلام، ومنها أسماء أشياء، ومنها أسماءٌ كلية عامة، ومنها صفات، ومنها ظروف وحروف جر تصل الكلام بعضه ببعضه الآخر، ومنها أفعال، وهذه كلها تتبع قانونًا في نسيانها وضعه «ريبو» في كتابه «أمراض الذاكرة»، أو أنه وضع قانونَين؛ الأول خاص بتعلُّم اللغة إطلاقًا لغة الكلام العقلي، ولغة الانفعالات، ولغة الإشارة؛ والثاني خاص بلغة الكلام العقلي. وطبقًا للقانون الأول تُنسى اللغة العقلية أولًا، ثم اللغة الانفعالية كعبارات التعجُّب ثانيًا، ثم لغة الإشارة ثالثًا. أما فيما يختص باللغة العقلية فإنها تخضع في نسيانها لهذا القانون، وهو الاتجاه من الخاص إلى العام، كما تعلَّم الطفل فهو يبدأ بالخاص وينتهي بالعام، ويسير النسيان بالعكس، فيبدأ بأسماء الأشخاص أو الأعلام، ثم بأسماء المحسوسات، ثم بالصفات ثم بالأفعال. وتستطيع أن تُفسِّر بهذا القانون العلة في نسيان أسماء الأصدقاء مع الاحتفاظ بصورهم، فكثيرًا ما تلتقي بشخصٍ تذكُره جيدًا وتذكُر عمله، ولكنك تنسى اسمه. أما فرويد فله في نسيان الأسماء تعليلٌ آخر. ويعتمد برجسون على هذا القانون في البرهنة على أن الذاكرة لا تنطبع في المخ؛ لأن الألفاظ إذا كانت قد حُفرَت في المخ فلماذا تختفي أسماء الأعلام دون الأفعال. أما الأفعال فإنها تدل على العمل، وأن العمل يمكن محاكاته فيُكتسب عن هذا الطريق، وبذلك تدخل الأفعال في الأعمال الآلية، وأن الصفات تكون عملية عن طريق الأفعال التي تحتويها، أما الأسماء فتحتاج إلى وساطة الصفات ثم الأفعال، فكلما ابتعدنا عن الأفعال إلى الأسماء ابتعدنا عن الأعمال التي يمكن تقليدها بواسطة الجسم، فهذه هي خلاصة تفسير برجسون لنسيان الأسماء والأفعال. جملة القول إذا كانت الحياة العقلية تشمل المحسوسات والصور الذهنية والمجردات التي تدل على المحسوسات كالرموز والأرقام والأسماء الشخصية والمعاني الكلية والقوانين العامة، مثل قانون العرض والطلب في الاقتصاد وما إلى ذلك، فإنها آخر ما تُنسَى، ويُوضِّح هذا الخط البياني نسبة النسيان في الأسماء والوقائع وفي المعاني الكلية والقوانين العامة. ومن جملة القوانين التي أوضحَتْها تجارب علم النفس الخاصة بالتذكر والنسيان، أن ما يُحفظ لأول مرة يغيب في هوةٍ من النسيان تمتد من يوم إلى ثلاثة أيامٍ باختلاف الأفراد، ثم يُذكر بعد ذلك. لنفرض أنكَ حفظتَ قصيدةً جديدة من الشعر لأول مرة، ثم أردتَ استرجاعها بعد يومَين، فإنك لا تجد إلى تذكُّرها سبيلًا، وفي اليوم الثالث تذكُرها. وتُسمَّى هذه المدة هوة أو فترة النسيان. ولذلك كان من الخطأ الشديد أن يستذكر الطالب درسه الذي سوف يُمتحَن فيه ليلة الامتحان. ويبدو أن العقل يعمل لا شعوريًّا، فيربط ما تُحصِّله بجملة ما يحتويه الذهن ويحتاج إلى هذه الفترة حتى يَستقرَّ ما يكتسبه. وقد أجمع المُحدَثون على أن السبب الأول في النسيان هو اختلاطُ الحفظ، أو تدخُّل شيءٍ جديد فيما تحفظه أو تدركه، فيُعطِّل أحدهما الآخر، فلو أن تاجرًا تقدَّم إليه شخصٌ اسمه حسن عبد المجيد، وفي الوقت نفسه آخرُ اسمه حسين كامل، وثالثٌ اسمه محمود عبد الواحد، ثم أراد بعد شهر أن يذكر اسم الأول لنسيه، أو على الأقل إذا كانت ذاكرته جيدة لقال حسين عبد المجيد بدلًا من حسن، أو حسين عبد الواحد، فجعل يخلط بينهم. والأغلب أن التداخُل يؤدي إلى التوقُّف والتعطيل. ويُلاحَظ أن الطالب في الفصل المدرسي إذا جلس يتحدث مع زميله لم يستطع أن يتذكَّر درس الأستاذ، ولذلك ينبغي الهدوء التام ساعة إلقاء الدرس. وإذا استذكر الطالب دروسه في