BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringlengths
5
45
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringlengths
53
13.9k
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/7/
توماس كُون
ولكن ما هو موقع توماس كُون على خريطة فلاسفة تاريخ العلم وتياراتهم الأربعة؟ إنه يقينًا ضمن تيار التمرُّد الواسع العريض ضد الوضعية. وهو إن اقترب من المجموعة الثانية التي يقف كارل بوبر على رأسها إلا أنه لا يذهب إلى حدِّ القول بأن العلم ثورةٌ دائمة. نعم إنه يتحوَّل عَبْر ثوراتٍ كيفية، ولكن تفصل ما بينها فترات ثباتٍ واستقرار. وهو بذلك يخرج من التيار الثالث الذي يرى أن تاريخ تطوُّر المعرفة العلمية تاريخ إضافات تراكميةٍ متصلةٍ، ولكنه بعد ذلك كله ليس من أصحاب مدرسة علم العلم وإن جمعَت بينه وبينهم عواملُ تقارُبٍ كثيرة. وهو بوجهٍ عامٍّ أقرب إلى جاستون باشلار الذي يجمع بين المدرستَين الثانية والرابعة. وحسب هذا التصور فإن التطور العادي أو القياسي للعلم يجري داخل إطار النموذج الإرشادي للعلم، والثورة العلمية هي إزاحة هذا النموذج القديم بسبب ما أثاره من أزمة، وعجزه عن حل مشكلاتٍ مطروحةٍ على بساط البحث، وإبداله بنموذجٍ آخرَ جديدٍ لتبدأ مرحلة ثباتٍ ونشاطٍ قياسي جديدة. وهكذا يبدو توماس كُون نسيجَ وحده. والحق أنه يتميز بمَيزةٍ خاصةٍ قليلًا ما تتوافر عند من يضطلعون بمهمة التفلسف في إطار فلسفة العلم؛ ذلك أن العلاقة بين فلسفة وتاريخ العلم من ناحية وبين العلم من ناحيةٍ أخرى علاقةٌ يتعذَّر النظر إليها نظرةً إجماليةً شاملة لأسبابٍ عديدة، منها أن موضوع الدراسة في تحولٍ سريعٍ وعام، فضلًا عن أنه يقتضي باحثًا عامًّا موسوعيًّا يحيط بكلٍّ من العلم المُعاش والتراث الفلسفي معًا، وكذا تاريخ العلم حتى يتسنَّى له معالجته والنظر إليه تلك النظرة الكلية الشاملة لاكتشافِ ما يراه قانونًا أساسيًّا لحركة تطوُّر المعرفة العلمية. وتوماس كُون واحد من هذه الصفوة الفكرية التي جمعَت في آنٍ واحد بين الثقافة العلمية الشاملة المعاصرة وبين الثراء الفكري الفلسفي؛ فهو عالم فيزياء؛ أي العلم الأساسي الحاسم الذي يُشكِّل محور حركة التطوُّر المعرفي العلمي في عصرنا الحديث ومشكلاته هي المشكلات التي يُمثِّل حسمُها ركيزة التحوُّل الثوري في صورة العلم والعالم. واستطاع بحكم اضطلاعه بمهمة تدريس تاريخ العلم أن يجمع بين شمول الثقافة التاريخية الخاصة بالعلم وبين عمق الثقافة الفلسفية. وهو بعد هذا كله معايش للعلم وقضاياه؛ إذ يحيط علمًا بإنجازات العلم الحديث؛ مما هيَّأ له أن يُخفِّف إلى حدٍّ كبيرٍ من أثَر سببٍ آخر من أسباب تعقُّد العلاقة بين الفلسفة والعلم، ألا وهو ذلك التخلُّف الزمني بين الفلسفة والعلم، خاصة الفلسفة وعلم الفيزياء، والذي يؤثِّر من نواحٍ عديدةٍ على نشاط الفكر الفلسفي عند دراسة تطور الفكر العلمي؛ فالفلاسفة متخلِّفون بمسافة ثورةٍ علميةٍ من حيث القياس الزمني، كما وأن العلماء نراهم غالبًا مشدودين إلى فلسفاتٍ مضى أوانها وغير مدركين للتغيُّرات التي حدثَت؛ فالعلم يطرح مشكلاتٍ معرفية تؤثِّر في نظرية المعرفة أو نظرية الواقع أو في تقييم القيم العلمية والفلاسفة وراءه بمسافة يلهثون، ولكن استعدادات توماس كُون هيَّأَته لكي يكون أهلًا لتناول مشكلة فلسفة وتاريخ العلم على نحوٍ جديدٍ ومنهجٍ متميزٍ هو المنهج البنيوي، انطلاقًا من إنجازات العلوم المختلفة؛ فها هو نراه قَدْر المستطاع يتناول موضوع بحثه في إطار حوارٍ مشترك بين إنجازات علوم النفس والاجتماع والفلسفة والمنطق واللغة والتاريخ وغيرها ليُصبِح رأيه نوعًا من الاجتهاد المتميِّز الخصب الذي يُثرِي حياة الفكر الإنساني.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/8/
البِنية
لعل من المناسب أن نقدِّم بدايةً تعريفًا لمصطلح البِنْية الذي ورَد في عنوان الكتاب على هَدْي الخلفية الفكرية التي ينطلق منها توماس كُون وهي البنيوية؛ فالبنيوية هي اتجاهٌ منهجيٌّ علميٌّ يرى أن مهمة البحث هي الكشف عن البنية، بِنية موضوعات البحث، وقد تطوَّرَت البنيوية بفضل نشوء وتقدُّم بعض العلوم الإنسانية، مثل اللغة والأدب والنقد وعلم النفس وغيرها، في بداية القرن العشرين، كرد فعلٍ ضد النزعة التطوُّرية الوضعية. والسمة المميزة للبنيوية أنها تُركِّز على وصف الحالة الفعلية لموضوعات البحث، والكشف عن خصائصها الباطنية اللازَمانية، وتحديد العلاقات بين الوقائع وبين عناصر النسَق موضوع الدراسة. وانطلاقًا من مجموعة الوقائع التي تتم ملاحظتُها في البداية تُسرِع البنيوية في الكشف عن وصف البِنية الباطنية للموضوع «السلَّم الهرمي والعلاقات المتداخلة بين العناصر عند كل مستوًى»، ثم تضع في النهاية نموذجًا نظريًّا للموضوع. والبِنية هي التنظيم الباطني للنسَق والتي تؤلِّف وَحدةً من العلاقات المتداخلة الثابتة بين عناصرها والقوانين التي تحكُم هذه العلاقات المتداخلة. وتُعتبَر «البِنية» صفةً جوهرية لجميع الموضوعات والأنساق القائمة فعلًا؛ إذ لا تُوجد، ولا يمكن أن تُوجد أجسام أو موضوعات تفتقر إلى بنيةٍ قادرةٍ على التغيُّر الداخلي؛ فكل ما هو ماديٌّ ينطوي على تباينٍ لا نهائي من الروابط الداخلية والخارجية واحتمالات التغيُّر في حالته. ونظرًا لتباين المستويات البنائية للمادة أو للموضوع فإن كل شيءٍ ماديٍّ متعدِّد الأبنية. ويمكن الكشف عن المكوِّنات المختلفة للبِنية نظريًّا على أساس مستوى المعرفة التي نبلُغها أو أهداف البحث. وتخضع الرابطة بين عناصر البنية لجدليات العلاقة المتداخلة بين الجزء والكل. ويكون الانتقال في النظريات العلمية من الظواهر إلى الجوهر ملازمًا لمعرفة بنية الأنساق والعمليات موضوع البحث، مع الانتقال من مستوياتٍ بنيويةٍ إلى مستوياتٍ أعمق. وهكذا تكون الحركة المعرفية، وكما وصفها جان بياجيه، هي في صورتها التلقائية حركة من البسيط إلى المركَّب وصوغ «بِنية» تمثِّل الكل وشاملة. والإدراك، كما يقول بياجيه أيضًا، هو إدراكٌ لبِنية، وهو نِتاجُ مجموعةٍ من الإحساسات الأوَّلية ترابطَت معًا، أو كلماتٍ ترابطَت معًا في جملة. وبعد أن كان الباحثون يظنون أن الكل هو مجموع الأجزاء فحسب، وأن البنية ليست سوى تراكُمِ أو حاصلِ جمع عناصرها، جاءت البنيوية لتنتقل بالفكرة خطوةً أرقى وأوضح، وتبيِّن أن الكل له قوانينه الخاصة التي تنظِّمه ككلٍّ شاملٍ غير عناصره وجزئياته. وأوضحَت كذلك، اعتمادًا على أبحاثِ ونتائجِ دراسات العلوم الأخرى، أن النهج القديم الذي يبدأ من الجزء إلى الكل إنما يطمس معالمَ هذه القوانينِ الخاصة بالكُلِّيات. وبناءً على تعريف بياجيه فإن البِنية هي نسقٌ من التحولات لها قوانينها الخاصة المتميزة عن خصائص عناصرها، وتُحافظ على نفسها وتُثري نفسها من خلال هذه التحوُّلات. ومهمةُ الفكر النظري تحديدُ البِنية الأساسية لموضوع البحث، ثم الصياغة النظرية للقواعد الحاكمة لها، والتي يمكن ترجمتُها في معادلاتٍ رياضيةٍ منطقية. وحين نقول إن البِنية نسقٌ من التحوُّلات فهذا على نقيض المفهوم الفلسفي القديم الذي يراها صورة؛ إذ كان يُقسِّم الشيء إلى صورةٍ أو شكل ومحتوًى أو ماهية، وكانت الصورة في نظر الفكر الفلسفي التقليدي القديم في حالةٍ ثباتيةٍ أو إستاتيكية. الشمولية؛ إذ تؤلِّف البنية كُلًّا شاملًا له قوانينه الخاصة؛ أي إن لها قوانينها كنسقٍ مستقلٍّ عن الخصائص المميِّزة لعناصره. التحوُّل؛ إن قوانين هذا الكل الشامل تعمل من خلال تحولاتٍ مستمرةٍ وليست ثباتية؛ بمعنى أن البِنية تتألَّف من نسقٍ من العمليات تُحوِّل جملةً في صورتها الموحَّدة من وضعٍ إلى آخر. ذاتية أو تلقائية التنظيم؛ بمعنى أن حاصل الترابُطات الباطنية الموحدة للبِنية لا يعطي نتائجَ خارج البِنية، وإنما يثريها، ولا يشتمل على أي عنصرٍ خارجيٍّ غريب؛ ففي مجال الطبيعيات نرى أن الطبيعة أو الفيزياء هرمٌ متصاعدٌ من الأبنية بدءًا من أبسطها صورةً مثل البِنية النووية إلى أوسعها نطاقًا وأكثرها تركيبًا وهي بنية الكون. والكائن الحي له قوانينه المنظِّمة للبِنية الكُلية وله تحوُّلاته المتصلة، وأنساق التنظيم الذاتي، ومن ثَم بنيةٌ خاصة به. ويتألَّف الكائن الحي على جميع المستويات من أبنيةٍ ابتداء من الخلية والجينة التي هي نَسقٌ له قوانينه وميكانيزماته المنظِّمة له. وكذلك المعرفة العلمية لها وحداتها البنيوية المتصاعدة، والتي تُنظِّمها قوانينها الباطنية في علاقاتها المتداخلة مع الأبنية الأخرى، والتي يسعى فيلسوف تاريخ المعرفة العلمية إلى إماطة اللثام عنها من خلال الانتقال من البسيط إلى المركَّب، واكتشاف قوانين الكل الشامل التي تفرض تكوينًا بنيويًّا، ليبدأ بعد ذلك مهمة التفسير الموضوعي. والبِنية في علم الحياة ليست بِنيةً مغلقةً شأن بِنية الفيزياء، بل بِنيةٌ مفتوحة نسبيًّا؛ ذلك لأنها تشتمل على تغيُّراتٍ مستمرةٍ مع الخارج، وليس التغيُّر قاصرًا أو محصورًا داخل الأبنية الفرعية الباطنية. وتزداد حركية ونشاط الأنساق الذاتية التنظيم أكثر فأكثر مع تزايُد علاقات التبادُل بين الكائن الحي وبين العالم الخارجي على مدى عملية التعلم والنمو، والتي تؤلِّف مصدر الأبنية المعرفية، والتي تُفضي على مستوى العقل الإنساني إلى أبنيةٍ عاملةٍ منطقيةٍ رياضية. كذلك فإن كل بِنية تشغل مكانًا تتقاطع عنده مباحثُ دراسيةٌ متباينة، على مدى سلَّم تطور العلوم، بحيث تستلزم دراستُها الإحاطة بنتائج العلوم الأخرى التي تدخل في سياقها. وهكذا فكلما ارتقينا في سلَّم تطوُّر الظواهر الحية موضوع الدراسة كلما ازدادت إحداثياتُ تداخُل مجالات البحوث العلمية؛ مما يقضي بضرورة الاستعانة بإنجازاتها والاسترشاد بها وصولًا إلى نظرةٍ متكاملة. وهذا يعني التخلِّي عن النهج الانعزالي في البحث والدراسة؛ إذ لا يجوز لي عند دراسة اللغة مثلًا أن أُغفل التاريخ أو علم النفس الخاص باللغة أو النمو المعرفي أو التراث والثقافة الاجتماعية … إلخ.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/9/
علمٌ قديم وعلمٌ جديد
يبدأ توماس كُون كتابه بدعوتنا إلى تغيير نظرتنا إلى التاريخ عامة، وتاريخ العلم بخاصة، وإلى أن ننظر إليه نظرةً جديدةً وليس على أنه مجرد وعاءٍ لأحداثٍ متتابعة زمنيًّا. ويرى أن تغيير النظرة يستتبعه تحوُّلٌ حاسمٌ في صورة العلم التي تملك علينا حواسَّنا ونعيش أسرى لها، فما هي صورة العلم القديمة التي يتمرَّد عليها، وما هي صورة العلم الجديدة التي يدعونا إليها توماس كُون ومن ذهب مذهبه حديثًا؟ الواقعية؛ بمعنى أن العلم محاولة لاكتشاف عالمٍ واقعيٍّ واحد ثابت، وأن الصدق مستقل عن فكر الناس. الفصل؛ أي القول بالتمايُز الحاد بين النظريات العلمية وبين غيرها من أنواع المعتقدات. التراكمية؛ إن التطوُّر المعرفي هو عملية إضافات؛ حيث معارفُ جديدة تُضاف إلى معارفَ قديمة، على نحوٍ ميكانيكي وكأنها إضافاتٌ عددية، ويكتمل البناء باطِّراد. التمايُز بين المشاهدة والنظرية. المشاهدة والتجربة هما أساس الفروض العلمية والنظريات. النظريات لها بنيةٌ استدلالية. المفاهيم العلمية دقيقةٌ محدَّدة ذات معنًى اصطلاحيٍّ ثابت. سياق للتبرير وسياق للاكتشاف؛ أي أنْ تُمايز بين الملابسات النفسية أو الاجتماعية للاكتشافات وبين الأساس المنطقي لتبرير الاعتقاد في الوقائع المكتشفة. وَحْدة العلم؛ هناك علمٌ واحد عن عالَم واقعيٍّ واحد. والعلوم يمكن ردُّها إلى بعضها، علمٌ خاصٌّ فعامٌّ فأعَم. العلم القياسي والثورة. تقليدٌ قياسي ثم تحوُّلٌ كيفي أو علمٌ قياسي ثم أزمة فثورة ثم علمٌ قياسيٌّ جديد. والعلم القياسي هو اطراد في تطبيق تقنياتٍ ناجحة، أو هو نشاط حل ألغاز ويتسم بأنه محافظٌ، وظهور الشذوذ من شأنه أن يفضي إلى أزمة هي السبيل إلى الثورة. النماذج الإرشادية. كل علمٍ قياسيٍّ له نموذجٌ إرشاديٌّ يتحرك في إطاره. والنموذج الإرشادي له معنيان؛ الإنجازات العلمية المعترف بها عالميًّا، وتمثل في حقبة من الزمن المشكلات والحلول النموذجية عند مجتمع الباحثين العلميين، أو مجموعة القيم المشتركة والالتزامات بين الباحثين أعضاء مجتمعٍ علمي. الأزمة. تحدُث الأزمة عند عجز المبحث الدراسي القديم عن حل مظاهرِ شذوذٍ ملحَّة ولا فكاك منها. وتحدُث الثورة لأن إنجازاتٍ جديدةً تعرض سبلًا جديدة للنظر إلى الأشياء، وتخلُق مشكلاتٍ جديدة. اللاقياسية؛ حيث يتعذَّر قياسُ مفاهيم أو لغةِ نموذجٍ إرشادي قديم على مفاهيم أو لغةِ نموذجٍ إرشادي جديد مرشَّح ليحلَّ محل القديم؛ فالكتلة عند نيوتن غيرها عند أينشتين. العلم غير تراكمي. التحوُّل الكلي أو الجشطلتي في صورة الظاهرة أو مجموعة الظواهر والعالم؛ إذ يحدُث مع إبدال النماذج تحوُّلٌ فجائي وشامل إلى طريقةٍ جديدةٍ في النظر إلى العالم. وهكذا يمكن القولُ إن الاختلاف بين الصورتَين يتركَّز في العلاقة بين المعارف والمفاهيم وبين تاريخها وصورة العالم. فالصورة القديمة لا تاريخية وإنما تستخدم التاريخ فقط لاقتباس أمثلةٍ وشواهد لغاياتٍ منطقية، بينما يرى توماس كُون ومن ذهب مذهبه أن محتوى العلم ومنهجه في الاستدلال وطريقة بحثه ترتبط ارتباطًا عضويًّا بتطوُّره التاريخي. وإذا كانت صورة العلم قديمًا تفصل فصلًا حادًّا بين النظرية والمشاهدة، فإن توماس كُون يُقرِّر بأننا نرى الأشياء أو تتحدَّد صورتها لنا من خلال النظرية؛ فالأشياء التي نلحظها، وطريقة رؤيتنا لها أو وصفها إنما تتحدَّد في ضوء النماذج الإرشادية والمشكلات التي نواجهها، ومع تغيُّر النموذج الإرشادي تتغير صورة العالم. وحسب هذا التصوُّر فإن التطور أو الحركة التطورية للعلم القياسي أو العادي تجري داخل إطار النموذج الإرشادي للعلم، وإبدال هذا الأخير علامة ثورةٍ علمية. ويضع كُون العلم القياسي والنماذج الإرشادية على طرفَي نقيض أو في وضع تقابُل؛ فالعلم القياسي تقليد يستنُّه باحثون وحَّد بينهم قبولهم لنموذجٍ إرشاديٍّ مُشترك يمثِّل الإطار الفكري لهم. والنموذج الإرشادي هو إطارٌ جماعيٌّ لا فردي مشترك بين أبناء المجتمع العلمي، وينطوي ضمنًا على قدْرٍ من الاعتقاد النظري والمنهجي المتداخل في نسيجٍ واحدٍ ويسمح بالانتقاء والتقييم والنقد. وهو مصدر مناهج البحث وميدان المشكلة ومعايير الحل المقبولة لدى أي مجتمعٍ علميٍّ ناضج في عصرٍ بذاته. وبسبب هذا الاعتماد الشامل على النموذج الإرشادي فإن استقبال نموذجٍ إرشادي جديد غالبًا ما يستلزم إعادة تحديد العلم المناظر. ومع تغيُّر المشكلة يتغير المعيار الذي يُمايز حلًّا علميًّا حقيقيًّا عن تأمُّلٍ نظري أو لعبةٍ رياضية. والثورات العلمية، أو الانتقال من نموذجٍ إرشاديٍّ إلى آخر، هي أحداثٌ غير تراكميةٍ بل تحوُّلٌ كيفيٌّ كامل. وبناءً على ذلك يمكن القول إن توماس كُون يرى أن عملية المعرفة تتمُّ في إطار الإجماع بين جمهور العلماء، وفي نطاق رؤيةٍ عالمية ونظرةٍ عامة تُرشِد الباحثين إلى طريقة الكشف عن الحقيقة، وتُجدِّد المعايير الخاصة بقبول النظريات أو رفضها، كما تُحدِّد اللحظة التي يثبت فيها زيف النظرية. وترتكز مقوِّمات الروح العلمية في المجتمع العلمي على النماذج الإرشادية، وعلى ما تحدد من مجموعة الالتزامات المتبادلة والمعتقدات المشتركة والقيم الأدبية التي تجعل من مجتمع العلماء مجتمعًا واحدًا وبِنيةً متماسكة. وهكذا تجري عملية تطوُّر المعرفة العلمية في شكل طفراتٍ من نموذجٍ إرشادي إلى آخر، وكل نقلة تفضي إلى نتائج إبستمولوجية بعيدة المدى. والمعرفة العلمية تفقد صفتها كعمليةٍ متطورةٍ حية إذا فقدَت هذه الدينامية التي تجعلها تمر بصفةٍ متكررةٍ عَبْر مراحلَ «قياسية»، و«ثورية»، أو تقليد ثم تحولٍ راديكاليٍّ جَذْري بفعل ما تفرضه الحياة العلمية النشطة من مشكلاتٍ جديدة، والتحوُّلُ من القياسية إلى الثورية لا يتم في سهولة ويسر تمامًا مثلما يحدُث في حياة المجتمعات حين تَعرِض للناس مشكلاتٌ جديدةٌ لم يسبق لها مثيلٌ هي وليدة حياتهم ونشاطهم ولا يعرفها التقليد، إلا أنهم يُحجِمون بحكم التكوين النفسي عن التخلِّي عن التقليد ومحاولة تطويع القضايا والمشكلات لما ألِفوه وورِثوه. حتى إذا ما تأزَّم الموقف فلا بد من التغيير وأن يكون تغييرًا جذريًّا ثوريًّا. كذلك في العلم إذا ما عَرضَت تجربةٌ شاذة في مجال النشاط العلمي القياسي يسعى أعضاء المجتمع العلمي أولًا إلى فهمها في إطار القالب النظامي أو النموذج الإرشادي السائد؛ فالعلم القياسي يعيش حياةً تراكمية ولا يهدف إلى إيجاد نظرياتٍ جديدة، بل يعمل وكأنه يقول لا جديد تحت الشمس. ولكن متى تكاثَرَت مظاهر الشذوذ، وتعذَّرَت حركة المجتمع العلمي بدون حسم الإشكاليات الجديدة، وفشلَت كل محاولات التوفيق والتطويع، هنا يُحاوِل الباحثون أول الأمر إدخال تعديلات على القالب النظامي ذاته. غير أنها تبدو حلولًا مؤقَّتة لا تغني ولا تحظى بقبولٍ جماعي؛ ومن هنا تنشأ أزمة تُمهِّد السبيل لحدوث ثورةٍ علمية. وتؤدي هذه الأزمة إلى انتشار النظريات البديلة المتنافسة، والاجتهادات المتباينة، وتنفصم عن الوفاق بين أعضاء المجتمع العلمي، وتتباين معايير الخطأ والصواب، ويصبح التخلي عن القالب النظامي المشترك هو الحل؛ ومن ثَم تنتقل الثقة من القالب النظامي أو من النموذج الإرشادي القديم إلى الجديد وتكتمل الثورة. وحدوث الثورة يعني إدخال مفاهيم ومفرداتٍ لغويةٍ جديدة لرؤية المجتمع العلمي للعالم ووصفه.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/10/
حوار وقضايا خلافية
لا يزال كتاب توماس كُون يُمثل مشروعًا طموحًا بحاجة إلى استكمالٍ ومزيد من التطبيق في مجالات علومٍ أخرى. وعلى الرغم مما أثاره الكتاب من جدالٍ حادٍّ بين مؤيِّد ومعدِّل ومُعارِض، إلا أنه فرض مصطلحاته على لغة المفكرين والفلاسفة والعلماء المعنيين بتطوُّر المعرفة العلمية. ولعل أهم مُصطلحَين صاغهما توماس كُون هما مصطلح النموذج الإرشادي أو القالب النظامي أو الإطار الفكري ومصطلح اللاقياسية هذا. علاوة على مسألتَين هامتَين لا تزالان موضوع نقاشٍ حاد، وهما مشكلة الاستمرارية أو الاتصال بين النماذج الإرشادية ومن ثَم اتصال المعرفة العلمية ومسألة مفهوم التقدُّم العلمي.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/11/
النماذج والثورة العلمية
لُبُّ نظرية توماس كُون هو فكرة «النموذج الإرشادي الذي يُناظر المخطَّطات عند بياجيه ودورها في نمو المعرفة»؛ ولهذا انصبَّ أكثر الهجوم ضد نظرية توماس كُون على مفهوم النموذج الإرشادي والثورة العلمية. ومن تفسيرات كُون لمفهوم النموذج الإرشادي أنه نظريةٌ علميةٌ مقترنة بمثال عن تطبيقٍ ناجحٍ ومثير. وأهم النماذج الإرشادية هي تلك التي تنشأ عنها مجالات بحثٍ علمي؛ نموذج نيوتن تولَّدَت عنه ميكانيكا الأجرام السماوية. وينشئ النموذج الإرشادي مجالًا يكون محصَّنًا لدرجةٍ كبيرة ضد التزييف، ولا يُمكِن الإطاحة به إلا عن طريق نموذجٍ إرشاديٍّ بديل. وما إن يكتمل النموذج الإرشادي ويتحدد مجال البحث حتى تبدأ فترة يُسمِّيها كُون «العلم القياسي»، وهي فترة «حل الألغاز». ويوضِّح كُون ذلك قائلًا: «إن نشوء تخصُّصٍ علميٍّ ناضج يتحدَّد عادةً وبشكلٍ أساسي من خلال مجموعة المفاهيم والقوانين والنظريات والتقنيات الذاتية المتكاملة في وحدة مع بعضها، والتي يكتسبها الباحث من خلال تعليمه المهني التخصُّصي. وإن هذا النسيج الذي ثبت لاختبار الزمن — نسيج المعتقَد والتوقُّعات — يخبر الباحث العلمي بماهية صورة العالم، ويحدِّد له في ذات الوقت المشكلات التي تزال بحاجة إلى اهتمامٍ مهني. وشيئًا فشيئًا يتجه العلم إلى الشذوذ. وإن أولئك الذين يسعَون إلى تطويعه للقانون سوف يتزايد الخلاف بينهم بشأن معنى المفاهيم والنظريات التي ظلُّوا يؤمنون بها معًا زمنًا طويلًا دون إدراك لما فيها من لبسٍ وغموض. ويبدأ عددٌ قليلٌ منهم في التحليل النقدي لنسيج الاعتقاد الذي وصل بالمجتمع العلمي إلى المأزق الراهن. وبينما أكَّد توماس كُون وجود نموذجٍ إرشاديٍّ واحدٍ سائد ومهيمن ذهب آخرون إلى القول بالتعدُّدية؛ أي كثرة الحلول والمناهج. من هؤلاء جيمس كلارك ماكسويل؛ إذ رأى أن مشكلة تحديد الميكانيزم اللازم لبيان أنواعٍ معيَّنة من الروابط بين حركات أجزاء نسقٍ ما تُجيز وجود عددٍ لا نهائي من الحلول، وقد يكون بعضها خاطئًا أو أكثر تعقيدًا، ولكن لا بد وأنها جميعها تفي بشروط الميكانيزم بعامة. وبعدَه ذهب هنري بوانكاريه نفس المذهب؛ إذ قال بإمكانية وجود عددٍ لانهائي من الحلول لمشكلة وضع تفسيرٍ دينامي. وأكَّد أيضًا أينشتين أنه لا يُوجد تحوُّلٌ فريد من المعطيات التجريبية إلى التصوُّرات النظرية، إذ يمكن مبدئيًّا وجود مخطَّطاتٍ ذهنيةٍ متباينة في داخل الإطار الذي نفسِّر به أو نَصِف فيه المعطيات موضوع البحث. وسبق أن أشرنا إلى وجهة نظر كارل بوبر عن التعدُّدية، ووجهة نظر فيرابند، الذي يرى أن كثرة النظريات ليست أبدًا تعبيرًا عن مرحلةِ عدمِ نضجٍ معرفي، بل هي صورةٌ صحية. وسبق أن أكَّد عالم الفيزياء الألماني لودفيج بولتسمان أن تعدُّد النماذج صحيح بالنسبة لمجالات البحث. مثال ذلك الفيزياء حيث تُوجد نظرياتٌ كثيرة ويدور بينها صراعٌ أبدي. ويقول إن المشكلاتِ مثارَ الخلاف قديمةٌ قِدَم العلم ذاته، وسوف تظل كذلك ما بقي العلم. وقبل قرنٍ من الزمان قال العالَم الهولندي هرشل: إن أكثر الأمور أُلفةً في علم الفيزياء وجود نظريتَين أو أكثر تفسِّر نشأة ظاهرةٍ طبيعية. وإلى مثل هذا الرأي ذهب فلوجل في مجال علم النفس؛ إذ مايَز بين أكثر من خمس مدارسَ مُتباينةٍ خلال الفترة من ١٨٦٠–١٩٠٠م. وبات مألوفًا أن تسود في بلدانٍ مختلفةٍ مفاهيمُ مختلفةٌ في وقتٍ واحد. تجد هذا في القرن اﻟ «١٧» حين سارت أفكار ديكارت في فرنسا بينما ساد مذهب نيوتن في إنجلترا. وقال بوانكاريه في هذا الصدد قولًا يشبه ذلك؛ إذ قال: «يدرُس الإنجليز الميكانيكا كعلمٍ تجريبي بينما تدرُسها القارة الأوروبية باعتبارها إلى حدٍّ ما علمًا قياسيًّا وقبليًّا.» ويذهب توماس كُون إلى أن تطوُّر المعرفة العلمية حركةٌ من خلال الصراع، وهو صراعٌ يجري في الزمان أو التاريخ على شكل طفراتٍ من نموذجٍ إرشاديٍّ إلى آخر إثْر أزمةٍ يواجهها العلماء، ولكن هل هذا التحوُّل أو تلك الحركة متجانسة المحتوى؟ وهل هو تحولٌ شامل للشكل والمضمون معًا؟ هنا نعود إلى ما قاله بوليكاروف في المرجع ذاته؛ إذ يبدأ بالسؤال التالي: المشكلة ما الذي يحدُث عندما ينشأ تعارُضٌ بين الفرض العلمي أو النظرية وبين معطيات التجربة؟ وهنا يُدلي توماس كُون بدَلْوه؛ إذ يُمايز بين مرحلتَين في تطوُّر العلم، (أ) مرحلة العلم القياسي الذي يتطور داخل إطار مبدأٍ مهيمنٍ أو نموذجٍ إرشادي. (ب) مرحلة الثورة العلمية؛ حيث يتم إبدال النموذج الإرشادي بآخرَ جديد. معنى هذا أن القضيةَ موضوعَ الخلاف التي يأخذ كلٌّ من بوبر ودوويم موقفًا متطرفًا مقابلًا للآخر تصبح كالآتي عند توماس كُون. تنطوي حالة العلم القياسي على تغيرات من ج إلى ج١ (داخل إطار نفس النموذج الإرشادي)، أما التحوُّل من ج١ إلى د، فهو سمة الثورات العلمية؛ لأنه انتقالٌ كاملٌ شامل من نموذجٍ إرشاديٍّ إلى آخر. وتصبح بذلك المشكلة متى يمكن القول بدقةٍ إن الفارق بين مفهومَين أو نظريتَين، أو بين مفهومٍ أول، ومفهومٍ معدَّل هو فارقٌ غيرُ ذي دلالةٍ أو غيرُ هامٍّ أو جزئي؟ ومتى يكون فارقًا هامًّا أو كليًّا شاملًا؟ وفي أي حالةٍ نعتبر المفاهيم موضوع الدراسة هي تعديلات (أي من ج إلى ج١) أُدخلَت على ذات المفاهيم، أو أنها مفاهيمُ جديدةٌ تمامًا ومختلفةٌ جذريًّا (أي ج، د). هنا يستطرد بوليكاروف ليُكمِل ما ذهب إليه توماس كُون ويقول: للإجابة على هذه الأسئلة يتعيَّن توضيح بعض المسائل بالنسبة لبِنية ومحتوى النظريات الفيزيائية؛ أي الشكل والمضمون وسبل التحقُّق التجريبي من النتائج. ويُبيِّن أسس تصنيف النظريات على أساس محتوى المفاهيم (مفاهيم مجردة أم مفاهيم عيانية)، والأداة المنطقية والرياضية المستخدَمة، ثم السياق التاريخي للمفاهيم. ويضيف قائلًا: إن التعديل في إحدى النظريات يحدُث بوسائلَ مختلفة، ويتناول أجزاءً مختلفة، أو يجري على مستوياتٍ مختلفة؛ مستوى المعنى الفيزيائي، أو مستوى الأداة الرياضية، أو مستوى الأساس المنطقي، أو مستوى التفسير الفلسفي، ثم إنه لا بد من النظر في طبيعة التغير الحادث؛ ذلك لأن ما يبدو في إطارٍ ضيقٍ محدود تعديلًا جذريًّا من ج إلى د قد يكون توسُّعًا طبيعيًّا للنظرية القائمة من زاويةٍ أخرى أكثر شمولًا؛ فالميكانيكا الكلاسية تشتمل على أنساقٍ مُتباينة، ثم هناك علاوةً على ذلك ميكانيكا مختلفة المراتب (كلاسية ونسبية وكمية) وهو ما نجد له نظيرًا في الفيزياء. لذلك فإننا حين نبحث عمَّا إذا كانت التغيُّرات التي طرأَت على مفهومٍ ما هي تغيُّراتٌ داخل المفهوم ذاته أم أنها تؤدي إلى رفضه كليَّة، هنا يتعين أن نتبيَّن بادئ ذي بدءٍ ما إذا كان المفهوم المشار إليه قد صيغ صياغةً عامةً غير محددةٍ بدقة ويسمح بإمكانات متعددةٍ وتباينات في إطاره، أم أنه صيغ بحيث إن أي انحرافٍ عنه يعني إسقاطه تمامًا ونفيًا له. مثال ذلك أن التخلي عن البدهية الخامسة في الهندسة الإقليدية يعني الانتقال إلى هندسةٍ غير إقليدية، هذا بينما إبدال المدارات الدائرية بمداراتٍ إهليليجيةٍ في مذهب كوبرنيكوس عقب أبحاث كيبلر لم يكن له من معنًى سوى تقدُّم وتحسُّن نظام مركزية الشمس. وواقع الأمر أن المفاهيم العلمية يمكن أن تشتمل على عناصرَ ومكوِّناتٍ قد يكون تغييرها يعني تحوُّلًا تامًّا عنها وبعضها غير كذلك. ولهذا فإن الانتقال إلى مستوًى أعمقَ يقضي بأن ندرُس الاختلاف بين مفهومَين ونعتبره اختلافًا جوهريًّا إذا انصبَّ على الفكرة الرئيسية والمبدأ الأساسي أو المسلَّمة والنسق المفاهيمي والمشكلات والمناهج؛ أي عندما نُعيد النظر في الأسس الفيزيقية والمنطقية والفلسفية لمفهومٍ ما، ويفضي بنا ذلك كله إلى تغييرٍ في أداة الاستقراء مع نتائج أو تفسيراتٍ جديدة، ومن ثَم إلى نظريةٍ مغايرة. ولهذا يرفض كولنز وبينش ما ذهب إليه كُون حين شابه بين الثورة العلمية والثورة السياسية وإن سلَّما معه بمدلول الأثَر النهائي؛ إذ أوضحا أنه في السياسة يمكن التنبُّؤ أو التحدُّث عن عملٍ ثوريٍّ محتملٍ ولكن في العلم لا يمكن؛ ذلك لأن الثورة العلمية لا يتمُّ التخطيط لها مسبقًا عن وعيٍ بل هي نتيجة أبحاثٍ تجري اطرادًا. إن الثورات العلمية نعرفها بعد وقوعها، ولكن في السياسة يمكن التحدُّث مقدَّمًا بمعنًى من المعاني عن أعمالٍ ثوريةٍ يحاول البعض اتخاذها قد تفشل أو تنجح. ويتحدَّد ذلك في ضوء خُطط ونوايا أصحابها، وهو ما لا يمكن أن تجد له مثيلًا في الحياة العلمية. كذلك لا يمكن أن نقول إن هناك علماء يُعدُّون لثورةٍ وآخرون يتنكَّبونها عامدين. هذا على الرغم من أن هذا الرأي ينطوي على قدْرٍ من التجريد؛ لأن العلم كما أشرنا له خططُه ومراميه ذات الأبعاد الاجتماعية والمدلول الثوري. وإذا كان توماس كُون يُماثل بين الثورتَين العلمية والسياسية إلَّا أنه يفكِّر في إطار نموذجٍ تقدميٍّ حتمي؛ حيث في السياسة الثورة اختيار واختيارٌ حتمي، ويمكن التنبُّؤ مسبقًا بمضمون الثورة السياسية المزعومة، ولكن الثورة العلمية لا يمكن التنبُّؤ بها شكلًا ومضمونًا؛ لذلك فإن أفضل طريقةٍ للحكم على الثورة العلمية أن يأتي الحكم بعد وقوعها؛ أي التاريخ.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/12/
اللاقياسية ومشكلة الاتصال
استطاع كُون أن يلفت الأنظار في نظريته إلى سلسلةٍ كاملةٍ من المشكلات التي كانت في الظل ولكنها واقعيةٌ وجوهرية لفهم بِنية وظائف المعرفة العلمية، ولفهم العملية التاريخية لتطوُّر العلم. ومن القضايا التي أثارت جدالًا حادًّا مع اتهامه بالذاتية والنسبية مشكلة الانتقال من نموذجٍ إرشاديٍّ إلى آخر؛ أي الثورة العلمية، والذي قرَّر أنها تعني الانتقال إلى عالمٍ مُغايرٍ إدراكيًّا ومفاهيميًّا غير العالم الذي يعمل فيه الباحث. ويُقرِّر كُون أن ما يشاهده الباحث العلمي في تجربته إنما يُحدِّده محتوى النموذج الإرشادي النظري. وحيث إن النماذج الإرشادية هي كلياتٌ متكاملةٌ مثلها مثل المدركات الجشطلتية (أي التحول الكلي والكامل لمجال الإدراك الحسي دفعةً واحدة)؛ لذا فإنها تختلف عن بعضها ولا تُوجد نقلاتٌ بين بعضها والبعض؛ ولذلك يتعذَّر الاتصال والتفاهُم بين أشياع كل فريقٍ من أنصار هذا النموذج أو ذاك؛ لأن كل فريقٍ يتحدَّث لغةً مختلفةً ويرى عالمًا مغايرًا. حقًّا إن النموذج الإرشادي الجديد قد يستخدم نفس مصطلحات النموذج الإرشادي القديم، ويشتمل على غالبية القوانين الرمزية القديمة … إلخ، ولكن كل هذا يأخذ معنًى كيفيًّا جديدًا في إطار الكل الجديد ذي الدلالة المغايرة. واضحٌ تمامًا تأثُّرهما هنا بفكر وليم جيمس عن أن الوعي فيضٌ من الإحساسات نختار بإرادتنا منها ما يتفق مع غاياتنا. وواضحٌ كذلك حسب فرض النسبية اللغوية أن الصور اللغوية المختلفة عن العالم يمكن أن تصنع أبنيةً فئويةً مختلفة؛ ومن ثَم تؤثِّر على معايير التفكير، كما تؤثِّر بالواسطة على معايير سلوك مجتمعٍ معيَّن وليكن المجتمع العلمي مثلًا، ولكن هل معنى هذا أن مجتمعات العلماء التي تُناصر نماذجَ إرشاديةً مختلفة تعيش في عوالمَ مختلفةٍ ولا يمكنها أن تتواصل معًا بصورةٍ كافية؟ وكل هذا يسمح بالمقارنة الفعلية وتقييم النماذج المختلفة. إن ظهور نموذجٍ إرشاديٍّ جديد يغيِّر يقينًا التفسير السيمانطيقي لعدد من المفاهيم العلمية. بيد أنه لا سبيل إلى أن نفهم هذا التغيُّر كإبدالٍ كاملٍ للمعنى القديم. إننا لو سلَّمنا بوجود أفكارٍ أساسيةٍ مشتركة في تاريخ المعرفة فإن هذا النوع من الإبدال يكون مستحيلًا؛ ولهذا كان طبيعيًّا أن يفهم كُون التقدُّم بمعنًى آخر ليس فيه اتصال. علاوةً على هذا فإن التغيُّرات لا تشمل جميع المفاهيم، وبوجهٍ عامٍّ فإن ظهور مفهومٍ معينٍ في سياقٍ جديد ليس هو الذي يستلزم إبدال معنًى بآخر، وإلا تعذَّر علينا الاتصال وفهم بعضنا بعضًا؛ حيث إن اللغة تتضمَّن مِن بين ما تتضمَّن توليد كلمات لم تكن موجودة قبلًا؛ فإن تفسير الكتلة في النظرية النسبية يختلف من نواحٍ هامةٍ كثيرة عن تفسير الميكانيكا الكلاسية لها، ولكن لا يلزم عن هذا أن نموذجَين إرشاديَّين يستخدمان نفس الكلمة سوف يعملان بمفاهيمَ مختلفةٍ كما يؤكِّد لنا كوون؛ فإن أنساق الموضوعات التي يُشير إليها هذان النموذجان تكون أحيانًا مشتركةً بين النموذجَين. ويجب ألا ننسى أن النموذج الجديد لا يتم إقراره بعد كل شيءٍ إلا إذا فسَّر لنا لماذا النموذج القديم الذي استُبدل استطاع أن يعمل بنجاح حتى لحظةٍ معيَّنة في نطاقٍ مشترك بين الاثنَين. هذا التفسير لا يكون ميسورًا إلا إذا وُجد تفسيرٌ هادفٌ له معنًى يُفسِّر النموذج القديم. وهو ما يكفُلُه واقعُ أن بعض الوحدات ذات المعنى، وبعض النواحي المنفصلة في النموذج الإرشادي القديم مغمورة تمامًا، أو تشكِّل جانبًا من بِنية المحتوى الجديد المعبِّر عن النموذج الجديد. إن غلطة كُون فيما يرى ليكتورسكي نابعةٌ من فشله في التمييز بين النموذج الإرشادي كبِنيةٍ واحدةٍ متكاملة وبين الأنساق السيمانطيقية المنفصلة التي تُشكِّل جزءًا منه؛ إذ ليس لكل نموذجٍ إرشاديٍّ نسقًا سيمانطيقيًّا منفصلًا ومستقلًّا؛ ففي رأي كُون أن الإطاحة بنموذجٍ إرشاديٍّ قديم هي محاولةٌ لنبذ جميع أنساق المعاني القديمة نبذًا تامًّا. وواقع الأمر أن اندماج الأنساق السيمانطيقية لأحد النماذج الإرشادية اندماجًا شاملًا في البِنية المتكاملة التي يؤلِّفها النموذج الإرشادي الجديد هو الذي يجعل التفاهم المتبادَل والاتصال الحقيقي أمرًا ممكنًا بين ممثِّلي النموذجَين على مستوًى ما بين النماذج. إن وجود خلفيةٍ ثابتةٍ ومشتركة من المعرفة تسمح لنا بالمقارنة بين النماذج المختلفة، كما تسمح لنا بالاختيار بينها. لهذا السبب فإن العالم الذي يدرُس تاريخ الفيزياء لا يمكنه فقط أن يفهم النموذج الإرشادي النيوتوني بل والأرسطي كذلك. والبعض غير صحيحٍ؛ إذ لو تخيَّلنا عالمًا في عصر أرسطو، أو عالمًا يحمل إرث هذا العصر دون سواه، فإنه يتعذَّر عليه فهم نماذج ونظريات المحدَثين ما لم يدرُسها ويعايشها. وهذه صورةٌ تمثِّل تقدُّم إطار الرؤية والباحث العلمي، ولكن يبدو أن كُون غلَب عليه النهجُ النفسي الذي أخذَه عن بياجيه ونظرة الجشطلت عن التحوُّل الكلي لمجال الإدراك، وهي نظرةٌ موضع جدالٍ وشك، دون أن يدرك الفارق التطوُّري الكيفي بين الطفل في مراحل تكوينه ونموه وبين البالغ الذي اكتمل نموه. ويمكن القول إنه في ضوء النظريات العلمية الحديثة يمكن للمؤرِّخ أن يرى ذلك المحتوى في النماذج الإرشادية القديمة الذي لم يُدرِكه أصحابه قديمًا. وقياسًا على ذلك نقول إن عالم النفس الذي يدرُس مراحل تكوين الأبنية الإدراكية للطفل لا يمكنه أن يرى العالم على نحوِ ما يراه الطفل. أن النظرية القديمة تُمثِّل من حيث الشكل (بعيدًا عن المعنى التجريبي) حالةً خاصةً من حالات النظرية الجديدة. أن يكون المعنى هو أن قضايا النظرية القديمة لا تكون صحيحةً في النظرية الجديدة فحسب، بل تحتفظ أيضًا بمعناها التجريبي (توافُق من حيث المعنى). ويؤكِّد أمستردمسكي أن شواهد التاريخ تُثبت أن التوافق الشكلي بين النظريات قد تحقِّق في التغيرات التي تُسمَّى «ثورات»؛ ولذلك فإن مناط الأمر هو معنى «التوافُق» عند كل مفكر. والفرق بين معنى كلا السؤالَين عن (التراكُم والتوافُق) ناتجٌ عن الرأي القائل إن الحقائق العلمية ليست مجرد حقائقَ تجريبية، بل هي تفسيرات وتأويلات للظواهر الطبيعية في ضوء المعلومات والاعتقادات المسلَّم بها من قبلُ. فالظاهرة الطبيعية الواحدة يمكن أن تصبح حقيقةً علميةً أخرى في إطار مفهومٍ آخر، ويمكن إذا سلَّمنا بأن بعض التغييرات في مضمون المعرفة هي ثوراتٌ (بمعنى أنه لا يُوجد توافُق من حيث المعنى بين النظريات المتعاقبة) أفلا نكون مضطَّرين إلى التسليم بأن الانتقال من الرأي القديم إلى الجديد يتم بطريقةٍ لا عقلانيةٍ ولذلك لا يمكن تفسيره تفسيرًا عقلانيًّا. أيًّا كان الأمر فإن مشكلة الاتصال والتغايُر في معاني المفاهيم على مدى مسار تطوُّر العلم لم تحظَ بعدُ بالدراسة الواجبة. وغنيٌّ عن البيان أن فهم الجانب الهام من المعرفة النظرية العلمية يعتمد إلى حدٍّ كبيرٍ على حل هذه المشكلة. ويرجع الفضل في هذا إلى توماس كُون الذي ألقى أضواءً على العديد من المشكلات الأساسية وأثار بشأنها حماسة وجدالًا بالغَين.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/13/
التقدُّم والاستمرارية
يتساءل توماس كُون في الفصل الأخير من كتابه لماذا يُعتبر التقدُّم ميزةً إضافية يستأثر بها النشاط الموسوم بالعلم دون سواه؟ ويُقرِّر أن أكثر الإجابات شيوعًا على هذا السؤال أنكرتها سطور رسالته. وواقع الأمر أن كُون يرى أن فرض صفة التقدم على النشاط العلمي هو امتدادٌ لإرثٍ ميتافيزيقيٍّ قديم يُحاول أن يُقحِم على الطبيعة أو الوجود بعامةٍ السعي صوب هدفٍ وغاية، ويرى أن معيار التقدُّم هو الحركة إلى هذا الهدف، حتى ولو قلنا إنه الحقيقة المطلقة أو الثابتة أو ما شابه ذلك التزامًا بخطةٍ مرسومةٍ مسبقًا وهدف حدَّدَته الطبيعة مُقدَّمًا. ولعل المشكلة كما يقرِّر كُون نفسه، هي في جانب من جوانبها مشكلةٌ سيمانطيقية؛ أي تتعلق بدلالات اللغة ومعانيها؛ ولذلك نراه إذ ينفي صفة التقدُّم يقرِّر أن العلم يتطور. هناك حركةٌ تطوُّريةٌ مطردة. وثمَّة فرقٌ بين التقدم والتطور والتغير. التقدم نوعٌ من التطور الميتافيزيقي الذي يحدث في العالم الاجتماعي وله محتوًى أخلاقي. والدليل الحقيقي على التقدم لا يمكن أن نستمدَّه من العالم الطبيعي الخارجي، وإنما نستمدُّه من الواقع الداخلي للوجود الفردي والاجتماعي للإنسان. والتقدُّم غير التغيُّر؛ إذ إن التغيُّر لفظٌ عامٌّ جدًّا يدل على تعديل الحالة الراهنة دون تحديد اتجاهٍ للتغيير، وبهذا يمكن القول إن التغير خلوٌ من المحتوى الأخلاقي شأن التطوُّر والتقدُّم، لا يقترن إلا بذلك الجانب من التغيُّر الذي يحمل معنًى إيجابيًّا ومقبولًا بالنسبة للإنسان والمجتمع. وتجريد مفهوم التقدم من محتواه القيمي ضربٌ من التناقض. ولهذا نرى توماس كُون يُؤثِر استخدام كلمة تطوُّر، ويُناظِر بين حركة المعرفة العلمية من خلال الصراع بين النماذج الإرشادية وبين الانتخاب الطبيعي في عالَم تطوُّر الكائنات الحية الذي يصل بالكائنات الحية إلى مزيدٍ من الدقة والتخصُّص في الأداء الوظيفي العضوي، دون أن يأتي ذلك التزامًا بهدفٍ حدَّدَته الطبيعية مقدَّمًا. واضحٌ أن ما يرفضه كُون تحديدًا هو الإرث الميتافيزيقي الذي يزعُم أن الوجود يتحرك صوب هدفٍ مرسومٍ له من خارج؛ فقولنا إن العلم يتقدَّم بهذا المعنى أشبه بقول القائل إن الجسم يسقط إلى أسفل لأنه يشتاق إلى العودة إلى الأصل. ويرفض كُون علاوةً على هذا مفهوم التقدُّم الذي روَّج له فلاسفة حركة التنوير في القرن اﻟ «١٨»، ثم الفيلسوف الألماني كانط من بعدهم؛ إذ قدَّم فلاسفةُ التنوير تعريفًا عقليًّا للتقدُّم يتناسب مع أهداف حركتهم في عصرهم. وجاء كانط وانتقل بمفهوم التقدُّم من دائرة النسبية إلى العالمية. وتَحمِل المفاهيم الرئيسية في فلسفته الطابع الأخلاقي للعمل الغائي ومبدأ العالمية والشمول. والتقدُّم عند كانط يتم في إطار عملية التقدم التاريخي التطوري، ويتمثل في القضاء التدريجي على كافة القوى السلبية التي تقف في سبيل الوصول إلى الغاية النهائية للتطوُّر التاريخي. وهذه الغاية أخلاقية في جوهرها لأنها عبارةٌ عن مثلٍ أعلى شامل يتضمن الكمال الأخلاقي. ولكن مع التسليم بهذا، هل يمكن أن نفصل بين الحركة التطوُّرية للعلم وبين أحكام القيمة بحيث نقول إن العلم يتقدم أيضًا؟ لقد أصبحَت أحكام القيمة أحد الحيثيات الأساسية للحكم على المعرفة بعد أن أضحت قيمةً إنسانيةً واجتماعية باعتبارها عاملًا فعَّالًا في تغيير العالم. لم يعُد نتاج المعرفة مجرد قضايا خبريةٍ خالصة تُعرِّفنا بما هو قائمٌ أو تعكسه لنا، بل تشير إلى اتجاه حركة، إلى الأفضل، إلى قيمةٍ إنسانيةٍ جديدة؛ ولهذا أصبح «الواجب» جزءًا من البِنية المعرفية للعلم والتزامًا اجتماعيًّا؛ إذ بدون ذلك يصبح النشاط العلمي قاصرًا على الملاحظة السلبية لتكوين العالم؛ ومن ثَم تكون دينامية حركة العلم في اتجاه الواجب والقيم المنشودة صورة من صور التقدُّم؛ إذ لا ننظر إلى العلم على أنه نشاطٌ تسجيليٌّ سلبي فحسب، بل نشاطٌ فاعل في إطار مجتمعٍ إنسانيٍّ يحقِّق أهدافًا ذات قيمةٍ تكشف عنها رؤيتنا للماضي والحاضر والمستقبل والتغيير اللازم. معنى هذا أن ننظر إلى تقدُّم العلم باعتباره مفهومًا متعدِّد الأبعاد، تقدُّم مطَّرد للمعرفة ذاتها ومحتوى المعرفة، وتقدُّم متمثِّل في القيمة أو الواجب من أجل التغيير، وتقدُّم في وسائل البحث ومناهجه، وتقدُّم في الظروف الأساسية اللازمة للبحث العلمي سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي ومؤسسات العلم وأجهزة البحث … إلخ، وتقدُّم في اتساع نطاق الرؤية وزيادة الإمكانيات الفكرية والتجريبية، وتقدُّم في اتجاه حركة لا تقبل الانتكاس أو العكس؛ بمعنى أننا لا نكتشف أن الماضي أحقُّ وأصدقُ من الحاضر من حيث مستوى المعرفة شكلًا ومضمونًا؛ ومن ثَم يكون تأكيدًا لاطِّراد الحركة العلمية؛ فالتعاقب التاريخي للنظريات العلمية عمليةٌ مطَّردةٌ لا تقبل الانتكاس، كما يتيح لنا الحكم على الماضي والحاضر وَفْق معاييرَ مستقاةٍ من مضمون المعرفة وأدواتها. ويناقش ستيفان أمستردمسكي آراء كُون عن تطوُّر العلم، فيتساءل قائلًا: عندما نسأل ما هو الشيء الذي يصفه كُون بالتطور تُواجهُنا مشكلةٌ محيِّرة؛ فهو إذ يتحدث عن ضرورة اتباع منهجٍ فلسفيٍّ في العلم إنما يعني العلم بصفةٍ عامة، وأن فلسفة العلم إنما تُعنى بتطور المعرفة العلمية بعامة، بيد أن كُون عندما يتحدث عن الثورات العلمية فإنه يتكلم عادةً عمَّا يحدُث في مجالات البحث المتخصصة. كذلك فإن مفهوم العلم القياسي ومفهوم النموذج الإرشادي يتصلان عنده بتطور العلوم الخاصة وليس بتطور المعرفة عامة. ولكن لماذا لا نقول إن المشكلة هنا هي الخلفية التاريخية واللغوية لفهم معنى الاستمرارية؟ إننا نفهم الاستمرار بمعنى الاتصال التراكمي الهادف، ونحن عاجزون عن تصوُّر الاستمرار مع القطيعة ثم الوثبة دون هدفٍ مرسومٍ حدَّدَته الطبيعة ابتداء. واللغة عاجزةٌ عن تصوير ذلك؛ ومن هنا فإننا نقول بعد حدوث الوثبة إن الجديد مقطوع الصلة بالقديم. ألا يشبه هذا قولنا إن هذا الشيخ غيرُ ذلك الشاب الذي عرفناه، وكذا غير الطفل الذي شهدنا ميلاده؟ قفزاتٌ ثلاث تجعلنا لا ندرك الصلة، وحيث إننا لا ندرك الصلة فإننا ننكر الاتصال، وإن كنا لا نستطيع الزعم بأن الجسم الحي استهدف النمو على هذا النحو، ولكن هذا لا ينفي ضرورة فهم نُمو المعرفة وتطوُّرها في العلم العام، وكذا في مجالات البحوث الخاصة. ولا ريب في أن هذا يطرح أيضًا قضية العلاقة بينهما وهل هي علاقةٌ إيجابية أم سلبية، بمعنى أن تعاقُب الثورات في مجالات البحث الخاصة شرطٌ إيجابيٌّ لحدوث ثورةٍ علميةٍ شاملة أم لا؟ وفي أي اتجاه وبأي شروط؟ أي لماذا لا تكون دراستنا للثورات العلمية على صعيدَين أو مرحلتَين متكاملتَين؟ إذ إن الثورات العيانية لن نجدها إلا في مجالات البحوث الخاصة لانعدام وجود بحوثٍ عامة، وهذه شرطٌ لتلك. إن التغيُّرات المتوالية في منطق العلم ومناهجه وتكوينه هي التي تُحدث الثورة العلمية. ومثل هذه الثورات هي التي تخلُق التاريخ المطَّرد للعلم ونتائج هذه الثورات مطَّردة. والثورات العلمية هي سدَى ولُحمة التطوُّر، بل ونقول التقدُّم الوجداني أيضًا المطَّرد. ولا ريب في أن تغيير منطق العلم ومناهجه وتكوينه مظهرٌ جوهري من مظاهر الثورة العلمية. والمأمول في أن تشمل نظرية الثورة العلمية، فيما تشمله من معايير، التغيير الثوري في العلم، لا الفروق التي تميِّز بين الأفكار الأساسية، ولا إبدال «النماذج الإرشادية» فحسب، بل أن تشمل أيضًا ثبات هذا التطور مشتملًا على تغييرٍ مطَّردٍ في الشكل والمضمون معًا بما له من قيمةٍ اجتماعية؛ لذلك حين يسأل كُون عن تقدُّم العلم نقول: «العلم الإنسان بمدلوله الاجتماعي معًا.» ومن ثَم يكون التقدُّم في العلم منعكسًا على الإنسان في وجوده؛ فنحن لا نعرف لمجرَّد أن نعرف، بل إن المعرفة العلمية أداة جهدٍ اجتماعيٍّ هادفٍ له علاقةٌ بالمستقبل ومردودٌ اجتماعي. وإن الاستمرارية التاريخية للعلم متأصِّلة الجذور في طموح العلم المستمر إلى أن يُدخل في عالم المعرفة الإنسانية نظامًا من شأنه أن يؤدِّي في ظل التجربة الإنسانية إلى تحقيق وحدة الأفعال البشرية، ويمكِّن الإنسان من إدراك حقيقة العالم وحقيقة ذاته، وأن يملك مقدَّرات حياته على الأرض، ويغدو العلم وعيًا ذاتيًّا. وإن كل نظامٍ يؤدِّي هذه الوظيفة الأساسية للعلم هو نظامٌ عقلاني. ومن هذا الوجه يمكن القول إن تاريخ العلم هو تاريخ المحاولات والتجارب المتوالية نحو التنظيم العقلاني للإجابة على: لماذا؟ وكيف؟ وإن المعايير المنهجية التي يقوم عليها العلم في كل عصرٍ خاضعةٌ للفهم المعاصر لهذه العقلانية، والتي تزداد مع الزمن، كما يقول توماس كُون بحق، دقةً وإحكامًا وتخصُّصًا ورحابة.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/14/
عَودٌ على بَدْء
أثار كتاب كُون العديد من القضايا الفكرية والاجتماعية الهامة التي لا تزال بحاجةٍ إلى تضافُر جهودٍ لإثباتها. هذا فضلًا عن أن كتابه نتاج جهدٍ علميٍّ متعدد الجوانب، وثمرة رؤيةٍ واسعةٍ ناقدة، وبحثٍ جامعٍ أفاد بإنجازات علومٍ كثيرةٍ معنية بالظاهرة موضوع الدراسة، وبذا يمثِّل كتابه تطبيقًا عمليًّا لمنهج دراسيٍّ متميزٍ ونموذجًا أحق بأن يُحتذى عند الدراسة أو اتخاذ قرار. إن توماس كُون حين حدَّثَنا عن سيادة النموذج الإرشادي أشار إلى نقطةٍ أساسية وهي عملية التنشئة العلمية منذ بداية المدرسة وتعلُّم اللغة العلمية الجارية التي تصوغ إطارًا للتفكير ينظر الناس من خلاله إلى الطبيعة، وأشار إلى أن التعليم العلمي على هذا النحو يعطي نتائج ولا يثير مشكلاتٍ تنشِّط الفكر وقد تستلزم حلًّا مغايرًا، وأن التغيير الاجتماعي يتمُّ من خلال تغيير إطار التفكير الذي ترسمه وتصوغه التنشئة حينًا من الزمن، مثل نظام تغذية وتلقيم الكومبيوتر أو نظام البرمجة. إن الإنسان لا يدخُل إلى الحياة فعَّالًا منذ البداية بل متلقيًا، وتتم صياغة الإطار الفكري الذي يدور فكره في فلكه ونطاق جاذبيته، وينظر إلى الواقع من خلاله ويتحدد سلوكه على هَديه، ثم حسب المشكلات المثارة وظروف التربية التي تسمح بالتمرُّد تكون إمكانية تجاوُز الإطار، ومن ثم الثورة عليه وتغييره تلبيةً لمشكلاتٍ أخرى ملحَّة. هذا أو تكون تربيةً أيديولوجيةً نمطية أو تقليدية تخلِّف جمودًا لا يثمر ولا يفيد جديدًا. وأثار كتاب كُون قضيةً ثانيةً خاصة بدراسة حالات اختلاف التكوين العقلي وإخضاعها للتحليل التجريبي. إن فكرة الفوارق الراديكالية في «النظرة إلى العالم»، وأن هذه الفوارق تنتمي إلى «أحقاب» وعصور على مدى تاريخ العلم مثلما تنتمي إلى عصور التاريخ في إجماله، احتلَّت هذه الفكرة مكان الصدارة منذ صدور كتاب كوون. ويُعَد كتابه بحق عرضًا دراسيًّا لمشكلة العقلانية عَبْر دراسات لمظاهرها الخاصة المميزة في إطار العلم. وقد تيسَّر ذلك نظرًا لأن العلم مؤسسةٌ اجتماعية يسهُل دراستُها؛ لأن العلم يجري في ظروفٍ محكومة، داخل المعامل وفي المؤتمرات والصحف والكتب والجامعات … إلخ. ويُفيد كتاب كُون أن الدراسة الاجتماعية للعلم تُيسِّر لنا سُبلًا جديدةً للنظر إلى المشكلات القديمة عن عدم الاتصال الثقافي؛ أي دراسة مظاهر الانقطاع أو عدم الاتصال الاجتماعي المعرفي. ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أي أنْ تُجرى دراسةُ تطوُّر الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس كُون تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب كُون آراءٌ تؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تتوافر إلا بفضل استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم. وما أحوجَنا هنا إلى أن نُعيد دراسة التراث على هَدْي مثل هذا المنهج بدلًا من الكلام المُرسَل يردِّده من شاءت لهم ظروفهم أو حظوظهم أن يشغلوا مكان الخاصة، ويحكُم عليه العامة، وغايته إشباع وجدانٍ موروث لا عقلٍ فعالٍ مبدع؛ ومن ثَم لا غرابة إذ لا نجد فيما يُقال جديدًا على مدى القرون! ما أحوجنا إلى أن ننحُوَ هذا النحو ونلتزم هذا النهج، ونستفتي العلوم المتخصصة التي تعدَّدَت وتباينَت وزخرَت بها الحياة العلمية على مدى القرن الأخير فأثارت، كما رأينا، راكد الفكر وفجَّرَت طاقات عقليةً، وأفرزَت نظرياتٍ وتياراتٍ أكَّدَت أنها السبيل إلى إغناء حياة الإنسان المادية والروحية على السواء! أقول ما أحوجنا إلى أن نستفتي العلوم حين نعرض لمناقشة قضية مثل قضايا التراث فنسأل علوم النفس واللغة والتاريخ والأنثروبولوجيا والديانات والاجتماع … إلخ، من العلوم المتخصصة كلٌّ فيما يعنيه فتضيء لنا جوانبَ قضيةٍ اعتدنا ترديد اسمها في حماسة بينما نجهل بِنيتها وعناصرها وتاريخ حياتها وتناقضاتها. إننا نسمع ضجيجًا ولا نرى طحينًا. أصواتٌ عالية تشقُّ السحاب تلعن الغرب والتغريب أو علوم الغرب على وجه التحديد، وتدعو إلى علوم العرب أو إلى علومٍ عربية. ونحن مع الدعوة إلى الاجتهاد والمشاركة في مجال البحث العلمي ليكون من بيننا علماءُ قادرون على الإسهام والإضافة إلى تراث الإنسانية، ويأخذ عنَّا الغرب بدلًا من أن نكون عالةً على الغير، فنَقنَع باستيرادِ ما هو مستهلَكٌ من نتاج الإبداع العقلي دون أن نحظى بشرف الإسهام الإيجابي الإبداعي. ولكن هذه الدعوة تُغفِل ألف باء العلم وأبسط أوَّليَّاته، وأن القاعدة الأولى والأساسية هي أن العلم منهجٌ لا نظرية. النظرية رهن بطبيعة الظاهرة موضوع الدراسة، إذا كانت تتناول ظواهر فيزيائية فإن من حقنا أن ندعو إلى فيزياءَ عربية إذا كان للعرب ظواهرُ فيزيائية خاصةٌ بهم، أو أن نُصحِّح شكل الدعوة لتكون دعوةً من أجل أن يُسهِم العرب في مجال البحث العلمي وتطبيق المنهج والاندماج في تيار المعرفة العلمية. وليس من العلم في شيءٍ الزعمُ بأن منهج البحث ثابتٌ أبديٌّ على مرِّ الزمان وعام لكلِّ العلوم؛ ففي مثل هذا القول تناقُضٌ ذاتيٌّ قياسًا إلى قواعد المنهج العلمي ذاته، مثل هذا القول نفي للعلم الذي يؤمن بالتغير والنقد العقلاني، قولٌ يليق بمن يعيش في إسار أيديولوجيا؛ ومن ثَم فلتكُن الدعوة أن نعمل جاهدين لكي نستوعب ونتمثَّل منهج البحث العلمي على هَدْي دراسةٍ عقلانيةٍ نافذة، وأن نُضيف إليه جديدًا وصولًا إلى مرحلةٍ أرقى وأكثر اكتمالًا إذا استطعنا إلى ذلك سبيلًا؛ ومن ثَم يشهد الغرب والعالم أجمع بمجهودنا. ويبقى بعد ذلك أن تكون الدعوةُ أكثر سدادًا إذا قلنا ما بالُنا لا نهيِّئ الظروف والشروط اللازمة لتنشئةٍ اجتماعيةٍ عقلانية للأجيال القادمة، تنشئة تحيي جينة أو بذرة العقلانية، ثم ما بالُنا لا نُطبِّق منهج البحث العلمي على ظواهر حياتنا العربية لغةً واجتماعًا ونفسًا وتاريخًا وثقافة وتراثًا وأمراضًا اجتماعية أو أمراضًا متوطنة … إلخ. وبهذا نُنشِئ حقًّا علومًا عربية، بيدنا لا بيد غيرنا، وبهذا نضع أقدامنا على بداية طريقٍ افتقدناها قرونًا، طريق العقلية الحرة النافذة؛ أي العلم.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/84942494/
على طريق توماس كون: رؤية نقدية لفلسفة تاريخ العلم في ضوء نظرية توماس كون
شوقي جلال
«ليكُن الكتاب دعوةً إلينا لكي نَعتبر بأسلوب التناوُل، ونُفيد بهذا النَّهج، وإن لم نُضِف إليه جديدًا؛ أيْ أن تُجرى دراسةُ تطوُّرِ الثقافة الاجتماعية على نحوِ ما درَس «كُون» تطوُّرَ العلم، وهل التراث الثقافي يتطوَّر في طفراتٍ أيضًا؟ وكيف يكون ذلك؟ فقد ظهرَت بعد كتاب «كُون» آراءٌ تُؤكِّد أن الاستمرار المتجانس لمجتمعٍ ما ثقافيًّا وتراثيًّا يعني الجمودَ وعدمَ التحوُّل من نموذجٍ إلى آخَر مع تغيُّر المفاهيم الرئيسية لعناصر النموذج أو الإطار الفكري، وأن دينامية هذا التحوُّل لا تَتوافر إلا بفضلِ استمراريةِ النشاط الإبداعي الاجتماعي الذي نُسمِّيه العلم.»كَسرَت نظرية «توماس كُون» الموروثَ عن المعرفة العلمية، وقدَّمَت رؤيةً مُغايِرة حول تاريخ تطوُّر العلوم، ومُفادُها أن المعرفة العلمية ليست تراكُمية، بل تَخلَّلها الكثيرُ من الثورات على النظريات السائدة. ويتَّخذ «شوقي جلال» من تلك النظرية مثالًا على ضرورة الخروج عن المألوف، مؤكِّدًا على ضرورة وجودِ بيئةٍ اجتماعية وثقافية صالحة لنُموِّ أفكارٍ ونظرياتٍ جديدة، كما هو الحال في البيئة الغربية التي سمحَت بوجود العديد من المدارس الفلسفية التي تُقدِّم كلٌّ منها رؤيةً خاصةً لتطوُّر العلوم، وقد ساهمَت هذه البيئة العلمية في ظهورِ تياراتٍ جديدة نظرَت إلى العلم خارج النَّسَق السائد. وفي هذا الكتاب يدعو «شوقي جلال» إلى دراسة التراث في إطار العلم، لا في إطار الأيديولوجيا؛ فلا يُمكِن أن نصبح جزءًا من العصر الحديث إذا أغلَقنا على أنفُسنا واكتفَينا بما نملك، فهذا عين الجمود!
https://www.hindawi.org/books/84942494/15/
قائمة المصادر والمراجع
أمستردمسكي، ستيفان (تطور العلم) مجلة ديوجين، ع٣٢، فبراير ١٩٧٦م. بول فيتي، الأيديولوجية في رأي ماركس ونيتشة/ديوجين، ع ٤٣، نوفمبر ١٩٧٨م. ريدنيك، ما هي ميكانيكا الكم؟ دار مير، موسكو، ١٩٧١م. شیخاوات فيرندرا، بعض الاتجاهات الإبستمولوجية في فلسفة العلم، ديوجين، ع٧٢، ١٩٨٩م.
شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي». شوقي جلال عثمان: مُفكِّر تنويري، ومُترجِم من طرازٍ رفيع، وصاحبُ رؤيةٍ حضارية ومشروعٍ فكري أنفق فيه دهرًا ليُقدِّمه للقارئ العربي تأليفًا وترجمة. وُلد «شوقي جلال» بالقاهرة عام ١٩٣١م، ونشأ في أسرة صوفية مُحِبة للثقافة؛ فقد كانت والدته من أسرةٍ صوفية تتبع الطريقة التيجانية، فانعكس ذلك على شخصيته في الزهد والترفُّع والتسامح، أمَّا والده فكان واسعَ الأُفق، ولديه شغفٌ بالقراءة والعلم والموسيقى؛ فكان لذلك أثرٌ كبير على عقلية «شوقي» الذي راح يَنهَل من شتى بحار المعرفة، حتى التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وفيها درس الفلسفة وعلم النفس، وبدأت مرحلةُ الفكر الحر والانفتاح على مختلِف الثقافات؛ فقرأ عن البوذية والكونفوشية، والماركسية، وفلسفات العرب، ونال درجةَ الليسانس عام ١٩٥٦م. تَفرَّغ «شوقي جلال» للترجمة والتأليف، فكتب في الكثير من المجلات والدوريات مثل: صحيفة «الأهرام»، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «الفكر المعاصر»، ومجلة «تراث الإنسانية»، وغيرها من المجلات والدوريات. كما قدَّم للمكتبة العربية قائمةً طويلة من الكتب المُترجَمة والمُؤلَّفة عكست مشروعَه الفكري التنويري، وانشغالَه بالهُوِية المصرية، وحرصَه على إيقاظ الذهن المصري. ومن أعماله المُترجَمة: «التنوير الآتي من الشرق»، و«الإسلام والغرب»، و«بنية الثورات العلمية»، و«أفريقيا في عصر التحول الاجتماعي»، و«الأخلاق والسياسة». أما عن أعماله المُؤلَّفة، فمن أبرزها: «الترجمة في العالَم العربي»، و«التفكير العلمي والتنشئة الاجتماعية»، و«المصطلح الفلسفي وأزمة الترجمة»، و«المثقف والسلطة في مصر»، و«ثقافتنا وروح العصر»، وغير ذلك من الأعمال المهمة التي أَثْرت المكتبةَ العربية. شغل «شوقي جلال» عضويةَ العديد من الهيئات الثقافية مثل: المجلس الأعلى للثقافة (لجنة الترجمة)، واتحاد الكتَّاب المصريين، واتحاد كتَّاب روسيا وأفريقيا، والمجلس الأعلى للمعهد العالي للترجمة (جامعة الدول العربية، الجزائر). نال العديد من الجوائز، أبرزها: «جائزة رفاعة الطهطاوي» من المركز القومي للترجمة عام ٢٠١٨م عن ترجمته كتاب «موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا»، و«جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي».
https://www.hindawi.org/books/38591395/
فراشة الملفوف الكبيرة
مأمون عبد اللطيف الرحال
«أحببتُ من النباتات العائلةَ الصليبية التي تضمُّ الملفوفَ والقرنبيط واللِّفت والكُرُنب والفُجل والخَردَل والجرجير والشوندر؛ ولذلك ارتبط اسمي بأسماء هذه النباتات.»أُحبُّ الربيعَ بشَمسه الدافئة، وأوراقه الخضراء، وأزهاره الكبيرة. أنتشر في مختلِف الأماكن؛ فتَجِدني في السهول، والحقول، والمُروج، والقُرى، والضواحي، وحدائق المدن، ولكنَّ المزارِعين يَعُدونني آفةً زراعية فيَقتلونني بالمُبيدات الحشرية.
https://www.hindawi.org/books/38591395/1/
فراشة الملفوف الكبيرة
ما إن يقترب فصل الربيع بشمسه الدافئة، وخُضرته الواسعة، وأزهاره الكثيرة، حتى ترَوني أطير قريبًا منكم، منتقلًا من زهرة إلى أخرى، فرحةً مسرورةً وسط هذه الطبيعة الخلَّابة التي يزيدها جمالًا ضحكاتكم البريئة، وصيحاتكم العذبة، وأنتم تتراكضون خلفي محاولين الإمساك بي، وأجدها فرصةً سعيدةً للمرح معكم. أُناور في حركاتي تارةً لليمين وتارةً لليسار، وتارةً أرتفع عاليًا كلما اقتربتم مني، وتارةً أخفِّف من سرعة طيراني وارتفاعي؛ لأبقى أطير على مقربة منكم في الحدائق والبساتين على ارتفاعاتٍ منخفضة، قريبًا من أزهار النباتات التي أحطُّ عليها أمتصُّ رحيقها، أو أضع بيوضي على أوراقها. تشاهدوني كثيرًا على مدار العام من شهر شباط، وحتى شهر تشرين الثاني، فأنا من أكثر أنواع الفراشات شيوعًا وانتشارًا في كثير من بلدان العالم. أتواجد في السهول، والحقول والمروج، وفي القرى، والضواحي، وحدائق المدن، وأمتاز بقدرة فائقة على الطيران. أحببتُ من النباتات العائلةَ الصليبية التي تضمُّ الملفوفَ والقرنبيط واللِّفت والكُرُنب والفُجل والخَردَل والجرجير والشوندر؛ ولذلك ارتبط اسمي بأسماء هذه النباتات. اختارت لي أمي نبات الملفوف لتضع بيوضها الصفراء المنتظمة على الوجه السفلي لورقاته الغضة، في مجموعات يتراوح عدد البيوض فيها من ٢٠ إلى ١٠٠ بيضة. وما إن يمر من أربعة إلى ثمانية أيام حتى تفقس هذه البيوض عن يرقات صغيرة جائعة، ذات لون أخضر، يستر جسمها جلد ناعم، تغطِّيه في منطقة الظَّهر خطوط صفراء مستمرِّة، أو متقطِّعة، مع بُقَع سوداء. تخرج يرقاتي هذه من البيوض، وتروح تتسابق في الْتهام تلك الأوراق الطرية اللذيذة بشهية. تزداد شهية اليرقات للغذاء مع تقدُّمها في العمر، حيث تتغذَّى على الوجه السفلي للورقة خلال الأسبوع الأول، ثم تنتقل إلى الوجه الثاني للورقة في الأسبوع الثاني. ومع نمو جسمها وازدياد تغذيتها يتم القضاء على أوراق النبات المضيف فلا يبقى منها إلا تفرُّعاتها. وتمتَد أضرار اليرقات يومًا بعد آخر على النبات كلِّه من خلال الثقوب العديدة التي تُحدثها في رأس الملفوف، والفضلات التي تتركها داخله، وما يؤدِّيه ذلك إلى نمو الفطريات عليه، وتعفُّنه، وتلف المحصول، وعدم صلاحيته لاستهلاك البشر، الأمر الذي يؤدِّي إلى نقمة المزارعين علينا، واعتبارنا آفةً اقتصادية تدمِّر المحاصيل. فتراهم يستخدمون المُبيدات من السموم الكيميائية، والعضوية. يرشُّون بها أوراق النباتات التي تتغذَّى عليها اليرقات، فتنتقل مع الغذاء إلى جهازها الهضمي، مؤدِّيةً إلى تسمُّمها، أو تنتقل بالملامسة إلى جهازها العصبي، مؤدِّيةً إلى شللها وموتها. أو يُطلقون أعداءنا الحيوية، حيث يضعونها على النباتات التي تتغذَّى عليها اليرقات، فتتطفَّل عليها، أو تضع بيوضها داخلها، وعندما تفقس بيوض الطفيل تخرج يرقاته فتتغذَّى على يرقاتنا. لم يكن قصد اليرقات إتلاف المحصول؛ فقد وضعتها أمها الفراشة على أوراق تلك النباتات لتتغذَّى عليها، فينمو جسمها ويكبر ليصل طوله ٢سم، وخلال فترة النمو هذه يتسلَّخ جلدها خمس مرات خلال طورها اليرقي الذي يستمر قرابة ١٨ يومًا. ثم تدخل في طَور العذراء، والذي قد يستمرُّ في سُباتٍ طول فصل الشتاء حتى الربيع القادم؛ حيث تخرج من طَور العذراء فراشة بيضاء جميلة تطير في الحقول وتتابع دورة حياتها في التزاوج ووضع البيوض على نباتاتها المفضَّلة. أمَّا في الجو الحار فبعد ٣٠–٤٥ يومًا من فقس البيوض، تتحوَّل اليرقات إلى فراشاتٍ فتيةً ذات أجنحة بيضاء رائعة جميلة تساعدها على الطيران بجواركم، فتلاعبكم، وتلهو معكم، وتجلب لكم البهجة والسرور، وتزيد الطبيعة جمالًا على جمال. يدعونني الفراشة البيضاء الكبيرة؛ حيث يبلغ طولي بحدود ٦ سنتيمترات، تمييزًا لي عن فراشة أخرى تشبهني ولكنها أصغر حجمًا. تُزين أجنحتَنا نحن الفراشات الإناث بقعتان كبيرتان ذات لون أسود. تُميِّزنا عن إخوتنا الذكور؛ حيث تكون أجنحتهم بيضاء بدون تلك البقع السوداء. نمتاز عن غيرنا من الفراشات بصفات مميزة لعشيرتنا؛ فقرون الاستشعار لدينا صولجانية، وأجنحتنا تتوضَّع بشكل عمودي على الجسم حين الراحة والتوقُّف فترةً طويلة، وننشط في ساعات النهار، والعذارى لدينا عارية، وألوانها زاهية، أمَّا يرقاتنا فيصل طولها إلى ٤ سنتيمترات. ولدينا في السنة ثلاثة أجيال، مدة كل منها ٣٠–٤٠ يومًا، وقد تزيد عن ذلك أو تنقص حسب مكان إقامتنا، وظروف المناخ السائدة فيه، ووفرة الغذاء، ومناسبة الأجواء. وقبل أن أغادركم أصدقائي الأطفال أُذكِّركم بنفسي؛ أنا صديقتكم الفراشة البيضاء. أجمل فراشات الكوكب وأكثرها انتشارًا. تسمياتي عديدة؛ فأنا أبو دقيق الملفوف، وأنا الفراشة البيضاء الكبيرة، وفراشة الكرنب البيضاء كبيرة الحجم. أنتمي إلى فصيلة أبو الدقيق الأبيض في رتيبة صولجانيات القرون، وتحت رتبة أبي الدقيقات في رتبة حرشفيات الأجنحة التي تحتوي ٧٦ جنسًا و١١٠٠ نوع من صف الحشرات، شعبة مفصليات الأرجل، وينتهي نسَبي إلى مملكة الحيوان.
مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها.  بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية.  أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية. مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها. بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية. أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية.
https://www.hindawi.org/books/19069697/
الحب فوق هضبة الهرم
نجيب محفوظ
«عرفتُ الحبَّ لأول مرة في حياتي. إنه كالموت تَسمع عنه كلَّ حين خبرًا ولكنك لا تعرفه إلا إذا حضَر. وهو قوةٌ طاغية يلتهم فريستَه، يَسلبُه أيَّ قوةِ دفاع، يطمس عقله وإدراكه، يصبُّ الجنونَ في جوفه حتى يطفح به. إنه العذاب والسرور اللانهائي.»‏استطاع «نجيب محفوظ» أن يَرصُد في كثيرٍ من أعماله كثيرًا من التحوُّلات السياسية والاقتصادية وتأثيرَها على الحياة الاجتماعية، وقد تضمَّنت هذه المجموعة القصصية التي كتَبها في نهاية السبعينيات من القرن الماضي كثيرًا من التغيُّرات الاجتماعية التي شَهِدها المجتمع المصري عَقِب الانفتاحِ الاقتصادي وبدايةِ تفتيت الطبقة الوسطى، وتوضح كيف أصبح المال هو القِيمةَ العليا في المجتمع، بينما صار العلم عِبئًا على صاحبه. تجلَّى هذا الوضع في قصة «الحب فوق هضبة الهرم» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث عبَّرت عن التحوُّلات العنيفة للمجتمع من خلال أزمة «علي» و«رجاء»، وصعوبة زواجهما بسبب سوء الوضع المادي ﻟ «علي». ومن أروع قصص المجموعة قصةُ «السماء السابعة»، التي يأخذنا فيها «محفوظ» بانسيابية إلى عالَم الأرواح، فنفتتن بخياله ونَهِيم في عالَمه. بالإضافة إلى غيرهما من القصص التي عبَّرَت عن مختلِف الهموم الإنسانية.
https://www.hindawi.org/books/19069697/1/
نور القمر
تَجرِبةٌ جنونية، انتشر نبضها في زمان الوداع، وانغرست جذورها في طمي النيل، تحت ظلال النخيل واللبلاب والجازورينا، مُهومة في الحي الرنَّان ذي الإيحاءات اللانهائية، روض الفرج. اهتدائي إليه مصيرٌ حتمي؛ فهو مصيف من يبهظه الرحيل إلى الإسكندرية أو رأس البر. وهناك وجدت مقلدًا لكشكش بيه، وآخر لبربري مصر الوحيد، ثم قادتني قدماي — من باب العلم بالشيء — إلى كازينو «الواق الواق» فقضيت سهرة سماع لصوت «نور القمر». لعله أصغر المسارح، يقع في نهاية الخط، مرسوم على هيئة سفينة، تُطوِّق جانبَيه أشجارُ الياسمين والحنَّاء واللبلاب، ومقاصير أهل الخلوة، وتشغل وسطَه صفوفُ الكراسي الخيزران. يُقدِّم أول ما يُقدِّم تواشيح عريقة، فرقصة شرقية، ثم يُرفَع الستار عن «نور القمر» وتختها المُكوَّن من القانون والعُود والكمان والرق وأربعة من السنِّيدة العجائز. رفعت إلى المطربة عينَين فاترتين، شيء أرعشني كجرس تنبيه، انحصر وعيي كله في النظر، لم أسمع من الغناء إلا أصداءً مُتلاشية، انسحب مني الماضي وذاب، واتَّجهت بدفعة من المجهول نحو قبلة جديدة، منذ تلك اللحظة أمسى «الواق الواق» مقصدي كل ليلة طوالَ فصل الصيف، لم أهجره ولكنه هجرني بانتهاء المصيف وإغلاق المسارح والكازينوهات، وتحول روض الفرج إلى مرفأ لسفن الغلال. من هي «نور القمر»؟ امرأةٌ ناضجة، تتألق بأبَّهة الأنوثة الكاملة؛ لعلها في الثلاثين، تختلف الآراء في تقدير سنها بحسب الأهواء، لا تجد عند أحد معلومةً شافية عنها. قوًى مجهولة تعزلها عن الناس في موسم العمل ثم سرعان ما تختفي بقية العام. جميع السكارى يتكاشفون بعذوبة جمالها، ولكنني — فيما بدا لي — خُصصت بالهيام بها لحد الجنون. ماذا جرى؟ إنهم مُنهمِكون في الأكل والشرب والضحك والطرب، وإعجابهم بها عابر، على حين سلبت مني — بشراهة — الروح والجسد. ويقول من يدَّعون الخبرة: صوتها رقيقٌ محبوب. فأقول: ولكنها لا تُغنِّي إلا الأغاني القديمة، وفي اعتقادي أن أي مُلحِّن معاصر يسرُّه أن يُلحِّن لها. – ولمَ تدفن نفسها في روض الفرج؟ – من يدري؟ من يدري حقًّا؟ إنها سرٌّ مُغلَق. عِلمي بها — كالآخرين — محدود جدًّا، أما هيامي فلا حدود له. على أي حال لم أعرف في حياتي الانطواء أو السلبية. ولكن من أنا؟ من ذوي المعاشات، في الخمسين من العمر، أعزب، ليس بيني وبين المرآة التي تعكس صورتي أي ضيق أو اعتراض. أحب الطعام الجيد، أكول، أُحسنُ طهي ألوان من الطعام كأمهر الطهاة، ضحوك، صافي السريرة غير أن عزوبتي ركَّزت اهتمامي في ذاتي فعَلِقت بي أنانيةٌ طفولية. كنت ضابطًا بالجيش، أدركني المعاش وأنا صاغٍ في الخامسة والأربعين من عمري. خدمت في السودان والصعيد والسلوم. وكنت طوال عمري جامح الأهواء، مُغرَمًا بالنساء، سيِّئ السمعة. في صِباي وشبابي خيَّبت أمل والديَّ رغم أني كنت وحيدهما. بذلا جهدًا طموحًا ليجعلا مني طبيبًا أو وكيل نيابة، ولكنني لم أظفر بالابتدائية إلا بطلوع الروح وقد جاوزت الخامسة عشرة. لذت بالمدرسة الحربية كآخر معقل للأمل كي تجعل مني شيئًا ما، وكنت بدينًا مُفرِطًا في البدانة. رمقني ناظر المدرسة الإنجليزي بدهشة كأنه يتساءل عما جاء بي، ولكني أظهرت من البراعة في السباحة والعَدْو ما سرَّه وفتح قلبه لي، فقَبِلني أو أصرَّ على قَبولي وهو الأصح. كان الفشل هو ما يدفعنا إلى المدرسة الحربية، لا الوطنية ولا الروح العسكرية، غير أن الروح تتولد بطريقةٍ ما. أما الوطنية فقد تكفَّلت بها ثورة ١٩١٩. وقد اشتركت في مظاهرة المدرسة الحربية المشهورة، وأصابني جندي إنجليزي بالسونكي في وركي، ولولا العفو العامُّ لفُصلت من المدرسة وخابَ آخر رجاء في وظيفة محترمة نوعًا ما. وتخرَّجت مُلازمًا ثانيًا في نهاية أربعة أعوام دراسية، منها عام عقوبة لاشتراكي في المظاهرة. وفي الترام سمعت أحدهم يهمس: كل هذا البدن ومُلازم ثانٍ فقط؟! فهمس آخر: إنه في وزن لواء. وكان اللواءات في تلك الأيام ذوي كروش وبدانة، تحسبهم قصَّابين لا عسكريين. ومات والداي، وامتدَّت خدمتي خمسة وعشرين عامًا، ثم أدركني المعاش فوجدت نفسي ضخمًا وحيدًا ضائعًا يعيش في زنزانة انفرادية في صورة شقة. رسمت خطة لإنقاص وزني فصِرت مقبولًا، وفترت بهجة الطعام والنساء، وكان الشِّعر يستهويني فقرَّرت أن أتَّخذ من حافظ إبراهيم مثالًا على نحوٍ ما، وشغلت وقت وحدتي بالقراءة في شتى المعارف الدنيوية والدينية، وبتُّ من رُوَّاد قهوة المالية — قهوة أصحاب المعاشات — ألعب النرد والدومينو، وأتكلَّم في السياسة وأعلق على الأحداث، أُفلسفها مُستعينًا بثقافتي المُتنامية، ثم أنضمُّ لكثيرين لأداء صلاة الجمعة. ورحم كثيرون وحدتي فاقترحوا عليَّ أن أتزوَّج. – الخمسون مقبولة، صحتك جيدة، لم تشب شعرةٌ واحدة في رأسك بعد، والجنس يعيش في مثل هذه الظروف حتى آخر العمر. فكَّرت في ذلك باهتمامٍ فاق تصوُّري، ولكن ثبَّط هِمَّتي أن ظروفي لن تُرشِّحني إلا لامرأةٍ يائسة، وقد أبَيت ذلك. الحق أني اعتدلت في شهواتي؛ ربما كردِّ فِعل لما سبق، وقنعت أكثر الوقت بمراقبة الهوانم من موقعي في القهوة، ونادرًا ما وجدت الدافع القويَّ لمطاردة إحداهن. أصبح لهن في قلبي أكثر من مُنافس كالكتاب والمسرح والسينما والأصحاب المدنيين، حتى اقتادني مصيري المحتوم إلى «الواق الواق». عرفتُ الحب لأول مرة في حياتي. إنه كالموت تسمع عنه كل حين خبرًا ولكنك لا تعرفه إلا إذا حضر. وهو قوةٌ طاغية يلتهم فريسته، يَسلبُه أيَّ قوة دفاع، يطمس عقله وإدراكه، يصبُّ الجنون في جوفه حتى يطفح به. إنه العذاب والسرور اللانهائي. تلاشى شخصي القديم تمامًا وحلَّ محلَّه آخرُ بلا تراث ولا مبادئ، ينقضُّ على مصيره بعينَين معصوبتين. وجعلت أتساءل: «كيف الوصول إلى نور القمر؟» إنها تُغنِّي وصلتَين ثم تختفي حتى مساء اليوم التالي، لا تُرى إلا فوق المسرح. لم تذهب إلى مقصورةٍ قط. الراقصة وجوقتها يفعلن ذلك، ويسعين إليه، أما هي فما إن تفرغ من الغناء حتى تتلاشى في الكون. وإني رجل في الخمسين، محدود الدخل، لا جاه ولا مركز، لا قدرة لي على حيازتها، ولا أدري إن كانت تقبل علاقةً عابرة، أما ابتغاء الرضا والحب فما أبعده عن تصور من كان في مثل سنِّي وحالي، وأما الزواج فماذا يعني لها إن لم يعنِ الأبهة والرفاهية؟! أشار عليَّ العقل بأن أقتلع فِكرتها من نفسي المُعذَّبة، ولكن ليس للعقل صوت يُسمَع في ضجة أهازيج الهوى، وصخب أمواجه العاتية، وأزيز أعاصيره الهوج. وأعجب من ذلك كله أن يتحول خبير الأطعمة المُتقَنة، زير النساء، إلى مجنونٍ مُلهَم، يهيم في دنيا الحب المُترَعة بالأسرار، يُخاطب بأنينه المجهول، ويجدُّ في البحث عن لا شيء في كل شيء، في ضياء الشمس، بهاء القمر، وهج النجوم، ثراء السُّحب، أريج الأزهار، سلاسة الماء؛ فقد غطَّت نور القمر على حياتي وحياة الكون من حولي. وفي بوتقة الهجران يُبعَث القلب ويتطهَّر ولو كان في الأصل غليظًا مُشبعًا بالإثم. وقد خبرت الضحك والسخرية والشهوات فآن لي أن أعرف الشجى وأترنَّم بألحان الأسى. مضيت أنسحب برفق من جو أصحاب المعاش، من الثرثرة والمقامرة والشراب والخوف من الموت. ملأتْ نور القمر وجداني واستأثرت بوعيي. أبَيت الاستسلام للقهر والهزيمة. جعلت أشجِّع نفسي وأضرب لها الأمثال من ماضيَّ؛ استهتاري الفائق، ومغامراتي الجريئة، واقتحاماتي المُذهلة. عبدت دائمًا ما أهوى وأريد، واستهنت دائمًا بالتقاليد والسمعة والقيل والقال. وموقفي يوم المظاهرة المشهورة هل يُنسى؟ لقد أضربنا وذهبنا إلى مدرسة الشرطة، هتفنا بالإضراب. ولما وجدنا ترددًا أطلقت رصاصة في الهواء، وتحدَّيت بدانتي فكنت أعدو بسرعة الريح كأني برميل بخاري. مُحالٌ أن أتقاعس يا نور القمر. وصمَّمت ذات ليلة، سمعت الوصلة الأولى وكانت: ثم غادرت مجلسي ماضيًا إلى الباب الخلفي للكازينو. اعترضني البوَّاب فقلت بكبرياء: أعرف طريقي. سرعان ما جاءني الجرسون حمُّودة مُبتسمًا مُتسائلًا: أي خدمة يا بيه؟ – حمودة، أرغب في مقابلة نور القمر لأُهديَها إعجابي. – الجميع يُعلِنون الإعجاب بالتصفيق. – ولكني أريد أن أُقدِّمه بنفسي. – ممنوع. فتساءلت بحدة: من صاحب هذا الأمر السخيف؟ – أصحاب الشأن في الكازينو، ما أنا إلا عبدٌ مأمور. – ولكن لماذا؟ – لا أدري يا سيدي، جميع الزبائن يعرفون ذلك. فقلت بعجرفة: ولكنني سأدخل. فقال بتوسل يليق بزبون دائم مثلي: أرجوك يا بيه. – على مسئوليَّتي. – هناك سنجة الترام. أفقت من غضبي. سنجة الترام هو فتوة المحل وحاميه. لا قِبَل لي به فضلًا عن أنني في الخمسين من العمر، تراجعت مُتسائلًا في استنكار: لهذا الحد؟ – أنت بيه محترم ولا يليق بك الشغب. تنهَّدت لأُروِّح عن غيظي وقلت له: إذَن فعليك أن تُبلِّغها إعجابي. فقال بأسف: ولا هذا. – أمرٌ غريب حقًّا. – ما باليد حيلة. – لماذا لا تفعل كما تفعل الراقصة وجوقتها؟ فقال وهو يحني رأسه: الراقصة وجوقتها تحت أمرك. إن هي إلا جولةٌ خاسرة، ولكنها ليست كل شيء. الطريق طويل والزمن طويل. ها هو صوتك الحنون يتسرَّب إلى أعماقي مُعطَّرًا بالفتنة وليس بيني وبينك إلا خطوات. لو كان لي أنف كلب لشممت أنفاسك. لو كان لكِ قلب لركزت بصرك على عابدك. ولو أعيَتني السُّبل المادية في الوصول إليك فثَمَّة قوة الحب ستصنع معجزةً فائقة للعقل في الوصول إليك هازئةً بأعيُن الحراس. في تلك الليلة تعمَّدت التأخير حتى استقللت الترام الأخير، واخترت مجلسي إلى جانب الجرسون حمُّودة، دفعت عنه ثمن التذكرة فاستعدَّ الرجل للحديث المُتوقَّع. ولما غاص الترام في الظلام شاقًّا طريقه بين الحقول تساءلت: ما معنى هذا يا حمودة؟ – تسأل عن نور القمر؟ .. هذا هو الواقع. – أهي سيدةٌ مَصُونة حقًّا؟ – هي كذلك فيما نرى. – وما السر؟ – لا عِلم لي به. – يوجد سر ولا شك. – عِلمي عِلمك. – إنك تعرف السر ولكنك تمكر بي. – صدِّقني، ليس عندي أكثر مما قلت. – هل تؤمن بالخرافات؟ – إنها حقيقة لا خرافة. – هل تُصدِّقها؟ – فلْنُسلم بأنها شاذَّة، ما الفائدة؟ – عندك تفسير لها؟ – لا أشغل نفسي بالتفكير في ذلك. – وراءك أشياء ولا شك. – أبدًا، صدِّقني. – هل تذهب نور القمر عقب العمل وحدها؟ – كما ترى فإني أذهب قبل ذلك حتى لا يفوتني الترام الأخير. – بأي وسيلة تذهب هي؟ – ربما تاكسي، حنطور المدير موسى القبلي، فورد صاحب الكازينو حفني داود، من يدري؟ – الآن فهمت. – ماذا فهمتَ يا سيدي؟ – إنها عشيقة أحد الرَّجلَين! – الله وحده يعلم. – ألا يعرف أحد شيئًا عن سيرتها الخاصة؟! – نحن نتجنَّب الفضول حفظًا على رزقنا. – أين تسكن المرأة؟ – لا أدري. فتنهَّدت وقلت بنبرة اعتراف: حمودة، أنت تدرك ولا شك ما وراء أسئلتي المُلحَّة. – أجل يا بيه. – والعمل؟ – ما باليد حيلة .. النساء كثيرات .. وكلهن في النهاية طعامٌ واحد. أهديت إليه سيجارة، غمزته ببريزة، ولكنه قال: إني لا أخدعك، وليس عندي مُقابل. – حمودة! – صدِّقني، لقد وقع في هواها عمدة صعيدي واسع الثراء، ولكن ماذا أفاد؟ فهتفت بغيظ: إن ملكة مصر أيسر منالًا من ذلك. – هذا هو الواقع. وتفكَّرت مليًّا ثم سألته: سنجة الترام رجلٌ قوي، هل يمكن الاستعانة به؟ – لا أدري، جرِّب إن شئت. حقًّا إن مجرد الاتصال به مهانةٌ ما بعدها مهانة، ولكن ما الحيلة؟ سألته: هل تُساعدني في ذلك؟ – إنه صاحب غرزة تبدأ عقب التشطيب. ازددت امتعاضًا وأنا أسأل: أين؟ – قارب شراعي … – ممكن تُمهِّد لي السبيل باعتباري من أصحاب المزاج؟ – هذا ممكن. لم أكُن يومًا من أصحاب المزاج. إني من أصحاب الأمزجة الفوَّارة التي لا تتلاءم مع المُخدِّرات. وقد دخَّنت مرةً البانجو في السودان، وسرعان ما غشيَني النوم فتوكَّد نفوري من المُخدِّرات. وفي مثل الحال التي أنا مُقبِل عليها بوسعي أن أُمثِّل وأن أتجنَّب التدخين الحقيقي. ما العمل وجنوني يستفحل؟ لقد ضاعت مني نفسي. جعلت أنظر إليها — كغريب — بعين الرثاء والأسى، وهان عليَّ أن أسعى لمصادقة سنجة الترام. وهو ربعةٌ متين البنيان ضخم الرأس والوجه، في جبينه ثلاث ندبات وفي أنفه اعوجاج، واسع الأشداق كأنه من أكَلة الأحجار. وسرعان ما حسبت تكاليف السهرة فوجدتها — مع الإكرام — تستهلك خمسين قرشًا، وهو قدر لا يُستهان به، مع الاستمرار الذي يقتضيه توثيق العلاقة. تسلَّلت إلى القارب فصافَحني على ضوء شعلة عربة ترمس وتمتم: أهلًا. فشددت على اليد الغليظة وأنا أقول: مساء الخير يا معلم سنجة. وانغرست على جانب وسط تكتُّل من الأوباش، وانساب القارب فوق الماء الرزين واهبًا ذاته المُتأرجحة لظلامٍ دامس تُشعشعه أضواء النجوم كالهمسات. لعلهم من تجار الغلال والبصل، يُنكِّتون ويُقهقهون بفظاظة. ودارت علينا الجوزة لدى امتلاء الشراع بالهواء، ولاطَفتنا نسائم مُعطَّرة برائحة النيل. ورغم حذري ثَقُل رأسي، وناء قلبي بالحزن. ومن حسن الحظ أن أحدًا لم يهتمَّ بأحد؛ فلم أُضطرَّ إلى الخروج من صمتي وأفكاري. وعند الورَّاق غادرَنا البعض، وانفضَّ السامر عند الفجر. وُثِّقت المساهرة بيني وبين سنجة الترام؛ مساء الخير يا معلم سنجة، مساء الخير يا أنور بيه. دعوته للغداء عند الدهَّان فدعاني للغداء في المذبح. وجدتني أندمج في أوساط البلطجية وتجار المُخدِّرات. أرهقني الخزي والحزن، عجبت لتدهوري، وكيف ساقني إليه أنقى وأصدق عاطفة شدا بها قلبي. أجل طالما تحدَّيت التقاليد والحرص على السمعة الطيبة، ولكن عربدة العشاق شيء ومخالطة الأوباش شيءٌ آخر. ولم أعد أختلف إلى المقهى إلا في النادر. وخمَّن الصحاب أن في الأمر امرأة ولكنهم لم يتصوروا أي امرأة تكون، ولا أي تدهور دُفعت إليه بيد حبها الناعمة، وطبعًا كتمت سِري حتى لا أكون حديث الجاد والساخر. كذلك ندر الوقت الموهوب للقراءة، غير أن بعض الشِّعر الذي سبقت لي معاشرته امتلأ بحياةٍ جديدة وتبدَّى بحسنٍ جديد وتفجَّر عن قوًى جديدة، فأدركت أن جمال الشعر لا يكمن في ألفاظه وموسيقاه وصوره، ولكنه يكمن قبل كل شيء في القلب البشري. وفي تلك الفترة من حياتي زارتني عمَّتي نظيمة، أرملة في الستين، بكريُّها مهندس مقاول قدُّ الدنيا، وشقيقه موظف دبلوماسي في سفارتنا بالحبشة. قالت: انقطعت عني منذ مدة ولكني لا أنساك. فلثمت خدها النحيل مُمتنًّا، وجعلت تتفحَّصني باهتمامٍ أثار قلقي، ثم تساءلت: حتى متى ترضى بهذه الحياة المُقفِرة؟ أدركت أنها تعود إلى موضوعها المُفضَّل وهو «الزواج»، فقلت: اعتدت يا عمتي العزوبة. فقالت بحرارة: عادةٌ سيئة، ضد مشيئة الله. – كل شيء بمشيئة الله يا عمتي. احتست الشاي وهي تفكر، ثم قالت بنبراتٍ جديدة تمامًا: أنور .. حدَّثني حمدي حديثًا لا يُصدَّق. حمدي مأمور شرطة وزوج ابنتها الوحيدة، وقد اضطرب قلبي وتساءلت: ماذا؟ – قال إنك تُصاحب قومًا ليسوا من أصلك ولا مستواك. فزعت، هل تتفشَّى الأسرار بهذه القوة؟ قلت مُدافعًا: كلنا أولاد حواء وآدم. – ولكنهما أنجبا قابيل كما أنجبا هابيل. وقرأتْ في وجهي ولا شك تحرُّجي وضيقي، فقالت برقة: أردت أن أحذِّرك فسامِحْني. تألَّمت ولكني لم أُبالِ. عزمت على مزيد من الخطوات المُسدَّدة. ها هو سنجة الترام يتردد على شقَّتي في المنيرة رافعًا الكُلفة. يتناول الطعام أحيانًا، وأحيانًا يضطجع نائمًا، ومرَّات أودَعَ عندي حشيشه بعيدًا عن أي مظنَّة. أصبح البيت بيته ابن القديمة، وحُمتُ حوله مُتحيِّنًا الفرص. آنَس إليَّ فروى لي قصة حياته منذ نشأته في سوق الزلط؛ معاركه، سجنه، بلاءه في ثورة ١٩١٩، حتى اختير فتوة لكازينو «الواق الواق». – موسى القبلي هو الذي اتفق معي. – المدير؟ – نعم. فقلت بمكر: يُقال إنه قريب لنور القمر. – كلامٌ فارغ. – بذلك يُفسِّرون عُزلتها الغريبة. – سكارى وأغبياء. – أصل عزلتها تُثير القيل والقال. – إنها حرةٌ تفعل ما تشاء. – تعني أنها هي التي ترفض المؤانسة؟ – عِلمي عِلمك، ما يهمُّني أنني مُكلَّف بإبعاد من تُحدِّثه نفسه بالاقتراب منها. – بلا علم بسبب ذلك؟ – ليكُن ما يكون. هَبْها امرأةً مصونة، أو رجلًا مُتنكرًا في صورة امرأة، أو عشيقة للمدير أو صاحب الكازينو، ماذا يهم؟ من حسن الحظ أنني لا أرغب فيها. وضحكنا طويلًا، ثم سألته: ماذا كنت تفعل؟ – كنت أقتحم الحارس والمحروس. فقلت بدهاء: ظننت أن الأسرار لا تغيب عن رجلٍ مِثلك؟ – الأسرار التي تهمُّني فقط. – ألستَ صديق المدير وصاحب الكازينو؟ – لك أن تعتبرني صديق الجميع، ولك أن تعتبرني بلا أصدقاء. وكنت عرفت من طبعه أنه لا يُطيق سماع ثناء على أحد، فقلت: يبدو أن المدير رجلٌ محترم. فقال ساخرًا: ما هو إلا قوَّاد. – قوَّاد؟! – صاحب بيت دعارة. انبهر رأسي بضوء فوسفوري مُباغِت. هل يستغلُّ نور القمر بطريقةٍ مُحنَّكة؟ يا لخيبة الأمل إذا لم تكُن المرأة إلا مُومسًا؟! ولكن حتى هذا الفرض لم يُطفئ لمعة الوجد في قلبي، بل لعله أرَّثها بفتح باب يسير للوصول. وصبرت حتى دار رأس سنجة ورقص الانسجام في مخايله فسألته: ما رأيك في سهرة في بيت موسى القبلي؟ فقال بازدراء: أعوذ بالله. – من باب العلم بالشيء؟ – ولكنك كهلٌ محترم وأب. فقلت ضاحكًا: لست إلا أعزب. – أعوذ بالله. ثم مُستدركًا: وكيف تعيش بنصف دين؟ فقلت لنفسي بأسًى: «حقًّا ينقصني النصف الآخر.» قلت للجرسون حمودة وأنا أغمزه ببريزة: دُلَّني على بيت موسى القبلي. ابتسم الرجل ابتسامةً عريضة، غمز بعينَيه، قال: بريزة أخرى. فأثنيت في سِري على صدق فِراستي. البيت في أول شارع مهران السندي المُتفرِّع من شارع دوبريه، شقة أنيقة صامتة، الأبواب مُغلَقة، كأنها خالية. قدَّمني حمودة إلى موسى القبلي فتلقَّاني بوجهٍ ودود غير الوجه الذي يُدير به الكازينو. وقلت لنفسي من بلطجي إلى قوَّاد يا قلبي لا تحزن. أما هو فقال بلا حياء: جنيهان من فضلك. دفعتهما بلا تردد فقال: آخر حجرة في الدهليز، هل تريد شرابًا؟ .. زجاجة الأوتار بجنيه واحد. اللص .. إنها في السوق بثلاثين قرشًا. قلت مُعتذرًا: ربما في المرة القادمة. فقال بشيء من الفتور: الهدوء هنا مهم جدًّا. كم لعب الأمل بقلبي أن أجدها عقب فتح الباب، ولكن المعجزة لا تقع بمثل هذه السهولة. ها هي امرأةٌ أخرى لا رغبة لي فيها، تنضمُّ إلى سلسلة المغامرات العقيمة المُتلاشية في العدم واللامُبالاة. وقرَّرت أن أحُوز ثقة موسى القبلي ورضاه، كما فعلت مع حمودة وسنجة الترام. وسطاء سوء ولكن بيد أحدهم مِفتاح الكنز. مثل هذا العناء تُكابده الشجرة حتى يتمخَّض ليلها الطويل عن زهرةٍ ضاحكة. واقترحت عليه — موسى القبلي — في المرَّات التالية أن أُشاربه في حجرته الخاصة قبل الذهاب إلى حجرتي المقسومة. انبسط واعتبر ذلك تحيةً فريدة. وذات ليلة قال لي: علمت أنك من زبائن «الواق الواق»؟ – ألم تقع عيناك عليَّ؟ .. طالما رأيتك وأُعجبت بإدارتك. – الأمر مختلفٌ غير أن وجهك بدا لي غير غريب وأنت تُطالعني هنا لأول مرة. شجَّعته على الشراب وقلت: إني أشرب في اعتدال لأسبابٍ صحية. – لكنها مفيدة للصحة. فقلت ضاحكًا: الأمر مختلف. – موظف؟ – على المعاش. – لكنك ما زلت في طور الرجولة؟ – الضابط يُحال على المعاش في أي سن. – كنت ضابط جيش؟ – كنت. فضحك عاليًا وقال: حلمت في صغري بأن أكون ضابط شرطة. – مصيرنا في الحياة لا تتحكم فيه رغباتنا. وهو يضحك مرةً أخرى: على أي حال فعملي ذو علاقة وثيقة بالشرطة. – فال الله ولا فالك. – مُتزوج؟ – كلا. – يندر أن يجيء أحد في سنك. فقلت ساخرًا: الحياة دائمة التقدم. – وكيف عرفتَ بيتي؟ – صاحب الحاجة مُستكشِف. – حمودة؟ – نعم. – رجلٌ غاية في الفطنة. فرميت سهمي الأخير قائلًا: وقف مصادفةً على سر شغفي بنور القمر. رفع حاجبَيه الخفيفين وقال: أنت من عُشَّاقها؟ فحنيت رأسي لبلوغي آخر الأبواب وانتظرت الفرج غير أنه قال: لولا عُزلتها ما أثارت شغف أحد. – ولكن الشغف سبق اكتشاف عزلتها. – لا تهتمَّ بالمُمتنع، عندي من هنَّ خير منها. يا للداهية .. هل خاب المسعى أيضًا؟! .. وانطفأت الجمرات تحت كثافة الرماد. وسألني سنجة الترام: كيف تُطيق هذه الوحدة؟ كان قد فرغ من قدح الشاي الرابع فاسترخيت جفونه من السطول، أجبته: العادة أقوى من الوحدة. – وهل يليق بمثلك التردد على بيت دعارة؟ فلم أُحِر جوابًا، أما هو فقال: اعتزمت على أن أكمل لك نصف دينك. فضحكت وقلت: إني الأعزب الأبدي يا معلم سنجة. فقال بصراحةٍ مُخيفة: عندي بنتٌ مُطلَّقة. لطمني قوله كنذير حريق، أما هو فواصَل: بنت ممتازة، هدية، أوقعها سوء الحظ في رجل لا قيمة له. ما توقَّعت أن أتعرَّض لغضبه قط. لعنت في سِري الزمان والمكان. قلت: يلزمني تفكيرٌ طويل؛ فالتخلِّي عن عادةٍ مُزمِنة كالعزوبة ليس بالأمر الهيِّن. بات الخطر تحتي تمامًا مِثل ظل منتصف النهار. انسحِب من التجرِبة كلها قبل أن يدهمك القضاء. هكذا حاوَرني عقلي، ولكني كنت أحلم بالنجاة وأنا أتدحرج نحو الهاوية. لم تعد قوةٌ بقادرة على صدِّي. الحب المستبدُّ الذي لا قاهر له، ذلك الغول الذي تُغْنيه فريسته عن المطاردة. الحُلم الذي يُزري بكافة الأحلام ويُحوِّلها إلى نُفاية. لم أنقطع عن موسى القبلي جريًا وراء المزيد من الأمل والعرفان. ولما ثمل وانبعث من قلبه الخيال قال: بيتي محترم، ليس بين زبائنه زبون واحد من الرعاع. ابتسمت مُوافقًا فتساءل: ما رأيك في فتياتنا؟ فقلت بإصرار: اعترفت لك بأني مشغوف بالغناء. – نور القمر؟ – هو الحق. – أنت رجلٌ غريب. – ألم تُحبَّها أنت؟ – كلَّا .. والحمد لله. – الحمد لله؟! – لو بدرت مني حركةٌ واحدة تنمُّ عن ميل لفقدت عملي في الحال. – إذَن فهو حفني داود صاحب الكازينو! – ماذا تعني؟ – هو العاشق الغيور. – إنه عجوزٌ ذو وجه قرد. – ذلك أدعى للغَيرة. – صدِّقني إنني أتجاهل الأمر كله. – ولكن عندك أفكار ولا شك. – ليكُن عاشقها أو أباها .. من يدري؟! – هل … – هل … – هل يعجز مثلك عن مساعدتي؟ – ولمَ أُكدِّر صفوي ومستقبلي بسببك؟ – كصديق. ولكنه قاطَعني بجفاء: ما أنت إلا مُغرِض. – لا تسئ بي الظن. – لا تُحاول إقحامي في هذا الأمر، لا تكن أنانيًّا، غامر بنفسك إذا شئت وإلا فاصرف النظر. فقلت بحرارة: أقدم لك الأسف والاعتذار! مضيت أُشاربه دافنًا همِّي في الصمت، ومضى يذوب في النشوة وينفض عن نفسه الكدر، ثم سألني: هل أغضبتك؟ – الحق لا يُغضِب، ولكن كيف عرفت حفني داود؟ – كان ناظر مدرسة أهلية، وكنت كاتب حسابات عنده، وتحت ضغط مراقبة وزارة المعارف ومحاسبتها اضطُرَّ إلى تصفية المشروع، وبعد حين قدم مشروع «الواق الواق» وضمَّني إليه مُديرًا. – ومتى عملت نور القمر عنده؟ – من أول ليلة، لعله لم يَقُم بالمشروع إلا من أجلها. – وهو الذي فرض عليها العزلة؟ – على الأقل هو الذي أصدر الأوامر إلينا. – أتصوَّر أنها تجيء معه وتذهب معه؟ – في الفورد. – لا شك أنه أصبح ذا مال؟ – أعتقد ذلك. لم أُهدر الوقت سدًى كما توهَّمت، لقد أثريت بمعلوماتٍ مُفيدة، وتحدَّد سبيلي كما لم يتحدد من قبل. ولن أقطع صلتي بموسى القبلي مُداراةً لنواياي الحقيقية. واقتحمني سنجة الترام بزيارة توقَّعتها وخشيتها. وكنت قد تجنَّبت الانفراد به لعله يدرك موقفي من اقتراحه، ولكنه كان مُدمِن بلطجة، مُعتادًا للأخذ دون مُقابل. ورغم المجاملات ران الفتور على اللقاء، وبتخلِّي البشاشة عن قسماته أسفرت عن دمامتها وندرها. تساءل: ماذا جرى؟ إنه يتساءل عن سِر تباعدي رغم وضوحه فيَضطرُّني إلى اختلاق المعاذير. قلت: ليس المزاج على ما يُرام. فقال بقحة: هذه عاقبة التردد على بيت قوَّاد. فقلت باستياء: ليس الأمر كذلك. فسأل ببرود: متى تفي بوعدك؟ – أي وعد يا معلم؟ – ألم نقرأ الفاتحة؟ حملقت فيه بذهول فقال: قُرئت بالقلب، أم وجدتنا دون المقام؟! – أستغفر الله، المسألة بالنسبة لي قفزةٌ خطيرة. فقال وهو ينهض: أم وجدتنا دون المقام! غادرني مُضطربًا. كلا. لم أعرف الجبن في حياتي، ولا كنت ممن تُعرقلهم الخشية على حسن السمعة، لكني شعرت بأنني مُقبِل على عاصفة أو أن عاصفةً مُقبِلة عليَّ. وحتى هذه اللحظة فالنجاة ممكنة. ممكنٌ أن أُسدِل بيدي ستارًا على روض الفرج وبيت موسى القبلي وقارب سنجة، ثم أرجع إلى روتين حياتي السابق بين معاشرة الكتب وسمر قهوة المالية. هذا ممكن نظريًّا، ولكنه مُستحيل في الواقع. الواقع أنني فريسة جنون طاغٍ يلفظ كافة قيم الحياة، ويتركَّز في هدفٍ واحد. ذاك يدفع بي في شبكة من العلاقات المُذهِلة والأخطار المُحدِقة، ويفتح لي طريقًا واحدًا إلى مصيرٍ محتوم. تبادلنا الأنخاب، أنا وموسى القبلي. قال وهو يتفحَّصني: لعلك شُفيت من حبك؟ فهززت رأسي نفيًا. قال: إنه أمرٌ مُضحِك وعجيب. – هل عندك نصيحة؟ – أأنت غني؟ – كلا. – هذا يعني ضياع ٩٠٪ من الأمل. – لا مؤهلات من مال أو شباب. فقال بدهاء: ثَمة وسيلة للشفاء؛ أن تُكثِر من زيارتنا. – يُخيَّل إليَّ أنك لم تعرف الحب يا موسى؟ – هذا حق. ثم مُواصِلًا بقحة: الحق أنني لا أحب النساء؛ لذلك أتعامل معهن بمهارةٍ فائقة. تفكَّرت مليًّا في معنى قوله، ثم سألته: أترى حالي ميئوسًا منها؟ – حدِّثني أولًا عن حبك؟ – ماذا أقول؟ إنها تفرض ذاتها على وجداني وخيالي، أقوى وأعز من الحياة نفسها، لا غنى عنها كما أنه لا غنى للحياة عن أشعة الشمس. فضحك على رغمه وقال: ما أعجب هذا الكلام يخرج من فم ضابط مُتقاعد خبير بالناس والحياة. – نحن نعرف معنى الأَسر أكثر من غيرنا. فضحك مرةً أخرى وقال وقد ثمل: منظرك ضخم لا يُثير الرثاء أبدًا. فغضبت وقلت له مُوبِّخًا: سكرت عليك اللعنة. وقبل أن يفتح فاه دق جرس الباب الخارجي. خفَّ مُسرِعًا مُغادرًا الحجرة. ترامت إليَّ ضجةٌ مُريبة، قمت إلى باب الحجرة وأخرجت رأسي إلى الدهليز. رأيت مجموعة تتدفق من رجال الشرطة والمخبرين. لم أشعر — من قبل — بمثل الذعر الذي اجتاحني، تجسَّد لي وجه سنجة الترام وراء الكبسة. انقضَّ عليَّ مخبر فقبض على أعلى الجاكتة، صكَّني بكوعه في صدري وهو يقذفني بوابل من الشتائم. اجتيحت الحجرات، سيق الرجال والنساء عرايا أو شبه عرايا. من حسن الحظ أنني لم أُضبَط مُتلبِّسًا، ولكن أي حسن حظ؟ حاولت أن أهمس بهُويَّتي في أذن الضابط ولكن المخبر أرجعني بلكمة في عنقي. انغمست في العار حتى القمة. دُفعنا إلى السيارة كخراف تُشَد إلى الذبح. وصلنا إلى القسم وقد استُلَّ مني الإحساس والفكر. وكان تحقيق مهين؛ حُجزت النساء وموسى القبلي، وحُرِّرت المحاضر للرجال ثم أُفرجَ عنهم. غصصت بذروة الألم وأنا أعلن هُويَّتي. غادرت القسم شخصًا جديدًا عاريًا تمامًا. ذُكرت الحادثة في صفحة الحوادث الصباحية. لم تُعلَن أسماء — عدا موسى القبلي — وقيل عني: «وضابط جيش مُتقاعد في الخمسين من عمره.» خُيِّل إليَّ أنه إعلان كافٍ لفضحي في محيط الأسرة وفي قهوة المالية. انزويت في شقتي بالمنيرة غارقًا في القرف. طالت لحيتي وأهملت نفسي تمامًا. على تلك الحال زارتني عمتي، وأكَّد لي قلبي بأن صهرها أخبرها بكل شيء. أقنعتني — ما وسعها ذلك — بأن زيارتها عادية. سأصبح حديث الأسرة المحترمة. أبناء عمتي وعمي وخالي أناسٌ محترمون حقًّا، وطالما تبادلنا الازدراء الصامت. لا يُحبُّني في أسرتي أحد إلا عمتي. ها هي تعود إلى حديثها المُفضَّل؛ «الزواج». – لا تكن عنيدًا. حدجتها بارتياب فقالت: أهملت نفسك أكثر مما يتصور العقل. فضحكت ضحكةُ مُتكلَّفة وتساءلت: ماذا عندك من أخبار؟ فضحكت ضحكةً عصبية وتمتمت: تصور. ثم اغرورقت عيناها وقالت: إنك صورةٌ طبق الأصل من أبيك، لك منزلة في قلبي لا نظير لها، ليتك تعمل بنصيحتي! لم أُفِد من الدرس ما يتوقَّعه العقلاء. قلت إن الجنون حقًّا هو الرجوع بعد ما كان. تخفَّفت من البقية الباقية من الحياء فمزَّقت أثوابي. من الآن وإلى الأبد سأنتمي إلى عالمٍ غير عالم الناس، سأفتح ذراعي للجنون والسفه وخمر النزق المُعتَّقة. الحياة لا تتكرر، والحب أغلى جوهرة في تاجها. وفي سبيل الجنون المُقدَّس تُستحلُّ كل حماقة. اقتلعت نفسي من مجرى الحياة المألوف المحفوف بالعقل والحكم. خفَّ وزني تمامًا وبتُّ قادرًا على الطيران والشيطنة، وليأخذ بزمامي نبض القلب الثمل بالبهجة والأسى. وهداني الصوت الخفي إلى خاطرةٍ مُبتكَرة وجريئة، فقلت لحمودة الجرسون: سيُسجَن موسى القبلي، فهل يمضي الكازينو بلا مُدير؟ فقال وهو يرمقني بانتباه: هذا ما يشغل حفني بيه في هذا الوقت. فقلت بهدوء: إني أرحِّب بهذا العمل. – أنت؟! – نعم أنا، لمَ لا؟ فتردَّد مُتفكرًا فقلت: قدِّم ما يسعك من معاونة وأنت مطمئن. فقال حمودة بارتياب: إني أخمِّن الدافع وراء ذلك. – إني أعرف الأصول. – لدى أي خطأ تتورَّط فيه فسأُعتبر بالتبعية مُتورطًا فيه ومسئولًا عنه وأخسر رزقي. – لا تخشَ شيئًا من هذه الناحية. – ألا تُحاول الاستحواذ على المرأة؟ – كلا. – إذَن لماذا ترغب في هذا العمل؟ فقلت باسمًا في ثقة وإخلاص: ربما لأعمل في رحابها. دعاني حمودة ذات ليلة لمقابلة حفني داود صاحب كازينو «الواق الواق». وجدته وراء مكتب صغير وأنيق في حجرة تُطلُّ بنافذة على النيل، استقبلني بوجهٍ مُحايِد وراح يتفحَّص هيكلي الضخم بلا انفعال. كان عجوزًا في السبعين أو فوقها، ضئيل الجسم، له سحنة قرد لانحدار جبهته وغور عينَيه وبُروز ذقنه. شعره الفضي مفروق ومُمشَّط بعناية، كذلك شاربه. أشار إليَّ فجلست على أحد مقعدَين جلديين مُتقابلين أمام المكتب. تبادلنا النظر في صمت مليًّا ثم سألني: اسمك؟ – أنور عزمي. – أأنت ضابط جيش مُتقاعد حقًّا؟ – أجل. – وترغب في العمل مُديرًا للكازينو؟ – نعم. – ما الذي دفعك إلى ذلك؟ قلت ضابطًا مشاعري تمامًا: الفراغ فتَّاك، ثم إنني محدود المعاش. – أتراه عملًا مُناسبًا؟ – لمَ لا؟ .. وهناك سببٌ آخر أن أحتفظ به لموسى القبلي لحين خروجه من السجن. – صديقه؟ – نعم. – ولكن العمل يحتاج إلى خبرةٍ خاصة. – أكثر مدة خدمتي في الجيش انقضت في الفروع الإدارية؛ فأنا ذو خبرة بالإدارة والحسابات. – العمل عندنا يتنافر مع الروح العسكرية. – لا تنقصني اللباقة. وساد الصمت مرةً أخرى ثم قال: لا بأس من تَجرِبتك، ولكن اعلم أن أهمَّ واجباتك أن تمنع المُتطفِّلين عن نور القمر. – عليَّ الإقناع وعلى سنجة القوة عند اللزوم. – عظيم. ونادى سنجة الترام فجاء وقد دهش لمرآي، فقال له حفني داود مُشيرًا إليَّ: أنور عزمي المدير الجديد، تعاوَنْ معه كما تعاونت مع موسى القبلي. لي مجلس خاصٌّ بمحاذاة المسرح. وإلى جانب النسبة المئوية التي تُشكِّل مكافأتي عليَّ امتياز وهو أن أطلب من المشارب ما أشاء. عملي الأساسي المحافظة على النظام، مراجعة دفتر التذاكر، التصدِّي لأي خلاف ينشب بين زبون وزبون، زبون وجرسون، زبون وامرأة من نساء جوقة الراقصة، إلى المهمة المقدمة على غيرها، وهي صد المُتطفِّلين عن نور القمر. ولكن ماذا فعلت بنفسي؟ أظن يحسن بي أن أدفن هذا السؤال وأمثاله. عملي أشرف من غشيان غرزة سنجة، أو التردد على بيت موسى القبلي، أو موقفي في القسم. فلتَدُر أسئلتي حول الحب نفسه؛ فهو السر الجدير بالبحث والفهم حقًّا. على أي حال فأنا لم أقع في هوى امرأة عادية، جمالها الفائق مُعترَف به من الجميع، وهي تتبدَّى في هالة من الغموض المُثير للفضول، تحدق بها العزلة والحراسة المُغْريتان بالجذب والضلال، ولكن هل اقتربت منها حقًّا؟ الجواب بالإيجاب بالحساب المادي؛ فها أنا أعمل لحساب حارسها الأخير، أقابله يوميًّا، أتلقَّى تعليماته، أُقدِّم له الحساب. إني أتحرَّك على بعد خطوات من استراحتها الخاصة. سألتقي بها ذات مرة، في حجرة حفني داود أو في الممشى وراء الكواليس، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث بعد، لم يحدث لقاء ولا تعارف ولا تلامس، كأني بذلت ما بذلت وضحَّيت بما ضحَّيت لأصِل في النهاية إلى القرد العجوز. وإلى هذا كله جعلت أرقب سنجة الترام بحذر، وأخاف جانبه. وقد أعطاني حقي وزيادة، بل سألني مرةً: ألم تحنَّ من جديد إلى قاربنا الشراعي؟ فشكرته بقلبٍ يفيض بمقته وقلت: ستجمعنا الأيام بإذن الله. لا شك أنه كان وراء الكبسة، ولكن لم يخطر بباله أن يجدني — نتيجةً لها — مُديرًا عليه، ولا خطر ببالي أن عملي الجديد سيُبعدني عن نور القمر خطوة بدلًا من أن يُقرِّبني منها خطوات. كنت وأنا زبون أراها من مقدمة الصفوف وفي مواجهتها، أتملَّى طلعتها البهية طيلة الوصلتَين، وأسبح في تيَّار أنغامها المُنسرِب، أما الآن فلا أراها إلا من زاويةٍ جانبية، ويشغلني العمل كثيرًا عن التركيز في عذوبة الصوت، وأسير أحيانًا في الممشى الفاصل بين جانبَي الصالة كأنما لأتفقَّد النظام. وفي الحقيقة لأملأ عينيَّ منها، وبأمل أن ألفت عينَيها إلى عابدها المُعذَّب، ولكنها كانت تهيم في النعمة ولا ترى السامعين. وبات عزائي الوحيد أنني أنتمي إلى العالم الغامض المُنوَّر بنور القمر. ثَمة علاقةٌ عجيبة بين حفني داود ونور القمر، ما هي؟ هو الذي يُسيطر على ظهورها واختفائها، ويرسم الحدود التي لا يجوز تخطِّيها، وهي تجيء وتذهب، تُغنِّي وتسكت، تنزوي وتصمت، بإملائه وتوجيهه، فأي قوة خفية يملكها هذا العجوز القرد؟! وإلى هذا كله فهي تتبدَّى هادئةً وسعيدة، لمَ لا؟ ما دام لا تبدُر منها بادرة غضب أو تمرُّد، وهو ليس أباها؛ فالقرد لا يُنجب ملاكًا، وليس زوجها وإلا لعُرِف ذلك على أوسع نطاق، ولا يُتصوَّر أن يكون عشيقها بقبحه وعجزه؛ فما سر هذه العلاقة العجيبة؟! وهَبْه ثريًّا فما قناعته بهذا المسرح الصيفي؟ لمَ لم يجعل منها نجمة من نجوم عماد الدين؟! ومهما يكن من أمر سيطرته عليها ألا يُشكِّل هذا الوجه الآخر لسيطرتها هي عليه؟! هذا مُؤكَّد فيما أرى، لا شك أنها القوة الحقيقية في هذه العلاقة الغامضة، وما جنيت حتى الآن من مغامرتي إلا زيادة في اضطرام عواطفي وهياج أحلامي وحوماني بجنون حول الخطوة التالية. إني أقبع في مجلسي، رفيقي قدح من البيرة مُكلَّل بالزبد، أُناجي طيلة الوقت أحلامًا طائشة. أتصوَّر أنها علمت بالمدير الجديد، عرفت اسمه وهُويَّته، لمحته مرةً أو أكثر، راقها مَنظره، لمَ لا؟ حدست السر وراء سعيه، وحتمًا سيُصاب حفني داود مرةً بوعكة تمنعه من المجيء، أو سينقضي أجله، أو أجد حيلة للتخلص منه، عند ذاك تنسرب أضواء الأمل في هذا الليل البهيم، وينفسح المجال أمام الحب ليصنع معجزاته، إني أتمزَّز البيرة، وأحلم، وأتذوَّق النشوة، أُعاني العذاب المُقدَّس، ومن ناحية تُلاطفني نسمةٌ مُفعَمة بأريج الياسمين. الظاهر أنني شغلت بال حفني داود كما شغل بالي، فعقب المحاسبة والتشطيب في ذات ليلة قال لي: لا تذهب. فلبثت في مقعدي الجلدي لعبةً بيد الاحتمالات المُتناقضة، ونهض قائلًا: تعالَ. خرج من الباب الخلفي وأنا ظله. رأيت الفورد قابعةً في الظلام المُتفشِّي عقب التشطيب وإطفاء الأنوار. فتح الباب الخلفي قائلًا: تفضَّل. واتخذ مجلسه في المقعد الأمامي أمام عجلة القيادة. سرعان ما تبيَّنت وجودها إلى جانبه فكاد قلبي يثب من صدري. هكذا جاءت الخطوة التالية بلا سعي مني أو تدبُّر، جاءت كضحكة الشروق مُسربلةً ببهجةٍ سماوية، واندفعت تلقائيًّا إلى تحيَّتها فقلت: مساء الخير يا هانم. فغمغمت بردٍّ غامض، وخِفت عواقب خرقي للتقاليد. ركَّزت بصري عليها لائذًا بالظلمة. تملَّيت رسم خلفية رأسها وأعلى منكبَيها، ميَّزت قبَّعتها العريضة وشَمْلتها المُطرَّزة بالترتر، وثملت بعطرها الفوَّاح. شبران هما ما يفصلان بيني وبينها. انسابت السيارة في الظلام مُمزِّقةً هدوء الحقول بأزيز مُحرِّكها. انسبت معها في بحر الهيام بأمواجه المُتلاطِمة وحواره الشجي. وددت أن أسمع صوتها وهي تُحادِثه أو أن تمتدَّ الرحلة إلى الأبد. وجدت السيارة تدخل حي المنيرة؛ الحي الذي وُلدت وما زلت أقيم فيه. ودارت إلى شارع أصلان فوقفت أمام فيلا صغيرة مُكوَّنة من حديقة ودور واحد تقع خلف العمارة التي أسكن فيها مباشرة. لم أتمالك أن قلت بدهشة: إني أسكن العمارة خلف الفيلا مباشرةً. فأجاب حفني بصوتٍ مُحايد أطفأ حماسي: عظيم. أُدخلت إلى حجرةٍ أنيقة مُؤثَّثة على الطراز العربي. جلست على ديوان رانيًا إلى القنديل بإعجاب، مُناديًا إرادتي لجمع شتات فكري والسيطرة على هوج انفعالاتي. لبثت وحدي عشر دقائق، استقرَّ بقلبي خلالها إحساسٌ مُطمئن بالانتماء. وجاء حفني داود في روبٍ صيفي مُزركَش مثل جدران الحجرة يحمل مِدفأة مُشتعلة الجمرات وجوزة. رمقتها باعتبارها أدوات صداقة وأُلفة. أتقع المعجزة وتهلُّ نور القمر بطلعتها السنية؟! ذهب إلى الباب فأغلقه ثم اتخذ مجلسه بادئًا النشاط المعهود. خاب الأمل. صمتت بلابل السرور. ما الذي دعاه إلى استصحابي معه؟ رغم طعونه في السن فهو مُدخِّن شَرِه. جارَيته رغم نفوري الطبيعي من المُخدِّر. مهما يكن من عبثية الرحلة فقد اهتديت إلى المقام وأمسيت جليسًا لصاحبه. وإذا به يقول: لا شك أنك تتساءل عن سر الدعوة ولك حق، اعلم أني رجلٌ صريح وواضح، وأنت بدورك رجلٌ عسكري لا يُناسبه اللف والدوران. فرنوت إليه مُتسائلًا فقال: المسألة تتلخص في الآتي؛ سفر إلى السويس، نزول في فندق الفردوس، يدخل عليك صباحًا خادم بالفطور، يترك في الحجرة لفةً مُعيَّنة، يذهب، تضع اللفة في حقيبتك، ترجع بالسلامة، توتة توتة فرغت الحدوتة. إزاء كل عبارة تقهقرت ميلًا مُنغمِسًا في مُستنقَع الخيبة. تمتمت: تهريب؟! – سَمِّه ما تشاء من الأسماء، أربع مرَّات في الشهر، مائة جنيه مكافأة عن كل مرة. – لكنه تهريب. – الشك لا يمكن أن يرتقيَ إلى شخصٍ محترم مِثلك. – عندك ولا شك من يقوم بذلك خيرًا مني. – أنت خير من يقوم به حتى يخرج صديقك من السجن. فقلت باستياء: لن أكون مُهرِّبًا. – ألا يُغْريك الثراء؟ – بلى ولكن الوسيلة يجب أن تكون شريفة. – أنت حر طبعًا، ولكن العمل لا مساس فيه للشرف. – هو كذلك في نظري. – لعله الخوف؟! فقلت بحدة: لست جبانًا. – أنت حر يا أنور بيه. وخطرت لي فكرةٌ ماكرة فسألته: أنت رجل محترم فلِمَ لا تقوم بالمهمة بنفسك؟ – وقتي لا يسمح بذلك. فقلت بإصرار: لا أُحبُّ الأعمال المخالفة للقانون. – أنا لا أعترف إلا بالقانون الإلهي. – آسف جدًّا يا حفني بيه. صمت. رجعنا إلى التدخين المُتواصل. تنهَّد أخيرًا وقال: على أي حال لنفترق أصدقاء. ظننته يُطالبني بالانصراف فهممت بالقيام، ولكنه قال بسرعة: لا أعني هذا، أعني أنه عليَّ أن أختار مُديرًا جديدًا. وقفت مادًّا يدي، صافَحني وهو يقول: فكِّر، إني مُنتظرٌ جوابك النهائيَّ غدًا. نجح في أن يُبقيَني صاحبًا حتى صباح اليوم التالي. إني مفقود بحسب التعبير العسكري. وقلت بصوتٍ مُرتفع في حجرة الجلوس بشقَّتي: لا .. لا .. لا. إن يكن القرب نارًا فالبعد موت. ومهما يكن الثمن فلن أرتضيَ هجر «الواق الواق». فيمَ التردد وقد انتهى أنور عزمي من زمان؟! لقد هجر الأقارب والأصدقاء، تخطَّى العُرف والتقاليد، تمرَّغ في السمعة السيئة، حُمِل في سيارة الشرطة بين المومسات، يعمل في وظيفة بينها وبين القوادة نصف خطوة. فيمَ التردد؟ لمَ اللغو بمنطق العقلاء وأنت مجنون؟! حقًّا إني أتدهور إلى غير ما حد، ولكن ما أحوجني إلى رحمتك يا إله المُعذَّبين! ومضيت إلى حجرة حفني فرمقني ببرود وتساءل: يبدو أنك اتخذت قرارًا؟ فحنيت رأسي في تسليم، فسألني: تُرى كيف تغيَّر رأيك؟ فقلت غاضًّا بصري: الثراء، أليس هو بالإغراء الكافي؟! ورجعت إلى مجلسي بخاطرةٍ جديدة من الشك. هل فطن الرجل إلى غرامي بنور القمر؟ العاشق تفضحه أحواله. وهناك أيضًا حمودة المطَّلِع على سِري، وكان موسى القبلي كذلك قبله. ولعل العجوز لم يقبلني مُديرًا إلا لعلمه بحالي واعتزامه استغلالي إلى أقصى حد. لو صحَّت ظنوني فعليَّ أن أتوقَّع البطش بي لدى أول بادرة تهديد من ناحيتي، ولكن لعلها مجرد ظنون ووساوس لا أساس لها. ذهبت وجئت وقبضت. لأول مرة يمتلئ جيبي ويصير لي حساب في البنك، من أعماق الظلمات التي أتردَّى فيها صَعِد إليَّ شعورٌ مليء بالثقة والنشوة، ينتشر مثل الشذا الطيب، أملى عليَّ بأنني أسير في الطريق الصحيح وأنني بالغ شجرة طوبى؛ شعورٌ داخلي كنشوة الخمر، ذو قوة تتفتَّت حيالها صخورُ الواقع المُتحدِّية. ولم يكن مجرد شعور باطني فحسب؛ فالمنطق آزَره بطريقته الخاصة مُعتبرًا ما تردَّيت فيه من درجات السقوط مما لا يمكن أن يضيع عبثًا، ولكنه الثمن الفادح يؤدى مُقدَّمًا، وإن حسن الختام آتٍ لا ريب فيه. هكذا علَّلت نفسي بالأماني لأتزوَّد بالصبر وأُلطِّف من نذالة الجو. وحسبي الآن أنني أمكث في هالتها كل ليلة في الفورد مقدار نصف ساعة تُضاف إلى رصيد الوصلتين ﺑ «الواق الواق»، وحسبي أيضًا أني صِرت عضوًا خارجيًّا في الأسرة وجليسًا دائمًا في الحجرة العربية ومُغامرًا يحمل إليها كل أسبوع كنز نعيمها الوفير، ولديَّ بعد ذلك عزاء الإنسان — أحلامه المُتهوِّرة — التي تُحلِّق به في الفضاء بلا أجنحة. وفي إحدى سهرات الليالي الزرقاء بالحجرة العربية سألته: لمَ تقنع بفصل نشاط محدود في ملهًى ثانوي بروض الفرج؟! فأجاب باقتضاب: فيه ما يكفي. – ولكنَّ ثَمة مُلحِّنين مُعاصِرين مُتفوِّقين وألحانًا جديدة جميلة وملاهي عامرة بعماد الدين؟ فثقبني بنظرةٍ كريهة وسألني: ماذا يهمُّك من ذلك؟ فرجف قلبي غير أنني ضحكت قائلًا: يبدو أنني أصبحت من رجال الأعمال. فقال ببرود: كلا أنت موظف يا جنرال. تضاعف حنَقي عليه، تمنَّيت تحطيم جمجمته، تساءلت: ألا تحب الذيوع والتوسع والشهرة؟ فأجاب بصوتٍ أبرد من الأول: كلا. المسألة أنك أناني وجبان، حريص على حبس العصفور المُغرِّد في القفص، تخاف عليها من المُلحِّنين ومن الجمهور الحقيقي، ولكن لماذا لا تُحكِم قبضتك المعروقة المدبوغة فتُبقيها في الفيلا مثل جواري الحريم؟! الحياة تمضي في طريقها لا أجني منها إلا أمرَّ الثمرات، أحترق مثل الشمعة فيترسَّب ذوبي في ماءٍ آسن، وأُسرِّي عن نفسي فأقول لها إني خليفته، لا خليفة له غيري، ولكن هل أقنع بالصبر كالعجائز؟ ألا يجدر بي أنا المُغامِر بالتهريب أن أُغامر بالاقتحام؟! ولكن كيف وهو مُتصدٍّ لي مثل كلب الحراسة؟! حقًّا إني لمجنون، أسيرُ قوًى غامضة تترامى خيوطها حتى تتشابك بمدارات الأفلاك أو تنعقد في مركز الأرض. ويؤكد جنوني وأسري الحفيفُ والنسمة والخوار والضجة والتغريد والألوان والضوء وكل شيء. وتتوقَّف الحياة فجأةً عندما تدقُّ الساعة الثامنة مساءً فلا يجيء الفورد كعادته كل ليلة .. انتظرت مُتابعًا عقارب الساعة. اقترب ميعاد الغناء فاتصلت بالفيلا بالتليفون. رد عليَّ صوتها: آلو. – أنور عزمي .. ماذا أخَّركم؟ – لن نأتي الليلة. – ولكن الجمهور مُنتظِر. – تصرَّفْ .. مع السلامة. قطعت الخط. وجدتني في دوَّامة من الابتهاج والانفعال والحيرة. إنه أول حوار يدور بيني وبينها وإن لم تُمازِجه نبرة طيِّبة أو كلمة مجاملة. أين حفني داود؟ لمَ لم يُبلِّغني بالأمر؟ لمَ لم يردَّ بنفسه؟ وكان عليَّ أن أُواجه الجمهور مُعتذِرًا عن غياب نور القمر. عند منتصف الليل وقفت أمام الفيلا بشارع أصلان؛ نائمة مُغلَّفة بالظلام ولا بصيص نور في الداخل. إنها تطرد الزائر بصرامةٍ مُوحِشة. مضيت إلى شقَّتي فلم يَطرُق عينيَّ نومٌ حتى الصباح. تُرى هل جاءت المعجزة؟ عمَّ ينكشف الستار الأسود؟! ورجعت إليها حوالَي التاسعة صباحًا. سألت البوَّاب: حفني بيه موجود؟ أجاب الرجل: البيه مريض. تصرَّفت كفرد من الأسرة فدخلت بثبات. وجدت في المدخل ممرضة فقلت لها: إني مدير أعمال حفني بيه .. كف حاله؟ – لعله أحسن. – ماذا به؟ – تعب في القلب. – هل أستطيع رؤيته؟ غابت دقيقة ثم رجعت وهي تُشير إليَّ بالدخول. رأيته راقدًا لا يبدو من الغطاء إلا وجهه. لمحت مخايل الموت في نظرة عينَيه الغائمة الخالية من نبض الحياة وهمومها. الحجرة خالية بخلاف ما توقَّعت. – لا بأس عليك، شد حيلك. أجاب بصوتٍ خافت: شكرًا. – لن أُرهقك بالحديث. – لا أهمية لذلك .. إنها النهاية. أشار إليَّ بالجلوس على مقعدٍ قريب من الفِراش وقال: لم أتوقَّع حضورك. فتساءلت في دهشة: كيف؟ .. لقد جئتك عند منتصف ليلة أمس، ولكني وجدت البيت نائمًا تمامًا. قال باقتضاب: ذهبَت. جفل قلبي، تساءلت: من؟ – لم تُضيِّع لحظة .. هربَت. – نور القمر؟ – المُتوحِّشة. فترت انفعالاتي كلها كشعلةٍ ضئيلة رُدمت بكوم تراب فلم أدرِ ماذا أقول، أما هو فقد تحطَّمت مُغالَبته وتدفَّق الاعتراف بلا ضابط. – إنها عذراء، إنه الحب، إنه الجنون، أنت تفهم معنى ما أقول. حدجته بنظرةٍ مُحرجة وبائسة فقال: توهَّمت وقتًا أنه أنت. – أنا؟! – إنك بريء، وأحمق مثلي، إنها ابنة المرحومة زوجتي، شبَّت تُناديني بالأبوَّة، ماتت أمها وهي عروس في السادسة عشرة، حاولت محاولةً يائسة ثم قرَّرت الاحتفاظ بها مهما كلَّفني جنوني، بسببها خسرت مشروع مدرسة أهلية كانت تُدرُّ عليَّ رزقًا لا بأس به. وعيت كل كلمة، ولكن ما الفائدة؟ .. سألته: أين تظنُّها ذهبت؟ تجاهل سؤالي وواصل اعترافه: حصلت على المال بأي ثمن كما تعلم لأُوفِّر لها أسباب السعادة، أنشأت مشروع روض الفرج لأُشبع رغبتها في الغناء والفن، تجرَّعت العذاب ليلةً بعد أخرى، فعلت المستحيل. تساءلت بِحيرة: ألم يكن بوسعها أن تتمرَّد عليك؟ – كلا. – لمَ؟ وهو يتنهَّد: موهبة إذا شئت. – أي موهبة؟ – في عيني، لا تفسير لذلك. أيخرف الرجل؟ .. أيؤمن بالسحر؟ .. هل يتمتع بقوةٍ تسلطية خاصة؟ – بمجرد أن اقتحمني المرض طارت. – متى؟ .. لقد ردَّت على مكالمةٍ تليفونية في منتصف التاسعة من أمس. – لم تنتظر النهار .. ربما عند منتصف الليل أو عقب ذلك. كان من الممكن أن أُصادِفها في موقف أمام الفيلا .. يا للحسرة المُعذِّبة .. وعُدتُ أتساءل: أين تظنُّها ذهبت؟ فتمتم: يا له من سؤالٍ أحمق! مات حفني داود في نهاية الأسبوع. أغلق «الواق الواق» أبوابه ولمَّا ينتهِ الموسم. توارت عن عينيَّ الحياة الجديدة بأضوائها وأُناسها فوجدتني منبوذًا خارج الأسوار؛ أنا وحبي الشهيد. هل خدعني الشعور الباطني الملهم كما خدعني المنطق؟! هل أرضى من الغنيمة بالإياب سالمًا من قبضة الشرطة؟ الحياة قفراء لدرجة الرعب. لا شيء ولا معنى ولا طعم، وهذا الإحساس المُتغلغِل في الأعماق بالإحباط والحزن وخيبة الأمل. هل أستطيع أن أُواصل الحياة بخواءٍ شامل وقلبٍ مُعذَّب؟ وإني لأتحرَّى كلما وجدت إلى التحري سبيلًا. أستجوب بوَّاب الفيلا وحمودة وسنجة الترام. أغشى الملاهي ملهًى بعد ملهًى. أمشي في الأسواق والشوارع كالمُخبِرين. فعلت أكثر من ذلك. قصدت قسم المنيرة. ادَّعيت أن لي دينًا في عنق الفتاة المختفية. أعطيت أوصافها وما لديَّ من معلوماتٍ قليلة عنها، طالبت بمعاونتي في العثور عليها. اندفعت في كل سبيل بقوة جنوني وألمي. ولما بلغ بي الألم حده الأعلى قرَّرت أن أُقاوم ما دمت أرفض فكرة الانتحار. تجنَّبت زنزانتي ما وسعني ذلك، ولكن قهوة المالية لم تشغل إلا بعض وقتي ولم تُجدِ كثيرًا في تسليتي. خطر لي أن أقامر؛ فالقمار يُنسي الإنسان النوم والطعام؛ فلعله يُبرئه من الحب. وجدت فيه مهربًا محمومًا، ولكنه لم يستطِع أن يستغرقني، وأساء إلى أعصابي إساءةً حملتني على إعادة التفكير. والتمست الشفاء في الكتب الروحية، ولا أُنكر أنها فتحت لي باب أمل، ولكنه لا يؤتي ثمرته بلقاء المحبوبة إلا بعد الموت، ويجعل من الحياة فترة تسهيد وتعذيب وانتظار. وخطوت خطوةً جديدة تمامًا فاستشرت طبيبًا نفسيًّا، قصصت عليه قصتي، رأيته يُصغي بعناية وحدب. ولما وجدته يرمق هيكلي الضخم قلت له مُردِّدًا قولًا قديمًا: منظري لا يُثير الرثاء. فقال بجدية: إنك إنسانٌ مُعذَّب. ثم واصَل بعد هُنَيهة: لا أعتقد أنك مريض إلا إذا اعتبرنا الحب مرضًا. فسألته بتوسل: ألا يوجد علاج لحالي؟ .. أعني عقاقير مفيدة مثلًا. – العقاقير مفيدة ولكني لا أنصح بها إلا عند اليأس. – أظن أن حالي ميئوس منها تمامًا. – ليس الأمر كما تصور .. إنك سجين ذاتك، وعلاجك في أن تخرج منها. ارتبكت أمام أقواله فصمتُّ مُبتهلًا، فقال بوضوح: أنصحك أولًا بالزواج، أنصحك ثانيًا بالاندماج في نشاطٍ اجتماعي أو سياسي، إذا لم يُجدِ معك فلدينا آخر وسيلة وهي العقاقير. بقدر ما أُعاني من ألم بقدر ما أُصمِّم على المقاومة، أزمتي تكشف لي عن جوانب ظلَّت خافية في نفسي بلا استغلال. زرت عمَّتي نظيمة وعالَنتُها برغبتي في الزواج. صادفتنا عراقيل غير يسيرة؛ السن مثلًا والمعاش المحدود وأجزاء من سيرتي الماضية، ولكن ثَمة نساءً فُضليات يُعانين ظروفًا سيئة ويُرحِّبن بالزواج بقلبٍ مُتسامِح وعقلٍ مُتفتِّح. وجدت بينهن أرملة في الحلقة الرابعة، أمًّا لفتاةٍ مُتزوجة، متوسطة الحال والمنشأ والتعليم، تُدعى فائزة. جدَّدت شقَّتي بالترميم والتجديد والطلاء ثم استقبلت بها عروسي. الأمر بالنسبة لي علاج، في نظر عمَّتي رغبة في الاستقرار والإنجاب. ليس زواج حب، ولكنه زواج للشفاء من الحب أو تخفيف حدة جنونه، عناصره الأساسية الطِّيبة والمودة والتعاون والحياة النظيفة المطمئنَّة. سرعان ما لمحت مخايل الأبوة، تلقَّيتها بقلق وحب استطلاع ونوع من السرور، ولكن أسير الحب ما زال يرزح تحت أغلاله الصلبة. ثَمة شعور بالذنب كدَّرني أني في الحياة الأخرى سأُطلِّق زوجتي المُخلِصة لأتزوَّج من الأخرى. من يدري؟ فلعل زوجتي ترجع وقتذاك إلى زوجها المتوفى أو إلى من يروق لها من الأرواح الخالدة. ثم خضتُ تَجرِبة الانتماء السياسي؛ تجربة مُثيرة للعب عندما يشرع فيها إنسان جاوَز الخمسين من عمره بلا انتماء حقيقي، غير أنني لم أكُن بلا انتماء؛ ألم يتقرَّر لي ميلٌ مُحدَّد مذ اشتركت في المظاهرة وأطلقت الرَّصاصة في فِناء مدرسة الشرطة؟ ولكن الوطن يموج بتيَّاراتٍ جديدة أيضًا؛ تيار ديني عنيف، تيار يساري مُتطرف، تيار فاشستي حاد. تحيَّرت طويلًا بين المبادئ. في كل واحد على حدة وجدت عنصر جذب وعنصر رفض، وبدافع من ميولي القديمة اتجهت نحو الوفد، وبخاصة نحو جناحه اليساري. فيه يطمئنُّ إيماني الراسخ بالله وحماسي العقلي الجديد للعدالة الاجتماعية، وهو محطة تأمُّل حتى أكتسب مزيدًا من الخبرة والضوء وأُفيد في الوقت نفسه من نفوذ الحزب الشعبي. سرعان ما انضممت إلى لجنة الوفد بالمنيرة. انغمست في الزوجية والسياسة. رغم ذلك ظل الأسير الكامن فيَّ يُناضِل سلاسله. طالبت بترشيحي في الانتخابات، ولكن مطالبتي رُفضت لحداثة عهدي الرسمي بالوفدية. رشَّحت نفسي على مبادئ الوفد. وجدتني أُنافس مُرشَّح الوفد الرسمي ومُرشَّحًا آخر من الإخوان. وعند احتدام المعركة وُزِّعت منشوراتٌ غريبة استهدفت نسفي تمامًا، فيها كلام عن محضر الشرطة إثر القبض عليَّ في بيت موسى القبلي، وكلام عن وظيفتي كمُدير ﻟ «الواق الواق»، وتعليقات ساخرة وجارحة. وخسرت التأمين، ولكني كعادتي توثَّبت بكل قوتي لمواصلة المعركة السياسية؛ خطبت، حرَّرت في الصحف، وثَّقت علاقتي بالزعماء، تبرَّعت من مدَّخَرات التهريب للجهاد. مضى الأسير على مضيِّ الأعوام يتخفَّف من آلامه ويتحول ألمه إلى أسًى مُقدَّس وهادئ لا يموت ولا يحيا بعنف وعربدة. ••• وفي صيف أحد الأعوام سافرت ضِمن وفد برلماني إلى مؤتمر البرلمانات العربية ببيروت. وفي ذات ليلة، في رحاب الجبل الأخضر والينابيع العذبة، وجدتني أمام نور القمر. كنت وبعض أعضاء الوفد في جلسة سمَر تضمُّ صحفيًّا لبنانيًّا عائدًا لتوِّه من باريس. تحدَّث بحماس عن مُغنِّية من أصل مصري، تشدو بأغاني «فرانكو أراب» وتُحقِّق نجاحًا مُتواصلًا تنبَّأ له بالعالمية، تُدعى نور القمر. زُلزِل قلبي لدى ذكر الاسم بعنف يقظة كاسحة. اندفعت في مجال التذكر والاستجواب مُتحررًا من الجاذبية. انقلبت طفلًا يلهو باللعب العقيمة والأحلام المُتهوِّرة ويُناجي مرةً أخرى المستحيل. وعلمت من الصحفي أيضًا أن مدير أعمالها يرسم خطة لرحلة فنية لها، لزيارة القارة الأوروبية كخطوة أولى، فبادرت — في الفندق — إلى تحرير رسالة لها، قلت: «عزيزتي الفنَّانة الكبيرة نور القمر، هل تَذكُرين أنور عزمي مدير «الواق الواق»؟ .. لقد جاءتني أنباء نجاحك في مكان لم تخطر لي من قبلُ زيارته، وعند رجل لم أتصوَّر أن أعرفه يومًا أو أن يمدَّني عنك بخبر، وقد سعدت بنجاحك سعادةً يعجز القلم عن وصفها، سعادة موصولة بتراث قديم من الإعجاب والحب لك في قلبي. أملي أيتها الفنَّانة الكبيرة أن تضعي مصر في أعز مكان من رحلتك الفنية المُقبِلة؛ فهي الأصل، وفيها أول قلب نبض بحبك.» وفي مصر تلقَّيت الرد على عنواني باللجنة. الحق أنه لم يكن ردًّا بالمعنى المفهوم، كان كارت بوستال تتألَّق فيه صورتها الخالدة، وعلى ظهره دُوِّن بخط اليد: تحية شكر وتقدير. جعلت أقرأ المُدوَّن بعناية. كلا لم أسعد به السعادة المُتوقَّعة. ليست رسالةً شخصية من أي نوع كان. إنه أكلشيه للرد على المُعجَبين. لعلها أمرت بإرساله دون الاطلاع عليه ولا حتى إمضائه، إنه يدفعني إلى عالم الأرقام والتجريد ويتجاهل عواطفي وآلامي المقدسة، ولكن ها هي صورة لنور القمر بين يدَي، بكل بهائها وعذوبتها، بين يديَّ رغم انشغالها الواضح بمجدها ورغم حيادها القاسي إزاء المُعجَبين. سأحتفظ بالصورة ما حييت. ومن يدري؟ .. فربما رجعت صاحبتها ذات يوم إلى مصر للزيارة أو الإقامة. ماذا يعني هذا بالنسبة لي؟ لا أدري أيضًا، ولا أحب أن أحسم الموضوع بفكرةٍ مُحدَّدة لن أجنيَ من ورائها إلا العذاب. وإذا داخَلني شكٌّ ذات يوم في حقيقة مغامرتي العجيبة فما عليَّ إلا أن أستخرج الصورة من حافظتي، وعند ذاك تنطرح أمامي الحياة بكل ألوانها المتضاربة، وما يندُّ عن مفاتنها من جنون مُقدَّس.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/19069697/
الحب فوق هضبة الهرم
نجيب محفوظ
«عرفتُ الحبَّ لأول مرة في حياتي. إنه كالموت تَسمع عنه كلَّ حين خبرًا ولكنك لا تعرفه إلا إذا حضَر. وهو قوةٌ طاغية يلتهم فريستَه، يَسلبُه أيَّ قوةِ دفاع، يطمس عقله وإدراكه، يصبُّ الجنونَ في جوفه حتى يطفح به. إنه العذاب والسرور اللانهائي.»‏استطاع «نجيب محفوظ» أن يَرصُد في كثيرٍ من أعماله كثيرًا من التحوُّلات السياسية والاقتصادية وتأثيرَها على الحياة الاجتماعية، وقد تضمَّنت هذه المجموعة القصصية التي كتَبها في نهاية السبعينيات من القرن الماضي كثيرًا من التغيُّرات الاجتماعية التي شَهِدها المجتمع المصري عَقِب الانفتاحِ الاقتصادي وبدايةِ تفتيت الطبقة الوسطى، وتوضح كيف أصبح المال هو القِيمةَ العليا في المجتمع، بينما صار العلم عِبئًا على صاحبه. تجلَّى هذا الوضع في قصة «الحب فوق هضبة الهرم» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث عبَّرت عن التحوُّلات العنيفة للمجتمع من خلال أزمة «علي» و«رجاء»، وصعوبة زواجهما بسبب سوء الوضع المادي ﻟ «علي». ومن أروع قصص المجموعة قصةُ «السماء السابعة»، التي يأخذنا فيها «محفوظ» بانسيابية إلى عالَم الأرواح، فنفتتن بخياله ونَهِيم في عالَمه. بالإضافة إلى غيرهما من القصص التي عبَّرَت عن مختلِف الهموم الإنسانية.