المنزل بين ضجيج أهل الدار أو أهل الحي، وجد صعوبةً في التذكر فيما بعدُ، وكيف يتسنى للطالب الحفظُ على حين يعلو صوتُ المذياع طول الليل وخاصة في الأحياء الوطنية، وهي أحياءٌ شديدة الازدحام بالسكان، ولا يخلو الأمر من وفاة أو زفاف، فتُقام ليالي المأتم أو الزفاف في ضجَّةٍ شديدة، حتى لقد كثرت الشكوى وأراد بعض أُولي الأمر منع استعمال المذياع بسلطة القانون. وأفضل من ذلك أن يقطن المرء في الضواحي حيث يضمن الهدوء، فينصرف إلى عمله العقلي دون أن يعوقَه عائق. وليس من الضروري أن يكون العائق ساعة الحفظ، بل قد يكون بعد الحفظ، وقد يكون مستمرًّا، في صورة الهموم التي تنتابُ المرء. وانظر إلى شخصٍ قد تُوفِّي ابنه، أو هو طريحُ الفراش لا يجد له علاجًا، أو إلى تاجرٍ قد تراكمَت عليه الديون، تجده شارد الذهن ينسى كل شيء حتى الأعمال الآلية، فإذا به يغفُل عن طعامه؛ فالهموم من المُعوِّقات التي تتدخَّل في المحفوظات الذهنية فتُعطِّلها. فإذا شاء أحدنا أن يذكُر شيئًا ولا ينساه، فعليه أن يحفظَه وَحْدَه، وأن ينقطع له، ولا يسمح لشيءٍ آخر أن يعوق ما يحفظُه. وقد فطن القدماء بالتجربة الشخصية إلى ما فطن إليه العلماء المَحدَثون بالتجارب العلمية، فهذا أبو تمام يُوصي البحتري في صدْر وصيته بالقاعدتَين اللتَين ذكرناهما وهما الابتعاد عن الشواغل والنوم للراحة. وهذه هي الوصية بألفاظها كما رواها البحتري قال: «كنتُ في حداثتي أروم الشعر، وكنتُ أرجع فيه إلى طبعي، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه ووجوه اقتضائه حتى قصدتُ أبا تمام، وانقطعتُ فيه إليه، واتكلتُ في تعريفه عليه، فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة، تخيَّر الأوقات وأنت قليل الهموم صفو من الغموم. واعلم أن العادة جرت في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليفِ شيء أو حفظه وقتَ السحر؛ وذلك أن النفس تكون قد أخذَت حظها من الراحة وقسطها من النوم …» ووصية أبي تمام وصية خبيرٍ بالحفظ والرواية عليمٍ بأسباب النسيان، وكان فيما قال جيد الذاكرة يحفظ الشعر إذا سمعه مرةً واحدة، فقد اتصل البحتري بأبي تمام وسعى إليه في حمص فأنشده قصيدةً حفظها أبو تمام لأول مرة، ادَّعاها ليُكدِّر على البحتري خاطره أو ليُعاقبه على تقحُّمه عليه مواطن الإنشاد، ثم عاد فأفهمه أنه يُداعبه.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/83841857/
النسيان
أحمد فؤاد الأهواني
«حقًّا إن الثقة بالنفس فضيلة في كل شخصٍ يريد أن يعيش في هذه الحياة سيدًا لا مَسودًا، وحاكمًا لا محكومًا، وعزيزًا لا ذليلًا. وهي ألزمُ الفضائل لمصر في عهدها الجديد. وهي أول شرط من شروط التذكُّر؛ لأن الذاكرة ليست شيئًا آخر إلا «النفس»، فالثقة بها حياة الذاكرة، أو حياتها.»الذاكرة هي الماضي الذي عليه نستند، وهي الأساس لثقتنا في أنفسنا وخوض معارك الحياة وتأسيس العلاقات وقطعها، وتبادُل الحب والكُره وسائر مشاعر النفس، وتَدبُّر العقل وممارسة التفكير. وفي كتاب «النسيان» يُناقِش الدكتور «أحمد فؤاد الأهواني» أسرار الذاكرة وعلاقتها بشخصية الإنسان، ويُبيِّن لنا علةَ النسيان وأسبابَه العلمية وطُرقَ الحفظ وأنواعَه. وبأسلوبه السهل البسيط الذي يُشعرك أنك تقرأ قصةً أدبية يُفسِّر لنا أسباب نسيان الأحلام وذكريات الطفولة وما نعيشه في حياتنا اليومية، ويُقدِّم لنا دليلًا للتدرب على عدم النسيان أو تقوية الذاكرة عَبْر إرشاداتٍ سبعة بسيطة باستطاعة الجميع تنفيذُها والاعتيادُ عليها.
https://www.hindawi.org/books/83841857/5/
أمراض التعرُّف
كنتُ أركبُ ترام المترو عائدًا إلى مصر الجديدة ذات يوم، وجلس في المقعد أمامي شخصٌ لم أتمالك من تحيته؛ لأنه فضلًا عن زمالته في المدرسة الثانوية فهو صديقي، وهو يعمل محاميًا مشهورًا. ولم يرُدَّ هذا الشخصُ التحيةَ بأحسنَ منها أو بمثلها، ولكنه ردَّها ردَّ متجاهلٍ كأنه لا يعرفني، فعجبتُ وتأمَّلتُه طويلًا، إنه هو هو هيئةً وقوامًا وشاربًا، فقلت في نفسي لعله شخصٌ قريب الشبه منه، ولكني كلما نظرتُ إليه لم أجد بدًّا من الجزم بأنه صديقي الذي أعرفه، وأنكرتُ إنكاره معرفتي، وأردتُ التأكُّد من هذه المسألة فقلتُ له: ألستَ فلانًا؟ فأجاب كلا، فقلت له: ألست محاميًا؟ فأجاب إنه موظف بإحدى الوزارات. وكثيرًا ما يحدُث من الخطأ في التعرُّف حوادثُ غير محمودة، فهناك أشخاصٌ ترتفع بينهم الكُلفة إلى حدِّ التبسُّط، فإذا التقى أحدهم بصاحبه احتضَنه وقبله، أو إلى حد الهذر فيضربه أو يشتمه مثلًا، فانظر حرج الموظَّف حين يُفاجَأ شخصٌ بمن يلكمُه أو يزغدُه. وروى لي صديقٌ هذه النادرة العجيبة قال: كنتُ أسهر مع بعض أصدقائي في مقهى حتى منتصف الليل، ولأمرٍ ما أخرجتُ مفتاح منزلي فأخذه مني أحدهم ونسيتُ أن أسترده منه، ثم انصرفنا، وتحسَّستُ المفتاح فلم أجده، فعرفتُ أنه مع صاحبي الذي انصرف وكان أعزب زرتُ منزله مرةً واحدة قبل ذلك بعام، فرجعتُ مع صاحبي ناحية ذلك المنزل، ولكننا دخلنا المنزل المجاور الذي كان يُشبِهه، وصَعِدنا الدور الثالث ونقرنا على الباب، فخرجَت لنا خادمةٌ صغيرة، فقلنا لها: «هل سيدك محمد أفندي موجود؟» فقالت: «نعم، تفضَّلوا.» فدخلنا إلى صالةٍ صغيرة فيها مائدةٌ عليها طعام، ولم تكن بيننا وبين صديقنا كُلفة، ورأينا على المائدة طبقًا فأكلنا من الطعام الذي فيه، ولما غاب صديقنا عن الحضور، صحنا به وهممنا أن ندخل عليه حجرة النوم، وإذا بشخصٍ آخر يخرج وزوجته تُنادي به من الداخل أن يرى رأيه في هؤلاء الأصدقاء الذين يطرقون بابه بعد منتصف الليل. وأصَرَّ الرجل أن يصحبنا إلى قسم البوليس للتهجُّم عليه. والتعرُّف مُكملٌ للتذكُّر ولا يَعُدُّه العلماء مرحلةً أساسية منه، إذا كانت مراحل الذاكرة خمسًا؛ الحفظ والوعي والاسترجاع ثم التعرُّف والتحديد. ولنضرب مثلًا يُبيِّن هذه المراحل. طالب في المدارس الابتدائية يُعلِّمه المدرس أن دمشق عاصمة سوريا، فيحفظ الطالب هذه الحقيقة، وتستقر في ذهنه وتظل باقيةً في صفحة عقله دون أن ينساها، وهذا هو الوعي. وعند الامتحان يُجيب عن السؤال الآتي: ما عاصمة سوريا؟ إنها دمشق. وهذا هو الاسترجاع. أما إذا جاء السؤال على النحو الآتي: هل عاصمة سوريا بغداد أو دمشق أو بيروت، فأجاب إنها دمشق، فهذا تعرُّف؛ لأنه لا يسترجع اللفظ، بل يتعرَّف عليه. أما التحديد فهو وضعُ ما تتذكَّره في المكان أو الزمان، والتحديد مُكملٌ أيضًا للذاكرة. وقد تُعقَد بعض الامتحانات المدرسية على أساس التعرُّف لا الاسترجاع، كما بينَّا في السؤال السابق؛ تسهيلًا للطلبة. وأساس التعرُّف الحفظ السابق؛ لأنك تستعرض ذكرياتك وتُطبِّقها على هذا الشيء الذي تراه أو تسمعه، فإذا حدَث خطأ في التعرُّف كالأمثلة التي ضربناها، فعِلَّة ذلك ترجع إلى أمورٍ كثيرة، إما من الحفظ، وإما من عواملَ أخرى سوف نذكُرها، وقبل بيان هذه العوامل يجدُر تمييز أنواع التعرُّف، وهي تَرتَد إلى نوعَين أساسيَّين؛ تعرُّف الأُلفة، وتعرُّف الحكم، فالأول تعرُّفٌ وجداني، والثاني عقلي. ومن المشاهد أن الإنسان، والحيوان كذلك، يُحسُّ بإزاء الأشياء التي تحيطه في البيئة التي يُوجد فيها بأحد شعورَين؛ إما ائتلاف وإما نفور وغرابة. وكثيرًا ما يكون هذا الشعور غامضًا لا يستبين فيه المرء أي ذكرى قديمةٍ واضحة، ويحدُث ذلك عندما نسير في الشوارع التي أَلِفْناها والأماكن التي تعوَّدنا الاختلاف إليها. ومعظم الحيوانات تجد لذة في تمضية الوقت في الأماكن المألوفة لها، ومرجع ذلك إلى شعورها ﺑ «الأمن» وابتعادها عن الخطر الذي تريد أن تتجنَّبه. والحق أن الخوف من أهم العوامل في النسيان، كما أنه من العوامل التي تبعث على الابتعاد عن الأشياء وتجنُّبها، ونسيانها أحد مظاهر الابتعاد عنها. وإذا لاحظنا الطفل الصغير الذي يبلغ من العمر ثلاثة أشهر أو أربعة نجد أنه يتميز بهذا الشعور، شعور الألفة الذي يجلب له الأمن والاطمئنان، ولذلك يُقبِل على أمه أو أبيه أو خادمته، ويُشيح بوجهه عن الغُرباء ويَفْزع منهم. وليس ذلك تعرُّفًا عن حكمٍ عقلي، بل عن الصلة الآلية التي تُشبِه الأفعال الشرطية. ومن الألعاب التي يُسَر لها الأطفال كثيرًا لعبة «الاختفاء» حين تُخبِّئ منه لعبته أو تُخفي عنه الشخصَ الذي يُحبه، فيبحث عنه ويُسَر عند عودته، وتنبسط له أسارير وجهه. ومن الأمور التي تُعَد في باب العجائب تعرُّف الكلاب على أصحابها بحاسة الشم. وتستطيع الكلاب البوليسية أن تتعرَّف على المجرمين إذا شمَّت آثار الجريمة، وهناك أبحاثٌ قانونية كثيرة في هذا الموضوع، ولكن جمهرة المحاكم لا تأخذ بهذا الدليل، ولا تجعله قاطعًا؛ إذ قد يخطئ الكلب في تعرُّفه. وإنما يستطيع الكلب أن يتعرف؛ لأنه يحتفظ في ذهنه بالصورة الشمسية ويُطبِّقها على الشخص الذي يجد فيه هذه الرائحة نفسها، ولكننا لا نملك القول بأن الكلب يُميِّز الماضي ويعرفه ويُطبِّق الموجود في الحاضر على المحفوظ في الماضي؛ لأن هذه العملية هي تَعرُّف الحكم الذي يختص الإنسان به. فالشعور بالألفة شعورٌ عام لا يغوص فيه صاحبه مع الماضي، وهو يوازي الذاكرة الآلية، أو