https://www.hindawi.org/books/19069697/2/
أهل القمة
قبيلة من النساء. خاطرة تُراوِده كثيرًا وهو ينظر نحوهن. سفرة الغداء معدَّة، مُغرِية للجائع. الصحاف والملاعق والشوك والسكاكين، وعاء البلاستيك المملوء بأرباع الأرغفة، الدورق والأكواب .. هُرِعت زهيرة إلى المطبخ لتُحضِّر الطعام. من باب الشُّرفة المفتوح لاح ميدان السكاكيني والجانب الأبعد من البستان الذي يتوسَّطه تحت سماء الخريف المنقوشة بسحائب بيضاء مُتناثرة .. نزع قبَّعته وألبسها فازةً فوق البوفيه واتخذ مجلسه، فعلت هامته بصورةٍ ملموسة فوق مستوى المائدة لطوله الفارع. جاءت زهرة بأواني الطعام، بالكوسة والشواء والأرز والمخلل. تحلَّقت النساء السفرة، سناء زوجته (٣٠ سنة) .. وكريماته الثلاث؛ أمل (١٠ سنوات) .. سهير (٨ سنوات) .. لمياء (٦ سنوات) .. زهيرة شقيقته (٤٠ سنة وتكبره بخمس سنوات) .. كريمتها سهام (١٧ سنة). تناول خيارةً مُخلَّلة فدمعت عيناه السوداوان الصافيتان. ما أمهر شقيقته زهيرة! طاهية ماهرة؛ تُضفي على الطعام لذةً تُعوِّض ما ينقصه من ترف. يتجنَّب الثناء عليها إشفاقًا من إثارة سناء، يتحاشى قوتها أو بالأحرى عصبيَّتها. إنه قوي في القسم، أمام الخارجين على القانون، ولكنه يتحلَّى بالحكمة في شقته. السخط لا يُفارِق سناء منذ اضطُرَّت زهيرة وابنتها للإقامة معه. ورغم أنها تقوم بأعباء البيت كلها، رغم أنها تعمل كطاهية وخادمة، فإنها لم تستطِع أن تفوز برضا سناء. لسهام كريمة أخته جمالٌ بديع، «إنه يحب جمالها»، لم تحظَ بمثله كريمة من كريماته، رغم أن سناء لا بأس بها، وهو أيضًا لا بأس به، رغم ندبة في صدغه الأيسر من مسِّ رصاصة نجا منها في أثناء مطاردة عصابة في الدلنجات. انتظمت السفرة حركة نشيطة في جو يسوده الصمت حتى خرقته سناء بصوتها الرفيع: عندنا أخبار. فتساءل في توجس: ماذا عندكم؟ – بعد الانتهاء من الطعام. حدثت مشاحنة من المشاحنات التي لا تنتهي. زهيرة وسهام يمكثان هنا بلا ترحيب. لمَ لا يعترف بأنه هو نفسه لا يُرحِّب بالزحام وأنه يُعاني منه من الناحية الاقتصادية، ولكن الواجب هو الواجب. انقلبت الشقة فأصبحت ثلاث حجرات للنوم .. ألغى كارهًا حجرة الاستقبال وأحلَّ مكانها السفرة .. وجعل من الصالة الصغيرة حجرة استقبال وجلوس. يومها قالت سناء: بيتي تهدَّم. فتساءل بامتعاض: هل أرمي بهما في الطريق؟ – لمَ لم تذهب إلى أحد من أخواتك؟ – لا متسع لها، وكيف تذهب إلى بيت رجل غريب وأنا موجود؟! – أنت ضابط .. ابحث لها عن شقة .. ولها معاش الأرملة. فضحك ساخرًا وقال: شقة في هذا الزمان! .. أما المعاش فهو بضعة جنيهات .. لقد مات المرحوم بعد خدمة قصيرة. – وما ذنبي أنا؟! – لا حيلة لي أو لك. من بادئ الأمر شعرت زهيرة بالحرج أكثر مما شعرت بالترمل. ومما يزيد الأسى أنها كانت في زواجها مُوفَّقة .. ولكن الموت عاجله. إنه يدرك تمامًا. يعرف أنها على يقين من أنها غير مرغوب فيها .. لا هي ولا ابنتها الجميلة. وسناء عصبية، لا تُحسِن إخفاء مشاعرها أو لا يهمُّها ذلك. ولم يُخفِّف من حدتها إقبال زهيرة على العمل اليومي الشاق. وطالبتها بالمعاش، ولكن زهيرة قالت بذل: إنه تافه، ولا بد من أن تظهر سهام بمظهرٍ لائق في المدرسة .. وأنا أيضًا .. وهو لا يكاد يفي بهذا أو ذاك. ولاحظ أن شقيقته مُستوصية بالصبر والاستسلام .. تسمع وتتجاهل .. تتلقَّى الأحجار صامتةً واجمة .. تُحذِّر كريمتها من الانفعال، وأدرك أن سهام مُتمردة نوعًا ما. وقد نما إلى أُذنَيه يومًا صوت سهام وهي تقول لأمها: متى أُنقذك وأُنقذ نفسي؟ فتقول الأم: زوجة خالك لها عذرها، ألم تكن لطيفةً قبل أن نُضطرَّ للإقامة معها؟ – لكن خالي .. إنه ممتاز ولكنه ضعيف. – ليس المفروض أن يكون ضابطًا في بيته أيضًا .. الغلاء نار يا سهام، كان الله في عونه. وأشد ما يُزعج سهام هو موقف سناء من مستقبلها. قالت يومًا لزهيرة على مسمع منه: متى ما حصلت سهام على الثانوية العامة فعليها أن تعمل. ولم تُحِر زهيرة جوابًا، أما سهام فقالت: هذا يعني ضياع مستقبلي. فقالت سناء بحدة: إنك لا تُدركين حقيقة الوضع. فقالت زهيرة: لمَ نتعجَّل الأمور؟ فقالت سناء بغضب: نحن نُربِّي ثلاث بنات، نحن نُعاني، عليك أن تفهمي ذلك. فقالت زهيرة باستسلام: لتكُن مشيئة الله. وكان محمد فوزي — الضابط — يقول لنفسه إن القبيلة مُمزَّقة .. ما منهن واحدة إلا وهي ظالمة ومظلومة .. الحياة تبدو أحيانًا لعنةً طويلة. ويتذكر كم أحبَّ أخواته فيما مضى وخاصةً هذه الأخت. وهي ليست أسوأ حظًّا منهن .. كلهن مُتعبات .. ووراء كل سرب من الذكور والإناث. وتقول له زوجته سناء مُتحديةً: عليك منذ الآن أن تستعدَّ لزواج بناتك. فيتساءل ضاحكًا: من الآن يا سناء؟ – عليك أن تشتريَ شقة لكلٍّ منهن. فيضحك ضحكةً عالية ويهتف: أتحدَّى وزير الداخلية أن يفعل ذلك. – ألا تسمع عن الذين يحتفلون بالزواج في هيلتون وشيراتون؟ – كما سمعت عن أغا خان رحمه الله. ويُداعب أمل كبرى بناته ثم يتساءل: ماذا ندري عن الغد؟! عقب الغداء جلسوا في الصالة، وسأل محمد زوجته: ماذا عندكم من أخبار؟ ساد صمتٌ غامض كأن كل واحدة تدعو الأخرى للكلام، وقالت زهيرة: أحدهم يطلب خطبة سهام. ارتسم الاهتمام في صفحة وجهه الأسمر. هذا الخبر قد يعني نكتةً سخيفة، وقد يَعِد بفرجٍ غير مُتوقَّع: من هو؟ – من نفس الحي، طالب بكلية العلوم، يُدعى رفعت حمدي. نكتةٌ سخيفة لا فرج قريب كما يُوحي به الجو. تساءل: ماذا تعرفون عنه أيضًا؟ فقالت زهيرة: أسرةٌ طيبة. فقالت سناء: ولكنها فقيرة. فقالت زهيرة: سيكون مُوظَّفًا بعد ثلاثة أعوام، وتكون سهام قد وجدت عملًا أيضًا. فقالت سناء: الجملة ثلاثون جنيهًا على أكثر تقدير. فتساءلت زهيرة: هل نتجاهل سعادتها؟ فقال محمد فوزي مُتهربًا: أعطوني فرصة للتحرِّي والإحاطة. فقالت سناء: المسألة واضحة، لن يملك مهرًا، لا بد من جهاز ولو حجرة واحدة، ثم لا بد من شقة، لسنا في زمن العواطف، وهذا يجب التفكير فيه من الآن. فقال محمد مُتحرِّجًا: أعطوني فرصة. وعند ذاك قالت سهام بجفاء: فلنعتبر الموضوع مُنتهيًا. فرمقها خالها بحنان وسألها: لا شك أنك تعرفين أكثر مما نعرف؟ – أبدًا. – أودُّ أن أسمع رأيك يا سهام. – لقد أوضحت أبلة سناء الحقيقة. فقالت سناء: ربنا يرزقك برجل قادر، لا فائدة من الشباب، هذا رأيي. فقال محمد مُجاملًا: المهم رأيك أنت يا سهام. فقالت سهام بضيقٍ واضح: لا رأي عندي يا خالي. – العواطف وحدها لا تكفي. – نعم. – إني على استعداد لفعل ما تُشيرين به. فقالت سناء: سهام جميلة وسوف تسنح لها فرصةٌ أطيب. وسألته زهيرة: ما رأيك أنت يا أخي؟ فتفكَّر قليلًا ثم قال: رأيي أن تُصارحه سهام بما سمعت وتسمع رأيه. فقالت سناء: معقول هذا الرأي. هنا غادرت سهام الصالة إلى حجرتها، أما زهيرة فاغرورقت عيناها على رغمها. سألتها سناء: هل أخطأنا؟ وبادَرها محمد: سأفعل ما تُشيرين به. فقالت زهيرة: لا خطأ هناك البتة ولكني حزينة. البنت راغبة في التعليم ولن يُتاح لها ذلك، وراغبة في الشباب ولن يكون نصيبها. لا خطأ هناك ولكني حزينة. قرَّب مقعده من نافذة تُطلُّ على ميدان السكاكيني ليستردَّ أنفاسه. أي حظ هذا؟ إنه غير راضٍ عن نفسه ولا عن أي شيء. وحسن ألا يكون شابًّا. إنه زمن المودِّعين، ولكن .. وانقطعت أفكاره فجأةً. استقرَّت عيناه فوق البستان. هذا الوجه يعرفه تمامًا، كان صاحب الوجه يتربَّع على الحشائش مُسنِد الظهر إلى جذع نخلة. هو هو دون غيره؛ زعتر النوري. ماذا جاء به إلى هنا؟ هل يتربَّص به الأحمق؟ .. لا .. لا .. ثَمة سببٌ آخر. شعره حليق، ما زال حليقًا. مفهوم. لن أُمهله. تناول قبعته وغادَر الشقة. بعد دقيقة واحدة كان يقف أمام المتربع. وثب الرجل واقفًا مُتهلِّل الوجه. طويل القامة ولكنه دون محمد بقبضة. وجهه نحيل طويل .. حادُّ البصر .. نابت شعر اللحية .. يرتدي بلوفرًا بنيًّا قديمًا وبنطلونًا رماديًّا رثًّا وصندلًا. ابتسم عن أنيابٍ قوية مُلوَّنة وهتف: أهلًا بحضرة الضابط العظيم. فسأله محمد فوزي: متى خرجت من السجن؟ – خرجت من السجن الذي دخلته بفضلك منذ شهر واحد. – وماذا جاء بك إلى هنا؟ – جئت لأشمَّ الهواء النقي؟ – اسمع يا ابن الثعلب، ماذا جاء بك إلى هنا؟ فقال باسمًا: لماذا تكرهني يا محمد بك؟ .. لولاك ما كان الجن الأحمر نفسه يستطيع ضبطي مُتلبسًا ويُدخلني السجن. إنك ضابطٌ شريف ولكن ربنا أمر بالرحمة، ولا تنسَ العلاقة الحميمة التي تجمع بين الضابط والنشَّال، نحن معروفون لكم من قديم، نحن نتبادل التحية، وفي بعض حوادث النشل الحرجة تُطالبني بردِّ الشيء الثمين فأستردُّه من صاحبه خدمة لك. عظيم. أين الرحمة إذَن؟ فسأله بصرامة مُتجاهلًا مرافعته: لماذا تجلس أمام مسكني؟ – صدِّقني فإني أحبُّ هذه الحديقة. – زعتر، حذار من المزاح. – عظيم يا حضرة الضابط العظيم، فلأبحث عن حديقةٍ أخرى. وتفحَّصه بدقة مليًّا ثم سأله: كيف تحصل على رزقك؟ – حتى الساعة لا رزق لي. – هذا يعني أنك مُتشرد؟ – كلا. ثم وهو يضحك: لا مؤهل لي، والحكومة لا تستخدم إلا ذوي المؤهلات. فهتفت به: حذارِ من المزاح يا زعتر. فقال زعتر بجدية: يلزمني رأسمال يا حضرة الضابط. – هذا ليس من شأني، وإذا عثرت عليك مرةً أخرى بلا عمل فسوف أقبض عليك كمُتشرد. – الله معنا. – ادعُ الشيطان فهو إلهك. – أستغفر الله رب العالمين. – أجِبني، ماذا أنت فاعل؟ فتنهَّد قائلًا: سأبحث عن عمل. فقال بهدوءٍ مُخيف: ابعد عن وجهي قبل أن أُقرِّر القبض عليك. رفع زعتر يده تحية ومضى في خطوات سريعة كأنه مشترك في سباق المشي. وقف محمد فوزي يتبعه بعينَيه حتى واراه شارع ابن خلدون. حظه من النجاح في قسم الشرطة أضعاف حظه منه في بيته، إنه ينتصر عادةً على اللصوص والنشَّالين، ولكنه ينهزم في غشاء الهموم العائلية. وقد أبلغته زهيرة أن الشاب رفعت حمدي يرجو لقاءه فرحَّب بذلك. واقترحت أن تحضر سهام اللقاء فلم يُمانع. ولأنه لا يوجد في الشقة مكان استقبال مُناسب فقد تم اللقاء في حديقة الشاي بحديقة الحيوان. وجده شابًّا معتدل القامة بشوش الوجه واضح الرجولة. قال لنفسه ومن واقع خبرته العريقة إنه يوحي بالثقة ويمكن التفاهم معه. قال الشاب: إني معجب بشخصية آنسة سهام، جادَّة ومحترمة، وحضرتك رجل ذو سمعة طيبة جدًّا. فشكره محمد فواصَل حديثه: ما يهمُّ العلاقةَ المقدسة متوفرٌ لدينا. فابتسم محمد قائلًا: للأسف الشديد فإنه تُغطي ظروفٌ جانبية على الشروط الجوهرية. فقال الشاب بحماس العاشق: علينا أن نتغلب عليها. – هات ما عندك. – أمامي ثلاثة أعوام، عملي مضمون في التدريس أو المعامل. – لعل التدريس أفضل فيما يُقال. – وأمامي فرصة للعمل في الخارج أيضًا. – جميل ذلك، ولكن يجب أن تعلم أننا لا نملك تكاليف الزواج. – أعرف ذلك، المهم أن تُكمل سهام تعليمها. – زدني إيضاحًا. – إنها أيضًا ترغب في دراسة العلوم، وستجد فرصة للعمل في الخارج. دخلت سناء زوجته في إطار الجلسة، فقال بحزم: ظروف حتمية توجب علينا توظيفها حال حصولها على الثانوية العامة في نهاية العام. – ألا يمكن … فقاطَعه: غير ممكن. إني آسف. فتفكر رفعت مليًّا مغمومًا ثم قال: فلنُعلن خطبتنا الآن، ولنؤجل الهموم للمستقبل. وكان محمد يلحظ سهام من آن لآن ويقرأ موافقتها الصامتة، ولكنه لم يرَ بدًّا من أن يقول: تصرفٌ غير مقبول. – لماذا؟ – إنه يعني انتظارًا طويلًا وغير مضمون العواقب. – أرى أنه ما دامت النية الطيبة مُتوفرة فالعقبات تذوب عادة. – لا أُشاركك الرأي، سهام كريمة شقيقتي، ولا أريد أن أُعلِّق مستقبلها على المجهول. – إنه ليس مجهولًا. – ولكن عندي رأي أفضل. – ما هو يا سيدي؟ – أن يسير كلٌّ منكما في سبيله دون التزام بعلاقةٍ ما، أنا شخصيًّا لا أحب الخطبة أن تطول بلا حدود، فإذا وُجدت ظروفٌ ملائمة في المستقبل فلا بأس من الموافقة عند ذاك. فقال رفعت حمدي بقلق: قد يتقدم لها في أثناء ذلك رجلٌ ما. – أُصارحك بأنني سأعمل ما أراه في صالحها و… وتوقَّف مُتمهلًا ثم قال عادلًا عما كان في نيَّته قوله: ما أراه في صالحها. فقال رفعت بهدوء: أظن من الإنصاف احترام رأيها. – طبعًا .. طبعًا. وساد صمتٌ مُثقَل بالخيبة .. وكانت سُحبُ الخريف مُنبسطة فلم يهبط من الشمس شعاعٌ واحد، غير أن البرودة كانت وانيةً مُحتملة .. وابتسم محمد فوزي وقال: هناك رجاء لا مَفرَّ منه. فنظر إليه الشاب مُستفهمًا، فقال بحزم لا يجد مشقة في دعوته في أي وقت: ألَّا يقع بينكما في الهدنة المقترحة لقاء من أي نوع كان. لحظ الرجل سهام في طريق العودة مرَّات .. قال لنفسه إنها ستجهش في البكاء حالما تنفرد بنفسها .. لعن نفسه .. ولعن أشياء كثيرة. كان مُنفردًا بنفسه في مكتبه عندما استأذن زغلول رأفت في مقابلته .. نهض باهتمام فاستقبله عند الباب. شدَّ على يده باحترام، وأجلسه أمام مكتبه وهو يقول: شرَّفت يا أفندم. الرجل في الأربعين، ولكنه يتمتَّع بحيوية شاب في العشرين .. بَدِين مع ميل إلى القِصر، كبير القسمات، داكن السُّمرة .. معروف أنه رجل أعمال، وأنه ذو صلات، ويتردد اسمه أحيانًا عند التبرع لمشروعاتٍ خيرية في الحي. قال الرجل بصوتٍ مبحوح قليلًا: كان يجب أن نتعارف من قديم؛ فأنت ضابط ذو سمعة هائلة. – كانت ستكون فرصةً سعيدة لمعرفة وجيه من مُحبِّي الخير. – شكرًا، ها هي الفرصة ولكنها ليست سعيدة. وضحك، فابتسم محمد فوزي وقال: حادثٌ سخيف؟ – ثمنه عشرة آلاف. وقدَّم سيجارة؛ فلما اعتذر لعدم التدخين أشعلها وقال: نُشلت حافظة النقود، بمائة جنيه غير الفكة، ولكن توجد بها علَّاقة مفاتيح ذهبية وذات فص من الماس. فتساءل محمد: كيف يُنشَل رجل مثلك؟ .. لا بد أنك كنت في حفل. – هو ذلك .. في جامع القبة الفداوية. – آه. – أعتقد أنه ليس من الميسور بيعه إذا وزَّعنا نشرة بأوصافه. – سنفعل ذلك على سبيل الحيطة، ولكن النشَّال يبيعه بثمن بخس لمن يُصادفه. فقال الرجل مُبتسمًا: إنه عزيز لأسبابٍ شخصية. ما نسبة الأمل في استرداده؟ فقال محمد فوزي باسمًا ابتسامةً أسيفة: لا سبيل إلى نشَّال إلا إن ضُبِط مُتلبِّسًا. نحن نعرفهم ولكن من أين لنا الدليل، وثَمة تنبيهاتٌ مُتلاحقة بوجوب احترام القانون. – إذَن أقول عليه العوض؟ – توجد وسيلةٌ مُجرَّبة في الأحوال النادرة. أعطِني فرصة أربعًا وعشرين ساعة. – وإذا لم تنفع؟ – سنسير في الإجراءات العقيمة. – لكم ولا شك وسائل سحرية أقرأ عن أخبارها أحيانًا في الصحف. أمر الضابط باستدعاء زعتر النوري .. جميع المخبرين يعرفون مقهى النشَّالين المعروف بمقهى حنش في خلاء الحدائق فيما تتَّصل بالحقول، وهو الذي أطلق عليه المعلم حنش اسم «مقهى الأمراء» بعد الثورة .. ودخل زعتر حجرة الضابط تبوح عيناه الحادَّتان بنظرةٍ قلقة مُتوجِّسة وهو يقول: ستجعلني لعبتك يا حضرة الضابط؟ لم يرفع رأسه عن أوراق بين يدَيه. تركه وحده في دوَّامة التوقعات المُزعِجة. قال زعتر: أعطِني فرصة. نظر إليه ببرود وسأله: أعتقد أنك مُصمِّم على تغيير حياتك، قد أصبحت من المُصلِّين. – نعم؟! – رآك البعض وأنت تؤدي فريضة الصلاة. – أنا ما دخلت جامعًا قطُّ طيلة حياتي. – جامع القبة الفداوية. – سيدي الضابط أنا لا أفهم شيئًا. – ولا أنا. – أنا تحت أمرك. قال بهدوء: أريد علَّاقة المفاتيح. تراجَع رأسه قليلًا. اختفت نظرة القلق. أدرك أنه مطلوب لمفاوضة. تشجَّع قائلًا: أي علَّاقة مفاتيح؟ – نحن نفهم بعضنا يا زعتر. – مذ خرجت من السجن وأنا أعيش عالة على المعلم حنش. – نَشْل حافظة الوجيه زغلول رأفت عملٌ لا يُقدِم عليه سِواك. فابتسم زعتر وقال: إنك تطلب مساعدتي. – حذار من الغرور. – لقد قدَّمت أكثر من خدمة، ولكن صدري ينقبض في جو القسم. – لا تخشَ شيئًا. إنك تعرف ما تعنيه كلمتي. – كلام رجال؟ – نعم يا ابن الثعلب. – عظيم .. لنبدأ من الأول، ماذا تريد؟ – علَّاقة رأفت زغلول. – لم أنشلها. – لا أصدِّقك. – أُقسم لك بشرفي. فضحك محمد فوزي قائلًا: يا ابن الثعلب. – أُقسم لك بشرفك أنت. قال الضابط بحدة: عليك اللعنة، أتعرف ما يعنيه هذا القسم؟ – أعرف. – فمن نشلها؟ فهزَّ رأسه قائلًا: سؤالٌ غير جدير بذكائك. – عندك علم بالموضوع؟ – غير جدير بذكائك أيضًا. فنظر إليه مُقطِّبًا وقد اكفهرَّ وجهه. قال زعتر: يلزمني وقت للعمل. – متى تُحضِرها لي؟ – لا أدري، وربما ضاعت إلى الأبد. – اسمع يا ابن الثعلب … – أعدك بأني سأبذل جهدي. – في ظرف يوم. – على الله الجبر. تمهَّل الضابط قليلًا ثم قال: ربما نالك خير، الرجل ثري لدرجة الخيال. قال زعتر بحماس: لا يهمُّني المال، ما يهمُّني حقًّا هو خِدمتك. تمتم محمد فوزي باسمًا: يا ابن الثعلب! المفاجأة أن زعتر طرَق باب الضابط عصر اليوم التالي. كانت سهام هي التي فتحت الباب، وهي التي أبلغت خالها بقدوم زائر يُدعى زعتر. انفعل محمد انفعالًا شديدًا ولعنه ألف لعنة، غير أنه اضطُرَّ لاستقباله ومجالسته في الصالة، بل وقدَّم له القهوة. بدا زعتر مُفعَمًا بالحيوية والسعادة. قال: لا تؤاخذني على حضوري إلى بيتك؛ إذ إنني أكره القسم. – ماذا فعلت؟ دسَّ يده في جيبه فاستخرج منه العلَّاقة والمحفظة. تمتم محمد: والنقود أيضًا؟ – عن آخر ملِّيم، إذا لم تكن في الاتفاق فدعها لي. فقال محمد مُداعبًا لأول مرة: الغنى غِنى النفس. فقال الآخر بتسليم: أمرك. – من الذي نشلها يا زعتر؟ – لماذا تسأل يا حضرة الضابط؟ – العلم بالشيء ولا الجهل به. فابتسم الآخر قائلًا: لم أخُن زميلًا في حياتي. – حقًّا؟! .. يا لك من رجلٍ عظيم في الشر. فضحك زعتر واشتدَّ لمعان عينَيه وقال: وشرف ربنا لولا الحظ السيئ … – هه .. لكنت من رجال الأمن؟ – كلا .. لا يُعجبني عملك. – حقًّا؟ .. ولِمَه؟ – أقول لك، إنك تُطارِد اللصوص لحساب الحكومة بينما الحكومة أكبر لص في الدولة. – يا ابن الثعلب! – إنكم تكرهون قول الحق يا محمد بك. – هه .. إذَن ماذا تُفضِّل من المهن؟ فتفكَّر قليلًا وقال: أقرب عمل لعملي الراهن أن أكون مدير بنك. فلم يتمالك محمد فوزي نفسه من الضحك، فقال زعتر: أريد رغيفًا محشوًّا باللحم المُحمَّر. – طلب غير هيِّن، ولكن سيكون لك ما تريد. فقال زعتر وهو يتنهَّد: ورغم العيش والملح سترجعني إلى السجن غدًا إذا وقعت في قبضتك؟ – طبعًا .. لا مَفرَّ من ذلك. – الأمر لله .. من صاحب العلَّاقة؟ – زغلول رأفت من رجال الأعمال والبر. – رجل أعمال؟ .. طبعًا لص، ولكن ما تخصُّصه؟ – كل الناس عندك لصوص؟! – اسمع يا محمد بك .. ستندم ذات يوم على تمسُّكك بالشرف. – على فكرة يجب أن أزفَّ إليه البشرى. وأدار قرص التليفون: زغلول بك رأفت؟ – … – مُبارك .. العلَّاقة والحافظة معي. – … – وهو أيضًا موجود. – … – ولكن .. فكِّر قليلًا .. إنه قادر على أن يخطف الكحل من العين. – … – إلى اللقاء يا إكسلانس. والتفت نحو زعتر قائلًا: إنه مُصمِّم على رؤيتك. فقال زعتر باهتمام: تحت أمره. – كن عاقلًا .. وكن حكيمًا أيضًا في الإفادة مما يجود به عليك. – طبعًا .. ولن أنسى المالك الشرعي للمحفظة. – المالك الشرعي؟ – الذي نشلها يا محمد بك. فابتسم الضابط وقال: احذر أن تجعلني أندم على الموافقة. الحظ يفتح لك بابًا شريفًا يا زعتر .. والآن دعني أُعدُّ لك الرغيف. ولكن زعتر نهض في لهفة وقال: لا تضيِّع الوقت. شكرًا. بنا إلى الرجل، وسوف أشتري اللحم بنقودي الحلال لأول مرة. مضت حياة الضابط بهمومها الشخصية وتوفيقها العام. البيت يسوده غالبًا التوتر، وقد استغرقت سهام في دراستها ولكن في تعاسةٍ ملحوظة. من يدري؟ فقد ينتصر الحب في النهاية، سيَجد لسهام عملًا في نهاية العام، وسينضمُّ مُرتَّبها إلى معاش أمها، وربما حقَّق رفعت حمدي حلمه، وهاجرت الأسرة الجديدة — سهام، رفعت، زهيرة — إلى الخارج مجبورة الخاطر. عند ذاك يطمئنُّ على أخته وتحظى أسرته بالاستقلال وتستكنُّ أعصاب سناء زوجته. ما أجمل الأحلام المُلطِّفة للآلام! وحصلت سهام على الثانوية العامة، وراح يسعى لإلحاقها بعمل، ولكن التوفيق في ذلك بدا بعيد المنال. وفي ذلك الوقت جاءه المخبرون بنبأ مُثير، وهو أن مقهى الأمراء أو مقهى النشَّالين قد خلا منهم. وكان قد لاحَظ قلةً ملموسة في حوادث النشل، حتى مضت أشهُر لم يتلقَّ فيها بلاغًا واحدًا. وأمر بالبحث عن مجمعهم الجديد ولكن لم يُعثَر لهم على أثر، ولم يجد أحد من المخبرين عند المعلم حنش صاحب المقهى تفسيرًا، وفسَّره هو على هواه فقال إنهم ضاقوا بصرامته ويقظة المخبرين فهاجروا من الحي. وسُرَّ المأمور بتلك النتيجة غير المتوقَّعة، وهنَّأ محمد فوزي عليها. ••• وكان يُغادِر نادي الشرطة ذات يوم عندما رأى شابًّا وشابَّة في غاية الفخامة يُغادِران سيارة ويتَّجهان نحو برج القاهرة. نال من الشاب نظرةً عابرة وهو يمضي في طريقه، ولكنها لم تتلاشَ كما توقَّع. التفت وراءه فرأى الشخصَين يصعدان سُلَّم البرج، جعل يتأملهما حتى غابا في المدخل. ما معنى هذا؟ هل سبق له أن رأى هذا الشاب؟ لقد التقت عيناهما لحظةً خاطفة؟ لم تكن عينا الآخر مُحايِدتَين. أم هكذا خُيِّل إليه؟ لمح فيهما معنًى ما، حياة من نوعٍ ما تشي بنوع من المعرفة، وضرب الأرض بقدمه، مستحيل. توقَّف عن المشي. استدار مُتجهًا نحو البرج. تفَّحص الكافتيريا ثم صعد إلى الشرفة العليا. رأى الشخصَين يُطلَّان على القاهرة ونسمةٌ عليلة من نسمات الصيف تُداعبهما. اقترب حتى وقف وراءهما. سمع الشاب يقول للشابة بصوتٍ يسمعه هو كأنما هو المقصود به: ألم أقُل لك إن له عينَين لا تُخدعان؟ فهتف محمد فوزي: زعتر النوري. فاستدار نحوه باسمًا عن أسنانٍ بيضاء وهو يقول مُحتجًّا: محمد زغلول من فضلك؟ وأشار إلى الفتاة قائلًا: صديقتي بهية. فتمتم الضابط: جلجلة! – قلت بهية من فضلك. جعل ينظر إليها بريبة، فضحك زعتر وقال: بهية اسمٌ اختارته بنفسها، أما أنا فكوَّنت اسمي الجديد من اسمك «محمد» واسم البك زغلول، بصفتكما صاحبَي الفضل الأول. فقطَّب محمد فوزي مُتسائلًا: ما معنى هذا؟ – عن أي شيء تسأل؟ – أنت تفهم ما أعنيه تمامًا يا زعتر. وضح له عن قربٍ أن فخامة الملابس وصقل الوجه والأطراف لم تُغطِّ تمامًا عن الابتذال في الحركة والهيئة، وتقدَّمت بهية (جلجلة) خطوة بجمالها الشعبي الصارخ وتساءلت مُحتجَّةً: ماذا فعلنا لتُحقِّق معنا؟ وسأله زعتر النوري بشيء من العظمة: بأي حق تتعرَّض لنا يا حضرة الضابط؟ فقال الضابط: أريد أن أكتشف الجريمة المُستترة وراء هذا التغيير. – إنك تُخاطِب رجلًا من رجال الأعمال، وهذه امرأة من نساء الأعمال. – نحن نعمل في ضوء النهار. – لن يخفى سر. فضحك زعتر وقال: يؤسفني أن يكون أول لقاء لنا على هذا النحو، لنا ماضٍ مشترك، وفضلك عليَّ عميم، أنت الذي سلَّمتني مفتاح السعادة، فماذا يُثيرك عليَّ الآن؟ دعني أدعوك لفنجان شاي .. وليطمئنَّ قلبك .. وهاك بطاقتي الشخصية إذا شئت. فقال محمد بذهول: إنه عامٌ واحد. – ما قيمة الزمن؟ .. صفقةٌ واحدة تُحوِّلك من دنيا إلى دنيا، الفضل لك ولزغلول رأفت أيضًا، ما زلت أُعَد من رجاله، ولي أيضًا رجالي. – تهريب؟! – رجعنا نُردِّد ألفاظًا لا معنى لها، اسمها الوحيد «تجارة» .. حتى لو أصررت على الألفاظ الميري فربما كانت تهريبًا قبل أشهُر، لكننا اليوم في عصر الانفتاح، لا تهريب ولا دياولو .. تفضَّل بزيارتنا .. وانظر إلى تلميذك بنفسك. فقال الضابط ببطء: زعتر … فقاطَعه بسرعة: محمد زغلول من فضلك. – أنت تعرف من هو محمد فوزي. – طبعًا .. أعرف أنك ستتحرَّك .. أعرف أنك تحلم بإرجاعي إلى السجن .. ولكن الحقيقة ستتكشَّف لك .. ستعرف أنني رجلٌ شريف .. آمل أن نكون أصدقاء .. لست دون زغلول رأفت استحقاقًا لذلك. وقالت بهية بدلال: وأنا أيضًا أريدك أن تكون صديقًا لي. وتساءل زعتر: البضائع المُهرَّبة كانت تملأ الطرقات فلِمَ لم تُصادروها؟ .. لمَ لم تقبضوا على مُروِّجيها؟ .. كنا نجول في الميدان يحرسنا رجال الأمن .. ووراء كل واحد منا شخصٌ ذو مقام .. انتهى عصر المغامرة، وما نحن اليوم إلا تجارٌ شرفاء .. ثم إنك صاحب الفضل. – أضجرتني بقولك هذا. – لمَ يُغضبك قول الحق؟ .. أنا أيضًا نُشلت ذات يوم، ولكني استرددت مالي بقوتي الذاتية، لم ألجأ إليك لتستردَّ بقوتك مال لص كبير من نشَّالٍ مسكين. وهتفت بهية: صديقك زغلول رأفت لصٌّ عظيم. فانتهرها زعتر قائلًا: اقطعي لسانك. إنه بحكم القانون الجديد تاجرٌ عظيم. فقالت مخاطبةً محمد فوزي: نحن ندعوك إلى فنجان شاي. فقطَّب الضابط مُتحولًا عنهما، فقال له زعتر: يؤسفني ألا تُلبِّي دعوتنا، ولكن لا تُبدِّد قوتك في لا شيء. اقترب من الخلاء المُشارِف للحقول فتبدَّى له مقهى الأمراء في عزلته ورثاثته؛ حجرة حجرية يتقدَّمها فِناءٌ ترابي مُسوَّر بالصبَّار. بدا كالخالي بعد أن تخلَّى زبائنه الأصليون عنه. وقف في الفِناء المهجور فلمحه الحنش — العجوز الأحدب — وسرعان ما هُرِع إليه مُرحِّبًا وقلقًا في آن. جلس محمد وهو يُشير للكرسي المُقابل داعيًا العجوز للجلوس وهو يقول: لا تُقدِّم شيئًا، لي معك حديث يا حنش. جلس الحنش، لم يُزايله القلق. قال: لم أرَك منذ زمن، آخر مرة كنا في عاشوراء. – أذكر ذلك .. ولكن أين أصحابنا؟ أخذ يطمئنُّ نوعًا ما فقال: ذهبوا ولم يرجعوا .. اختفَوا تمامًا. رماه بنظرةٍ طويلة وقال: عرفت ذلك، ولكن أين ذهبوا يا حنش؟ – الله وحده يعلم. – ولكنك تدري أشياء ولا شك. – هل وقعت حوادث نشل؟ – كلا. – ماذا يهمُّك من أمرهم بعد ذلك؟ – هذا شأني يا حنش. – والله … فقاطَعه بنبرةٍ آمرة: هاتِ ما عندك. اطمأنَّ العجوز تمامًا وشعر بأهميته، قال: لقد أقلعوا عن النشل، غدًا سيختفي اللصوص جميعًا. – هات ما عندك. فضحك العجوز عن فمٍ خالٍ وقال: أنت السبب يا حضرة الضابط. – ذلك بالنسبة لزعتر النوري. إني أسأل عن الآخرين. – قيل إن زعتر ذهب للقاء الرجل الذي نشله. – أعرف ذلك طبعًا. – وإذا بالحال يتغيَّر تمامًا، لم يعد عتريس النوري إلينا. انتظروا، انتظروا طويلًا ولكنه لم يعد، وكادت جلجلة تُجَن. – ثم؟ – ظنوا أنه قُبِض عليه .. أخذوا يتناسَونه .. حتى جلجلة بدأت تستجيب لعُشَّاق آخرين .. حتى كان يوم. وسكت الرجل ليشحن الضابط بالشوق، فقال هذا باستياء: استمِرَّ يا عجوز. – كانوا في الداخل يُقامرون حين دخل فجأةً سمسون العفش مُضطربًا بفرحةٍ طاغية، لوَّح لهم بحافظة نقود فاخرة وتساءل: «لمن هذه؟» فأجابه أحدهم مُتفكهًا: للسفير الأمريكي. ولكنه قال بهدوء: إنه عتريس النوري. ملَكهم ذهولٌ شامل. أقبلوا نحوه وفي مقدمتهم جلجلة، أقسَم لهم على صدقه. أين هو؟ لماذا لم يعد؟ وكيف نشلته؟ وراح الرجل يقول: «رأيته في ميدان رمسيس. كان يُغادِر سيارة. ليس عتريس الزمان الأول، شخص آخر تمامًا، أي وجاهة وأبهة، شككت فيه طويلًا حتى عرفت مشيته وسمعت صوته. إنه عتريس النوري. ماذا حصل له؟ كل شيء تغيَّر حتى جلده. تغيَّر لونه أيضًا كأنه نُقِع في الماء عامًا. هل استولى على ثروة الرجل الذي دعاه ليُكافئه؟ هل نشل البنك الأهلي؟ وهو يقصد دكان غيار، إنه محترم ابن الدائخة. في الحال رسمت خطة لنشله، نشلته في الدكان. هذه هي الحكاية.» وصاحت جلجلة: الخائن ابن الخائنة. أين يُقيم؟ ماذا يعمل؟ ولكن سمسون العفش لم يكن لديه مزيد. وصاحت جلجلة: لا بد من العثور عليه .. وأكثر من صوتٍ صاح: لن يفلت ولو اختبأ في جبال «الواق الواق». وفيما هم يتبادلون الرأي إذ بدا عتريس النوري في مدخل الحجرة وهو يرمقهم بنظرةٍ ثقيلة مُحتدمة بالسباب والسخرية. وسكت العجوز ليستريح ويسعل ما شاء له السعال، فصبر محمد فوزي حتى استطرد: دخل منفوخًا بالأبهة. تبادلوا النظرات في صمتٍ هادئ، حتى خرقته جلجلة مُتسائلةً: «من سعادة الباشا القادم؟» فقال بهدوء: الحافظة أولًا ثم نتكلم، فسأله سمسون العفش: عن أي حافظة تتكلم؟ فثقبه بنظرة من عينَيه الحادَّتَين وقال: هو أنت يا ابن الخائنة! قلبي قال لي .. فقالت جلجلة: «قلب المؤمن!» فقال زعتر لسمسون: «الحافظة واعتذر لعمك.» – أنت خائن. – زعتر خائن! – أين كنت؟ .. تقطعنا للنقود .. من أين لك هذا؟ – العمل الشريف. هزَّت جلجلة وسطها وهتفت: ادعوا له .. ادعوا له. – العمل الشريف .. عمل الناس الأجلَّاء .. هات الحافظة. – أقسم لك بشرفي … قاطَعه مُقهقهًا: احتفِظ بشرفك وهات المحفظة. فقال سمسون بتسليم: لي مكافأة. – دع ذلك للنساء، هات الحافظة لنتكلم في المفيد. فرمى بها إليه سمسون وهو يقول: نار في جثة الخائن. – الله يسامحك .. كان في خطتي أن أزوركم في الوقت المناسب. فتساءلت جلجلة: وما الوقت المناسب؟ – هو وقت الخير، لا يتقدم ولا يتأخر. – ومتى يجيء؟ – عما قريب جدًّا. – ما هو العمل؟ – تجارة .. بضائع تجيء من أوروبا. – تهريب؟! – الصبر .. موعدنا بعد شهر واحد. وفي الميعاد يا حضرة الضابط ذهبوا جميعًا ولم يرجع منهم أحد. – ترامقا صامتَين، ثم تساءل الضابط: أين هم الآن؟ فقال العجوز بقلق: إنهم خارج منطقتك. – نعم .. هل تُعلمني واجبي؟ أين هم الآن؟ – إنهم يعملون في ضوء النهار وتحت حماية الشرطة. – ألم أقل لك إنك تعرف أشياء كثيرة؟ فضحك العجوز وتساءل: ألم تسمع عن سوق ليبيا؟ – كلا. – إنه في القلعة يا حضرة الضابط. يموج سوق ليبيا بالخلق والحركة والأصوات، يغمره ضوء الكلوبات الأحمر المُدلَّاة أعمدة من رءوس مغروسة في الأركان؛ أمواج تتلاطم من النساء والرجال مصبوغة الوجوه بالأضواء المُركَّزة. قال الضابط إنهم اختاروا مكانًا مُناسبًا بين القلعة والمساقي القديمة. وتابَع بعينَيه الأكشاك القائمة في محيط السوق مُكتظَّة بالصابون والقوارير والعُلب والبرطمانات والأدوات الكهربائية والإلكترونات. وراء كل كشك صُفَّت الفريجيديرات والسخَّانات ومُكيِّفات الهواء والنجف في سرادقات. بُهِر الضابط بألوان البضائع، بجنون البيع والشراء، بالمهد الذي يلد أناسًا جددًا. ها هي وجوه العصابة التي اختصَّ دهرًا بمراقبتها، خُلقوا من جديد. إنهم يرمقونه بدهشة لا تخلو من قلق ثم ينسونه تمامًا. الشرطة تحفظ الأمن، والنشَّالون أصواتهم مُرتفعة. سيَختفي اللصوص ويُستغنى بالتالي عن رجال الأمن. ما علاقة زغلول رأفت بهذا كله؟ أصبح هؤلاء من الأغنياء، أما هو وأضرابه فيغوصون في غمار الفقراء. ها هو زعتر، محمد زغلول أستغفر الله، معه جلجلة في كشك واحد. وجم الرجل عندما رآه. ها هو يُقبِل نحوه مرحًا مُرحبًا: أهلًا محمد بك .. خطوة عزيزة. – أهلًا بك. – انتقلت إلى منطقتنا؟ – كلَّا. – جئت للشراء؟ – للفُرجة. فتحت له جلجلة علبة كوكاكولا مستوردة وقدَّمتها مُبتسمةً. قال: شكرًا، لا أحبها. تناولها زعتر وراح يشرب قائلًا: إني أعرف ما يحرجك .. لعلك سُرِرت بما ترى، تاب الله علينا. – حقًّا؟ .. من النشل إلى التهريب؟ فضحك زعتر قائلًا: عملُنا مشروع، انظر إلى الشرطة، نحن تجار، أناس يحتجون إذا الفقراء اغتنَوا. – الحال مَعدِن. – سمسون دفع أمس خلوَّ رجل لا يُستهان به وأصبح من سكان المنيل. وقالت جلجلة: عندنا بضائع تجنن .. شاهد بنفسك. فقال في هدوء: لست في حاجة إلى شيء. فسأله زعتر بقلق: لمَ شرَّفتنا؟ – العلم بالشيء ولا الجهل به. – اسمع يا حضرة الضابط، ما كان تهريبًا أصبح بفضل الانفتاح تجارةً مشروعة. فضحك محمد فوزي ولم ينبس، فواصَل زعتر: سيكون أبناؤنا ضباطًا ووكلاء نيابة. – ولمَ ترجعهم إلى الفقر؟ فتمادى الآخر في حماسه قائلًا: ماذا كان الأمراء والباشوات قبل أن يصيروا أمراء وباشوات؟ .. كانوا لصوصًا؛ فنحن أصل الوجود يا محمد بك .. ولكن أناسًا يكرهون أن يفعل أبناء الشعب مثل الأمراء والباشوات. – يا لها من آراء! – دعنا من هذا كله .. ألا يلزمك فريجيدير .. معصرة .. ريكوردر .. مقويات؟ كل شيء تحت أمرك، ومن غير فلوس. – إنك لكريم ولكني لا أريد شيئًا. فمدَّت جلجلة عنقها بدلال وإغراء وتساءلت: ألا يُعجِبك شيء؟ فتساءل الضابط: هل تزوَّجتما؟ فقال زعتر: كلا .. إنها تُهدِّدني بالقتل. – لمَ؟ – رأيي أنه يجب أن أتزوَّج من أسرة .. وعليها أن تبحث هي أيضًا عن عريس لقطة. قال محمد فوزي لنفسه إنها جميلة، حتى ابتذالها جذَّاب، ليس في بيته من يُضارعها في جمالها إلا سهام. وقالت بهية (جلجلة): إنه وغد يستحقُّ الإعدام. فقال الضابط: إنها لمشكلة. فقالت جلجلة: لا أهمية لذلك، المهم أن نُقدِّم لك هدية. – شكرًا، لا عودة إلى هذا الحديث. فقال زعتر: صدِّقني لا يقضي بالفقر على الإنسان إلا عقله. وقالت له جلجلة: لو عثرت على رجل قوي مِثلك لزهدت فورًا في هذا الوغد. فتجاهَل قولها ضاغطًا تأثُّره الباطني. فعادت تقول: إذا لم تقبل هدية مستوردة فخُذني أنا هدية محلية .. ما رأيك؟ فقال زعتر: وتهديني حلًّا لمشكلتي معها. فسأله محمد فوزي: هل صادَفتك متاعب أيام التهريب؟ – لا تكاد تُذكَر، كل كشك يكمن وراءه رجلٌ هامٌّ يحميه من بعيد. – لا تُبالغ. – هي الحقيقة، أنت نفسك رجَّعت إلى زغلول رأفت ماله الضائع. – رجل لا غبار عليه. – صدِّقني ليس في ثروته مليم حلال واحد. – ماذا فعل معك؟ – وظَّفني عنده في أعمال تهريب تحتاج إلى جرأةٍ خاصة، تعلَّمت أشياء وأشياء، استعملت بدَوري العصابة، اليوم العمل كله مشروع. وسألته جلجلة: هل لو كنت في منطقتنا أيام التهريب كنت قبضت علينا؟ – طبعًا. – رغم الحماية؟ – بلا تردُّد. فقال زعتر ضاحكًا: يعملها ولو تعرَّض للنفي، أنا عارفه. فقالت جلجلة: يا لك من حبيبٍ قاسٍ، وهل كنت تقبض على زغلول رأفت؟ – ربما قبلكم. فثنَت رقبتها في مرح وقالت: ستصبح المدينة بلا لصوص، ماذا تريد أكثر من ذلك؟ – أو ستصبح كلها لصوصًا. – النتيجة واحدة. وقال زعتر بحرارة: بودِّي أن أغرقك في السعادة. فتمتم في فتور: شكرًا … تصافحا، هتفت جلجلة مخاطبةً زعتر: قل له إني مستعدة أن أوصله بسيارتي إلى أي مكان. لوَّح لهما مُودِّعًا ومضى. ما معنى ذلك؟ ها هو العبث يتأبَّط ذراعه مُتدثرًا بالبسمات الحمراء. لاحَظ الضابط أن صوت مُرافقه مبحوحٌ مثل صوت حنش. سأله عن السبب فأجاب بأن صوته بُحَّ من كثرة الخُطب، ولأنه يُؤذِّن كثيرًا داعيًا المُصلِّين إلى سوق ليبيا. وأشار إلى الشجرة الضخمة تتوسط الميدان الصغير في شارع البرج وقال للضابط: أي ضخامة، ما عمرها؟ ستعيش بعدك طويلًا، إنها لا تعرف القيود، تحيا حياةً مطلقة. وأشار أيضًا إلى كلبَين يتلاعبان وتمتم: يعيشان مثل الشجرة، حياة مطلقة، لا يعرفان الضمير ولا يخافان الموت. فقال الضابط: ولكنه الإنسان، وحده. – حماقة مُقنَّعة بالجلال. – الجلال! – هو السجن. – لكنه الإنسان، لا يعرف ذلك إلا الإنسان. ألا يعني ذلك شيئًا؟ – لا يعني شيئًا. – هو وحده. – الإنسان الحقيقي مثل الشجرة، مثل الكلبَين. – إنه وحده، هنا يكمن سِره. – هَبْك مُشرِفًا على الغرق ولا نجاة لك إلا بالتضحية بآخر، ماذا تفعل؟ – ساعة الغرق يُسيطر الحيوان. – هذه هي الحياة. – كلا، إنها جريمة يجب التكفير عنها. – هل تعرف الجريمة بالفطرة؟ – كفى، على أحدنا أن يتلاشى. ••• تهبط النقود بلا حساب في ميدان ليبيا، السماء تُمطر هدايا. بالوقاحة تُصان الهيبة. طيب، ها قد تغيَّر كل شيء. ستُسيطر على الحياة بدل أن تُسيطر هي عليك. تتحسَّن علاقات الكائنات. تستقلُّ سناء ببيتها ثم تنتقل إلى بيتٍ أفضل، يتورَّد مستقبل أمل وسهير ولمياء. تُغدِق البركة على سهام وزهيرة. تنطلق سيارة بالأسرة يوم العطلة. الفضلاء يعملون بالرذيلة، الأرذال يحلمون بالفضيلة. ••• كان بالنادي عندما رأى زغلول رأفت قادمًا نحوه. انتحى به جانبًا فجلسا في جانب من الحديقة. – فقدت شيئًا ثمينًا؟ فقال زغلول باهتمام: كلا، الأمر أجلُّ. – ماذا فعلت بزعتر؟ – كافأته بعملٍ شريف مُربح .. ولكنه طمَّاع. فضحك محمد فوزي وسأله: ما عدد الأعمال الشريفة في نظرك؟ فقال باهتمامٍ مُتزايد: محمد بك .. إني هنا لغرضٍ هام .. إنك رجلٌ شريف، صاحب جميل .. حسن .. عليَّ أن أردَّ الجميل. – خير؟ – الأمر يتعلق بزعتر. – سرقك؟ – كلا .. لكنه شرع في سرقتك أنت. – ماذا تعني؟ – الأمر يتعلق بكريمة أختك. قطَّب محمد في حيرةٍ شديدة: كريمة أختي؟ – إنه يحوم حولها .. يحوم حولها باعتباره الوجيه محمد زغلول. تغيَّر وجهه تمامًا. ارتفق الخوان بساعدَيه مُتسائلًا: ماذا؟ – إني على يقين مما أقول. – كريمة شقيقتي آية في العقل والأخلاق. – لم أقل خلاف ذلك. – لو تعرَّض لها بإساءة لشكَته إليَّ. – لا يتعرض لها بما يسوء .. إنه يحوم حولها كرجل شريف. – الوغد. – خِفت أن تُخدَع الفتاة به ونحن لا نملك قلوبنا. – شكرًا لك تحذيري. بدا محمد فوزي كئيبًا مُتجهمًا. من أول نظرة لاحظت ذلك سناء وزهيرة وسهام، أما الصغيرات فيئسن من ملاعبته. ونطق بنبرةٍ مُفعَمة بالغضب: سهام. نظرت إليه الفتاة بذهول فقال: ما هذا الذي يُقال عنك؟ وسكت من شدة الانفعال ثم قال بازدراء: عن رجل له مظهر الوُجهاء يدَّعي أن اسمه محمد زغلول. فقالت زهيرة: لا شيء يستحقُّ الغضب يا أخي. وتمتمت سناء زوجته: فعلًا. فتساءل بحدة: آخر من يعلم؟ فقالت سناء: إنه رجلٌ غني، غرضه شريف، لم تُخفِ سهام عنا شيئًا. قالت زهيرة: لم أُرِد أن أُزعجك قبل أن أتحقَّق بنفسي، وافقتني سناء على رأيي، قالت لي سهام إنه رجاها أن يُحدِّثها، ذهبت إليه بنفسي لأقول له إن الطريق الوحيد أن يُحدِّثك أنت. – ماذا قال؟ – قال إن ثَمة سوء تفاهُم بينكما قد يُخيِّب رجاءه. – أكان في نيَّتك أن تُزوِّجيها من وراء ظهري؟ فقالت سناء: اتفقنا أن أحدثك ولكنَّك سبقت. فنظر إلى سهام مُتسائلًا: هل أعجبك؟ فقالت زهيرة: إني أبحث عن حلٍّ يُرضي الجميع. أدرك أبعاد الموقف. أدرك أيضًا دور زوجته التي تحلم بالتخلص من زهيرة وسهام. ضحك بمرارة وقال: ما هو إلا نشَّال قضى في السجن عامَين. فوَجمنَ في ذهول. تذكَّر هو يوم رآه رابضًا في البستان تحت البيت. قال بأسًى: لقد رويت لكُنَّ حكاية سوق ليبيا، وحكاية زعتر النوري، محمد زغلول هو زعتر النوري. قرأ وجوههن بنظره الثاقب. سهام يغمرها شعور بالنجاة. زهيرة مطبوعة بالخيبة. سناء مَغِيظة مُحنَقة، ولكن قُضي عليها بالهزيمة. تمتمت زهيرة: ما تصوَّرت ذلك قط. فقال بسخرية: هو هو لم يتغير إلا مَظهره، كان لصًّا غير قانوني فأصبح لصًّا قانونيًّا. التقت عيناه بعينَيه رغم الضجيج والزحام. رسالة خفيَّة سرَت منه إلى الآخر. غادَر موقفه أمام الكشك نحوه. بدا أنه استشعر الجو كله. قال بتسليم: قلب المؤمن دليله. سار محمد فوزي خارجًا من نطاق السوق والآخرُ يتبعه حتى وقفا تحت جدار القلعة الشاهق، وعند ذاك هتف به الضابط: إنك وغد كالعهد بك. فتمتم وهو يُواجهه بثبات: الحِلم سيد الأخلاق. – كيف تُسوِّل لك نفسك التعرُّض لبنت أختي؟ – بالشرف تعرَّضت لها. – لا تنطق بهذه الكلمة يا زعتر. – محمد زغلول. – كذَّاب. – هذا كل شيء. – سأعتبر الموضوع مُنتهيًا، وحذار … – محمد بك .. ربنا قَبِل التوبة. – أنت لص لا أكثر ولا أقل. – إني رجلٌ شريف وغني، ومن حقي أن أفتح بيتًا شريفًا. – اللعنة على شرفك المزعوم. – لا داعيَ للغضب. – فليَنتهِ كل شيء، إني أكره الاستمرار في هذا الحديث. وتركه دون تحية. أول ما صنعه أن كلَّف مُخبرًا بمراقبة زعتر. وانهمك في العمل أكثر وأكثر لينسى هموم المطاردة، وقال لنفسه: سأبقى شريفًا ولو لم يبقَ في الحومة سِواي. ولم يُترَك طويلًا للنسيان؛ فقد زاره في النادي من جديدٍ زغلول رأفت. في ذلك المساء رجع إلى بيته بالسكاكيني مُتفكرًا ولكن يُصاحبه أملٌ جديد. وبدا وسط قبيلة النساء مرحًا، وقال: عريس له وزنه يطلب يد سهام. فتطلَّعت إليه الأبصار، وقالت سناء بنغمة أمل واضح: ما أكثر العرسان! فقال بهدوء: هذه المرة زغلول رأفت. فبادرته سهام: قلت إنه لص أيضًا يا خالي. – لا أُنكر، ردَّدت ما سمعته من لص محترف، ولكن لا دليل على ذلك. – لن يغيِّر ذلك من الواقع. فقالت سناء: فرقٌ بين النهار والليل، إنه رجل شريف برأي الجميع. وقال محمد فوزي: عرفته ثريًّا ومن رجال البِر. فقالت سناء: رجل له وزنه حقًّا، وهو الحُلم المطلوب. فقال محمد: إنه في الأربعين، أرمل، ولا أولاد له. – عزُّ الطلب. لا خير في الشُّبان. ونظر محمد فوزي إلى سهام وسألها: ما رأيك؟ ونظرت إليها أيضًا زهيرة كأنما تستوهبها الموافقة، ولكنها لاذت بالصمت حتى ضاقت سناء بصمتها فقالت: من واجبك أن تكوني سعيدة. فقالت سهام بنبرةٍ مُتوترة: صبركم حتى أجد عملًا، عند ذاك سأذهب أنا وماما. فقال محمد مُقطِّبًا: قولٌ غير لائق. واجتاح الغضب سناء فهتفت: جئناكِ بالسعادة حتى مَوطئ قدمَيك ولكنك ما زلت تحلمين بالمستحيل. إنها فرصة لا تتكرر، وأنا بصراحة لم يعد بي صبر. وقال لها محمد مُعاتبًا: سناء! فصاحت بصوتٍ يهدر بالغضب: دعني أُنفِّس عما في صدري. فقالت زهيرة: أعطونا فرصة، سهام ذكية وتفهم كل شيء، ستسير الأمور كما نود. أبلغ الضابط زغلول رأفت بموافقة الأسرة. كان التفاهم بين الرجلَين كاملًا. لم يترك صغيرة ولا كبيرة. اطمأنَّت سناء تمامًا إلى أن زوجها لن يُغرَّم مليمًا واحدًا وأن حلمها يتحقق بكل أبعاده. وتصدَّى محمد فوزي لموجة امتعاض زاحفة في أعماقه بأن جعل يؤكد لنفسه شرف العريس، ويقول لضميره القلق إن أحدًا لم يتَّهمه في شرفه إلا الوغد زعتر. أجل لقد تصرَّف مع سهام بطريقةٍ قاسية، فما من شك أن الموافقة انتُزعت منها على رغمها، غير أنها ستحظى بالسعادة والجاه. إنه قرارٌ حكيم، وستُثبت الأيام صدقه وإخلاصه. وسارت الأمور في سبيلها المرسوم حتى خرجت سهام ذات يوم إلى زيارةٍ قريبة ولكنها لم تعد. طال الوقت وغرق الانتظار في مستنقع الشك القاتل. تحرَّى عنها في جميع مظانها، ولكن لم يسمع لها عن خبر .. تجسَّد واقع لم يخطر على بال. تقوَّض البنيان كله وتلاشت الآمال مخلفةً الرعب والأسى. جُنَّت سناء كما جُنَّت زهيرة، أما محمد فقد ثار ثورةً هائلة. قصد من توِّه رفعت حمدي ولكنه وجده على حال يُرثى لها، وصاح به غاضبًا: إنك مسئول عما حدث. أنت .. أنت المسئول الأول. وفي الحال استغلَّ الضابط خبرته في الخدمة وإمكاناته الغزيرة في البحث عن المُختفية، ولكن مرَّت الأيام تباعًا دون نتيجة. ورنَّ التليفون في بيته ساعة الغداء عند اجتماع الأسرة، فتناوَل محمد السماعة: آلو. – أنا سهام يا خالي. – سهام .. أين أنت؟ – أُكلمك من الإسكندرية. – ماذا تفعلين هناك؟ – إني أعمل .. وبخير .. اطمئنُّوا .. أريد ماما أن تلحق بي. – أعطِني عنوانك، أريد أن أقابلك. – ممكن أحضر بنفسي. – وماذا يُؤخِّرك؟ – عِدني أن تلقاني بهدوء واحترام. – لك هذا يا سهام. – سأحضر غدًا. – احضري الليلة أرجوك. – ليَكن .. إلى اللقاء. ••• أقبلت عليهم في ثبات كأنما قد نضجت في أيام غيابها أعوامًا. تلقَّتها أمها باكيةً. تساءلت سناء: ماذا فعلتِ بنا يا سهام؟ وقال محمد بهدوء: آخر ما كان يُتوقَّع منك. فقالت باسمةً: الدفاع عن النفس حقٌّ مشروع. – ليس بهذه الوسيلة. – الأفضل أن تسمعوا حكايتي. صمتت مليًّا لتجمع شتات أفكارها ثم راحت تقول: بلغ مني اليأس مداه، صمَّمت على التحدي والانتقام. قلت إنهم يريدون أن يُزوِّجوني من لص مُغطًّى آخر، سأتزوَّج من اللص المكشوف. وذهبت إلى محمد زغلول أو زعتر النوري. صاح محمد في جنون: كلا. – هو ما حصل، كنت يائسةً عمياء. رأيت في کشکه امرأةً جميلة، فلوَّحت له من بعيد، فجاءني وهو لا يُصدِّق عينَيه، فقلت له أريد أن أُحدِّثك حديثًا هامًّا. أخذني في سيارته إلى مدينة المقطم. في مكانٍ شِبه خالٍ يُطلُّ على القاهرة. كان من العسير جدًّا أن أبدأ ولكن كان لا بد أن أبدأ. سألته: ألا زِلت تريدني؟ أجاب ذاهلًا بالإيجاب، فقلت له إني موافقة. سألني: هل أفضيت برغبتك إلى محمد بك أو والدتك؟ أجبت بالنفي. سألني: ماذا دفعك إلى المجيء إليَّ؟ فقلت له: إني لا أريد استجوابًا، وإني مستعدَّة وكفى. قال: إني رجل لا يهمُّني شيء، لا يهمُّني خالك نفسه .. أستطيع أن أفعل ما يحلو لي .. ولكن لا بد أن أعرف ما حملك على المجيء .. قلت: لا جواب عندي .. واتركني إذا شئت. قال: إني أعرف أن الوغد زغلول خطبك .. هذه هي المسألة .. ما قولك؟ قلت: إني أرفض الاستجواب. قال: يبدو أنك لا تُوافقين عليه .. ربما لسنه وسوء سمعته .. إن ما جاء بك إليَّ هو الرغبة في الانتقام أو الرغبة في الانتحار، فلم أُحِر جوابًا، ولمعت عيناي، قال إنك عنيدة مثل جلجلة .. إني أُحبُّ هذا .. ولكني لا أعرف العبودية في الحب. قلت: فلنرجع. قال: أرفض أن أجعل من نفسي أداة انتقام في يدك. قلت: إذَن فلنرجع. قال: هذا يعني أن أُسلِّمك للوغد زغلول رأفت .. كلا .. لقد وقعت في شبكة من المنافقين واللصوص، ومن الشهامة إبقاؤك. قلت: ولكن كيف؟ قال: خالك يحسبني شيئًا قذرًا .. كلا .. أنا لم أخُن زميلًا في حياتي .. حتى جلجلة فإني مُرتبط بها رغم شبعي منها .. وقد جعلت عصابة من النشَّالين عصبة من الأعيان .. معجزة تحتاج لثورة كاملة .. وإني أرفض أن يستعملني أحدٌ أداة انتقام، ولكنني سأنقذك .. خالك رجلٌ فقير لأنه شريف .. لذلك يهمُّه أن يتخلص منك على خير .. لذلك وافَق على تسليمك للصٍّ قانوني .. اسمعيني جيدًا .. أنتِ مُتعلِّمة .. سأُلحقك بعمل يحفظك من المنافقين واللصوص. ساد صمتٌ تجلَّى فيه صوت الأنفاس المُترددة .. ثم تساءلت أمها: أي عمل؟ – موظفة في كشك يملكه في الإسكندرية بأجرٍ بسيط ونسبة في الأرباح. – أهو يكفيك يا بنتي؟ – فوق الكفاية يا ماما .. لا بد أن تأتي معي .. ستجدين حياةً معقولة جدًّا. وقالت سناء: إنه رجلٌ مُذهِل. استمرَّ الحديث بعد ذلك، ولكنه — محمد — لم يُتابعه. غَرِق في أفكاره بعمق وحزن وذهول. أي هزيمة مُنِي بها؟ إنه يتلاشى من الوجود، ويَحسُن به أن يتوارى عن الأعين. وغادَر الشقة صامتًا. ولما اقترب من ضجيج السوق أثارت الأصوات في صدره شجنًا ثقيلًا، ولمحه زعتر فهُرِع إليه مُتهللًا. تصافحا. وقفا يترامقان في صمتٍ طال حتى ضاق به محمد، فتمتم: شكرًا لك يا زعتر. فقال الرجل ضاحكًا: محمد زغلول من فضلك. فقال محمد فوزي بهدوء ويقين: زعتر النوري، اسمٌ طيب لرجلٍ طيب، ماذا يخجلك منه؟!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/19069697/
الحب فوق هضبة الهرم
نجيب محفوظ
«عرفتُ الحبَّ لأول مرة في حياتي. إنه كالموت تَسمع عنه كلَّ حين خبرًا ولكنك لا تعرفه إلا إذا حضَر. وهو قوةٌ طاغية يلتهم فريستَه، يَسلبُه أيَّ قوةِ دفاع، يطمس عقله وإدراكه، يصبُّ الجنونَ في جوفه حتى يطفح به. إنه العذاب والسرور اللانهائي.»‏استطاع «نجيب محفوظ» أن يَرصُد في كثيرٍ من أعماله كثيرًا من التحوُّلات السياسية والاقتصادية وتأثيرَها على الحياة الاجتماعية، وقد تضمَّنت هذه المجموعة القصصية التي كتَبها في نهاية السبعينيات من القرن الماضي كثيرًا من التغيُّرات الاجتماعية التي شَهِدها المجتمع المصري عَقِب الانفتاحِ الاقتصادي وبدايةِ تفتيت الطبقة الوسطى، وتوضح كيف أصبح المال هو القِيمةَ العليا في المجتمع، بينما صار العلم عِبئًا على صاحبه. تجلَّى هذا الوضع في قصة «الحب فوق هضبة الهرم» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث عبَّرت عن التحوُّلات العنيفة للمجتمع من خلال أزمة «علي» و«رجاء»، وصعوبة زواجهما بسبب سوء الوضع المادي ﻟ «علي». ومن أروع قصص المجموعة قصةُ «السماء السابعة»، التي يأخذنا فيها «محفوظ» بانسيابية إلى عالَم الأرواح، فنفتتن بخياله ونَهِيم في عالَمه. بالإضافة إلى غيرهما من القصص التي عبَّرَت عن مختلِف الهموم الإنسانية.
https://www.hindawi.org/books/19069697/3/
السماء السابعة
سحابةٌ مُعتِمة تقتحم الوجود وتنغمس في الفضاء. كل شيء يموج بحضورٍ كوني غريب، لا شبيه له من قبل، يُحلِّل الكائنات إلى عناصرها الأولى، يُنذِر بالعدم أو بخلقٍ جديد. رغم ذلك ما زال يملك وعيًا بما يحدث أو أنه يعيش اللحظات الأخيرة من الوعي. سيطر عليه شعورٌ فائق الإلهام أنه يشهد ما لم يشهد من قبل، ولكنه ما زال رءوف عبد ربه، رءوف عبد ربه بلا خوف ولا وساوس ولا مُبالاة. يقف خارج أسوار البوَّابة التاريخية، في الخلاء، في الظلام، بلا وزنٍ البتة. هو والصديق عانوس قدري راجعان من سهرة الليل، أين أنت يا عانوس؟ لا يسمع صوتًا، لا يُحسُّ بمس الأرض، وثَمة شعورٌ عجيب بانعدام الوزن، والغوص في السحابة المُعتمة المُقتحمة. وعندما يُنادي صديقه لا يندُّ عنه صوت، إنه موجود وغير موجود، وهو حائر ولكنه غير خائف، وقلبه يتوقع إجابة قريبة وصريحة. وترقُّ السحابة وتمضي في التلاشي، ويقف التموج ويختفي. عند ذاك تتَّضح ظلمة الليل المُشعشعة بإشعاعات النجوم. أخيرًا تتراءى يا عانوس، ولكن ماذا تفعل؟ ثَمة أناسٌ يحفرون في الأرض حفرةً بهمة ونشاط، وثَمة شابٌّ مطروح على ظهره ينزف الدم من رأسه. إنه يرى ذلك بشيء من الوضوح أكثر بما تسمح أضواء النجوم. يا للعَجب! ما الشاب المطروح إلَّاه، رءوف عبد ربه نفسه. إنه أنا دون غيري. وهو مُنفصل عنه تمامًا، يراه من بعدٍ قريب. ليس شبيهًا به ولا توءمًا له، إنه جسمه، وهذه بدلته، وهذا حذاؤه. عانوس يحثُّهم على العمل، لا يراه البتة فيما يبدو، يظن أن الجسم المطروح يحوي بالكامل صديقه رءوف، لا يفطن إلى الكائن الذي يُراقبه بلا انفعال. أدرك أنه غير مرئي مثل جسده المطروح. هل انقسم إلى اثنين؟ هل غادَر الحياة؟ هل قُتِل وعانى الموت؟ قتلتني يا عانوس؟ ألم نقضِ معًا سهرةً مُمتعة؟ متى شرعت في قتلي؟ كيف نفَّذته؟ وأين كان رجال أبيك الذين يحفرون قبري؟ هانت صداقتي عليك لتستأثر برشيدة؟ ألم تقُل لي بأنك ستعتبرها شقيقة لك من الآن فصاعدًا؟! ها هم الرجال يحملون جثَّتي ويرمون بها في الحفرة. ها هم يُهيلون عليها التراب ويُسوُّون سطح الأرض. عاد وجه الأرض إلى صورته المألوفة، وغاب رءوف عبد ربه كأن لم يكن، ولكنني موجود يا عانوس. أحسنت صنعًا بدفن أداة الجريمة الصلبة. زال كل أثر. لماذا أنت مُتجهِّم هكذا؟ أين نظرة عينَيك الساخرة؟ أعترف لك — ولو أنك لا تسمعني — أنني طالما أحببتها. أتظنُّ أن علاقتنا انقطعت وانتهت؟ الصداقة أقوى مما تظن، حتى الموت يعجز عن محقها. كذلك الحب؛ رشيدة لي أنا وليست لك، ولكنك مُتهوِّر وسيئ التربية. نشأت في محيط أبيك المعلم قدري الجزَّار، مُحتكِر اللحوم، ناهب الفقراء والمساكين، راشي الرجال وشاري الذمم، فلقَّنك أن تطمع فيما ليس لك وأن تناله بقوة الجريمة. ماذا أنت فاعلٌ الآن؟ لم يكن يطيب لك الجلوس في المقهى بدوني، ولا المذاكرة، ولا الذَّهاب والإياب من الجامعة، أكبر صديقَين في الحارة رغم الفارق اللانهائي في المال والجاه والسطوة؛ فإن نسيتَني أنت فما أنا بناسيك. واعلم بأنني لا أحمل نحوك رغبة في الانتقام أو حتى الإيذاء، لقد دُفنت جميع هذه العواطف والانفعالات في الحفرة مع جثَّتي، حتى العذاب الذي تُعانيه حارتنا من ظلم أبيك وأمثاله لا ينعكس الآن في صدري غضبًا وحنقًا وحقدًا وثورة، ولكنه صورةٌ شائهة مرفوضة بقوة الحب، ويُشكِّل رغبةً سامية مُبرَّأة من الأوشاب لتغييرها تغييرًا كليًّا. إني أرثي لك يا عانوس. لم أرَك في هذه الصورة القبيحة من قبل. إنك هيكلٌ عظمي تسكنه الخفافيش. الدم المسفوك يلطخ وجهك وجبينك. عيناك تقدحان شررًا وتتدلَّى من أُذنَيك حيَّتان. رجال أبيك يسيرون خلفك على حوافر حمير وبرءوس غربان يرسفون في أغلال مغروسة بالشوك. إنه ليحزنني أن أكون السبب المباشر لتشويه صفحتكم لذاك يغشاني الأسى وتفتر فيَّ أشواق البهجة. من خلال تنهُّدة وجد نفسه في مدينة جديدة، تُضيء بلا شمسٍ مُشرِقة، مسقوفة بالسُّحب البيضاء، أرضها تنضح بالخضرة على هيئة أزهار وفواكه، تتخلَّلها على مدًى لا نهائي أكواخٌ بيضاء كالورود، وثَمة جموعٌ تتلاقى وتفترق في خفة الطير. وجد نفسه في بقعةٍ خالية. عانى غربة الوافد الجديد. وعلى حين فجأة تجلَّى أمامه رجلٌ يتدثَّر بسحابةٍ بيضاء. ابتسم إليه وقال: أهلًا بك يا رءوف في السماء الأولى. فهتف رءوف بفرحةٍ مُتألِّقة: هي الفردوس؟ – قلت السماء الأولى لا الفردوس. – إذَن فأين الفردوس؟ – بينك وبينها طريقٌ طويل يقطعه سعيد الحظ في مئات الألوف من السنين الضوئية. فندَّ عن رءوف صوت كالأنين، فقال الرجل: دعني أُقدِّم لك نفسي أولًا، مُحدِّثك آبو الذي كان يومًا كاهن طيبة ذات المائة باب. – تشرَّفنا يا سيدي، من حسن الحظ أني مصريٌّ مثلك. – لا أهمية لذلك، لقد فُقدت هذه الجنسية منذ آلاف السنين، وإني الآن مُوفَد كمُحامٍ للدفاع عن القادمين الجُدد. – ليس ورائي تهمة ولكنني شهيد. – صبرًا، دعني أُحدِّثك عن موطنك الجديد، هذه السماء تستقبل الوافدين الجُدد، فيها يُحاكَمون وأتولَّى أنا الدفاع عنهم. الأحكام تتراوح بين البراءة والإعدام؛ في حال البراءة يقضي البريء عامًا واحدًا هنا يتأهَّل فيه روحيًّا للصعود إلى السماء الثانية … فقاطَعه رءوف مُتسائلًا: لكن ما معنى الإعدام؟ – معناه أن يُقضى عليه بأن يولد من جديد في الأرض ليُمارس الحياة مرةً أخرى لعله يلقى قدرًا أكثر من النجاح، أما ما بين البراءة والإعدام فيُقضى على المتهَم عادةً بأن يعمل مُرشدًا روحيًّا لشخص أو أكثر في الأرض، ويكون صعوده إلى السماء الثانية رهنًا بتوفيقه أو تُمَد مدة تَجرِبته وهكذا. فقال رءوف باطمئنان: على أي حال فإني واثق من البراءة؛ فقد عشت طيبًا ومت شهيدًا. فابتسم آبو وقال: لا تتعجل، ولنبدأ الحديث في قضيتك .. أخبِرني بهُويَّتك. – رءوف عبد ربه، السن ثمانية عشر عامًا، طالب تاريخ بالجامعة، يتيم الأب، أمي أرملة تعيش على منحةٍ خيرية من الأوقاف. – لماذا أنت راضٍ عن نفسك هكذا يا رءوف؟ – رغم فقري الشديد فإني طالبٌ مجتهد يحب العلم ولا يكفُّ عن النهل منه. – جميلٌ هذا من ناحية المبدأ، ولكنك كنت تتلقى كثيرًا وتفكر قليلًا. – التفكير يُكتسَب بالعمر والمران، وعلى أي حال لا يُعَد ذلك تهمة؟ – هنا يُحاسَب الإنسان على كل شيء، أُلاحظ مثلًا أنك كنت تُبهر بالأفكار الجديدة. – للجديد سِحره يا سيد آبو. – أولًا لا تقُل سيدي. ثانيًا نحن لا نُحاسب على التفكير ولو كان خاطئًا، ولكننا ندين التسليم بأي فكرة ولو كانت صحيحة. – إنها محاكمةٌ قاسية، العدل في الأرض أرحم. – ننتقل إلى العدل، كيف وجدت حارتك؟ – بشعة .. أكثرها فقراء مُتسوِّلون .. يُسيطر عليها فتوة يحتكر الغذاء .. اشترى شيخ الحارة .. يسرق ويقتل ويعيش مُطمئنًّا فوق القانون. – إنه وصفٌ دقيق، ماذا كان موقفك؟ – الرفض والتمرد والرغبة الصادقة في تغيير كل شيء. – تُشكَر. ماذا فعلت لتحقيق ذلك؟ – لم يكن بوسعي أن أفعل شيئًا. – وتريد أن تصعد إلى السماء الثانية؟ – لمَ لا؟ كان عقلي وقلبي رافضَين لما يجري. – ولسانك؟ – لو نطق بحرفٍ مُتمرِّد لكان جزاؤه القطع. – ولكن حتى الكلام وحده لا يُرضي محكمتنا المقدسة. – يا لها من محكمة! وهل كنت إلا فردًا وحيدًا؟! – حارتك مكتظَّة بالتُّعساء. – واجبي الأول كان تحصيل العلم. – الأمانة لا تتجزأ، ولا عذر عن التخلي عنها. – لم يكن من المحتمل أن يؤدِّي ذلك إلى العنف؟ – لا تهمُّنا الصفات، ما يهمُّنا هو الحق. – ألا يشفع لي أني قُتلت في سبيل الحب؟ – حتى هذا لا يخلو من عنصر في غير صالحك. فتساءل رءوف بدهشة: أي عنصر هذا؟ – إنك منحت عانوس ثقتك وهو صورة من أبيه الطاغية. – لم أتصوَّر أنني مُذنِب لهذا الحد؟ – ثَمة ظروفٌ مُخفَّفة، ولكن مَهمَّتي في الدفاع عنك ليست يسيرة. – هيهات أن يظفر أحد بالبراءة في ساحة هذه المحكمة. – صدقت، قلةٌ نادرة أدَّت واجبها الكامل نحو الأرض. – أعطِني مثالًا أو مثالَين. – خالد بن الوليد وغاندي. – إنهما نقيضان! – للمحكمة تصورٌ آخر، والعِبرة بالواجب نفسه. – الآن لم يعد لي أمل. – لا تيئس، ولا تستهِن بخبرتي الطويلة، سأفعل المستحيل لإنقاذك من الإعدام. – ماذا يمكن أن يُقال؟ – أقول إنك بدأت بداية لا بأس بها في ظروفٍ بالغة المشقة، وإنه كان يُرجى منك خير لو امتدَّ بك العمر، وإنك كنت محبًّا صادقًا وبارًّا بوالدتك. – إذَن فغاية ما أطمع إليه أن يُقضى عليَّ بأن أكون مُرشدًا روحيًّا؟ – وهي فرصة لاستدراك ما فاتك، في عالمنا هذا لا يصعد الإنسان إلا بفضل توفيقه في الأرض. – أيها المحامي الجليل، لمَ لا تُرسلون مُرشدًا للمعلم قدري الجزَّار؟ – ما من أحد إلا وله مُرشده. فهتف رءوف بذهول: وكيف يستمرُّ الشر إذَن؟ – لا تنسَ أن الإنسان حر، كل شيء يتوقف في النهاية على قوة تأثير المرشد وحرية الفرد. – لم يكن من الخير أن تُلغى هذه الحرية؟ – قضت المشيئة بألا يُقبَل في السموات إلا الأحرار. – كيف لا يُقبَل في السماء وليُّ حارتنا الطاهر الشيخ عاشور؟ إنه لا يُمارِس الحرية؛ فكل ما يقول أو يفعل من إملاء إلهامه الصادق؟ فابتسم آبو وقال: ما هو إلا صنيعة لقدري الجزَّار؛ يُؤوِّل الأحلام لمصلحته، وينقل إليه همسات الضمائر من البيوت التي تُرحِّب ببركته. فصمت رءوف مغلوبًا على أمره. غاب قليلًا في الخضرة اليانعة المُزركَشة بأكواخ الورود، استسلم للملاحة وعذوبة الجو، ثم تنهَّد قائلًا: ما أتعس أن يُجبَر الإنسان على هجر هذه الجنة! فهتف به آبو: حذار من الرغبة الآثمة في الهروب من الواجب. فتساءل رءوف: متى أمثُل في ساحة المحاكمة؟ فأجاب آبو: لقد تمَّت المحاكمة. فرَنا إليه رءوف بدهشة، فقال: تم الاستجواب ومرافعة الدفاع فيما جرى بيني وبينك، وصدر الحكم، وهو يقضي بندبك مُرشدًا روحيًّا، تهانيَّ. تقرَّر استبقاء رءوف عبد ربه في السماء الأولى فترةً قصيرة ليتطهَّر من أي شائبة وليُؤهَّل لمَهمَّته. وبُغيةَ تدريبه وتثقيفه أبقاه آبو إلى جانبه في الوقت الذي يستقبل فيه المرشدين عادة. وقال له رءوف: أودُّ أن أرى أدولف هتلر، هل يجيء الآن؟ – لقد قُضي عليه بالإعدام فوُلِد في حارتكم من جديد، وطالما رأيتَه. – هتلر؟ – هو المعلم قدري الجزار. فصمت رءوف مليًّا من الدهشة ثم تساءل: إذَن فمن يكون شيخ الحارة شاكر الدرزي؟ – لورد بلفور. – والشيخ عاشور الولي الكذَّاب؟ – إنه خنفس خائن الثورة العرابية. – أراهم لا يتغيرون، ولم يستفيدوا من إعادة التجربة. – ليس الحال كذلك دائمًا، أتدري من تكون أمك؟ – إنها ملاك يا آبو. – ما هي إلا ريَّا السفَّاحة المشهورة، فانظر كم تقدَّمَت. فذُهِل رءوف وصمت على حين استقبل آبو أول الوافدين. قال الوافد: إني أبذل أقصى ما أستطيع. فقال آبو: أعلم ذلك، ولكن يلزمك مضاعفة الجهد؛ فقد آن لك أن تصعد. ولما اختفى الوافد قال رءوف: إني أعرفه جيدًا. أليس هو إخناتون؟ – هو عينه، إنه سيئ الحظ، فطال مُقامه هنا آلاف السنين. – ولكنه أول من بشَّر بالله الأحد. – هذا حق، ولكنه فرض إلهه على الناس بالقوة لا بالهداية والإقناع، فتيسَّر لأعدائه من بعده أن ينتزعوه من القلوب بالقوة، ولولا صفاء سريرته لقُضي عليه بالإعدام. – ولمَ طال به المُقام هذا الدهر؟ – لم يُوفَّق مع أحد ممن نُدِب لإرشادهم مثل فرعون موسى والحاكم بأمر الله وعباس الأول. – ومن رجُله اليوم؟ – كميل شمعون. وجاء الوافد الثاني، قدَّم تقريره، تلقَّى كلماتٍ مُشجِّعة ثم اختفى. عند ذاك قال رءوف: إنه الرئيس ويلسون. – أجل. – حسبته من القلة السعيدة التي صعدت إلى السماء الثانية. – أنت تُشير بلا شك إلى مبادئه السامية، ولكنك نسيت أنه لم يستغلَّ قوة أمريكا في تنفيذها، بل إنه اعترف بالحماية على مصر. – ومن رجُله؟ – الأستاذ توفيق الحكيم. ولما اختفى الوافد الثالث قال رءوف: إنه لينين بلا شك. – نعم. – حسبت أن الإعدام كان نصيبه لإلحاده. ماذا قلت دفاعًا عنه؟ – قلت إنه من خلال ثرثرة فكرية غيَّر الأسماء ولم يُغيِّر الجوهر، سمَّى إلهه المادة الأزلية وأضفى عليها من صفات الله القِدم والخلق والسيطرة على مصير الكون، وسمَّى الرسل بالعلماء، والملائكة بالعمال، والشياطين بالبرجوازيين، ووعد أيضًا بالجنة في تحديدٍ أكثر لزمانها ومكانها، ونوَّهت بقوة إيمانه وبلائه في خدمة الكادحين وروح تضحيته وتقشُّفه، وقلت أيضًا إن ما يهمُّ الله سبحانه هو ما يُصيب الناس من خير أو شر. أما هو — جل جلاله — فمُستغنٍ عن البشر، لن يزيده إيمانهم ولن ينقص من شأنه كفرهم به .. هكذا خُفِّف الحكم وعُيِّن مُرشدًا روحيًّا. فتساءل رءوف مبهورًا: ومن رجُله؟ – الأستاذ مصطفى محمود. – وهل نُدِب ستالين مُرشدًا أيضًا؟ – كلا، ستالين أُعدم لقتله الملايين من الكادحين بدلًا من أن يُعلمهم ويُدربهم. – لعله يعيش اليوم في حارتنا؟ – كلا، إنه يعمل في أحد مناجم الهند. بانتهاء استقبال لينين فرغ آبو من مقابلات الساعة، استصحب رءوف لنزهة في السماء الأولى. لدى تفكيرهما في النزهة انطلقا مباشرةً استجابة للرغبة الداخلية، بلا حاجة إلى استعمال القدمَين، كطائرَين ثملَين بنشوةٍ باطنية انعكاسًا لمفاتن الحركة المُنسابة في يسر وعذوبة. غاصا في جوٍّ فِضِّي ذي أرضية خضراء مُزركَشة وسماء مُضيئة بألق السحائب البيضاء. مرَّا بوجوهٍ كثيرة تُمثِّل شتى الأجناس والألوان، مُنهمِكين في الظهور والاختفاء ما بين السماء الأولى والأرض، كلٌّ مُستغرق في مَهمَّته الرفيعة. يستهدفون للأرض وأهلها رقيًّا ونصرًا، يأملون من ورائها تكفيرًا وتطهيرًا لأنفسهم ليُواصلوا صعودهم في مراقي الروح والإبداع والقرب من الحقيقة العظمى. يعملون بإصرار، تدفعهم الأشواق الحارَّة اللانهائية إلى الكمال والحق والخلود. قال رءوف: يُخيَّل إليَّ أن العناء هنا لا يقل عن نظيره فوق الأرض؟ فأجاب آبو باسمًا: هما عناءٌ واحد مُتصل، غير أن الإنسان يُمارسه ها هنا بقلبٍ أنقى وعقلٍ أذكى وهدفٍ أوضح. – زِدني وضوحًا يا آبو. – أنتم تحلمون في الأرض باليوم الذي تتحقق فيه المدينة الفاضلة المؤسَّسة على حرية الفرد وعدالة المجتمع والتقدم العلمي والسيطرة الظافرة على قُوى الطبيعة، وفي سبيل ذلك تُحارِبون وتُسالمون وتتحدُّون القُوى المضادَّة المسمَّاة في اصطلاحاتكم بالرجعية. هذا جميل وطيب، ولكنها ليست الهدف كما تتصوَّرون، إن هو إلا الخطوة الأولى السديدة في طريقٍ طويل من الرُّقي الروحي يبدو حتى للذين يُقيمون في سمائنا الأولى بلا نهاية. فاستغرق رءوف في التأمل حتى سأله آبو: فيمَ تفكر يا رءوف؟ فقال بأسًى: أفكر في مدى بشاعة الجريمة اليومية التي تُواصل اقترافَها القوةُ المضادَّة. – وهي جريمة يُشارك فيها الطيِّبون بالسلبية والقعود عن الجهاد خوفًا من الموت، وما الموت إلا ما ترى. – أي حياة؟! – إنها معركة بلا زيادة ولا نقصان. وتفكَّر رءوف طويلًا حتى أرهقه التفكير، فعاد إلى تشوُّفه السابق لمعرفة مصائر الشخوص الذين يهتمُّ بهم، فسأل آبو: أودُّ أن أعرف مصائر زعماء وطني؟ – انتظرْ حتى تراهم أو سَلْ ما بدا لك. – ماذا عن السيد عمر مكرم؟ – إنه اليوم مرشد أنيس منصور. – وأحمد عرابي؟ – إنه مرشد لويس عوض. – ومصطفى كامل؟ – مرشد فتحي رضوان. – ومحمد فريد؟ – مرشد عثمان أحمد عثمان. – وسعد زغلول؟ – هو وحده الذي صعد إلى السماء الثانية. – بسبب تضحياته؟ فابتسم آبو قائلًا: بسبب انتصاره على ضعفه البشري. – زِدني إيضاحًا يا آبو. – لعلك تعلم بأنه عانى هفوات الطموح قبل الثورة، ثم سما عقب الثورة إلى رؤيةٍ رفيعة من الشجاعة والفداء فاستحقَّ البراءة. – ومصطفى النحاس؟ – كان مرشد أنور السادات، وعقب ٦ أكتوبر وعودة الحرية صعد إلى السماء الثانية. – وجمال عبد الناصر؟ – إنه اليوم مرشد القذافي. ••• في نهاية التدريب القصيرة قال آبو لرءوف: كن مرشدًا روحيًّا لقاتلك عانوس قدري الجزار. فامتثل رءوف الأمر بحماس وعزيمة، فقال آبو: اعتمدْ في الإيحاء على فِكرك، وإنه لقوةٌ عظيمة إذا أحسنت استخدامها، واستعِن عند الضرورة بالأحلام، والله معك. هبط رءوف عبد ربه إلى الحارة. يرى ويسمع على السرائر على حين لا يُرى له طيف ولا يُسمَع له صوت. ينتقل من مكان إلى مكان كالنسمة المُنسابة، في حارته المحبوبة بصورتها المتكاملة الثابتة، وأناسها المُنهمِكين في شئون الحياة. إنه يملك كافة ذكرياته، وضمنها آماله وآلامه السابقة، ويتمتع بصفاء ذهن مثل الضياء الساطع. عشرات وعشرات من الكادحين والكادحات يعملون بأعيُن خابية وسواعد مفتولة. الضحكات تطفو فوق الشتائم كالزبد المُتألق الممزوج بالحموضة. ها هو المعلم قدري الجزار في وكالته، لا شبه بينه وبين هتلر في ملامحه، لكن جسمه ترهَّل من مص دماء البشر. ها هو لورد بلفور، أو شاكر الدرزي شيخ الحارة، الذي أهدر القانون تحت قدمَي الجزار، وها هو الولي الماكر عاشور الذي يستلهم الغيب لتأييد سيده ومولاه. لكِ الله يا حارتنا. كيف ومتى تمرقين من هذه الأغلال المُحكَمة؟ ويبدو أن اختفاءه — رءوف — قد حرَّك ألسنة الحارة وقلوبها. النسوة يُحطن بأمه الباكية: هذا ثالث يوم يمرُّ على اختفائه. – بلِّغي القسم يا أم رءوف. – بلَّغت عم شاكر الدرزي شيخ الحارة. ويجيء صوت شيخ الحارة مُتهكمًا: ألاعيب شباب هذه الأيام. فهتفت الأم الباكية: ابني لم يغِب ليلةً واحدة بعيدًا عن بيته. وها هي رشيدة راجعة من معهدها. جمال وجهها الأسمر مُكتسٍ بالكآبة. أمها تقول لها: اعتني بنفسك؛ فالصحة لا تُعوَّض. فتقول وهي تختنق بالبكاء: إني أعرف، قلبي لا يكذبني. رنا إليها رءوف بإشفاق. صدقت يا رشيدة. قلب المحب جهاز استقبال دقيق، ولكننا سنلتقي ذات يوم. الحب خالد يا رشيدة وليس كما يتوهم البعض. وها هو القاتل يخطر راجعًا من الجامعة، تُمسِك بيد كتابًا وتقتل بالأخرى. إني لا أغيب عن ذهنك، ولكنك لا تدري بأنني انتُدبت مرشدًا لك. هل تُطيعني اليوم أو تمضي في غيِّك؟ كل شيء يدعو للطمأنينة يا عانوس؛ أبوك يُلقي ظله على الجميع، الحكومة والولاية ملك يمينه، تحت أمرك أي شهادة زور تحتاج إليها، ولكن صورتي لا تبرح مخيلتك. لمَ لا؟ ألسنا صديقَين ضُرِب بمودتهما المثل؟! ثم إنك ما زلت شاديًا في الإجرام، لم تتمرَّس به كوالدك، ومن خلال ثقافتك تعلَّمت أو على الأقل سمعت عن أشياء جميلة. أتحلُم بأنك ستظفر بقلب رشيدة نتيجةً لتلك الجريمة؟ ما هذا الذي قتلته ودفنته في الخلاء؟ لا يعنيني أمره بأكثر مما يعنيك. إني رفيقك الأبدي كما سترى. اعترفْ يا عانوس، اعترفْ بجريمتك، اعترف والحقْ بي؛ فسيكون لك دورٌ أفضل. ها هي أمي التعيسة تعترض سبيلك: يا سي عانوس .. أليس عندك خبر عن صديقك؟ – أبدًا والله. – قال وهو يُودِّعني إنه ذاهب إليك. – تقابلنا دقائق ثم أخبرني أنه ذاهب إلى مشوارٍ هام، وأننا سنلتقي مساء اليوم في القهوة. – ولكنه لم يرجع. – ألم أزُرك سائلًا عنه؟ – حصل يا ابني، ولكنني أكاد أُجَن. – وإني مثلك في القلق. صدقت يا عانوس. إني أرى القلق في روحك مثل النمش في الوجه، ولكنك قاسٍ وخبيث. إنك من القُوى المضادَّة يا عانوس، ألا تدرك خطورة ذلك؟ إننا نشكو طول الطريق الأبيض، فما بالك وأنت تنحدر في الطريق الأسود؟! إني مُلازمك. إذا لم تتذوَّق هذه الدجاجة المُحمَّرة فالذنب ذنبك، إذا لم تستطِع أن تُركِّز ذهنك في كتابك فالذنب أيضًا ذنبك. لن أتخلَّى عنك فلا تُبدِّد تعبي هباءً، واسهد طويلًا فلن يُدرِكك النوم قبل الفجر. ولما صعد رءوف إلى السماء الأولى وجد آبو مُنهمكًا في حديث مع إخناتون، وكان إخناتون يقول: كلما قلت له يمينك أخذ يساره. فقال له آبو: استعملْ قُواك كما يجب. – ينقصنا استغلال القوة المادية. فهتف آبو: ألا ترغب في الصعود؟ المسألة أنك لم تعتَد المناقشة والإقناع، ولكنك ألِفت إصدار الأوامر. والتفت آبو إلى رءوف وتساءل: كيف الحال عندك؟ – بدايةٌ حسنة. – عظيم. – ولكني أتساءل: أليس لكل فرد من العامة مُرشده؟ – طبعًا. – إذَن لماذا هم مُستسلمون؟! – يا لك من مُخطئ، إنك أحد أبناء عصر الثورات. في تلك اللحظة هبط عصفورٌ أخضر في حجم تفاحة حتى حطَّ على منكب آبو. قرَّب مِنقاره الورديَّ من أُذنِ آبو فبدا هذا مُنصتًا، ثم طار مُدوِّمًا في الفضاء حتى توارى خلف السحائب البيض. ورأى آبو نظرة التشوف في عينَي رءوف فقال: إنه رسول السماء الثانية، جاءني ببراءة الصعود للمدعو شعبان المنوفي. – ومن شعبان المنوفي؟ – جندي مصري استُشهد في المورة على عهد محمد علي، وهو مُرشد لمُهرِّب نقود يُدعى مروان الأحمدي، فنجح أخيرًا في حمله على الانتحار. وجاء شعبان المنوفي مشمولًا بثوبه السحابي، فقال له آبو: ستصعد مُجلَّلًا بالبركات إلى السماء الثانية. وهُرِع إلينا جميع المرشدين كالحمام الأبيض حتى ازدحم بهم المكان الأخضر، وقف شعبان مُتهلِّل الوجه، وعُزفت موسيقى بلحنٍ سماوي، وقال آبو: اصعد يا وردة المدينة الخضراء وواصل جهادك القدسي. فقال شعبان المنوفي بصوتٍ عذب: طوبى لمن يُقدِّم خدمة لأرض العناء. ومضى يصعد بخفة الشذا الرشيق والموسيقى تعزف لحن الوداع البهيج. ها هو عانوس قدري الجزار يقف أمام ضابط المباحث. الضابط يسأله: متى رأيت رءوف عبد ربه آخر مرة؟ – عصر اليوم الذي اختفى فيه، زارني في البيت، سرعان ما غادرني لمشوارٍ هام واعدًا بمقابلتي مساءً في القهوة. – هل أخبر شيئًا عن مشواره؟ – كلا. – ألم تسأله عنه؟ – كلا .. حسبته أمرًا يتعلق بالأسرة. – رآكما البعض وأنتما تسيران معًا في الحارة عقب الزيارة؟ ••• لا تضطرب. الأفضل أن تعترف. فرصتك الذهبية لو تعلم. ••• – أوصلته حتى خارج البوَّابة. – إذَن ذهب إلى الخلاء؟ ••• هذه فلتة لسان يا عانوس. ما أكثر الفلتات! لن يُنجيك إلا الصدق. ••• – نعم. – ماذا فعلت بعد ذلك؟ – قصدت القهوة لأنتظره. – حتى متى بقيت فيها؟ – حتى قُبَيل منتصف الليل ثم رجعت إلى بيتي. – تستطيع أن تُثبت ذلك؟ – كان يجلس بالقرب مني طوال الوقت عم شاكر الدرزي شيخ الحارة .. وفي الصباح الباكر ذهبت إلى مسكنه وسألت والدته عنه فأخبرتني بأنه لم يعد. – ماذا فعلت؟ – سألت عنه جميع الأصدقاء والمعارف في الحارة. – ألك تصورٌ خاص عن اختفائه الطويل؟ – كلا، إنه شيءٌ مُحيِّر حقًّا. ••• ها أنت تنصرف من القسم يا عانوس. إنك تستعيد كل كلمة قيلت. تندم على ذكر البوَّابة. تتساءل عمن شهد مَسيركما معًا، كأنك تُفكر في مزيد من الشر. وتُعيد على مسامع أبيك ما جرى من حوار. إنه مطمئنٌّ جدًّا، في جيبه تستقرُّ النقود والقانون والشهود، جرمٌ محترف. أنصحك للمرة الثانية أن تُواجه جريمتك بشجاعة وتُصفي حسابك. ثم ما هذا؟ ألا تزال صورة رشيدة ترتسم في مُخيِّلتك؟ هذا هو الجنون عينه، ثم إنك تدرك أن التحريات ستجري عنك مثل الطوفان. شيخ الحارة يُقرِّر ذلك أيضًا. الغيب يُنذر بمفاجآتٍ مجهولة. إنك تفكر في ذلك كله وتُفكر أيضًا في رشيدة يا أحمق؛ لذلك قال رءوف لآبو: الخوف من الموت أكبر لعنة سُلِّطت على البشر. فتساءل آبو باسمًا: ألم يكن ذلك خليقًا بأن يمنعه من ارتكاب جريمته؟ ولزم رءوف الصمت، فقال آبو: لقد انتُدبت مُرشدًا لا فيلسوفًا فتذكَّر ذلك. إنك تتساءل يا عانوس لمَ يستدعيك الضابط ثانية. حسن، الأمور لا تنتهي بالبساطة التي يتصورها أبوك. ها هو الضابط يسأل: ماذا تعرف عن حياة رءوف الشخصية؟ – لا شيء فيها يستحقُّ الذكر. – حقًّا؟ .. وماذا عن حبه لرشيدة الطالبة بمعهد الفنون الطرزية؟ – كلُّ شابٍّ لا يخلو من علاقة كهذه. – ألك أنت مثلًا علاقةٌ مثلها؟ – هذه شئونٌ خاصة ولا شأن لها بالتحقيق. – أتظنُّ ذلك؟ .. حتى إذا كنت تحب الفتاة نفسها؟ – المسألة تحتاج لإيضاح. – طيب .. ما هو؟ – كاشفته مرةً بأني أرغب في خطبة رشيدة فصارَحني بأنهما مُتحابَّان، وفي الحال اعتذرت واعتبرت الأمر مُنتهيًا. – ولكن الحب لا ينتهي بكلمة. – كانت مجرد عاطفة عابرة .. لا أدري ماذا تقصد. – إني أجمع معلومات، وأتساءل: تُرى ألم تتغير عواطفك نحو صديقك ولو قليلًا؟ – كلا .. عاطفتي لرشيدة كانت عابرة، أما صداقتنا فكانت صداقة العمر. – تقول كانت؟ .. هل انتهت؟ فقال عانوس بضيق: أقصد أنها صداقة العمر. ••• تتساءل: تُرى هل جرى تحقيق مع رشيدة؟ .. وبمَ اعترفت؟ حسن، إني أقول لك إن التحقيق جرى، وإنها اعترفت بمحاولاتك في انتزاعها من قلب صديقك، كما اعترفت بسطوة أبيك وخوفها على نفسها وعلى أمها. أؤكِّد لك أن الأمور تمضي في غير صالحك. ••• فضحك الضابط وقال: تتكلم كما لو كنت يئست من رجوع صديقك. – إني واثق من رجوعه، بهذا يُحدِّثني قلبي. – قلب المؤمن دليله، وإني لأرجو ذلك أيضًا. ••• تخرج هذه المرة من القسم وأنت أشد اضطرابًا من المرة الأولى. أظنُّك شعرت تمامًا بأن الضابط الماكر يشكُّ فيك يا عانوس. لا تتصور أن أباك قادر على كل شيء. هتلر نفسه ألم ينهزم وينتحر؟! الضابط يستدعيك للمرة الثالثة يا عانوس. أعصابك بدأت تتمزَّق. أبوك يرمق شاكر الدرزي بغضب، ولكن ماذا بوسعه أن يفعل؟! قف أمام مُعذِّبك الضابط واسمع: يا عانوس، تلقَّينا رسالة من مجهول يتَّهمك بقتل صديقك رءوف. وهتف بغضبٍ مُفتعَل: تهمةٌ حقيرة .. ليكشفْ عن وجهه. – صبرك، نحن نُقدِّر الأمور بميزان دقيق، أنت وصاحبك ألم تكونا تذهبان كثيرًا خارج البوابة للسهر؟ – بلى. – أين كنتما تقضيان الوقت في ذلك الخلاء؟ – في مقهى الشرفا فوق الهضبة. – هذا ما قدَّرته، وقد قرَّرت أن أُجري مواجهة بينك وبين رجال المقهى. ••• انتظرْ ولا تضطرب. إنك عنيد، هذه هي الحقيقة. لا تريد أن تستجيب لمُناجاتي. ثِق في أنني أعمل لصالحك يا تعيس. ••• وتمَّت المواجهة، فشهد صاحب المقهى وصبيُّه أنهما لم يريا عانوس منذ أكثر من شهر. لم يتجلَّ الاقتناع الكامل على وجه الضابط، ورمق عانوس بنظرةٍ صارمة وتمتم: تفضلْ بالانصراف. ••• تُغادِر القسم وعلى شفتك ابتسامة النصر. لك الحق في ذلك. أبوك أحكم خطوط الدفاع من حولك، ولكن هل ينتهي الأمر عند هذا الحد؟ قلبك ينقبض وأنت تمرُّ أمام مسكن ضحيَّتك. تُساوِرك الهواجس مرةً أخرى. من المجهول الذي أرسل الخطاب؟ وهل يكون آخر خطاب من نوعه؟ إنك قاتل يا عانوس وضميرك لا يريد أن يستيقظ. لأزورنَّك الليلة في المنام. ما دمت لا تستجيب إلى ندائي الخفي فستجد جثَّتي مطروحة إلى جانبك فوق الفِراش. ها هو شخيرك يعلو تحت وطأة الكابوس، وتستيقظ فزعًا بقلبٍ ثقيل، وتنزلق من الفِراش لتبلَّ ريقك بجرعة ماء، ولكنك ستجد الجثة حال استغراقك في النوم، ويتكرَّر الحُلم ليلةً بعد أخرى. تدعو أمك الشيخ عاشور لفحص حالك فيَهبك حجابًا لتضعه فوق قلبك، ولكن الجثَّة لا تبرح منامك، وتسوء حالك فتذهب سرًّا إلى الطبيب النفسي، تتردد عليه أسبوعًا بعد أسبوع. يقول لك قولًا عجبًا؛ إنك تتصور أن صديقك قد قُتِل، وأن جثَّته هي جثَّتك أنت للارتباط العاطفي بينكما، عاطفة واحدة ربطت بينكما؛ فجثَّتُه هي البديل عن جثتك، ولكن لماذا تتصور أنك أنت القتيل؟ جثتك بدورها بديل عن جثةٍ أخرى أو بديل عن شخصٍ آخر تودُّ أن تقتله في أعماقك وهو أبوك؛ وعليه فالحلم كله انعكاس لعقدة أوديب. ما معنى هذا؟ أنا ما زرتك في الحُلم إلا تذكرة لجريمتك بُغيةَ إيقاظ ضميرك ليُكفِّر عن فعلك، فما دخل عقدة أوديب؟ إنك لا تعشق أمك ولا تودُّ قتل أبيك، ولكنك تعشق رشيدة وقتلتني أنا لتُزيحني من طريقك. وشكا رءوف أمره إلى آبو، فقال آبو: الشكوى من التشخيص العلمي الناقص كثيرة، حساسية من الإحباط تُشخَّص كمرضٍ ناشئ عن تناول الشوكولاتة، كآبة من فقدان الإيمان يُعالَج بسببها العصب السمبتاوي، إمساكٌ شديد بسبب الوضع السياسي توصف له المُليِّنات وهلمَّ جرًّا. – والعمل يا آبو؟ – هل أدركك اليأس؟ فبادَره رءوف: كلا. – استثمرْ ما لديك من قوة. حُفظت قضية رءوف عبد ربه لعدم الاهتداء إلى أسباب اختفائه. تلاشى الحادث رُوَيدًا رُوَيدًا من الأذهان، لم تعد تذكُره إلا أمه ورشيدة، ومضى عانوس يُمارِس حياته اليومية مُستغرِقًا العمل واللهو. كان الماضي يُطارِده من حين إلى حينٍ سواء في اليقظة أو في المنام، ولكنه ألِف مناوشاته وغالَبها بالإرادة والمُخدِّر والمُنوِّم. وأمن جانب القانون تمامًا فراح يفكر من جديد في رشيدة، وإلا فما معنى إقدامه على أفظع فعل في حياته؟! كان يتعمَّد رؤيتها وأن يُريَها نفسه كل صباح وهما ذاهبان إلى معهدَيهما. ما زال وجهها مُكتسيًا بكآبة الذكرى، فهل لم تفقد الأمل بعد؟ وألا تُفكر يومًا في مستقبلها كفتاةٍ تنشُد الحياة والسعادة والإنجاب؟! وهل تطمح إلى من هو أصلح لها منه في الحارة كلها؟! لقد ضاعفت مغامرته الجنونية من تعلُّقه بها ورغبته الثابتة في الاستحواذ عليها. ومرةً تصادف مجلسه لصقها في الترام فحيَّاها، ولكنها تجاهلته فقال: كان يجب أن نتبادل المساعدة. فقطَّبت نافرةً، ولكنه واصل حديثه: فكلانا يُعاني فقدَ عزيزٍ مشترك. عند ذاك خرجت عن صمتها قائلةً: لم يُفقَد، ولكنه قُتِل. – ماذا؟! – كثيرون يؤمنون بذلك. – ولكنه لم يكن له عدوٌّ واحد. فرمته بنظرة ازدراء ولاذت بالصمت. ••• إنها تتَّهمك يا عانوس بقتله. أكنت في شك من ذلك؟ تستطيع أن تمحو الجريمة من صفحتك ببعث نفسك والوقوف في وجه أبيك. لقد فات أوان الحب. ••• غادرت الترام قبله، فأتبعها نظرةً مليئة بالحقد والرغبة. ودهمت مُخيِّلتَه أحلامٌ طائشة مُفعَمة بالعنف والشهوة. وقالت أم رشيدة لأم رءوف: الجميع يتكلمون عن ذلك الرجل العجيب الذي يُحضِّر الأرواح، فلِمَ لا تُجرِّبينه علمًا بأنه لن يُكلِّفك مليمًا واحدًا؟ فرنت إليها الثكلى حائرةً ثم تمتمت: وتذهبين معي؟ – لمَ لا؟ .. سأتصل بالمرحوم أبي رشيدة. وقالت رشيدة وهي تُتابِع الحديث باهتمام: أناسٌ محترمون كثيرون يؤمنون بتحضير الأرواح. وتواعدن على يوم في تكتمٍ شديد، وقال رءوف لآبو مُتهللًا: هي فرصتي لكشف الستار عن المجرم. فقال آبو: أنت مُنتدَب مرشدًا له لا عليه. – أنترك هذه الفرصة تفلت من أيدينا؟ – لستَ مرشد شرطة يا رءوف، إنك مرشد روحي، وهدفك أن تُنقِذ عانوس لا أن تُسلمه للجلَّاد. – ولكنه مثل الصخر لا تؤثر فيه نسائم الحكمة. – إنه اعتراف بالعجز. فهتف رءوف: كلا .. لم أقنط بعد .. ولكن ماذا عليَّ أن أفعل إذا استُدعيت روحي؟ – أنت حر فلا تُقيِّد حريتك بالإلحاح في الاسترشاد. وانعقدت جلسة التحضير، وشهدتها أم رءوف وأم رشيدة ورشيدة. واستدعت روح رءوف فحلَّ في ظلمة الحجرة، وقال لأمه بصوتٍ سمعه جميع الحاضرين: رءوف يُحيِّيك يا أمي. فشهقت المرأة لتوكُّدها من موت ابنها وتساءلت: ماذا حدث لك يا رءوف؟ فقال رءوف بلا تردد: لا تخزني. أنا سعيد، لا يُزعجني إلا حزنك. تحيَّاتي إلى رشيدة. وسرعان ما غادَر الحجرة. ورجعت أم رءوف وأم رشيدة ورشيدة وهن يتساءلن: لمَ لم يَبُح بسِر مُقتله؟ فقالت أم رءوف وهي تُجفِّف دمعها: ولكنه انعدم في عز شبابه. فقالت رشيدة: لا تُزعجيه بالحزن. وقالت أم رشيدة: من يدري؟ لعله مات في حادث. – ولمَ لم يُخبرنا بحقيقة موته؟ – إنه سرُّه على أي حال. وأصبح شهود الجلسات هواية أم رءوف وسَلواها الوحيدة في الدنيا، وكانت تصحب أم رشيدة ورشيدة معها، وعندما جاءت الأيام الأخيرة السابقة لامتحان رشيدة تخلَّفت عن الذَّهاب معهما. وفي ليلة من تلك الليالي، وكانت بمُفردها بالشقة وهي تُذاكر إذ اقتحم الحجرةَ عليها عانوس قدري الجزار. تسلَّل من المنور ثم اقتحم الحجرة. وهتف به رءوف أن ارجع ولا تتقدم خطوةً واحدة، ولكنه هجم على رشيدة وكتم الصوت في فيها براحته وهو يقول: ستجرين بعد ذلك ورائي يا عنيدة. وشرع بوحشية في اغتصابها وهي تُقاوم بعنفٍ يائس. وصرخ: سأغتصبك حية أو ميتة. وتسلَّلت يدها إلى المِقص فوق الخوان وبقوةٍ جنونية وهي مُهتصَرةٌ تحت ثقله رشقَته في جانب رقبته. شد عليها بقسوة ووحشية، ثم تراخت قوته فانطرح فوقها جسده بلا حراك، وتدفَّق الدم الحارُّ على وجهها وصدرها المُمزَّق. دفعته عنها فاستلقى فوق الكليم المُتهرئ، وجرَت مُترنحةً نحو النافذة وهي تصرخ بأعلى صوت. هُرِع الناس إلى الشقة فوجدوها كالمجنونة مُخضَّبةً بالدماء. رأوا جثة عانوس فارتفع الصراخ. صاحت وهي تتكوَّر على نفسها: أراد أن يغتصبني. ولولا وُصول الضابط وشيخ الحارة قبل أن يتناهى الخبر إلى المعلم قدري الجزار لفتك بها. وكان يزأر: ابني … وحيدي … سأحرق الدنيا. وأحاطت القوة برشيدة، وصاح الضابط: الجميع يخرجون في الحال. وصاح قدري مُوجهًا عاصفته إلى رشيدة: سأشرب من دمك. وانتشرت نيران الخبر الدامي في الحارة. وقف عانوس يرنو إلى جثته وهو في حيرةٍ غاشية. تقدَّم رءوف منه باسمًا فنظر إليه الآخر وتمتم: رءوف! .. ماذا جاء بك؟ فأجابه برقة: جاء بي الذي جاء بك، هلمَّ معي بعيدًا عن هذه الحجرة. فأشار إلى جثته وقال: وأترك هذه؟ – هي ثوبك القديم، ولم يعد يصلح للاستعمال. – هل … هل …؟ – أجل .. لقد غادرت الدنيا يا عانوس. وصمت مليًّا ثم قال مُشيرًا إلى رشيدة: ولكنها بريئة. – أعرف ذلك، ولكنك لن تستطيع إسعافها .. هلمَّ معي .. فقال عانوس بعد تردُّد: آسف على ما اقترفته فيك. – لا أهمية للأسف. – إني سعيد بلقائك. – وإني سعيد بلقائك. وسرعان ما أعطاه فكرةً سريعة عن دنياه الجديدة. ولما جاء آبو قال رءوف: آبو، مُحاميك يا عانوس. فقال آبو مُخاطبًا عانوس: أهلًا بك يا عانوس في السماء الأولى. فتساءل عانوس بذهول: كُتبت لي الجنة؟! فابتسم آبو وقال: صبرك، الطريق أطول مما تتصور. ومضى آبو يُزوِّده بالمعلومات الضرورية عن عالمه الجديد، والمحاكمة، ونوعية الأحكام المُتوقَّعة. وتمثَّلت لعانوس أفعاله أشباحًا قبيحة مُفزعة، فتجهَّم وجهه وتجرَّع القنوط حتى الثمالة، غير أن آبو قال: على أي حال فإن مَهمَّتي هي الدفاع عنك. – وهل لديك فرصة لذلك؟ .. هل يُخفِّف من آثامي حرماني من الحياة وأنا في عز الشباب؟ – لقد خسرتها بيد فتاة وهي تدفع عن شرفها اغتصابك، ثم تركتها متهَمة بقتلك. – هذا صحيح، كم أتمنَّى أن أُندَب مُرشدًا روحيًّا لها! – كانت ناجحة كما كان مُرشدها ناجحًا؛ فليست هي في حاجة إليك. – أيعني هذا أنني هلكت؟ – أبوك ولا شك يربض وراء فسادك، هو الذي دلَّلك، هو الذي ملأك بالأنانية، هو الذي جرَّأك على كرامات العباد، هو الذي يسَّر لك ارتكاب الجرائم كأنك تملك الدنيا بلا شريك. فقال عانوس مُنتعشًا: نطقتَ بالحق. – ولكنك تُحاكَم باعتبارك ذا عقل وقلب وإرادة حُرة. – قوة أبي خدَّرت قُواي جميعًا. – السماء تعدُّك مسئولًا عن نفسك وعن العالم أجمع. – أليست مسئوليةً فوق طاقة البشر؟ – ولكنك تحمَّلتها مُقابل ظفَرك بالحياة. – لقد وُلدت بغير إرادة مني. – بل أُخذ عليك العهد وأنت في الرحم. – بالصدق والصراحة لا أذكُر ذلك. – كان عليك أن تتذكره. – إنها محاكمة لا دفاع. – علينا أن نكشف عن الحقيقة. – لم أخلُ من خير؛ فقد طلبت العلم كما أنني أحببت حبًّا صادقًا. – سعيت إلى العلم كوسيلة إلى مركزٍ مرموق، وكان حبك مجرد رغبة مُتعجرفة في امتلاك فتاة صديقك الفقير. – لم تكن تُفارق خيالي لحظةً واحدة. – لم تكن إلا كبرياء وشهوة. فقال عانوس مُتعلقًا بأي خيط وهو يُشير نحو رءوف: مارست الصداقة الصافية. – ألم تقتلها بعد ذلك بوحشية؟ – كان حزني قاسيًا. – لا غبار على ذلك. – وحبي للقطط وحنوِّي عليها؟ – هذا جميل أيضًا. وبعد صمتٍ قليل عاد آبو يتساءل: وماذا عن موقفك من جبروت أبيك؟ – كنت ابنًا بارًّا. – البِر لم يكن مطلوبًا في حالك. – طالما استفظعت بعض فِعاله. – وطالما أُعجبت بأفعالٍ أخرى لا تقلُّ عن الأولى في بشاعتها. – لو مُد في عمري لتغيَّر الأمر. – إنك تُحاكَم على ما كان. – أو أن أُعطى فرصةً أخرى. فقال آبو بغموض: ربما تهيَّأ لك ذلك. – متى أمثُل أمام المحكمة؟ – لقد تمَّت المحاكمة يا عانوس، ويؤسفني أن أُبلِّغك بأنه قُضي عليك بالإعدام. في الحال تلاشى عانوس كنفحة الشابورة، تحت ضوء الشمس. ونظر رءوف إلى آبو مُتسائلًا: هل أستمرُّ مُرشدًا له؟ – إنه لن يولد من جديد فوق الأرض قبل عام على الأقل، وقد ينتظر أكثر من ذلك. – وما عسى أن يكون عملي الجديد؟ فقال آبو بأسًى: ستتقدَّم إلى المحكمة من جديد. فهتف رءوف: ألم أبذل أقصى ما لديَّ من جهد؟ – بلى، ولكنك فشلت، وقد أُعدمَ رجلك كما رأيت. – العبرة بالعمل لا بالنتيجة. – العبرة بالعمل والنتيجة معًا، ثم إنك أخطأت خطأً فاحشًا. – ما هو يا آبو؟ – لم يكن لك إلا أن تحمله على الاعتراف بجريمة قتلك كأنها الجريمة الوحيدة في الحارة أو كأنها أكبر الجرائم. – ألم تكن مشكلته الأولى؟ – كلا. – فماذا كانت مشكلته؟ – أبوه كان المشكلة، لو حرَّضته على أبيه لأصبت أكبر الأهداف. فلاذَ رءوف بالصمت محزونًا، فواصَل الآخر حديثه: لم تُحسِن اختيار الهدف، غلبتك الأنانية وأنت لا تدري، ولم يكن يسيرًا أن يعترف شابٌّ أحمق مُدلَّل ليُضحِّي بحياته، كان الأيسر أن يتمرَّد على وحشية أبيه. ولو نجح في مَهمَّته لانفضح أمر جرائم أبيه مُتضمنةً جريمة قتلك. فقال رءوف مُسلِّمًا: أعلنِّي بالحكم. فقال آبو: يؤسفني يا رءوف أن أبلغك بأنه قُضي عليك بالإعدام. وسرعان ما تلاشى رءوف عبد ربه. جرى تحقيقٌ طويل مع رشيدة سليمان، قُدِّمت للمحاكمة. اقتنعت المحكمة بأنها ارتكبت جريمتها دفاعًا عن النفس فأصدرت حكمها بالبراءة. وجدت أمها أن من الخطر غير المأمون العواقب البقاء في الحارة تحت رحمة المعلم قدري الجزار، فهربت مع ابنتها بليل، ولم يُستدلَّ لهما على مكان. ولما كان تيَّار الحياة المُتدفق أبدًا يجرف زبد الأحزان فقد تزوَّجت أم رءوف الوحيدة الفقيرة من شاكر الدرزي شيخ الحارة عقب وفاة زوجته بنصف عام، وأنجبت له طفلًا ذكرًا أسمَته رءوف تخليدًا لذكرى فقيدها. ولم يكن رءوف الجديد إلا روح عانوس بن قدري الجزار قد لبست جسمًا جديدًا. كذلك أنجبت إحدى زوجات قدري الجزار طفلًا ذكرًا أسماه الرجل عانوس تحية لذكرى فقيده، ولم يكن سوى روح رءوف تقمَّصت جسدًا جديدًا. نشأ رءوف (عانوس) في بيت شاكر الدرزي الحافل بالإخوة والأخوات، في حياةٍ ميسورة بفضل النقود التي يرشوه بها قدري الجزار، ولكن شيخ الحارة لم يكن يُعنى بتربية أولاده، زوَّج البنات، أما الصِّبيان فلم يُجاوِز أحدهم مرحلة الكُتاب في تعليمه، فعملوا في شتى الحِرف سواء في الحارة أو خارجها. ولم يكن حظ رءوف أسعد من إخوته. في البدء أصرَّت أمه على أن ينجح في التعليم، وأن يعيد سيرة أخيه الفقيد، وبسبب من إصرارها تعرَّضت لزجرٍ شديد من زوجها. وسرعان ما ألحق ابنه عاملًا صغيرًا في الطابونة، وفرح رءوف بذلك؛ إذ لم يجد من نفسه الميل الصادق أو العزيمة المُتوثِّبة لطلب العلم. وبتقدُّمه في العمر مضى يُدرك الوضع في حارته، سطوة المعلم قدري الجزار، والدور الخسيس الذي يلعبه أبوه، والحياة الفقيرة التي قُضي عليه بها في خدمة المعلم رشاد الدبش صاحب الطابونة. وقد زامَل عانوس رءوف في الكُتاب، ومال كلٌّ منهما إلى صاحبه، فاشتركا في اللعب دهرًا، وتوطَّدت بينهما ألفةٌ قوية، غير أن الحياة فرَّقت بينهما رغم تجاورهما في حارة واحدة. أُلحق عانوس بالابتدائية، ثم الثانوية، ثم دخل كلية الشرطة. ربما تلاقيا في الطريق، أو تقابلا في بيت قدري الجزار ورءوف يتلقَّى العجين أو يرجع بالأرغفة، عند ذاك يتبادلان ابتسامةً عابرة أو تحيةً — من ناحية عانوس — فاترة. أدرك رءوف أن صداقة الطفولة ذابت وتبخَّرت، وأن عالمَيهما مُتباعدان. وازداد شعوره حدةً بتناقضات الحياة وتعاستها فحنق على عانوس، ولكنه كره قدري الجزار ورشاد الدبش، واحتقر أباه. الحق لفحته نار الحياة، ولكن ضرَّمها ما يترامى إلى أُذنَيه في القهوة من مناقشات الشباب، حتى عانوس يُجالِس أولئك الشُّبان ويُدلي برأيه في حماس. وعند ذلك يبدو شابًّا غريبًا، مُتنافرًا مع جو البيت الذي يعيش فيه، ومُتمردًا على أبيه الجبَّار. وجعل المعلم قدري الجزار يُراقِب نموَّ ابنه بقلق. إنه نبت جديد شرس، غريب مُثير للمخاوف، أو كما قال عنه مرةً «ابن حرام». ومرةً سأله: ماذا تقول في القهوة للأوباش وماذا يقولون لك؟ فأجاب عانوس بأدب: نتبادل الهموم يا أبي. – إنهم أعداؤك. فقال باسمًا: إنهم أصدقائي. فهتف الأب بغضب: إذا جاوزتَ حدَّك فستجدني شخصًا آخر لا يعرف الرحمة. وقال قدري الجزار لنفسه إن ابنه سيصير عما قليل ضابطًا، سيعقل ويعرف موضع قدمه، ثم يتزوَّج وتنتهي مشكلاته. وتخرَّج عانوس ضابطًا، وعُيِّن في قسم الحي بفضل أبيه وسعيه عند الكبراء. إنه الزمن الذي جعل من رءوف وعانوس شخصَين غير مُتوقَّعين. اكتسح الحارةَ تيَّار، بل تيَّارات جديدة، مُتمردة وأحيانًا ثائرة؛ لذلك مرقا من جو البيت الخانق واستعار كلٌّ منهما لنفسه شخصيةً جديدة. ولم يشعر أحد بخطورة عانوس قبل أن يصير ضابطًا. أجل وقعت مشاغباتٌ متباعدة بينه وبين أبيه، ولكن الأب توقَّع أن يتغير كل شيء لصالحه حال اندماج ابنه في حياته الرسمية، أما رءوف فسرعان ما غضب عليه مُعلمه رشاد الدبش، فلطمه على وجهه وصاح به: احرص على رزقك ولا تُحرِّض أقرانك على الفساد. ولولا منزلة أبيه — شاكر الدرزي — كشيخ حارة لفصله من عمله، ولكنه شكاه إليه فدهش الرجل لهذا العصيان الجديد في نوعه وأدَّبه بعلقة ساخنة. ولما آنس منه عنادًا استعان بحضرة الضابط عليه، قال له: يا فندم هدِّده بالقانون؛ فهذا خير من أن نُضطرَّ إلى القبض عليه غدًا. هكذا مثل رءوف أمام صديقه القديم عانوس. تبادلا النظر طويلًا. ثَمة ذكرياتٌ مشتركة أفعمت «جوهما» بالدفء. ابتسم عانوس وسأله: كيف حالك يا رءوف؟ فأجاب رءوف: قطران، بعيد عنك. – كان عليك أن تستمرَّ في تعليمك. – إنه أبي وما مضى قد مضى. فشحن صوته بجدية وهو يقول: احرص على رزقك؛ فالقانون لا يرحم. فقال رءوف بنبرةٍ ذات معنًى: مُعلمي شَرِه ولا رحمة في قلبه. فقال عانوس بصوتٍ مُنخفض: احرص على رزقك. وعقب ذلك سعى عانوس لاتخاذ إجراء هزَّ وجدان الحارة وزلزل أباه؛ فقد نُقِل شاكر الدرزي إلى حارةٍ أخرى، وأحلَّ محلَّه شيخ حارة جديدًا أهلًا للثقة يُدعى بدران خليفة. ثار الأب قدري الجزار ثورةً عنيفة؛ فقد خسر اليد التي تحميه من القانون، وسأل ابنه: كيف يحصل هذا وأنت ضابط القسم؟ فقال له عانوس: في ذلك حماية لك وللناس. – إنك ابني وعدوِّي يا عانوس. – اعلم يا أبي بأني ابنك البار. كان لكلٍّ لغته الخاصة به، واستحال التفاهم بينهما، واغبرَّ وجه البيت بالتراب الأسود. وجاءت امرأة لمقابلة عانوس في القسم. عندما وقعت عيناه على صورة وجهها جاش صدره بنغمةٍ جديدة وعذبة. بديعة هذه السُّمرة الرائقة وهاتان العينان اللوزيتان السوداوان، كأن الصورة قد رُسمت على هواه من أجل هواه. لعلها في الخامسة والثلاثين أو تزيد؛ فهي أكبر منه بحوالَي عشرين عامًا. في عينَيها رصانة تُقارب الكآبة. قالت: إني أطلب حمايتك. سألها عن هُويَّتها فقالت: اسمي رشيدة سليمان، مُدرِّسة، نُقلت حديثًا إلى مدرسة العهد الجديد بالحي. هذا الاسم، هل مرَّ ذات يوم بشبكة ذاكرته؟ سألها وعيناه تُحدقان في وجهها بشغف: ممَّ تخافين؟ – إنه تاريخٌ قديم، قد أتعرَّض بسببه لاعتداء على حياتي. – حقًّا؟ ما التاريخ؟ ومن المُعتدي؟ فقالت بعد تردُّد: قضيةٌ قديمة بُرِّئت منها، كنت في حال دفاع عن النفس، ولكن والد القتيل رجلٌ مُخيف وله أعوانٌ مُجرمون. اقتحمَته الذكرى القديمة التي سمعها تتردد في صباه كعاصفة، شدَّ على أعصابه ليملك نفسه المُشتَّتة. إنه أمام قاتلة أخيه عانوس الأول. ها هي تفتنه كما فتنت أخاه من قبل. وواصلت رشيدة حديثها: هربنا إلى إمبابة، عملت مُدرِّسة في الأقاليم، وإذا بي أُنقَل فجأةً إلى الحي القديم. صمت مطحونًا بدوَّامة انفعالاته، لم يسألها عن اسم الرجل المُخيف، ولكنها قالت: أما الرجل فمعروف عندكم، إنه المعلم قدري الجزار. استردَّ نفسه بجهدٍ شديد مُتسائلًا: حضرتك مُتزوجة؟ – لم أتزوَّج قط. – لمَ لم تشرحي ظروفك للمنطقة التعليمية؟ – لم يهتمَّ بي أحد. – أين تسكنين؟ – ١٥ شارع الدري، إمبابة. فقال بهدوء: اطمئني، سأخاطب المنطقة بنفسي، وإذا تباطأت فسأعمل على حمايتك. تمتمت بحرارة: شكرًا .. لا تنسني من فضلك. كلا. ليس من المُستطاع نسيانها. لم يجد عانوس صعوبة في إلغاء النقل. وبنفسه ذهب إلى البيت رقم ١٥ بالدري بإمبابة. الوقت أصيل، والنيل شِبه ساكن، ومن فوق سطحه تتهادى لفحاتٌ باردة. استقبلته رشيدة بدهشةٍ ممزوجة بسرور وأمل، ثم قادته إلى حجرة استقبال صغيرة وبسيطة ومُهندَمة. قال: معذرةً عن الزيارة، ولكني أردت أن أسارع بطمأنينتك بإلغاء النقل. – ألف شكر يا فندم. أمرت له بقهوة فتهيَّأ له البقاء فترةً كما أمل. – تعيشين مع والدتك؟ – أمي ماتت منذ عشرة أعوام، معي شغالة عجوز وطيبة. يا للخسارة، إنها عانس ولكنها مُحتفظة بروائها. – هل يُزعجك أن تعرفي أنني عانوس قدري الجزار ابن الرجل المُخيف؟! ذُهلت. تلوَّن وجهها الأسمر فاكتسى بعمق. لم تنبس بكلمة. – إني ألمس انزعاجك. فقالت بنبرةٍ مُتهدجة: مجرد دهشة. – أرجو ألا تكرهيني. فقالت بحياء: إنك إنسان. ومضى يحتسي القهوة وهو يختلس منها النظرات، ثم قال ضاحكًا: لست مُخيفًا كوالدي. – إني واثقة من ذلك. – حقًّا؟! – الأمر واضح جدًّا، والحق أني بريئة. فقال بهدوء: إني واثق من ذلك. ومُواصلًا بعد صمت: ولكنه ثَمة شيءٌ يُحيِّرني؟ فرمقته بنظرةٍ مُتسائلة، فقال: لمَ لم تتزوَّجي؟! فنظرت بعيدًا مليًّا ثم قالت: رفضته أكثر من مرة. – ولكن لماذا؟ – لا أدري. – بسبب حب الآخر؟! – ولكنه نُسي ككل شيء. – لا بد من سبب. – ليس الدم بالتجربة الهيِّنة. لعلي يئست من القدرة على إسعاد أحد. – أمرٌ مؤسف. – لعل الخير فيما كان. فقال مُتعمدًا: ما زلتِ شابَّة وجميلة. في طريق عودته سبح في أجواءٍ خيالية، كره الضرورة التي تبعده عن البيت ١٥ وعن إمبابة، وقال لنفسه: «إني أحب رشيدة.» وقف الجفاء سدًّا منيعًا بينه وبين أبيه. حزنت لذلك أمه حتى الموت. أصبح البيت كئيبًا مثل جحر فئران. هل سعى إلى النقل إلى إقليم؟ وإمبابة؟! ماذا يحدث لو عرف أبوه العاطفة المُتأججة في صدره؟ تراءت له فكرةٌ طارئة، وهي أنه خُلِق عقابًا لأبيه، وإلا فما معنى أن يعلن عليه حربًا سِرية مذ وعى ما حوله؟! يا له من أبٍ خليق بالرفض المُطلَق. إنه لموقفٌ مؤسف ومُحزِن. خاصةً وأن الرجل أحبَّه كل الحب. بقدر ما هو وحشٌ فظ في الخارج فهو أليف مُستأنس بين جدران بيته، وهو لا يتصور شذوذ نفسه. يؤمن بأنه يُمارِس حقوقه الطبيعية، حقوق الذكي القوي. نهمه للمال والسطوة غير محدود. اعتاد الإجرام كأنه تحية الصباح. حدوب على أعوانه وكريم حتى السفه. أما الكادحون ممن يبتزُّ نقودهم ويحتكر أقواتهم فيحتقرهم، وهو لا يرحم من يحتقر، وسيَمقته يومًا فيمحق أبوَّته. الأدهى من ذلك أنه دمغ أمه بطابعه فهي تعبد قوته، وكلما ارتكب إثمًا استغرقتها العبادات ولكنها تعبده. إنه — عانوس — يقيم في عرين، في معبد للقوة والخطايا. وتعقَّدت الأمور، وقذفت من جوفها مواقف مُتحدية؛ فقد ضُبِط أعوان لأبيه وهم يبتزُّون نقودًا من عمال الطابونة. سرعان ما أُلقيَ القبض عليهم لأول مرة في تاريخ الحارة. انفجر ينبوع فرحة ضاحكة في الحارة، وثار بركان في بيت قدري الجزار. لم يعد البقاء — لعانوس — محتملًا. قرَّر الذهاب. اهتزَّ جذع أمه وهي تبكي وتقول: إنه الشيطان. فلثم جبينها وذهب، واستأجر شقة صغيرة في إمبابة، وقال لنفسه إن القضاء على أعوان أبيه هو قضاء على طاقته الشريرة. سيعجز عن الإيذاء وتفلت الحارة من قبضته الجهنمية. وكان يدعو الله ألا يضبطه — أباه — مُتلبسًا بجريمةٍ مباشرة. والظاهر أن الرجل صمَّم على مقابلة التحدي بتحدٍّ مثله قبل أن ينهار جداره؛ ففي نفس الليلة نشبت معركة بين الأعوان وبين عمال الطابونة، وأصيب رءوف إصابةً بالغة غير أنه اغتال المعلم قدري الجزار قبل أن يلفظ أنفاسه. أحداث مُتتابعة مُتفجرة زُلزلت بها الحارة زلزالًا، فانغمست في الدم، ولكن تبدَّدت الظلمات. وجد قدري الجزار نفسه أمام آبو، وسمعه وهو يقول له: أهلًا بك يا قدري في السماء الأولى. ومضى يُعرِّفه بنفسه وبالمكان. لاحظ أن قدري شارد اللب يثقل النظرة، فقال له: كأنك لم تقطع أسبابك بالأرض بعد؟ – شيء يثقل على صدري. – انتبِه .. إنك تعرف الآن مصيرك. – أجل، ولكني ما تصوَّرت أن يقتلني ولدٌ مثل رءوف. – ذاكرتك الجديدة لم تنبعث فيها اليقظة بعد. تبدَّت الحيرة في أسارير قدري الجزار، ومضى يُفيق رُوَيدًا رُوَيدًا حتى ندَّت عنه آهةٌ عميقة، وابتسم آبو وتساءل: أعرفت من هو الولد رءوف؟ فقال قدري بأسًى: قتلني ابني عانوس. – أجل، وماذا كنت قبل ذلك؟ – أدولف هتلر. – وقبل ذلك؟ – بردوني قطَّاع الطُّرق بأفغانستان. – سجلٌّ أسود طويل، لماذا تستعصي على الترقي وتُهدر الفرص المُتاحة؟ .. ابنك أفضل منك، كثيرون أفضل منك. فقال بانكسار: لن يذهب هذا الدرس سدًى. – ولكنك حتى مثولك بين يديَّ لم تكن قطعت أسبابك بغرائز الأرض. – لم أكُن قد أفقت بعد. – عذرٌ أقبح من الذنب. فيمَ تأمل؟ – آمل أن أُندَب مُرشدًا. – هل لديك دفاع عن سلوكك في الأرض؟ – نعم، لقد بدأت تاجرًا صالحًا، وما أطمعني في الناس إلا ضعفهم وتهاونهم ونفاقهم، فاستعذبت القوة والطغيان ولم أجد رادعًا. – إنهم سيُعاقَبون على ضعفهم وتهاونهم ونفاقهم كما ستُعاقَب على استغلالك لحالهم. – وقتلي بيد ابني الحقيقي ألا يُكفِّر عني سيئاتي؟ – لا قيمة لهذه العلاقات هنا، وكم قتلت من أبناء وإخوة وأنت لا تدري! – على أي حال فأنا لم أخلق طبعي ولا غرائزي. – إنك مالكها الحر، ولم تحدَّ حُريتَك فيها حدود. فقال بتوسل: أحسِنْ دفاعك عني ولك ما تشاء. فضحك آبو وقال: ما زلتَ لاصقًا بالأرض، وهو الإثم الذي لا يُغتفر. – ماذا تقول عن المحاكمة؟ – لقد انتهت المحاكمة يا قدري، وقُضي عليك بالإعدام. وسرعان ما تلاشى قدري الجزار. وتلقى آبو رءوف وهو مُتلفِّع بسحابته البيضاء، وجرى تعارفٌ قصير، فتجلَّى التساؤل في عينَي رءوف. وقال له آبو: أهلًا بك في السماء الأولى. ومضى يُزوِّده بالمعلومات الضرورية، ثم سأله: كيف جئت إلى هنا؟ – قُتلت في معركة. – ولكنك قتلت قاتلك أيضًا. – هاجمته وأنا مطعون، لا أدري شيئًا بعد ذلك. – للمرة الثانية تجيء قاتلًا ومقتولًا. – حقًّا؟ – إني أعلم ما أقول. – ماذا كان جزائي في المرة السابقة؟ – الإعدام. – فتساءل رءوف بقلق: هل يتكرر ذلك؟ – ماذا تريد أنت؟ – كنت أخوض معركةً عادلة، وقتلت شيطان حارتنا. – هذا حق. فتهلَّل وجه رءوف وتساءل: هل آمل في البراءة؟ – مما يؤخذ عليك كسلك عن طلب العلم. – ما أقسى الظروف التي عانيتها. – هذا حق، ولكننا نُقيِّم الفرد من خلال صراعه مع ظروفه. فتجلَّى الأسى في وجه رءوف، فقال آبو: إنك ولدٌ طيب، ولكن الصعود إلى السماء الثانية مطلبٌ عزيز. – ألا يشفع لي ما فعلت؟ – لقد سمع كل شيء، وصدر الحكم بندبك مُرشدًا. فسلَّم رءوف بالحكم راضيًا، فقال آبو: بُشرى أخرى، ستُندَب لإرشاد عانوس. – ضابط الشرطة؟ – أجل، وسلوكه يُبشِّر بالخير؛ مما يضمن لك عاقبةً سعيدة. – هي السماء الثانية فيما أعتقد؟ – أجل. – أهي الجنة الموعودة؟ فابتسم آبو وقال: توجد سبع سماوات منذورة لخدمة أهل الأرض؛ فلم يئن الأوان للتفكير في الجنة. – وكيف يتمُّ الصعود من سماء إلى سماء؟ – من خلال المحاكمات المتتابعة. فتساءل رءوف في ذهول: وهل نُعفى من الكفاح بعد السماء السابعة؟ فابتسم آبو وقال: هذا ما يُقال عادةً على سبيل التشجيع والعزاء، ولكن لا يوجد عليه دليلٌ واحد. ومضى به في انسياب عذب غنائي، يغوصان في أمواج مُقطرة بيضاء، فوق خضرة مُتألقة لا حدود لها.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/19069697/
الحب فوق هضبة الهرم
نجيب محفوظ
«عرفتُ الحبَّ لأول مرة في حياتي. إنه كالموت تَسمع عنه كلَّ حين خبرًا ولكنك لا تعرفه إلا إذا حضَر. وهو قوةٌ طاغية يلتهم فريستَه، يَسلبُه أيَّ قوةِ دفاع، يطمس عقله وإدراكه، يصبُّ الجنونَ في جوفه حتى يطفح به. إنه العذاب والسرور اللانهائي.»‏استطاع «نجيب محفوظ» أن يَرصُد في كثيرٍ من أعماله كثيرًا من التحوُّلات السياسية والاقتصادية وتأثيرَها على الحياة الاجتماعية، وقد تضمَّنت هذه المجموعة القصصية التي كتَبها في نهاية السبعينيات من القرن الماضي كثيرًا من التغيُّرات الاجتماعية التي شَهِدها المجتمع المصري عَقِب الانفتاحِ الاقتصادي وبدايةِ تفتيت الطبقة الوسطى، وتوضح كيف أصبح المال هو القِيمةَ العليا في المجتمع، بينما صار العلم عِبئًا على صاحبه. تجلَّى هذا الوضع في قصة «الحب فوق هضبة الهرم» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث عبَّرت عن التحوُّلات العنيفة للمجتمع من خلال أزمة «علي» و«رجاء»، وصعوبة زواجهما بسبب سوء الوضع المادي ﻟ «علي». ومن أروع قصص المجموعة قصةُ «السماء السابعة»، التي يأخذنا فيها «محفوظ» بانسيابية إلى عالَم الأرواح، فنفتتن بخياله ونَهِيم في عالَمه. بالإضافة إلى غيرهما من القصص التي عبَّرَت عن مختلِف الهموم الإنسانية.
https://www.hindawi.org/books/19069697/4/
الحُب فوق هَضْبة الهرم
أريد امرأة، أية امرأة. إنها صرخةٌ مُدوِّية، انبعثت أول ما انبعثت من جوانحي على هيئة همسات من الذهول، همسات من الأنين، همسات من الغضب، ثم انفجرت صرخةٌ مُدوِّية؛ ما هي بالأنانية، ما هي بالبهيمية، ما هي باللامُبالاة. إني أزعم بأني مُواطن بدرجةٍ مقبولة، بل إني أيضًا إنسان بدرجة لا بأس بها. رأسي شهد حوارًا طويلًا عن الفقر والتخلف والسلام والديمقراطية والتموين والمواصلات والطُّرق، به موضع أيضًا لهموم الأسرة الكبيرة كالصراع بين الشرق والغرب، تلوُّث البيئة، نُضوب المواد الأولية، العلاقة بين العالم المتطور والعالم الثالث، احتمالات الحرب النووية؛ إذَن فالوعي آخى بيني وبين المواطن والإنسان، غير أنني لم أعُد أُفكِّر بشيء من ذلك، أو أن تفكيري به فنيَ وتقهقر وذاب في اللامبالاة. أنَجم ذلك عن خمود في العاطفة أو الفكر أو التعلق بالحياة؟ كلا، وأقسم على ذلك. المسألة أنني ما إن ختمت حياتي المدرسية حتى التحقت بالوظيفة؛ ومن ثَم خبرت الفراغ والبطالة. عند ذاك تضخَّمت همومي الشخصية، استأثرت بوعيي كله، ركِبتني، اجتاحتني، استعبدتني، أصابتني بالهوس. باتت أي مشكلة سِواها ترفًا، لهوًا، سخفًا. الجنس أصبح محور حياتي وهدفها، انقلب وحشًا ذا مخالب وأنياب، قوة مطاردة مهددة، يُطالب بالممكن ويطمح إلى المستحيل. خلق مني كائنًا جنسيًّا خالصًا، ذا حواس جنسية، وأخيلة جنسية، وآمال جنسية، وأحلام جنسية. على ذلك فإنني أبعد ما يكون عن الاستهتار أو المجون، رافض للإباحية وفلسفاتها. أروم الحياة الشرعية المستقرة، ألتمس إليها الوسيلة بلا شروطٍ مُتهورة أو طموح كاذب أو طمع قبيح. أنشد حقًّا حيويًّا أوليًّا لا أدري كيف أهتدي إليه. ولكن من أنا؟ علي عبد الستار، في السادسة والعشرين من عمري، ليسانس حقوق، موظف بالشركة أ. د. س. وُلدت مع الثورة، ناهزت الحُلم عام ١٩٦٧ المشئوم، نِلت ليسانس الحقوق عام ١٩٧٤، أُلحقت بالشركة عام ١٩٧٥. كنت من حملة الثانوية علمي، وكان أملي أن أتخصَّص في الصيدلة أو الكيمياء. خانني المجموع، حملني تيَّار التنسيق إلى كلية الحقوق بشهادتي العلمية. ما خطر لي أبدًا أن أدرس القانون، ولكنني نجحت بقوة الإرادة؛ إكرامًا لعناء أسرتي المكافحة، خوفًا من التشرد والجوع. ولما أُلحقت بشركة أ. د. س. عُيِّنت بإدارة العلاقات العامة. غنيٌّ عن البيان أنني كنت زائدًا عن الحاجة. خُيِّل إليَّ أن الزائدين أكثر من العاملين. وقال لي وكيل الإدارة: احجز كرسيًّا. ثم قال بنبرة ساخرة: قد يتعذر ذلك غدًا. مَنظرك مقبول، تصلح للعلاقات العامة، ولكنك ستبقى بلا عمل حتى يقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا. فقلت بهدوء: عندي فكرة عن كل شيء. – عظيم. ستبقى أيضًا بلا مكتب حتى نُراجع المخازن، أصبحنا في حاجة إلى حجرة إضافية. لماذا لا يسمحون للموظفين الجدد بالبقاء في بيوتهم مع الاحتفاظ لهم بحقوقهم في العلاوات والترقيات؟ فقلت بغيظٍ مكتوم: اقتراحٌ وجيه جدًّا. – ولكن لا بد من التوقيع في دفتر الحضور والانصراف. هكذا التحقت بالخدمة، وهكذا استقبلت عهدًا من الفراغ المطلق لا خبرة لي به من قبل، فيما مضى استأثرت الدراسة بحيويَّتي، ولم تخلُ العطلات من الاطلاع وأنشطة الشباب. إلى ذاك فقد انتفعت بنشأة أسرية دافئة تعبق بعطر الدين والقيم. ولما انبثق الجنس استطعت أن أُروِّضه بالخلق والعمل والأمل. أما في عصر الفراغ فقد انفرد بي، كما انفرد بي الزمن في جريانه، وتساءلت متى .. وكيف. جلست على الكرسي كمن ينتظر دوره في تحقيق، أُراقب أقراني العاطلين، وآخرين يذهبون بالأوراق ويجيئون، وامرأتَين كهلتين مُتزوِّجتين، بين نوافذ مُغلَقة لتصدَّ تيار الخريف البارد، في جو فاسد بأنفاس البشر والسجائر، ومن زجاج النوافذ أتطلَّع إلى شرفات العمارة المقابلة مُترقبًا ظهور أنثى. وطيلة الوقت أتخيَّل مناظر جنسية ومواقف، وأخوض مغامراتٍ غاية في البراعة والعذاب. وسمعت حوارًا بين الوكيل وزميل له من معارفه: كيف وجدت الفراغ؟ – لا يُطاق. – على أيامنا كانت الوظيفة حلمًا عزيز المنال، فاذكروا نعمة الله عليكم. – وما قيمة النقود؟ – هي خير من الشارع. تبادلت مع الزميل، عقب ذهاب الوكيل، نظرةً شاحبة مثل جو الحجرة، وقلت له: هنيئًا لنا؛ فنحن محسودون. وتعلمت أن أتسلل إلى شارع قصر النيل مع الضحى. تعلَّمت الصعلكة. إنها مُسلية ومُفيدة ومُنشطة في الجو الآخذ في البرودة، وهي مُضحِكة أيضًا وهي تخوض في بحر مُتلاطم الأمواج من البشر والسيارات والأصوات المُزعجة. طابعه — الشارع — الضيق والعصبية والكبت. كل شيء يريد أن ينطلق ويعجز عن الانطلاق يستوي في ذلك الإنسان والسيارة؛ الكبت والقهر والتذمر. الطريق يُعاني من أزمةٍ جنسية مثل أزمتي. إنه يفتقد الشرعية والحرية والإشباع، ومع ذلك فهو مغطًّى بالتراب كأنه يتهادى في مدينةٍ خيالية، ولكني لم أُعنَ إلا برصد النساء. هن همي وشغلي وحياتي ومماتي. وجعلت أبلُّ ريقي الجافَّ بمضغ اللبان، وتنتقل نظراتي المحمومة من السيقان إلى الصدر إلى الأعيُن. وكدت أفقد حياتي ذات مرة؛ كنت أهمُّ بعبور الطريق حين اقتحمني صدر ناهد فسحرني واستولى عليَّ، قذف بي في أعماق الهو. اندفعت إلى العبور دون أن ألتفت يمنةً كما ينبغي لي، وإذا بسيارة تنقضُّ عليَّ كالقذيفة. نظرت نحوها فأيقنت بالنهاية، لا وقت للرجوع ولا للتقدم. استسلمت استسلامًا نهائيًّا، وتقوَّس ظهري لتلقِّي الضربة القاضية. تجلَّت لي حقيقة الموت لا كفكرة مجردة مُسلَّم بها، ولكن كشعور يملأ الوجدان بثقله وقوته وإقناعه. صرخ بي أن هكذا أجيء عندما يتقرَّر ذلك، وهكذا تنتهي الحياة في غمضة عين. خُيِّل إليَّ أني رأيت وجهه مُجسَّدًا في اللحظة الخاطفة التي لا يكشف عن وجهه إلا فيها. وحيال نظرته الواثقة مرَّ بسرعة البرق شريط حياتي من المهد إلى اللحد؛ لا وجهه أدري كيف أصفه ولا حياتي أدري كيف رأيتها مجتمعة في أقل من ثانية. وبلغ الخوف الدرجة التي يفقد فيها الشعور بذاته، لكنه اختفى بمعجزة. انحرف السائق بالسيارة ببديهة مُذهلة، فصَعِد الطوار مُهددًا حيوات وأوشك أن يصطدم بالجدران. ماذا حدث لي وماذا حدث للآخرين؟ سبحت في ذهولٍ أعفاني من متاعب جسيمة. مرَّت دقيقة على الأقل قبل أن أدرك أن الطريق كله يلهبني بنظرات السخط والغضب. ثَمة صياح وتعليقات شتى .. السائق لصق السيارة ويقذف بالسباب كالمطر. مضيت مُترنحًا أفرُّ بنفسي فرارًا. كنت أُعاني آلام الخروج إلى الحياة من جديد، وأُعاني من مروري الخاطف فوق ثلاثة معابر مُتناقضة؛ هي شهوة الجنس ومقابلة الموت ومفاجأة النجاة. وأحدثت برودةُ النجاة المُلقاة على نيران الفزع أثرًا عنيفًا تعانق فيه السرور المُتألق والحزن العميق. مضيت أسير حتى وقفت لأستردَّ أنفاسي بعيدًا عن موقع الحادثة. حتى في ذلك المكان لم أفلت من عينَي عامل من عمال الطرق، فقال لي بسخطٍ واضح: مسطول! .. بسبب أمثالك يتعرَّض السوَّاقون المساكين إلى متاعب المُحقِّقين. لا تنسَ أنك مدين بحياتك للسائق. تضاعف ضيقي وقلت كالمُعتذر اتقاءً لسخطه: إنها الهموم. – فصاح مُحتجًّا: الهموم! .. ماذا تعرفون عن الهموم؟! ذهبت مُبتعدًا وقد نسيت أزمتي الجنسية وقتًا غير قصير، ولكنه غير طويل أيضًا. حذَّرت نفسي من سحر المناظر، وقلت لنفسي إنها التعاسة حقًّا أن يفقد الإنسان حياته لسبب كهذا. إنها محنة، ولكن ما العمل؟ لا يغيب عني ما يُقال عن الزواج وتكاليفه؛ المهر والشقة وخلو الرجل. يلزمني قرن من الزمان لأقتصد نفقات زيجة عادية. إنه طريقٌ مسدود تمامًا. أجل إن الأيام تمضي والصبر يُفقَد؛ ولذلك هان عليَّ — رغم تقاليد تربيتي الراسخة — أن أفكر في الحرام كضرورة لا مَفرَّ منها دفاعًا عن صحتي الجسدية والنفسية. شاورت في ذلك صديقًا قديمًا من أهل الخبرة فقال لي: الفرص أكثر من أن تُحصى. ولما أنِس مني إقبالًا شديدًا سألني: هل عندك فكرة عن الأسعار؟ ومضى يستعرض الفرص والأماكن والمراتب ويذكر الأسعار، حتى قلت في ذهول: غير معقول! فقال باسمًا: العرب والتضخم والانفتاح .. هل أدلُّك على أرخص سبيل؟ فسألته عنه بلهفة، فقال: لعله الزواج. وقلت لنفسي إنه الحزن ولا شيء إلا الجنون. أسرتي أيضًا مصدرُ همٍّ لي لا ينقضي. في متاعبها الظاهرة ما يكفي فيمنعنا الحياء من نبش متاعبها الخفية. أبي يقترب من سن المعاش؛ فنحن في سباق مع الزمن. أمي كيميائية؛ لا لأنها درست الكيمياء؛ فحظها من التعليم وقف بها عند الابتدائية، ولكن للأعاجيب التي تصنعها لتُوفِّر لنا الطعام اليومي. وهي تُقلِّب الملابس وتصبغها وترفوها وتُجدِّدها، وتجعل بعضها ملكيةً مشاعة والبعض الآخر ملكية متوارثة، وتصنع من البطاطين القديمة أروابًا للأيام الباردة. والمساعدة التي جاءت نتيجة لالتحاقي بالعمل التهمها الغلاء المُتصاعد. وإني أنظر إلى شقيقتَّي مها (الآداب) ونهى (الثانوية العامة) برثاء، ويحزنني منظرهما البسيط المُتقشِّف. إنهما محرومتان من أشياء تُعتبر في سنهما ضرورية لا كمالية، وممنوعتان أيضًا من الشكوى التي تضيق بها أمي فيرتفع صوتها الحاد: حالنا أفضل من غيرنا ألف مرة. على ذلك فإيجار شقتنا قديمٌ دون الأربعة جُنيهات بقروش، ومهما قيل في شارع شمردل بروض الفرج فهو مسقط رءوسنا جميعًا؛ لذلك لا يكاد أبي ينعم بضحكةٍ صافية. ودأب على تذكيرنا بمصيره فيقول: لم يبقَ إلا عامان ثم المعاش. وينظر إلى شقيقتي ويقول: النجاح .. النجاح. لقد نحل الرجل كأنما يجفُّ رُوَيدًا رُوَيدًا، وزاد من ضآلته قِصرُ قامته، ولم يكد يبقى أثر من وسامته الأصلية. الوسامة خاصية لأسرتنا مثل الفقر. وهو لا يُدخن، كما انقطع عن المقهى منذ أعوام. وكما يُقال، فهو من البيت إلى وزارة المواصلات ومن وزارة المواصلات إلى البيت. وتسليته الوحيدة يجدها في تبادل الزيارة مع جارٍ قديم — مُدرس قديم؛ مُدرس لغة عربية على المعاش — يُسامره ويستفتيه أحيانًا في بعض الشئون الدينية. وكان يقول: منذ أعوام كان رجلٌ مثلي ذو مُرتَّب يُجاوز الستين جنيهًا شهريًّا يُعَد من الموظفين المُنعَّمين، ولكن الدنيا جُنَّت. وكان مما يحزُّ في نفسه أنه ضيَّع فرصة زواج لا بأس بها على مها. يومها قال بأسًى: ما باليد حيلة، لكن المهم هو العلم والعمل، بعد ذلك تتحسَّن الظروف والأحوال، نحن لا نملك بالكاد إلا قوت يومنا. فقلت له: الأسعار ترتفع ونحن ننخفض. فقال باسمًا ابتسامة لا معنى لها: كنا طبقةً وسطى فأصبحنا من الطبقة الدنيا. فقلت بحدة: نحن الفقراء الجدد في مُقابل الأغنياء الجدد. فحدجني بنظرة تصدُّني عن الاسترسال وقال: لا تستسلم للسخط؛ فهذا مما يزيد الحياة تعاسة، وحذار أن تُردِّد ذلك أمام مها ونهى. فقلت مُصرًّا: الزواج حقٌّ مشروع. تُرى كيف تُفكران يا أبي؟ فتجهَّم وجهه وقال: لقد أحسنت تربيتهما، أمك صاحبة فضل أيضًا، نحن أسرة شريفة والحمد لله، وغدًا تتوظفان ويبتسم الحظ. – لقد شهدت برنامجًا في تلفزيون المقهى يقطع بأن المُتسوِّلين خير حالًا منا. – ولكنهم يتسولون ونحن نخدم الدولة. لم تستطِع الأحوال أن تقتلع بقية العزة من نفسه، كما أن أمي تَعْبر أحيانًا عناد الحاضر مُتطلعةً إلى آمال غامضة وراء الأفق. وقلت مُواصلًا حديثي: إني أُتابع أنباء الأفراح في الفنادق بذهول. فتساءل بحدة: وأي فائدة تجنيها من وراء ذلك؟ يوجد أغنياء مُنحرفون كما يوجد شُرفاء، ولا شيء يدوم في هذه الدنيا. ثم بنبرةٍ أرَق: أتدري ما هو حُلمي؟ ثم أجاب قبل أن أنبس: أن تعملوا ذات يوم في الخارج، إنه حلم وما هو بالحلم. الهجرة! إنهم يدعون أهل المهن والحِرف وأنا لا من هؤلاء ولا من أولئك. وما فرصة الحقوقي؟ إنها نادرة جدًّا، فضلًا عن ذلك فإني أمقت القانون، وها أنا أنساه في بطالتي الرسمية دون أسف. وكنت أتسكَّع في وسط البلد لا أدري أين بلغت في تسكُّعي عندما لمحت — في مقهى الحرية — الصحفي القديم عاطف هلال. كان منفردًا بنفسه للراحة أو التفكير، فمضيت نحوه بقرارٍ مرتجل وبجرأة لا تعوزني. وقفت أمامه حتى انتبه إليَّ، فراح ينظر نحوي بعينَين مُستطلعتين وقد تجلَّى الكِبَر في صفحة وجهه أكثر مما يبدو في الصور التي تنشرها الصحف له. قلت: معذرةً عن تطفُّلي، أنا أحد قُرائك. فتمتم بصوتٍ مُحايد: أهلًا. – تسمح لي بدقيقتَين من وقتك الغالي؟ – تفضَّل. – جلست ثم قلت: حرصًا على وقتك سأدخل في الموضوع رأسًا، المسألة أني واقع في أزمة شديدة. غامت نظراته بغشاء خفيف من الفتور، فخشيت أن الذي تبادر إلى ذهنه أنها أزمة مالية وأنني سأُطالبه بمعونة، فقلت بصراحة: إنها أزمة جنسية. توارت الغشاوة وراء يقظة طارئة، وتساءل: جنسية؟! – جنسية بكل معنى الكلمة. فما تمالك أن ابتسم قائلًا: لعلك أخطأت الرجل المُناسب. فقلت جادًّا: الرجل المناسب لم يعد مُناسبًا لأمثالي؛ لذلك قصدت الرجل المفكر. فثبَّت نظارته ليُداري انفعاله وقال: يبدو لي أنك فريسة تَجرِبة عاطفية مريرة. – إني أتسوَّل تجربة فلا أجدها. – شيءٌ جديد تمامًا. – المسألة بكل بساطة أن الزواج مُستحيل وسيادتك سيد العارفين، والانحراف أصبح خياليَّ التكاليف بفضل إخواننا العرب. فتجلَّى الاهتمام في عينَيه، فتساءلت: هل تُصدِّق أنني بلغت السادسة والعشرين من عمري ولما أُمارس الجنس ولو مرةً واحدة؟! – أُصدقك ولو أن شكلك مقبول جدًّا. – ولكني مرفوض موضوعًا. قبض على ذقنه في حيرة وصمت فسألته: ما الحل يا أستاذ؟ فتمتم جادًّا: إنها مأساة ولستَ ضحيَّتها الوحيد. – وما العمل؟ – يا له من سؤال! ثم مُواصلًا حديثه: لا يوجد جوابٌ جاهز، يمكن أن ننتقد تقاليد الزواج السخيفة وندعو إلى الهجوم عليها، يمكن أن نتحدث عن واجب وزارة الإسكان، يمكن أن نتحدث عن مشكلة الإناث. – وهل أنتظر أنا حتى يتمَّ هذا الإصلاح؟ – ماذا أقول؟ كم من أجيال أجهضت في تاريخ البشرية! وكما أن ملايين من الشباب سعدوا بمعاصرتهم لاكتشاف العالم الجديد فقد هلكت ملايين أُخَر في خضمِّ الحروب الطاحنة. – يعني أنه ليس أمامي إلا تجرُّع التعاسة في صبر طويل؟ – قد يتغير الحظ بإرادة الإنسان، إنك مُطالَب بالتفكير والعمل، إنك واقع في شبكة من الظروف المُعقَّدة، وعليك أن تسأل نفسك: «ما أفضل سبيل للتصرف في مثل هذه الظروف؟» وعليك أن تُجيب بنفسك. فسألته بحنقٍ خفي: ألا يوجد رأي عند جيل الأساتذة؟ فابتسم قائلًا: دعك من هذا. إنكم لا تؤمنون بأي جيل سابق. ألم تجد ولو مثلًا واحدًا صالحًا لأن تقتديَ به؟ – تعني … فقاطعته مُواصلًا حديثي: أعرف أسرةً حلَّت مشكلتها بالدعارة. – ويقتنون الشقق والسيارات، ولكنه حلٌّ مرفوض كما قلت. – عرفت زميلًا احترف السطو على الشقق في أثناء الصيف. – وهو مرفوض أيضًا وعاقبته معروفة. – سمعت عن آخر اغتصب امرأة ثم قتلها إخفاءً لجريمته. – لعلك تقصد الشاب الذي طالَب شيخ الأزهر بشنقه علانيةً؟ – لا أدري، ولكن أما كان الأجدر بالشيخ الأكبر أن يقترح حلًّا إسلاميًّا للعاجزين عن الزواج؟! – التشدد في العقوبة أسهل من إيجاد الحلول. – فما الحل إذَن؟ – ألم تفكر في الهجرة؟ – لست من أصحاب المهن المطلوبة ولا من أهل الحِرف. صمت الأستاذ قليلًا ثم قال: ثَمة رأيٌ أفضِّله؛ إذ إنني ما زلت أحتقر الحلول الفردية. في فترةٍ قديمة دأب على ترديد هذا الرأي، وكان وقتها يكتب بقلمٍ يساري صريح، وها هو يعود إليه فيما يُشبِه الهمس والاستحياء. وقلت له بهدوء لأُخفي انفعالي: جئتك عارضًا أزمة مُلحَّة تتطلب حلًّا عاجلًا، وها أنت تنصحني بالانخراط في عمل سياسي من أجل تغيير المجتمع؛ وعلى ذلك فعليَّ أن أنتظر حلًّا لمشكلتي يجيء مع القرن القادم. وغادرت مقهى الحرية بلا ذرة من عزاء، ولكن هل كنت قصدت عاطف هلال بدافع من ثقة؟! لقد انتُزعت الثقة ثم ماتت ثم دُفنت. إنهم كذَّابون .. كذَّابون .. كذَّابون، ويعلمون أنهم كذَّابون، ويعلمون أننا نعلم أنهم كذَّابون .. ومع ذلك فهم يكذبون بأعلى صوت، ويتصدرون القافلة. ما هذه البهجة المُنعِشة؟ نظرت وحلمت وثملت. اشتعلت النيران وأرهفت الحواس، لبثت فوق مقعدي مؤجلًا الانطلاق إلى رحلة التسكع اليومية. – ضيفة؟ – موظفة جديدة، ليسانس آداب، اسمها رجاء محمد. سُمرتها صافية، ما أندر السمرة الصافية، لا بالنحيلة ولا بالسمينة، في العينَين العسليتين جاذبيةٌ محسوسة، عند الابتسام ترتسم غمَّازتان في وجنتَيها، بيني وبين أن أرفعها بين يديَّ وأمضي مشكلات تُعيي العديد من وزارات الدولة. انفعلت بها كما أنفعل بأي أنثى يستوي في ذلك المراهقات والكهلات، البلديات والمُتفرنجات، المحتشمات والمبتذلات. انغمس خيالي في مصادر الإثارة، حتى تذكُّري شقيقتيَّ لم يُهذِّب من طغيان الرغبة. غِبت عن الإدارة ساعةً واحدة فصاحبَتني نشوتها الزكية في الذَّهاب والإياب. وفي آخر النهار تم تعارفنا في رزانةٍ رسمية. ورجعت إلى مسكني بروض الفرج وأنا أقرب ما يكون إلى التعاسة والألم، وهما ما يترسَّبان عادةً في صدري عقب الرؤية المؤثرة. في ذلك اليوم اختلست أكثر من نظرة من مها ونهى. جميلتان بلا ريب ولكنه جمال مُلقًى في سلة مهملات. بدتا لي مُتقشِّفتَين صابرتين، تموت الشكوى وراء شفتَيهما المُمتلئتين. وسألت مها: هل تعرفين فتاة من كليتك اسمها رجاء محمد؟ فتساءلت ساخرةً: كيف أعرف ونحن أكثر من الجيش عدًّا؟! – التحقت بإدارتنا اليوم. فتساءلت نهى بمكر: لمَ تسأل؟ فقلت بتحدٍّ ساخر: كيف لا وقد توفَّر لديَّ المهر وخلوُّ الرِّجل؟ فقالت مها: ادعُ الله أن يكون أبوها من شارع الشواربي فلا يُطالبك بمليم. فقلت ضاحكًا: الشواربيات للشواربيين. قرأت في دعابتها أحلامًا خفية، ونحن عادةً نتحادث بحذر مُتأثِّرين بجو بيتنا المُتشدد؛ أبي، وأمي أشد منه. وأمي مُتفائلة جدًّا رغم عنائها الدائم، وهي سعيدة بأنها حصَّنتنا ضد استهتار الزمن. وفي تقديري أنه سيسعى إليها ذات يوم — خاصةً بعد التحاقها بالعمل — زوجان محترمان متقدمان في السن والقدرة المالية فيُهيِّئان لها الحل الممكن. إنه زمن الكهول والأوغاد. ما هذه البهجة المُنعشة؟ لقد وهبتني ابتسامةً مُضيئة وبريئة كالوردة اليانعة. تبادلنا الكلمات عند كل مناسبة ثم جادت بالابتسامة. خلقت الابتسامة حياةً جديدة. غلَّفت الانفعال البهيمي بعذوبةٍ صادقة. نمَت الشجرة وتفرَّعت وتعذَّر أن تُنعت بصفةٍ واحدة، وتساءلت: أهكذا تتحول الغريزة إلى عاطفة؟ وكنت أخلق المجال تلو المجال للحديث. قلت لها: حذار من البطالة. فقالت بِحيرة: إنهم لا يعهدون إلينا بعمل. – ستنسين ما تعلَّمته. – العمل نفسه هنا مقطوع الصلة بما تعلَّمته. – ماذا كان تخصُّصك؟ – التاريخ. – لولا ضوضاء المكان لاقترحت عليك القراءة. – لا أحب القراءة إلا نادرًا. – جيل التلفزيون؟ فضحكت بصوتٍ غير مسموع وقالت: ليس تمامًا. – وحذار من الملل. – اليوم طويل حقًّا، ماذا تفعل أنت؟ – أتسكَّع وسط المدينة. – لا يُناسبني ذلك. – لا مفر من أن تجديه مُناسبًا ذات يوم. – المهم ألا نعتاد الكسل. فقلت بأسفٍ صادق: كنت طالبًا مجتهدًا، حتى العطلة السنوية لم تخلُ من نشاط واطلاع، أما اليوم فقد أصبح التسكع مذهبي .. كيف تُمضين وقتك؟ – لي أخوات وصديقات، هناك التلفزيون دائمًا، وأحيانًا السينما أو المسرح. لم يعد في الدنيا ما يستأثر بوعيي أكثر منها. لها الغريزة والعقل أيضًا. ومن عَجبٍ أن مظهرها انتبهت إليه مؤخرًا نسبيًّا، تعاملت مع المضمون قبل الشكل. وعندما حدَّثتني عن السينما والمسرح أدركت أنها تُطلُّ عليَّ من مستوًى أرفع، عند ذاك ركَّزت على البنطلون الرمادي والحذاء ذي الرقبة والبلوزة المُزركَشة والجاكتة الجلدية، أنيقة وثمينة. تُرى ما وراء ذلك؟ الزمن يطرح احتمالات شتى. وإني أحلم بالزواج، ولكني أرحِّب بالفرص. عاطف هلال ذو مال وبنين؛ فهو يحتقر الحلول الفردية. وهو لم يصل إلى مركزه المرموق إلا بحلٍّ فردي انتهازي. ووجدتني أتذكَّر عهد الدراسة، أتذكَّر التيارات التي انتظمت الطلبة؛ أبناء الأغنياء الذين ينعمون بالاستقرار ولا يهتمُّون كثيرًا بالدراسة، فقراء يحلمون بالشهادة من أجل الوظيفة، مُتمردون يضطربون في عوالم الأحلام ويرفضون كل شيء. كنت في مكانٍ وسط بين الصنف الثاني والثالث، أحلم بالوظيفة إكرامًا لعناد أسرتي، وأُكنُّ للمُتمردين الإعجاب والتأييد. كثيرًا ما يتعرَّضون للتحقيق والمطاردة، ومنهم من انتهى إلى السجن. تُرى إلى أي فريق تنتمي رجاء؟ على أن الاحتمالات أوسع من ذلك، وإني أريدها من أي سبيل ممكن وإن ظل الزواج حلمي المنشود؛ لذلك لم أدَع فرصةً تفلت لتوثيق مودتنا حتى نطق لسان حالي بما أحلم به، وتشجَّعت ذات مرة فدعوتها إلى لقاء ضمن رحلة للتسكع. ما هذه البهجة المُنعشة؟! فاضت نفسي بهذا المعنى وأنا أراها مُقبِلةً نحو موقفي أمام الأمريكين. في تلك اللحظة شعرت بأنني بتُّ من كبار العاشقين فعاهدت الله ألا أُسيء إليها ما حييت قط. غصنا فوق أريكتَين جلديتين يفصل بيننا خوانٌ مَعدني. وضعت حقيبتها السوداء على طرف الخوان وراحت تُمشِّط بعض خصلاتها، كما رحنا نتبادل النظر في هدوء وحب استطلاع. طلبنا الشاي ليُدفئنا في الجو البارد، وشملنا من بادئ الأمر تفاهمٌ حميم، لا ظِل من الغموض يطرح نفسه على الدعوة من جانبي والتلبية من ناحيتها. كلانا ناضج ويعرف ما يريد. وإن تكن صداقة فهي واضحة الهدف. قد تعني من جانبي ميلًا وربما حبًّا، وبحسبها أن تعنيَ من جانبها أنني موضوعٌ صالح للتجربة. ألا يعني ذلك القَبول من ناحية المبدأ؟! سألتني: هذا مكان تسكُّعك؟ فقلت وأنا أقدِّم لها وعاء السكر: التسكع في الشوارع، ولكنه لا يصلح للقاء. – وكيف تُطيق الزحام؟ – إنها القيامة، ولكنها خير من القعود ست ساعات فوق مقعد خشبي. فابتسمت قائلةً: إنه نوع من العقاب، ولكن الزحام لمثلي غير مأمون. – ماذا تركبين في الذهاب والإياب؟ – نحن نُقيم في شارع الشهيد عبد الملك فيما وراء دار القضاء العالي، فلا حاجة بي إلى الباص. ثم مُواصلةً حديثها بسرعة: لولا ذلك ما قبلت الوظيفة. فقلت بقلق: إذَن فأنت غنية. – أبدًا، أبي موظف، موظف كبير إذا شئت، ولكن ذلك لم يعد يعني شيئًا. وجدت في قولها مُتنفَّسًا للراحة وقلت: الحال من بعضه حتى وإن لم يكن مُتطابقًا. وانتهزت الفرصة فقدَّمت لها صورةً أمينة لأسرتي مُتوخيًا الصدق في الأمور الجوهرية ودون تطرُّق إلى التفاصيل الحرجة، ثم سألتها: لك إخوة؟ – ثلاث بنات كبراهن بكلية الطب. – الحق أن الحياة عبءٌ ثقيل. فأحنَت رأسها الرشيق مؤمِّنةً على قولي، فقلت: خاصة للشرفاء. – كان أبي (محمد جاد) مُحاميًا مرموقًا، ثم تغيَّر الحال عقب التأميمات، فقبل وظيفة مُدير الإدارة القانونية بشركة أ. م. د. قلت لنفسي إن مثله جدير بأن يملك مدخرات لا بأس بها؛ فهو خير من الموظف العادي. ليس بالغني ولكنه ليس بالفقير أيضًا. ثَمة أمل ولكنه ضعيف. وقلت مُلقيًا مزيدًا من الضوء على موقفي: أسرتي لن تعرف الراحة قبل أن تتوظَّف أُختاي، وأملُ أبي مُتعلق بهجرة ثلاثتنا إلى بلاد العرب. – على أُختَيك أن تختارا مهنةً مطلوبة كالتعليم. – أنت لا تُفكرين في ذلك؟ – إني أمقت هذه الفكرة وأرجو ألا أحتاج إليها أبدًا. انقبض صدري بعض الشيء، ولكن ذلك دفعني إلى مزيد من الجرأة فسألتها: كيف تتصورين المستقبل؟ فتساءلت مُتغابيةً: ماذا تقصد؟ – لا يمكن أن تعيشي بلا حُلمٍ ما؟ فضحكت قائلةً: أنا لا أحلم. – كل إنسان له حُلمه. – حقًّا؟ .. فما حُلمك أنت؟ فقلت مُتماديًا في جرأتي: الحق أني أحلم بشريكة لحياتي. فرمشت كالمرتبكة ولاذت بالصمت، فقلت: هذا هو حُلمي. فتساءلت شاردةً: ماذا يمنعك من تحقيقه؟ فلم أدرِ ماذا أقول اعتقادًا مني بأنني قلت كل شيء فسألتني: لمَ لا تتكلم؟ – قلت ما فيه الكفاية، آن لكِ أن تتكلمي أنت. وإذا بها تقول بجدية تامة: لقد تعرَّضت لتجربةٍ غير سارَّة. فحدجتها بنظرة مُستطلعة، فقالت: تقدَّم لي موظف من مرءوسي والدي، وفشلت التجربة أمام عقبات لا يمكن التغلب عليها. فتساءلت بأسًى لم أستطِع إخفاءه: ما هي؟ – المهر .. والمسكن. فقلت مُتعلقًا بآخر خيط: ليس التغلب عليها بالمستحيل. – حقًّا؟ – إن يكن بوسع الأب الاستغناء عن المهر، أو يكون من الممكن إخلاء حجرة في البيت للعروسين؟! فهزَّت رأسها بأسف مما يعني النفي. في الصمت الذي تلا اعترفت بالإخفاق. جاءت مدفوعةً بحب الاستطلاع والأمل فتلاشى كلٌّ في هيكل الحقيقة العارية. لعلها تتأسف الآن على ضياع الوقت سدًى. لعلها تُفكر في انتحال سبب لإنهاء اللقاء. وقلت بلا روح: حسبنا صداقتنا الحميمة. غمغمت شاكرة. ولم يبقَ إلا أن نُغادِر المكان ليرجع كلٌّ منا إلى الشركة من طريق. قلت لنفسي إنه لا مفر من النسيان، لا مفر من الوأد. الأمل والغريزة مُتعلقان بها، يتسلطان عليَّ بكل قوة، يستأثران بأحلام اليقظة، يُعذِّبانني ليل نهار ولكن لا مَفر. ما زلت في أول الطريق، وهي لا تُبادلني إحساسًا أو عاطفة. ما هي إلا فتاةٌ عاقلة تبحث عن زوجٍ مُناسب. إنه حقٌّ مشروع ورغبةٌ نبيلة. ويبدو أنه لا يُحركها طمع ولا آمالٌ جامحة، إنها عاقلة تمامًا. لم تُجرب الحب أيضًا أو هذا ما أظن. داخَلني شعورٌ قوي مؤثر بأنني لن أجد فرصتي في العقل، أبدًا. ما فائدة العقل في عالم لا معقول؟ لا مفر؛ وعليه فلْأتجنَّب مبادلتها الصداقة ما أمكن ذلك، ولأهجر الإدارة مُبكِّرًا عن العادة. رجعت إلى الفراغ؛ الفراغ المُحتدِم بالعذاب والملل. إنه يتجسَّد لعينيَّ كما تجسَّد الموت في مقدمة السيارة، كائن محسوس، غير محسوس، يقطر كآبة ورفضًا للحياة، قبضته الخانقة تُفشي لي سر المُدمِنين؛ مدمني الخمر والمُخدِّرات والقمار، لكنني مُحصَّن بمثاليةٍ باهتة وبالفقر. لعلَّ الأوفق لي أن أملأ الفراغ بالسياسة. ما زلت على صلة تعارُف بالزملاء القُدامى، يمكن أن أطوف بهم للمناقشة والاختيار. شعار عاطف هلال صالح للتطبيق. إنه يدعو كثيرين من ذوي الإرادة ويصلح أيضًا لليائسين. إنها مجرد خواطر تعبر رأسي سادرة، ولكن أخطر القرارات قد تبدأ من خواطر سادرة، يتسلل إلى النفس كالمزاح ثم ينقلب جدًّا كلَّ الجد، لكنني أقنع بمداعبة الأفكار ومداراة الغريزة الطاغية. سيحدث شيءٌ ما في وقتٍ ما، شيء قريب أو بعيد. لن تمضي الحياة في فراغ إلى الأبد. الهجرة أو السياسة أو مغامرة لا تخطر بالبال. الأيام تمضي. الحركة بطيئة في الشارع ولكن الأيام تُسرع. رجاء تحرك أحلام اليقظة. ملكتها في الخيال بقدر ما فقدتها في الواقع. تعرَّض بيتنا بشارع الشمردل لغزوةٍ قوية. تقدَّم سبَّاك في الثلاثين من عمره يُدعى أحمد عبد المقصود لطلب يد نهى. قال أبي ونحن مجتمعون في الصالة: ما على الرسول إلا البلاغ، أبوه عامل بالحديد والصلب، يحمل شهادةً صناعية مُتوسطة، عمل في السعودية أعوامًا خمسة، يملك شقة في المعادي وسيارة نصر. شملتنا حيرة. وقالت أمي مُقطبةً: ليس من مقامنا. فقال أبي بمرارة: عمَّ تتحدثين؟ .. انتهى مقامنا من زمان. فقالت أمي: إنها لم تتم تعليمها بعد ولا بد أن تُتمه. فقال أبي: إنه يريدها ست بيت. فقالت أمي: لم نُعدَّها لذلك. فقال أبي: إنه أسهل من تعلم الطبيعة والكيمياء. فقلت: العمل ضروري لها حتى لا نتركها تحت رحمة المجهول. وتحوَّلت نحو مها مُتسائلًا: ما رأيك يا مها؟ فقالت بوضوح: لم نسمع صوت صاحبة الشأن. فقال أبي: الكلمة الفاصلة لها طبعًا. وتلاقت النظرات فوق وجهها حتى عطفت مها عليها فقالت: أمهِلوها لتُفكر. وقلت أنا: ثم إنها لم ترَه. فتساءل أبي: يهمُّني أن أعرف هل تقبله من حيث المبدأ؟ فقلت بإصرار: بل هو مقبول من ناحية المبدأ، إنه ينتمي اليوم إلى طبقةٍ أعلى. فهتفت أمي: إنك تخلط الجد بالهزل. وحدثت الزيارة التقليدية فوجدته مقبول الصورة ولا عيب في مظهره إلا مبالغة في التأنق وحساسية بالذات ملفتة للنظر. ووضحت مواقفنا بين رفض من ناحية أمي وحياءٍ شمل ثلاثتنا أبي ومها وأنا. وما أدري إلا ومها تقول لي ونحن ننتظر الباص صباحًا: نهى موافقة. – من ناحية شكله لا بأس به. – ومن ناحية الموضوع أيضًا. فسألتها بقلق: أهو قرارٌ أملاه اليأس؟ فقالت بضيق: فسِّره كما تشاء. وفرضت الموافقة نفسها علينا جميعًا، غير أن أمي قالت بغضب مخاطبةً أبي: المسألة أنك وجدت زوجًا لن يُكلفك مليمًا واحدًا. فسألها بمرارة: هل لديك مالٌ تُخفينه عنا؟ ودعوت لها من قلبي بالتوفيق. ما هذه البهجة المُنعشة؟! وأنا أغادر الشركة مُبكرًا للتسكع وجدت رجاء كالمنتظرة عند الباب. أقبلت نحوي هامسةً في عتابٍ حاد: أين أنت؟ كأنك هاجرت من البلد. غزتني فرحةٌ راقصة سمَت بي إلى أرفع سموات السعادة. طالما ظننت أنها نسيتني تمامًا، وأن عقلها الحكم قد حذفني من جدول الاحتمالات. عتابها اقتحمني كنغمةٍ عذبة مُفعَمة بالنداء، فيه العتاب والشكوى والرغبة والاعتراف، فيه ما يُغيِّر مذاق الدنيا في ثوانٍ مثلما تُغيِّرها الفصول في أشهُر، فهل يُفرِّق بين اليأس والأمل إلا خيط الفجر؟ حوالَي العاشرة كنا نجلس بمجلسنا في الأمريكين. قلت مُعبرًا عن امتناني: جزاك الله كل خير؛ فقد أعدتِ خلقي من جديد. تخفَّفت من ارتباكها ناقرةً على سطح الخوان بظفرٍ أحمر على هيئة لوزة مُصغَّرة. قلت: توهَّمت أن لقاءنا الأول هو الأخير، وعزمت على النسيان بأي ثمن، ولكن الحب أقوى من كل شيء. فهمست باسمةً: ولكنك لا تكاد تعرفني. – عرفت ما يكفي لخلق الحب في أقوى أحواله. – خُيِّل إليَّ أنك نسيتني تمامًا. – تمنَّيت ذلك، وتبدَّد هباءً ما تمنَّيت. فقالت باسمةً: وها نحن نلتقي لنتقاسم العذاب. فقلت بحماسٍ خلقته نشوة الظَّفر: مع الحب الحقيقي لا توجد مشكلات. – حماسك جميل، ولكنه عاطفة وليس معجزة. – بل هو في الأصل معجزة، علينا أن نعتبره كذلك، في أي شرع يجوز أن يُفرِّق بين قلبَين أشياء مثل شقة وأثاث ومهر؟! فابتسمت في أسًى وتمتمت: إنك تحلم بحياة كالطيور. فقلت بإصرار: لدينا الحب والإرادة والحياة التي لا ترحم الأغبياء، فلنتعاهد على ألا يُفرقنا شيء في الوجود. فتورَّد وجهها حيرةً وسعادة، فقلت والنشوة ترقى بي في مدارج السكر: فلنتعاهد. فهمست: كما تشاء .. ولكن أما آن لنا أن نفكر؟ فخِفت أن أُفيق من نشوتي فقلت: علينا أن نُعلن خِطبتنا في الحال. – ماذا؟ – أن نُعلن خِطبتنا في الحال. – لو اقتصر الأمر علينا لهان. – علينا أن نُقنع الأهل. – مهلًا .. ماذا نقول لهم؟ – إننا سنعلن خطبتنا ونحل مشاكلنا بنفسنا. – ولكن … فقاطَعتها: لكلٍّ منا عمله واستقلاله. – ألا نفكر قبل أن نُقدِم؟ – بل نُقدِم أولًا. – أخاف أن نجعل من أنفسنا … قاطعتها: فلنعلن خطبتنا، يجب أن نُحقق نصرًا ما، ولكِ عليَّ بعد ذلك أن أسطو على البنك الأهلي عند الضرورة. غادرنا المكان وأنا أردِّد في باطني: «ما هذه البهجة المُنعِشة؟!» يبدو أن رجاء اعتبرت ما دار بيننا دردشةً غنائية، فأصرَّت على لقاء ثالث لنُناقش قرارنا بهدوء. قلت لها: رجاء، إذا استرشدنا بالعقل فعلينا أن نُسلم بالفِراق الأبدي. كانت تُقدِّم رِجلًا وتؤخر رِجلًا. كانت تُشاركني الرغبة ولكنها تخاف العواقب. قلت: إني مُخلِص، يلزمني عمرٌ طويل لكي أقتصد المهر، وثلاثة أعمار لأجمع خلو الرِّجل؛ فإذا لم يكن من التعقل بدٌّ فلنفترق. فقالت بقلق: سيَرَون في سلوكنا ما يقطع بجنوننا. – يلزمنا قدرٌ من الجنون نلقى به عالمنا المجنون. – يحزنني أنني سأُغضب أعزَّ الناس عليَّ. – إما أن نُغضبهم وإما أن ننتحر. فتفكَّرت مليًّا ثم تساءلت: هَبْنا فرضنا إرادتنا، فماذا بعد ذلك؟ – لو أن لديَّ خطةً جاهزة ما كتمتها عنك، ولكن تحمُّلنا للمسئولية سيدفعنا إلى التفكير، إلى قهر المستحيل .. ولو وجدنا الطريق مسدودًا؟ – الطريق المسدود شعار العاجزين، ثم ألا يستحقُّ حبُّنا المغامرة والتجربة؟ وكانت في صميمها عازمة على المغامرة. خاض كلانا معركةً عائلية على تفاوت في العنف والحرج. دهش أبي وتساءل: تخطب؟! لكن مرارة الحياة روَّضته على الاستهانة بما يعدُّه من الأمور الثانوية. وتساءل مرةً أخرى: أأنت على استعداد؟ فقلت ببساطة: لا استعداد ولا خلافه. فقالت أمي: أنت تعلم أنه ليس لدينا … فقاطعتها: إني أعرف كل شيء. فتساءلت برجاء: لعل أهلها أغنياء؟ – كلا. فتمتم أبي: قرارٌ خاطئ ولا شك. فقلت بإصرار: لن أعدل عنه. فرفع الرجل منكبَيه قائلًا: أنت حر، وأتمنى لك التوفيق. أما رجاء فقد خاضت معركةً حقيقية. انهالت عليها الأسئلة وجاءت الإجابات كلها بالنفي. ثار الغضب كما ثار الكبرياء. رُميت بالجنون. تدخَّل أقرباء وقريبات. أصرَّت رجاء على طلبها، بل هدَّدت بإعلان خطبتها خارج نطاق الأسرة. ••• كانت تجربة عسيرة أن أمضيَ إلى عمارة الشهيد عبد الملك وأنا على علمٍ كامل بمشاعرهم نحوي، وبأنهم يعتبرونني وباءً أفلت من المراقبة الصحية. الحق أن مها صدقت عندما قالت: إن جُرأتك تستحقُّ الإعجاب. وقد أرهقني ابتياع الدبلتَين، أما الشبكة فقد اشترتها رجاء ودسَّتها إليَّ لأُهديَها إليها في الحفل الكئيب. ولم تُعلَّق خارج المسكن أو داخله علامة من علامات الأفراح، وندَّت الوجوه عن بسماتٍ مُتكلَّفة أخفت منها العبوس. وقال لي الأستاذ محمد جاد: طبيعي أن أتمنى لكما التوفيق، لا تُسئ الظن بنا، ستكون يومًا ما أبًا وتعرف. أما حرمه — أمُّ رجاء — فقالت لي: نحن دائمًا متَّهَمون، لماذا؟ أيوجد أثاث بلا مهر؟ هل يعيش ابن آدم بلا مأوًى؟ أيوجد أب أو أم بلا قلب؟! إنه صوت العقل، هو ما يعترضني دائمًا بجدارٍ صخري. لم يبقَ إلا أن نُجرِّب الجنون. إذا صدَّك العقل عن السعادة فجرِّب الجنون، أليس ذلك من العقل أيضًا؟! ما يستحقُّ اللعنة حقًّا هو الاستسلام. ونحن نلقى الإهمال والضياع على حين تتغنَّى الحناجر بالوعود المعسولة. وتحدَّيت الظلام. حقَّقنا الرغبة واستقرَّت الدبلة في البنصر، وأثملَنا إحساسٌ حميم بأننا بلغنا غايةً ما وراءها غاية. وسرعان ما أدركت أنني لم أقطع إلا الخطوة الأولى. أجَّلنا مناقشة المشكلة استبقاءً للصفاء، ولكنها استوَت على الأفق مثل نذير النشرة الجوية، ولم يُحرجني أحد من أسرتي فيسألني مثلًا: «وماذا بعد ذلك؟» مها وهي أقربهم إليَّ همست لي يومًا: لعله عليك الآن أن تُخصِّص لي جنيهًا شهريًّا من مُرتَّبك شهريًّا؟ فضحكت ضحكةً عصبية وقلت: أتظنِّين أن توفير نقطة ماء يُجدي لملء بُحيرة؟ فقالت باهتمام: أظن أنه في وسع والدها أن يحل المشكلة. فقلت بامتعاض: إنه حقًّا موظف كبير، ولكنهم أصبحوا جميعًا يتبعون كادر الشحَّاذين، ومدَّخَراته تفي بالكاد بأعبائه، ولعله يستطيع أن يقوم بالواجب إذا قدَّم الطرف الآخر الشقة والمهر. – إذَن فما هي خطتك للمستقبل؟ فقلت ضاحكًا: لا أملك إلا إرادتي. وغامت نظرتها بالتفكير، ربما في حالها أيضًا، حتى سألتها: فيمَ تُفكرين؟ فقالت وهي تتنهَّد: تمتَّعوا بشبابهم في أيام يُسر ورخاء، ولم يخلفوا لنا إلا الأطلال. ودأبت على زيارة آل جاد بشارع الشهيد عبد الملك من حين لآخر. أملت أن أظفر بعلاقةٍ صادقة مع المسئولين، ولكن أم حبيبتي تصدَّت لي هناك كالصخرة، وضنَّت عليَّ حتى بالابتسامة العابرة، وما من زيارة إلا وذكَّرتني بالواجبات المقدسة؛ الشقة والمهر. وفي مجلس الأمريكيين قلت لرجاء: الهجرة .. الأمل في الهجرة. فسألتني والحق أنها لم تطرق الموضوع حتى فتحته لها: ما هي فرصتك؟ – عملٌ قانوني في شركةٍ ما، إني أتابع الإعلانات في الصحف، إنها فرصةٌ نادرة. – لكنها محترمة. – الحق أني ما أحببت القانون أبدًا، لقد اقتحمني مثل حوادث الطريق. ••• إني أنتظر معجزة. أنتظر عونًا من الخارج؛ خارج ذواتنا، لم أتعلم شيئًا ينفعني. أحمد عبد المقصود يعيش عصره أكثر مني ألف مرة. إني أتحدَّى وأحلم ولكني لا أفعل شيئًا. وضاعَف من حدة مسئوليَّتي أن عرَف الزملاء في الإدارة بخطبتنا. انهالت علينا التهاني والأسئلة. هذا السؤال اللعين: وجدتم الشقة؟ – دفعت الخلو؟ ما هو إلا مزيج من الإحراج. تضخَّمت المسئولية التي أحملها. الأيام تمر؛ الأسابيع والأشهُر. ينظرون إليَّ كطُفَيلي يقف عثرةً في سبيل شابَّة مُمتازة. ولم تسكت عني الأسئلة حتى فقدت أعصابي واختنقت بمشكلتي المُستعصية. ••• وسألتني أمُّ رجاء ذات مرة: حتى متى ننتظر؟ وأفصحت عن مشروع لأول مرة — بعد موافقة رجاء سرًّا — فقلت: هنالك حلٌّ ممكن؛ جهِّزونا واعتبِروا نصيبي دينًا يُرَد عند الميسرة. فهتفت الأم مُحتدةً: يا له من اقتراح لا أحب أن أصفه، حسبي أن أخبرك أنه مُستحيل التنفيذ. – لماذا؟ فصاحت: إنه غير لائق. همست رجاء برجاء: ماما! وقلت أنا مُنفعلًا أشد الانفعال: لا حيلة لي، ولكن لا داعيَ للإهانة. فقالت الأم بحدة: افسخ الخطبة. فقلت بالحدة نفسها: لا أقبل أمرًا إلا من رجاء. فصاحت الأم: إن كنت تحبها فابعد عن طريقها. ولم تكفَّ إلا حين أفحمَت رجاء في البكاء. رجعت الكآبة بسمائها الشاحبة وهوائها اللافح المُشبع بالتراب. زادها الصيف احتدامًا ففتر نشاطي الروحي وغطَّاه الرماد. رغم جرأتي عانيت حساسيةً شديدة. تمخَّض الموقف الباهر لعينيَّ عن أنانية تتجسَّد كالبلطجة، وقلت لبقايا الحُلم الوردي: «لا.» لعلها لاحظت كآبتي في اليوم التالي في الأمريكين فقالت لي: إني معك حتى النهاية. ومع أنني تلقَّيت قولها مثل شربة مُثلَّجة في يومٍ قائظ إلا أنني قلت: ليبعد الله عنك شر هذه النهاية. فتساءلت بقلق: ماذا حل بروحك؟ فقلت بوضوح: ليس الحب أن أضحِّيَ بك على مذبح جنوني. – ما زلنا في أول الطريق وسوف نجد حلًّا ما. – أين الحل؟ .. المسألة أفظع مما تصوَّرنا وأنتِ الخاسرة. فقالت بعتاب: أحسبتني قاصرة؟ .. لا تعتبرني ضحية من فضلك. – هذا هو سر جنوني الباهر، ولكنه هو أيضًا ما يُملي عليَّ ما ينبغي عمله. – ما ينبغي عمله؟ – لا يجوز أن تبقى خطبتنا أكثر من ذلك بلا حلٍّ واضح. فقالت بانفعال: شخص آخر يتحدث، أنسيت … فقاطعتها: لم أنسَ، كنت مجنونًا، لقد أسأت إليك إساءةً بالغة، الجميع يُدركون ذلك لا والدتك فقط، الجميع حتى الزملاء، لا شك أنك تسمعين وتفهمين. – لا أهمية لذلك. – نبل وشجاعة، ولكنك تُسيئين إلى نفسك بلا أمل، رجولتي تأبى عليَّ ذلك، حبي يؤنِّبني ويتَّهمني، لا .. لا. فقالت بحدة: إني صاحبة الحق في القول الأخير. – لي حق أيضًا، بل هو واجب، على المجنون ألا يجرَّ الآخرين إلى جنونه. – كنت في جنونك أفضل منك الآن ألف مرة. فقلت بتصميم: إني آسف، ولست في حاجة إلى أن أؤكد لك حبي. فهزَّني اليأس، وكنت مُصرًّا بقدر ما كنت يائسًا. ما فعلته بنفسي لا يُصدَّق. استيقظت عقب ليلة مُسهَّدة لأرى حقيقةً بشعةً ترصدني لتقول لي بصوتٍ فظ: «اختفت رجاء من حياتك.» ترامت إليَّ أصوات الطريق كأنما هي نعي للوجود، نعي لأي معنًى. لمَ أحيا؟! كيف أُعاشر هزيمتي إلى الأبد؟! بودِّي أن أبصق على كل فكرة خطرت وكل فعل نُفِّذ. قال أبي لي بأسًى: إني حزين يا علي، وددت لو كان بوسعي مساعدتك. واغتمَّت أمي حتى دمعت عيناها. الحزن يتغلغل في أعماقي كلها، ولكني لم أجد بدًّا من حمل حياتي والمضي بها. واستسلمت لرد فِعل غضبي فقابلت وكيل الإدارة وسألته أن أُنقَل إلى إدارةٍ أخرى مُقدِّمًا أسباب ذلك. ونُقلت إلى إدارة المستخدمين عاطلًا كما كنت، وصارعت أشواقي والأيام تمرُّ مُثقَلةً بأنفاس الصيف. رجوت أن يتلاشى الحب مع الزمن، رجوت أن تُحرَّر هي من كافة القيود لتستردَّ رونقها البهيج. في تلك الأيام تابعت بإعجابٍ مغامرات الإرهابيين في الصحف. إنهم ينفجرون في أركان البلد مُعلِنين عن نبض جنين ينمو في رحم الغيب. انبعثت من قلبي المحطم أخيلةٌ مُطلَقة مرقت في الفضاء وغاصت في أعماق المحيطات، وجعلت أتآمر مع خلايا الأحياء وذرَّات الجمادات، ولم يخمد الحب ولم يبرد الشوق، وتمادت الغريزة اشتعالًا. ••• وقادتني قدماي إلى مقهى الحرية فلمحت الأستاذ عاطف هلال في مجلسه. أقبلت نحوه بتلقائية وتوتُّر مشحونًا بالاحتقار. حيَّيته قائلًا: لعلك تذكُرني. فرمقني بنظرةٍ طويلة وشتَّ بعجزه عن تذكُّري، فقلت: أنا صاحب المشكلة الجنسية. فالتمعت عيناه وقال ضاحكًا: آه .. لا مؤاخذة .. السن والشواغل .. اجلس. جلست فراح يقول مُتسائلًا: لعلك وجدت الحل؟ فدفعني العبث لأن أقول: الحل الكامل. ثم مُستسلمًا أكثر للعبث: سأنضمُّ قريبًا إلى أصحاب الملايين. فارتفع حاجباه الأشيبان الهائشان وتساءل: حقًّا؟ فقلت بثقة لا حد لها: بكل تأكيد. – كيف؟ – الأسرار لا تُباح. فهزَّ رأسه هزة الخبرة وقال: إنها مُسجَّلة في جدول محفوظ. فابتسمت فيها يُشبِه الطمأنينة فسألني: أأنت سعيد؟ – طبعًا. – لأنك ما زلت في أول الطريق. – هذا حق. – أما سمعت عن الذين يربحون الدنيا ويخسرون أنفُسهم؟ فقلت كاتمًا سخريتي: كيف لا وأنا أحدهم؟! فقال بنبرةٍ مأساوية: خسارة النفس لا تُعوَّض. فقلت مُنفعلًا: كذب. استاء ولا شك من لهجتي فصمت مُقطبًا، فقلت بسخرية: تحرَّر من الأكلشيهات لتعرف الدنيا على حقيقتها. فقال مُتضايقًا: إني أعرفها خيرًا منك. فاندفعت أقول مُحتدًّا: ماذا كنت؟ .. وماذا أصبحت؟ .. وثبت في الوقت المناسب من السفينة وهي تغرق. تساءل في انزعاج: ما هذا؟ فقلت مُستزيدًا في التمادي: أنت أيضًا من الذين ربحوا الدنيا وخسروا أنفُسهم. فهتف غاضبًا: لقد جئت بقصد إهانتي، ولن أسمح لك بالبقاء بعد ذلك. قمت. غادرته دون سلام، وتحت الشمس المحرقة في الخارج شعرت بانشراح فضحكت. ماذا قلت؟ كيف تأتَّى لي قوله؟ الحوار من جانبي مُرتجَل من ألفه إلى يائه. المقابلة تمَّت بغير خطة سابقة. انتشيت بمرحٍ عارض وأنا أمضي فوق قاعدة راسخة من الألم. وفي صباح اليوم التالي بدأت بعاموده اليومي في الصحيفة فوجدته يتحدث عن الطوفان الجديد، وأنه لن ينجوَ من الغرق إلا من يلوذ بسفينة المبادئ. الحق أنه ليس أسوأ من غيره، ومقالته تُفهَم على وجهها الصحيح إذا اعتُبرت نوعًا من النقد الذاتي الخفي، وإعرابًا عن الاغتراب الذي تطوَّعوا لاعتناقه. وفي مرحلةٍ مُتأخرة من رحلة الآلام — وأنا أتسكَّع على غير هدًى — اقتحمني إلهامٌ مُنعِش، مجهول الأسباب مقطوع الصلة بالواقع، على مقربة من الأمريكين تألَّق الإلهام وتوهَّج، دفعني إلى دخول المكان بقوةٍ واعدة بالمعجزة. رأيت رجاء في مجلسنا كأنها تنتظر. تسمَّرتُ أمامها. تلاطمتني أمواج انفعالات مُتضاربة. مضيت أخرج من ليلي الحالك إلى نهارٍ مُشرِق. انهمرت فوقي أعذب ألحان الوجود ونشواته مؤيدة بقوة تستطيع أن تفعل ما تشاء. ارتميت إلى جانبها صامتًا. تنفَّست بعمق لأستردَّ شيئًا من الهدوء. تساءلت بصوتٍ هامس: ماذا جاء بك؟ فسألتها بدوري: ماذا جاء بكِ؟ فقالت بعتاب: إنك ماهر في الاختفاء فلم أرَ بدًّا من الجري وراءك. تذكَّرت آلامي بندم وأسف فواصلت حديثها: كأنك كنت تهرب من هذا المكان أيضًا. – هل تردَّدتِ عليه قبل هذه المرة؟ فحنَت رأسها بالإيجاب، فقلت: آسف جدًّا. – ما فائدة الأسف؟ – سعادتك هي ما كانت تهمُّني. – وفَّرت لي من الشقاء ما يُشفق منه العدو. – أما آلامي فلن أحدِّثك عنها. فقالت بحرارة: أرجو ألا تتصرف بغباء بعد الآن. فقلت بقوة وإيمان: لن نفترق أبدًا. فابتسمت بعذوبة، فقلت: لن نتراجع حيال عقبة. – لم أكفَّ عن التفكير لحظةً واحدة. فهتفت: هذا هو الخطأ. – ماذا؟ – التفكير في مثل حالنا هو خصمنا. فابتسمت قائلةً: لقد جرَّبنا الارتجال. – ونجحنا، ولم نفشل إلا بالإذعان للتفكير. فقالت بقلق: أخشى أن نجعل من أنفُسنا أضحوكة للدنيا. فقلت بتصميم وهدوء: لنتزوَّج في الحال. فرمقتني بذهول فكرَّرت: في الحال. – أتعني ما تقول؟ – بكل جدية، ودون الرجوع إلى أحد. فتساءلت بِحيرة: ثم ماذا؟ – أجِّلي هذا السؤال إلى ما بعد الزواج، وسوف يتبدَّى لنا في صورةٍ جديدة تمامًا. – ربما وجدت في الزواج ما وجدت في الخطبة من قبل؟ – إني أعرف الآن معنى الفراق كما أعرف قيمة الجنون. فتفكَّرت في قلقٍ واضح ثم تمتمت: الناس .. الناس .. التعليقات .. أف. فقلت مُترفقًا بها: لنبدأ في سريةٍ مؤقتة .. أيُريحك هذا؟ فتساءلت في حيرة: لمَ تكره التفكير؟ فقلت بسخرية: أي تفكير؟ .. ما هو إلا ترديد لأصداءِ ماضٍ علينا أن نُحطِّمه. سِرنا معًا مُتلاصقَين بعد أن تقرَّر مصيرنا بأجرأ خطوة أقدمنا عليها في حياتنا. كنا نشعر بدفء داخلي رغم برودة الخريف المُودِّع، كما شعرنا بطمأنينة ونحن نخوض دنيا لم تعترف بعدُ بنا. بيدِ كلٍّ منا وثيقةٌ ملكية تشمل الروح والجسد، وبقلبي شعلة استأثرت بجوارحي فتناسيت الأمور المُعلَّقة. سألتني في مرح: كيف تشعر؟ فقلت دون تردُّد: بأنني انتزعت المسئولية من أيدي المُغتصِبين. – أظن أن التفكير الآن لا يُعتبر جريمة. – يوجد الآن ما هو أهم. التفتت نحوي مُتسائلةً: ما هو؟ – أن نجد مكانًا نرتاح فيه ولو ساعة من زمان. فقالت وهي تُداري ابتسامة: المسألة أكبر من ذلك. – أجل، ولكني أسير هذه اللحظة، الأخيلة المرحة تُطاردني. فقالت بعتاب: إني أسيرة أفكاري أيضًا. ربَّتُّ على يدها وقلت بعجَلة: لا مستحيل بعد اليوم، ممكن أن تُقنعي نفسك بالتعليم وأقنع نفسي بالقانون ثم نُهاجر. – طالما كرهت ذلك! – أنا مثلك، فلنعمل ما نكره لنعيش ما نحب .. لكن يلزمنا مكان. – مكان .. مكان .. أنت تُضحكني. فقلت وأنا أتصفَّح وجوه العمارات: فندق .. بنسيون. فهتفت: ماذا؟ .. لا حقيبة معنا. فقلت بجدية محمومة: معنا تحقيق الشخصية والوثيقة الشرعية. – سلوك غريب. – لا تتعلقي بالأوهام الفارغة، سترجعين إلى بيتك في الوقت المناسب. فقالت وهي تُداري ابتسامة: إنك تفكر مثل مراهق! فقلت مُدافعًا عن نفسي ومُتذكرًا في الوقت نفسه لتاريخي الأليم: ولكني أتصرَّف كرجل. لقاءات نهارية، قصيرة العمر، مُتباعدة على قدر ما تسمح به الميزانية. لأول مرة أشعر بأنني أنضج كإنسان وكعاشق. لم تُشاركني رجاء أفراحي بنفس القوة. حثَّني ذلك على مواجهة الحقائق. قلت لها: الهجرة هي طريقنا الواضح. فقالت بعصبية: لا أدري كيف سأتحمَّل العمل الجديد. فقلت رغم مشاركتي إياها في موقفها: هو خير من البطالة، ثم إنه سيُهيِّئ لنا عش الزوجية. – العمل بلا حب نوع من السُّخرة. فقلت برجاء: ثم يجيء الحب مع النجاح وهناء القلب. فتساءلت بقلق: ثم من أدرانا أن ذلك الهدف الثقيل ميسور في النهاية؟ فقلت بقوة أُغطِّي بها قلقي: أعتقد أنه غير مُستحيل، ثم إنه توجد تَجارِب أخرى. أدركت عند ذلك أني أسير بها نحو الفندق، فشدَّتني إلى شارع ماسبيرو وهي تقول: كرهت التردد على الفندق. فرمقتها بعتاب، فقالت كالمُعتذرة: الجميع يُدركون لماذا نجيء، ما أفظع نظرات المُوظَّفين والخدم! – ألا تستطيعين أن تُقلِّديني في عدم المُبالاة بالآخرين؟ – فعلت الكثير ولكنني أعجز عن مُجاراتك. انزعجت حقًّا، وقلت وكأنما أُحادث نفسي: لا أُطيق العودة إلى العذاب. – وحتَّامَ تُسدل على شرعيتنا ستار السِّرية؟! – ما اخترتها إلا تشجيعًا لك، وإني مستعدٌّ لإعلانها اليوم قبل الغد، أعلنيها وقتما تشائين ودون الرجوع إليَّ. وخشيت ألا تمضيَ الأمور بالعذوبة التي مضت بها. دُعيت إلى مقابلة مُدير عام العلاقات العامة؛ أول دعوة من نوعها منذ التحقت بالخدمة. ولماذا يدعوني وأنا رجلٌ عاطل؟ طالَعني بوجهٍ مُتجهِّم أثار أعصابي، وبخاصة وأنه من الجيل الذي أُناصبه العداء. – حضرتك علي عبد الستار؟ – نعم. – ما عملك؟ – لا عمل لي. – ألا يكفي أن تستبقيك الشركة رغم أنك زائد عن الحاجة حتى تُكافئها بارتكاب الجرائم في رابعة النهار؟ فقلت بغضب وذهول معًا: إني مُعيَّن بحكم قانون عام فلا فضل لأحد عليَّ، ثم إنني لست مُجرِمًا؛ فلعلك أخطأت الشخص المطلوب. فتساءل بهدوء الظافر بفريسته: من إذَن الذي يصحب الزميلة رجاء محمد إلى فندق «العش الجميل»؟ انشقَّ قلبي تحت ضربة ذهول داهم، فتساءل ساخرًا: أرأيت؟ تمالكت نفسي بسرعة وقلت بتحدٍّ: سيادتك مُخطئ، ومُبلِغك مُخطئ أيضًا، رجاء زوجتي الشرعية. – ماذا؟ – إليك الدليل. قرأ الرجل الوثيقة بدهشة ثم تفحَّصني باهتمام وقد لانت ملامحه وتمتم: مُدهش، ألم يعلم زملاؤك بذلك؟ – كلا، ثَمة ظروفٌ جعلتنا نفرض سِريةً مؤقتة على علاقتنا؟ – ولماذا تتردَّدان على الفندق بتلك الحال المُريبة؟ – المسألة بكل بساطة أننا لا نجد مكانًا. دارى الرجل ابتسامةً خفيفة وقال: أنا مضطرٌّ إلى إعلان زواجكما كتفسيرٍ ضروري لعدم إحالتكما إلى إدارة التحقيقات. فسألته بسخريةٍ خفية: هل يمكن أن تدلَّني مشكورًا على شقة؟ فأجابني ببرود: لست سمسارًا يا حضرة. أُعلنَ الزواج، لا مَفر. في بيتنا أحدثَ دهشة ولا شيء سِواها. هتفت أمي: غير معقول أن تفعل ذلك من وراء ظهورنا. أغرقت مها ونهى في الضحك، أما أبي فقال: أنتم جيلٌ مجنون، قدِّم لي سببًا واحدًا يُبرر تصرُّفك المُضحِك. فقلت مُعتذرًا: كانت السرية إكرامًا لها. – أنت أحمق، وهي أيضًا حمقاء، لولا ضيق شقتنا لدعوتك للإقامة معنا. – إني مُدرِك لذلك كله. – فتساءل ساخرًا: ماذا يُغريكم بالزواج؟ ألا تتَّعظون بما حصل لنا؟ فقلت عابثًا: سعادة بيتنا هي التي أغرتني بما فعلت. أما بيت زوجتي فقد اجتاحه حريق. استنتجت ذلك من كلمات رجاء المُوجَزة ومن امتعاضها الدائم. تخيَّلت الطعنة وأثرها الدامي في قلبَي الوالدَين. قالت لي: إني أعيش في بيت يرفضني تمامًا. فدفعني قولها إلى الارتطام بمسئوليتي فقلت: تعالي إلى بيتنا مؤقتًا. ولكنها لم تنبس، فقلت: سأجد الإعلان الذي أبحث عنه في الصحف، لا بد أن أعثر عليه ذات يوم. فقالت بضيق: ومن ناحيتي فالتعليم أحبُّ إليَّ من هذه الدنيا. فقلت بإصرار: لو اقتضى الأمر أن أتعلم حِرفة فسأتعلم حرفة … ••• وكان رفضها لفكرة الفندق قد أرجعني إلى حيرة العذاب. ورغم أن الأمل في الرسوِّ على بَر — بعد تقبُّلنا للهجرة — بات ممكنًا إلا أن عذابي لم يبرد. ومضيت بها ذات مساء لا يخلو من دفء إلى هضبة الهرم. لم يبقَ الهلال الوليد في السماء إلا قليلًا ثم انتشر ظلامٌ مُريح. عن يميننا ويسارنا مرقت الأشباح إلى الخلاء وذابت في الظلمة. طوَّقتها بذراعي بحنان وشوق ونحن نتعثَّر على مهل حتى توقَّفنا تمامًا. مِلت نحو أذنها لأهمس لها بخواطري المُضطرمة، ولكنها لكزتني بكوعها قائلةً في تحذير: انظر. رأيت شبحًا قادمًا تبيَّنته شرطيًّا عندما وقف أمامنا. اضطربت واتجه وعيي نحو الوثيقة في جيبي. قال الشرطي: سلام عليكم. فقلت وأنا أجهل ما وراء سلامه: وعليكم السلام. وصمت فانتظرت الخطوة التالية، ولكنه لم ينبس ولم يتحرك، فقلت: نحن نشمُّ الهواء، أنا وزوجتي. فقال بنبرةٍ واضحة: مُتزوج أو غير مُتزوج لا يهم. فقلت بتحدٍّ: لسنا وحدنا، الخلاء مليء بأمثالنا. فقال ضاحكًا: افعل مثلهم. زايلني الارتباك ففطنت إلى مقصده. دسست بيدي في جيبي مُستخرجًا ورقة من ذات الخمسة والعشرين قرشًا ومددتها إليه. تناولها ثم قرأها على ضوء بطارية ثم ردَّها قائلًا: مقامك جنيه على الأقل. ولما ذهب قلت ضاحكًا: أرخص من الفندق بما لا يُقاس. فهتفت: يا للعار! فضممتها إليَّ بحرارة وأنا أقول مُعتذرًا: إنها ظروفٌ استثنائية لعينة، ولسوف نضحك عليها في القريب. وأطلَّت علينا القرون من فوق الهرم وهي تضرب كفًّا بكف.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/19069697/
الحب فوق هضبة الهرم
نجيب محفوظ
«عرفتُ الحبَّ لأول مرة في حياتي. إنه كالموت تَسمع عنه كلَّ حين خبرًا ولكنك لا تعرفه إلا إذا حضَر. وهو قوةٌ طاغية يلتهم فريستَه، يَسلبُه أيَّ قوةِ دفاع، يطمس عقله وإدراكه، يصبُّ الجنونَ في جوفه حتى يطفح به. إنه العذاب والسرور اللانهائي.»‏استطاع «نجيب محفوظ» أن يَرصُد في كثيرٍ من أعماله كثيرًا من التحوُّلات السياسية والاقتصادية وتأثيرَها على الحياة الاجتماعية، وقد تضمَّنت هذه المجموعة القصصية التي كتَبها في نهاية السبعينيات من القرن الماضي كثيرًا من التغيُّرات الاجتماعية التي شَهِدها المجتمع المصري عَقِب الانفتاحِ الاقتصادي وبدايةِ تفتيت الطبقة الوسطى، وتوضح كيف أصبح المال هو القِيمةَ العليا في المجتمع، بينما صار العلم عِبئًا على صاحبه. تجلَّى هذا الوضع في قصة «الحب فوق هضبة الهرم» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث عبَّرت عن التحوُّلات العنيفة للمجتمع من خلال أزمة «علي» و«رجاء»، وصعوبة زواجهما بسبب سوء الوضع المادي ﻟ «علي». ومن أروع قصص المجموعة قصةُ «السماء السابعة»، التي يأخذنا فيها «محفوظ» بانسيابية إلى عالَم الأرواح، فنفتتن بخياله ونَهِيم في عالَمه. بالإضافة إلى غيرهما من القصص التي عبَّرَت عن مختلِف الهموم الإنسانية.