ذاكرة العادة، ويتصل أغلب الأمر بالأشياء والأماكن لا بالمعاني والألفاظ. وقد قيل إن التعرُّف على الأشياء هو التعامل وإياها، وهذه نظرية السلوكيين في علم النفس، فإذا نظرتَ إلى فنجان عرفتَ أنه صالحٌ أن يُشرب فيه، وإلى قلمٍ أن يُكتب به، وهكذا. أما تعرُّف الحكم فيحتاج إلى نظرٍ في الماضي، على حين يستعرض تعرُّف الألفة الماضي، فنحن في حياتنا اليومية نتعامل مع أشياءَ كثيرة يكفي أن ننظر إليها حتى نُقبِل عليها أو نُدبِر عنها دون الرجوع إلى الصور الذهنية الماضية عنها. رُوِي عن مرضى يعرفون كيف يصفون الأشياء إذا ذُكرَت أسماؤها ولا يتعرَّفون عليها إذا شاهدوها. ورُوِيَ عن شخصٍ أصبح يجهل الاتجاه في شوارع بلدته التي نشأ فيها، ومع ذلك فهو يعرف أن هذه الطرق شوارعُ وأن الأبنية الموجودة على جوانبها بيوتٌ للسُّكْنى، وأصبح لا يعرف زوجته وأولاده، ولكنه مع ذلك يعرف أن هذه امرأة وهؤلاء أطفال. من أجل ذلك أنكر برجسون — بعد رواية هذه الأمثلة — أنها تدل على «عمًى نفساني» أو على فقدان الذاكرة، ولكنها دليلٌ فقط على نوعٍ من أنواع أمراض التعرُّف يرجع إلى اختلال العادة الآلية؛ ذلك أن الإنسان يتعرَّف على المدينة بأن يسير في طرقاتها مرةً بعد أخرى، ثم يصبح سيره في شوارعها آليًّا، ومن هنا ينشأ الشعور بالألفة. وانظر إلى الأحوال التي نُضطَر فيها إلى الحكم عند التعرُّف؛ أي استحضار الماضي وتطبيقه على الحاضر. عندما تُضبَط مسروقات أو يعثر رجل البوليس على طفلٍ ضل الطريق، ويذهب أصحاب المسروقات أو أهل الطفل للتعرُّف على هذه المسروقات أو هذا الطفل، يرجع المرء إلى الذاكرة، وبخاصة لأن رجال البوليس لا يكتفون بمجرد التعرُّف، بل يطالبون بذكر علاماتٍ مميزة. كانت إحدى الفتيات تلعب في حديقةٍ عامة مع إخوتها فوقعَت منها ساعة يد، وعثَر عليها أحد الصبية ممن كانوا يلعبون في الحديقة، ولم يكن يعرف صاحبتها، ولكنه ظن أنها تكون لإحدى هذه الفتيات، فذهب إلى منزلهن يعرض الساعة، ولم تكن صاحبتها موجودة في ذلك الوقت بل أختها الصغيرة التي تبلغ العاشرة من عمرها، فلما سألها عن الساعة وعرضها عليها قالت إنها ليست ساعة أختها لأن ساعتها مُربَّعة وهذه مستديرة، لولا أن سمعَت أمهن الحديث فتدخَّلَت في الأمر وعرَفَت الساعة. أما السبب الذي من أجله أخطأَت الأخت الصغيرة في التعرف على الساعة، فهو أنها كانت تطمع أن يكون لها واحدةٌ مثل أختها، فهي تنفس عليها وتحسُدها وتَوَدُّ ألا يكون لها ساعة حتى تُحرم منها كما أنها محرومة كذلك. فهذا نسيانٌ يرجع إلى تخيُّل صورة تُخالف الصورة القديمة. ويُعلِّل برجسون أمراض التعرُّف بأمرَين؛ الأول نسيان الصور الذهنية الماضية، والثاني انحلال الرابطة التي تربطُ بين تلك الصور وبين غيرها. والواقع أن الذكريات الماضية لا تكون مفردةً منعزلة بل يرتبط بعضها ببعضها الآخر، إلى حد أن الفكرة التي تتكوَّن عندنا عن شيء من الأشياء تتم شيئًا فشيئًا بعد إضافة صُورٍ عدة عن الشيء الواحد، فأنت تعرف زيدًا من الناس لأنك رأيته في أوضاعٍ مختلفة وفي هيئاتٍ عدة، فهو مرةً جالس وأخرى قائم، وتارةً لابس وتارةً غير لابس، وفي حين باسم وفي حير آخر عابس، ومع اختلاف هذه الهيئات كلها تعرفه وتُميِّزه دون غيره، فأنت حين تتذكَّره، أو حين تتعرَّف عليه، لا تستحضر في ذهنك صورةً ماضية عنه بالذات. وكذلك الحال حين تنظر إلى شجرة فتقول هذه شجرة، وحين تنظر إلى قطة فتقول هذه قطة وليست كلبًا. وليس معنى ذلك أنك تستحضر في ذهنك صورة قطةٍ معينة بالذات أو صورة شجرة بالذات. والذي يعين الإنسان على إدراك هذه المعاني الكلية، أنه يخلع عليها ألفاظًا تتركَّز فيها، على خلاف الحيوان غير الناطق. واللفظة وعاء أو لباسٌ للمعنى، ولها شخصيةٌ مستمدة من شخصية الأشياء التي تدُل عليها، ولكن الألفاظ أصواتٌ ليست مادية كهذه الشجرة أو هذه القطة أو هذا الكلب. ومع ذلك فقد ظن قوم أن الألفاظ المنطوقة مادية، وأنها تحضُر في صفحة الذهن كما تُسجَّل الأصوات على صفحة الأسطوانة ثم تُسمَع بعد ذلك في الجراموفون. وهذا تشبيهٌ قديم ساد في أواخر القرن التاسع عشر، ولكن برجسون وغيره اعترضوا عليه اعتراضاتٍ كثيرة، فقالوا: إن كانت الألفاظ مُسجَّلة على هذا النحو، فلماذا تسقط لفظةٌ واحدة من بين العبارة المحفوظة؟ ولماذا تُنسى لحظة ثم تظهر لحظةً أخرى؟ وكما يتعرَّف الإنسان على الأشياء المحسوسة وعلى الأماكن التي تحيطه في البيئة التي يُوجد فيها، كذلك يتعرَّف على الألفاظ والمعاني التي تُعرض عليه. كنتُ في مجلس وجاء ذكر هذه الآية على سبيل الاستشهاد مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ (الأحزاب: ٤) فقلتُ هذا حديثٌ شريف، فقال صاحبي بل إنه آيةٌ قرآنية، وأصرَّ على رأيه، وأصررتُ على رأيي، فلما عُدتُ إلى منزلي راجعتُ المسألة فاتضح لي فسادُ تعرُّفي، ووجدتُ أنه آية وليس حديثًا. وأخذتُ أُحلِّل نفسي كيف وقعتُ في هذا النسيان، فرأيتُ أنه يرجع إلى تخليط في الحكم بين خصائص الأسلوب القرآني وأسلوب الحديث النبوي. ومعظم أخطاء التعرُّف ناشئة من الخطأ في الحكم مع ضعف الحفظ. ولا ريب في أن سوء الاكتساب وضعف الحفظ أول أسباب الخطأ في التعرُّف. مثال ذلك أني أذهب بين حين وآخر إلى الريف، وألتفِتُ إلى هذه البيئة الجديدة فأرى فيها مجاريَ للمياه يُسمُّون بعضها ترعًا وبعضها الآخر مصارف، فالترعة مجرى من الماء العذب الذي يستمد أصله من النيل وهي التي تَرْوي الأرض، والمصرف مجرى من الماء يتسرَّب إليه الماء من الأرض بعد ريِّها، وكلاهما مجرى