https://www.hindawi.org/books/19069697/5/
سمارة الأمير
تبدو ضئيلة جدًّا، لا لضآلة في تكوينها، فهي بشهادة الجميع أنضج من سنها، ولكنها لا تكاد تُرى في الحجرات الواسعة والأبهاء المُترامية، أما في الحديقة الفوَّاحة الشامخة فتلوح مثل عصفورة حائرة في وثباتها المتتابعة فوق مَمشى الفُسيفساء. في أوقات الفراغ، العصاري المزخرفة بالظلال، تقف مُستندةً إلى ضلفة الباب الكبير ترنو بعين إلى أشجار البلخ المُظلَّة لشارع سبينالي، وتلحظ بعينٍ الأريكةَ يجلس عليها البوَّاب وسوَّاق السيارة علي جلال. يُعجبها منظر علي جلال ببدلته الرسمية، وقامته الطويلة مثل جذع النخلة، ولونه الغامق، ونظرته الحادَّة. إنه يلي في التأثير الباشا الذي لا يُضارعه شيء، وهي يُروِّعها كل شيء في السراي وما حولها، قلبها الغض يجود بالإعجاب لكل شيء، وهي تحب كل شيء، ولم تعد تذكر من الكوخ الذي آواها في طفولتها برشيد إلا طيفًا ذائبًا في ماضٍ مضى وانقضى. حتى والداها سرعان ما نسيتهما ولم يبقَ من صورتَيهما إلا النمط الشائع. جاء أبوها بها إلى سراي عصمت باشا خورشيد، وهي ابنة ثمانية منذ سبعة أعوام، وعقب عامَين جاءت أمها حاملةً نبأ وفاته، ثم أُبلغت بعد عامَين آخرين نبأ وفاة أمها، فلم يبقَ من الشجرة إلا أقارب مجهولون لا يحفلون بها ولا تذكرهم. وعند كل نبأ أسوَد كانت تجهش في البكاء وتُحاط بعطفٍ ما، ثم يُطيِّب الخادمات الثلاث اللاتي يُشاركنها حجرة البدروم خاطرها، ويُحذِّرنها من الاسترسال في الحزن. التصقت بالسرايا باعتبارها دنياها الوحيدة. إنها قلعةٌ شاهقة ذات أبراج الزينة وحديقة مُترامية، تتوسَّط شارع سبينالي بلوران بالإسكندرية، وربة الدار الهانم تأنس إليها لإشراق وجهها وطيبة قلبها فتخصُّها بالقرب وتختارها دون غيرها لتدليك قدمَيها وساقيها. تعطف عليها لطيبة قلبها وسذاجتها، ونقائها من المكر؛ فكانت الوحيدة في السراي التي يتهيَّأ لها فرصة الوجود أحيانًا في اجتماع الباشا بحرمه، وتسمع أحيانًا ما يدور بينهما من حديث، بل وما يتبادلان أحيانًا من نقار أو شجار. ويسألنها — الخادمات الثلاث — عما تسمع فتشعر بأهميتها وتمضي في حكي الحكايات. وكان الباشا وحرمه عجوزَين وحيدين؛ فكريمتهما مُتزوجة من قنصل يعمل في الخارج، وابنهما يعمل كذلك في سفارة، ولكن الرجل كان رائعًا وقورًا، يمضي في شيخوخته وأناقته كتمثال أو يجلس في روبه آية في الجاذبية. وكانت حرمه جميلةً رغم طعونها في السن، وكم أُعجبت شلبية بلون بشرتها الأبيض وزرقة عينَيها. ويقول الباشا لحرمه في غضبه: «أنت ظالمة .. أنت عمياء.» فتقول له: «ما أنت إلا ثور، ألا تقرأ ما يُكتب عنك؟!» عندما تثور عاصفة تنكمش في ذاتها، تود أن تختفي، تُنكِّس رأسها، وقد تدمع عيناها. ومرةً سألته الهانم بحدة: «لماذا أفلتت منك الوزارة هذه المرة؟» فيقول لها: «حتى السراي لا تخلو من عدو لي.» فتقول له: «بل أفعالك الشائنة هي عدوك الأول.» فيتساءل: «أفعالي الشائنة؟!» فتصرخ: «نعم .. ما زلت تحلم بمباذل الشباب يا عجوز .. متى منعت الأفعال الشائنة من الوزارة؟ إني أفكر في الإقامة مع ابني في الخارج.» ولا يَحُول ذلك دون خروجهما في المساء نفسه لقضاء سهرة معًا كزوجَين سعيدين. ألِفت شلبية هذه الحياة الأنيقة، كادت تُخَص بخدمة الهانم، ولكنها كانت تخدم عن طِيب خاطر النسوة الثلاث اللاتي يُشاركنها في البدروم، تُنظف الحجرة، تغسل الملابس، تبتاع لهن الدخان وأوراق البفرة، وتتطوع بدافعٍ خاص للفِّ السجائر. وعن لسان الهانم أدركت أنها أنضج من سنها، وأنها «شيخة» لطيبتها وسذاجتها، أما في الطريق وعند البدَّال فمضت تُدرك أنها جميلة فتسعد بهذا الامتياز وتتعامل في تحفظ وبدلال مع المُعجَبين. وكانت أخلاقها فطرية لا تكاد تتجاوز الحياء. حدَّثتها أمها عن الجنة والنار، وحذَّرتها الخادمات من الهفوات اللاتي تقضي على مستقبل البنت. مستقبل البنت؟ إذَن فحياة السراي غير دائمة، ما هي إلا دار انتقال. المستقبل الحقيقي يقع في الخارج، ربما في كوخ كالذي جاءت منه، لكن ما كان يكفي هذا لتوفير تربية أخلاقية حقيقية. كانت طيبة، سمحة القلب والعاطفة، وهَّابة للإعجاب والحب، ذات قشرة رقيقة من الدين والخلق. ألِفت الحياة الأنيقة، ومعاشرة علاقة زوجية حافلة بأسباب الهناء والصراع، كما ألِفت جو الإسكندرية المُتقلب بإشراقه وعذوبته ونواته الضارية، وتجمعت أنفاس المراهقة في برعم قلبها فامتلأ برحيق الحياة الساخن. من عالم الرجال، العذب المُخيف الغامض، يُطلُّ وجه علي جلال مثل المنارة. ليست بدلته الكحلية هي المُثيرة وحدها، ولكن قامته أيضًا، وبصفةٍ خاصة نظرة عينَيه الوهَّاجة، في العواصف التي تسجد لها الأشجار الشامخة يقف مُستهترًا، مُقطِّبًا وباسمًا في آنٍ، ولا يتراجع إلى حجرة البوَّاب حتى ينهمر المطر ويُشرِق أديم الأرض السنجابي. له نظرةٌ يودعها أحيانًا النسمة الباردة المُضمَّخة بشذا البحر، مثل قرصة مُلاطفة لخدٍّ مُورَّد، حادَّة وناعمة، لغتها غامضة مُتحرِّشة، تُهيِّج الشعور بالأهمية، تُداعب السرور الخفي، تُغطي القلق بغلالة من إيحاءٍ وردي. وذات أصيل كانت تُطارد ضفدعًا في جدولٍ محفوف بالشوك. كان الوقت خريفًا، والرذاذ يجيء قليلًا ويغيب قليلًا. شعرت بنداء يدعوها للنظر إلى الوراء. رأت علي جلال يقف تحت شجرة ليمون رانيًا إليها بنظرةٍ ثملة، بسمت بارتباك ووثبت فوق الجدول. في الجو سرٌّ خفي وكأن أوراق الأكاسيا تتهامس به. عكست عيناها السوداوان بهجة وحذرًا. ترنَّحت فوق حافة مغامرة مجهولة بلا مقاومة تُذكَر. دنا منها صامتًا مُربدَّ الوجه. تناوَل يدها ومضى بها إلى الجراج في نهاية ممشًى مُسفلَت. لم تُقاوِم ولكنها تساءلت: ماذا تريد؟ ضمَّها إلى صدره وغمرها بقبلاتٍ شرهة. وقفت مُستسلِمةً لا تُشارك ولا تُقاوم. تمنَّت ألا يجاوز ذلك الحد، ولكنه لم يجترح خطوة إلا كتمهيد لأخرى جديدة. وسألته: ألا تخاف النار؟ ثم تساءلت ووجهها يتقلص بالألم: ما هذا؟! الواقع دون الحلم، ولكن شخصه أهمُّ من فعله، باتا شريكَين في حدثٍ خطير، وكاتمَين لسرٍّ هام. استولى على قلبها وخيالها، أحبَّته أكثر مما تصوَّر، تصوَّرت العلاقة أقوى من صلب البوَّابة وأنقى من ماء المطر. هو فارس قلبها، وقلبها مَطيَّته الأمينة. ليست السراي بالمكان المأمون لهذه الأفعال، ولكن حتَّامَ يبقى السر سرًّا؟ ضايَقها أن يتجاهلها بحكم الحذر، طمحت إلى معاملةٍ أرقَّ وأطيب صراحة. وقال لها مرة: تجنَّبي النظر نحوي، أنت مجنونة؟ فسألته بحنق: لماذا تخاف؟ – أنت مجنونة؟ – أنت المجنون، أنسيت فعلك؟ – من الخير أن تتركي السراي … – حقًّا؟ .. إلى أين؟ – أنت مستعدة؟ – نعم. فتفكَّر قليلًا ثم قال: انتظري مساءً عند نافورة الميدان واحذري أن ينتبه إليك أحد. انتهى عهد السراي كما انتهى عهد الكوخ من قبل. في حجرة علي جلال الوحيدة بفراشها السفري وصوانها القديم المُقشَّر وحصيرتها المُتهرِّئة شعرت بأنها في بيتها. لأول مرة تشعر بأنها تنتمي إلى وطن، وأنها ست بيت مثل حرم عصمت باشا خورشید، ومضت تعرف نفسها وتخبر الحياة والرجل والحب. وكان للعلاقة شهر عسل أيضًا، ولكنه في الواقع أقل من شهر. تجلَّى علي جلال عاشقًا نحو أسبوع ثم خرج من جلده رجلٌ جديد. اختفى المُجامل الباسم العطوف، وحلَّ محلَّه رجلٌ فظٌّ ضيِّق الصدر مُتوثِّب دائمًا للزجر والردع. عجبَت لتغيُّره، فزعت من معاملته، وكانت تزداد به تعلقًا وارتباطًا. إنها لا تُطالبه بشيء، تخدمه بولاء، تهبه ما تملك بلا مقابل. لم تكن تذوق اللحم إلا مرةً واحدة في الأسبوع بلا تذمُّر. آيست من فكرة الزواج فتجنَّبتها وقنعت بحالها. ورغم حزنها شعر بأنه ملكها وبأنه لا غنى له عنها. ومرةً سألته: لماذا تُعاملني بخشونة؟ .. هل بدرَ مني ما يُسيئك؟ فقال: إنك تتوهَّمين ذلك لأنك دلوعة. فقالت برجاء: أحسنْ معاملتي. ألا ترى أني يتيمةٌ وحيدة مقطوعة من شجرة ولا أحد لي في هذه الدنيا سِواك؟ فقال بسخرية: إني مثلك تمامًا، وكنت مثلك دائمًا، لم أعرف لي شجرة. وعلى حين نشأت أنت في سراي باشا نشأت أنا في إصلاحية، ورغم ذلك اعتبرت الشكوى خنوثة. – ولكني أتألم. – الحياة خشنة وتُطالبنا بالخشونة. – ألا تزال تُحبُّني؟ – أظن هذا واضحًا. فقالت بعذوبة وبراءة: إني لا أشكو إلا معاملتك. – هكذا خُلقت. ماذا ينقصك؟! أحقًّا لا يُدرك كم تتحمَّل من شظف العيش حرصًا عليه؟! وتنهَّدت قائلةً: ربنا موجود. فسألها بحدة: ماذا تعرفين عنه؟ فقالت باستسلام: إنه موجود، ألا يكفي هذا؟! ولكنها كانت تغوص في صميم الحياة، وتزدهر رغم حِرمانها من طيبات الحياة التي ألِفتها في السراي، ويتألق جمالها وشبابها في الجلباب الشعبي، وتنعم بالحب. وكان يقول لها أحيانًا وهو يُدخِّن ويحلم: لا دوام لحال. فترمقه بسؤالٍ حائر في عينَيها الجميلتين فيقول: ولما كنت في الحضيض فسيصير الحال إلى الأحسن. – حقًّا؟! .. ولكني لا أصلح لشيء. ويبتسم، ويبرم طرَفَي شاربه، ويصمت فتقول: بوسعي أن أخدم في أي بيت، ولكني سأنقطع عن بيتي. فيضحك ويقول: هروبك أثار في السراي زوبعة. فقطَّبت ولم تجد ما تقوله .. فيُواصل: ظنُّوا في بادئ الأمر أنك سرقت شيئًا ثمينًا، ولما وجدوا كل شيء في محله أدركوا الحقيقة. – الحقيقة! – قالوا إنها هربت مع رجلٍ غواها، أليست هذه هي الحقيقة؟ – ولكنهم لم يعرفوا الرجل؟ – طبعًا. ثم يقول بثقة: لا دوام لحال. وذات مساء جاء معه برجلٍ قصير بدين قمحيِّ اللون صامت الملامح، جلس إلى جانب علي على الكنبة على حين وقفت هي مُستندة إلى السرير غائصة في ارتباكها. ولما طال الصمت والنظر قالت مُتهرِّبةً: أصنع لكما الشاي. فقال الغريب بصوتٍ غليظ: شكرًا .. لا أريد شيئًا. وقال علي جلال: إنها لائقة، وإلا فإنني لا أعرف شيئًا. فابتسم الرجل ولم يُعلق وواصل النظر، فقال علي: إنها لائقة. فسأله الرجل ببرود: ماذا تعني؟ – من ناحية الشكل؟ فتساءلت بحدة: عمَّ تتكلمان؟ فأشار لها علي إشارةً آمرة بالصمت على حين قال الرجل: وما أهمية الشكل؟ – إنه الأساس. – أعندك فكرة عما تحتاجه من تعليم؟ – إنه اليسير إذا توفَّر الشكل. – ما اسمها؟ فقال علي مُستقبلًا وثبة من الأمل: شلبية الأمير. فابتسم الرجل مُتمتمًا: الأمير دفعة واحدة! .. ولكن أعوذ بالله من شلبية. فهتف علي بتحدٍّ: إنك مُوافق ولا داعي للمناورة. قام الرجل، حنى رأسه تحيةً لشلبية، ذهب وعلي في أثره يُودِّعه. رجع علي بعد دقائق مُمتلئًا حيوية واستبشارًا. سألته: من الرجل؟ – مأمون الفرماني صاحب ملهى الفلير دامور بالشاطبي. – لماذا جئت به؟ .. وما معنى حديثكما؟ – الصبر مِفتاح الفرج. وقف ينظر إليها باهتمام ثم قال: غنِّي .. غنِّي أي أغنية. فذُهلت ولاذت بالصمت، فعاد يتساءل: ألم تُغنِّي من قبل؟ .. في الحقل؟ .. في الحمام؟ – أبدًا لم يُشجعني صوتي قط. – يا للأسف .. ولكن جسمك صالح للرقص. فهتفت: الرقص! – ليس عندك إلا الشكوى والصراخ، إني أعرض عليك خاتم سليمان. – أنا أرقص؟! – بعد تهذيب وتعليم ثم تتفتَّح لك أبواب الرزق. – أمام الناس؟! – طبعًا. – إخص .. يا للعيب! فابتسم برقةٍ مُصطنَعة وقال: إنه مهنةٌ شريفة، شرفك من شرفي، افهميني جيدًا، لست أنا الذي أدفع بك إلى السقوط. – أنا مستعدة أعمل أي شيء آخر. – ألا تريدين غذاءً أوفر وكساءً أجمل وحياةً أفضل؟ .. سنُغيِّر حياتنا بالعمل والشرف .. جرِّبي ولا تخافي، سيربط الرقص بيننا برباطٍ متين، أما الحياة كما هي الآن فلن تُحسَّن أكثر من ذلك. انقبض قلبها، رمقته بتوسل، اغرورقت عيناها. كان صباح داكن، تجيش سماؤه بسُحبٍ مُلبَّدة، والريح تزأر مُطلقةً الأمواج المُزبدة إلى أديم الكورنيش. جلست إلى جانبه في شيفروليه عصمت باشا خورشيد، واندفع بها نحو الشاطبي وهو يقول: من يدري؟ قد تمتلكين يومًا سيارة كهذه. استقبلهما مأمون الفرماني في شقته فوق الملهى مباشرةً بعمارةٍ مُكوَّنة من عشرة أدوار مُطلَّة على البحر الثائر، تجاهل احمرار عينَيها من أثر البكاء وقال: أهلًا بالتلميذة .. ستضحكين غدًا. وقدَّم لها الشاي والكعك ومضى يقول: انسي شلبية، اخترت لك اسم «سمارة»، سمارة الأمير، تركت لك الأمير فهو مُناسب جدًّا، هل نتوقَّع إزعاجًا من أهلك؟ فأجاب علي عنها قائلًا: كلا. – عظيم، نحن في أوائل الشتاء، الشتاء فصلٌ ميت، ولكن يجب أن تُعدِّي كما يجب قبل الصيف، ممَّ تخافين؟ – إنها بنتٌ شريفة كما تعلم. – ونحن أيضًا شرفاء، لن يضطرَّك أحد إلى شيءٍ تأبينه، ولا تُصدقي غير ذلك. ثم بعد فترة صمت وتأمُّل: ولكن التعليم لا مزاح فيه، ستتعهَّدك امرأةٌ خبيرة، ولكن كل شيء يتوقف على إرادتك. وسرعان ما بدأ التدريب، ووفَّر لها الرجل أيضًا كساءً مُناسبًا وغذاءً صحيًّا. وكان التدريب يشمل آداب المائدة واللبس والزينة، وكلما وجد مأمون الفرماني إهمالًا أو تكاسلًا استعان بعلي جلال حتى اضطُرَّ الرجل مرة إلى توجيه لطمة إليها. يومها رجعا إلى حجرتهما وهي صامتةٌ غارقة في حزنٍ أبدي، وغيَّر هناك من لهجته المألوفة فقال لها بنبرة المُعتذِر: ما من رجل إلا وضرب محبوبته عند الضرورة. أصرَّت على الصمت والعبوس، فداعَب بإبهامه خدَّها وقال: العمل عمل، لا مزاح فيه، وهو لمصلحتك. فقالت بحنق: بل لمصلحتك أنت. – لمصلحتنا المشتركة إذا شئت، ما نحن إلا شخصٌ واحد. فصاحت به: لقد سلَّمتني إلى رجلٍ غريب. – إنه رجل أعمال، وليس له في النسوان. – لو كنت تحبُّني حقًّا ما فعلت ذلك. – ما فعلت ذلك إلا لأني أحبك. فقالت بتحدٍّ: أنت! لم أسمع منك كلمة حب واحدة. – ولكني أفعل ذلك. – أريد حياةً معقولة، هل في ذلك من بأس؟! وساد صمتٌ ثقيل حتى قطعه قائلًا: كنت ذات يوم تلميذًا، انقطعت عن التعليم بسبب الفقر واليتم، تُرِكت شِبهَ أميٍّ وانطحنت في الإصلاحية .. ها أنا أهيئ لك سبيلًا أجمل. ماذا في ذلك من عيب؟! .. انظري إلى الراقصات وحظهن في الحياة. لقد احتملت الحياة حرصًا عليه، ولأنها شعرت في أعماقها الحية المُلهمة أنه يُحبُّها. الفلير دامور ملهًى صغير وأنيق، لا تُفتَح نوافذه الأمامية شتاءً، تسفعه العواصف وهو صامد بجدرانه الأرجوانية، مُربَّع الشكل، مسرحه صغير يعلو على الأرض بمتر واحد، في جوانبه مقاصير من خشب الزان، وصفوفه موائد، يُغالب نعاسه طيلة الشتاء والخريف، قلة تختلف إليه كحانةٍ نظيفة تمتاز بمزَّتها الغنية، وفرقة موسيقية تعزف ألحانًا شرقية وغربية، ومغني درجة ثالثة يترنم بأغانٍ كلاسيكية، به أيضًا مُهرِّج يُقدِّم نمرًا فردية هزلية وساحر، وبطانة المطرب مُكوَّنة من فتياتٍ أربع يُدعون أحيانًا لمشاربة الزبائن ملتزمات بأدب يُناسب رُوَّاده الممتازين من المصريين والأجانب. دُفعت سمارة للرقص فوق مسرحه في أول الربيع، كانت فرصةً فريدة للممارسة والتدريب العملي أمام رُوَّاد معدودين غير مُبالين. كانت كمن يُلقي بنفسه في الماء وهو جاهز لفن السباحة، رقصت على أي حال ونالت تصفيقًا من أيدٍ محدودة، عطفًا من ناحية وانجذابًا إلى جمالها من ناحيةٍ أخرى. الرقص يُقدَّم لأول مرة في الفلير دامور، وسمارة وجهٌ ممتاز وجسدٌ ممتاز أيضًا. في الحجرة الخلفية وجدت مأمون الفرماني وعلي جلال في انتظارها. قال الفرماني: التصفيق للمرأة لا للراقصة. فقال علي جلال: في المرة القادمة سيكون للراقصة والمرأة معًا. فقالت بحرارة: إذا كنت لا أصلح فلأنصرف بسلام. فتساءل الفرماني ببرود: عندك فكرة عما كلَّفني تدريبك وكساؤك وتغذيتك؟ فعبست وصمتت. وكان المتفَق عليه أن تعمل حتى نهاية الصيف بلا مُقابل نظير التكاليف، على أن تُكافأ في الصيف بعد ذلك بجنيه في الليلة، وثلاثين قرشًا بقية العام. وتساءل علي جلال بمكر: ألا تُعطي شيئًا على الحساب؟ فقال الرجل بحزم: لم أعتَدْ أن أغيِّر حرفًا في اتفاق. ثم مُستدركًا: لا تنسَ تحيات الزبائن. سألت علي جلال وهما عائدان مشيًا على الأقدام إلى الإبراهيمية: ماذا يعني بتحيات الزبائن؟ – سيدعوكِ بعض الأكابر حتمًا للمجالسة والمشاربة، في تلك الحال يُحسَب الكأس بضعف ثمنه وتأخذين نسبةً محترمة. فهالها الأمر وقالت بحدة: ليس هذا ما تم الاتفاق عليه بيننا. – لا خوف من ذلك، وهو رزقٌ شريف. – لكنني لا أشرب. – يملأ كأسك عادة بالشاي، هذا تقليدٌ مُعترَف به. فقالت بأسًى محدثةً نفسها: أُجالس رجالًا؟! – قد يدعوك بعضهم للذهاب معه ولك أن ترفضي. – يا له من موقف! – بسيط، لا تُعقِّدي الأمور. – ربما تدخَّل مأمون الفرماني؟! – إنه يعرف سلفًا أني أدقُّ عنقه لو فعل. شدَّت على ذراعه بامتنان وهما يخوضان النسائم العذبة تحت بصيص النجوم، فقال: لا أريد لك الابتذال الرخيص. اعتادت الرقص ومضت خطوات في طريق إتقانه، اعتادت كذلك المجالسة والمشاربة والاعتذار عند اللزوم. اكتسبت مكانةً سامية بفضل أنوثتها، وانقضى الربيع والصيف وهي تتألق كنجمة في الملهى الصغير. لم تأنس إلى أحد كما أنست إلى سعداوي بيَّاع الفستق؛ فهو فلَّاح مثلها صبوح الوجه، يرمقها باحترام وعطف، يرمقها بأكثر من ذلك، حتى قالت لنفسها إنها لو كانت حرة بلا رجل لما تردَّد في طلب يدها. وقد مالت إليه ميلًا صافيًا؛ لأنها كانت سليبة القلب، مُكبَّلة بحب علي جلال. وذات ليلة، عقب انتهاء الموسم وحلول الخريف جاءها سعداوي وقال لها: المقصورة رقم واحد. مضت إلى المقصورة فوجدت في استقبالها شابًّا أنيقًا وجيهًا ذا جاذبية واضحة، صافحته بَسِمة كالعادة، فقال بصوتٍ أضخم كثيرًا من عوده النحيل: أهلًا .. مروان أمين المُعجَب بفنِّك وجمالك. فتمتمت وهي تجلس قبالته تحت أغصان الياسمين المُعشَّق في أعواد الزان: تشرَّفنا. وجاء الجرسون كظلها، فقال مروان أمين بنبرةٍ مُترفعة: اثنين ويسكي. عيناه نجلاوان، وسيم القسمات، مبروم الشارب، عذب الابتسامة. تأمَّلها بإعجاب وقال: يُخيَّل إليَّ أنك وُلدت لتكوني راقصة، ومجيئك إلى الفلير دامور أضفى عليه حيوية لم ينعم بها من قبل. – أشكرك جدًّا. وشرب نخبها ثم قال: اطلبي ما تشائين، لا تتقيَّدي بي؛ فإني لا أشرب عادةً أكثر من كأسَين. فحنَت رأسها مُمتنَّةً وسألته: حضرتك من الإسكندرية؟ – نعم، أنا وأجدادي، إنها مدينةٌ عالمية كما ترين. – نِصف زبائننا من الخواجات. لزم أدبه طيلة الوقت، لم تبدر منه كلمةٌ نابية، ولا ملاحظة ماكرة، ولا حركة مستهجنة. واتَّسم بوقار لا يُناسب سنه حتى تساءلت في نفسها عما جاء به، وجعل يحثُّها على الشرب حتى شربت ست كاسات من الشاي المُثلَّج. وعند منتصف الليل نهض وهو يقول: ليلة سعيدة، أرجو أن تتكرر كثيرًا. رجعت تلك الليلة بصحبة علي جلال وفي جيبها مائة وخمسون قرشًا، ولما دسَّتها في يده تهلَّل وجهه الندي بنسائم الخريف المُشعشعة بأضواء النجوم، وقال: الحظ يبتسم، ما رأيك في مروان أمين؟ فقالت بحماسٍ بريء: مُهذَّب للغاية، فوق ما تتصور. – الفلير دامور مكانٌ محترم! – هل سمعت عنه .. مروان أمين؟ – يقول عنه مأمون الفرماني إنه صاحب جريدة «الصوت»، أذكر أنه جالَس مرةً عصمت باشا خورشيد في بدرو. ولكنه أقلقها بحماسه الزائد وهو يتساءل: متى يُتاح لنا أن نؤجر شقةً صغيرة وجميلة؟! واظَب مروان أمين على الذهاب إلى الفلير دامور مساء كل أحد، وجعل يطلبها إلى مجلسه في كل زيارة. نشأت بينهما مودةٌ حميمة وألِفته بأريحية وعذوبة. ومرةً قال لها: جمالك فريد، وهو مصريٌّ صميم. فقالت ضاحكة: ولكنك لست مصريًّا صميمًا. فرفع حاجبَيه الكثيفين وهتف: كيف؟! – عيناك. – هذه الزرقة؟ .. أوه .. كانت جدتي جركسية، ولكنني مصري مائة في المائة .. المصري من يحب مصر. – ولكن مستر فاولز يؤكد حبه لمصر. فضحك ضحكةً عالية وقال: رجل البورصة الإنجليزي؟! .. ذاك حبٌّ مُغرِض، الحب أنواع كما ترين. فتساءلت باهتمام: حبٌّ مُغرِض؟ – كما نحب البقرة لنستغلها. فوجمت، وكان وجهها مرآةً صافية صادقة، فسألها: ما لك؟ – لا شيء. – لا يجوز أن تتكدَّري هذه الليلة بالذات. – لماذا هذه الليلة بالذات؟ – نويت أن أدعوك للعشاء في بيتي. وبلا تردُّد أعادت الأسطوانة المعتادة أمام هذا النوع من الدعوات: معذرةً .. أنا لا أفعل ذلك. فدهش، صمت قليلًا، ثم قال مُرتبكًا لأول مرة: إنه لأمرٌ مؤسف لي جدًّا، ولكنك رائعة. وجاء مأمون الفرماني عند انتهاء السهرة ليُودِّعه، فقال الشاب: كل شيء طيب ولكن … وضحك ضحكةً عالية يُداري بها ارتباكه، ثم واصَل: ولكن من المؤسف أن سمارة الحلوة لا تُلبِّي طلبات المنازل. سار علي جلال طوال الطريق صامتًا فتوقَّعت شرًّا. وفي الحجرة نفخ وهو يخلع بدلته وقال: غير معقول أن ترفضي النعمة. فهتفت بحدة: نعمة؟! – طبعًا. – إنه الابتذال الرخيص كما سمَّيته. – بل هو ثمين وغالٍ. – أنت تدفعني إلى ذلك يا علي؟ – لصالحك، لصالحنا. – أأنت تحبُّني حقًّا؟ – طبعًا. – إنه حبٌّ مُغرِض. فدهش علي وقال: يا لها من كلمة! – كما نحب البقرة لنستغلها. فما تمالك أن ضحك، ثم قال: حديث السكارى! عليك أن تفهمي الحياة خيرًا من ذلك، الحب في القلب، لا أهمية للجسد، الأغنياء يرون في الحب أنواعًا، أما الفقراء فلا وقت لديهم لذلك، إنهم يُحاربون العناء بكل وسيلة. فقالت وعيناها تغرورقان: إني أرفض. فقال بإصرار: كلا يا سمارة. شلبية ترفض نعم، وتحفظ قلبها لي، أما سمارة فتخوض إلى جانبي معركةً واحدة. انسابت بها الفورد في الطريق المحفوف بالمزارع، في السماء غيمٌ كثير، والريح تنقضُّ بعنف، ولكن الطقس مُعتدلٌ لطيف. دخلا بيتًا خلويًّا صغيرًا في «أبو قير». بدا مروان أمين طيلة الوقت نشيطًا سعيدًا. مضى بها إلى فراندا وهو يقول: لو كانت ليلةً مُقمِرة لسبحنا معًا. – الحمد لله على أنها غير مُقمِرة. – تخافين البحر؟ .. ألست إسكندرية؟ – كلا، من رشيد. – بلدة ذات تاريخ مجيد، إني سعيد بوجودك. – وأنا سعيدة. فرمقها بشيء من الريبة ثم تساءل: لكن الظاهر أنني لم أحظَ بإعجابك؟ – أبدًا، المسألة أنني أفعل ذلك لأول مرة. فقال بصدق: إني أصدقك، البراءة لا تكذب، ولكن هل ساءك ذلك؟ فقالت وهي تغضُّ بصرها: إني سعيدة. في رحاب مروان أمين ظفرت بحنان واحترام ومعاملة رفيعة ونقود وفيرة. إنه أفضل من علي جلال بما لا يُقاس، فلماذا يتعلق قلبها بعلي وحده؟ لا سبب معقولًا واحدًا يدعوها إلى حبه، ولكنها أسيرةُ هواه، وفي سبيله تُضحِّي بكل غالٍ، وهو أيضًا يحبها ما في ذلك من شك، على طريقته أي نعم، ويُشاركها الوحدة والعناء. ولن تنسى قوله ساعة رجوعها من عند مروان أمين أول مرة «أنا لا أستغلك ولكنَّ كلينا يُسلم للاستغلال». وهو أيضًا الوحيد الذي يُناديها باسمها «شلبية»، فتشعر بين يدَيه بأنها هي هي وليست شخصًا آخر. أما مروان فقد احتلَّ من نفسها مكانةً سامية واحترامًا ومودة، وهو بلا شك يعشق جمالها ويهيم بمفاتنها، ويُغدق عليها بسخاء، ويحترمها بطريقة جعلتها تشعر بإنسانيتها لأول مرة. وقال لها مرة: إنك طيبةٌ أكثر من اللازم يا سمارة. فقالت ببساطة: الله مع الطيبين. فجفل قليلًا وتمتم: الدنيا مُتوحِّشة، وقد خُلقنا لنُقاتل. فقالت بدهشة: كيف أقاتل وأنا امرأة ولا أهل لي؟ فتهجَّم وجهه وفتر حماسه، ثم سألها: ماذا جاء بك إلى الفلير دامور؟ فأعادت أسطوانةً حفظتها عن ظهر قلب: سِرتُ من يتم إلى زواجٍ فاشل إلى طلاق، ثم دعاني الفرماني. فقال لها وهو يتنهَّد: ادَّخري كل مليم؛ فلا سبيل إلى النجاة في هذه الغابة إلا بالنقود. أما الإيمان فلا ينقصك. وتوثَّب علي جلال للتجديد بلا توانٍ، اكترى شقةً صغيرة في كامب شيزار بعمارة جديدة، وتبدَّى في مظهر أنيق فلم يبقَ من ابتذاله القديم إلا نظرة عينَيه البرَّاقة المُتحدية. وقال لها: تركت خدمة الباشا. فسألته باهتمام: ألم تتسرَّع؟ – كلا، إني أفكر في مشاركة الفرماني. – دفعةً واحدة؟ – كل شيء يتوقف على اجتهادك. فسألته بأسًى: وتستمر الحياة هكذا؟ – سنبدأ يومًا حياةً جديدة. – متى؟ – عندما نطمئنُّ على مستقبلنا. وابتسم إليها واستطرد: ثم نتزوَّج؟! وثبَت مُتهللةً فتعلَّقت بعنقه وهتفت: آه .. متى يحدث ذلك؟! منذ حديثها الأخير مع مروان أمين لم يُواصِل الشاب ممارسة غرامه معها. قنع بالمجالسة والمؤانسة، وتبادل الاحترام والعواطف الرقيقة، ولكنه لم يضنَّ عليها بجوده وهداياه. ورغم كل شيء لاحظت عليه تغيرًا غير يسير وفتورًا حتى قالت له: لست كسابق عهدك. فقال وهو يبتسم: إني مريض. – كفى الله الشر. – أحتاج إلى جِراحة، سأُجريها في الخارج. – يا لسوء الحظ! – إنني لم أعرف الراحة في حياتي. – ولكنك غني والحمد الله. – ليست مشكلة المال. – عملك شاق؟ – جدًّا. – سأدعو لك دائمًا بالسلامة. – دعاء مُبارَك من قلبٍ طاهر. ثم أخرج من علبة سوارًا ذهبيًّا مُطعَّمًا بفصوصٍ ماسية، أهداه إليها قائلًا: هدية لك لمناسبة السفر. فقالت بتأثر شديد: أنت شابٌّ نبيل، لو كان الناس مثلك ما عرف أحد الشقاء أبدًا. وقال لها علي جلال وهو يتفحَّص السوار باهتمام: لقد أنهى العلاقة بينكما بلباقة وبلا كسر خاطر. فقالت مُعترضةً: لا تُسئ به الظن فإنه لا يكذب. فقال علي بازدراء: الصدق مُحرِج ومُهلِك. أما سمارة فقد حزنت لفراقه، وتمنَّت لو دام لها ليُجنِّبها على الأقل التورط في علاقةٍ جديدة مجهولة. أدركت أن علي — وقد جنى من العلاقة القديمة ما جنى — سيُلقي بها بلا رحمة بين يدَي ذراعَين واعدتين. ومضت تُكوِّن لها شخصيةً فنية مؤثرة وتتوكَّد شهرتها وسِحرها. وهلَّ الصيف برطوبته ورُوَّاده وضجيجه، وازدحم الفلير دامور بالزبائن الجدد، وتكرَّرت المجالسات كل ليلة، والاعتذارات عما عدا ذلك. وطبعًا كان علي يُوافِق على ذلك مُترفعًا عن العشاق «المفلسين» عشاق الليلة الواحدة! واقترح علي أن يدخل شريكًا في الملهى ولكن الفرماني رفض، وفي الوقت نفسه استرضاه فعيَّنه مديرًا للملهى بجنيه يومية في الصيف، ونصف جنيه في سائر العام. وفي أواخر الصيف الثري جاءت أنباء حزينة من وراء البحار تنعى الصحفيَّ الشاب مروان أمين. واهتزَّ قلب سمارة، وغشيها حزنٌ صادق، فتوارت في حجرتها وبكت طويلًا. وفي أوائل الخريف رجع مستر فاولز إلى الفلير دامور، وإذا به يدعو سمارة للعشاء في بيته. وكالعادة اعتذرت. وسعد بذلك سعداوي بيَّاع الفستق، وهمس في أذنها: إنهم أنجاس. غير أن مأمون الفرماني احتدَّ بشدة وقال: كيف ترفضين إنجليزيًّا؟! وسأله علي: أظنه مُقتصدًا كسائر تجار البورصة؟! – إنه يُقدِّم هدايا أثمن من النقود. فقال علي مُخاطبًا سمارة: إنه على أي حال عجوزٌ ولن يُضايقك. مستر فاولز يقترب من الستين، رَبعةٌ ضخم الرأس والوجه، غليظ اليدَين، متين البنيان. يشرب كثيرًا ونادرًا ما يسكر، يعرف كلمات معدودات من العربية يستعين بها على توضيح إشاراته وقت السَّمر أو يمضي الوقت صامتًا. كانت تؤانسه ليالي كثيرة في الفلير دامور، ولكنه لا يدعوها إلى بيته إلا مرة أو مرتين في الشهر. وكان يُقيم في الدور الأول من بيتٍ أنيق يقوم على هضبة فيكتوريا. أرمل وحيد، أولاده في أستراليا، يخدمه نوبيٌّ ومُساعِده، وقد ولع بسمارة، ولانقطاع التفاهم بينهما ظل حيالها رمزًا مجهولًا. وجدت معاملةً لطيفة وأهداها قُرطًا ثمينًا، ولكنها شعرت نحوه بشبه نفور وخوف، ولم تأنس من وجهه الضخم الحاد شعاعَ جاذبية واحدًا. أُعجبت فقط بعمق زرقة عينَيه، وتذكَّرت بلونهما مروان أمين وأيامه الحُلوة. في الصباح ترى البقعة خالية ومُترامية، رقعة منها صحراوية، ورقعة يتناثر فيها النخيل وتُغطِّيها الحشائش. ويقوم البيت الأنيق وحيدًا فوق الهضبة يُصعَد إليه بدرجات منحوتة في الصخر، وهو مُكوَّن من دورَين، يُقيم فاولز في الأرضي المغروس وسط حديقة، أما الثاني فلا يجيء منه صوت، ومرةً رأت في شُرفته عجوزًا مهيبًا فأسرعت في مشيتها كأنما تفر. البيت جميل تحت هامات السُّحب ولكن كأنه ملجأ للعجائز، أما النخيل الفارع المُثقَل بالبلح الأحمر فذكَّرها برشيد، فنسمت على قلبها ذكرى مُبهَمة مُبتلَّة بالدمع. وذات ليلة وجدت في مقصورة مستر فاولز آخَر يُجالسه، قدَّمه لها بنبرته الإنجليزية قائلًا: جاري مهدي باشا جلال. آه، إنه العجوز الذي لمحته في الشرفة، حيَّاها بابتسامة جذَّابة. إنه طويل ضخم الهيكل رغم رقة لحمه، فِضي الشعر والشارب، مُشعُّ العينَين ذو أنف غليظ، وله وقارٌ نفَّاذ. من أول نظرة أنست إليه وشُغفت بأبوَّته الكامنة، يبدو أكبر من فاولز ولكنه مُمتلئ حيويةً وابتسامًا. شرب بكثرةٍ مثل فاولز وتتابعت ضحكاته، حادَث فاولز بلسانه، وحادَثها — طبعًا — بلسانها. صوته عذب أيضًا. قال لها: رقصك جميلٌ مثل وجهك. وفي آخر السهرة تقدَّمها بسيَّارته حتى البيت الوحيد، ثم مضى إلى شقته العليا، فتمنَّت أن يجيء كل ليلة. قالت لعلي جلال وهي تُحدِّثه عن الباشا: لقبه جلال مثلك. فقال باسمًا: إنه أكبر مُحامٍ في الإسكندرية، محترم بين أولاد العرب والخواجات، على علاقة وثيقة بعصمت باشا وخورشيد، كما كان صديقًا للمرحوم مروان أمين رغم فارق السن، غني لدرجة كبيرة، أرمل وبلا ذرية. – إنه جار مستر فاولز، ويعيش وحيدًا مثله. وصمتت قليلًا ثم قالت بدعابة: لقد وقعت في هواه. فقال لها باهتمام: المهم أن يقع هو في هواك. في الليلة التالية مباشرةً شرَّف مهدي باشا جلال، ولم تكن من الليالي التي يسهر فيها فاولز. ودعا سمارة إلى مقصورته فجاءت مُمتنَّةً وسعيدة. رشف من كأسه، ولما رفعت كأسها أوقف يدها برقَّة وهو يقول مازحًا: الشاي مُنهِك للأعصاب. فضحكت، وأدركت من توِّها أنه دائر وابن سوق، فقال: اطلبي ما تشائين، ولكن لا تشربي إلا القدر المناسب. فقالت بصراحة وبراءة: إني سعيدة بالجلوس معك. – مثلك وأكثر، ولكن ما رأيك في فاولز؟ – شخصٌ غريب. – شيطان. – حسبته صديقك. – صديق عمل ليس إلا .. ماذا لو علم بأنك سعيدة بالجلوس معي؟ – لا أدري. – على أي حال فأنت حرة، أليس كذلك؟ فقالت ضاحكة: لم يشترِني بعد. – عظيم، ما جوابك لو دعوتك إلى بيتي؟ – إنه نفس البيت. – لمَ لا؟ وبسرور، وقبل مشاورة علي هذه المرة، قالت بجرأة جديدة: إني أقبل. أحبَّت المسكن، وأدهشتها فخامته. قهقه الباشا وهو يقول مشيرًا إلى أسفل: لا يتصور الحيوان أنك هنا. وشرب كعادته، ونشطت شهيَّتها فأكلت بلذة. ولما ثمل سألها: هل تُغنِّين؟ – كلا للأسف. فوضع في الحاكي أسطوانة وهو يقول: إذَن نسمع «يوم الهناء». وراح يُفرقع بأصابعه مُزيحًا وقاره جانبًا ويقول: كل ما يخفق القلب له عبادة. – هل تُغنِّي أنت؟ – أحيانًا. – إذَن فأسمعني صوتك. – كلا .. أودُّ أن أعطيك خير ما عندي. فضحكت وقالت: أنت رجل ظريف. – أنت ساحرة يا سمارة. فتساءلت وقلبها يمتلئ بحب بريء صافٍ: متى ماتت زوجتك؟ – إنك تتحرِّين عني. حسن، حسن. منذ عشرين عامًا. – ولمَ لم تتزوَّج؟ – حزنًا عليها، وعلى نفسي لأن الله لم يكتب لي الإنجاب. – كنت تودُّ أن يكون لك ولد؟ – إني أُسلِّم بمشيئة الله. فبعد تردُّد قالت: تتحدث عن الله وأنت … فضحك عاليًا، وسلَّط عليها شعاع عينَيه مليًّا، ثم قال: أرجو أن تجيء هدايتي على يدَيك. فوضعت راحتها على يده وقالت: أنا أغضبتك؟! – مُحال يا سمارة، ألا ترَين أني أحبك؟! كان سخيًّا فوق الوصف، وأعلن حبه بطريقةٍ صارخة ودون مُبالاة، فكان يأخذها في سيارته إلى بدرو وأثنيوس وحديقة أنطونيادس. وإذا بمستر فاولز يقتحم عليهما الشقة ذات ليلة. أما هي فركبها الخوف، وأما مهدي باشا فقد ضحك وهتف به: هالُّو فاولز. ولكن الآخر وقف مُتجهِّم الوجه غيورًا حانقًا. رطنا بما لا تفهمه ولكنها توقَّعت شرًّا. بدأ الحوار بدرجة مُنخفضة ومضى يعلو ويشتد. تصلَّبا مُتواجِهَين في تحدٍّ. عجوزان يتطاحنان على امرأة. وإذا بفاولز يُوجِّه لطمةً إلى صدغ الباشا، وإذا بالباشا ينهال عليه باللطمات. وصرخت سمارة. وتراجع فاولز فثبت الباشا في موضعه. ذهب الرجل وجعل مهدي جلال يلهث، فأخذته سمارة من ذراعه إلى ديوان وأجهشت في البكاء. صارت له وحده في حياتها الأخرى. تمنَّت أن يبقى إلى جانبها حتى آخر العمر؛ ذلك الأب الذي جادت به عليها السماء. وسألها مرةً كما فعل مروان أمين من قبل: ماذا جاء بك إلى الفلير دامور؟ فقصَّت عليه القصة المحفوظة، فقال بحنان: لا داعي للخيال. – ألا تُصدِّقني؟ – لعن الله من لقَّنك الكذب. فغلبها الحياء وسكتت، فقال: عرفت حكاية سراي عصمت خورشيد، وعلي جلال. ازدادت صمتًا وحياءً، فاستطرد: إنه يستغلك بدناءة. – كلا .. إنه يُحبُّني. – وأنت، أتُحبِّينه؟ فلاذت بالصمت، فقال: إنه لا يستحق حبك. – الحب وحده لا يكفي. – أنت مشكلة يا شلبية. – إنك تعرف كل شيء. – إني مُحامٍ عجوز. – إني أحبك أيضًا. – وكانت أمي اسمها شلبية. – أنت فلَّاح؟ – طبعًا، ليس كل باشا بعصمت خورشيد. – إني وحيدة. – أنت؟! كلا، إنك أقوى مني، وأقوى من فاولز، أقوى من أي عاشق. العاشق ضعيف، أما المعشوق فقوي، ولكن ما جدوى الحب إذا لم أردَّ إليك كرامتك يا زينة النساء؟! وذات ليلة وهو ثملٌ لثم عنقها وتساءل: هل تُوافقين على الزواج مني؟ ذُهلت. سحرتها الكلمة المقدسة. طرب قلبها حتى السحر، ثم سرعان ما ورث الأسى كافة مشاعرها. راقبها صامتًا ثم تساءل: علي جلال؟! فلم تنبس، فرنا إليها واجمًا حتى تمتمت: إنك أجمل ما في حياتي. – إني شيخٌ فانٍ وهو رجل شابٌّ، ولكن لا تُسلِّمي باستغلاله لك كأنه قضاء وقدر. – إني أتمنَّى السعادة ولا يهمُّني المال. – لا أدري كيف أكافئك على ما وهبتني من سعادة، والحق أنني ما أردت الزواج منك إلا لترثي تركتي التي لا وريث لها. فقالت بإخلاص: حياتك عندي أغلى من التركة. – فقال بأسًى: إني أحترم الحب وأقدِّس الإخلاص؛ فلا بأس عليك، ولعلي أجد طريقةً أخرى لمكافأتك يا شلبية. أسعد أيام حياتها. تمتَّعت بالاحترام والحب ما شاء لها التمتع، وضاعفت العلاقة — مقرونةً بما نشب حولها من عراك بين الباشا وفاولز — من شهرتها الفنية، وأضفت عليها احترامًا لم تعرفه من قبل. وكان علي جلال يستحثُّها دومًا على انتهاز الفرصة والإفادة من العلاقة ما وسعتها الحيلة، ولكنها كانت تأبى ذلك، وفي الوقت نفسه لم يُقصِّر الرجل في إغداقه. وكثيرًا ما قال لها علي: ألا تُدركين أنه يترنَّح على حافة القبر؟ فكانت تغضب وتحتدُّ وتدعو له بطول العمر، وتقول: ما عرفت أبًا قبله. ولكن الحب مهما بلغ من قوته وصفائه لا يستطيع أن يدفع الحتم؛ فقد مضت صحة الباشا في التدهور حتى اضطُرَّ إلى اتخاذ قرار نهائي بتصفية عمله والإقامة في الريف. وكان وداعٌ مؤثر، أهداها هديةً ثمينة عقدًا من الذهب ذا فصوص ماسية، وقال بتسليم: اليوم أو غدًا، لا مفرَّ من النهاية، وسيكون لك في وصيَّتي ما أستطيع أن أوصي به، وعليك أن تحتفظي بها لنفسك حتى تملكي استقلالك، وتضمني حياة حرة كريمة. ودَّعته وهي لا تراه من فيض الدمع الصادق. وأصرَّ علي جلال على مشاركة مأمون الفرماني، وخشي الرجل أن يُنفِّذ علي تهديده بفسخ عقد سمارة فقَبِله شريكًا بثمن العقد، وفي الحال تجدَّد الملهى، فدُعم بمطبخ شرقي وغربي وكافيتيريا، وطُلِي من جديد، كما تجدَّد أثاثه. سُجِّل عقد المشاركة باسم علي جلال، وظلَّت هي لا تملك شيئًا إلا الحب، أو لا تملك إلا ما أتقنته من هز البطن والصدر والرقبة. وسألت علي جلال: أما آن لنا أن نتزوج؟ فداعَب خدَّها برشاقة وقال: ما زلنا في أول الطريق، الملهى لا يعمل بكامل قوته إلا ثلاثة أشهُر، أما بقية العام فهو مثل سفينة في مهب العواصف والأمطار لا يأوي إليها إلا طلاب الدفء والستر. – وما ضرر الزواج؟ – إنك ساذجة، لو حازك وجيه وأنت على ذمَّتي لأمكن أن أتعرَّض لتهمة خطيرة تزجُّ بي إلى السجن. – لم نعد في حاجة إلى هذه العلاقة. – ما زلنا في أول الطريق، هل شيَّدت عمارة مثل أمينة الفنجري؟! – يا خبر! .. إنه طريق بلا نهاية. – بل له نهاية، وهي قريبة، ولكنها تُطالبنا بالصبر والعمل. وتجلَّت في سماء الفلير دامور سحابةٌ سوداء؛ فذات يوم غزا الملهى عمرو عبد القوي مُفتِّش الضرائب. شابٌّ في الثلاثين جادُّ المظهر قويُّ الجسم، يهزُّ منظره المُتهربين من أعماقهم. راح يفحص المستندات ويُقيِّد ملاحظاته ثم ذهب. غاص قلب علي جلال في صدره، ولكن مأمون الفرماني قال له: لا تخَف، كل إنسان وله ثمن. وتحرَّى عن المفتش الجديد عند بعض رجال الأعمال في الحي، رجع عصرًا وهو يقول: الولد نزيه، سنلقى متاعب لا شك فيها. فقال علي جلال: لاحظت أنه نظر إلى سمارة بإعجاب. فقال الفرماني: هذا هو الأمل الأخير. وجاء عمرو عبد القوي ليتلقَّى الإقرار. جلس في مقصورة ليُطالعه، وبإشارة من علي جلال جلست سمارة على مقربة من المسرح بحيث يراها المُفتش. ولما كرَّر النظر نحوها ابتسمت في حياء، ثم مضت إليه وهي تقول: أتريد شيئًا في أثناء عملك؟ فابتسم عن فمٍ عريض مُتمتمًا: خطوة عزيزة. فجلست قائلة: نحن أصحاب المكان وعلينا إكرام الضيوف. – مُفتش الضرائب ليس بضيف. – نحن نُحبُّ الناس كما ترى. – ولو كانوا من رجال الضرائب؟! – ولو كانوا … فواصَل مطالعته وهو يُتمتم: عذرت الآن فقط مهدي باشا جلال. فقالت مُحتجَّةً ولكن بعذوبة: عفا الله عن الناس، كان لي أبًا ولكن الناس لا يرحمون. فارتسمت في عينَيه اللوزيَّتين ابتسامةٌ ماكرة وتساءل: أب؟ – صدِّقني. – لقد عرف كيف يختار ابنة فريدة. فقالت بتواضع: لست إلا فلَّاحة من رشيد. فتجلَّى الاهتمام في عينَيه، وهتف: رشيد؟! أنا أيضًا من رشيد. أسرة من؟ – لا .. لا .. على باب الله. فقال مُقهقهًا: أنا من نفس الأسرة. ثم انهمك في عمله، واستدعى مأمون الفرماني وقال: المغالطات كثيرة، ولكن لا مفر. عند ذاك قالت سمارة: أي معاملة بين أفراد الأسرة الواحدة؟! فحدجها بنظرة قوية وقال: العمل مُقدَّس مثل الصلاة. تمَّت المحاسبة في جو شديد التوتر، عمل الفرماني المستحيل ليتملَّص من قبضته ولكنه لم يُفلِح. قال له عمرو بحزم: عندك محكمة الضرائب إذا شئت. ومُنِي الملهى بخسارة فادحة على حد قول علي جلال. وبكل جرأة جاء عمرو ليسهر سهرةً شتوية هادئة. كانت ليلةً مُعتدلة صافية جاءت في أعقاب نوة عاصفة أغرقت المدينة وأغلقت البوغاز. وكلما آنس من الوجوه تجهمًا مرح ودندن واندمج في المشاهدة، ثم بلغ القمة عندما طلب سمارة للمجالسة. وقال لها سعداوي المُحبُّ الأبدي: اذهبي، إنه واجبك. وذهبت مُتحديةً، جلست وهي تقول: تقتل القتيل وتمشي في جنازته. فقال بسرور: إني مُعجَب بك يا رشيدية. – إنك مُرعِب. – على المُتهربين. تأخذون أموال الناس! .. بأي حق؟! فتجاهل نقاشها وقال بحرارة: لا أحب الطرق المُلتوية، فلنقصد الهدف رأسًا، إني أدعوك للعشاء في شقَّتي المُتواضعة بكامب شيزار. – أنت في كامب شيزار أيضًا؟! – مسكنك هناك؟! عظيم، من رشيد إلى كامب شيزار. أصبحت الموافقة حتمية. – ولكني لا أقبل الدعوات الخاصة، ألم تسمع عني؟ – سمعت عن مروان أمين وفاولز ومهدي جلال. – أنت مُخبِر؟! – إنك ترفضين الموظفين الصغار وبخاصة إن كانوا نزيهين. فقالت برجاء: لك جانبٌ دمث وآخر خشن، وقد جئت لمجالسة الدمث. وتفكر علي جلال وقال: إنه لا يُساوي شيئًا، إني أعرف مدَّعي الشرف أكثر مما يعرفون أنفسهم. وجاء عمرو في نهاية الأسبوع. كانت الليلة صامتة ولكنها شديدة البرودة. ارتاحت لمجيئه ارتياحًا أدفأ أعماقها. أدركت أنها تهبه شعورًا جديدًا لم تشعر به نحو مروان أمين النبيل المُتباعد المُترفع، ولا نحو مهدي جلال لطعونه في السن، إنه شعورٌ جديد، وهو أول مُنافس حقيقي لعلي جلال. عجبت لذلك فماج قلبها خوفًا مُبطَّنًا بسرورٍ خفي. عمرو قريب جدًّا وأليف جدًّا، ينبض في جذورها الرشيدية، وهو يُصرُّ على المجيء مُتحديًا الجفاء المحيط من أجلها هي، وهو مُثير للإعجاب بقوته وتحدِّيه. وهمس علي جلال في أذنها: لا تُلبِّي إذا طلب. هل استشعر باطنه خوفًا؟! ماذا عليها أن تفعل هي التي لم تُخالِف له أمرًا؟ إنها تُضمِر العصيان لأول مرة في حياتها. وتذكَّرت كلمات مهدي باشا عن الاستقلال والكرامة. ماذا يريد علي منها أكثر مما أخذ؟ ها هي لأول مرة أيضًا تُحاسبه. وحلَّت اللحظة الحرجة، فجاء الجرسون يُبلغها الدعوة. لاحظت أن سعداوي يُراقبها بقلق؛ ذلك المحب القديم الصامت، دنا منها وهمس: لا تذهبي. فتساءلت: لماذا؟ .. ألم تقل إنه واجبي؟ – ولكن سيقع شرٌّ لا مفرَّ منه. وذهبَت بلا تردد، وجلست وهي تشعر بأنها تستقبل حياةً جديدة، وإذا بعلي جلال يقتحم المقصورة ويأمرها قائلًا بفظاظة: اذهبي. حدجه عمرو بنظرة قاسية وقال: عليك أنت أن تذهب. فلم يُبالِه، وكرَّر أمره لسمارة: اذهبي. – ولما لم تتحرك هوى بكفه على وجهها. وثب عمرو فوجَّه إليه لكمةً صادقة، سرعان ما اشتبكا في صراع مُخيف كنمرَين. وجاء مأمون الفرماني وسعداوي والجرسونات. لم يُفلِح أحد في الفصل بين المُتعاركين حتى تهاوي علي جلال على الأرض؛ فعند ذاك رفع سعداوي كرسيًّا ليضرب به الشاب، غير أن سمارة صاحت به: ارمِ الكرسي من يدك يا سعداوي. وقف سعداوي ينظر إلى عمرو ولا يقول شيئًا وقد اصفرَّ وجهه من شدة الغضب. وقبض عمرو على يدها وهو يلهث ثم قال: لا يجوز أن تبقي هنا بعد الآن. كانت غاضبة وحزينة فمضت معه كأنها في حلم .. تترك الفلير دامور وتهجر الرقص؟! هل يمكن أن تتغير الحياة في غمضة عين؟ لم تُحبَّ حياتها الماضية، ولكنها لم تُبغضها أيضًا لما أملتها في تحقيق الحياة المستقرة التي تهيم بها. خرجت منها كما دخلتها فقيرة لا تملك مليمًا. استقرَّت في شقة صغيرة مُتواضعة على مَبعدة دقائق من شقتها الأولى. ولأول مرة تحكي قصتها بلا أكاذيب. وقال عمرو أول ما قال: لم تخسري بمجيئك شيئًا؛ فقد كنت طيلة الوقت منهوبة. فقالت بصدق: ما اهتممت أبدًا بالنقود، وما تطلَّعت إلا للحب والاحترام. فقال ضاحكًا: عندي منهما الكثير، ولكن لا مال لي إلا مُرتَّبي المحدود. – لا أهمية لذلك عندي. فقال بحرارة: وبالصدق والأمانة أُصارحك بأني أحبك. ومضت الحياة عذبة، غير أن علي جلال قابَل رئيس المصلحة وادَّعى أن عمرو طالَب برشوة، ولما رفض سعيه افتعل مشاجرة ثم خطف راقصة الملهى. لم يُسفِر التحقيق عن شيء، ولكنه أساء إلى سمعة عمرو عبد القوي حتى اضطُرَّ إلى أن يعلن رئيسه بأنه أخذ الراقصة حقًّا ولكن ليتزوَّج منها. وبالفعل عرض الاقتراح على سمارة وتم عقد القران. ورغم ذلك صدر قرار بنقله إلى الصعيد، فثار عناده وقدَّم استقالته. إنها لخطوة جنونية، ولكنه وجد عملًا في مكتب محاسبة حتى يمكنه الاستقلال بالعمل. سمارة كانت السعيدة الفائزة، لقد تحقَّق حلمها الأبدي في الزواج، وسعدت سعادة لا مثيل لها، غير أنها سألته: هل تورَّطت يا عمرو في الزواج مني؟ فقال بقوة: أبدًا .. الظروف سبقت، هذا كل ما هنالك، ولكن نيتي كانت صادقة. وازدهرت سمارة كالوردة المُتفتِّحة. وتتابعت الأيام مُتألقةً بالبهجة، ومع أنه كان شتاءً قاسيًا كثير العواصف والمطر إلا أنها سعدت به وهي تُشاهده لأول مرة من وراء الزجاج دون اضطرار إلى الخروج اليومي والسهر. أصبحت بمأمن من عواصف الحياة وأمطارها، واستوت العاصفة والأمطار في وعيها رمزًا للجود والبهاء. وفي ذلك الشتاء انتقل مهدي باشا جلال إلى جوار ربه، وقد أوصى لها بمبلغ عشرة آلاف من الجنيهات. هبطت الثروة من السماء وقد بكت الراحل طويلًا، ولكنها تمالكت نفسها لدى عودة عمرو، وقالت له: صِرنا أغنياء يا عمرو. ولكنه عبس وقال: كيف فعل ذلك لامرأةٍ مُتزوِّجة؟! – من أين له أن يعلم بزواجي؟ فقال بازدراء: ولو! قالت بصدق وحرارة: كان أبي يا عمرو، صدِّقني. – كانت سمعته الخاصة سيئة. – رعاني وهو في السبعين. – ولو .. كان رجلًا سيئ السمعة. فاغرورقت عيناها وقالت: لو عرفته بنفسك لكان لك فيه رأيٌ آخر. فقال بحدة: أني أكره هذه الدموع. – أتريد أن أرفض النعمة؟! .. إنك فقير، وفي بطني جنين. فغادَر الحجرة وهو يُدمدم، لكنه لم يُدلِ برأي حاسم. لو أراد الرفض لجهر بذلك وهو لا ينقصه الصراحة. هكذا احتفظت بالمال الموهوب. سعدت سمارة بزوج يحبها حقًّا، زوج مُفعَم بالرجولة والفحولة والشهامة والعطف. ولم يُكدِّر صفوَها شيءٌ من العادات البالية؛ إذ كان بلا أهلٍ مثلها. ولا شك أنه كان نشيطًا في عمله، فما لبث أن فاق دخله مُرتَّبه السابق، غير أن الأيام كشفت لها عن عيب أو عيبَين جوهريين فيه؛ إنه شديد الغضب، وغير مُتسامح. وإذا غضب أفصح عن غضبته بالكلمة والفعل. في مرة، عند خروجها من سينما رويال لمح شابًّا يُغازِل فتاةً بقحة، فما كان منه إلا أن لطمه، ثم فعل به ما سبق أن فعل بعلي جلال. ارتعبت وقتها وقالت له: بالغت في العنف، وكان القليل يكفي. فقال لها بانفعال: إنها اللغة الوحيدة المُجدية. – لقد كنت على حق، ورغم ذلك فقدت عطف الناس. – لا يهمُّني الناس. ولكن ثَمة عيب آخر بدا خطيرًا فتَّاكًا؛ ذلك ولعه بالقمار. ما إن انقضى شهر العسل حتى كُشِف سره. كان يُقامر في شقة بالإبراهيمية، يسهر حتى منتصف الليل، ويمتدُّ السهر أحيانًا للفجر. قالت له برجاء: صحتك ومالك. فقال بأسًى: لكل إنسان عيبُه. – ولكن هذا العيب قد يخرب بيتنا. فقبَّلها وهو يقول: لا تُبالغي، ثم إني محظوظ. ولكنه كان يخسر أيضًا، ومرةً رجع مدينًا بمبلغ جسيم أخلَّ بميزانه، فقالت له: عليك أن تُسدِّد الدين مهما كلَّفنا ذلك. وأعطته من هبة مهدي باشا جلال، فتقبَّلها بوجهٍ واجم ونفسٍ مُنكسِرة حتى أثار عطفها. وواصَل اللعب، وانقلب عليه الحظ حتى أتى على التركة كلها، واسودَّ وجه الحياة. ووُلد أحمد في ذلك الجو المُتجهِّم. وقال لها ليلةً عقب عودته من الإبراهيمية: مصادفة سيئة جدًّا. – ليحفظنا الله. – انضمَّ إلى مائدتنا علي جلال. فانقبض قلبها وتساءلت بقلق: مصادفة؟! – طبعًا. – وهل ذهب إلى هناك كل ليلة؟ – يبدو ذلك. – قلبي غير مطمئن. – المائدة تجمع بين خير الناس وأسافلهم. – إنه سبب كافٍ لكي تُقلِع عن هذا الداء الوبيل. فلاذت بالصمت. وتوكَّد لديها أن ما تتمنَّاه حُلمٌ بعيد المنال، فتنهَّدت قائلةً: طالما حسبت نفسي أسعد امرأة في الوجود. فقهقه قائلًا: وإنك لكذلك يا جاحدة. فقالت بنبرة باكية: إني تعيسة يا عمرو. ومضت الأيام في قلق وتوتر حتى صدقت مخاوف قلبها، بل جاءت الأحداث أسرع مما قدرت؛ ففي ليلة احتدم التناحر ما بين عمرو وعلي فانتهى إلى غايته المحتومة وهي الشجار، وتراجع علي جلال أمام ضربات لا قِبل له بها، فاستلَّ مِطواة طعن بها قلب خصمه فتهاوى فاقد الحياة. هكذا اختفى الرجلان اللذان أحبَّتهما في ليلةٍ واحدة، ذهب أحدهما إلى القبر والآخر إلى الليمان. وجُنَّت المرأة من الحزن. وجدت نفسها وابنها في دنيا خالية. فقدت الحب والأمان. ناءت تحت عبء مسئوليَّتها الكاملة عن وليدها ونفسها، وخاصةً وليدها، ابن الرجل الذي أحبَّته، الذي قرصته حشرة فقوَّضت بنيانه. وانشقَّت الظلمات — ذات يوم — عن وجه سعداوي بيَّاع الفستق. أثار في قلبها مكامن ذكريات جميلة وأخرى مُحزِنة، ولكنها وجدت نحوه امتنانًا لا شك فيه، وتلقَّت مواساته الصادقة بمودة وأسًى، ثم وضح أنه جاء من أجل هدف أدلَّ على صدق عواطفه من المواساة وحدها. قال: مأمون الفرماني على أتم استعداد لاستقبالك. ولكنها قالت بوضوح: لن أرجع إلى تلك الحياة يا سعداوي. فقال الرجل بحماس: وعدٌ عليه حق؛ ألَّا يُطالبك بما لا ترتضينه. فقالت بإصرار: أصبحت اليوم أمًّا، وعليَّ أن أصون سمعة ابني من الآن فصاعدًا، ومن حسن الحظ أنني أخفيت هديةً ثمينة أهدانيها المرحوم مهدي باشا جلال، وبها يمكن أن أبدأ بدايةً جديدة تُمكنِّني من تربية ابني كما أريد. ارتسم الترحيب في وجه سعداوي وتمتم: ليَكُن، إنه أفضل على أي حال، وستجدينني في خدمتك على الدوام. جلس الرجل يرنو إليها ولا يزيد، ولكن نظرة عينَيه باحت بأكثر مما قال، كأنما تبتهل إليها أن تؤمن بأنها ستجد دائمًا من يتذكرها عند الشدة، ومن يحبها حبًّا صادقًا.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/19069697/
الحب فوق هضبة الهرم
نجيب محفوظ
«عرفتُ الحبَّ لأول مرة في حياتي. إنه كالموت تَسمع عنه كلَّ حين خبرًا ولكنك لا تعرفه إلا إذا حضَر. وهو قوةٌ طاغية يلتهم فريستَه، يَسلبُه أيَّ قوةِ دفاع، يطمس عقله وإدراكه، يصبُّ الجنونَ في جوفه حتى يطفح به. إنه العذاب والسرور اللانهائي.»‏استطاع «نجيب محفوظ» أن يَرصُد في كثيرٍ من أعماله كثيرًا من التحوُّلات السياسية والاقتصادية وتأثيرَها على الحياة الاجتماعية، وقد تضمَّنت هذه المجموعة القصصية التي كتَبها في نهاية السبعينيات من القرن الماضي كثيرًا من التغيُّرات الاجتماعية التي شَهِدها المجتمع المصري عَقِب الانفتاحِ الاقتصادي وبدايةِ تفتيت الطبقة الوسطى، وتوضح كيف أصبح المال هو القِيمةَ العليا في المجتمع، بينما صار العلم عِبئًا على صاحبه. تجلَّى هذا الوضع في قصة «الحب فوق هضبة الهرم» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث عبَّرت عن التحوُّلات العنيفة للمجتمع من خلال أزمة «علي» و«رجاء»، وصعوبة زواجهما بسبب سوء الوضع المادي ﻟ «علي». ومن أروع قصص المجموعة قصةُ «السماء السابعة»، التي يأخذنا فيها «محفوظ» بانسيابية إلى عالَم الأرواح، فنفتتن بخياله ونَهِيم في عالَمه. بالإضافة إلى غيرهما من القصص التي عبَّرَت عن مختلِف الهموم الإنسانية.
https://www.hindawi.org/books/19069697/6/
صاحب الصورة
اختفى شيخون محرَّم. كان اختفاؤه حدثًا هزَّ المجتمع هزةً عنيفة. كان رجلًا مرموقًا، ذا نشاط مالي عريض، وله في السياسة وجودٌ راسخ وأثر، وفي دنيا الإحسان والخير أيادٍ بيضاء، إلى سمعة طيبة ذات رائحة زكية. غادَر سراياه في أصيل يوم قاصدًا النادي، ثم اكتشفت أسرته — المُكوَّنة من حرمه سريرة هانم ووحيده عيسى — أنه لم يعد. انزعجت الأسرة أيَّما انزعاج؛ إذ لم يسبق أن شذ الرجل عن جدول مواعيده بلا إخطار. اتصلت الهانم برفقائه في النادي، فأجمعوا على أنه لبث بينهم ساعةً واحدة ثم انصرف ليزور — على حد قوله — شقيقه محمود محرم في سراياه بالزمالك. وفي الحال اتصلت الهانم بمحمود محرم، ولكن زوجته أجابتها بأن زوجها في رحلة في البحر الأحمر يرجع منها مساء اليوم، وأن شيخون لم يزُرهم منذ أكثر من أسبوع. وشهد سائق السيارة بأن الرجل غادَر النادي، أمره بالانتظار في موقفه ثم مضى مشيًا على الأقدام، وأنه لزم موقفه حتى شقشق الصبح. وبدأ بحثٌ شاقٌّ ملهوف على شيخون في جميع مظانه؛ عند جميع الأصدقاء والزملاء، في الإسكندرية وفي العزبة، فارتطم دائمًا بخيبةٍ مُرة، فاشتعلت الأفئدة بالقلق والوجل، وتجمَّعت سُحبُ الظنون. ووفد على سراياه الأهل، وفي مقدمتهم شقيقه محمود محرم، والأصدقاء والمعارف، وتداولوا الأفكار والحلول، وقالت سريرة هانم: لو كان بخير لاتَّصل بنا. واستقرَّ الرأي على إبلاغ الجهات الرسمية. عند ذاك اتخذ البحث مجرًى جديدًا فشمل الأقسام والمستشفيات، وازداد اللغز انبهامًا، والتشاؤم استفحالًا، وكأن الرجل رائحة وتلاشت في الكون. وتلاحقت الأيام .. فتجسَّد الاختفاء صخرةً سوداء لا تتزحزح، يتحطم عليها الأمل. لقد اختفى شيخون محرم كأنه لم يكن. وجاء دور التحقيق والتحريات، ولكنه لم يُسفِر عن جديد أيضًا، فلا عداوة ولا سرقة ولا شبهة سبب ما قد يُفضي إلى جريمة. وخلَت سريرة هانم إلى ابنها عيسى وهي في غاية من اليأس، وقالت له: لم أُدلِ بكل ما عندي في التحقيق. فرنا إليها الشاب ذاهلًا وتساءل: أعندك مزيد؟ – قلتِ إني لا أعرف لأبيك عدوًّا. – هذا حقيقي. – كلا. ثم مُواصلةً حديثها بعناد: عمك. – لا .. لا .. المسألة أنك دائمًا تُسيئين به الظن .. ليس لديك دليل واحد. – لديَّ قلبي. – لا يكفي. إنك تكرهينه. – لا لشيء إلا لأنه كره أباك. – لا أُوافقك على ذلك، كانت العلاقة بينهما دائمًا مثالية. – في الظاهر فقط، وعمك مُجرِم، ألم تسمع بما يُقال عن ضحاياه في الريف؟ – ذاك أمرٌ آخر. – إنه مطبوع على الإجرام. – كان يحب أبي وأبي يحبه. – قلبي لا يكذبني. كنت أقرأ في عينَيه أحيانًا ما يُخيفني، إنه ينفس على أبيك نجاحه وثراءه. – عمي ليس بالفقير. – هنالك سر لا تعرفه، لقد واجهت عمَّك خسارةٌ أوشك أن يبيع بسببها أرضه لولا أن أسعفه أبوك، أسعفه بلا عقد. أنت تعرف شهامة أبيك، ولكن الدين ثقيل ولا حجة عليه. فتأفَّف الشاب وقال: المسألة أنك سيئة الظن بعمي. – المسألة أنك مُصرٌّ على حسن الظن به. – هذا هو الأصل. – آخر ما سمعنا عن أبيك أنه ذهب للقاء عمك. – ثم ثبت أن عمي كان في رحلة مع صحبه. – طالما قتل عمك الأبرياء وهو بعيد عن موقع الجريمة. – أساطير لا دليل عليها .. لماذا تكرهينه؟ – قلبي، ألا تؤمن بحديث القلب؟ – كلا، لا أومن إلا بالمحسوس. – هذا يعني أنك لا تؤمن بشيء. – هل فاتحت أبي بظنونك؟ – لم يُصدِّق لصفاء سريرته. – أرأيت؟ – ولكنه اعترف لي بخلافٍ نشب بينهما قديمًا. – هذا حال الناس جميعًا. وكانت الأم أصلب مما تصوَّر ابنها، فأفضت بظنونها إلى المُحقِّق. وكان خَطبٌ وفضيحة، وجرى تحقيقٌ دقيق مع محمود محرم، ولكنه لم يُسفِر عن شيء. تزعزع الأساس الذي يستند إليه فرعا الأسرة الواحدة، وطالبت سريرة بالقرض الذي اقترضه من زوجها، فكان جواب العم أنه سدَّده، وأنه لم يكن بينه وبين شقيقه تعامل رسمي. وزاد ذلك من سوء ظن المرأة، ولكن العجيب أن محمود محرم بقي على ولائه لذكرى شقيقه، بل إنه استدعى عيسى إلى مقابلةٍ خاصة في النادي وقال له: أسباب الغضب متوافرة لديَّ، ولكني مُصرٌّ على الإبقاء على أواصر القربى، فتذكَّرْ دائمًا أنني عمك، كما أتذكَّر دائمًا أنك ابن أخي. وتواصلت الأيام، ولحقت بها الأشهُر ثم الأعوام، انتهى شيخون محرم! غير أنه عاش ذكرى حية في ضمير سريرة هانم، ذكرى حية لا تموت. لم تتعزَّ أبدًا، لم يفتر حبها له، لم تيئَس من أن يستقيم عود العدالة المعوجُّ ذات يوم. وكثيرًا ما كانت تقول لابنها: أبوك يُطالبنا بالعدل ونحن عنه لاهون. وكان عيسى قد حل محل أبيه في الإدارة، فشغله العمل عن كل شيء، وشغلته الحياة أيضًا بمسرَّاتها اليومية، فكان يتجنَّب مناقشاتها ما وسعه ذلك. ويُثيرها بُروده فتهتف: ألا ترى أني لم أذرف حتى الآن دمعةً واحدة؟! فيقول برقَّةٍ ما أمكنه ذلك: ما هكذا يلقى العقلاء النوائب. – أتراني مجنونة؟ – أمي. فتقول بأسًى: لم ترث إلا أملاكه. وحلَّت الكارثة الكبرى عندما قال لها يومًا: أمي افتحي لي صدرك. فرمقته مُتوجسةً، فقال: قرَّرت أن أتزوَّج من سميحة. بُهتت المرأة. اصفرَّ وجهها. ارتعشت أطرافها. قال بضيق شديد: الأمر بسيط جدًّا لولا ظنون لا أساس لها. فقالت بفزع: طالما توقَّعت ذلك، طالما توقَّعته كأنه الموت المحتوم. فابتسم في امتعاض شديد دون أن ينبس، فتمتمت بمرارة: ابنة قاتل أبيك؟ فقال برقة: ابنة عمي. تقوَّست المرأة في جلستها من شدة الألم، ثم قالت بحدة صارمة: إنه الفراق الأبدي بيني وبينك. وهاجرت من المدينة إلى القرية، عاشت في السراي الصغيرة في وحدة عميقة، وتركَّزت طيلة الوقت في هواجسها. وكان صوتها يُسمَع وهي تُحاوِر نفسها بلا انقطاع. غرقت في الضياع الذي ذاب فيه زوجها المحبوب. وتزوَّج عيسى من سميحة. أصرَّ عمه على أن يذهبوا جميعًا إلى القرية ليُقدِّموا فروض الود ويستوهبوا الرضا، ولكنها أبَت أن تلقى أحدًا منهم، ومضت تُردد: ها هو ذا القاتل يُحقق هدفه ويصبُّ ثروة ضحيته في ذريته. واستفحل العذاب بالأم حتى مزَّق وحدتها. وفي مِحنتها الطاغية أخذت ترى المأساة خلال أبعاد جديدة وافدة من المجهول. تألَّق في باطنها إلهامٌ مُتوثِّب بأن الأشياء تُخلَق من جديد، وطرَق أُذنَيها همسٌ مُضيء دعاها إلى تلبية نداء خفي. تلاشى إيمانها بالجريمة فتبخَّر اليأس وزال، وإذا بها تخرج من عذابها إلى الناس، تمضي في وقارٍ ظاهري وبيدها صورة شيخون. وكلما صادَفها شخصٌ عرضتها عليه مُتسائلةً وهي تنتظر أن يجيئها الجواب الشافي في يوم من الأيام. لم تسأم من تَكرار السؤال، ولم يُثبِّط همتها النفي، وترامت أخبارها إلى عيسى ففكَّر في اتخاذ إجراء حاسم، ولكنه اكتفى بعد تدبُّر ومراجعة بتكليف أحد أتباعه في القرية بحراستها من بعيد. وتتابعت خطوات الزمان وهي مُصرَّة على بحثها العقيم، وتقدَّم بها العمر فلم تهمد ولم تخمد. ••• وبعد دهر فريد. كان عيسى يجلس في السلاملك ذات أصيل عندما رأى عجوزًا يتسلل إلى السراي مُتوكئًا على عصاه، رنا إليه مُقطِّبًا بادئ الأمر، ثم اجتاحه الارتياع والذهول فوثب نحوه وهو يهتف: أبي! حمل ما بقي منه بين يدَيه ومضى به إلى فراش، وسُرعان ما استدعى الطبيب. لم يكن به مرض، ولكن أنهكته الشيخوخة والضعف. وما إن استلقى فوق الفراش حتى تخلَّت عنه قُوى المقاومة فتبدَّل شخصًا آخر. ولما استيقظ من نوم عميق ظنَّ عيسى أنه استردَّ عافيته، فسأله بشغف: أين كنت يا أبي؟ .. ماذا غيَّبك ذلك الدهر الطويل؟ ولكنه لم يُجِب، بل كأنه لم يسمع، وهوَّم في آفاقٍ بعيدة، ورجع عيسى يسأل من جديد، ولكن الأب لم يُبالِه، وتمتم كأنما يُخاطِب نفسه: الجبال الخضراء. فسأله باهتمام: أكنت في الخارج؟ فمضى العجوز في حديثه الباطني: والبحيرات الزرقاء. – أين يا أبي؟ فهمس مُتنهدًا: وعش الحب والعناء؟ فهتف عيسى في أسًى: لقد فقدت أمي عقلها. فعاود الهمس مُتمتمًا: عش الحب والعناء! ••• ويئس عيسى من الاتصال به، ولكنه قرَّر أن يجمع بين أبيه وأمه، وأمل من وراء ذلك في الشفاء. وجيء بالأم رغم إرادتها حتى بكت، ولما أجلسوها أمام الراقد فوق الفراش كفَّت عن البكاء. خفق قلب عيسى بالترقب .. ولكن لم يحدث شيءٌ ذو بال. لم يتبادل الزوجان نظرة عتاب أو فرح أو حزن. ترامقا كأنها ينظران في فراغ. غاص كلٌّ منهما في دنيا لا علاقة لها بدنيا الآخر، كأنه لم يعرفها وكأنها لم تعرفه. تفشَّى في الجو توجُّس وأسًى عميق. شعر عيسى بأنه مجهول الأبوَين. وقامت الأم كأنما ضاقت بالجلوس. اقتربت من الفراش حتى لامسته، ثم بسطت الصورة أمام عينَي العجوز، وطرحت سؤالها الخالد: هل تستطيع أن تدلَّني على صاحب هذه الصورة؟!