من الماء. وقد يكون أحدهما مجاورًا للآخر، كل ما في الأمر أن المصرف أعمق من الترعة وأن جانب المصرف يبدو عليه بياضٌ من آثار الملح. ومع ذلك فإني لا أزال أخلط بينهما، على حين أن الفلاح يتعرَّف عليهما بكل بساطة، فهذا الخطأ ناشئ عن ضعف العلم بحقيقة الترعة والمصرف. ويُشبِه موقفي من شئون الريف على وجه العموم موقف خادمة من الريف طُلب منها أن تُحضِر الكتاب الموضوع على المكتب فأحضَرتْ بدلًا منه كرَّاسة. الحق ليس التمييز بين الترعة والمصرف أمرًا عسيرًا يصعُب اكتسابه، ولكن المسألة ترجع إلى الميل والاهتمام أو إلى ما يذكره برجسون وهو «الانتباه»، وعنده أن الاسترجاع، وكذلك التعرُّف، دورةٌ تبدأ من الانتباه ثم الإدراك ثم التصوُّر ثم الحفظ ثم الاسترجاع ثم التعرُّف. وهنا يُوحِّد ريبو بين التحديد والتعرُّف، ويذهب إلى أن التعرُّف ناشئ عن غموض التحديد، فأنتَ تقول إذا رأيت وجه شخصٍ: «يبدو أني رأيتُ هذا الوجه من قبلُ.» ثم تبحث عن الزمان الذي رأيتَه فيه، والمكان الذي التقيتَ به، فتعجز عن ذلك. فصعوبة التعرُّف راجعة إلى العجز في التحديد. ويُرْوى أن الشاعر روجرز عندما بلغ التسعين من العمر، كان يتنزَّه في عربة مع سيدة سألَتْه عن سيدةٍ أخرى لم يستطع أن يتذكَّرها، فأوقفَ العربة ونادى على الخادم وقال له: هل أعرف السيدة فلانة؟ فأجاب الخادم بالإيجاب. ومرَّت عليهما لحظةٌ مؤلمة، ثم أخذ يدها بين يدَيه وقال لها: لا تقلقي يا عزيزتي، لم أصل بعدُ إلى الحد الذي أُوقِف فيه العربة لأسأل هل أعرفك أو لا. وعندما نُحسُّ بالعجز عن التعرُّف، كأن نُقابل شخصًا وننسى وجهه أو اسمه، نعود بالذاكرة إلى الوراء نُفتِّش أين رأيناه أول مرة، فنُحدِّد مكانه وزمانه، ونربط بينه وبين غيره ممن نعرف. وفي ذلك يقول وليم جيمس: «كلما برزَت لنا تجربةٌ مجردة عن موضعها في الزمان، يصعُب علينا ألا نعتقد أنها من اختراع الخيال، ولكنها تُصبحُ قطعةً من الذاكرة وتتحدَّد الذكرى شيئًا فشيئًا كلما أحاطت بها روابطها الماضية، وكلما أصبحَت هذه الروابط أكثر تمييزًا. دخلتُ يومًا عند أحد الأصدقاء، ورأيتُ صورةً زيتية معلقة على حائط حُجرته، فأحسستُ أول الأمر إحساسًا غريبًا؛ لا ريب أنني رأيتُ هذه الصورة من قبلُ في مكانٍ آخر، ولكن أين؟ وكيف؟ لم أستطع قولًا. وظل هذا الإحساس بأنني رأيتُها من قبلُ يطوف بالصورة إلى أن صحتُ فجأة: لقد وجدتُها! إنها نسخة من رسم أنجليكو بأكاديمية فلورنسا. نعم لقد رأيتُها هناك. لقد وجب أن أُحْيِيَ في ذهني خيال أكاديمية فلورنسا كي أتحقَّق من صِدْق الذكرى للصورة.» فهذه هي الطريقة لتدارُك نسيان التعرف؛ أن تسعى لوصلِ ما تراه بما سبق أن رأيتَه من قبلُ.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.