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/19069697/
الحب فوق هضبة الهرم
نجيب محفوظ
«عرفتُ الحبَّ لأول مرة في حياتي. إنه كالموت تَسمع عنه كلَّ حين خبرًا ولكنك لا تعرفه إلا إذا حضَر. وهو قوةٌ طاغية يلتهم فريستَه، يَسلبُه أيَّ قوةِ دفاع، يطمس عقله وإدراكه، يصبُّ الجنونَ في جوفه حتى يطفح به. إنه العذاب والسرور اللانهائي.»‏استطاع «نجيب محفوظ» أن يَرصُد في كثيرٍ من أعماله كثيرًا من التحوُّلات السياسية والاقتصادية وتأثيرَها على الحياة الاجتماعية، وقد تضمَّنت هذه المجموعة القصصية التي كتَبها في نهاية السبعينيات من القرن الماضي كثيرًا من التغيُّرات الاجتماعية التي شَهِدها المجتمع المصري عَقِب الانفتاحِ الاقتصادي وبدايةِ تفتيت الطبقة الوسطى، وتوضح كيف أصبح المال هو القِيمةَ العليا في المجتمع، بينما صار العلم عِبئًا على صاحبه. تجلَّى هذا الوضع في قصة «الحب فوق هضبة الهرم» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث عبَّرت عن التحوُّلات العنيفة للمجتمع من خلال أزمة «علي» و«رجاء»، وصعوبة زواجهما بسبب سوء الوضع المادي ﻟ «علي». ومن أروع قصص المجموعة قصةُ «السماء السابعة»، التي يأخذنا فيها «محفوظ» بانسيابية إلى عالَم الأرواح، فنفتتن بخياله ونَهِيم في عالَمه. بالإضافة إلى غيرهما من القصص التي عبَّرَت عن مختلِف الهموم الإنسانية.
https://www.hindawi.org/books/19069697/7/
الرجُل والآخَر
من دكان الفاكهة خرج الرجل حاملًا قرطاسًا مثل قمع السكر. ابتلعه تيَّار بطيء مُتلاطم في سوق الخضار. ولقامته الطويلة برز وجهه الباسم المُتورِّد فلمحه الآخر من موقفه عند كشك السجائر وقال لنفسه: «أخيرًا .. لن يفلت مني.» وجعل يُتابعه بانتباه حتى تملَّص من الزحام فمرق إلى الميدان. من المهم جدًّا ألا يُثير ريبته حتى تحين الفرصة المُواتية. الرجل يُجيل بصره في الميدان حتى يستقرَّ على محل الحلوى في الجهة المقابلة ويمضي إليه فوق نصف دائرة الميدان الأيمن، فيمضي الآخر نحو الهدف فوق نصف دائرة الميدان الأيسر. دخل الرجل المحل فوقف الآخر تحت عمود النور العالي. جو الخريف عذب. ضوء الأصيل هادئ يهبط من السماء بعد أن توارى قرص الشمس وراء العمارة العالية. الرجل ينتظر أن يفرغ البائع له. عيناه تثبان بنهمٍ بين صفوف الحلوى الشرقية والغربية، والآخر يُراقبه بصبر. ثَمة امرأةٌ تنتظر أيضًا، مليحة ومُتبرجة ومُرحبة بالمجهول. الرجل يرمقها بنظرة مُستطلعة. تُعرِض عنه ولكن شِبه باسمة. يتزحزح خطوة فيقتحم مجالها الحيوي. ها هو يهمس بجرأة. ها هما يتهامسان. قال الآخر إن ذلك يُنذِر بتعقيد الأمور. إضافة جديدة لمتاعبه وتحدٍّ غير مُتوقَّع لخطته. ويجيء دورها لابتياع ما تريد ثم يجيء دوره. يخرجان ووجهه يتهلل ويطفح بالرغبة والظَّفر، يتبادلان كلمات ضاحكة مثل فقَّاعات الشهد، ثم تمضي هي إلى شارع الملاهي، يُتابعها بعينَيه لحظةً ثم يسير على مهَل حاملًا القرطاس واللفة. لا شك أنهما تواعدا على لقاء، والآخر يأمل ألا يؤجل ذلك تنفيذ خطته، يرجو ألا يُهدَر تعبه الطويل وتدبيره الحاذق. قد يكون اللقاء قريبًا فتتعقَّد الأمور، وقد يكون لغد لن يجيء أبدًا. الرجل يسير، لا يُرهقه المشي، ولا يدري أحد متى يفتر نهمه وأشواقه. تجذبه معارض المحال التِّجارية كأنه ربة بيت. الساعات والنظارات والأدوات المنزلية والملابس وآلات الغيار والأجهزة الإلكترونية، حتى اللوازم الطبية وواجهات الصيدليات تجذبه. يتشمَّم رائحة الكباب والطعمية، يقرأ عناوين الكتب والمكتبات. وكلما جمعه موقفٌ مع امرأة أو فتاة دخل مجالها الحيوي، ولكن لم يحصل تلاحمٌ جديد. ولون المغيب يتشرَّب بالسُّمرة وتنفث النسائم برودة مُنعِشة. دخل محل أقمشة، وخرج بكيس نايلون مشحون ودسَّ لفة الحلوى في الكيس مع القماش المشترى. ابتاع أيضًا كتابًا .. تُرى أي كتاب؟ متى يعتقد أنه سيقرؤه؟ ودَّ لو يعرف اهتماماته الدفينة. إنه لا يكاد يعرف عنه شيئًا ذا بالٍ سوى الاسم والهُويَّة والتاريخ البغيض الغامض. وعطف الرجل إلى دكان مسح أحذية. أخذ مجلسه فوق الكرسي الدوَّار واضعًا حمله فوق كرسي خيزران قديم. ينظر إلى المرأة أمامه مُغازِلًا وجهه بإعجاب وارتياح. يُواجِه الصورة تارةً ويَثني رقبته يمنى ويسرى تارةً أخرى. والآخر يُراقِبه من زاوية فوق الطوار. التقت عيناهما لحظةً فوق سطح المرآة. تضايق وتحرَّك خطوةً نحو الأمام. غاب الرجل عن منظوره. لا يرى الآن إلا الإسكافي العجوز وصاحبة المحل البدينة. خشيَ الآخر أن تلتصق صورته بعين الرجل خاصةً أن وجهه سهل الانطباع؛ وجهه غامق وعيناه حادَّتان وشعره أسوَد كثيف، ولكن الرجل مُستغرِق في ذاته ولم يرَه من قبل. أضاءت مصابيح الشارع وتخايل ظل المساء. ها هو يُغادر الدكان وقد ازداد — بتلميع الحذاء — رضاءً عن نفسه، وارتطم به مارٌّ مُسرِع فارتدَّ بخطوة ملهوجة وهو يُشدِّد قبضته على حمله ويصيح غاضب: هوه! توقَّف المُسرِع مبهوتًا وصمت، فصاح به مرةً أخرى: على الأقل اعتذر. فسأله بضيق: أليست لديك لهجةٌ أفضل؟ – كلا. – إذَن فليس لديَّ اعتذار. – حيوان! فبصق المُسرِع على الأرض مُحتجًّا. عند ذلك وضع الرجل حمولته فوق الرصيف ثم انقضَّ عليه فتبادلا ضربات شديدة. أدرك المُسرِع أنه ليس ندًّا لخصمه فتراجع قائلًا: غاوي خناق .. اشهدوا على المعتدي. وتجمَّع خلق، وجاء الشرطي، والآخر يُراقِب بانفعال وضيق. وعندما قال الشرطي القسم موجود والصلح خير .. بدا أن المُتخاصمين تجنَّبا الذَّهاب إلى القسم، فتناول الرجل حمولته وذهب. تنفَّس الآخر بارتياح وتبعه. نسي الرجل انفعالاته تمامًا أمام محل للعب الأطفال. له أبناء في سن الطفولة! ودخل. ما أعظم إلحاحه وصبره! وخرج بلا إضافة. لعله لم يشترِ شيئًا، أو لعله اشترى لعبةً كبيرة سيُرسلها المحل إلى مسكنه. في تلك اللحظة قابَله كهلٌ يتأبَّط حقيبة، تصافَحا بحرارة، تبادلا كلمات سريعة، ثم مضى الكهل وهو يقول: لا تنسَ المحكمة يوم عشرة القادم. أأنت أيضًا من أرباب المحاكم؟! متى تسمع الحكم؟ تُرى أين تذهب بعد ذلك؟ عصير فواكه .. ليَكن، أتعبتني الله يتعبك. للمرة الثانية تتلاقى عيناهما فوق سطح المرآة. انقبض صدره. هل يتذكره؟ كلا .. إنه مأخوذ بمذاق الشراب وعيناه تدمعان. ينظر ولا يرى، ويتملَّى صورته بإعجاب وبراءة. ها هو يُغادِر الدكان، يعبر الطريق، يغيب في محل ترزي يعدُّ كسوة الشتاء. غاب ربع ساعة ثم عاد إلى الظهور، عرَّج إلى مقهى الحرية ثم دخل. المقهى على ناصية، وله أكثر من مدخل، فلم يرَ الآخر بدًّا من الدخول. جعل يُراقبه من مجلسٍ غير بعيد والرجل يحتسي فنجانًا من القهوة ويكتب خطابًا. أعطى الخطاب الجرسون وقام إلى التليفون. ها هو يقف قريبًا جدًّا منه: آلو .. حسن؟ .. الدكتور موجود؟ – … – احجز لي في أقرب موعد. – … – عظيم .. الساعة السادسة مساءً .. شكرًا. وما كاد يرجع إلى مجلسه حتى لحق به صديق، جالَسه وهو يتساءل: حضرت المأتم؟ – نعم .. علمت مصادفة. – كلنا لها. هل أطلب النرد؟ – لا وقت. – عشرة واحدة بجنيه، لي أو لك. نظر في الساعة، قَبِل التحدي، لعبا من فورهما. يُعلق بسخرية على كل رمية زهر، ماهر في الحرب النفسية، واثق من انتصاره، في أقل من عشر دقائق قام وهو يدسُّ الجنيه في جيبه، فمضى ضاحكًا والآخر يقول له: يا لص، ربنا يرزقك بنشَّال! قال الآخر لنفسه إنها دعوة مُستجابة غالبًا. يمضي الآن نحو عمارته وسط المدينة. هذه هي الفرصة. ليست مضمونة تمامًا، إذا فشلت فعليه أن يرسم خطةً أخرى. كلما فشلت خطة تعرَّضت التالية لمصاعب جديدة. ها هو يغيب في مدخل العمارة. لحق به ثم دخل المِصعد وراءه. إنهما مُنفردان. الرجل يسأل بكرم دون أن يلتفت إليه: الدور؟ – الأخير. – وأنا كذلك. ولكن امرأة أدركت المِصعد قبل أن يتحرَّك. جُن جنون الآخر، غير أن المرأة غادرت المصعد في الدور الثاني، فاستعاد الآخر حيويته ونشاطه. هذه هي الفرصة. الاحتمالات كثيرة، ولكن العواقب لا تهمُّه البتة. ليس في خطته للسلامة إلا واحد في المائة. وبحذر شديد قبض على المطواة المستكنَّة في جيبه. غادَر المِصعد. لم يُصادف أحدًا. الظروف تخدمه فوق ما قدَّر. ترك باب المِصعد مفتوحًا عن زيق، ثم هبط مُسرعًا. مضى إلى حانة إيديال. شرب كثيرًا ولم يتناول من الطعام إلا الخس. ونعس وحلم حلمًا طويلًا في وقت قصير جدًّا. وغادَر الحانة فعبر أمام العمارة فوق الطوار الآخر، فرأى الشرطة وجمعًا لا حصر له. واصَل سيره إلى فندقه بالعتبة، دخل حجرته وهو يتنهَّد وقد نسي الحُلم تمامًا .. أغلق الباب، أضاء المِصباح. التفت إلى الوراء، رأى الرجل جالسًا فوق الفوتيل يرمقه بهدوء ثقيل كالموت .. ندَّت عنه آهةٌ دامية، تراجع حتى التصق ظهره بالحائط، تعلَّق بالفرار ولكنه لم يتحرك، وتسمَّر في مكانه وبال على نفسه. إنه حقيقة ما يرى، هو هو الرجل. القرطاس بيد والكيس بالأخرى .. الموت يُطلُّ من صورة حية .. يُحدق فيه بعينَين جامدتين عالمتين بكل شيء. شعر بغثيان ويأس، وقال إنه الشِّعر أو الجنون، وأمره بالاستسلام دون أن يتفوَّه بكلمة، يُخاطبه بلغةٍ جديدة وواضحة ونافذة وغير مسموعة. كيف ومتى جاء بهذه السرعة؟ وما معنى تجمهُر الشرطة والناس أمام مدخل العمارة؟ كم عامًا مضت منذ ارتكاب جريمته؟ كم عامًا لبث بالحانة؟ وكلما مرَّ وقت تأكَّد له وجود الرجل بثقله وسطوته غير المحدودة. وشيء حثَّه على أن يدسَّ يده في جيبه، فعثر على المِطواة التي تركها مُنغرِزة في قلب الرجل، فأدرك أن هذا العالم يخضع لقوانين كثيرة لا لقانون واحد. دقَّت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. تلقَّى أوامر سِرية فتهيَّأ في خنوع لتنفيذها بدقة وطاعة عمياء. قام الرجل ببطء. سار بجلالٍ نحو الباب. فتح هو الباب ومشى بين يدَيه صامتًا مُذعنًا. أراد أن يصرخ، ولكن الصوت تلاشى في حنجرته. هبط السلَّم والرجل يتبعه. التَقى في طريقه بفرَّاش، بمدير الفندق، بموظف الاستقبال، ولكن أحدًا لم يُعِره التفاتًا، لم تسترعِ المعجزة انتباه أحد، لم تُثِر دهشة ولا اهتمامًا. أمام الفندق وقف حنطور بلا حِصان. اتجه الرجل نحو المقعد وجلس عليه بهدوء. أما هو فاحتلَّ مكان الحصان وتأبَّط العريشين. لم ينظر أحد من المارَّة لما يحدث، لم يتجمهر أحد، كل فرد مُنشغلٌ بشيء محسوس أو بشيء لا يُرى. أكثر من ذلك ترنَّم أحد السابلة شاديًا: أهل الهوى يا ليل. وفرقع السوط فراح يجرُّ الحنطور. مضى في رشاقة وهدوء واستسلام. رأى جانبَي الطريق، ولكنه لم يرَ ما يمتدُّ أمامه، فغاص في مجهول. في خطٍّ مستقيم يتقدم أو ينعطف مُتلقيًا توجيهاته من جذبات اللجام. إلى أين يسوقه؟ ماذا يُضمِره له؟ لا يدري، ولا يُبالي. يمضي بلا توقف. يبول ويتغوَّط بلا توقُّف. يصهل أحيانًا ويرفع رأسه، يلمس لجامه بلسانه الجاف، تتابع إيقاعات حافره فوق الأسفلت. إيقاع رتيب يُنذر بمسيرة لا نهاية لها.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/19069697/
الحب فوق هضبة الهرم
نجيب محفوظ
«عرفتُ الحبَّ لأول مرة في حياتي. إنه كالموت تَسمع عنه كلَّ حين خبرًا ولكنك لا تعرفه إلا إذا حضَر. وهو قوةٌ طاغية يلتهم فريستَه، يَسلبُه أيَّ قوةِ دفاع، يطمس عقله وإدراكه، يصبُّ الجنونَ في جوفه حتى يطفح به. إنه العذاب والسرور اللانهائي.»‏استطاع «نجيب محفوظ» أن يَرصُد في كثيرٍ من أعماله كثيرًا من التحوُّلات السياسية والاقتصادية وتأثيرَها على الحياة الاجتماعية، وقد تضمَّنت هذه المجموعة القصصية التي كتَبها في نهاية السبعينيات من القرن الماضي كثيرًا من التغيُّرات الاجتماعية التي شَهِدها المجتمع المصري عَقِب الانفتاحِ الاقتصادي وبدايةِ تفتيت الطبقة الوسطى، وتوضح كيف أصبح المال هو القِيمةَ العليا في المجتمع، بينما صار العلم عِبئًا على صاحبه. تجلَّى هذا الوضع في قصة «الحب فوق هضبة الهرم» التي حملت المجموعةُ عنوانَها؛ حيث عبَّرت عن التحوُّلات العنيفة للمجتمع من خلال أزمة «علي» و«رجاء»، وصعوبة زواجهما بسبب سوء الوضع المادي ﻟ «علي». ومن أروع قصص المجموعة قصةُ «السماء السابعة»، التي يأخذنا فيها «محفوظ» بانسيابية إلى عالَم الأرواح، فنفتتن بخياله ونَهِيم في عالَمه. بالإضافة إلى غيرهما من القصص التي عبَّرَت عن مختلِف الهموم الإنسانية.
https://www.hindawi.org/books/19069697/8/
الحوادث المُثيرة
سأذكُر ما حييت حوادث حي الخليفة المُثيرة المُفزِعة. الحق أنها لم تكن كلها مُفزِعة؛ فمنها حكايات تناقلها الناس عن هبات مجهولة من النقود تتسلل بليل إلى بيوت الفقراء، ولكن منها أيضًا حالات التسمم بالجملة، والحرائق، وأكثر من ذلك تَكرارها على وتيرة واحدة مما أشار إلى فاعل واحد. وبثثنا العيون والحراس، وقمنا بدوريات ليلية مُنتظمة. وقلت لرئيسي: المجرم مجنون ولا شك. فقال لي بحدة: المهم أن نقبض عليه. وتقضَّت أيام البحث وأنا في غاية من التعاسة؛ فلا نتيجة ولا أثر ولا توقُّف للحوادث، حتى جاءنا خطابٌ غُفْل من الإمضاء، به سطرٌ واحد: «مُجرم حوادث الخليفة هو مكرم عبد القيوم المقيم بالشقة ٣ بعمارة الفردوس.» فقرَّرنا بلا تردُّد مراقبته، ولكن سرعان ما انكشف لنا أنه أخلى شقته منذ يومين، وبادرت إلى التحري عنه في العمارة، فقابلت مالكها وهو ساكن بها أيضًا، وقلت له: أريد ما عندك من معلومات عن مكرم عبد القيوم الذي كان يسكن الشقة رقم ٣. فأجاب الرجل: لقد أخلاها منذ يومين. – أعرف ذلك، ولكن إلى أين انتقل؟ – لا علم لي بذلك .. لعلك تعرف محل نقل الأثاث الذي حمل أثاثه؟ – إنها شقة مفروشة، وقد حمل حقائبه في تاكسي ومضى. – أتعرف التاكسي أو سائقه؟ – كلا. – ما عمره؟ – يصعب تحديده لقوته وصحته، محتمل أن يكون في الثلاثين أو في الأربعين. – وما عمله؟ – من الأعيان، ولكنه كان موفور النشاط، يُغادِر العمارة في الصباح الباكر، ويرجع في أول الليل، ولكني لم أتابع خط سيره إلا كلما اتفق لي ذلك. – وأسرته؟ – إنه وحيد، لم يزُره أحد فيما أعلم. – معاملته؟ – من وجهة نظري في غاية الكمال، يؤدي الأجرة — مائتَي جنيه — في أول يوم للشهر، ولم أجد منه متاعب على الإطلاق. – وسلوكه الشخصي؟ – لا غبار عليه فيما أعلم، إنه يحترم نفسه بكل معاني الكلمة. – ألم تعرفه عن قرب؟ – كلا، مرةً عند تحرير العقد، ومرةً عند فسخه. – عندك فكرة عن حالته المالية؟ – كلا، ولكنه وجيه المنظر، ثم إنه يدفع إيجارًا لسكنه فقط مائتَي جنيه. – ألم يترك في نفسك انطباعًا بالشذوذ أو الإجرام؟ – إنه أبعد ما يكون عن ذلك. – أعطِني فكرة عن منظره؟ – طوله فارع، ضخم، قوي، قمحي اللون، ذو قسمات واضحة وقوية وبارزة، أنيق جدًّا. – له علامةٌ مميزة؟ – رغم سُمرته فهو ذهبي الشعر والشارب. – كيف أجَّر الشقة؟ – بوساطة السمسار عزُّوز بأول شارعنا. لم أجد في أقوال صاحب العمارة أية إشارة ضوئية، فقرَّرت أن أُثنِّي بالبوَّاب. وكان كالمألوف نوبيًّا، ولكنه كان طاعنًا في السن. قلت: أودُّ أن أتحدَّث عن مكرم عبد القيوم. فقال بحرارة: ربنا يحفظه! – إنك تحبه فيما يبدو؟ – كيف لا؟ إنه أطيب خلق الله. وسألته أول ما سألته عن التاكسي الذي حمل حقائبه، فأجاب: وجه السائق غير غريب عني. فدوَّنت ذلك في مذكرة خاصة، ثم تساءلت: قلت إنه أطيب خلق الله؟ – أجل، ما كلَّفني مرة بعمل إلا نفحني مكافأة، غير المواسم والأعياد، دائمًا بسَّام، يُحيِّيني في الذهاب وفي الإياب، يسأل عن حالي، لا أنسى مساعدته لي عندما كنت أقوم بتجهيز ابنتي، إنه حلم المحروم، ودواء الجريح. – أعتقد أنه أخبرك عن المكان الذي انتقل إليه؟ – كلا .. ولكنه وكَّد لي أنه سيمرُّ بي كثيرًا. – يعني زيارة خاصة لك؟ – ربما عند زيارته للحي لدى سبب من الأسباب. – تُرى لماذا غيَّر مسكنه؟ – عندما سألته عن ذلك أجاب بأنه يحب التنقل. – ماذا تعرف عن صفاته؟ – إنه قوي ومهيب وجميل، وهو أيضًا رقيق العواطف لدرجة لا تتناسب مع قوة مظهره. سمع مرةً صراخًا على ميت في عمارتنا فاغرورقت عيناه بالدموع، وكان يهبني نقودًا لأبتاع خبزًا للقطط الضالَّة التي تحوم حول العمارة، وبلغت به الرقة أنه كان يرمي بحبَّات من الفول السوداني عند بئر السلَّم غذاءً لفأر كان يلمحه كثيرًا. – جميل هذا كله، ولكنك لا شك تعرف أشياء لا يعرفها أحد عن سلوكه الشخصي؛ فرَجلٌ وحيد لا يستأجر شقة مفروشة لوجه الله. – لم يدخل شقته أحدٌ قط، هذا الجانب لا يمكن أن يفوتني. – ولا أصحاب ولا أقارب؟ – ولا أصحاب ولا أقارب. – وكان يغيب طيلة النهار في الخارج؟ – في بعض الأحيان كان يتغدى في شقته، فيطلب غداءه من أحد المطاعم. – ألم يلفت نظرَك شيءٌ داخل شقته؟ – لم أدخلها قط. – ماذا تعرف عن مواعيد رجوعه ليلًا؟ – كان يرجع عادة حوالَي العاشرة، وقد يتأخَّر به السهر إلى منتصف الليل أو حتى إلى مطلع الفجر. – كيف تُرى لو ثبت لك يومًا أن ذلك الرجل سمَّم أبرياء وأشعل حرائق؟ فأخذ الرجل وقال: يكون نذيرًا بقيام القيامة. جمَعْنا سائقي التاكسي العاملين في الحي، عرضناهم على البوَّاب فتعرَّف على أحدهم، ويُدعى يونس، باعتباره صاحب التاكسي الذي حمل حقائب مكرم عبد القيوم. ولم يجد السائق صعوبة في تذكُّر الرجل، وقال إنه أوصله إلى سميراميس. وانطلقت إلى الفندق مصحوبًا ببعض المُعاونين، وهناك توكَّد لي أن الرجل بات في الفندق ليلةً واحدة ثم غادَره في الصباح الباكر. رجعت أسال عن هُويَّة التاكسي الذي حمله، لكن الشيَّال وكَّد لي أنه نقل الحقائب إلى سيارة ملاكي مرسيدس بيضاء، وأن البك الضخم الأسمر ذا الشعر الذهبي ساقها بنفسه، أما رقم السيارة فلم يلحظه أحد. أهو صاحب السيارة؟ لمَ لم يستعملها طوال إقامته في العمارة؟ .. هل امتلكها أمس فقط؟ كلما أحدق الغموض بتصرفاته رسخت تهمة الاتهام في نفسي .. فتوثَّبت غرائز البحث والتحدي في أعماقي. قصدت بعد ذلك جيرانه المُقيمين معه في نفس الطابق. أولهم مهندس معماري يُدعى رءوف، وما سمعني أردِّد اسمه «مكرم عبد القيوم» حتى تقبَّض وجهه تقززًا، فقلت: يبدو أنك لا تستلطفه؟ – عليه اللعنة! رجل غريب، مُنطوٍ على نفسه لحد الشذوذ، ولا أشك في أنه يمقت البشر. – للبوَّاب رأيٌ آخر فيه؟ – لا تأخذ بأقوال البوَّاب؛ فإن شلنًا يُدير رأسه، لا أنسى مرةً تلاقينا فيها في مدخل العمارة، بدأته بتحية فردَّ عليَّ بإيماءة مُتكبرة هبط لها قلبي وغلى دمي، إنه وقح وقليل الأدب. – جديد عليَّ ما تقول. – أتحدَّى أن تعثر على ساكن واحد من سكان العمارة قد تبادل معه تحية، إنه مُتعجرف بغيض، أما قسوته … – تقول قسوته؟ – حكت لي زوجتي أنها رأته يركل قطة بحذائه، صادفته أمام باب شقته، فارتطمت بعنف في الجدار ثم سقطت بين الحياة والموت. – عجيب هذا. – في مآتم العمارة يتجاهل الواجب الإنساني بلا مُبالاة، يمرُّ أمام السرادق بلا اكتراث ولا حياء. – وسلوكه الشخصي؟ .. أعني الشقة المفروشة؟ – لا .. لا .. لم يزُره أحد فيما نعلم، أمثاله يُعانون نقصًا خفيًّا يُدارونه بالعجرفة وأبَّهة المظهر. – ولكنه ثريٌّ فيما يبدو؟ – لمَ لا؟ .. ما أكثر الأثرياء الأوغاد! ليست شبهة ولكنها تهمةٌ حقيقية. والبوَّاب صادق كما أن المهندس رءوف صادق. وتُوكِّد ظنوني معرفتي الوثيقة لتاريخ الجريمة. من غيرُ مكرم عبد القيوم يرمي بالنقود إلى شرفات الفقراء ويدسُّ السم في الشوكولاتة للأبرياء؟ .. أليس هو الذي يهب النقود لتغذية القطط الضالة ثم يركل واحدة منها حتى الموت؟! وذهبت إلى الجار الثاني، مُدرس لغة عربية يُدعى عبد الرحمن. قال: الرجل وحيد حقًّا، ولكنه ليس مُتعجرفًا، والمسألة أن المهندس رءوف كرهه من رد تحيَّته بجفاء، ولعله كان وقتها مُكدَّر البال. – فماذا تراه أنت؟ – أشهد له بالتقوى، طالما تقابلنا في الجامع عند صلاة الجمعة! – حقًّا؟ – وماشَيْته مرةً عقب الصلاة فوجدته لطيفًا، دعاني إلى الغداء في مطعم الكورسال، وألحَّ عليَّ فلم أجد بدًّا من الاستجابة، وأعلن لي عن حبه التراث، ورغب في الاستعانة بي للاستزادة منه. – لعله لم يتعلم؟ – كلا .. لم يكن مُتبحرًا في التراث .. ولكنه تخرَّج في الجامعة بكلية الحقوق، ودرس في السربون القانون والتاريخ. – لعلك الوحيد الذي خالَطه؟ – لعلِّي، كنا نتقابل في مشرب مينا هاوس، وهناك وضَّح لي أنه كثير الأصحاب، مصريين وأجانب، وكان يُدعى إلى التليفون مرَّاتٍ عديدة حتى خُيِّل إليَّ أنه من رجال الأعمال. – ألم يخطر لك أن تسأله عن عمله؟ – مرةً سألته بلباقة عما يفعل بوقته، فأجاب بأنه يحب أشياء لا حصر لها، ولكنه غير مُلتزم بعمل مُحدَّد، بمعنًى آخر هو من الأعيان. – ما مصدر ثروته؟ – أرض، أسهُم وسندات وهلمَّ جرًّا .. ولكن ميزته الأولى في نظري أنه واسع الاطلاع .. وقد طالبته مرةً بأن يؤلف في التاريخ، فابتسم وسألني: «أتُصدِّق حقًّا أنه يوجد شيءٌ اسمه تاريخ؟ فاعتبرت تساؤله دعابة، ولكنه استدرك قائلًا: «يمكن الاستغناء عن التاريخ ببابَي المديح والهجاء في الشعر.» – طبعًا لم تعرف لماذا تجنَّب الزواج؟ – مرةً شكوت إليه تمرُّد أحد أبنائي، فقال لي بأسًى لم ألمسه فيه من قبل: «إن تمرُّد ابن خليقٌ بأن يُشكِّل مأساة بلا نهاية.» .. ولرنين الأسى في نبرته شيء قال لي إنه ذلك الابن أو إنه الأب المُبتلى، وبشيء من الدهاء قلت له: «لقد أرحت نفسك من ذلك كله.» فنظر إليَّ وابتسم .. ولكنه لم يشفِ غليلي. – لمَ لم تستوضح تلك النقطة؟ – كنت أُعاشره وأهابه، وأخشى أن أثقل عليه فأخسره. – طبعًا أخبرك بنية ذَهابه؟ – أبدًا .. فوجئت برحيله .. ولكنني حتمًا سألقاه يوم الخميس في مينا هاوس. – لا أظن، ومع ذلك سنرى. – لماذا قلت لا أظن؟ – ألا تدري أن ثَمة شبهة في أنه مُرتكِب حوادث حيِّنا المُثيرة؟! فاتسعت عينا الرجل في ذهول وقال غير مُصدِّق، بل مُحتجًّا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. تجهَّم الغموض فانقلب ظلامًا، ولكنَّ شعوري — شعور الخبرة والسنين — صار يقينًا أو كاد، وأوشكت على الاكتفاء بما استخلصت من معلومات لأُسرع في المطاردة، ولكني لم أجد بأسًا من لقاء الجار الثالث المُلاصق بابه لباب مكرم عبد القيوم — وهو مُفتِّش الضرائب بكر الهمذاني — ما إن سمع اسمه حتى هتف: المجنون! – مجنون؟! – طبعًا، طالما بلغني صوته وهو يُدوِّي كالطبل في صمت الليل، تُرى أيتحدَّث في التليفون؟ .. يُحدِّث نفسه؟ .. يتعارك مع خيال؟ ولا عزيف الريح وجعجعة الرعد، وكان هنالك ما هو أدعى إلى الدهشة. – حقًّا؟ – كان يُغنِّي ويلعب بأوتار العود. – شيءٌ جديد تمامًا. – الحق أن صوته قوي وجميل، ولكنه يُغنِّي أحيانًا أغنيات في غاية الوقار، مثل «يا ما انت واحشني»، أو يُغنِّي أغنيات في غاية الابتذال، مثل «أنا أبله كنت هبلة»، أو تصوَّر ذلك الرجل الضخم الوقور وهو يُغنِّي «يوم ما عضتني العضة»، ولكنه رجلٌ عربيد. – عربيد؟ – كنت مرةً راجعًا من سهرة مسرحية، فرأيته خارجًا من حانة فلاديمير وهو يترنَّح من شدة السكر .. ويقول بلسانٍ مُلعثَم: «أنا جدع.» – ما أعجب هذا! – بل يوجد ما هو أعجب، رجعت مرة من سهرة فرأيته يسبقني بخطوات، دخل شقته ومِلت نحو شقتي، ولسببٍ ما وجدنا شرَّاعة بابه مفتوحة. لاحت مني نظرة فرأيت في نهاية الدهليز حجرةً مُضيئة، ولعلها حجرة جلوس، فتسمَّرت في مكاني لغرابة ما رأيت .. رأيت خليطًا من عجائب مُتنافرة، على الجدار المُواجِه لي ثُبِّتت أقنعةٌ غريبة، جميلة وبشعة، ورءوس حيوانات مُحنَّطة، وأسلحة من مُختلِف العصور، وأدوات موسيقية، وفي وسط الحجرة ما يُشبِه المعمل الكيماوي .. بل معمل كيماوي بالفعل. – معمل كيماوي؟! – أجل .. مائدة طويلة صُفَّت فوقها أوعيةٌ زجاجية مليئة بسوائل مختلفة الألوان، وأنابيب طويلة مُركَّبة على قوائم معدنية، وبوتقات، ومولدات الطاقة. – مُدهِش .. مُدهِش. – ذهبت إلى شقَّتي ذاهلًا .. أيقظت زوجتي .. أخبرتها بما رأيت .. اتَّهمتني بالسكر .. تحدَّيتها أن تخرج معي لترى بنفسها .. كان منظرًا مُذهلًا. – ألم تتبادل معه تحية أو كلامًا؟ – أبدًا .. أُصارحك بأنني كنت أخافه، وقد تشهَّدت حين سمعت برحيله. في نفس اليوم ذهبت إلى السمسار، لم أكُن في حاجة إلى مزيد من المعلومات عن شخصية «المتهَم»، ولكني أملت أن أجد عنده خيطًا يُوصِّلني إليه، ووجدته مُتذكرًا تمامًا للمعاملة التي جرَت بينهما رغم انقضاء ما يُقارِب العام عليها، بل إنه قال: ذلك يوم لا يمكن أن يُنسى. – لماذا؟ – تمَّت المساومة في دقيقة، بل لم تكن ثَمة مساومة على الإطلاق، وكان أكرم مما يتصور العقل، ولكني اكتشفت فَقْد حافظة نقودي في ذلك اليوم أيضًا؛ ولذلك فهو لا يمكن أن يُنسى. – كيف حدث ذلك؟ – سلَّمني النقود فوضعتها على المكتب ثم انصرف، شُغلت دقائق بمكالمة تليفونية، ثم تناولت النقود لأودعها الحافظة فلم أجد للحافظة أثرًا. – ماذا دار بخلدك؟ – كانت الحافظة معي، لم يدخل دكَّاني إلا مكرم عبد القيوم ومسَّاح الأحذية، وفي الحال شككت في مسَّاح الأحذية، استدعيته، استجوبته، عنَّفت به حتى صرخ، ولكنه أقسم بأغلظ الأيمان وبكى. – طبعًا لم تشكَّ في الآخر؟ – كلا، الحق كانت تُساوِرني شكوك أحيانًا ولكنها كانت تعزُّ على التصديق، وقد حرقني فقدُ أكثر من مائتَي جنيه، ولكن كيف أُوجِّه تهمة إلى رجل مثله بدا لي أنه من أصحاب النفوذ بلا أدنى شك؟ .. وما جدوى الاتهام إلا أن يُعرِّضني لبطشه؟! – وسلَّمتَ أمرك لله؟ – كما يحصل في أغلب حوادث النشل. وكنت أراه أحيانًا وهو ماضٍ في الصباح فأُتبعه عينيَّ بِحيرة وأُتمتم: «ربنا عزيز ذو انتقام.» واجتمعت برئيسي في مساء اليوم نفسه، وعرضت عليه التقارير التي سجَّلتها بعناية تامَّة. راح يقرأ وهو يسند رأسه إلى راحته حتى فرغ منها، ثم طالَعني بوجه مُتجهِّم وقال: علينا أن نستعيد الصورة، توجد حوادث مُثيرة، بعض الفقراء يجدون في شرفات منازلهم صررًا مليئة بالنقود هبطت من مصدر مجهول، آخرون يجدون عُلَب حلوى سليمة، أناسٌ يجدون عُلَب حلوى مسمومة مات بسببها أبرياء، اختفاء أطفال، حرائق تشبُّ في الحوانيت. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى يجيء جواب من مجهول يُوجِّه الاتهام إلى المدعو مكرم عبد القيوم، وتتحرَّى أنت عن الرجل فتجيئني بمجموعة من التناقضات تُماثِل في غرابتها تناقضات الحوادث. ما رأيك؟ قلت: أصبحت على يقين من أنه المجرم. – يقين؟! – إنه شعورٌ داخلي. – ما يهمُّني هو الدليل القاطع أو الاعتراف. – لا تنسَ يا صاحب السعادة أن الحوادث توقَّفت منذ رحيله. – الفترة قصيرة جدًّا ولا تعني شيئًا. – لا تنسَ أننا أصبحنا مضغة للأفواه. – سيخونه حِرصه عاجلًا أو آجلًا .. فهو بلا شكٍّ مجنون. – مجنون؟! محتمل. ومحتمل أيضًا أن يكون عاقلًا وداهية وذا أغراض خفية. اندفعت في المطاردة بقوة مُتحدِّية، ضاعفت الدوريات والعيون، أبلغت الأوصاف إلى جميع الأقسام، ورسمت خطةً شاملة للمُرشِدين ولأهل الخبرة بأوساط المُجرِمين. لم يخفَ عني أنه تحدٍّ لشخصي ومستقبلي وواجبي، وسيطر الموضوع على يقظتي ومنامي، وفكرت وفكرت ثم قرَّرت تأجيل الاستعانة بالصحف والإذاعة. وفيما نحن مُنهمِكون في المطاردة انقضَّت علينا صاعقة، طلعت علينا الصحف بأنباء حوادث مُماثلة لما وقع في حيِّنا، ولكن في طنطا هذه المرة. انطلقت إلى طنطا بلا استئذان، وضعت معلوماتي تحت تصرف المسئولين هناك. وفيما نحن نرسم خطة جديدة مُعتمِدين أولًا على الاستفادة من التجربة السابقة، طلعت الصحف بأنباء حوادث تقع في أسيوط، وفي الحال سافرت إلى أسيوط وأنا أشعر بأن الجريمة استحالت فضيحةً قومية. وهناك تَلفنتُ إلى رئيسي أُخبره بمقرِّي فإذا به يصيح: أين أنت؟! .. ما هذا التصرف المشين؟! هممت بشرح الأمر ولكنه صاح بي: احضر حالًا .. لقد عادت الحوادث إلى حيِّنا. وخطر لي أن أستدعيَ رسَّامًا مشهورًا، جمعت بينه وبين الشهود، وطالبته برسم صورة دقيقة للرجل المجهول من واقع شهادتهم، وقلت له: لا تتركها حتى يُقرُّوا بأنها طبق الأصل. ونشرت الصورة في الصحف مُطالبًا من يعرف صاحبها بأن يدلَّنا عليه، ودلَّنا مُواطِنون على أكثر من شخص؛ عمدة، تاجر أسماك، تاجر شنطة، بل انطبقت الصورة على مسئول في الدولة له شأن، فاستفحلت الفضيحة حتى انقلبنا سخرية الساخرين ونادرة المُعلِّقين. وصاح بي رئيسي: لقد أشعلت النار في الإدارة. فقلت بإصرار: لا غبار على الخطة. – ها قد جاءنا من لا نبحث عنه، وغاب عنا من نبحث عنه. – لعله تعمَّد الاختفاء أو التنكر. – واضحٌ أن الحوادث المُتفشية في جميع الأنحاء ليست من صنع رجل واحد. – لعله رئيس عصابة. فهتف بيأس: لقد أشعلت النار في الإدارة. رجعت إلى حجرتي أعمى تمامًا من الغضب. عند الباب سمعت حوارًا حادًّا بين الحاجب وآخر يريد الدخول لمقابلتي. قلت بحزم: لا وقت عندي الآن لأحد. فقال الآخر بصوتٍ جَهوَري متَّزِن: أنا مكرم عبد القيوم. تأبَّطت ذراعه، دخلنا الحجرة، وقفنا مُتواجِهَين وأنا ألهث، تساءل بهدوءٍ غاضب: ما معنى المنشور في الجرائد؟ فسألته وأنا أمتحنه بعينيَّ: لمَ لم تحضر مباشرةً عقب النشر؟ – كنت في البحر الأحمر بعيدًا عن الجرائد وغيرها. وفصل بيننا صمتٌ متَّقِد حتى عاد يتساءل: ما معنى هذه التهمة السخيفة؟ فقلت بحنق: سنرى. وقرَّرت إجراء التحقيق في حجرة رئيسي وتحت إشرافه. – ماذا أقول؟ .. أجاب الرجل عن كل سؤال فورًا وفي بساطة وثقة، لم نجد دليلًا واحدًا يدينه، عرضناه على أهل الضحايا والمخبرين المبثوثين في أنحاء الحي فلم يشهد أحد بأنه رآه في ليل أو نهار. أذَعْنا رسالة مُوجَّهة للمجهول صاحب الرسالة أن يُنوِّرنا بمعلومات إن كانت لديه فلم يردَّ علينا أحد. وهكذا غادرَنا مكرم عبد القيوم مرفوع الرأس وقد أصابني بضربة قاضية. والعجيب بعد ذلك أن شعوري الباطني باتهامه لم يتزعزع. كان لا بد من كبش فداء، فقرَّرت الداخلية نقلي إلى الديوان، وأحلَّت محلِّي من رأته أعظم أهليةً للعمل. وتلقَّيت الأمر بغضب وتحدٍّ، فقدَّمت استقالتي مُعتزمًا الاشتغال بالمحاماة، وظللت أُتابع أنباء الحوادث والتحقيق وأنا مُشفِق من أن ينجح من حلَّ محلي في القبض على المجرم. إنه شعورٌ مُخجِل، ولكنه مُتوافِق مع الطبيعة البشرية. وما أدري ذات يوم إلا ومكرم عبد القيوم يقتحم عليَّ مكتبي. رمقته بدهشة، فجلس أمام مكتبي وهو يقول: جئتك لأعرض عليك أن تتولَّى إدارة أعمالي وقضاياي. وكان العرض مُغْريًا لدرجة يتعذَّر معها رفضه، ولكنني سألته: لمَ أنا بالذات ولم أعمل في المُحاماة إلا عامَين؟ – ولكنك ذو خبرة كبيرة، ثم إنني أعدُّ نفسي مسئولًا بعض الشيء عن استقالتك. فسألته بحذر: نوع من الشماتة؟ فهتف بصدق: معاذ الله، ما ورائي إلا شعور طيب .. لمَ لا؟ هكذا أصبحت مستخدمًا في دائرة الوجيه مكرم عبد القيوم. وأشهد لقد وجدته وجيهًا بكل معنى الكلمة، وقورًا عالمًا، عذب الحديث، طيِّب المعاشرة، كريمًا ودودًا. وربما فتر حماسي أحيانًا فأتساءل: «ألا يُفاجئني مرةً بتناقض من تناقضاته؟ .. ألا يحسُن بي أن ألتزم جانب الحذر؟» ولكنه خيَّب وساوسي، وقرص ضميري بإصراره على كل ما هو طيب. وذات صباح — وعقب مراجعته لما عرضته عليه — رجع بمقعده الهزَّاز إلى الوراء وقال: أخيرًا قيَّدوا القضية ضد مجهول. فقلت بشماتة: لتكن هذه اللطمة ردًّا على اللطمة التي تلقَّيتها. فقال بهدوء عذب: كلا .. لقد أخطأت. – ولكن … وسرعان ما قاطَعني قائلًا: كان من الخطأ أن تُركِّز الاتهام فيَّ بسبب رسالة سخيفة غُفْل من الإمضاء. فقلت مُدافعًا: ليس بسبب الرسالة، ولكن بإغراء التحريات غير العادية. – وبتركيزك الاتهام فيَّ تركت المجرم الحقيقي يفلت من يدَيك. – لم يكن معقولًا أن أربط بين أقوال الشهود وغرابة الحوادث؟! – يا أستاذ، هل يخلو مخلوق من تناقضات؟ .. ثم ما الغرابة في أن أطعم القطط وأن أركل قطة مريضة هاجمتني؟ .. ما العجب في أن أتوادَّ مع رجل … وأُجافي آخَر لسوء خلقه؟ .. وما الجديد في أن أمضي وقورًا حينًا وأترنَّح من السكر حينًا آخر؟ أيعني هذا أن أُسمِّم الأطفال وأشعل الحرائق؟! لُذتُ بالصمت مُتفكرًا وحذرًا في نفس الوقت، أما هو فواصَل: بنفس المنطق يا عزيزي يمكن أن تُوجِّه التهمة إليك أنت. فندَّت مني ضحكة وتمتمت: أنا؟! – لمَ لا؟ .. لقد استمرَّت الجرائم رغم تشديد الحراسة وبثِّ المُخبِرين. كيف اخترق المجرم سبيله في حي مُلغَّم؟ .. لا شك أنه كان مُطمئنًّا إلى أن أحدًا من رجال الأمن لن يشكَّ فيه، عظيم .. فمن يكون هذا إن لم يكن الرئيس المكلف بالمراقبة؟ .. أو بمعنًى آخر إن لم يكن أنت؟! فضحكت عاليًا وقلت: وجرائم طنطا؟ – لقد وقعت حوادث طنطا، وثبت أنك سافرت إلى طنطا، أمَّا أن سفرك لحق بالحوادث أو سبقها فلا نعرف عنه شيئًا. فقلت وما زلت أضحك: عظيم، ولكن ما الدافع وراء الجرائم؟ – هو الدافع الكامن في أعماق المجرم الذي أعياك البحث عنه؟ – في اعتقادي أنه مجنون. – وغير مُستحيل أن تكون مجنونًا؟! – هل تجد في عملي معك شبهة جنون؟ – الجنون أنواع، والمجنون آخر من يعلم. وضحكت مُتظاهرًا بالاستهانة، ولكن حديثه ساءني، وساءني أكثر الجد الذي تناوَل به حديثه حتى خُيِّل إليَّ لحظةً أنه يُوجِّه إليَّ اتهامًا حقيقيًّا، بل إنه يصبُّ اتهامه على الناس جميعًا، ثم تبسَّم فعاد الإشراق إلى وجهه الكبير، وقال بنبرة جديدة: حسنًا، ولنُواصل العمل. وقلت لنفسي: يا له من رجل مُحيِّر! .. لا شك أن العمل في دائرته فوزٌ مرموق، وأن شخصيته تتعالى عن الاتهام، ولكن ما بال شعوري الباطني باتهامه لا يُفارقني؟
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/42406363/
التصوف البوذي والتحليل النفسي
د. ت. سوزوكي
«ومقارَبة زن هي أن تدخل في الموضوع ذاتِه وتراه، كما هو، من الداخل، فأن تعرف الزهرةَ يَعني أن تصبح الزهرة، أن تكون الزهرة، وأن تتفتَّح مثل الزهرة، وأن تبتهج لنور الشمس، وهَطْل المطر، وحين يتمُّ ذلك فإن الزهرة تكلِّمني، وأعرف كل أسرارها، وكل مَباهجها، وكل آلامها؛ أيْ كل حياتها النابضة في داخلها.»ظهرت البوذية في الهند، وهاجَرت إلى الصين، ومنها عبَرَت كوريا إلى اليابان، وقد تلوَّنت بثقافة الشعوب التي اعتنقَتها، ومن الطبيعي أن تنشأ لها طوائفُ واتجاهاتٌ في سياق التاريخ، ومن أبرزها طائفة «زن»، وهي الطائفة الصوفية الأهم والأكثر شُهرةً في ميدان التصوُّف البوذي، ويسعى فيها المعلِّم إلى توجيهِ اهتمام المريد إلى ذاته، وتحديدًا إلى حَدْسه الداخلي، واضعًا المعرفة الحَدْسية في المقام الأول دونَ إلغاءِ المعرفة العقلية، وهو ما يجعلها وثيقةَ الصِّلة بالتحليل النفسي؛ ومن ثَم فمن الطبيعي أن تجد أحدَ أقطاب الباحثين في الطائفة بصفة خاصة، والبوذية بصفة عامة، وهو الدكتور «د. ت. سوزوكي»؛ يربط بين التصوُّف البوذي الزنِّي وبين التحليل النفسي، متطرِّقًا في هذا الكتاب إلى المشاكل السيكولوجية مثل اللاوعي والذات، ومتبحِّرًا في صوفية «زن»، ومُجليًا أوجُهَ التلاقي بينها وبين التحليل النفسي.
https://www.hindawi.org/books/42406363/0.1/
إهداء الترجمة
أنت كما أنت، لا أكثر، ولا أقل. يا للروعة!
د. ت. سوزوكي: فيلسوف ومؤلِّف ومترجِم وراهب بوذي ياباني أمريكي، كان لمقالاته أثرٌ كبير في تعريفِ الغرب على بوذية الزن والشن، وفلسفة الشرق الأقصى بصورةٍ عامة. وُلد «دايسيتسو تيتارو سوزوكي» في كانازاوا، إيشيكاوا، في ١١ نوفمبر ١٨٧٠م، وكانت نشأته فقيرة؛ إذ تُوفِّي والده وهو في سنٍّ صغيرة، وتولَّت والدته وحْدَها مسئوليةَ تربيته. وحين تفتَّحت مَدارِكه، دفعَته تلك الظروف إلى البحث في الدِّيانات عن إجاباتٍ لأسئلته ومعاناته، فشرع يكوِّن نظرتَه الفلسفية للحياة، واختار لنفسه اسم «دايسيتز» عامَ ١٨٩٤م. التحق بجامعتَيْ واسيدا وطوكيو، واهتمَّ بإجادةِ عِدة لغات شرقية وأوروبية، وهو الأمر الذي أهَّله لإنجازِ ترجماتٍ أدبية غزيرة، عن الصينية والسنسكريتية واليابانية، وقضى سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية وجال في أنحاء أوروبا، قبل أن يصبح أستاذًا جامعيًّا مساعدًا عام ١٩٠٩م، مكرِّسًا وقتَه آنذاك لنشرِ الفَهم الصحيح لمذهب الماهايانا البوذي، وتدريسِ عقيدة الزن وتاريخها، فضلًا عن الفلسفة المرتبطة بها. وبتخصُّصه في الفلسفة البوذية، عمل أستاذًا لها في جامعاتٍ أمريكية عديدة، فألقى محاضَرات عنها ونشر مقالات حولها، وجمع إنتاجَه ذلك في كتُب، منها: «مقالات في بوذية الزن» في ثلاثة مجلدات، و«مقدِّمة إلى بوذية الزن»، وصدَر له أيضًا «التصوُّف البوذي والتحليل النفسي». حصل على عِدة جوائز، من بينها: «وسام الثقافة الياباني» عامَ ١٩٤٩م، و«صاحب الاستحقاق الثقافي» عامَ ١٩٥١م، ورُشِّح لجائزةِ نوبل للسلام عامَ ١٩٦٣م. تُوفِّي في كاماكورا، كاناجاوا، يوم ١٢ يوليو ١٩٦٦ عن عمرٍ ناهَز ٩٦ عامًا، قضاه رسولًا للزن حول العالَم. د. ت. سوزوكي: فيلسوف ومؤلِّف ومترجِم وراهب بوذي ياباني أمريكي، كان لمقالاته أثرٌ كبير في تعريفِ الغرب على بوذية الزن والشن، وفلسفة الشرق الأقصى بصورةٍ عامة. وُلد «دايسيتسو تيتارو سوزوكي» في كانازاوا، إيشيكاوا، في ١١ نوفمبر ١٨٧٠م، وكانت نشأته فقيرة؛ إذ تُوفِّي والده وهو في سنٍّ صغيرة، وتولَّت والدته وحْدَها مسئوليةَ تربيته. وحين تفتَّحت مَدارِكه، دفعَته تلك الظروف إلى البحث في الدِّيانات عن إجاباتٍ لأسئلته ومعاناته، فشرع يكوِّن نظرتَه الفلسفية للحياة، واختار لنفسه اسم «دايسيتز» عامَ ١٨٩٤م. التحق بجامعتَيْ واسيدا وطوكيو، واهتمَّ بإجادةِ عِدة لغات شرقية وأوروبية، وهو الأمر الذي أهَّله لإنجازِ ترجماتٍ أدبية غزيرة، عن الصينية والسنسكريتية واليابانية، وقضى سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية وجال في أنحاء أوروبا، قبل أن يصبح أستاذًا جامعيًّا مساعدًا عام ١٩٠٩م، مكرِّسًا وقتَه آنذاك لنشرِ الفَهم الصحيح لمذهب الماهايانا البوذي، وتدريسِ عقيدة الزن وتاريخها، فضلًا عن الفلسفة المرتبطة بها. وبتخصُّصه في الفلسفة البوذية، عمل أستاذًا لها في جامعاتٍ أمريكية عديدة، فألقى محاضَرات عنها ونشر مقالات حولها، وجمع إنتاجَه ذلك في كتُب، منها: «مقالات في بوذية الزن» في ثلاثة مجلدات، و«مقدِّمة إلى بوذية الزن»، وصدَر له أيضًا «التصوُّف البوذي والتحليل النفسي». حصل على عِدة جوائز، من بينها: «وسام الثقافة الياباني» عامَ ١٩٤٩م، و«صاحب الاستحقاق الثقافي» عامَ ١٩٥١م، ورُشِّح لجائزةِ نوبل للسلام عامَ ١٩٦٣م. تُوفِّي في كاماكورا، كاناجاوا، يوم ١٢ يوليو ١٩٦٦ عن عمرٍ ناهَز ٩٦ عامًا، قضاه رسولًا للزن حول العالَم.
https://www.hindawi.org/books/42406363/
التصوف البوذي والتحليل النفسي
د. ت. سوزوكي
«ومقارَبة زن هي أن تدخل في الموضوع ذاتِه وتراه، كما هو، من الداخل، فأن تعرف الزهرةَ يَعني أن تصبح الزهرة، أن تكون الزهرة، وأن تتفتَّح مثل الزهرة، وأن تبتهج لنور الشمس، وهَطْل المطر، وحين يتمُّ ذلك فإن الزهرة تكلِّمني، وأعرف كل أسرارها، وكل مَباهجها، وكل آلامها؛ أيْ كل حياتها النابضة في داخلها.»ظهرت البوذية في الهند، وهاجَرت إلى الصين، ومنها عبَرَت كوريا إلى اليابان، وقد تلوَّنت بثقافة الشعوب التي اعتنقَتها، ومن الطبيعي أن تنشأ لها طوائفُ واتجاهاتٌ في سياق التاريخ، ومن أبرزها طائفة «زن»، وهي الطائفة الصوفية الأهم والأكثر شُهرةً في ميدان التصوُّف البوذي، ويسعى فيها المعلِّم إلى توجيهِ اهتمام المريد إلى ذاته، وتحديدًا إلى حَدْسه الداخلي، واضعًا المعرفة الحَدْسية في المقام الأول دونَ إلغاءِ المعرفة العقلية، وهو ما يجعلها وثيقةَ الصِّلة بالتحليل النفسي؛ ومن ثَم فمن الطبيعي أن تجد أحدَ أقطاب الباحثين في الطائفة بصفة خاصة، والبوذية بصفة عامة، وهو الدكتور «د. ت. سوزوكي»؛ يربط بين التصوُّف البوذي الزنِّي وبين التحليل النفسي، متطرِّقًا في هذا الكتاب إلى المشاكل السيكولوجية مثل اللاوعي والذات، ومتبحِّرًا في صوفية «زن»، ومُجليًا أوجُهَ التلاقي بينها وبين التحليل النفسي.
https://www.hindawi.org/books/42406363/0.2/
تصدير
إن أي عالم نفس معاصر، منذ الحرب العالمية الثانية فصاعدًا، سيُدهش دهشة شديدة، بل سيُصدم؛ إذ يجد زملاء له منكبِّين على دراسة منظومة دينية «صوفية» مثل بوذية زن، وإنَّه ليُدهش أكثر؛ إذ يجد أن معظم الذين شاركوا في هذه الحلقة ليسوا «مهتمين» وحسب، بل ومعنيون بعمق بهذا الموضوع، وقد اكتشفوا أن الأسبوع الذي قضوه مع الدكتور سوزوكي وأفكاره قد ترك لديهم انطباعًا مؤثرًا ومحفِّزًا إلى أبعد حد، إن لم نقل أكثر من ذلك. ولكي نوجز أسباب هذا التأثير باختصار، فإنها تتمثَّل في تطور نظرية التحليل النفسي، والتغيرات الحاصلة في المناخ الفكري والروحي في العالم الغربي، وكذلك في أعمال الدكتور سوزوكي الذي عرَّف العالم الغربي على بوذية زن من خلال كتبه، ومحاضراته، وشخصيته. وما يميِّز محاضرات الدكتور سوزوكي المنشورة هنا عن كتاباته الأخرى، هو أنها معنيَّة بصورةٍ خاصة ونوعية بمشاكل سيكولوجية مثل اللاوعي والذات، فضلًا عن أنها تخاطب جماعةً صغيرة من المحللين النفسانيين، وعلماء النفس الذين اطَّلع الدكتور سوزوكي على تساؤلاتهم واهتماماتهم من خلال المناقشات والأحاديث التي دارت في الأسبوع الكامل الذي قضاه معهم. وبالنتيجة فإن هذه المحاضرات هي ذات قيمة خاصة — كما أعتقد — بالنسبة للأطباء النفسانيين، وعلماء النفس، ولكثير من المثقفين المهتمين بمشكلة الإنسان، ومع أن قراءتها «ليست سهلة» إلا أنها تأخذ بيد القارئ لفهم بوذية زن إلى حدٍّ يمكنه من أن يكون قادرًا على المتابعة بنفسه.
د. ت. سوزوكي: فيلسوف ومؤلِّف ومترجِم وراهب بوذي ياباني أمريكي، كان لمقالاته أثرٌ كبير في تعريفِ الغرب على بوذية الزن والشن، وفلسفة الشرق الأقصى بصورةٍ عامة. وُلد «دايسيتسو تيتارو سوزوكي» في كانازاوا، إيشيكاوا، في ١١ نوفمبر ١٨٧٠م، وكانت نشأته فقيرة؛ إذ تُوفِّي والده وهو في سنٍّ صغيرة، وتولَّت والدته وحْدَها مسئوليةَ تربيته. وحين تفتَّحت مَدارِكه، دفعَته تلك الظروف إلى البحث في الدِّيانات عن إجاباتٍ لأسئلته ومعاناته، فشرع يكوِّن نظرتَه الفلسفية للحياة، واختار لنفسه اسم «دايسيتز» عامَ ١٨٩٤م. التحق بجامعتَيْ واسيدا وطوكيو، واهتمَّ بإجادةِ عِدة لغات شرقية وأوروبية، وهو الأمر الذي أهَّله لإنجازِ ترجماتٍ أدبية غزيرة، عن الصينية والسنسكريتية واليابانية، وقضى سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية وجال في أنحاء أوروبا، قبل أن يصبح أستاذًا جامعيًّا مساعدًا عام ١٩٠٩م، مكرِّسًا وقتَه آنذاك لنشرِ الفَهم الصحيح لمذهب الماهايانا البوذي، وتدريسِ عقيدة الزن وتاريخها، فضلًا عن الفلسفة المرتبطة بها. وبتخصُّصه في الفلسفة البوذية، عمل أستاذًا لها في جامعاتٍ أمريكية عديدة، فألقى محاضَرات عنها ونشر مقالات حولها، وجمع إنتاجَه ذلك في كتُب، منها: «مقالات في بوذية الزن» في ثلاثة مجلدات، و«مقدِّمة إلى بوذية الزن»، وصدَر له أيضًا «التصوُّف البوذي والتحليل النفسي». حصل على عِدة جوائز، من بينها: «وسام الثقافة الياباني» عامَ ١٩٤٩م، و«صاحب الاستحقاق الثقافي» عامَ ١٩٥١م، ورُشِّح لجائزةِ نوبل للسلام عامَ ١٩٦٣م. تُوفِّي في كاماكورا، كاناجاوا، يوم ١٢ يوليو ١٩٦٦ عن عمرٍ ناهَز ٩٦ عامًا، قضاه رسولًا للزن حول العالَم. د. ت. سوزوكي: فيلسوف ومؤلِّف ومترجِم وراهب بوذي ياباني أمريكي، كان لمقالاته أثرٌ كبير في تعريفِ الغرب على بوذية الزن والشن، وفلسفة الشرق الأقصى بصورةٍ عامة. وُلد «دايسيتسو تيتارو سوزوكي» في كانازاوا، إيشيكاوا، في ١١ نوفمبر ١٨٧٠م، وكانت نشأته فقيرة؛ إذ تُوفِّي والده وهو في سنٍّ صغيرة، وتولَّت والدته وحْدَها مسئوليةَ تربيته. وحين تفتَّحت مَدارِكه، دفعَته تلك الظروف إلى البحث في الدِّيانات عن إجاباتٍ لأسئلته ومعاناته، فشرع يكوِّن نظرتَه الفلسفية للحياة، واختار لنفسه اسم «دايسيتز» عامَ ١٨٩٤م. التحق بجامعتَيْ واسيدا وطوكيو، واهتمَّ بإجادةِ عِدة لغات شرقية وأوروبية، وهو الأمر الذي أهَّله لإنجازِ ترجماتٍ أدبية غزيرة، عن الصينية والسنسكريتية واليابانية، وقضى سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية وجال في أنحاء أوروبا، قبل أن يصبح أستاذًا جامعيًّا مساعدًا عام ١٩٠٩م، مكرِّسًا وقتَه آنذاك لنشرِ الفَهم الصحيح لمذهب الماهايانا البوذي، وتدريسِ عقيدة الزن وتاريخها، فضلًا عن الفلسفة المرتبطة بها. وبتخصُّصه في الفلسفة البوذية، عمل أستاذًا لها في جامعاتٍ أمريكية عديدة، فألقى محاضَرات عنها ونشر مقالات حولها، وجمع إنتاجَه ذلك في كتُب، منها: «مقالات في بوذية الزن» في ثلاثة مجلدات، و«مقدِّمة إلى بوذية الزن»، وصدَر له أيضًا «التصوُّف البوذي والتحليل النفسي». حصل على عِدة جوائز، من بينها: «وسام الثقافة الياباني» عامَ ١٩٤٩م، و«صاحب الاستحقاق الثقافي» عامَ ١٩٥١م، ورُشِّح لجائزةِ نوبل للسلام عامَ ١٩٦٣م. تُوفِّي في كاماكورا، كاناجاوا، يوم ١٢ يوليو ١٩٦٦ عن عمرٍ ناهَز ٩٦ عامًا، قضاه رسولًا للزن حول العالَم.
https://www.hindawi.org/books/42406363/
التصوف البوذي والتحليل النفسي
د. ت. سوزوكي
«ومقارَبة زن هي أن تدخل في الموضوع ذاتِه وتراه، كما هو، من الداخل، فأن تعرف الزهرةَ يَعني أن تصبح الزهرة، أن تكون الزهرة، وأن تتفتَّح مثل الزهرة، وأن تبتهج لنور الشمس، وهَطْل المطر، وحين يتمُّ ذلك فإن الزهرة تكلِّمني، وأعرف كل أسرارها، وكل مَباهجها، وكل آلامها؛ أيْ كل حياتها النابضة في داخلها.»ظهرت البوذية في الهند، وهاجَرت إلى الصين، ومنها عبَرَت كوريا إلى اليابان، وقد تلوَّنت بثقافة الشعوب التي اعتنقَتها، ومن الطبيعي أن تنشأ لها طوائفُ واتجاهاتٌ في سياق التاريخ، ومن أبرزها طائفة «زن»، وهي الطائفة الصوفية الأهم والأكثر شُهرةً في ميدان التصوُّف البوذي، ويسعى فيها المعلِّم إلى توجيهِ اهتمام المريد إلى ذاته، وتحديدًا إلى حَدْسه الداخلي، واضعًا المعرفة الحَدْسية في المقام الأول دونَ إلغاءِ المعرفة العقلية، وهو ما يجعلها وثيقةَ الصِّلة بالتحليل النفسي؛ ومن ثَم فمن الطبيعي أن تجد أحدَ أقطاب الباحثين في الطائفة بصفة خاصة، والبوذية بصفة عامة، وهو الدكتور «د. ت. سوزوكي»؛ يربط بين التصوُّف البوذي الزنِّي وبين التحليل النفسي، متطرِّقًا في هذا الكتاب إلى المشاكل السيكولوجية مثل اللاوعي والذات، ومتبحِّرًا في صوفية «زن»، ومُجليًا أوجُهَ التلاقي بينها وبين التحليل النفسي.
https://www.hindawi.org/books/42406363/1/
شرق وغرب
ثمة عدد كبير من المفكرين الغربيين الأكْفَاء الذين اهتموا، كلٌّ من وجهة نظره الخاصة بموضوع «الشرق والغرب»، في حين أن قلةً قليلة وحسب من كُتَّاب الشرق الأقصى هم الذين عبَّروا عن وجهات نظرهم كشرقيين. وقد ساقتني هذه الواقعة لأن أختار هذا الموضوع كنوعٍ من التوطئة لِمَا سيأتي. إن الشعور الساري عبر المقاطع السبعة عشر، أو بالأحرى الخمسة عشر مع علامة التعجُّب في النهاية، قد لا يكون قابلًا للإيصال إلى من لا يعرف اليابانية، وسأحاول ما بوسعي لكي أشرحه، ومع أن الشاعر نفسه قد لا يوافق على تأويلي إلا أن هذا ليس مهمًّا كثيرًا إذا ما علمنا أن ثمة أحدًا ما على الأقل يفهم القصيدة كما أفهمها. وقبل كل شيء، فإن باشو كان شاعر طبيعة، شأن معظم شعراء الشرق؛ فهم يحبُّون الطبيعة حبًّا جمًّا بحيث يشعرون أنهم متَّحدون بها، فيحسُّون بكل نبضةٍ تنبض في عروقها. أما الغربيون فمعظمهم ميَّال إلى تغريب نفسه عن الطبيعة، وهم يعتقدون أن لا شيء مشترك بين الإنسان والطبيعة، اللهم إلا في بعض الجوانب المرغوبة، وأن الطبيعة لا توجد إلا لكي ينتفع بها الإنسان، في حين أن الطبيعة قريبة جدًّا من الشرقيين. وهذا الإحساس بالطبيعة هو ما أُثير حين اكتشف باشو نباتًا مختبئًا، ومُهمَلًا، مُزهرًا على السياج الخرب القديم في الدرب الريفي البعيد، ببراءةٍ شديدة، ودون ادِّعاء، أو رغبة بأن يلاحظه أحد. ومع ذلك فإنه حين ينظر المرء إليه، يكون ممتلئًا رقَّة، ومفعمًا بمجدٍ وأُبهة أكثر تألقًا من مجد وأُبهة سليمان، وإن «تواضعه الشديد، وجماله غير المتفاخر، لَيُوقظ لدى المرء ذلك النوع الصادق من الإعجاب. وإنَّ الشاعر ليمكنه أن يقرأ في كل بتلة السرَّ الأعمق للحياة والكينونة. ولعل باشو لم يكن واعيًا لهذا هو نفسه، لكنني واثق أن قلبه في ذلك الحين كان يرتعش بشعورٍ قريب مما قد يدعوه المسيحيون حبًّا إلهيًّا، والذي يبلغ أغوار الحياة الكونية. هذا هو الشرق، فلنرَ الآن ما يقدمه الغرب في وضعٍ مماثل، وإنني أختار لذلك الشاعر تينيسون (١٨٠٩–١٨٩٢م)، وعلى الرغم من أنه قد لا يكون شاعرًا غربيًّا نموذجيًّا بحيث نختاره لمثل هذه المقارنة مع شاعرٍ من الشرق الأقصى، إلا أن في قصيدته التي سأُوردها شيئًا مرتبطًا صميميًّا بقصيدة باشو، يقول تينيسون: ثمة نقطتان أود الإشارة إليهما في هذه الأبيات: ما الذي يفعله تينيسون بعد ذلك؟ إنه، وهو ينظر إلى الزهرة التي اقتلعها، والتي بدأت تذوي وتذبل على الأرجح، يطرح في داخله السؤال: «أيمكن أن أفهمك؟» أما باشو فليس فضوليًّا أبدًا ولا يحب التحري، وهو يشعر أن كل السِّر قد تكشَّف في النازونا المتواضعة — السرُّ الذي يسري عميقًا إلى نبع الوجود كله. وهذا شعور يُسكره فيعبِّر عن ذلك بصرخةٍ لم تُنطَق، ولم تُسمع. وبخلاف ذلك، فإن تينيسون يمضي في تفكيره: «لو (والتشديد من قِبلي) استطعت أن أفهمك، لعرفت ما الله، وما الإنسان». وهذا الاحتكام إلى الفهم هو غربيٌّ على نحو مميَّز؛ فباشو يَقبَل، أما تينيسون فيرفض، وفردية تينيسون تقف بعيدًا عن الزهرة، وعن «الله والإنسان»؛ فهو لا يتماهى لا مع الله، ولا مع الطبيعة، ويظلُّ على الدوام مستقلًّا عنهما. ويمكن أن نصف فهمه كما يصفه الناس هذه الأيام بأنه «موضوعي علمي»، في حين أن باشو «ذاتي» تمامًا (وهذه ليست بالكلمة الملائمة؛ لأن الذات تقف على الدوام مقابل الموضوع، و«الذات» التي أعنيها هنا هي ما أحبُّ أن أسميه «الذاتية المطلقة»). وباشو يقف في صف هذه «الذاتية المطلقة» التي يرى فيها النازونا، والنازونا تراه، دون أن يكون هنا ثمة تقمص، أو تماثل، أو تماهٍ. يقول باشو: أُمعنُ النظر (في اليابانية «يوكوميريبا»). الأمر الذي يشتمل على أن باشو لم يعد متفرجًا هنا، وأن الزهرة قد أضحت واعية لذاتها، ومعبِّرة عن ذاتها بصمتٍ وفصاحة، وهذا الصمت الفصيح، أو الفصاحة الصامتة من جانب الزهرة يتردد صداه على نحوٍ إنساني في مقاطع باشو السبعة عشر، ويبقى أن عمق الشعور هنا، وإبهام القول، أو «فلسفة الذاتية المطلقة»، تظلُّ غير مفهومة إلا لأولئك الذين خبروا فعليًّا كل ذلك. إن لاو-تسي يصوِّر نفسه شبيهًا بمعتوه، ويبدو كما لو أنه لا يعرف شيئًا، ولا يتأثر بشيء، ويبدو على الأخصِّ وكأنه لا نفع له في هذا العالم النفعي، ويكاد أن يكون بلا تعابير، ومع ذلك فإن فيه ما يجعله مختلفًا عن الشخص الجاهل المغفَّل، فهو لا يشبه مثل هذا الشخص إلا خارجيًّا. أما الغرب، وبخلاف ذلك، فله زوج من الأعين الحادَّة، النفاذة، راسختان في محجريهما، تمسحان العالم الخارجي كما تفعل عينا نسر محلِّق عاليًا في السماء، (والواقع أن النسر هو الرمز القومي لسلطةٍ غريبة معينة)، كما أن أنفه الشامخ، وشفتيه الرقيقتين، ومحيط وجهه عمومًا؛ توحي جميعًا بحالةٍ فكرية رفيعة واستعداد للفعل، ويمكن مقارنة هذا الاستعداد باستعداد الأسد، وبالفعل، فإن الأسد والنسر هما رمزا الغرب. إن الغرب ذا العقلية العلمية يستخدم ذكاءه لاختراع كل أنواع الأدوات بهدف رفع مستوى المعيشة والتخلُّص مما يعتقد أنه عمل أو كدح غير ضروي، وهكذا يحاول جاهدًا أن «يطور» الموارد التي يطالها، أما الشرق، من جهةٍ أخرى، فلا يهتم لانهماكه في العمل الوضيع واليدوي مهما يكن نوعه، ومن الواضح أنه راضٍ بحالةٍ حضارية «غير متطورة»، وهو لا يحب أن يكون ذا عقلية آلية، وأن يحول نفسه إلى عبد للآلة، وربما يكون هذا الحب للعمل مميزًا للشرق، وثمة قصة رواها تشوانغ-تسي عن أحد المزارعين هي قصة ذات دلالة رفيعة وتنضح بمعانٍ عديدة، على الرغم من افتراض أن الحادث قد وقع في الصين منذ أكثر من ألفي عام. حفر مزارع بئرًا وارح يستخدم الماء لسقاية مزرعته، وكان يستعمل لسحب الماء من البئر دلوًا عاديًّا، كما يفعل معظم البدائيين، وذات مرة رآه واحد من عابري السبيل، وسأله لماذا لا يستخدم الشادوف لهذا الغرض، فهو وسيلة توفر الجهد وتنجز أكثر من الطريقة البدائية، فقال المزارع: «أعلم أنها موفرة للجهد؛ ولهذا السبب بالذات لا أستخدمها، فما أخشاه هو أن يجعلني استخدام مثل هذه المخترعات ذا عقلية آلية، فالعقلية الآلية تسوق المرء إلى عادة الكسل والتراخي». وغالبًا ما يتساءل الغربيون لماذا لم يُطور الصينيون مزيدًا من العلوم والمخترعات الميكانيكية، ويقولون: إن ذلك أمرٌ غريب في الوقت الذي اشتهر فيه الصينيون باكتشافاتهم واختراعاتهم كالمغناطيس، والبارود، والعجلة، والورق، وغيرها … غير أن السبب الأساسي لذلك هو أن الصينيين، وغيرهم من الشعوب الآسيوية يحبون الحياة كما تُعاش، ولا يرغبون بتحويلها إلى وسيلةٍ لإنجاز شيء آخر، الأمر الذي يحول مجرى العيش في قناةٍ مغايرة تمامًا، وهم يحبون العمل لذاته، على الرغم من أن العمل يعني إنجاز شيء ما، ولكنهم حين يعملون يتمتعون بالعمل ولا يتعجَّلون إنهاءه، وإذا ما كان صحيحًا أن الوسائل الميكانيكية أكثر كفاءةً وإنجازًا، إلا أن الآلة متجردة عمَّا هو شخصي، وغير مبدعة، ولا معنى لها. ينطوي الشخص والآلة على تناقض، وهذا التناقض هو السبب في أن الغرب يعاني من توترٍ نفسي شديد يتجلى في مناحٍ كثيرة من حياته الحديثة. علاوة على ذلك، فإن الإنسان بوصفه نتاجًا بيولوجيًّا محكوم بقوانين بيولوجية، فالوراثة حقيقة واقعة وما من شخصٍ يمكنه أن يبدِّلها، وأنا لم أولد بإرادتي الحرَّة، وأهلي لم ينجبوني بإرادتهم الحرة، والولادة المُخطَّط لها لا معنى لها في الحقيقة. الحرية هي فكرة فارغة أخرى، فأنا أعيش بصورةٍ اجتماعية، في جماعةٍ تقيدني في كل تحركاتي، ذهنيًّا وجسديًّا، وحتى حين أكون وحدي لا أكون حرًّا أبدًا، فلدي كل ضروب الدوافع التي ليست تحت سيطرتي على الدوام. وبعض الدوافع تسوقني بعيدًا رغمًا عني، وطالما أننا نعيش في هذا العالم المحدود، فليس بمقدورنا أن نتحدث عن كوننا أحرارًا نفعل ما نرغب به؛ فحتى هذه الرغبة هي شيء غير خاص بنا. قد يتحدث الشخص عن الحرية، لكن الآلة تقيِّده من جميع الجهات، والكلام لا يعدو كونه كلامًا، والشخص الغربي مقيد ومكبوح ومكفوف منذ البداية، عفويته ليست عفويته على الإطلاق، وإنما هي عفوية الآلة، والآلة لا إبداع لديها؛ هي لا تعمل إلا بالقدر الذي يجعله الشيء الموضوع فيها ممكنًا، وهي تسلك أبدًا كما «الشخص». لا يكون الشخص حرًّا إلا حين لا يكون شخصًا، فهو حر حين ينكر ذاته ويذوب في المجموع، وبصورةٍ أدقَّ، فإنه حرٌّ حين يكون ذاته، ومع ذلك ليس ذاته. وما لم يفهم المرء هذا التناقض الواضح، فإنه لن يكون أهلًا للحديث عن الحرية أو المسئولية أو العفوية، وعلى سبيل المثال، فإن العفوية التي يتحدث عنها الغربيون، وخاصة بعض المحللين-النفسانيين، لا تعدو أن تكون عفوية طفولية أو حيوانية، وليست عفوية الشخص الناضج تمام النضج. يكافح الغرب لتربيع الدائرة، أما الشرق فيحاول أن يكافئ الدائرة بالمربع، وبالنسبة ﻟ «زن» الدائرة هي دائرة، المربع مربع، وفي الوقت ذاته المربع دائرة، والدائرة مربع. الحرية مصطلحٌ ذاتي، ولا يمكن تأويله موضوعيًّا، وحين نحاول، فإننا نقع في تناقضاتٍ لا سبيل إلى الخروج منها؛ ولذلك أقول: إن الحديث عن الحرية في هذا العالم الموضوعي من الحدود المحيطة بنا هو حديث فارغ. في الغرب «نعم» هي «نعم» و«لا» هي «لا»، ولا يمكن أبدًا ﻟ «نعم» أن تكون «لا» أو العكس، أما الشرق فيجعل «نعم» تتحول إلى «لا» و«لا» إلى «نعم»، فليس ثمة انقسام حاد وثابت بين «نعم» و«لا»، وإنه لمن طبيعة الحياة أن تكون كذلك. ولا يكون الانقسام راسخًا لا يحول إلا في المنطق وحده، والمنطق صنعه الإنسان كي يساعده في نشاطاته النفعية.
د. ت. سوزوكي: فيلسوف ومؤلِّف ومترجِم وراهب بوذي ياباني أمريكي، كان لمقالاته أثرٌ كبير في تعريفِ الغرب على بوذية الزن والشن، وفلسفة الشرق الأقصى بصورةٍ عامة. وُلد «دايسيتسو تيتارو سوزوكي» في كانازاوا، إيشيكاوا، في ١١ نوفمبر ١٨٧٠م، وكانت نشأته فقيرة؛ إذ تُوفِّي والده وهو في سنٍّ صغيرة، وتولَّت والدته وحْدَها مسئوليةَ تربيته. وحين تفتَّحت مَدارِكه، دفعَته تلك الظروف إلى البحث في الدِّيانات عن إجاباتٍ لأسئلته ومعاناته، فشرع يكوِّن نظرتَه الفلسفية للحياة، واختار لنفسه اسم «دايسيتز» عامَ ١٨٩٤م. التحق بجامعتَيْ واسيدا وطوكيو، واهتمَّ بإجادةِ عِدة لغات شرقية وأوروبية، وهو الأمر الذي أهَّله لإنجازِ ترجماتٍ أدبية غزيرة، عن الصينية والسنسكريتية واليابانية، وقضى سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية وجال في أنحاء أوروبا، قبل أن يصبح أستاذًا جامعيًّا مساعدًا عام ١٩٠٩م، مكرِّسًا وقتَه آنذاك لنشرِ الفَهم الصحيح لمذهب الماهايانا البوذي، وتدريسِ عقيدة الزن وتاريخها، فضلًا عن الفلسفة المرتبطة بها. وبتخصُّصه في الفلسفة البوذية، عمل أستاذًا لها في جامعاتٍ أمريكية عديدة، فألقى محاضَرات عنها ونشر مقالات حولها، وجمع إنتاجَه ذلك في كتُب، منها: «مقالات في بوذية الزن» في ثلاثة مجلدات، و«مقدِّمة إلى بوذية الزن»، وصدَر له أيضًا «التصوُّف البوذي والتحليل النفسي». حصل على عِدة جوائز، من بينها: «وسام الثقافة الياباني» عامَ ١٩٤٩م، و«صاحب الاستحقاق الثقافي» عامَ ١٩٥١م، ورُشِّح لجائزةِ نوبل للسلام عامَ ١٩٦٣م. تُوفِّي في كاماكورا، كاناجاوا، يوم ١٢ يوليو ١٩٦٦ عن عمرٍ ناهَز ٩٦ عامًا، قضاه رسولًا للزن حول العالَم. د. ت. سوزوكي: فيلسوف ومؤلِّف ومترجِم وراهب بوذي ياباني أمريكي، كان لمقالاته أثرٌ كبير في تعريفِ الغرب على بوذية الزن والشن، وفلسفة الشرق الأقصى بصورةٍ عامة. وُلد «دايسيتسو تيتارو سوزوكي» في كانازاوا، إيشيكاوا، في ١١ نوفمبر ١٨٧٠م، وكانت نشأته فقيرة؛ إذ تُوفِّي والده وهو في سنٍّ صغيرة، وتولَّت والدته وحْدَها مسئوليةَ تربيته. وحين تفتَّحت مَدارِكه، دفعَته تلك الظروف إلى البحث في الدِّيانات عن إجاباتٍ لأسئلته ومعاناته، فشرع يكوِّن نظرتَه الفلسفية للحياة، واختار لنفسه اسم «دايسيتز» عامَ ١٨٩٤م. التحق بجامعتَيْ واسيدا وطوكيو، واهتمَّ بإجادةِ عِدة لغات شرقية وأوروبية، وهو الأمر الذي أهَّله لإنجازِ ترجماتٍ أدبية غزيرة، عن الصينية والسنسكريتية واليابانية، وقضى سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية وجال في أنحاء أوروبا، قبل أن يصبح أستاذًا جامعيًّا مساعدًا عام ١٩٠٩م، مكرِّسًا وقتَه آنذاك لنشرِ الفَهم الصحيح لمذهب الماهايانا البوذي، وتدريسِ عقيدة الزن وتاريخها، فضلًا عن الفلسفة المرتبطة بها. وبتخصُّصه في الفلسفة البوذية، عمل أستاذًا لها في جامعاتٍ أمريكية عديدة، فألقى محاضَرات عنها ونشر مقالات حولها، وجمع إنتاجَه ذلك في كتُب، منها: «مقالات في بوذية الزن» في ثلاثة مجلدات، و«مقدِّمة إلى بوذية الزن»، وصدَر له أيضًا «التصوُّف البوذي والتحليل النفسي». حصل على عِدة جوائز، من بينها: «وسام الثقافة الياباني» عامَ ١٩٤٩م، و«صاحب الاستحقاق الثقافي» عامَ ١٩٥١م، ورُشِّح لجائزةِ نوبل للسلام عامَ ١٩٦٣م. تُوفِّي في كاماكورا، كاناجاوا، يوم ١٢ يوليو ١٩٦٦ عن عمرٍ ناهَز ٩٦ عامًا، قضاه رسولًا للزن حول العالَم.
https://www.hindawi.org/books/42406363/
التصوف البوذي والتحليل النفسي
د. ت. سوزوكي
«ومقارَبة زن هي أن تدخل في الموضوع ذاتِه وتراه، كما هو، من الداخل، فأن تعرف الزهرةَ يَعني أن تصبح الزهرة، أن تكون الزهرة، وأن تتفتَّح مثل الزهرة، وأن تبتهج لنور الشمس، وهَطْل المطر، وحين يتمُّ ذلك فإن الزهرة تكلِّمني، وأعرف كل أسرارها، وكل مَباهجها، وكل آلامها؛ أيْ كل حياتها النابضة في داخلها.»ظهرت البوذية في الهند، وهاجَرت إلى الصين، ومنها عبَرَت كوريا إلى اليابان، وقد تلوَّنت بثقافة الشعوب التي اعتنقَتها، ومن الطبيعي أن تنشأ لها طوائفُ واتجاهاتٌ في سياق التاريخ، ومن أبرزها طائفة «زن»، وهي الطائفة الصوفية الأهم والأكثر شُهرةً في ميدان التصوُّف البوذي، ويسعى فيها المعلِّم إلى توجيهِ اهتمام المريد إلى ذاته، وتحديدًا إلى حَدْسه الداخلي، واضعًا المعرفة الحَدْسية في المقام الأول دونَ إلغاءِ المعرفة العقلية، وهو ما يجعلها وثيقةَ الصِّلة بالتحليل النفسي؛ ومن ثَم فمن الطبيعي أن تجد أحدَ أقطاب الباحثين في الطائفة بصفة خاصة، والبوذية بصفة عامة، وهو الدكتور «د. ت. سوزوكي»؛ يربط بين التصوُّف البوذي الزنِّي وبين التحليل النفسي، متطرِّقًا في هذا الكتاب إلى المشاكل السيكولوجية مثل اللاوعي والذات، ومتبحِّرًا في صوفية «زن»، ومُجليًا أوجُهَ التلاقي بينها وبين التحليل النفسي.
https://www.hindawi.org/books/42406363/2/
اللاوعي في بوذية زن
ويقضي المنهج العلمي في دراسة الواقع بأن نرى الموضوع مما يُدعى وجهة نظر موضوعية. ولنفترض — على سبيل المثال — أن الزهرة التي أمامي على الطاولة هي موضوع دراسة علمية، وعندها سوف يُخضعها العلماء لكل ضروب التحليل، النباتي، والكيميائي، والفيزيائي … إلخ، ويقولون لنا: إنهم قد استكشفوا الزهرة من الزوايا الخاصة بدراستهم، ويقولون: إن دراسة الزهرة قد استُنْفدَتْ، وما من مزيدٍ لقوله عنها ما لم يتمَّ اكتشاف شيء جديد في سياق دراسات أخرى. بيد أن السؤال يظلُّ مطروحًا: «هل وقع الموضوع كاملًا في الشبكة حقًّا؟» وأُجيب: «لا، بالتأكيد!» لأن الموضوع الذي نعتقد أننا قد أمسكنا به ليس سوى محصِّلة تجريدات وليس الموضوع ذاته، ومن أجل مقاصد علمية ونفعية، فإنَّ ما يُدعى بالصيغ العلمية تبدو أكثر من كافية، لكن الموضوع غير موجود، فبعد سحب الشبكة، نجد أن شيئًا ما قد فرَّ من ثقوبها الصغيرة. ويبقى أنَّ هناك طريقة أخرى لمقاربة الواقع، تسبق العلوم أو تأتي بعدها، وإنني أدعو هذه الطريقة مقاربة زن. وأنا أدعو هذا النوع من مقاربة الواقع طريقة زن، وهي الطريقة قبل العلمية، أو فوق العلمية، أو حتى ضدَّ العلمية. وتساءل الفنان: «كيف يمكن لي أن أتحوَّل إلى تنين؟» وردَّ رئيس الرهبان: «سوف تعود إلى حجرتك وتركِّز تفكيرك على هذا الأمر، وسيأتي وقتٌ تشعر فيه أنَّ عليك أن ترسم تنينًا، وتلك هي اللحظة التي تكون قد تحولت فيها إلى تنين، ويدفعك فيها التنين لأن تعطيه شكلًا». اتَّبع الفنان نصيحة رئيس الرهبان، وبعد مكابداتٍ شاقَّة طوال عدة أشهر أصبح واثقًا من نفسه إذ رأى نفسه في التنين الخارج من لاوعيه، وكانت النتيجة هي ذلك التنين الذي نراه اليوم على سقف قاعة الدهارما في ميوشينجي، في كيوتو. وأريد، بالمناسبة، أن أشير إلى قصةٍ أخرى عن لقاء تنين مع فنانٍ صيني، وكان هذا الفنان قد رغب برسم تنين، وراح يتوق لفرصةٍ مناسبة؛ كونه لم يَرَ تنينًا حيًّا أبدًا، وفي أحد الأيام أطلَّ تنين حيٌّ من النافذة وقال: «ها أنا، ارسمني!» وشُدِه الرسام بهذا الزائر غير المتوقع لدرجة أنه قد أُغمي عليه بدلًا من أن ينظر إليه بإمعان، وهكذا لم يرسم أبدًا صورة تنين حيٍّ. وفي الوقت الذي لا ننتظر فيه أن نكون جميعًا علماء، فإن الطبيعة قد شكلتنا بحيث يمكن لنا جميعًا أن نكون فنانين، لا فنانين من نوعٍ خاص، كالرسامين، أو النحاتين، أو الموسيقيين، أو الشعراء … إلخ، بل فنانو الحياة، وهذه المهنة، «فنان الحياة»، قد تبدو جديدة وغريبة تمامًا، لكن الحقيقة هي أننا نولد فناني الحياة ومعظمنا يُخفقُ، دون علمه، في أن يكون كذلك، والنتيجة هي أننا نُفسد حياتنا، فنتساءل، «ما معنى الحياة؟» ألا نواجه عَدَمًا مطلقًا؟ «بعد عيش ثمانية وسبعين عامًا، أو تسعين عامًا، أين نذهب؟ لا أحد يعلم»، إلخ. ويُقال: إن معظم الرجال والنساء الآن عصابيون فيما يتعلق بهذه القضايا، لكن بمقدور الزنِّي أن يقول لهم: إنهم قد نسوا جميعًا أنهم ولدوا فنانين، فناني الحياة المبدعين، وإنهم حالما يدركون هذه الحقيقة الواقعة سوف يبرءون من العُصاب، أو الذهان، أو غيره من الأسماء التي يطلقونها على مشكلتهم. ما المقصود إذًا بأن يكون المرء فنان الحياة؟ بقدر ما نعلم، فإن جميع أصناف الفنانين لا بد أن يستخدموا هذه الأداة أو تلك في تعبيرهم عن أنفسهم، وإظهار إبداعهم بصورةٍ أو بأخرى، فعلى النحات أن يحصل على حجرٍ، أو خشب، أو صلصال، أو إزميل، أو غيره من الأدوات لينقش أفكاره على المادة، لكن فنان الحياة لا حاجة به لأن يخرج خارج ذاته، فكل المادة، وكل الأدوات، وكل المهارة التقنية المطلوبة موجودة معه منذ لحظة ولادته، بل وربما قبل أن ينجبه والداه، وقد تصرخون: إن هذا غريب وغير عادي، لكنني واثقٌ من أنكم حين تفكرون فيه لبرهة ستدركون ما أعنيه، فإن لم تدركوا، فسوف أكون أكثر وضوحًا وأقول لكم: إن الجسد، الجسد الفيزيقي الذي نملكه جميعًا، هو المادة، شأنه شأن قماش الرسام، وخشب النحات، أو حجره، أو صلصاله، وكمان الموسيقي، أو نايه، والحبال الصوتية لدى المغني، وكل ما هو متصل بالجسد، كالأيدي، والأقدام، والجذع، والرأس، والأحشاء، والأعصاب، والخلايا، والأفكار، والمشاعر، والأحاسيس — وفي الحقيقة كل ما يساهم في تشكيل الشخصية بأكملها — هو في آنٍ واحد كلٌّ من المادة والأدوات التي يحول بها الشخص عبقريته الإبداعية إلى إنتاج، وإلى سلوك، وإلى كل أشكال الفعل، وفي الحقيقة إلى حياةٍ بالذات، وحياة مثل هذا الشخص تعكس كل صورةٍ يبدعها من منبع لاوعيه الذي لا ينضب، وكل فعلٍ من أفعال هذا الشخص يعبر عن أصالته، وإبداعه، وشخصيته الحيَّة، فليس ثمة تقليديَّة في هذه الشخصية، ولا امتثال، ولا دوافع مكفوفة، إنه يتحرك على النحو الذي يمتع، وسلوكه مثل الريح التي تهب كما تشاء، وهو غير منغلق على نفسه في وجوده المتشظي، والمحدود، والمحصور، والأناني، فقد غادر هذا السجن، ولقد قال واحدٌ من معلمي زن العظماء: «الرجل الذي هو سيد نفسه، يسلك لنفسه حقًّا»، وأنا أدعو هذا الرجل فنان الحياة الحقيقي. لقد لامست ذاته اللاوعي منبع الإمكانات اللانهائية، ولامست «لا-عقله». يقول القديس أغسطين: «أحبَّ الله وافعل ما تشاء»، وهو قولٌ ينسجم مع قصيدة بونان، معلم زن قبل القرن السابع عشر: فأن تحب الله يعني أن تكون بلا ذات، وأن تكون بلا عقل، أن تصبح «رجلًا ميتًا»، وأن تتحرر من دوافع الوعي المقيدة. إن «صباح الخير» التي يقولها مثل هذا الرجل خالية من أي عنصرٍ من عناصر المصلحة البشرية الراسخة، وهو يردُّ إذا ما خاطبه الآخرون، ويشعر بالجوع فيأكل، ومن الواضح أنه رجلٌ طبيعي، آت من الطبيعة مباشرة دون إيديولوجيات الإنسان المتحضِّر الحديث المعقَّدة. ولكن يا لهذا الغنى في حياته الداخلية! ذلك أنه في اتصال مباشر مع اللاوعي العظيم. وقد توضح القصة التالية إلى حدٍّ ما ما أعنيه بتحويل حياتنا اليومية إلى شيءٍ من الفن. ففي القرن الثامن كان يعيش معلمٌ عظيم من معلمي زن اسمه دوغو، وكان لدوغو مريدٌ شاب راغب في تعلُّم زن، وقد مكث هذا الشاب مع المعلم لبعض الوقت دون أن يتلقَّى منه أي تعليمٍ خاص. وذات يوم دنا من المعلم، وقال: «لقد انقضت فترة وأنا معك، ولكنك لم تعطني أية إرشادات، فلماذا؟ أرجوك كن طيبًا وأسدِ إليَّ النصيحة»، فأجاب المعلم: «لماذا تقول ذلك؟! لقد علمتك زن منذ أتيت إليَّ»، فاحتجَّ المريد: «قل لي أرجوك أي تعليمٍ هو هذا؟» ورد المعلم: «عندما تراني في الصباح تحييني، وأرد التحية، وحين تأتي بالفطور، أقبله ممتنًّا، ففي أي شيءٍ لم أُشر إلى جوهر العقل؟» وبسماعه هذا طأطأ المريد رأسه وبدا مستغرقًا في فكِّ مغالق معنى كلمات المعلم، وعندها قال له المعلم: «حالما تبدأ بالتفكير بهذا، فإنه يكفُّ عن أن يكون موجودًا، عليك أن تراه مباشرة، دون إعمال للفكر، ودون تردد»، ولقد قال المعلم هذا؛ لكي ينبِّه المريد إلى حقيقة زن. وحقيقة زن، بل وجزء صغير منها وحسب؛ هي ما يحوِّل حياة المرء المملَّة، حياة الاعتياد الرتيبة والخالية من الإلهام، إلى حياة فنٍّ مفعمة بالإبداع الداخلي الأصيل. ثمة في كل هذا شيء سابق في الزمن على الدراسة العلمية للواقع، شيء لا يمكن تمريره من الجهاز المصنوع علميًّا. فاللاوعي بمعناه في زن هو الغامض، والمجهول بلا شك؛ ولذا فهو غير علمي أو قبل علمي، ولكن هذا لا يعني أنه بعيدٌ عن متناول وعينا، أو شيء لا علاقة لنا به، فهو في الواقع — وبخلاف ذلك — أقرب الأشياء إلينا، ونظرًا لهذا القرب بالضبط يكون من الصعب الإمساك به، بالطريقة ذاتها التي لا تستطيع بها العين أن ترى ذاتها؛ ولذا فإننا لكي نصبح واعين باللاوعي يتطلب الأمر منا تدريبًا خاصًّا للوعي. وإذا ما تحدثنا من الناحية السببية، فإن الوعي قد تم إيقاظه من قبل اللاوعي في فترةٍ ما من مجرى التطور، فالطبيعة تشق طريقها غير واعية بذاتها، ثم يخرج منها الإنسان الواعي. والوعي هو قفزة، لكن القفزة لا تعني انفصالًا بالمعنى الفيزيقي للكلمة؛ ذلك أن الوعي هو في اتصالٍ دائم مع اللاوعي، دون انقطاع. والحقيقة أنه من دون هذا الأخير لا يمكن للأول أن يقوم بوظيفته، حيث يفقد أساس عمله، وهذا هو السبب في أن زن يعلن أن التاو هو «العقل اليومي»، وبالطبع فإن زن يقصد بالتاو اللاوعي، الذي يعمل طوال الوقت في وعينا، وقد يساعد الموندو (سؤال وجواب) التالي على فهم شيء من لا وعي زن: فعندما سأل راهبٌ معلمًا عما يقصده ﺑ «الوعي اليومي»، أجاب: «أن آكل حين أجوع، وأن أنام حين أتعب». دعونا نرَ ما إذا كان هنالك فارق جوهري أم لا بين اللاوعي «الغريزي» واللاوعي «المدرَّب» على نحوٍ رفيع. وما دام اللاوعي لا وعيًا غريزيًّا، فإنه لا يتجاوز لاوعي الحيوانات أو الأطفال، ولا يمكن أن يكون لاوعي الرجل الناضج فما يخصُّ هذا الأخير هو اللاوعي المدرَّب الذي تم فيه اندماج كل التجارب الواعية التي خاضها المرء منذ الطفولة بوصفها مكوِّنة لكيانه كله؛ ولهذا السبب فإن براعة المُسايف حالما يُشهر السيف، جنبًا إلى جنب مع وعيه لِكامل الوضع؛ تتراجع إلى الخلف ويبدأ لاوعيه المدرَّب بلعب دوره إلى أبعد حد، وهكذا يسيطر السيف على الأمور ويعالجها بنجاحٍ كما لو أنه قد امتلك نفسًا بحدِّ ذاته. ولعل من الممكن القول: إن اللاوعي بقدر ما يكون مرتبطًا بالمجال الحسي؛ يكون نتاجًا لسيرورةٍ طويلة من التطور في تاريخ الحياة الكوني، وتُقاسمُنا إياه الحيوانات والأطفال على حدٍّ سواء. بيد أن المجال الحسي يغزوه الفكر، وتضيع سذاجة التجربة الحسية حين يحدث التطور الفكري، مع ازدياد نمونا، فحين نبتسم لا يكون ذلك مجرد ابتسام وحسب، فثمة شيء ما آخر ينضاف إليه، ونحن لا نأكل كما كنا نأكل في طفولتنا، فالأكل مختلطٌ مع التفكير، وكما نعلم جميعًا فإن هذا الغزو من قبل الفكر أو الاختلاط مع الفكر، هو أفعالٌ بيولوجية بسيطة ملوثة بمصلحةٍ أنانية، وهذا يعني أن ثمة دخيلًا متطفلًا في اللاوعي الآن، هذا اللاوعي الذي لم يعد بمقدوره التحرك رأسًا وفورًا إلى حقل الوعي، كما يعني أن جميع الأفعال التي أُنزلت إلى مرتبة الوظائف الغريزية بيولوجية تتخذ الآن دور أفعال يوجهها الفكر والوعي. نحن مستعدون الآن لسماع نصيحة تاكوان لتلميذه المُسَايف ياغيو-تاجيما-نو-كامي. فحين يقف المُسايف قبالة خصمه ينبغي ألَّا يفكر بالخصم، ولا بنفسه، ولا بحركات سيف عدوه، بل يقف هناك وحسب بسيفه الذي لا يتبع في الحقيقة سوى إملاءات اللاوعي، ناسيًا كل تقنية، فالرجل يمحو نفسه كمُستخدمٍ للسيف ومسيطر عليه، وحين يضرب، فإن الذي يضرب ليس الرجل بل السيف في يد اللاوعي. وثمة قصص لم يكن فيها الرجل مدركًا لواقعة أنه قد صرع الخصم، وكل ذلك بصورةٍ لا واعية، إن عمل اللاوعي هو في كثيرٍ من الحالات خارق ومعجز حقًّا. وهكذا وقع الأول في الفخ وتلقى العصا التي هوت عليه بكل قوة، وفشل في اجتياز الاختبار، أما الثاني فقد تفادى الضربة وضرب الشاب، ولم يفكر جيدًا بما يكفي لاجتياز الاختبار، أما الثالث فقد وقف على المدخل، وقال للشاب الذي يقف خلف البوابة ألا يحاول القيام بمثل هذه الألاعيب السخيفة مع محاربٍ متمرِّس للغاية، فقد أحسَّ هذا الساموراي بوجود عدوٍّ خفيٍّ في الداخل حتى قبل أن يكتشف حقًّا من هو المختبئ، وهذا عائد إلى التجربة الطويلة التي خاضها هذا الساموراي في تلك الأيام العصيبة، وهكذا أثبت أنه المرشح الناجح للقيام بالعمل الذي كان ينبغي القيام به في القرية. يبدو أن هذا الإحساس بعدوٍّ غير منظور كان متطورًا لدى المسايفين إلى درجةٍ رفيعة جدًّا من الكفاءة والفعالية في مراحل الإقطاع، تلك حين كان على الساموراي أن يكون على أهبة الاستعداد لكل وضعٍ قد يستجد في حياته اليومية، وحتى أثناء نومه كان مستعدًّا لمواجهة حدث خارجي طارئ. وتبقى مسألة أخرى، هي أن نقبل هذا التأويل أو لا نقبله، فالحقيقة هي أن المسايف البارع يمتلك ما قد نصفه باللاوعي، وأن هذه الحالة العقلية يتمُّ اكتسابها حين لا يعود واعيًا أفعاله، ويترك كل شيء لشيءٍ ليس من وعيه النسبي. ونحن ندعو هذا بالشيء، فنظرًا لكونه خارج حقل الوعي العادي، فإننا لا نمتلك كلمة نطلقها عليه ما عدا تسميته باسم سلبي، س، أو اللاوعي، وإن المجهول، أو س، لغامضٌ جدًّا، ونظرًا لارتباطه مع الوعي بطريقةٍ ينتفع فيها من كل المهارة التقنية المكتسبة بصورةٍ واعية، فقد لا يكون من الملائم تسميته باللاوعي. قد لا تكون الحادثة التالية التي رواها ياغيو تاجيما-نو-كامي، مريد تاكوان، ذات علاقة مباشرة باللاوعي الموصوف في كل ما سبق من هذه المحاضرة، وأحد أسباب ذلك أن ياغيو تاجيما-نو-كامي لا يواجه هنا عدوًّا فعليًّا، ولكن الأمر قد لا يكون مختلفًا عما يراه السيكولوجي حين يعتبر أن من الممكن تطوير مقدرة أو ملكة باراسيكولوجية من خلال التوصل إلى شكلٍ معين من الانضباط، ويمكن أن أضيف أن حالة ياغيو تاجيما-نو-كامي لم تُختَبَر، بالطبع بطريقةٍ علمية، بيد أن ثمة عددًا من هذه الحالات مسجلة في حوليات المسايفة اليابانية، وثمة سبب حتى في تجاربنا الحديثة للاعتقاد بإمكانية حصول مثل هذه الحادثة «التخاطرية»، في حين عليَّ أن أكرر أن هذا النوع من الظواهر السيكولوجية قد لا يكون على علاقةٍ باللاوعي الذي تحدثت عنه. وأخيرًا، دخل عليه واحدٌ من خدمه القدماء؛ ليسأله إن كان مريضًا يحتاج إلى عونٍ ما، فقال السيد: «لا، لست مريضًا ولكنني عانيت شيئًا غريبًا بينما أنا في الحديقة، وهو يتجاوز قدرتي على الفهم، وإنني أفكر بالأمر»، وحكى للخادم الحادثة كلها. عندما ذاع الخبر بين المرافقين، تقدم الصغير الذي يتبع السيد واعترف قائلًا: «حين رأيت سيادتك مستغرقًا جدًّا في إعجابك بأزهار الكرز، هبطت عليَّ فكرة مفادها أنك لن تستطيع الدفاع عن نفسك مهما تكن ماهرًا في استخدام السيف إذا ما ضربتك فجأة من الخلف، ولعلك قد شعرت يا سيدي بفكرتي السرية هذه»، وباعترافه هذا، كان الصغير مستعدًّا لعقاب السيد على فكرته المضمرة. ولقد جلا هذا الاعتراف كل الإبهام الذي نغَّصَ ياغيو إلى حدٍّ بعيد؛ فصفا مزاجه ولم يُنزل أي عقابٍ بالمتهم الصغير البريء، وشعر بالرضا لاكتشافه أن شعوره لم يكن دون أساس.
د. ت. سوزوكي: فيلسوف ومؤلِّف ومترجِم وراهب بوذي ياباني أمريكي، كان لمقالاته أثرٌ كبير في تعريفِ الغرب على بوذية الزن والشن، وفلسفة الشرق الأقصى بصورةٍ عامة. وُلد «دايسيتسو تيتارو سوزوكي» في كانازاوا، إيشيكاوا، في ١١ نوفمبر ١٨٧٠م، وكانت نشأته فقيرة؛ إذ تُوفِّي والده وهو في سنٍّ صغيرة، وتولَّت والدته وحْدَها مسئوليةَ تربيته. وحين تفتَّحت مَدارِكه، دفعَته تلك الظروف إلى البحث في الدِّيانات عن إجاباتٍ لأسئلته ومعاناته، فشرع يكوِّن نظرتَه الفلسفية للحياة، واختار لنفسه اسم «دايسيتز» عامَ ١٨٩٤م. التحق بجامعتَيْ واسيدا وطوكيو، واهتمَّ بإجادةِ عِدة لغات شرقية وأوروبية، وهو الأمر الذي أهَّله لإنجازِ ترجماتٍ أدبية غزيرة، عن الصينية والسنسكريتية واليابانية، وقضى سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية وجال في أنحاء أوروبا، قبل أن يصبح أستاذًا جامعيًّا مساعدًا عام ١٩٠٩م، مكرِّسًا وقتَه آنذاك لنشرِ الفَهم الصحيح لمذهب الماهايانا البوذي، وتدريسِ عقيدة الزن وتاريخها، فضلًا عن الفلسفة المرتبطة بها. وبتخصُّصه في الفلسفة البوذية، عمل أستاذًا لها في جامعاتٍ أمريكية عديدة، فألقى محاضَرات عنها ونشر مقالات حولها، وجمع إنتاجَه ذلك في كتُب، منها: «مقالات في بوذية الزن» في ثلاثة مجلدات، و«مقدِّمة إلى بوذية الزن»، وصدَر له أيضًا «التصوُّف البوذي والتحليل النفسي». حصل على عِدة جوائز، من بينها: «وسام الثقافة الياباني» عامَ ١٩٤٩م، و«صاحب الاستحقاق الثقافي» عامَ ١٩٥١م، ورُشِّح لجائزةِ نوبل للسلام عامَ ١٩٦٣م. تُوفِّي في كاماكورا، كاناجاوا، يوم ١٢ يوليو ١٩٦٦ عن عمرٍ ناهَز ٩٦ عامًا، قضاه رسولًا للزن حول العالَم. د. ت. سوزوكي: فيلسوف ومؤلِّف ومترجِم وراهب بوذي ياباني أمريكي، كان لمقالاته أثرٌ كبير في تعريفِ الغرب على بوذية الزن والشن، وفلسفة الشرق الأقصى بصورةٍ عامة. وُلد «دايسيتسو تيتارو سوزوكي» في كانازاوا، إيشيكاوا، في ١١ نوفمبر ١٨٧٠م، وكانت نشأته فقيرة؛ إذ تُوفِّي والده وهو في سنٍّ صغيرة، وتولَّت والدته وحْدَها مسئوليةَ تربيته. وحين تفتَّحت مَدارِكه، دفعَته تلك الظروف إلى البحث في الدِّيانات عن إجاباتٍ لأسئلته ومعاناته، فشرع يكوِّن نظرتَه الفلسفية للحياة، واختار لنفسه اسم «دايسيتز» عامَ ١٨٩٤م. التحق بجامعتَيْ واسيدا وطوكيو، واهتمَّ بإجادةِ عِدة لغات شرقية وأوروبية، وهو الأمر الذي أهَّله لإنجازِ ترجماتٍ أدبية غزيرة، عن الصينية والسنسكريتية واليابانية، وقضى سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية وجال في أنحاء أوروبا، قبل أن يصبح أستاذًا جامعيًّا مساعدًا عام ١٩٠٩م، مكرِّسًا وقتَه آنذاك لنشرِ الفَهم الصحيح لمذهب الماهايانا البوذي، وتدريسِ عقيدة الزن وتاريخها، فضلًا عن الفلسفة المرتبطة بها. وبتخصُّصه في الفلسفة البوذية، عمل أستاذًا لها في جامعاتٍ أمريكية عديدة، فألقى محاضَرات عنها ونشر مقالات حولها، وجمع إنتاجَه ذلك في كتُب، منها: «مقالات في بوذية الزن» في ثلاثة مجلدات، و«مقدِّمة إلى بوذية الزن»، وصدَر له أيضًا «التصوُّف البوذي والتحليل النفسي». حصل على عِدة جوائز، من بينها: «وسام الثقافة الياباني» عامَ ١٩٤٩م، و«صاحب الاستحقاق الثقافي» عامَ ١٩٥١م، ورُشِّح لجائزةِ نوبل للسلام عامَ ١٩٦٣م. تُوفِّي في كاماكورا، كاناجاوا، يوم ١٢ يوليو ١٩٦٦ عن عمرٍ ناهَز ٩٦ عامًا، قضاه رسولًا للزن حول العالَم.
https://www.hindawi.org/books/42406363/
التصوف البوذي والتحليل النفسي
د. ت. سوزوكي
«ومقارَبة زن هي أن تدخل في الموضوع ذاتِه وتراه، كما هو، من الداخل، فأن تعرف الزهرةَ يَعني أن تصبح الزهرة، أن تكون الزهرة، وأن تتفتَّح مثل الزهرة، وأن تبتهج لنور الشمس، وهَطْل المطر، وحين يتمُّ ذلك فإن الزهرة تكلِّمني، وأعرف كل أسرارها، وكل مَباهجها، وكل آلامها؛ أيْ كل حياتها النابضة في داخلها.»ظهرت البوذية في الهند، وهاجَرت إلى الصين، ومنها عبَرَت كوريا إلى اليابان، وقد تلوَّنت بثقافة الشعوب التي اعتنقَتها، ومن الطبيعي أن تنشأ لها طوائفُ واتجاهاتٌ في سياق التاريخ، ومن أبرزها طائفة «زن»، وهي الطائفة الصوفية الأهم والأكثر شُهرةً في ميدان التصوُّف البوذي، ويسعى فيها المعلِّم إلى توجيهِ اهتمام المريد إلى ذاته، وتحديدًا إلى حَدْسه الداخلي، واضعًا المعرفة الحَدْسية في المقام الأول دونَ إلغاءِ المعرفة العقلية، وهو ما يجعلها وثيقةَ الصِّلة بالتحليل النفسي؛ ومن ثَم فمن الطبيعي أن تجد أحدَ أقطاب الباحثين في الطائفة بصفة خاصة، والبوذية بصفة عامة، وهو الدكتور «د. ت. سوزوكي»؛ يربط بين التصوُّف البوذي الزنِّي وبين التحليل النفسي، متطرِّقًا في هذا الكتاب إلى المشاكل السيكولوجية مثل اللاوعي والذات، ومتبحِّرًا في صوفية «زن»، ومُجليًا أوجُهَ التلاقي بينها وبين التحليل النفسي.
https://www.hindawi.org/books/42406363/3/
مفهوم الذات في بوذية زن
إن مقاربة زن للواقع، والتي يمكن تعريفها بأنها مقارَبةٌ قبل علمية، هي في بعض الأحيان مناهضة للعلم، بمعنى أن زن يتحرك بعكس الاتجاه الذي يتخذه العلم تمامًا، وهذا لا يعني بالضرورة أن زن نقيض العلم، وإنما أنَّ على المرء كي يفهم زن أن يتخذ موقفًا كان قد تم تجاهله إلى الآن من قِبَل العلماء بوصفه «غير علمي». شخص دي روجيمون اثنيني من حيث طبيعته، وثمة نوع من الصراع الجاري على الدوام داخل ذاته، وهذا الصراع أو التوتر أو التناقض هو ما يشكل جوهر الشخص، ويتأتى من ذلك بشكلٍ طبيعي أن شعور الخوف واللايقين يرافقان خفيةً كل صيغةٍ يبديها من صيغ النشاط، ويمكن القول، في الواقع: إن هذا الشعور بالضبط هو ما يدفع الشخص إلى ارتكاب أفعالٍ غير متزنة من الهوى والعنف. إن المشاعر موجودة عند منبع كل الأفعال الإنسانية، وليست مصاعب جدلية. فالسيكولوجيا تأتي أولًا، ومن ثم المنطق والتحليل، وليس العكس. الشخص نداء وجواب، إنه فعلٌ وليس واقعة أو شيئًا، والتحليل الكامل للوقائع والأشياء لن يقدم أبدًا برهانًا عليه لا جدال فيه (ص٥٠). ليس الشخص هنا أو هناك أبدًا، إنما هو في فعل، في توتر، في اندفاعٍ عنيف، وقلما يكون مصدرًا لتوازنٍ سعيد، كما يحاول عمل باتش أن يعطينا هذا الانطباع. (ص٥٥) وإليكم قصة راهب زنِّي وضع إصبعه مباشرة وبشكلٍ ملموس على الشخص وترك لسائليه أن يروا ما هو، وقد أصبح هذا الراهب معروفًا فيما بعدُ باسم أوباكوكي-أُن (تُوفِّي ٨٥٠م)، وهو واحد من معلمي زن العظماء. ففي أحد الأيام زار حاكم إحدى المناطق ديرًا يقع تحت سلطانه، وأخذه رئيس الدير كي يعاين أقسام المبنى المختلفة، وحين وصلوا إلى حجرة عُرضت فيها صور رؤساء الدير السابقين، أشار الحاكم إلى واحدٍ منهم، وسأل رئيس الدير: «من هذا؟» فأجابه رئيس الدير: «إنه رئيس الدير السابق». وكان سؤال الحاكم التالي: «ها هنا صورته، وأين الشخص؟» فلم يُحِر رئيس الدير جوابًا، بيد أن الحاكم أصرَّ على الإجابة عن سؤاله، وتملَّك رئيسَ الدير اليأس؛ إذ كان عاجزًا عن إيجاد أحد بين أتباعه يمكنه إرضاء الحاكم. وحدث في النهاية أن تذكَّر راهبًا غريبًا قَدِم مؤخَّرًا للإقامة في الدير وكان يصرف جُل أوقات فراغه في كنس الفناء وترتيبه، واعتقد أن هذا الغريب الذي كان يبدو مثل راهب زنِّي، قد يكون قادرًا على الإجابة عن سؤال الحاكم. واستُدْعِي الراهب وتم تقديمه إلى الحاكم، فخاطبه هذا الأخير باحترامٍ قائلًا: «سيدي الجليل، لسوء الحظِّ إن هؤلاء السادة من حولنا لا يريدون الإجابة عن سؤالي، فهل تتكرم بأن تتولى الإجابة؟» فقال الراهب: «ما سؤالك؟» فأخبره الحاكم بكل ما حدث من قبلُ، وأعاد السؤال: «ها هنا صورة رئيس الدير السابق، وأين الشخص؟» وفي الحال صرخ الراهب: «أيها الحاكم!» فاستجاب الحاكم: «أجل، يا سيدي الجليل!» «أين هو؟» هذا هو الحل الذي قدمه الراهب. ذات مرة سأل أحد الرهبان جوشو جوشين (٧٧٨–٨٩٧م): «ما هي ذاتي؟» فقال جوشو: «هل أنهيت ثريد الصباح؟» «أجل، لقد أنهيته». وعندها قال جوشو: «إن كان الأمر كذلك، فاغسل زبديتك»، وبالطبع فإن الأكل فعل، والغسل فعل، لكن بغية زن هي الفاعل ذاته، الآكل والغاسل الذي يقوم بفعل الأكل والغسل، وما لم يتم الإمساك وجوديًّا أو تجريبيًّا بهذا الشخص، فإن المرء لا يمكنه الكلام عن القيام بالفعل، فمن هو المرء الواعي للقيام بالفعل؟ ومن هو الذي ينقل واقعة الوعي هذه إليك؟ ومن أنت يا من تنقل كل هذا ليس لنفسك وحسب بل لجميع الآخرين؟ إن «أنا»، أو «أنت» أو «هي» أو «هو» ليست سوى ضمائر تقف بدلًا من شيءٍ ما يقبع خلفها، فما هو هذا الشيء؟ إنني أستخدم الكلمات: شخص، فرد، أنا، ذات، في هذه المحاضرة بمثابة مترادفات؛ فالشخص أخلاقي أو نزوعي، والفرد متعارض مع أية جماعة مهما تكن، والأنا سيكولوجي، والذات أخلاقية وسيكولوجية على السواء، كما أنها تتضمن بعدًا دينيًّا. في أحد الأيام ألقى رينزاي هذه الموعظة: «ثمة رجل حقيقي دون مكانة أو جاه وبجسدٍ عارٍ، يدخل ويخرج من بوابات وجوهكم (أي أعضاء الحسِّ)، يا أيها الذين لم يَشهَدوا بعد (هذه الواقعة)، انظروا، انظروا!». وتقدَّم راهبٌ وسأله: «من هو الرجل الحقيقي دون مكانةٍ أو جاه؟» فقام رينزاي من كرسيه وأمسك بخناق الراهب قائلًا: «تكلَّم، تكلَّم!» وتردد الراهب. إنه ليجتاز كل الأماكن، متنقلًا في كل مكان، وينهمك في تعليم جميع الكائنات في لحظةٍ واحدة ليس إلا. وحيثما يذهب يبقَ نقيًّا طاهرًا، بلا حدود، نوره يخترق الجهات العشر وتكون العشرة آلاف شيء مثل الشيء الواحد. ما هو الفهم الحقيقي؟ وهكذا فإن بوذا هو ابن ذاك الذي لا يسند إلى شيء، وحين نفهم ذاك الذي لا يستند إلى شيء، فإننا نكتشف أن بوذا — أيضًا — يتعذَّر الوصول إليه. إنه من يستجيب لكل أنواع المواقف ويُظهر نشاطه، على الرغم من أنه لا يأتي من أي مكان؛ ولذا ما أن تحاول البحث عنه حتى يبتعد بعيدًا، وكلما ازددت منه قربًا ازداد عنك بعدًا، «سرٌّ» هو اسمه. (التي تؤلف جسدكم)، أنتم من ينتفع بالعناصر الأربعة، وحين يكون بمقدوركم رؤية هذه «الحقيقة»، يمكنكم وقتئذٍ أن تكونوا أحرارًا في ذهابكم وإيابكم، بقدر ما يمكنني أن أرى فإنه ليس ثمة ما أرفضه. مرَّةً ألقى المعلم العظة التالية: «قد يكون ثمة حاجة هنا لبعض الشرح. فالله، ما بقي في ذاته، ومع ذاته، ولِذَاته، هو ذاتية مطلقة، لكنه حالما يبدأ بالحركة فإنه يكون خالقًا، وينشئ العالم بمواقفه وأحواله المتنوعة إلى ما لا نهاية، فالله الأصلي، أو الله ليس متروكًا في عزلته، إنه في كثرة الأشياء، والتفكير البشري هو الذي يجعلنا ننساه في الغالب ونضعه خارج عالمنا، عالم الزمان والمكان والسببية، إن المصطلحات البوذية لتختلف في الظاهر عن المصطلحات المسيحية، لكننا حين نغوص إلى الأعماق بما يكفي نجد أن التيارين يتقاطعان أو ينبعان من المنبع ذاته». إن الأرستقراطي هو من لا يحمل عبء أي شيء، ويبقى عاطلًا، ولا يسم حياته اليومية أي شيءٍ غير عادي. إننا لا ننتظر من رجلٍ عظيم الطبع أن يضلله الآخرون، فهو سيد نفسه أينما مضى، وحين يقف يكون كل شيءٍ لديه على ما يرام. حالما تُداخل العقل فكرة شكٍّ واحدة، فإن الأرواح الشريرة تحتل العقل، وإذا ما نما الشك لدى البوذيساتفا، فإن هذه تكون فرصة طيبة لشيطان الولادة والموت، فاحفظ العقل بعيدًا عن الإثارة، وابتعد عن أي توقٍ للخارج. وحالما تبزغ فكرةٌ في عقلك، يحضر العالم الثلاثي بكل ظروفه التي يمكن تصنيفها في الحقول الحسِّية الستة، وإذا ما مضيت في فعلك مستجيبًا لهذه الظروف، فأي نقصٍ فيك؟ أيها السادة الجليلون، إننا نفكر، ونشعر بواسطة الأصوات والكلمات خارجيًّا وبتبديل صيغ الوعي داخليًّا، وهذه هي كل الثياب التي نكسو بها أنفسنا، فلا تقعوا في خطأ اعتبار الثياب التي يرتديها الناس حقائق، وحين تواصلون على هذا النحو، وحتى بعد انقضاء عدد لا يحصى من الكالبات، فإنَّ خبرتكم لن تتعدَّى الثياب، وسوف يكون عليكم أن تطوفوا في العالم الثلاثي تديرون عجلة الولادة والموت مرَّة بعد مرَّة، عَدمٌ يشبه عيش حياة من العطالة والتبطل، وثمة معلم قديم يقول:
د. ت. سوزوكي: فيلسوف ومؤلِّف ومترجِم وراهب بوذي ياباني أمريكي، كان لمقالاته أثرٌ كبير في تعريفِ الغرب على بوذية الزن والشن، وفلسفة الشرق الأقصى بصورةٍ عامة. وُلد «دايسيتسو تيتارو سوزوكي» في كانازاوا، إيشيكاوا، في ١١ نوفمبر ١٨٧٠م، وكانت نشأته فقيرة؛ إذ تُوفِّي والده وهو في سنٍّ صغيرة، وتولَّت والدته وحْدَها مسئوليةَ تربيته. وحين تفتَّحت مَدارِكه، دفعَته تلك الظروف إلى البحث في الدِّيانات عن إجاباتٍ لأسئلته ومعاناته، فشرع يكوِّن نظرتَه الفلسفية للحياة، واختار لنفسه اسم «دايسيتز» عامَ ١٨٩٤م. التحق بجامعتَيْ واسيدا وطوكيو، واهتمَّ بإجادةِ عِدة لغات شرقية وأوروبية، وهو الأمر الذي أهَّله لإنجازِ ترجماتٍ أدبية غزيرة، عن الصينية والسنسكريتية واليابانية، وقضى سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية وجال في أنحاء أوروبا، قبل أن يصبح أستاذًا جامعيًّا مساعدًا عام ١٩٠٩م، مكرِّسًا وقتَه آنذاك لنشرِ الفَهم الصحيح لمذهب الماهايانا البوذي، وتدريسِ عقيدة الزن وتاريخها، فضلًا عن الفلسفة المرتبطة بها. وبتخصُّصه في الفلسفة البوذية، عمل أستاذًا لها في جامعاتٍ أمريكية عديدة، فألقى محاضَرات عنها ونشر مقالات حولها، وجمع إنتاجَه ذلك في كتُب، منها: «مقالات في بوذية الزن» في ثلاثة مجلدات، و«مقدِّمة إلى بوذية الزن»، وصدَر له أيضًا «التصوُّف البوذي والتحليل النفسي». حصل على عِدة جوائز، من بينها: «وسام الثقافة الياباني» عامَ ١٩٤٩م، و«صاحب الاستحقاق الثقافي» عامَ ١٩٥١م، ورُشِّح لجائزةِ نوبل للسلام عامَ ١٩٦٣م. تُوفِّي في كاماكورا، كاناجاوا، يوم ١٢ يوليو ١٩٦٦ عن عمرٍ ناهَز ٩٦ عامًا، قضاه رسولًا للزن حول العالَم. د. ت. سوزوكي: فيلسوف ومؤلِّف ومترجِم وراهب بوذي ياباني أمريكي، كان لمقالاته أثرٌ كبير في تعريفِ الغرب على بوذية الزن والشن، وفلسفة الشرق الأقصى بصورةٍ عامة. وُلد «دايسيتسو تيتارو سوزوكي» في كانازاوا، إيشيكاوا، في ١١ نوفمبر ١٨٧٠م، وكانت نشأته فقيرة؛ إذ تُوفِّي والده وهو في سنٍّ صغيرة، وتولَّت والدته وحْدَها مسئوليةَ تربيته. وحين تفتَّحت مَدارِكه، دفعَته تلك الظروف إلى البحث في الدِّيانات عن إجاباتٍ لأسئلته ومعاناته، فشرع يكوِّن نظرتَه الفلسفية للحياة، واختار لنفسه اسم «دايسيتز» عامَ ١٨٩٤م. التحق بجامعتَيْ واسيدا وطوكيو، واهتمَّ بإجادةِ عِدة لغات شرقية وأوروبية، وهو الأمر الذي أهَّله لإنجازِ ترجماتٍ أدبية غزيرة، عن الصينية والسنسكريتية واليابانية، وقضى سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية وجال في أنحاء أوروبا، قبل أن يصبح أستاذًا جامعيًّا مساعدًا عام ١٩٠٩م، مكرِّسًا وقتَه آنذاك لنشرِ الفَهم الصحيح لمذهب الماهايانا البوذي، وتدريسِ عقيدة الزن وتاريخها، فضلًا عن الفلسفة المرتبطة بها. وبتخصُّصه في الفلسفة البوذية، عمل أستاذًا لها في جامعاتٍ أمريكية عديدة، فألقى محاضَرات عنها ونشر مقالات حولها، وجمع إنتاجَه ذلك في كتُب، منها: «مقالات في بوذية الزن» في ثلاثة مجلدات، و«مقدِّمة إلى بوذية الزن»، وصدَر له أيضًا «التصوُّف البوذي والتحليل النفسي». حصل على عِدة جوائز، من بينها: «وسام الثقافة الياباني» عامَ ١٩٤٩م، و«صاحب الاستحقاق الثقافي» عامَ ١٩٥١م، ورُشِّح لجائزةِ نوبل للسلام عامَ ١٩٦٣م. تُوفِّي في كاماكورا، كاناجاوا، يوم ١٢ يوليو ١٩٦٦ عن عمرٍ ناهَز ٩٦ عامًا، قضاه رسولًا للزن حول العالَم.
https://www.hindawi.org/books/42406363/
التصوف البوذي والتحليل النفسي
د. ت. سوزوكي
«ومقارَبة زن هي أن تدخل في الموضوع ذاتِه وتراه، كما هو، من الداخل، فأن تعرف الزهرةَ يَعني أن تصبح الزهرة، أن تكون الزهرة، وأن تتفتَّح مثل الزهرة، وأن تبتهج لنور الشمس، وهَطْل المطر، وحين يتمُّ ذلك فإن الزهرة تكلِّمني، وأعرف كل أسرارها، وكل مَباهجها، وكل آلامها؛ أيْ كل حياتها النابضة في داخلها.»ظهرت البوذية في الهند، وهاجَرت إلى الصين، ومنها عبَرَت كوريا إلى اليابان، وقد تلوَّنت بثقافة الشعوب التي اعتنقَتها، ومن الطبيعي أن تنشأ لها طوائفُ واتجاهاتٌ في سياق التاريخ، ومن أبرزها طائفة «زن»، وهي الطائفة الصوفية الأهم والأكثر شُهرةً في ميدان التصوُّف البوذي، ويسعى فيها المعلِّم إلى توجيهِ اهتمام المريد إلى ذاته، وتحديدًا إلى حَدْسه الداخلي، واضعًا المعرفة الحَدْسية في المقام الأول دونَ إلغاءِ المعرفة العقلية، وهو ما يجعلها وثيقةَ الصِّلة بالتحليل النفسي؛ ومن ثَم فمن الطبيعي أن تجد أحدَ أقطاب الباحثين في الطائفة بصفة خاصة، والبوذية بصفة عامة، وهو الدكتور «د. ت. سوزوكي»؛ يربط بين التصوُّف البوذي الزنِّي وبين التحليل النفسي، متطرِّقًا في هذا الكتاب إلى المشاكل السيكولوجية مثل اللاوعي والذات، ومتبحِّرًا في صوفية «زن»، ومُجليًا أوجُهَ التلاقي بينها وبين التحليل النفسي.
https://www.hindawi.org/books/42406363/4/
الكوان
وتبعًا لأسطورة الماهايانا فإن بوذا حين برز من جسد أمه، قال: «السماء في الأعلى، والأرض في الأسفل، وأنا وحدي الأكثر شرفًا»، وكانت هذه وثيقة بوذا التي انتقلت إلينا لنقرأها، وأولئك الذين يفلحون في قراءتها هم أتباع زن. وليس ثمة ألغاز في هذا، فكل شيءٍ واضح أو «علني» بالنسبة لكل ذي عينٍ ترى، وإذا ما كان ثمة معنى خفي في هذا القول، فإنه من طرفنا وليس من طرف «الوثيقة». إن الكوان هو في داخلنا، وما يفعله معلم زن يقتصر على الإشارة إليه بحيث تمكننا رؤيته بمزيدٍ من الوضوح، وحين يتم إخراج الكوان من اللاوعي إلى حقل الوعي يُقال: إنه قد فُهم من قبلنا، ومن أجل إحداث هذه اليقظة، يأخذ الكوان في بعض الأحيان شكلًا جدليًّا ولكنه غالبًا ما ينتحل، في الظاهر على الأقل، شكلًا هرائيًّا تمامًا. ويمكن أن نصنف ما يلي بأنه جدلي: يحمل المعلم في العادة عصًا أو عكازًا يستعملها أثناء ترحاله في الطرق الجبلية، لكنها تحولت هذه الأيام إلى رمزٍ للسلطة في يد المعلم، الذي غالبًا ما يلجأ إليها لتوضيح غرضه، فقد يبرزها أمام الجميع ويقول: «هذه ليست عصا، ماذا تسمونها؟» وقد يقول في أحيانٍ أخرى: «إن كنتم تقولون إنها عصا، «المسوا» «أو أثبتوا»، وإن كنتم لا تسمونها عصا، «عارضوا» «أو انفوا». وإذا ما صرفنا النظر عن كل من النفي والإثبات، فماذا تسمونها؟» والواقع أن هذا الكوان هو أكثر من جدلي. وإليكم واحدًا من الحلول التي قدمها أحد المريدين الأكفاء، ففي إحدى المرات، وبعد أن طرح المعلم سؤاله هذا خرج راهبٌ من الحشد وتناول العصا من يد المعلم وكسرها ورمى القطعتين على الأرض. وثمة معلم آخر أطلق هذا القول المبهم بينما هو يبرز عصاه: «حين يكون لديك عصا، سوف أعطيك واحدة، وعندما لا يكون لديك عصا سآخذها منك». وفي بعض الأحيان يسأل المعلم وبصورةٍ مشروعة تمامًا، «من أين أتيت؟» أو «إلى أين تمضي؟» لكنه قد يتحول فجأة عن هذا الموضوع ويقول: «كم تشبه يداي يدي بوذا! وكم تشبه ساقاي ساقي الحمار!». قد يتساءل المرء: «وما الذي يهم إن كانت يداي مثل يدي بوذا؟ أما أن تكون ساقاي كساقي الحمار، فالأمر يبدو فانتازيًّا، وحتى لو سلمنا بأنها كذلك، فما علاقة ذلك بسؤال الوجود الأساسي، والذي نحن معنيون به على نحوٍ جدي؟»، إن الأسئلة أو الاختبارات التي يطرحها المعلم هنا يمكن اعتبارها «هرائية» إذا أردت أن تصنفها كذلك. دعوني أقدم عن مثل هذا الهراء مثالًا أو اثنين كان معلمٌ آخر قد طلع بهما، فعندما سأل أحد المريدين المعلم: «ما هو الشيء الذي يقف وحده، دون شريكٍ بين العشرة آلاف شيء؟» أجاب المعلم: «حين تبتلع النهر الغربي جرعةً واحدة، سوف أقول لك»، إن ارتكاسنا المباشر هو الصراخ «مستحيل»، بيد أن التاريخ يخبرنا أن تعليق المعلم هذا قد فتح الحجرة المظلمة في وعي المريد الذي طرح السؤال. وفي حين أن كل هذا صحيح وصائب، ينبغي أن نتذكر أن موقف زن يقضي بتجاهل كل نوعٍ من أنواع التساؤل؛ لأن التساؤل ذاته مناقض لروح زن، وما ينتظره زن منا هو أن ننكبَّ على المتسائل ذاته كشخصٍ، وليس على أي شيءٍ يصدر عنه، ولسوف يوضح مثال أو مثالان هذه النقطة تمامًا. والحقيقة أن ما يشتمل على كليَّة الوجود البشري ليس التفكير وإنما الإرادة بالمعنى المباشر للكلمة. فالفكر قد يطرح كل ضروب الأسئلة — ومن حقه تمامًا أن يفعل ذلك — لكن انتظارنا من الفكر تقديم جواب نهائي يعني أن نطلب منه الكثير؛ لأن ذلك ليس من طبيعة التفكير، إن الجواب مدفون في أعماق كينونتنا، وإبرازه على السطح يقتضي رعشة الإرادة الأشد، وحين يتم الشعور بذلك تنفتح بوابات الإدراك ويكون ثمة مشهد جديد لم نحلم به من قبل. إن الفكر لينوي، لكن من يقرر ويقدر ليس من ينوي ذاته، وبصرف النظر عما يمكن أن نقوله عن الفكر، فإنه في النهاية سطحي، شيء ما طاف على سطح الوعي، ومن أجل الوصول إلى اللاوعي لا بد من خرق هذا السطح، وما دام هذا اللاوعي منتميًا إلى ميدان السيكولوجيا، فلا يمكن أن يكون هنالك أي ساتوري بالمعنى الذي لهذه الكلمة في زن، لا بد من التعالي على السيكولوجيا وتخطِّيها ولا بدَّ من تجاوز ما يمكن أن ندعوه «اللاوعي الأنطولوجي». يُحكى أن يينو، البطريرك السادس، طلب من سائله قائلًا: «أرني وجهك الأصلي الذي كان لك قبل أن تولد»، أما نانجاكو، وهو واحد من مريدي يينو، فقد سأل شخصًا أراد أن يستنير: «من هو الذي يأتي إليَّ هكذا؟» وثمة معلم من معلمي السُّنغ أراد أن يعرف: «أين نلتقي بعد أن تموت، وتحرق جثتك، ويذر رمادك؟»، كما أن هاكوين، وهو معلم عظيم من معلمي زن في اليابان الحديثة، قد اعتاد على رفع إحدى يديه أمام أتباعه طالبًا منهم أن يسمعوه صوت يد واحدة وهي تصفق، وثمة في زن كثير من هذه الطلبات المستحيلة: «استخدم الرفش الموجود في يديك الفارغتين»، «سِرْ وأنت راكب على حمار»، «تكلم دون أن تستخدم لسانك»، «اعزف على مزهرك الخالي من الأوتار»، «أوقف هذا المطر المبلل»، ولا شك أن هذه المسائل المنطوية على مفارقاتٍ تنيخ بثقلها على فكر المرء وترفعه إلى أعلى درجات التوتر، فتدفعه في النهاية إلى وصفها جميعًا بأنها هرائية تمامًا، ولا تستحق أن يصرف طاقته الذهنية عليها، بيد أن أحدًا لن ينكر عقلانية السؤال التالي الذي حيَّر الفلاسفة، والشعراء، والمفكِّرين من كل صنفٍ منذ بزوغ الوعي البشري: «من أين أتينا؟ وإلى أين نمضي؟»، إن كل تلك الأسئلة والأقوال «المستحيلة» التي يطرحها معلمو زن ليست سوى تنويعات «لا منطقية» على السؤال «العقلاني» تمامًا الذي أوردناه للتو. والواقع أنك حين تقدم آراءك المنطقية بشأن كوان ما، فإن من المؤكد أن المعلم سوف يرفضها، صراحةً أو بصورةٍ تهكمية، دون أن يقدم أساسًا لفعله هذا مهما يكن، وبعد بضعة لقاءاتٍ قد لا تعرف ما عليك فعله سوى التخلي عنه بوصفه «عجوزًا متعصِّبًا وجاهلًا» أو لأنه «لا يعرف شيئًا عن «الطريقة العقلانية الحديثة» في التفكير» لكن الحقيقة هي أن معلم زن يتقن عمله على نحوٍ أفضل بكثيرٍ مما تُقدِّر؛ ذلك أن زن، في النهاية، ليس لعبة فكرية أو جدلية من أي نوع، وهو يُعنى بما يتعدى منطقية الأشياء، حيث يعلم أن هنالك تكمن «الحقيقة التي تحرر الإنسان». ومهما يكن القول الذي يطلقه المرء بشأن أي موضوع، فإنه يبقى على سطح الوعي بصورةٍ يتعذَّر تفاديها ما دام خاضعًا بشكلٍ ما لمعالجةٍ منطقية، فالفكر يخدم أغراضًا متنوعة في حياتنا اليومية، حتى فيما يتعلق بإبادة البشرية، فرادى أو جماعات، ولا شك في أنه مفيدٌ جدًّا، لكنه لا يحل المشكلة الجوهرية التي سيواجهها كلٌّ منا في سياق حياته إن عاجلًا أو آجلًا، وهي مشكلة الحياة والموت، التي تُعنى بمعنى الحياة. وحين نواجهها، على الفكر أن يعترف بعدم قدرته على التنطُّح لها؛ ذلك أنها تتحول حتمًا إلى معضلةٍ أو أبوريا هو عاجز بطبيعته عن حلها. إن السبيل الفكري المسدود الذي ننساق إليه هو مثل «الحبل الفضي» أو «الجدار الحديدي» الذي ينتصب أمامنا مباشرة، وما نحتاج إليه لإحداث اختراق، ليس المناورة الفكرية أو التحايل المنطقي، وإنما كامل كينونتنا، فالأمر — كما سيقول لنا معلم زن — أشبه بالتسلق على عمودٍ يرتفع مائة قدم وتشعر مع ذلك أنك مدفوعٌ لأن تتسلق وتتسلق إلى أن يكون عليك القيام بقفزةٍ يائسة، مستخفًّا تمامًا بأمنك الوجودي. وفي اللحظة التي تقوم فيها بذلك، تجد نفسك آمنًا عند «قاعدة زهرة لوتس في أوج تفتحها». أما التفكير ومنطقية الأشياء فلا يمكن لهما تجريب هذا النوع من القفز، فمنطقية الأشياء لا تؤمن إلا بالاستمرارية وليس بالقفز فوق الهوَّة الفاغرة. وهذا ما ينتظر زن من كلٍّ منا أن ينجزه على الرغم مما يبدو على السطح من استحالةٍ منطقية؛ ولهذا فإن زن يدفعنا على الدوام لمواصلة عادتنا في عقلنة الأشياء؛ لكي نرى بأنفسنا إلى أي حدٍّ يمكن أن نمضي في هذه المحاولة التي لا طائل منها، ذلك أن زن يعلم تمامًا أين يقبع حدُّها، أما نحن فلا ندرك عمومًا هذه الحقيقة إلى أن نجد أنفسنا عند النهاية المسدودة، وثمة حاجة لهذه التجربة الشخصية من أجل إيقاظ كينونتنا بكليتها؛ لأننا عادةً ما نرضى بسهولةٍ إزاء منجزاتنا الفكرية، والتي لا تُعنى — في النهاية — إلا بهوامش الحياة. إن ما أوصل بوذا في النهاية إلى تجربة الاستنارة لم يكن تدريبه الفلسفي أو تقشُّفه الجمالي أو الأخلاقي، فهو لم يبلغها إلا حين تخلَّى عن كل هذه الممارسات السطحية المتدلية على أطراف وجودنا. فالتفكير أو الصياغة الأخلاقية أو المفاهيمية لا حاجة إليها إلا لإدراك حدودها الخاصة. وتمرين الكوان يهدف إلى جعلنا ندرك كل ذلك في الصميم. كما قلت من قبل، فإن تلميذ زن، وبعد المكوث مع المعلم لبضع سنوات — لا بل لبضعة أشهر — سوف يصل إلى حالةٍ من الجمود التام؛ ذلك أنه لا يعرف في أي طريقٍ يمضي، فقد حاول حل الكوان على المستوى النِّسبي ولكن من غير طائل مهما يكن، وها هو الآن محشور في الزاوية حيث ليس ثمة أي طريق للهرب. وفي هذه اللحظة قد يقول المعلم: «إن من الخير لك أن تكون محشورًا في الزاوية هكذا، فقد آن الأوان لأن تقوم بتغييرٍ كامل»، وقد يواصل المعلم قائلًا: «عليك ألَّا تفكر بواسطة الرأس بل بواسطة البطن، بواسطة الجوف». وقد يبدو هذا غريبًا جدًّا، فتبعًا للعلم الحديث، فإن الرأس مليء بكتلٍ رمادية وبيضاء وبخلايا وألياف متصلة بهذه الطريقة أو تلك، فكيف يمكن لمعلم زن أن يتجاهل هذه الحقيقة، وينصحنا بأن نفكر بواسطة البطن؟ بيد أن معلم زن إنسانٌ من نوعٍ غريب، وهو لن يصغي إليك وإلى ما يمكن أن تقوله عن العلوم قديمها وجديدها، إنه يعرف عمله على نحوٍ أفضل من خلال تجربته. إنَّ لي طريقتي في شرح هذا الوضع، مع أنه قد لا يكون شرحًا علميًّا، فمن الممكن تقسيم الجسد من الناحية الوظيفية إلى ثلاثة أقسام: الرأس، والأجزاء البطنية، والأطراف. والأطراف تفيد في التحرُّك والتنقُّل، لكن اليدين تمايزتا وتطورتا في طريقٍ خاص، فهما تُستخدمان الآن في الأعمال الإبداعية، وتقوم اليدان مع الأصابع العشرة بتشكيل جميع الأشياء المُعدة لخير الجسد ورفاهه، وثمة حَدس لديَّ بأن اليدين قد تطورتا أولًا ومن ثم الرأس الذي أصبح بالتدريج عضوًا مستقلًّا للتفكير، ولكي تُستخدم اليدان بهذه الطريقة أو تلك، كان لا بدَّ أن تبتعدا عن الأرض، وتتمايزا عن أيدي الحيوانات الدنيا، وعندما تتحرر اليدان البشريتان من الأرض على هذا النحو، تاركة للساقين حصرًا وظيفة التنقُّل، يصبح بمقدورهما اتباع خط تطورهما الخاص، والذي يفضي بدوره إلى بقاء الرأس منتصبًا، ويمكِّن العينين من رؤية محيط أوسع وأرحب، إن العين عضوٌ فكري، في حين أن الأذن عضوٌ أكثر بدائية، أما الأنف، فمن الأفضل بالنسبة له أن يبقى بعيدًا عن الأرض، ذلك أن العين قد بدأت الآن اضطلاعها بأفقٍ واسع، وهذا التوسيع لحقل الرؤية يعني أن العقل يصبح منفصلًا أكثر فأكثر عن الموضوعات الحسِّية، جاعلًا من نفسه عضوًا للتجريد والتعميم الفكريين. هكذا يرمز الرأس للتفكير، والعين بعضلاتها المحركة هي أداته النافعة، أما الجزء البطني الذي يشتمل على الأحشاء فتتم السيطرة عليه بواسطة الأعصاب الإرادية، ويمثل المرحلة الأكثر بدائية من مراحل التطور في بنية الجسد البشري، فالأجزاء البطنية أقرب إلى الطبيعة التي نأتي منها نحن جميعًا وإليها نعود؛ ولذا فإن هذه الأجزاء هي في تماسٍّ صميمي مع الطبيعة، ويمكنها أن تشعر بها وتتكلم معها وتجعلها موضوعًا ﻟ «التأمل». إن التأمل ليس عملية فكرية، وإنما هو عملية وجدانية عاطفية، إذا جاز التعبير، وكلمة «شعور» هي الكلمة الأفضل عند استخدام هذا المصطلح بمعناه الجوهري. إن التأمل الفكري هو وظيفة الرأس؛ ولذا فإن فهم الطبيعة الذي نحصل عليه من هذا المصدر هو تجريد للطبيعة أو تمثيل لها، وليس الطبيعة ذاتها، فالطبيعة لا تتكشف على حقيقتها للفكر؛ أي الرأس، والأجزاء البطنية هي التي تشعر بالطبيعة وتفهمها كما هي. وهذا النوع من الفهم، والذي أدعوه فهمًا وجدانيًّا أو نزوعيًّا؛ يشتمل على كيان الشخص بأكمله كما ترمز له الأجزاء البطنية من الجسد. وعندما يقول لنا معلم زن أن نمسك الكوان في البطن، فهو يعني أن كيان المرء بأكمله يجب أن يضطلع بهذا الكوان؛ أي عليه أن يتماهى معه تمامًا، لا أن ينظر إليه فكريًّا أو موضوعيًّا وكأنه شيءٌ يمكننا أن نقف على مسافةٍ منه. أن «تفكر بواسطة البطن، فهذا يعني في الواقع أن تبقي الحجاب الحاجز إلى الأسفل، بحيث تفسح مجالًا للأعضاء الصدرية؛ كي تقوم بوظيفتها على نحوٍ ملائم، وتبقي الجسد مستقرًّا ومهيأً جيدًا لتلقي الكوان واستقباله. وليس المقصود من هذا الإجراء جعل الكوان موضوعًا للتفكير؛ ذلك أن الفكر يُبقي موضوعه بعيدًا عنه على الدوام، وينظر إليه من بعد، كما لو أنه خائفٌ حتى الموت من مسه، فما بالك بالتقاطه والقبض عليه بين يديه العاريتين؟ وعلى العكس، فإن زن يريدنا لا أن نلتقط الكوان باليدين، والبطن وحسب، بل وأن نتماهى معه على النحو الأتمِّ، لدرجة أنني حين آكل أو أشرب لا أكون أنا، بل الكوان هو من يأكل ويشرب، وحين يحصل ذلك فإن الكوان يحلُّ نفسه دون أن أقوم من طرفي بأي شيءٍ آخر.
د. ت. سوزوكي: فيلسوف ومؤلِّف ومترجِم وراهب بوذي ياباني أمريكي، كان لمقالاته أثرٌ كبير في تعريفِ الغرب على بوذية الزن والشن، وفلسفة الشرق الأقصى بصورةٍ عامة. وُلد «دايسيتسو تيتارو سوزوكي» في كانازاوا، إيشيكاوا، في ١١ نوفمبر ١٨٧٠م، وكانت نشأته فقيرة؛ إذ تُوفِّي والده وهو في سنٍّ صغيرة، وتولَّت والدته وحْدَها مسئوليةَ تربيته. وحين تفتَّحت مَدارِكه، دفعَته تلك الظروف إلى البحث في الدِّيانات عن إجاباتٍ لأسئلته ومعاناته، فشرع يكوِّن نظرتَه الفلسفية للحياة، واختار لنفسه اسم «دايسيتز» عامَ ١٨٩٤م. التحق بجامعتَيْ واسيدا وطوكيو، واهتمَّ بإجادةِ عِدة لغات شرقية وأوروبية، وهو الأمر الذي أهَّله لإنجازِ ترجماتٍ أدبية غزيرة، عن الصينية والسنسكريتية واليابانية، وقضى سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية وجال في أنحاء أوروبا، قبل أن يصبح أستاذًا جامعيًّا مساعدًا عام ١٩٠٩م، مكرِّسًا وقتَه آنذاك لنشرِ الفَهم الصحيح لمذهب الماهايانا البوذي، وتدريسِ عقيدة الزن وتاريخها، فضلًا عن الفلسفة المرتبطة بها. وبتخصُّصه في الفلسفة البوذية، عمل أستاذًا لها في جامعاتٍ أمريكية عديدة، فألقى محاضَرات عنها ونشر مقالات حولها، وجمع إنتاجَه ذلك في كتُب، منها: «مقالات في بوذية الزن» في ثلاثة مجلدات، و«مقدِّمة إلى بوذية الزن»، وصدَر له أيضًا «التصوُّف البوذي والتحليل النفسي». حصل على عِدة جوائز، من بينها: «وسام الثقافة الياباني» عامَ ١٩٤٩م، و«صاحب الاستحقاق الثقافي» عامَ ١٩٥١م، ورُشِّح لجائزةِ نوبل للسلام عامَ ١٩٦٣م. تُوفِّي في كاماكورا، كاناجاوا، يوم ١٢ يوليو ١٩٦٦ عن عمرٍ ناهَز ٩٦ عامًا، قضاه رسولًا للزن حول العالَم. د. ت. سوزوكي: فيلسوف ومؤلِّف ومترجِم وراهب بوذي ياباني أمريكي، كان لمقالاته أثرٌ كبير في تعريفِ الغرب على بوذية الزن والشن، وفلسفة الشرق الأقصى بصورةٍ عامة. وُلد «دايسيتسو تيتارو سوزوكي» في كانازاوا، إيشيكاوا، في ١١ نوفمبر ١٨٧٠م، وكانت نشأته فقيرة؛ إذ تُوفِّي والده وهو في سنٍّ صغيرة، وتولَّت والدته وحْدَها مسئوليةَ تربيته. وحين تفتَّحت مَدارِكه، دفعَته تلك الظروف إلى البحث في الدِّيانات عن إجاباتٍ لأسئلته ومعاناته، فشرع يكوِّن نظرتَه الفلسفية للحياة، واختار لنفسه اسم «دايسيتز» عامَ ١٨٩٤م. التحق بجامعتَيْ واسيدا وطوكيو، واهتمَّ بإجادةِ عِدة لغات شرقية وأوروبية، وهو الأمر الذي أهَّله لإنجازِ ترجماتٍ أدبية غزيرة، عن الصينية والسنسكريتية واليابانية، وقضى سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية وجال في أنحاء أوروبا، قبل أن يصبح أستاذًا جامعيًّا مساعدًا عام ١٩٠٩م، مكرِّسًا وقتَه آنذاك لنشرِ الفَهم الصحيح لمذهب الماهايانا البوذي، وتدريسِ عقيدة الزن وتاريخها، فضلًا عن الفلسفة المرتبطة بها. وبتخصُّصه في الفلسفة البوذية، عمل أستاذًا لها في جامعاتٍ أمريكية عديدة، فألقى محاضَرات عنها ونشر مقالات حولها، وجمع إنتاجَه ذلك في كتُب، منها: «مقالات في بوذية الزن» في ثلاثة مجلدات، و«مقدِّمة إلى بوذية الزن»، وصدَر له أيضًا «التصوُّف البوذي والتحليل النفسي». حصل على عِدة جوائز، من بينها: «وسام الثقافة الياباني» عامَ ١٩٤٩م، و«صاحب الاستحقاق الثقافي» عامَ ١٩٥١م، ورُشِّح لجائزةِ نوبل للسلام عامَ ١٩٦٣م. تُوفِّي في كاماكورا، كاناجاوا، يوم ١٢ يوليو ١٩٦٦ عن عمرٍ ناهَز ٩٦ عامًا، قضاه رسولًا للزن حول العالَم.
https://www.hindawi.org/books/42406363/
التصوف البوذي والتحليل النفسي
د. ت. سوزوكي
«ومقارَبة زن هي أن تدخل في الموضوع ذاتِه وتراه، كما هو، من الداخل، فأن تعرف الزهرةَ يَعني أن تصبح الزهرة، أن تكون الزهرة، وأن تتفتَّح مثل الزهرة، وأن تبتهج لنور الشمس، وهَطْل المطر، وحين يتمُّ ذلك فإن الزهرة تكلِّمني، وأعرف كل أسرارها، وكل مَباهجها، وكل آلامها؛ أيْ كل حياتها النابضة في داخلها.»ظهرت البوذية في الهند، وهاجَرت إلى الصين، ومنها عبَرَت كوريا إلى اليابان، وقد تلوَّنت بثقافة الشعوب التي اعتنقَتها، ومن الطبيعي أن تنشأ لها طوائفُ واتجاهاتٌ في سياق التاريخ، ومن أبرزها طائفة «زن»، وهي الطائفة الصوفية الأهم والأكثر شُهرةً في ميدان التصوُّف البوذي، ويسعى فيها المعلِّم إلى توجيهِ اهتمام المريد إلى ذاته، وتحديدًا إلى حَدْسه الداخلي، واضعًا المعرفة الحَدْسية في المقام الأول دونَ إلغاءِ المعرفة العقلية، وهو ما يجعلها وثيقةَ الصِّلة بالتحليل النفسي؛ ومن ثَم فمن الطبيعي أن تجد أحدَ أقطاب الباحثين في الطائفة بصفة خاصة، والبوذية بصفة عامة، وهو الدكتور «د. ت. سوزوكي»؛ يربط بين التصوُّف البوذي الزنِّي وبين التحليل النفسي، متطرِّقًا في هذا الكتاب إلى المشاكل السيكولوجية مثل اللاوعي والذات، ومتبحِّرًا في صوفية «زن»، ومُجليًا أوجُهَ التلاقي بينها وبين التحليل النفسي.
https://www.hindawi.org/books/42406363/5/
المراحل الخمس «غو-ئي»
يمكن القول إن زن موضوعٌ غريب يمكن الكتابة والحديث عنه إلى ما لا نهاية، دون أن نستنفد مكنوناته على الرغم من ذلك. ومن جهةٍ أخرى، وإذا ما رغبنا، فإن بمقدورنا شرحه برفع إصبع أو سعال أو غمزة أو تلفَّظ بصوتٍ خالٍ من المعنى. ولذا قيل إنه حتى لو تحولت كل محيطات الأرض إلى حبر، وكل الجبال إلى فرشاة، وتحول العالم كله إلى صفحاتٍ من الورق، وطُلب منا أن نكتب في زن، لَمَا أعطيناه حقه. فلا عجب في أن لساني القصير، والمختلف تمامًا عن لسان بوذا، قد أخفق في إفهام زن للناس في المحاضرات الأربع السابقة. في «المرحلة» الأولى بين المرحلتين الأخيرتين، يكافح الزنِّي ليحقق نفاذًا إلى قدراته القصوى، وفي «المرحلة» الأخيرة يبلغ غايته، والتي هي في الحقيقة ليست غاية. نأتي الآن إلى المرحلة الثالثة في حياة الزنِّي، وهذه هي النقطة الحاسمة إلى أبعد حد؛ حيث تتحول الخاصية العقلية في المرحلتين السابقتين إلى خاصيةٍ نزوعية، ويصبح الزِّنِّي شخصية حية، حساسة، وذات إرادة. فحتى الآن كان هذا الزني عبارة عن رأس، أو فكر، مهما يكن المعنى الدقيق الذي نفهم به ذلك، أما الآن فيتزود بجذعٍ مع كل ما يشتمل عليه من أحشاء، وكذلك يتزود بالأطراف، وخاصة الأيدي، التي قد يزداد عددها حتى يصل إلى الألف (الأمر الذي يرمز للانهاية)، وهو يشعر في داخله الآن مثل بوذا الطفل الذي قال، حالما برز من جسد أمه: «السماء في الأعلى، والأرض في الأسفل، وأنا وحدي الأكثر شرفًا.» وبالمناسبة، وحين أُورد هذا القول لبوذا، فإن ذوي العقول العلمية قد يبتسمون ويقولون: «يا لهذا الهراء! كيف يمكن لطفلٍ خرج للتو من جسد أمه أن يُطلِق مثل هذا القول الفلسفي العميق؟ هذا لا يصدَّق أبدًا!» وأنا أعتقد أنهم على حق، لكن علينا أن نتذكر أنَّه على الرغم من كوننا كائنات عاقلة، فإننا المخلوقات الأبعد عن العقل في الوقت ذاته، ولنا ولع بكل ضروب السخافات المنافية للعقل والتي ندعوها بالمعجزات؛ ألم يقم المسيح من بين الأموات ويصعد إلى السماء، على الرغم من أننا لا نعلم أي ضرب من السماء كانت تلك السماء؟ ألم تقم أمه، مريم العذراء، حتى وهي حية بأعجوبةٍ مشابهة؟ ثمة ما يقوله لنا العقل، لكن هنالك شيء ما إلى جانب العقل لدى كل منا يهيئنا لتقبُّل المعجزات، والواقع أننا نحن أيضًا؛ أي هذا النوع العادي جدًّا من البشر، نقوم بمعجزاتٍ في كل لحظةٍ من لحظات حياتنا، بصرف النظر عن اختلاف أدياننا. لقد قال لوثر: «إنني واقفٌ هنا، لا أستطيع فعل شيء آخر.» وعندما سئل هياكوجو ما هو الشيء الأروع، أجاب: «إنني جالسٌ وحدي على قمة جبل دايو»، وجبل دايو هو المكان الذي يقع فيه دير هياكوجو، وفي الأصل الصيني لا نجد أية إشارة إلى أي شيءٍ أو أي شخصٍ جالس على قمة جبل دايو، وتقتصر الجملة على «وحيدًا جالسًا جبل دايو»؛ فالجالس غير متميِّز عن الجبل. وتوحُّد الزِّنِّي، على الرغم من كونه في عالم الكثرة والتعدد، ملحوظٌ وبارز. «إن الرجل الحقيقي بلا عنوان» لدى رينزاي ليس سوى ذلك الذي قدامنا جميعًا في هذه اللحظة، يصغي بلا ريب لصوتي، وأنا أتكلم أو لكلماتي وأنا أكتب، أليست هذه الواقعة عجيبة جدًّا نختبرها جميعًا؟ أليست مصدر إحساس الفيلسوف ﺑ «غموض الكينونة» إن كان يحس به حقًّا؟ إن القوة التي يملكها «أنا» تأتي كلها من هذه الوحدة. وتبعًا للسيد إيكهارت، فإن البرغوث في الله هو أكثر واقعية من الملاك ذاته، أما اﻟ «أنا» المراوغ والمتملص فلا يمكن أبدًا أن يكون «الأكثر شرفًا». وتكون المرحلة الثانية: ومن ثم تكون المرحلة الثالثة: وبما أن المرحلة الثالثة تدل على نقطة تحول العقلي إلى نزوعي والمنطق إلى شخصية، فإنها تُصاغ على النحو التالي: «هل للحياة أي معنى؟» «إنني أدور في دوامة الوقائع البهيمية، وكلها متعينة، ومحدودة وثابتة على نحوٍ مطلق، أنا يائس، وألعوبة في يد الأقدار، ومع ذلك فإنني أتوق إلى الحرية، وأريد أن أكون سيد نفسي، وهذا الأمر ملح بصورةٍ أو بأخرى، على الرغم من أنني لا أملك الاختيار، وأنا لا أعرف ماذا أفعل، ولكن أي «أنا» هذا الذي يقف خلف هذه الأسئلة المتعبة والمحيِّرة؟» «أين هي إذن تلك الأرض الآمنة التي أستطيع أن أقف عليها دون أي إحساسٍ بالقلق؟ أو ما «أنا»؟ ذلك أنني أعلم أن «أنا» قد يكون هذه الأرض الآمنة ذاتها، أيمكن أن تكون هذه هي الحقيقة التي لم أستطع اكتشافها إلى الآن؟ يجب اكتشاف اﻟ «أنا» إذًا، وسوف أكون آنئذٍ على ما يرام»! فلننتقل مع هذه الملاحظات إلى المرحلة الرابعة، والواقع أن المرحلتين الثالثة والرابعة مرتبطتان صميميًّا ولا يمكن تناول إحداهما بمعزلٍ عن الأخرى. لقد كان لجوشو جوشين، وهو واحد من معلمي زن العظماء، ديره الخاص في الجبال وكان مشهورًا بالجسر الحجري الذي وفرته الطبيعة ليقود إليه. وفي أحد الأيام زار راهب جوشو وقال: «أيها المعلم، إن جسرك الحجري مشهور في الإمبراطورية كلها، لكنه كما أرى ليس سوى جسر خشبي واهن». فردَّ جوشو: «أنت ترى جسرك الواهن وتخفق في رؤية الجسر الحجري الفعلي». فسأل الراهب: «ما هو الجسر الحجري؟» وردَّ جوشو: «جيادٌ تمر عليه، حمير تمرُّ عليه». فجسر جوشو يشبه رمال نهر الغانج، التي تطؤها كل أنواع الحيوان وتلوِّثها أشد التلويث، ومع ذلك فإن تلك الرمال لا تشتكي أو تتذمر أبدًا، ولن تمحى أبدًا آثار الأقدام التي خلَّفتها هناك مخلوقات من كل جنسٍ ونوع، لكن أقذارها ستغوص حتمًا وتعود الرمال نظيفة على الدوام. وهكذا الأمر مع جسر جوشو الحجري: حيث تمر عليه هذه الأيام، لا الجياد والحمير وحسب، بل وجميع أنواع العربات، بما فيها الشاحنات الثقيلة وقوافل السيارات وهو يتسع لها على الدوام، وحتى حين تسيء استعماله فإن رضاه لا يهتزُّ. وزني «المرحلة الرابعة» مثل هذا الجسر، ومع أنه لا يدير خده الأيمن حين يُضرب على خده الأيسر، إلا أنه يعمل بصمتٍ من أجل خير ورفاه الآخرين. ذات مرة سألت امرأة عجوز جوشو: «أنا امرأة، وحياة النساء قاسية جدًّا، ففي الطفولة تعاني المرأة؛ إذ عليها طاعة والديها، وحين تكبر بما يكفي تتزوج ويكون عليها أن تطيع زوجها، أما حين تشيخ فيكون عليها أن تطيع أولادها، فلماذا خُلقت لتعيش حياة كهذه دون فترةٍ من الحرية والاستقلال؟ ولماذا لا تكون مثل غيرها من البشر الذين يعيشون دون أي شعورٍ بالمسئولية؟ إنني أتمرَّد على أسلوب الحياة الصيني القديم». ورد جوشو، «لتكن صلاتك»: «فليفعل الآخرون كل ما يحلو لهم، أما أنا فسأقبل بقسمتي». إنني لست محاميًا عن جوشو، فهو يرد على هذا الاعتراض على النحو التالي: لقد سأله أحدهم: «أنت شخصٌ طاهر وورع، أين ستجد نفسك بعد وفاتك؟» فأجاب جوشو الزني: «أمضي إلى الجحيم قبلكم جميعًا!» وصُعق السائل وقال: «كيف يمكن ذلك؟» ولم يتردد المعلم: «إن لم أذهب أولًا إلى جهنم، فمن سيكون منتظرًا هناك لإنقاذ أناسٍ مثلك؟» هذا قول قويٌّ جدًّا، لكن جوشو لديه ما يبرر ذلك من وجهة نظره الزنية، وهو هنا بعيد عن أي دافعٍ أناني، ووجوده مكرس برمته لخير الآخرين، ولو لم يكن الأمر كذلك، لما استطاع أن يُطلق هذا القول الصريح المباشر دون غموضٍ أو التباس، ويقول المسيح: «أنا الطريق»، ويدعو الآخرين لأن يخلِّصهم، وروح جوشو هي أيضًا روح المسيح، فليس ثمة روح متغطرسة ومتمركزة على ذاتها لدى أي منهما، إنهما يعبِّران عن روح المحبة ذاتها ببساطة، وبراءة، ومن القلب. ذات مرة سأل أحدهم جوشو: «بوذا هو المستنير ومعلِّمنا جميعًا، إنه متحررٌ من الداخل بطبيعته من كل الأهواء (كليسا)، أليس كذلك؟» فقال جوشو: «لا، إنه الذي يرعى الأعظم من بين الأهواء جميعًا». «كيف يمكن ذلك؟» ورد جوشو: «إن هواه الأعظم هو إنقاذ الكائنات جميعًا!» «إن البوذيساتفا يدير عجلة وحدة المتعارضات أو المتناقضات: الأسود والأبيض، والظلام والنور، والتماثل والاختلاف، الواحد والكثرة، والمتناهي واللامتناهي، الحب والكراهية، الصداقة والعداء، إلخ إلخ، وبينما هو وسط الغيوم والغبار، متنوعًا إلى ما لا نهاية، يعمل البوذيساتفا ورأسه ووجهه مغطى تمامًا بالوحل والرماد، وحيثما تضطرم فوضى الأهواء بعنفها وضراوتها التي لا توصف، فإن البوذيساتفا يعيش حياته بكل تقلُّباتها، وكما يعبر عنها المثل الياباني، «دُر سبع مرَّات صاعدًا وهابطًا، ثم امض مستقيمًا ثماني مرات»، إنه مثل زهرة لوتس في اللهب، يسطع لونها أكثر فأكثر كلما عبرت معمودية النار. عندما سأل مانجو يوئيما عن مرضه، أجاب الأخير، «إنني مريضٌ لأن كل الكائنات مريضة، ولن يُشفى مرضي قبل أن تُشفى، فهي على الدوام يغزوها الطمع والغضب والحماقة». وهكذا نرى أن الحب والإشفاق هما جوهر البوذية، فهذا النوع من «الأهواء» يبقيها مع الكائنات جميعًا ما دام هنالك واحدٌ منها لم يصل بعد إلى حالة الاستنارة. ويقول المثل الياباني: «إلى عالم الصبر هذا جاءوا وذهبوا ثمانية آلاف مرة»، وهو يعني بذلك أن كل بوذا وبوذيساتفا سيزور عالمنا هذا عددًا لا نهاية له من المرات، هذا العالم المليء بالآلام التي لا تطاق؛ وذلك لأن حبهم لا يعرف أيَّ قيود. عندما نظم هايا كوجو ديرًا جيدًا لرهبان زن حصرًا، كان العمل قاعدة من قواعده، حيث كان على كل راهب، بما في ذلك المعلم نفسه، أن ينهمك في عملٍ يدوي وضيع من الأعمال، وحتى عندما أصبح هايا كوجو عجوزًا، رفض أن يتخلَّى عن عمله في الحديقة، وحين أبدى مريدوه قلقهم عليه نظرًا لتقدمه في السن، أخفوا كل عدة عمله؛ لكي يكف عن العمل بالكد الذي اعتاد عليه، لكن هيا كوجو أعلن قائلًا: «إن لم أعمل لن آكل». ولهذا السبب، فإن ما يميز معابد زن وأديرته في اليابان، وكذلك في الصين، هو أنها تبقى نظيفة وحسنة الترتيب، ورهبانها جاهزون للاضطلاع بأي عملٍ يدوي، مهما يكن منفرًا وقذرًا. ولعل روح العمل هذه أن تكون مغروسة بعمقٍ في عقول الصينيين منذ القدم؛ ذلك أن مزارع تشوانغ-تسي، وكما أشرت في الفصل الأول، رفض استعمال الشادوف ولم يكن يهمه القيام بأي قدرٍ من العمل؛ لأنه كان يحب ذلك، وهذا لا ينسجم مع الفكرة الغربية، والحديثة في الحقيقة، عن وسائل توفير الجهد من كل صنف. وفي النهاية، فإن ما يمكن أن نقوله هنا عن حياة الزنِّي ليس كثيرًا؛ ذلك أن سلوكه الخارجي ليس مهمًّا كثيرًا، فهو منكب تمامًا على حياته الداخلية، وتراه بأسمالٍ بالية يعمل بكدِّ عامل حقير، وكثيرًا ما وُجدَ زنيُّون متخفِّين بين المتسولين، في اليابان الإقطاعية، وثمة حالة واحدة على الأقل من هذا النوع، وحين مات هذا الرجل، فُحصت زبدية الرز التي كان يطوف بها مستوِّلًا طعامه ووجد عليها نقش بالصينية الكلاسيكية يعبر عن نظرته إلى الحياة وفهمه لزن. والواقع أن بانكئي، معلم زن العظيم، نفسه كان مرةً في رفقة المتسولين قبل أن يتم اكتشافه ويقبل تعليم أحد الأسياد الإقطاعيين في أيامه. كان ثمة امرأة عجوز تدير صالةً للشاي أسفل جبل تايزان، حيث يقع دير لزن مشهور في الصين كلها، وكلما كان راهب مسافر يسألها عن الطريق إلى تايزان، كانت تقول: «سِر قُدمًا»، وحين كان الراهب يتبع هذا الاتجاه، كانت تُعلق: «وهذا واحد آخر يمضي في الطريق ذاته»، ولم يكن رهبان زن يعلمون ما يعنيه تعليقها. وبلغ الأمر مسامع جوشو فقال: «حسنٌ، سأذهب لأرى أي نوع من النساء هي هذه المرأة»، وانطلق جوشو، وحين وصل إلى صالة الشاي سأل السيدة العجوز عن الدرب المؤدي إلى تايزان، وبالطبع فقد قالت له أن يمضي قُدُمًا، وفعل جوشو كما فعل الكثير من الرهبان قبله، وعلَّقت المرأة قائلة: «راهبٌ ممتاز، يمضي في الطريق ذاته مثل البقية»، وحين عاد جوشو إلى الأخوية، قال: «لقد اكتشفتُ هذه المرأة اليوم بكل ما في الكلمة من معنى!» قد نتساءل: «ما الذي اكتشفه المعلم في المرأة ما دام سلوكه لم يكن مختلفًا أبدًا عن سلوك بقية الرهبان؟»، هذا هو السؤال الذي يجب على كلٍّ منا أن يحلَّه بطريقته الخاصة. سوف أوجز الآن ما يقترح علينا زن القيام به: إنه التماس الاستنارة لأنفسنا ومساعدة الآخرين على بلوغها، وثمة لدى زن ما يمكن أن نطلق عليه اسم «صلوات»، على الرغم من أنها تختلف تمامًا عن الصلوات المسيحية، وسوف أذكر أربعًا منها، مع أن الأخيرتين هما بمثابة تضخيم للأولى والثانية: مهما يكن عدد الكائنات كلها، فإنني أتضرع (أصلي) من أجل أن يتم إنقاذها جميعًا. مهما تكن الأهواء لا تنضب، فإنني أتضرَّع من أجل أن يتمَّ اجتثاثها جميعًا. وقد يبدو زن في بعض الأحيان غامضًا جدًّا، وملغَّزًا، ومفعمًا بالتناقضات، لكنه في النهاية مذهب ونظام بسيط: أفلا ينطبق هذا على الأوضاع البشرية كلها، حديثها وقديمها، في الغرب أو في الشَّرق؟
د. ت. سوزوكي: فيلسوف ومؤلِّف ومترجِم وراهب بوذي ياباني أمريكي، كان لمقالاته أثرٌ كبير في تعريفِ الغرب على بوذية الزن والشن، وفلسفة الشرق الأقصى بصورةٍ عامة. وُلد «دايسيتسو تيتارو سوزوكي» في كانازاوا، إيشيكاوا، في ١١ نوفمبر ١٨٧٠م، وكانت نشأته فقيرة؛ إذ تُوفِّي والده وهو في سنٍّ صغيرة، وتولَّت والدته وحْدَها مسئوليةَ تربيته. وحين تفتَّحت مَدارِكه، دفعَته تلك الظروف إلى البحث في الدِّيانات عن إجاباتٍ لأسئلته ومعاناته، فشرع يكوِّن نظرتَه الفلسفية للحياة، واختار لنفسه اسم «دايسيتز» عامَ ١٨٩٤م. التحق بجامعتَيْ واسيدا وطوكيو، واهتمَّ بإجادةِ عِدة لغات شرقية وأوروبية، وهو الأمر الذي أهَّله لإنجازِ ترجماتٍ أدبية غزيرة، عن الصينية والسنسكريتية واليابانية، وقضى سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية وجال في أنحاء أوروبا، قبل أن يصبح أستاذًا جامعيًّا مساعدًا عام ١٩٠٩م، مكرِّسًا وقتَه آنذاك لنشرِ الفَهم الصحيح لمذهب الماهايانا البوذي، وتدريسِ عقيدة الزن وتاريخها، فضلًا عن الفلسفة المرتبطة بها. وبتخصُّصه في الفلسفة البوذية، عمل أستاذًا لها في جامعاتٍ أمريكية عديدة، فألقى محاضَرات عنها ونشر مقالات حولها، وجمع إنتاجَه ذلك في كتُب، منها: «مقالات في بوذية الزن» في ثلاثة مجلدات، و«مقدِّمة إلى بوذية الزن»، وصدَر له أيضًا «التصوُّف البوذي والتحليل النفسي». حصل على عِدة جوائز، من بينها: «وسام الثقافة الياباني» عامَ ١٩٤٩م، و«صاحب الاستحقاق الثقافي» عامَ ١٩٥١م، ورُشِّح لجائزةِ نوبل للسلام عامَ ١٩٦٣م. تُوفِّي في كاماكورا، كاناجاوا، يوم ١٢ يوليو ١٩٦٦ عن عمرٍ ناهَز ٩٦ عامًا، قضاه رسولًا للزن حول العالَم. د. ت. سوزوكي: فيلسوف ومؤلِّف ومترجِم وراهب بوذي ياباني أمريكي، كان لمقالاته أثرٌ كبير في تعريفِ الغرب على بوذية الزن والشن، وفلسفة الشرق الأقصى بصورةٍ عامة. وُلد «دايسيتسو تيتارو سوزوكي» في كانازاوا، إيشيكاوا، في ١١ نوفمبر ١٨٧٠م، وكانت نشأته فقيرة؛ إذ تُوفِّي والده وهو في سنٍّ صغيرة، وتولَّت والدته وحْدَها مسئوليةَ تربيته. وحين تفتَّحت مَدارِكه، دفعَته تلك الظروف إلى البحث في الدِّيانات عن إجاباتٍ لأسئلته ومعاناته، فشرع يكوِّن نظرتَه الفلسفية للحياة، واختار لنفسه اسم «دايسيتز» عامَ ١٨٩٤م. التحق بجامعتَيْ واسيدا وطوكيو، واهتمَّ بإجادةِ عِدة لغات شرقية وأوروبية، وهو الأمر الذي أهَّله لإنجازِ ترجماتٍ أدبية غزيرة، عن الصينية والسنسكريتية واليابانية، وقضى سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية وجال في أنحاء أوروبا، قبل أن يصبح أستاذًا جامعيًّا مساعدًا عام ١٩٠٩م، مكرِّسًا وقتَه آنذاك لنشرِ الفَهم الصحيح لمذهب الماهايانا البوذي، وتدريسِ عقيدة الزن وتاريخها، فضلًا عن الفلسفة المرتبطة بها. وبتخصُّصه في الفلسفة البوذية، عمل أستاذًا لها في جامعاتٍ أمريكية عديدة، فألقى محاضَرات عنها ونشر مقالات حولها، وجمع إنتاجَه ذلك في كتُب، منها: «مقالات في بوذية الزن» في ثلاثة مجلدات، و«مقدِّمة إلى بوذية الزن»، وصدَر له أيضًا «التصوُّف البوذي والتحليل النفسي». حصل على عِدة جوائز، من بينها: «وسام الثقافة الياباني» عامَ ١٩٤٩م، و«صاحب الاستحقاق الثقافي» عامَ ١٩٥١م، ورُشِّح لجائزةِ نوبل للسلام عامَ ١٩٦٣م. تُوفِّي في كاماكورا، كاناجاوا، يوم ١٢ يوليو ١٩٦٦ عن عمرٍ ناهَز ٩٦ عامًا، قضاه رسولًا للزن حول العالَم.
https://www.hindawi.org/books/73739395/
ميت حلاوة: مع دراسة نقدية بقلم د. سمير سرحان
محمد عناني
«غريب (وحده على المسرح): أنا بدأت أفهم الناس دُول .. كلهم تعابين .. الهيصة اللي عاملينها دي .. الموالد والأفراح والليالي الملاح .. كله نَصْب .. عايزين ياخدوني في دُوكه، ويتهرَّبوا م الضرايب .. آل عاملين جمعية آل حاطِّين فيها كل حاجة .. آل يعني بيشتركوا في كل حاجة .. وما فيش حد عنده مِلك خاص .. ولمَّا ما يكونش لحد مِلك خاص .. يبقى ما فيش على حد ضرايب .. لكن على مين؟ أنا حاورِّيهم.»«ميت حلاوة» قريةٌ خيالية اتَّخذها «محمد عناني» رمزًا يناقش من خلاله الأنظمةَ الشمولية التي ترعى الاستبداد تحت شعاراتٍ جوفاء؛ حيث يقوم النظام الاجتماعي والاقتصادي في «ميت حلاوة» على نظام «الجمعية»، وهو نظامُ مساواةٍ في ظاهره، وفي حقيقته استبدادٌ وطغيان متجسِّدان في شخصية «نبوية»؛ رئيسةِ الجمعية التي تُصدِر أوامرَها والجميعُ مُطالَب بتنفيذها. لكنَّ نسائم الحب والتغيير تهفهف على القرية فتغيِّر حالَها من خلال شخصية «مكرم»، الموظَّف القاهري الذي يأتي إلى القرية حاملًا الحبَّ بين جوانحه، مُنخدِعًا في البداية بنظام الجمعية؛ وكذلك شخصية «غريب» الذي يأتي إلى القرية بهدفِ دمجها في لُحمة الوطن، وعندما تُدرِك «نبوية» أهدافَه تقرِّر القضاء عليه، لكنَّ وقوعها في الحب الذي كان يُحرِّمه نظامُ الجمعية ساعَد «غريب» على تقليب أعضاءَ الجمعية عليها. تُرى كيف ينتهي هذا الصراع؟!
https://www.hindawi.org/books/73739395/0.1/
تقديم
على نحوِ ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» — وما فَتِئتُ أُردِّد ذلك في كُتُبي التالية عن الترجمة — يُعد المُترجِم مُؤلِّفًا من الناحية اللغوية، ومن ثَمَّ من الناحية الفكرية؛ فالترجمة في جوهرها إعادةُ صَوغٍ لفكرِ مُؤلِّفٍ مُعين بألفاظِ لغةٍ أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يَستوعب هذا الفكرَ حتى يُصبح جزءًا من جهاز تفكيره، وذلك في صورٍ تتفاوَت من مُترجِمٍ إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلُغةٍ أخرى، وجدْنا أنه يَتوسَّل بما سمَّيتُه جهازَ تفكيره، فيُصبح مُرتبطًا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويًّا فقط، بل هو فكريٌّ ولغوي؛ فما اللغة إلَّا التجسيد للفكر، وهو تجسيدٌ محكوم بمفهوم المُترجِم للنص المَصدَر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقًا لخبرة المُترجِم فكريًّا ولغويًّا. وهكذا فحين يبدأ المُترجِم كتابةَ نصِّه المُترجَم، فإنه يُصبح ثمرةً لما كتبه المؤلِّف الأصلي إلى جانبِ مفهوم المُترجِم الذي يَكتسي لغتَه الخاصة؛ ومن ثَم يَتلوَّن إلى حدٍّ ما بفكره الخاص، بحيث يُصبح النص الجديد مزيجًا من النصِّ المَصدَر والكساءِ الفكري واللغوي للمُترجِم، بمعنى أن النص المُترجَم يُفصِح عن عملِ كاتبَين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المَصدَر)، والكاتب الثاني (أي المُترجِم). وإذا كان المُترجِم يكتسِب أبعادَ المُؤلِّف بوضوحٍ في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعضَ تلك الأبعاد حين يُترجِم النصوصَ العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولُغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوُت حظِّ المُترجِم من لغة العصر وفكره؛ فلكل عصرٍ لغتُه الشائعة، ولكل مجالٍ علمي لُغتُه الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضًا أساليبُ المُترجِم ما بين عصرٍ وعصر، مِثلما تتفاوَت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية. فانظر كيف أدَّت ترجمةُ الصورة الشعرية إلى تعبيرٍ عربي يختلف معناه، ويَحلُّ محلَّ التعبير القديم (زِيَم اسم الفرس، وحُطَم أي شديد البأس، ووَضَم هي «القُرْمة» الخشبية التي يَقطع الجزَّار عليها اللَّحم)، وأعتقد أن من يُقارِن ترجماتي بما كتبتُه من شِعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م. محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م.
https://www.hindawi.org/books/73739395/
ميت حلاوة: مع دراسة نقدية بقلم د. سمير سرحان
محمد عناني
«غريب (وحده على المسرح): أنا بدأت أفهم الناس دُول .. كلهم تعابين .. الهيصة اللي عاملينها دي .. الموالد والأفراح والليالي الملاح .. كله نَصْب .. عايزين ياخدوني في دُوكه، ويتهرَّبوا م الضرايب .. آل عاملين جمعية آل حاطِّين فيها كل حاجة .. آل يعني بيشتركوا في كل حاجة .. وما فيش حد عنده مِلك خاص .. ولمَّا ما يكونش لحد مِلك خاص .. يبقى ما فيش على حد ضرايب .. لكن على مين؟ أنا حاورِّيهم.»«ميت حلاوة» قريةٌ خيالية اتَّخذها «محمد عناني» رمزًا يناقش من خلاله الأنظمةَ الشمولية التي ترعى الاستبداد تحت شعاراتٍ جوفاء؛ حيث يقوم النظام الاجتماعي والاقتصادي في «ميت حلاوة» على نظام «الجمعية»، وهو نظامُ مساواةٍ في ظاهره، وفي حقيقته استبدادٌ وطغيان متجسِّدان في شخصية «نبوية»؛ رئيسةِ الجمعية التي تُصدِر أوامرَها والجميعُ مُطالَب بتنفيذها. لكنَّ نسائم الحب والتغيير تهفهف على القرية فتغيِّر حالَها من خلال شخصية «مكرم»، الموظَّف القاهري الذي يأتي إلى القرية حاملًا الحبَّ بين جوانحه، مُنخدِعًا في البداية بنظام الجمعية؛ وكذلك شخصية «غريب» الذي يأتي إلى القرية بهدفِ دمجها في لُحمة الوطن، وعندما تُدرِك «نبوية» أهدافَه تقرِّر القضاء عليه، لكنَّ وقوعها في الحب الذي كان يُحرِّمه نظامُ الجمعية ساعَد «غريب» على تقليب أعضاءَ الجمعية عليها. تُرى كيف ينتهي هذا الصراع؟!
https://www.hindawi.org/books/73739395/0.2/
الأشخاص
null
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م. محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م.
https://www.hindawi.org/books/73739395/
ميت حلاوة: مع دراسة نقدية بقلم د. سمير سرحان
محمد عناني
«غريب (وحده على المسرح): أنا بدأت أفهم الناس دُول .. كلهم تعابين .. الهيصة اللي عاملينها دي .. الموالد والأفراح والليالي الملاح .. كله نَصْب .. عايزين ياخدوني في دُوكه، ويتهرَّبوا م الضرايب .. آل عاملين جمعية آل حاطِّين فيها كل حاجة .. آل يعني بيشتركوا في كل حاجة .. وما فيش حد عنده مِلك خاص .. ولمَّا ما يكونش لحد مِلك خاص .. يبقى ما فيش على حد ضرايب .. لكن على مين؟ أنا حاورِّيهم.»«ميت حلاوة» قريةٌ خيالية اتَّخذها «محمد عناني» رمزًا يناقش من خلاله الأنظمةَ الشمولية التي ترعى الاستبداد تحت شعاراتٍ جوفاء؛ حيث يقوم النظام الاجتماعي والاقتصادي في «ميت حلاوة» على نظام «الجمعية»، وهو نظامُ مساواةٍ في ظاهره، وفي حقيقته استبدادٌ وطغيان متجسِّدان في شخصية «نبوية»؛ رئيسةِ الجمعية التي تُصدِر أوامرَها والجميعُ مُطالَب بتنفيذها. لكنَّ نسائم الحب والتغيير تهفهف على القرية فتغيِّر حالَها من خلال شخصية «مكرم»، الموظَّف القاهري الذي يأتي إلى القرية حاملًا الحبَّ بين جوانحه، مُنخدِعًا في البداية بنظام الجمعية؛ وكذلك شخصية «غريب» الذي يأتي إلى القرية بهدفِ دمجها في لُحمة الوطن، وعندما تُدرِك «نبوية» أهدافَه تقرِّر القضاء عليه، لكنَّ وقوعها في الحب الذي كان يُحرِّمه نظامُ الجمعية ساعَد «غريب» على تقليب أعضاءَ الجمعية عليها. تُرى كيف ينتهي هذا الصراع؟!
https://www.hindawi.org/books/73739395/1/
الفصل الأول
في الخلف إلى اليسار مصطبة يستخدمها الشاعر في الجلوس والإنشاد، وفي الخلف إلى اليمين صورة كوبري مكسور على ترعة أو فرع من فروع النيل .. صور في الخلفية البعيدة للحقول وبعض البيوت الريفية. حينما يرتفع الستار نسمع إيقاعًا مرحًا سريعًا (طبلة أولًا، ثم دفوف، ثم لحن موسيقي سريع؛ وليكن تنويعًا على «على حسب وداد قلبي» القديم)، وعلى الفور يدخل الناس رجال وسيدات وهم يصفقون، ثم تدخل غازية ترقص على إيقاع سريع والناس تحاول أن تلمسها وهي تراوغهم، ثم يدخل «فرج» وخلفه طبال وزمَّار والشاعر. يجلس الشاعر على المنصة، ثم يتقدَّم فرج إلى منتصف المسرح — أو يقف على المنصة — ويبدأ مخاطبة الحشود. (يمكن أن يدخل هنا لاعبان يستعرضان فن التحطيب.) (تدخل مطربة، وتبدأ بالغناء على الفور.) (يدخل مكرم لاهثًا.) (تعود الموسيقى والمطربة.) (فجأةً يدخل غريب بك، وهو موظف حكومة تقليدي يرتدي طربوشًا، ويمسك منشة وحقيبة .. يسير في حذر ويتلفَّت حوله.) (تدخل سونة في عجلة.) (سونة تهمس له بعض الكلمات، ثم تخرج.) (فرج يأمر الشاعر بالانصراف، ويواجه الجمهور.) (يرفع الستار فورًا؛ لنرى مكرمًا واقفًا وحده.) (يدخل حميد.) (يقرقر الجوزة.) (يدخل رجلان إلى المحل المفتوح إلى أقصى اليمين — الجمعية — فيحملان أكياسًا ويخرجان.) (يخرجان.) (ضجة في الخلفية، ويدخل رجل ومعه شرطي ورجال كثيرون.) (حميد يتقدَّم من الشرطي، ويخاطبه.) (يخرج الجميع خلف الرجل الذي خاف وبدأ يجري في ذعر من الجمهور.) (نفس المنظر – الشاعر يجلس ويدندن على الربابة – فرج يصطحب عبلة معه هذه المرة – يعلن على الجمهور بداية الحفل.) (مكرم يدخل ثائرًا.) (أثناء الحوار التالي تتحرك شفاه الشاعر، ولكن دون أن نسمع ما يقول، والناس تستحسن ما يتغنَّى به.) (يرتفع صوت الشاعر بينما يتهامس مكرم وفرج.) ••• ••• ••• ••• (أثناء الإنشاد فرج يترك مكرم، وينادي عبلة فتأتي إليهما بينما يدخل غريب بمجرد انتهاء الشاعر من آخر مقطع.) (تدخل سونة وتجري إلى مكرم.) (يتقدَّم منهم فرج وعبلة.) (مكرم يتعاتب مع سونة بعيدًا.) (مكرم وسونة يقتربان منهم.) (يعلو صوت الشاعر.) (يعلو صوته في كريشندو بينما يحيط به الجمهور ويُطبِق عليه.) (نفس المنظر – ضوء النهار يعُم – يدخل مكرم وغريب من أقصى اليمين، ويدخل في الوقت نفسه فرج من أقصى اليسار.) (الناس تدخل الجمعية إلى أقصى اليمين، وتخرج محملة بالبضائع.) (يدخل حميد خارجًا من باب دكانه.) (يسحبه من ذراعه.) (يخرجان.) (صمت.) (يخرج.) (تدخل عبلة.) (تغازله، وتشاغله.) (يدخل مكرم وحده حاملًا حقيبة صغيرة.) (صمت.) (يدخل جماعة يصيحون وعلى رأسهم رجل يقول: «أهه أهه»، والناس تهتف خلفه.) (مكرم يحاول الهرب بحقيبته، والاختباء والاحتماء خلف غريب.) (يُطبِقون عليه.) (تدخل الست نبوية – يُصعق الجميع، ويتسمَّرون في أماكنهم، ويهمسون جميعًا – الست .. الست نبوية .. الست.) (يخرجان مع الشرطي.) (يظهر فرج من وسط الحشود.) (فرج يصرف الجمهور، ثم يخرج مع الست.) (مكرم وغريب وحدهما على المسرح.)
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م. محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م.
https://www.hindawi.org/books/73739395/
ميت حلاوة: مع دراسة نقدية بقلم د. سمير سرحان
محمد عناني
«غريب (وحده على المسرح): أنا بدأت أفهم الناس دُول .. كلهم تعابين .. الهيصة اللي عاملينها دي .. الموالد والأفراح والليالي الملاح .. كله نَصْب .. عايزين ياخدوني في دُوكه، ويتهرَّبوا م الضرايب .. آل عاملين جمعية آل حاطِّين فيها كل حاجة .. آل يعني بيشتركوا في كل حاجة .. وما فيش حد عنده مِلك خاص .. ولمَّا ما يكونش لحد مِلك خاص .. يبقى ما فيش على حد ضرايب .. لكن على مين؟ أنا حاورِّيهم.»«ميت حلاوة» قريةٌ خيالية اتَّخذها «محمد عناني» رمزًا يناقش من خلاله الأنظمةَ الشمولية التي ترعى الاستبداد تحت شعاراتٍ جوفاء؛ حيث يقوم النظام الاجتماعي والاقتصادي في «ميت حلاوة» على نظام «الجمعية»، وهو نظامُ مساواةٍ في ظاهره، وفي حقيقته استبدادٌ وطغيان متجسِّدان في شخصية «نبوية»؛ رئيسةِ الجمعية التي تُصدِر أوامرَها والجميعُ مُطالَب بتنفيذها. لكنَّ نسائم الحب والتغيير تهفهف على القرية فتغيِّر حالَها من خلال شخصية «مكرم»، الموظَّف القاهري الذي يأتي إلى القرية حاملًا الحبَّ بين جوانحه، مُنخدِعًا في البداية بنظام الجمعية؛ وكذلك شخصية «غريب» الذي يأتي إلى القرية بهدفِ دمجها في لُحمة الوطن، وعندما تُدرِك «نبوية» أهدافَه تقرِّر القضاء عليه، لكنَّ وقوعها في الحب الذي كان يُحرِّمه نظامُ الجمعية ساعَد «غريب» على تقليب أعضاءَ الجمعية عليها. تُرى كيف ينتهي هذا الصراع؟!
https://www.hindawi.org/books/73739395/2/
الفصل الثاني
(منزل ريفي فخم ضخم – كل شيء ينمُّ عن ثراء – مكتب في الوسط، ومكتبة في الخلفية – صور على الجدار لموسيقيين – نصف غرفة مكتب تُرى إلى اليسار – وستائر في كل مكان.) (وعندما يرتفع الستار نرى فرجًا يحاول إخراج نبيه .. ونبيه يعترض.) (يشده ويخرجان.) (بمجرد خروجهما تدخل الست نبوية ومعها مكرم يتهامسان وفي حالة نفسية هادئة وابتسامات.) (مكرم يهمس شيئًا.) (مكرم يهمس ثانيًا.) (يخرجان بينما يدخل من اليسار فرج ومعه محروس ونبيه وحميد.) (يُدَقُّ صَنْج، وتدخل الست نبوية .. الجميع يلتفُّون حولها في رهبة، ثم تبدأ.) (وجوم وتبادل نظرات حذر وقلق.) (وجوم.) (يدخل الشرطي عبد العال.) (يتقدَّم منه عبد العال وخلفه رجلان.) (يتقدَّم الرجال منه، ويحيطون به.) (يخرج به الرجلان ووراءهم عبد العال.) (يدخل مكرم – يسود الوجوم، وينزل الستار.) (نفس المنظر – عندما يُفتح الستار نرى فرجًا قلقًا يذرِّع المسرح جيئةً وذهابًا، ثم تدخل عبلة في قلق، وتقترب منه في توتر.) (تسير في قلق متجاهلة كلامه، ثم تجلس على كرسي في أقصى المسرح.) (تخرج.) (تسمع ضجة في الخارج وطبل ومزامير، ويدخل المسرح راقصون وراقصات ومغني ومغنية.) (تدخل الست نبوية.) (تشير نبوية بعد لحظة؛ فيهدأ الجميع.) (يخرج الجميع ما عدا فرج.) (تَدقُّ الصَّنْج فيدخل رجلان مسلحان.) (يخرج مع الرجلين بينما تعود الموسيقى والضجيج، ويدخل الجمهور والراقصات.) (يخرج الجميع بينما يدخل مكرم وسونة في تلصُّص.) (يُخرج أوراقًا من درج المكتب، ويريها لسونة.) (تَسمع أصوات في الخارج.) (يُنصتان – يسمع صوت نبوية وغريب في ضحك عالٍ.) (يدخلان في الحاجز على المسرح – نحن نراهما بينما لا يستطيع غريب ونبوية رؤيتَهما.) (نفس المنظر.) (يدخل مكرم حاملًا حقيبة ومتجهًا إلى الخارج في عزم، وخلفه نبوية تحاول أن تستبقيه.) (يدخل إبراهيم.) (صمت متوتر تعود فيه إلى الهدوء.) (يخرج إبراهيم.) (تَدقُّ الصَّنْج؛ فيدخل حارسان.) (تصلح من هندامها، وتعدل خصلة من شعرها، وتنظر إلى المرآة في يدها بينما يدخل حميد ومحروس وإبراهيم وزقزوق.) (تخرج.) (يدخل غريب لاهثًا.) (يخرج إبراهيم وغريب.) (يدخل غريب وإبراهيم.) (يدخل مكرم.) (يخرج إبراهيم.) (تدخل نبوية ووراءها غريب.) (زقزوق ينحاز هو وإبراهيم إلى جانب غريب بينما يدخل الرجال بالتدريج، ويقفون خلفهم.) (الرجال يرددون: اتجنن .. اتجنن.) (وجوم.) (تلتصق نبوية بمكرم وهو يجفف دموعها.)
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م. محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م.
https://www.hindawi.org/books/73739395/
ميت حلاوة: مع دراسة نقدية بقلم د. سمير سرحان
محمد عناني
«غريب (وحده على المسرح): أنا بدأت أفهم الناس دُول .. كلهم تعابين .. الهيصة اللي عاملينها دي .. الموالد والأفراح والليالي الملاح .. كله نَصْب .. عايزين ياخدوني في دُوكه، ويتهرَّبوا م الضرايب .. آل عاملين جمعية آل حاطِّين فيها كل حاجة .. آل يعني بيشتركوا في كل حاجة .. وما فيش حد عنده مِلك خاص .. ولمَّا ما يكونش لحد مِلك خاص .. يبقى ما فيش على حد ضرايب .. لكن على مين؟ أنا حاورِّيهم.»«ميت حلاوة» قريةٌ خيالية اتَّخذها «محمد عناني» رمزًا يناقش من خلاله الأنظمةَ الشمولية التي ترعى الاستبداد تحت شعاراتٍ جوفاء؛ حيث يقوم النظام الاجتماعي والاقتصادي في «ميت حلاوة» على نظام «الجمعية»، وهو نظامُ مساواةٍ في ظاهره، وفي حقيقته استبدادٌ وطغيان متجسِّدان في شخصية «نبوية»؛ رئيسةِ الجمعية التي تُصدِر أوامرَها والجميعُ مُطالَب بتنفيذها. لكنَّ نسائم الحب والتغيير تهفهف على القرية فتغيِّر حالَها من خلال شخصية «مكرم»، الموظَّف القاهري الذي يأتي إلى القرية حاملًا الحبَّ بين جوانحه، مُنخدِعًا في البداية بنظام الجمعية؛ وكذلك شخصية «غريب» الذي يأتي إلى القرية بهدفِ دمجها في لُحمة الوطن، وعندما تُدرِك «نبوية» أهدافَه تقرِّر القضاء عليه، لكنَّ وقوعها في الحب الذي كان يُحرِّمه نظامُ الجمعية ساعَد «غريب» على تقليب أعضاءَ الجمعية عليها. تُرى كيف ينتهي هذا الصراع؟!
https://www.hindawi.org/books/73739395/3/
الفصل الثالث
(نفس المنظر في الفصل الأول – الساحة – كل شيء لم يتغير إلا أن رفوف الجمعية التي كانت مزدحمة بالسلع؛ أصبحت فارغة، والسلع المكدسة خارج البوابة لم تعد موجودة – سونة تمسك بقفص في يدها، وتحافظ عليه وهي تسير إلى جوار محروس، ثم تضع القفص فجأةً وتستوقف محروس، وتشدُّه من ذراعه.) (يخرج رجلان من مبنى الجمعية، ويصرخان في محروس.) (يخرجان.) (يدخل رجلان في قلق وعصبية.) (تدخل سيدة مسرعة، وتخطف القفص الذي وضعته سونة إلى جوارها.) (همهمة عامة.) (يدخل الناس واحدًا بعد الآخر.) (فجأةً تُسمع دقات الطبول والمزامير، وتدخل الراقصات تقودهن مغنية وخلفها فتيات يرددن المقاطع.) (محروس يصيح في الجميع فيصمتون.) (يطرد الراقصات.) (يدخل رجلان في عصبية.) (همهمة بين الجمهور.) (يدخل حميد.) (نبوية تدخل خارجة من الدكان.) (سونة ومحروس يقتربان منها في حذر.) (يدخل رجلان يهرولان.) (يخرجان.) (هرج ومرج – يدخل الشاعر وخلفه الجمهور ووراءهم إبراهيم وزقزوق وظريفة.) (لحظة توتر وبعدها يبدأ إبراهيم في الحديث.) (لا أحد يصفق، فيشير إلى أحد الواقفين؛ فيصفق ومعه اثنان أو ثلاثة.) (يشير إلى نفس الرجل ليصفق ومعه القليل.) (يتسرَّب الناس أثناء الخطاب إلى الخارج.) (يخرج عبد العال، ويعود ومعه عدد من الشرطة يسوقون بعض الناس، ويمنعونهم من الخروج.) (يتفرق الجميع .. يبدءون الخروج واحدًا بعد آخر.) (يعود الشاعر إلى تحريك شفتيه دون صوت بينما يسير حميد إلى مقدمة المسرح.) (يعود بالماء.) (يدخل رجل، ويتجه إلى حميد.) (مكرم داخلًا.) (نفس المنظر – نفس الأشخاص: سونة ومحروس ونبوية وحميد ومكرم – يدخل المحقق.) (يخرج.) (لحظة صمت متوترة لا يجد فيها حميد جوابًا.) (حميد يحاول الخروج.) (تدخل الراقصات والمغني والمغنية.) (يدخل إبراهيم ومعه عبلة.) (الراقصات يرقصن.) (تعود المغنية والغناء والرقص بينما يهبط الستار رويدًا رويدا.)
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م. محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م.
https://www.hindawi.org/books/73739395/
ميت حلاوة: مع دراسة نقدية بقلم د. سمير سرحان
محمد عناني
«غريب (وحده على المسرح): أنا بدأت أفهم الناس دُول .. كلهم تعابين .. الهيصة اللي عاملينها دي .. الموالد والأفراح والليالي الملاح .. كله نَصْب .. عايزين ياخدوني في دُوكه، ويتهرَّبوا م الضرايب .. آل عاملين جمعية آل حاطِّين فيها كل حاجة .. آل يعني بيشتركوا في كل حاجة .. وما فيش حد عنده مِلك خاص .. ولمَّا ما يكونش لحد مِلك خاص .. يبقى ما فيش على حد ضرايب .. لكن على مين؟ أنا حاورِّيهم.»«ميت حلاوة» قريةٌ خيالية اتَّخذها «محمد عناني» رمزًا يناقش من خلاله الأنظمةَ الشمولية التي ترعى الاستبداد تحت شعاراتٍ جوفاء؛ حيث يقوم النظام الاجتماعي والاقتصادي في «ميت حلاوة» على نظام «الجمعية»، وهو نظامُ مساواةٍ في ظاهره، وفي حقيقته استبدادٌ وطغيان متجسِّدان في شخصية «نبوية»؛ رئيسةِ الجمعية التي تُصدِر أوامرَها والجميعُ مُطالَب بتنفيذها. لكنَّ نسائم الحب والتغيير تهفهف على القرية فتغيِّر حالَها من خلال شخصية «مكرم»، الموظَّف القاهري الذي يأتي إلى القرية حاملًا الحبَّ بين جوانحه، مُنخدِعًا في البداية بنظام الجمعية؛ وكذلك شخصية «غريب» الذي يأتي إلى القرية بهدفِ دمجها في لُحمة الوطن، وعندما تُدرِك «نبوية» أهدافَه تقرِّر القضاء عليه، لكنَّ وقوعها في الحب الذي كان يُحرِّمه نظامُ الجمعية ساعَد «غريب» على تقليب أعضاءَ الجمعية عليها. تُرى كيف ينتهي هذا الصراع؟!
https://www.hindawi.org/books/73739395/4/
دراسة نقدية
بدأت رحلة الكاتب المسرحي محمد عناني مع المسرح منذ عام ١٩٦٣، فهو من الرعيل الثاني من كتَّاب المسرح الحديث، الذين ظهروا بعد جيل نعمان عاشور، وسعد وهبة، ويوسف إدريس، وغيرهم .. ولقد كانت النهضة المسرحية الكبرى التي بدأت مع أوائل الستينيات مع ظهور فِرَق التليفزيون المسرحية؛ مسئولةً عن ظهور عدد من الكتَّاب الشبان الذين أوتوا موهبة مسرحية خالصة .. وقد كفَّ بعض هؤلاء عن الكتابة للمسرح بعد المسرحية الأولى، وقليل منهم مَن واصل الكتابة؛ ليثبت بدأبه وإخلاصه الشديد لهذا الفن العريق أن المسرح المصري قادر أن يجدد نفسه دائمًا، وأن يُفْرِخَ جيلًا بعد جيل من الكتَّاب الموهوبين الذين يعبِّرون عن ضمير هذا الشعب. ومن بين هؤلاء القلائل الذين لم يتساقطوا في وسط الطريق الدكتور محمد عناني. وتجربة محمد عناني في المسرح لم تقتصر على مجرد التأليف — وإن كان قد كتب عام ١٩٦٢ مسرحيته الأولى «الدرجة السادسة» التي كادت أن ترى النور بالمسرح الكوميدي من إخراج عبد المنعم مدبولي — ولكن دخوله إلى عالم المسرح الرحيب كان من عدة أبواب، وليس من باب واحد، كان من بينها باب الإعداد المسرحي؛ عندما اشترك مع كاتب هذه السطور في إعداد مسرحية «من أجل ولدي» عن القصة المعروفة للأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله، وكانت أول مسرحية تقدِّمها مسارح التليفزيون وأخرجها نور الدمرداش، وكذلك مسرحية «عندما نحب» عن قصة للأستاذ محمد التابعي. وكان أحد الأبواب التي دخل منها محمد عناني إلى عالم المسرح السحري هو باب الترجمة. فقد اشترك مع كاتب هذه السطور أيضًا في ترجمة مسرحية تشيكوف العظيمة «الخال فانيا» التي قدَّمها المسرح القومي في موسم ١٩٦٤، وكان لها دويٌّ هائل في الأوساط الثقافية والمسرحية، وكذلك مسرحية «الخرتيت»، وهي من روائع مسرح اللامعقول. ولذلك فإن محمد عناني عندما أقدَم على تأليف مسرحيته الثانية «البر الغربي» كان قد تمرَّس بفنون العرض المسرحي والتجربة الحية في ملامسة الجمهور، والوقوف على نبضه .. ومن خلال التجربة الساخنة مع المسرح خصوصًا في مسرح الحكيم استطاع أن يكتشف عالمه، ويكتشف موهبته، ويسيطر على أدواته ككاتب مسرحي من خلال الإعداد والترجمة، وتجربة أولى غير مكتملة هي «الدرجة السادسة». وعندما ظهرت أول مسرحية له على خشبة المسرح في موسم ٦٤-١٩٦٥ وهي «البر الغربي»؛ أفصحت عن موهبة مسرحية حقيقية، وعندما جاءت مسرحيته الثالثة «ميت حلاوة» أكَّدت أن موهبته قد نضجت ورسخت .. وأنه أصبح من الكتَّاب الذين نعوِّل عليهم الكثير في إثراء الحركة المسرحية. والفارق بين «البر الغربي»، و«ميت حلاوة» يكاد يبلغ عشر سنوات .. وهي السنوات التي تفرَّغ فيها الكاتب لنيل درجته العلمية في الأدب الإنجليزي .. ولكن تجربته الأكاديمية لم تصرفه عن المسرح، بل أكاد أقول إنه لولا هذه التجربة نفسها لمَا وصل محمد عناني إلى ما وصل إليه الآن من نضج ككاتب مسرحي. فطوال هذه السنوات التي قضاها في إنجلترا كان يختلف إلى المسارح المتعددة التي تمتلئ بها لندن، ويملأ عينيه وحواسه ووجدانه بكل جديد ومثير من العروض المسرحية التي يموج بها المسرح الإنجليزي. ولقد كان لهذا الاحتكاك المباشر بالمسرح الغربي أثره في تطوير شخصية محمد عناني ككاتب مسرحي، وإثراء وجدانه، وزيادة سيطرته على أدواته المسرحية. والكاتب الأصيل هو ذلك الذي تشغله دائمًا موضوعات وتيمات معيَّنة .. وهذا هو الحال مثلًا مع «إبسن» الذي نجد عنده تيمة الماضي الذي يجثم بأنفاسه على الحاضر حتى يدمره .. «سترندبرج» المشغول دائمًا بتيمة الحرب النفسية والجنسية والفكرية بين الرجل والمرأة .. و«تشيكوف» الذي نجد عنده تيمة الإحباط والعجز .. وهذه التيمات المترددة في أعمال الكتَّاب الراسخين؛ هي التي تعطي عملهم المسرحي مذاقًا فريدًا يميِّز كل منهم عن الآخر، ويعطي تجربته طعمها الخاص. وبالرغم من أن محمد عناني ما زال أمامه شوط ليس بالقصير لكي يصل إلى ما وصل إليه هؤلاء الراسخون .. إلا أنه اختار لنفسه مذاقًا فريدًا، وعبَّر في عمليه الأخيرين عن تيمات مترددة، من الواضح أنها تشغله منذ البداية؛ فالذي يتأمل «البر الغربي»، و«ميت حلاوة» — بالرغم من الفارق الزمني بينهما — يجد أن الأحداث في كلتا المسرحيتين تدور في قرية ساحلية صغيرة، ليست موجودة على الخريطة، وإنما تمثِّل في تكاملها ونظام حياتها عالمًا قائمًا بذاته له قوانينه الخاصة، أو كما يقول مكرم لغريب في «ميت حلاوة»: «مكان ممتاز .. قدر ينسى الزمن زي الزمن ما نسيه .. قدر يخلق لنفسه قوانينه الخاصة .. أحكامه الغريبة اللي محدش يفهمها غيره .. أصبح عالم غريب قائم بذاته .. زي عالم الفن.» وفي «البر الغربي» نجد أن هذه القرية الخيالية التي تحكمها قوانينها الخاصة تقع على النيل .. وفي «ميت حلاوة» قرية من طرح النيل نسيها الزمن كما نسيتها بقية مصر. والحدث الرئيسي الذي ينتظم كلتا المسرحيتين هو حدث فانتازي خيالي .. أو من الممكن أن نسميه «حدث خارق» يلقي به المؤلف كالقنبلة في بداية المسرحية، ثم ينسج حوله أطراف الصراع، ويكشف من خلاله أعماق الشخصيات، ويتطور به إلى نهاية تكشف موقف الكاتب من الكون والحياة. وفي «البر الغربي» نجد أن الحدث الخيالي الخارق هو ظهور «حندوسة» في البر الغربي للنيل .. و«حندوسة» هو مجرم خطير يهدد القرية كلها بالدمار .. وإن لم يره أحد من أهلها على الإطلاق. وعند ظهوره في بداية الحدث تصبح القرية كلها في حالة توجُّس وخيفة من هذا الخطر الكامن؛ ﻓ «حندوسة» إذن هو استعارة درامية لفكرة الخطر الذي يتهدد مجتمعًا بأَسْره. ورغم ذلك فإن المؤلف يوظِّف هذه البداية الخيالية لكي يكشف عن الكثير من العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي تسود هذا المجتمع الصغير؛ إذ يتصادف أن يسمع أهل القرية إطلاق الرصاص في نفس الوقت الذي يتصادف فيه مرور المدرس الإلزامي البسيط الساذج «جمعة» بساحة القرية وحده، وعندما يأتي مَن يعلن قتل «حندوسة»؛ يتصور البعض أن «جمعة» لا بد أنه هو البطل المغوار الذي أنقذ القرية من هذا المجرم العتيد. وتبدأ حركة العلاقات الإنسانية في التغيُّر، فبعد أن كان «جمعة» مدرسًا عاديًّا، بل ومثار سخرية الناس في كثير من الأحيان؛ تحوِّله الحركة الديناميكية لمجتمع بأَسْره من صعلوك إلى بطل، ثم إلى طاغية أشد خطرًا على القرية من «حندوسة» نفسه؛ ولذلك فإن البطل في هذه المسرحية ليس هو «جمعة» — وإن كان «جمعة» هو الشخصية الرئيسية فيها — وإنما هو القرية بأكملها في خوفها من خطر وهمي .. وفي صناعتها للبطل .. ثم في وقوعها ضحيةً لِمَا صنعته بأيديها عندما يتحوَّل البطل إلى طاغية. وفي «ميت حلاوة» يستخدم الكاتب نفس تكنيك «الحدث الخارق» الذي يفجِّر به الموقف الدرامي منذ البداية .. وهو ضمنًا اختفاء ثلاثة أو أربعة آلاف رأس من أغنام القرية في ليلة واحدة .. في نفس الوقت الذي يصل فيه قادم جديد من القاهرة هو الأستاذ غريب مفتش الضرائب؛ ليطالب أهل القرية — التي نسيها الزمن كما نسيته — بما تأخر عليهم من ضرائب لسنواتٍ وسنوات. ولكن .. ما هو الموقف الأساسي الذي يدخل فيه هذان العاملان الجديدان، فيغيران من تركيبته، ويفجران فيه قوى التغيُّر والتغيير؟ نحن بإزاء قرية خيالية من طرح النيل غير موجودة على الخريطة، نسيها الزمن كما نسيتها بقية مصر، هي قرية «ميت حلاوة». وهذه القرية استنَّت لنفسها منذ سنوات عديدة نظامها الاقتصادي والاجتماعي الخاص؛ فهناك جمعية بها المأكل والملبس والغلال، يأخذ منها كلٌّ حسب حاجته .. وهناك «مجلس إدارة» لهذه الجمعية يدير شئونها تتولى أموره «نبوية»، وهي امرأة رائعة الجمال طاغية الشخصية تُحكِم قبضتها على أعوانها بيدٍ من حديد؛ حتى يسير النظام كما يريدون له أن يسير. ولا يلغي نظام الجمعية الاحتكار فيما يتعلق بالأمور الاقتصادية فقط، وإنما يلغي أيضًا الكثير من المشاعر الإنسانية الطبيعية والفطرية؛ مثل: الحب والغيرة، أو حب السيطرة التي يعتبرها جميعًا جزءًا من غريزة حب التملك والامتلاك التي قام نظام الجمعية ليقضي عليها. ويذهب النظام في إلغائه لغريزة التملك إلى حدِّ التطرُّف، فيفرض نظامًا خاصًّا للزواج، لا يصبح الزواج بمقتضاه عقدًا أبديًّا بين رجل وامرأة، وإنما هو عقد ينتهي عند أجلٍ معيَّن، بعده يصبح للزوجين من جديد حرية الاختيار في أن يستمرا معًا، أو يختار كل منهما لنفسه شريكًا آخر. ورغم أن هذا الموقف الأساسي يشير إلى نظام اقتصادي معيَّن؛ إلا أن الكاتب لا يحدد تمامًا هذا النظام بدولة، أو مذهب سياسي بعينه .. وإنما يفضِّل أن يترك الأمور دون تحديد؛ ليصبح نظام «ميت حلاوة» دلالةً على أي نظام شمولي بشكل عام. وبمجرد أن يُرسي المؤلف هذه الأرضية المبدئية — النظام الشمولي بكل ما فيه من شعارات المساواة، وإلغاء السيطرة، وحب التملك … إلخ — يبدأ شيئًا فشيئًا في تعرية هذا النظام، وإبراز ما ينطوي عليه من خلل أساسي. وهو يبذر بذور هذا الخلل منذ الحادثة الأولى — حادثة اختفاء أغنام القرية — وهي حادثة من الجسامة والخطورة؛ بحيث يجب أن تزلزل كيان القرية نفسها، ويجعلها تفيق إلى ما يوجد في تكوينها الأساسي من خلل .. ولكنَّ أحدًا لا يبدو أنه يعطيها حجمها الحقيقي سوى شخصية واحدة هي مكرم، ذلك الموظف القاهري الذي وفد على القرية منذ عدة سنوات معيَّنًا بها من قِبَل الحكومة في القاهرة، فوجد فيها حلمه .. حلم الحياة البسيطة، أو يوتوبيا الحياة النموذجية التي يتخلص فيها الإنسان من كل تعقيد المدنية وصراعاتها، ويتفرغ لصناعة السلال ومشاركة أهل القرية البسطاء احتفالاتهم البسيطة من تحطيب ورقص وغناء. وإذا كان «مكرم» قد وجد ذاته وحلمه في «ميت حلاوة»؛ فيبدو أنه لم يتنبَّه في البداية إلى أخطار النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي استنَّته لنفسها .. ولذلك فعندما تحدث حادثة اختفاء الأغنام أو ضياعها يصطدم بها وعيه، ويكون لوقع الصدمة دويٌّ هائل في نفسه يجعله يفيق من زيف الحلم الذي آمن به، ويفتح عينيه على الخلل الخطير الذي يجعل من «ميت حلاوة» واجهةً لامعةً وراءها أخطر الأمور. فتفجُّر وعي مكرم منذ البداية إزاء حادثة الغنم، وانكسار الحلم الذي عاش به في «ميت حلاوة» هو الموقف الأساسي الذي يكشف عن الخلل، أو السرطان الذي يكمن في خلايا هذا الجسد اللامع من الخارج .. ويصاحب انهيار حلم مكرم انهيار قيمة الحب أيضًا في وعيه .. فمكرم يحبُّ سونة ابنة القرية، ولكنه يفاجَأ وهو ينتظرها في ساحة القرية عند المغرب أنها قد تزوجت في الصباح .. يخبره بذلك «حميد» ضمير القرية والنموذج النمطي لشخصيتها؛ فهو الجالس دائمًا إلى شيشته يأخذ أعظم الأمور وأخطرها ببساطة مذهلة، ثم لا يلبث في اجتماع مجلس إدارة الجمعية أن يمارس حقه كاملًا في حماية هذا النظام الغريب بكل ضراوة. ولنعد إلى مكرم فنقول إنه عندما يسمع من حميد بأن سونة التي عاهدته على الزواج قد تزوجت من غيره؛ يصاب بخيبة أمل شديدة، تسلمه إلى الشك في أن حب سونة له كان خداعًا وسرابًا .. ولكن حميد يطمئنه بأنها لم تخدعه، وإنما هي ستفي بوعدها بالزواج منه بعد أن ينتهي الأجل المحدد لعقد زواجها من محروس .. وهنا فقط يدرك مكرم الخلل الأساسي في هذه اليوتوبيا التي كان قد رسم لها في خياله ووعيه صورة وردية، ويدرك أيضًا أن «ميت حلاوة» ليست إلا آلة اقتصادية صمَّاء تلغي إنسانية الإنسان، وتحوِّله إلى ترس لا عقل له، ولا قلب، ولا روح .. ترس صغير لا أهمية له، قد يضيع كما ضاعت الغنم، ومن قبلها الطنابير .. أو قد يُحكَم عليه بالضياع مثل نبيه وفرج. ويؤكد المؤلف هذا المعنى بطريقة تهكمية ساخرة من خلال أعضاء مجلس إدارة الجمعية التي تدير أمور القرية، فنبوية رئيسة الجمعية تصدر أوامرها بأن يكون التعبير عن المشاعر أثناء الاحتفالات «تلقائيًّا»، وتحدد لهم في نفس الوقت ماذا يقولون، وكيف يعبِّرون عن أنفسهم بالضبط. ونبيه عندما يذهب إلى خارج القرية ليبيع أسماكها يُتَّهم بالاتصال بجهاتٍ أجنبية، ويُحكَم عليه بالضياع .. والجميع مطالبون بالتزام «الوحدة الفكرية»، وهي طبعًا كل ما ترضى عنه نبوية ومجلس الإدارة من أفكار .. والخروج على هذه الوحدة الفكرية معناه الضياع .. الضياع المادي، وليس مجرد الضياع المعنوي، كل ذلك بالرغم من تشديد نبوية على أعضاء الجمعية بضرورة التعبير عن آرائهم بحرية تامة! والنموذج الكامل لهذه «الوحدة الفكرية» هو زقزوق — محط سخرية المؤلف وسخريتنا؛ فزقزوق هو الذي يحفظ لائحة الجمعية عن ظهر قلب، ويردد ما بها من كليشيهات وشعارات كالببغاء، دون فهم أو وعي .. ويستعرض فصاحته في الخطابة حتى يبهر زوجته ظريفة! والعامل الآخر الذي يكشف الخلل الأساسي في تكوين «ميت حلاوة»؛ هو وصول الأستاذ غريب الذي جاء يطالب أهل القرية بالعودة إلى حظيرة النظام الإنساني الطبيعي .. فالضرائب التي يطالب بها الأستاذ غريب في البداية ليست إلا دلالة على شيء أعمق، وهو أنه قد حان الوقت لكي تصحو «ميت حلاوة» من سُباتها، وتعود إلى الانتماء إلى الوطن الأم .. فالأستاذ غريب يذكِّر أهل القرية أن هنا دولة تبني لهم طرقًا، وتمدُّهم بخدمات أساسية كالإنارة والمياه .. وأن هذا يمثل رابطًا بينهم وبين عالم أوسع تسير فيه الأمور على نحو مغاير تمامًا لِمَا تسير عليه في «ميت حلاوة». وتدرك نبوية الخطورة الشديدة الكامنة في وصول هذا الوافد الجديد الغريب .. فالمسألة ليست مجرد ضرائب، وإنما هي أبعد من ذلك وأعمق .. فوجود غريب يعني في الحقيقة بالنسبة ﻟ «ميت حلاوة» تسلُّل أفكار غريبة على هذا النظام الشمولي الذي بنته نبوية، ورعته هي ورجالها حتى أصبح واقعًا، وهي أفكار تهدد النظام بالانهيار التام. ومن هنا يأتي الاجتماع العاجل الذي تعقده نبوية لدراسة أفضل الطرق لإبعاد غريب بأسرع ما يمكن .. ولكن غريب ليس واحدًا من أهل القرية يمكن الحكم عليه بالضياع فيضيع، وإنما هو ممثل الشرعية، والقانون، والحكومة .. وإلحاق أي أذًى به يعني في الحقيقة استعداء الحكومة المركزية، وتذكيرها بالقرية التي نسيها الزمن .. وإذا كان من المستحيل إبعاد غريب، فإن «ميت حلاوة» تقرر امتصاصه، تمامًا كما امتصت من قبله مكرم الذي وفد على القرية غريبًا مثله من سنين. ولكن غريب ليس «مكرم» .. فمكرم رجل كان له حلم عظيم، ووجد في «ميت حلاوة» حلمه، ثم اكتشف أن هذا الحلم قد خانه .. أما غريب فهو من ذلك الطراز من الرجال الذين لا يحلمون، وإنما يتعاملون فقط مع حقائق الواقع الصلبة .. وهكذا يقرر غريب أن يمتص «ميت حلاوة»، ويسرق تجربتها لحسابه الخاص قبل أن تمتصه هي .. وهو ينفذ خطته في نفس اللحظة التي يبدأ فيها وعي نبوية في التفتُّح على حقائق النفس البشرية التي تشكِّل إنسانية الإنسان، وأهمها الحب والغيرة والمشاعر الخاصة. ويقود غريب مجلس الإدارة في انقلاب حاسم على نبوية؛ ليخلعها من إدارة الجمعية بتهمة أنها سمحت للمشاعر الشخصية أن تسيطر عليها عندما وقعت في حب مكرم وتزوجته .. وأنها في حبها لمكرم وغيرتها عليه قد خرقت لائحة الجمعية التي تحرِّم مثل هذه المشاعر الدنيا؛ فلم تعد تصلح للقيادة. وبعد هذا الانقلاب يتولى غريب بنفسه رئاسة الجمعية. والحقيقة أن وقوع نبوية في حب مكرم ودخولها في منطقة خصوصية المشاعر الإنسانية؛ يمثل في مسرحية «ميت حلاوة» إرادة التغيير التي تأتي من داخل البشر أنفسهم، وليس من خلال أي عامل خارجي من عوامل الحبكة الدرامية .. فالجمعية لم تفلح في الحقيقة في حل المشكلة الاقتصادية، ورفوفها ظلَّت دائمًا خاوية لا تحوي إلا أقل القليل بالرغم من كل الشعارات والاجتماعات والهتافات .. وزقزوق نفسه — أكبر المتحمسين — يعبِّر عن هذه الحقيقة المؤلمة عندما يقول بطريقته الخطابية المثيرة للسخرية: «كانت الخيرات تعم الجميع في الماضي بينما يسود الفقر في حقيقة الأمر وواقع الحال!» .. ومع عجز الجمعية عن حل المشكلة الاقتصادية رغم كل الشعارات؛ عجزت أيضًا عن إلغاء إنسانية الإنسان، وأيضًا رغم كل الشعارات! ولقد عجزت كل محاولات نبوية نفسها أثناء رئاستها للجمعية عن قتل الشعور بخصوصية الحب الذي تتولد عنه بالضرورة مشاعر الغيرة وحب التملُّك .. ولكن المفارقة الأساسية التي يبني عليها المؤلف تطور الحبكة؛ هي وقوع نبوية نفسها فيما كانت تحذِّر منه أتباعها .. فهي أولًا وأخيرًا بشر .. وهي عندما أحبت مكرم بدأت تدرك قيمة المشاعر الإنسانية وتفرُّدها وخصوصيتها .. وهكذا — كما تقدَّم القول — يبدأ التغيير من داخلها هي .. عندما تتحول من طاغية إلى إنسانة تحب، وتحاول حماية حبها بوصفه شيئًا خاصًّا بها هي، لا دخل للتجربة الشمولية فيه .. ومن هنا يتم دقُّ المسمار الأخير في نعش التجربة التي عاشت بها «ميت حلاوة» سنين طويلة؛ عندما تدرك نبوية أنها ساهمت في خلق وحش كبير — هو الجمعية — وسمحت له مع بقية أهل «ميت حلاوة» أن يلتهم إنسانيتهم. وعند هذه النقطة تكون حركة الحدث قد سارت في خطوط متقابلة بعد أن كانت تسير في مستويات متوازية .. ففي الوقت الذي تدرك فيه نبوية إنسانيتها من خلال مكرم، وتلفظ النظام الشمولي الذي صنعته بيديها؛ يتحوَّل غريب إلى طاغية حقيقي بعد أن يتخذ لنفسه زوجة من فتيات القرية وهي عبلة .. الفتاة البلهاء الساذجة في بداية المسرحية التي لا تلبث بعد زواجها من غريب أن تتصرَّف وكأنها مالكة الجمعية بما فيها ما دامت زوجة صاحب السلطة .. وهنا يعطينا المؤلف صورة لذلك النوع من الحكام الذين يحوِّلون التجربة السياسية إلى مغنم شخصي لهم .. ويصل هذا الاتجاه إلى قمته عندما يستولي إبراهيم بدوره على السلطة، بعد أن يدبِّر انقلابًا ضد غريب .. فعندما يستولي إبراهيم على السلطة يصرِّح دون مواربة ولا مواراة أنه «لا يمكن إنعاش الريف دون إنعاش مجلس الإدارة». والحقيقة أن إبراهيم الذي يأتي به الانقلاب الثاني؛ ما هو إلا التجسيد الكامل لجرثومة الفساد التي كانت كامنة في نظام الجمعية منذ البداية. ويهمني قبل أن أختتم هذه الدراسة العاجلة أن أتوقف قليلًا عند الدور الذي يؤديه التوازي بين ثنائي مكرم ونبوية من جانب، وغريب وعبلة من جانبٍ آخر؛ فالتقابل والتضاد بين حركة الثنائي الأول وحركة الثنائي الثاني يمثِّل نقطة الارتكاز في بناء المسرحية .. فبينما نجد أن حركة نبوية ومكرم الدرامية تبدأ بالتسليم بمواضعات «ميت حلاوة» وقوانينها الخاصة لتنتهي من خلال الحب إلى إدراك فساد تجربة الجمعية، وبالتالي إدراك إنسانيتهما وعثورهما على ذاتهما؛ نجد أن الحركة الدرامية لغريب وعبلة هي الخط المضاد لذلك .. فغريب يبدأ برفض «ميت حلاوة»، ثم ومن خلال الزواج القائم على المصلحة يستوعب تجربتها، ويسخِّرها لمصلحته الشخصية .. وعبلة لم تكن في البداية أكثر من فتاة بلهاء لا وعي لها بالأبعاد الكبرى لتجربة «ميت حلاوة» بعكس نبوية صاحبة التجربة وعقلها المفكر في البداية، وعندما تستولي عبلة على التجربة من خلال زواجها بغريب تتحول من البراءة الساذجة إلى إنسانة قد تجمَّدت إنسانيتها، وأصبحت ترى كل شيء بعين السلطة التي تعطيها الفرصة لامتلاك ما ومَن في بيت الشعب، وبعده «ميت حلاوة» ذاتها. فالحركة في الثنائي الأول هي من الجمود وفقدان الذات إلى إدراك كل منهما لإنسانيته، ومن خلال ذلك عثوره على ذاته، ويعبِّر عن ذلك رمزيًّا صيحة مكرم المترددة في أعمق أعماق المسرح بأنه قد عثر على الغنم بالرغم من كل شيء .. أما الحركة في الثنائي الثاني فيمكن وصفها بأنها حركة من البراءة إلى فقدان الذات، وبالتالي فقدان كلٍّ من غريب وعبلة لإنسانيتهما. إن «ميت حلاوة» مسرحية متعددة الخطوط، متشابكة المستويات، لا تكفي دراسة قصيرة كهذه أن تفيها حقها .. أو تفصح عن عمق رؤيتها الفنية وأحكام بنائها الدرامي الذي تلعب فيه كل شخصية وكل جملة من جمل الحوار وظيفة أساسية في الكشف عن أبعاد الحدث وتطويره .. ولكن عذري هنا أن القارئ يملك أمامه المسرحية نفسها، وهي تفصح في نسيجها وتركيبها عن أن مؤلفها قد استطاع بعد رحلة دامت أكثر من خمسة عشر عامًا مع المسرح أن يمتلك حقًّا كل أدوات الكاتب المسرحي المُجيد .. والأصيل.
محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م. محمد عناني: مُبدِع مصري موسوعي، كتب في الشعر والمسرح والنقد الأدبي، لكن مشروعه الأكبر كان في الترجمة؛ فأبدع فيها حتى استحقَّ لقب «شيخ المُترجِمين». وُلد «عناني» في مدينة رشيد بمحافظة البحيرة عام ١٩٣٩م. حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية من جامعة القاهرة عام ١٩٥٩م، ثم على درجة الماجستير من جامعة لندن عام ١٩٧٠م، وعلى درجة الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام ١٩٧٥م، ثم على درجة الأستاذية عام ١٩٨٦م. عمل مُراقِبَ لغةٍ أجنبية بخدمةِ رصد «بي بي سي» في الفترة من عام ١٩٦٨م إلى عام ١٩٧٥م، ثم محاضرًا في اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة منذ عام ١٩٧٥م، ورئيسًا لقسم اللغة الإنجليزية بالجامعة بين عامَي ١٩٩٣م و١٩٩٩م. وطوال مَسيرته التدريسية بالجامعة تَخرَّج على يدَيه عشراتُ الآلاف من الطلاب، وأشرف على مئات الرسائل الجامعية. اتَّسم الإنتاجُ الأدبي ﻟ «عناني» بالتنوُّع، فجمع بين التأليف والترجمة والنقد الأدبي؛ فمن بين أعماله المُؤلَّفة: «السجين والسجَّان»، و«السادة الرعاع»، و«جاسوس في قصر السلطان». أما مُؤلَّفاته العلمية في الترجمة والنقد الأدبي فمنها: «الترجمة الأسلوبية»، و«النقد التحليلي»، و«التيارات المعاصرة في الثقافة العربية»، و«الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق». أما أعماله المُترجَمة فأهمها ترجمته لتراث «شكسبير» المسرحي بأكمله، وبعض أعمال «إدوارد سعيد» مثل: «الاستشراق وتغطية الإسلام»، و«المثقف والسلطة»، فضلًا عن أعمال أخرى مثل: «الفردوس المفقود»، و«ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي». كما ساهَم في ترجمة الكثير من المُؤلَّفات العربية إلى الإنجليزية، وعلى رأسها مُؤلَّفات «طه حسين»، ودواوين ومسرحيات شعرية لكلٍّ من «صلاح عبد الصبور»، و«عز الدين إسماعيل»، و«فاروق شوشة». نال العديدَ من الجوائز؛ منها: «جائزة الدولة في الترجمة»، و«وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى»، و«جائزة الدولة في الآداب»، و«جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة»، و«جائزة رفاعة الطهطاوي في الترجمة»، وغير ذلك من الجوائز العربية والمصرية المتميزة. توفي ٣ يناير ٢٠٢٣م.
https://www.hindawi.org/books/13726364/
علم الكمبيوتر: مقدمة قصيرة جدًّا
سوبراتا داسجوبتا
لا يَخفى على أحدٍ النموُّ المذهل الذي شَهِدته التكنولوجيات المرتبطة بالكمبيوتر على مَدار الستين عامًا الماضية. غير أن العلمَ الذي تقوم عليه هذه التقنياتُ أقلُّ شهرةً وانتشارًا خارج الأوساط المهنية القائمة على تطويره. وباعتبار علم الكمبيوتر مجالًا علميًّا، فإنه يصطفُّ إلى جانبِ علومٍ أخرى مشابهة، مثل علم الأحياء الجزيئي والعلوم الإدراكية، بوصفه أحدَ أهم العلوم الحديثة التي ظهرَت بعد حِقبة الحرب العالمية الثانية.وفي هذا الكتاب من سلسلة «مقدمة قصيرة جدًّا»، يُلقي «سوبراتا داسجوبتا» الضوءَ على هذه المجالات الأقلِّ شهرةً بين الناس، ويتناول الأساسَ المفاهيمي لعلم الكمبيوتر؛ فبعد أن يتناول موضوعاتٍ مثل الخوارزميات والبرمجة والمعالَجة التسلسُلية والمتوازية، يستعرض الأفكار الناشئة الحديثة مثل الحَوسَبة البيولوجية والنَّمذَجة المعرفية.
https://www.hindawi.org/books/13726364/0.2/
شكر وتقدير
أتقدَّم بالشكر إلى لاثا مينون، محرِّرتي لدى مطبعة جامعة أكسفورد، على دعمها ومشوراتها الحكيمة بشأن هذا المشروع منذ بدايته. فقد كانت تعليقاتها على النسخة قبل الأخيرة تعليقاتٍ مفيدة بنحو خاص. ولم تتوانَ جيني نوجي في الرد بشأن الاقتراحات والمساعدات التحريرية في مختلف مراحل هذا العمل. وإني لأتقدَّم بالشكر إليها. اطَّلع أربعة قراء مجهولون على مسوَّدتين مختلفتين لمتن الكتاب، وقدَّموا اقتراحات وتعليقات قيمة وقد أخذتها على محمل الجِد. إنني ممتن لهم كلَّ الامتنان، وودِت لو أني تقدمت بالشكر إليهم بأسمائهم. وأتوجَّه بالشكر إلى إلمان باشار لإعداد الرسوم التوضيحية. وقد استُخدمت أجزاء من هذه المادة في منهج دراسي حول «التفكير الحوسبي» ذي مستوًى متقدِّم مقدَّم لطلاب جامعيين، درَّسته في عدة مناسبات لغير المتخصِّصين في علم الكمبيوتر. وكانت استجاباتهم مفيدةً للغاية في رسم ملامح النص وتنقيحه. وفي النهاية كما هو معتاد دومًا، أتوجَّه بالشكر إلى أفراد عائلتي. ما فتئ كل فرد منهم يقدِّم الدعم — على اختلاف طرقهم — ما يجعل عيش الحياة الفكرية أجدى وأجدر.
سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع». سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع».
https://www.hindawi.org/books/13726364/
علم الكمبيوتر: مقدمة قصيرة جدًّا
سوبراتا داسجوبتا
لا يَخفى على أحدٍ النموُّ المذهل الذي شَهِدته التكنولوجيات المرتبطة بالكمبيوتر على مَدار الستين عامًا الماضية. غير أن العلمَ الذي تقوم عليه هذه التقنياتُ أقلُّ شهرةً وانتشارًا خارج الأوساط المهنية القائمة على تطويره. وباعتبار علم الكمبيوتر مجالًا علميًّا، فإنه يصطفُّ إلى جانبِ علومٍ أخرى مشابهة، مثل علم الأحياء الجزيئي والعلوم الإدراكية، بوصفه أحدَ أهم العلوم الحديثة التي ظهرَت بعد حِقبة الحرب العالمية الثانية.وفي هذا الكتاب من سلسلة «مقدمة قصيرة جدًّا»، يُلقي «سوبراتا داسجوبتا» الضوءَ على هذه المجالات الأقلِّ شهرةً بين الناس، ويتناول الأساسَ المفاهيمي لعلم الكمبيوتر؛ فبعد أن يتناول موضوعاتٍ مثل الخوارزميات والبرمجة والمعالَجة التسلسُلية والمتوازية، يستعرض الأفكار الناشئة الحديثة مثل الحَوسَبة البيولوجية والنَّمذَجة المعرفية.
https://www.hindawi.org/books/13726364/0.3/
المقدمة
كانت ستينيات القرن العشرين فترةً عصيبةً على الصعيدين الاجتماعي والثقافي. لكن بين ثنايا الحرب الباردة وحركة الدفاع عن الحقوق المدنية والمظاهرات المناهضة للحروب والحركة النسوية والثورات الطلابية وشعارات المقاومة السلبية واللاعنف والاعتصامات والتمردُّات اليسارية الراديكالية، وعلى نحوٍ لم يكد ينتبه له أحد، ظهر علمٌ جديد في أحرام الجامعات في الغرب وحتى في بعض الأقطار غير الغربية، وإن كان على نحوٍ أقل وضوحًا. تعني الحوسبة التلقائية تصميمَ وصناعة أجهزة قادرة على الحوسبة بأدنى تدخُّل من الإنسان، وترجع «فكرتها التكنولوجية» على الأقل إلى أحلامٍ استحوذت على عقل عالِم الرياضيات والمفكر الإنجليزي تشارلز بابدج في أوائل القرن التاسع عشر، هذا إن لم يكن لها تاريخ أقدَم من ذلك. وقد دُرس «المفهوم الرياضي» للحوسبة لأول مرة في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين على يد عالِمَي المنطق آلان تورنج الإنجليزي وألونزو تشرتش الأمريكي. لكن الدافع اللازم لإنشاء «علم تجريبي» ملائم للحوسبة كان عليه الانتظار حتى اختراع كمبيوتر رقمي إلكتروني وتصميمه وتنفيذه في أربعينيات القرن العشرين؛ أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرةً. وحتى في ذلك الحين، مرَّ هذا العلم بفترة تطوير. فلم يبرُز علمٌ مستقل له اسمه وهويته الخاصة إلا في ستينيات القرن العشرين عندما بدأت الجامعات في تقديم درجات علمية للخريجين وطلاب الدراسات العليا في علم الكمبيوتر، وخرج أول جيل من «علماء الكمبيوتر» المدرَّبين رسميًّا من أحرام الجامعات. منذ اختراع الكمبيوتر الرقمي الإلكتروني عام ١٩٤٦، لا يخفى على أحد النمو المذهل في التكنولوجيات المرتبطة بهذا الجهاز (والتي يُطلق عليها بوجه عام في الوقت الراهن مصطلح «تكنولوجيا المعلومات») وكذلك التحوُّل الثقافي والاجتماعي المصاحب لذلك (الذي يعبَّر عنه بوجه عام بمصطلحات مثل «عصر المعلومات» و«ثورة المعلومات» و«مجتمع المعلومات»). لقد اجتاحتنا فعليًّا هذه البيئة التكنولوجية الاجتماعية. وعلى الرغم من ذلك، فإن «العلم» — المنهج الفكري — الذي تقوم عليه هذه التكنولوجيا يُعدُّ أقلَّ وضوحًا، وبالتأكيد تقل المعرفة به وفهْمه خارج الأوساط العلمية لعلم الكمبيوتر. لكن لا شك أن علم الكمبيوتر يصطف إلى جانب علوم أخرى مثل علم الأحياء الجزيئي والعلوم المعرفية باعتباره من أهم العلوم التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية. إضافة إلى ذلك، فإن علم الكمبيوتر تكتنفه بعض الغرابة التي تجذب الانتباه إليه وتميزه عن باقي العلوم الأخرى. في هذا الكتاب، أهدُف إلى أن أقدِّم للقارئ صاحبِ الفضول الفكري والاهتمام الجاد بالأفكار والمبادئ العلمية الأساسَ لفهْم الطبيعة الجوهرية لعلم الكمبيوتر؛ وإن شئت القول، أود أن أثري الفهم العام لهذا العلم الغريب والفريد تاريخيًّا والأكثر تبعات والذي لا يزال حديثًا. بكلمات بسيطة، يسعى هذا الكتاب إلى الإجابة عن السؤال التالي إجابةً مباشرة وفورية ومختصرة: «ما علم الكمبيوتر؟» قبل أن نبدأ، جديرٌ بنا أن نبدأ بتوضيح بعض المصطلحات. في هذا الكتاب، سأستخدم كلمة «حوسبة» للإشارة إلى نوع معيَّن من الأنشطة وفي نفس الوقت إلى ناتجه، وبالتبعية كلمة «حوسبي» ستكون صفة في هذا الإطار؛ و«كمبيوتر» للإشارة إلى الجهاز أو الأداة أو النظام الذي يُجري عملية الحوسبة؛ و«أداة» للإشارة إلى أي شيء من صنع الإنسان (أو الحيوان في بعض الأحيان)؛ و«أداة حوسبية» للإشارة إلى أي أداة داخلة في المهام الحوسبية. وأخيرًا، لا بد من ذكر تحذير. يبدأ هذا الكتاب بقبول الافتراض القائل بأن علم الكمبيوتر هو علمٌ فعليًّا؛ بمعنى أنه يجسِّد السِّمات العامة المرتبطة بمفهوم العلم، ولا سيما أنه يستلزم مزيجًا منهجيًّا من الأساليب التجريبية والمفاهيمية والرياضية والمنطقية والكمية والنوعية للتحقيق والبحث في طبيعة نوع معيَّن من الظواهر. وتقصي هذا الافتراض جزء من فلسفة العلم ولا يدخل في نطاق هذا الكتاب. القضية الأساسية التي تهمنا هنا هي «طبيعة» علم الكمبيوتر «بصفته» علمًا، ولا سيما طابعه المستقل والمميز.
سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع». سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع».
https://www.hindawi.org/books/13726364/
علم الكمبيوتر: مقدمة قصيرة جدًّا
سوبراتا داسجوبتا
لا يَخفى على أحدٍ النموُّ المذهل الذي شَهِدته التكنولوجيات المرتبطة بالكمبيوتر على مَدار الستين عامًا الماضية. غير أن العلمَ الذي تقوم عليه هذه التقنياتُ أقلُّ شهرةً وانتشارًا خارج الأوساط المهنية القائمة على تطويره. وباعتبار علم الكمبيوتر مجالًا علميًّا، فإنه يصطفُّ إلى جانبِ علومٍ أخرى مشابهة، مثل علم الأحياء الجزيئي والعلوم الإدراكية، بوصفه أحدَ أهم العلوم الحديثة التي ظهرَت بعد حِقبة الحرب العالمية الثانية.وفي هذا الكتاب من سلسلة «مقدمة قصيرة جدًّا»، يُلقي «سوبراتا داسجوبتا» الضوءَ على هذه المجالات الأقلِّ شهرةً بين الناس، ويتناول الأساسَ المفاهيمي لعلم الكمبيوتر؛ فبعد أن يتناول موضوعاتٍ مثل الخوارزميات والبرمجة والمعالَجة التسلسُلية والمتوازية، يستعرض الأفكار الناشئة الحديثة مثل الحَوسَبة البيولوجية والنَّمذَجة المعرفية.
https://www.hindawi.org/books/13726364/1/
«مقومات» الحوسبة
ما علم الكمبيوتر؟ في عام ١٩٦٧، طرح ثلاثة من أوائل المساهمين البارزين في هذا العلم وهم آلان بيرليس وألين نيويل وهيربرت سايمون إجابةً عن هذا السؤال، غير أنها باتت كلاسيكية الآن، وتقول الإجابة ببساطة إن علم الكمبيوتر هو دراسة أجهزة الكمبيوتر والظواهر المرتبطة بها. هذه إجابة مباشرة تمامًا وأعتقد أن معظم علماء الكمبيوتر سيقبلونها بمثابة تعريف تقريبي يفي بالغرض. يرتكز هذا التعريف على جهاز الكمبيوتر نفسه، وبالتأكيد لن يوجد علم الكمبيوتر من دون جهاز الكمبيوتر. لكن ربما يرغب كلٌّ من المتخصصين في علم الكمبيوتر وغير المتخصصين في فهْم العبارتين المذكورتين في هذا التعريف فهمًا أدقَّ وهما: «أجهزة الكمبيوتر» و«الظواهر المرتبطة بها». الكمبيوتر عبارة عن «أوتوماتون». في الماضي كانت تلك الكلمة — والتي صيغت في القرن السابع عشر (وتُجمع على «أوتوماتا») — تعني أي أداة تؤدي أنماطًا مكررة من الحركات والأفعال من دون تأثيرات خارجية، ويدفعها إلى حد كبير مصدرها الخاص من الطاقة المحركة. في بعض الأحيان، كانت تحاكي هذه الأفعال أفعالَ البشر والحيوانات. ابتُكرت هذه الأدوات الميكانيكية الشهيرة منذ العصور القديمة قبل المسيحية، وكان جُل استخدامها لتسلية الأثرياء، ولكن كان لبعضها استخدامات عملية مثل الساعة المائية التي يقال إنها اختُرعت في القرن الأول الميلادي على يد المهندس هيرو السكندري. وتُعدُّ الساعة الميكانيكية ذات الثقالة التي اختُرعت في إيطاليا في القرن الخامس عشر سليلًا ناجحًا وباقيًا لهذا النوع من الأدوات. في الثورة الصناعية التي قامت في القرن الثامن عشر، كان تشغيل مضخة لشفط المياه من المناجم باستخدام محرك يعمل بالبخار «الجوي» والذي اخترعه توماس نيوكومن (عام ١٧١٣) وطوَّره بعد ذلك جيمس وات وآخرون (عام ١٧٦٥) يُعَد مثالًا آخر على مثل هذه الأدوات العملية. من ثَم نجد أن الأوتوماتا الميكانيكية التي تؤدي بعض الأعمال الفعلية من نوع أو آخر لها تاريخ زاخر. أما الأوتوماتا التي تحاكي الأفعال الإدراكية فلها تاريخٌ أحدث بكثير. من الأمثلة البارزة على ذلك الروبوت السلحفاة «ماكينا سبيكيولاتريكس» (أي، «الآلة المفكِّرة») الذي اخترعه عالِم الفسيولوجيا العصبية البريطاني ويليام جراي والتر في أواخر أربعينيات وأوائل خمسينيات القرن العشرين. لكن الكمبيوتر الرقمي الإلكتروني التلقائي الذي طُوِّر في النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين كان علامة على ميلاد جنس جديد تمامًا من الأوتوماتا؛ ذلك أن الكمبيوتر كان أداة صُمِّمت لمحاكاة وتقليد أنواع معينة من عمليات «التفكير» البشرية. إن فكرة الحوسبة باعتبارها طريقةً لمحاكاة التفكير الإنساني — أو الكمبيوتر باعتباره «جهازًا مفكِّرًا» — لهي فكرة مثيرة للاهتمام والحَيرة والجدل، وسأتناولها لاحقًا في هذا الكتاب؛ حيث إنها الأصل في أحد فروع علم الكمبيوتر الذي يسمى «الذكاء الاصطناعي». لكن يميل العديد من علماء الكمبيوتر إلى تقليل الارتباط بالإنسان عند الحديث عن علمهم. حتى إن بعضهم ينفي أيَّ صلة للحوسبة بالتفكير الإنساني المستقل. أشارت عالمة الرياضيات البارزة آدا أوجستس، ذات الأصل الإنجليزي وكونتيسة لوفليس وزميلة تشارلز بابدج (ارجع إلى المقدمة)، في أربعينيات القرن التاسع عشر، إلى أن الجهاز الذي تصوَّره بابدج (يسمَّى المحرِّك التحليلي، وكان أول تجسيد لما عُرف بعد قرن من الزمان باسم الكمبيوتر الرقمي المتعدد الأغراض الحديث) لا يدَّعي بدءَ المهام من تلقاء نفسه. فهو لا ينجز سوى الأوامر التي يمليها عليه الإنسان. وكثيرًا ما يتكرر هذا الرأي لدى المشككين العصريين في الذكاء الاصطناعي، ومنهم السير موريس ويلكس، وهو أحد الرواد في مجال الكمبيوتر الإلكتروني. فقد أكَّد في نهاية القرن العشرين مردِّدًا ما أشارت إليه كونتيسة لوفليس أن أجهزة الكمبيوتر «لا تنجز سوى المهام التي تُملى عليها». إذن، ما الذي تنجزه أجهزة الكمبيوتر ويميزها عن باقي أنواع الأدوات، بما فيها الأنواع الأخرى من الأوتوماتا؟ وما الذي يجعل علم الكمبيوتر مجالًا علميًّا مميزًا؟ تحقيقًا لهدف هذا الفصل، سأتعامل مع جهاز الكمبيوتر باعتباره «صندوقًا أسود». بمعنى أننا سنتجاهل بشكلٍ أو بآخر البنيةَ الداخلية لأجهزة الكمبيوتر وطريقة عملها؛ حيث سنتطرق إلى ذلك لاحقًا. أما في الوقت الحالي، فسنعتبر جهاز الكمبيوتر نوعًا عامًّا من الأوتوماتون، وسنتناول «المهام» التي ينجزها وليس «الكيفية» التي ينجزها بها. كل مجال يطمح إلى أن يكون «علميًّا» يتقيد ﺑ «المقومات» الأساسية المعنيِّ بها. تتمثل مقوِّمات علم الفيزياء في المادة والقوة والطاقة والحركة؛ وتتمثل مقوِّمات علم الكيمياء في الذرات والجزيئات؛ وتتمثل مقوِّمات علم الوراثة في الجينات؛ وتتمثل مقوِّمات الهندسة المدنية في القوى التي تحافظ على توازن المنشآت المادية. والرأي السائد بين علماء الكمبيوتر هو أن المقوِّم الأساسي لعلم الكمبيوتر هو «المعلومات». ومن ثَم جهاز الكمبيوتر عبارة عن وسيلة تُستخدم لاستراد المعلومات من «البيئة» ثم تخزينها أو معالجتها أو تحويلها، ثم إعادة إطلاقها في تلك البيئة، وذلك بشكل تلقائي. وهذا يفسِّر استخدامَ مصطلح بديل للحوسبة وهو «معالجة المعلومات»؛ ويفسِّر الإشارةَ إلى علم الكمبيوتر في أوروبا بمصطلح «المعلوماتية»؛ ويفسِّر سببَ تسمية المنظَّمة المعنية بعمليات الحوسبة باسم الاتحاد الدولي لمعالجة المعلومات، والتي تشبه الأمم المتحدة في مجالها. مكمن المشكلة هو أنه على الرغم من تأسيس الاتحاد الدولي لمعالجة المعلومات عام ١٩٦٠ (ما يعطي مباركة دولية رسمية لمصطلح معالجة المعلومات)، فإنه لا يزال ثمة قدْر كبير من سوء الفهْم بشأن ماهية المعلومات حتى يومنا هذا. وكما قال موريس ويلكس ذات مرة، إنها شيء «مراوغ». لكن جهاز الكمبيوتر المادي ليس سوى نوع واحد من الأدوات الحوسبية (كما سنرى في الفصل الثاني). والمعلومات غير الدلالية ليست سوى نوع واحد من أنواع المعلومات التي يُعنى بها علماء الكمبيوتر. فالنوع الآخر الأكثر أهمية (وربما إثارة للاهتمام) هو المعلومات التي لها دلالة: أي المعلومات «ذات المعنى». ترتبط هذه المعلومات ﺑ «العالم الواقعي»، وهذا المعنى يتطابق مع الاستخدام الدارج للكلمة. على سبيل المثال، عندما أدخل على شبكة الإنترنت من جهاز الكمبيوتر الشخصي لديَّ، فبالتأكيد أن معالجة المعلومات تحدُث على مستوًى مادي أو «غير دلالي»؛ بمعنى أن المعلومات تُنقل من جهاز كمبيوتر بعيد (الخادم) عبْر الشبكة إلى جهازي. ولكني أبحث عن معلومات تدور حول شيءٍ ما، ولنقُل السيرة الذاتية لشخص بعينه. النص الناتج عن هذا البحث الذي أقرؤه على شاشة جهازي له معنًى بالنسبة إليَّ. وعند هذا المستوى، تصبح الأداة الحوسبية التي أتفاعل معها نظام معالجة معلومات دلالية. بالطبع يمكن أن تكون هذه المعلومات أيَّ شيء عن البيئة المادية أو الاجتماعية أو الثقافية، أو عن الماضي، أو عن خواطر وأفكار أعلن عنها أصحابها، أو حتى عن الأفكار الداخلية لشخصٍ ما إذا حدث وسُجلت أو خُزنت في مكانٍ ما. وحسبما أشار عالِم الكمبيوتر بول روزنبلوم، فإن القاسم المشترك بين المعلومات الدلالية وغير الدلالية هو ضرورة التعبير عنها باستخدام وسيط مادي مثل الإشارات الكهربية أو الحالات المغناطيسية أو العلامات على الورق؛ وأن من شأنها كذلك أن تزيل اللبس. لنضرب المثل على المعلومات الدلالية بالسيرة الذاتية عن شخصٍ ما. بالاطلاع عليها، يمكنني بالتأكيد أن أزعم أني أملك «معرفة» عن ذلك الشخص. وهذا يشير إلى مصدر غموض آخر بشأن مفهوم المعلومات في اللغة العادية، ألا وهو الخلط بين المعلومات والمعرفة. لا يخفى أن إليوت كان يشير ضمنيًّا إلى تسلسل هرمي: أن الحكمة تعلو على المعرفة، والمعرفة تعلو على المعلومات. يتحاشى علماء الكمبيوتر بوجه عام الحديثَ عن الحكمة؛ حيث إنها تتخطى نطاق اختصاصهم. لكنهم لم يستقروا بعدُ إلى حدٍّ ما بشأن الفرْق بين المعرفة والمعلومات، على الأقل في بعض السياقات. على سبيل المثال، في مجال الذكاء الاصطناعي المتفرع من علم الكمبيوتر، كان «تمثيل» المعرفة مشكلة أساسية وطويلة الأمد، وهي تدور حول طريقة تمثيل المعرفة عن العالم في ذاكرة الكمبيوتر. نوع آخر من المشاكل التي يدرسونها هو طريقة «استنباط الاستدلالات» من مجموعة معارف. إن أنواع الأشياء التي يعتبرها باحثو الذكاء الاصطناعي معرفة تتضمن الحقائق (مثل «كل البشر فانون»)، والنظريات (مثل «التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي»)، والقوانين (مثل «لكل فعل ردُّ فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه»)، والمعتقدات (مثل «للكون إله»)، والقواعد (مثل «يجب التوقُّف التام عند إشارة الوقوف»)، والإجراءات (مثل «طريقة طهي حساء المأكولات البحرية»)، وغير ذلك. ولكن الطريقة التي تشكِّل بها هذه الكياناتُ المعرفةَ دونًا عن المعلومات غير معروفة إلى حد كبير. كما قد يزعم الباحثون في الذكاء الاصطناعي أيضًا أنهم يعالجون المعرفة وليس المعلومات في فرع تخصصهم من علم الكمبيوتر؛ لكن يبدو أنهم ليس لديهم تفسير لسبب اهتمامهم بالمعرفة دونًا عن المعلومات. في تخصصٍ آخر يسمَّى «التنقيب في البيانات»، ينصبُّ الاهتمام على «اكتشاف المعرفة» من كميات هائلة من البيانات. بعض الباحثين في مجال التنقيب في البيانات يعرِّفون المعرفة بأنها أنماط «مثيرة للاهتمام» و«مفيدة» أو أنماط منتظمة مخفية في قواعد البيانات الضخمة. ويفرِّقون بين اكتشاف المعرفة واسترداد المعلومات (وهذا نوع آخر من أنشطة الحوسبة)، حيث إن الأخير يهتم باستعادة المعلومات «المفيدة» من قواعد البيانات على أساس استعلامٍ ما، في حين يشير الأول إلى المعرفة التي هي أكثر من مجرد معلومات «مفيدة» أو مجرد أنماط منتظمة: حيث لا بد أن تكون هذه المعلومات «مثيرة للاهتمام» بشكلٍ ذي أهمية كبيرة كي ترتقي إلى رتبة المعرفة. وكمثل تي إس إليوت، يضع الباحثون في مجال التنقيب في البيانات المعرفةَ في مرتبةٍ أعلى من مرتبة المعلومات. وعلى أية حال، يرتبط التنقيب في البيانات بمعالجة المعرفة أكثر من ارتباطه باسترداد المعلومات. طرح فيلسوف الحوسبة لوتشانو فلوريدي وجهةَ النظر التالية عن العلاقة بين المعلومات والمعرفة. يوجد «تشابه عائلي» بين المعلومات والمعرفة. فكلاهما كِيان ذو معنًى، ولكن يدور وجه الاختلاف حول أن عناصر المعلومات منفصلة مثل اللبنات، بينما المعرفة تربط عناصر المعلومات ببعضها بحيث يستطيع المرء استنباط استدلالات جديدة عن طريق تلك العلاقات. لنضرب مثالًا: لنفترض أنني كنت أقود سيارتي وسمعت في مذياع السيارة أن علماء الفيزياء في جنيف قد اكتشفوا جسيمًا أساسيًّا يسمَّى بوزون هيجز. لا شك أن هذه الحقيقة الجديدة («جسيم بوزون هيجز موجود») تمثِّل معلومة جديدة بالنسبة إليَّ. إنني يمكنني حتى أن أعتقد أني اكتسبت معرفةً جديدة. لكن سيكون هذا الاعتقاد وهمًا ما لم أربط تلك المعلومة بعناصر معلومات أخرى مرتبطة بالجسيمات الأساسية وعلم الكون. وكذلك لن أتمكَّن من قياس أهمية تلك المعلومة. إن علماء الفيزياء يحوزون شبكة متكاملة من الحقائق والنظريات والقوانين وغير ذلك عن الجسيمات دون الذرية وعن بنية الكون بما يمكِّنهم من استيعاب تلك الحقيقة الجديدة وفهْم أهميتها أو تبعاتها. إنهم يحوزون المعرفة اللازمة لذلك، أما أنا فلم أكتسب سوى معلومة جديدة. لمَّا ذكرت «التنقيب في البيانات»، طرحت مصطلحًا جديدًا ذا صلة كبيرة وهو «البيانات». وهنا يكمُن مصدرٌ آخر من مصادر الغموض في فهْمنا لمفهوم المعلومات، لا سيما في أوساط علم الكمبيوتر. أشار عالِم الكمبيوتر دونالد كنوث لهذا الإشكال — بل اختلاط المعاني — منذ عام ١٩٦٦، وهو الوقت الذي ظهر فيه علم الكمبيوتر باعتباره مجالًا علميًّا قائمًا بذاته، وكان يتطلب صياغة مفاهيم جديدة وتوضيح مفاهيم قديمة. ذكر كنوث أن في العلم ثمَّة ما يبدو أنه اختلاط من نوعٍ ما فيما يتعلَّق بمعاني المصطلحين «المعلومات» و«البيانات». فعندما يُجري عالمٌ ما تجربةً تحتوي على قياس، فإن ما يستنبطه قد يكون واحدًا من أربعة كِيانات وهي: القيم «الحقيقية» لما تم قياسه؛ والقيم التي حصل عليها بالفعل أو التقديرات التقريبية للقيم الصحيحة؛ وتمثيل تلك القيم؛ والمفاهيم التي يستخرجها العالِم من تحليل القياسات. وشدَّد كنوث أن كلمة «بيانات» تنطبق وتتلاءم أكثرَ مع الكيان الثالث من تلك الكيانات. وعلى حد قول كنوث باعتباره عالِم كمبيوتر، فإن البيانات هي «تمثيل» المعلومات المستخرجة عن طريق الملاحظة أو القياس بصورة دقيقة. ومن ثَم بناءً على رأيه، فإن المعلومات تسبق البيانات. ولكن عمليًّا، فالعلاقة بين المعلومات والبيانات غامضة مثلها مثل العلاقة بين المعلومات والمعرفة. وهنا، لا يسعني سوى الاستشهاد ببعض وجهات النظر المختلفة عن هذه العلاقة. يرى عالِم الأنظمة والإدارة البارز راسل أكوف أن البيانات تُعَد نتيجة الملاحظات؛ أي أنها تمثيلات للأشياء والأحداث. أما بشأن المعلومات، فتخيَّل أكوف أن أحدًا يطرح بعض الأسئلة التي تنطوي على بيانات ثم تمر ﺑ «المعالجة» (على الأرجح من قِبل إنسان أو آلة) لتقديم إجابات عليها، وتلك الإجابات هي المعلومات. وبذلك يرى أكوف أن البيانات تسبق المعلومات، وهذا مناقضٌ لرأي كنوث. بناءً على هذا التعريف للبيانات، يعرِّف فلوريدي المعلومات بأنها عنصر أو عدة عناصر من البيانات المبنية وفقًا لقواعدَ معينة، والتي تكون ذات معنًى. وفي اصطلاح اللغويين، تكون المعلومات بيانات عندما تمتلك كلًّا من البناء والمعنى الدلالي. وبذلك تصبح رؤيتي للإشارة الحمراء — وحدة واحدة من البيانات — معلوماتٍ لأن معنى الإشارة الحمراء هي «ضرورة توقُّف سائقي المركبات عند إشارة المرور». وإذا لم أربط هذا الإجراء بالإشارة الحمراء، فستظل الإشارة الحمراء مجرد وحدة بيانات. لنضرب مثالًا أخيرًا، يرى الباحثان في الذكاء الاصطناعي جيفري شراجر وبات لانجلي أن البيانات لا تنتج عن الملاحظة، بل إن الملاحظة هي البيانات؛ بمعنًى أدق، ما يلاحَظ يسجَّل بشكل انتقائي كي يرتقي إلى مرتبة البيانات. ولا تظهر المعلومات في مخططهم للأشياء. هذه الأمثلة كافية لتوضيح الغموض في وجه الصلة بين المعلومات والبيانات من وجهات نظر مختلفة. لكن لنرجع إلى كنوث. أعتقد أن تعريفه يبرز إلى حدٍّ كبير وجهةَ نظر علماء الكمبيوتر المتخصصين في ضربٍ آخرَ من علم الكمبيوتر اسمه برمجة الكمبيوتر — وهي الأساليب التي يستخدمها الإنسان كي يملي مهمةً حوسبية على الكمبيوتر (وسأناقش هذا الموضوع لاحقًا في هذا الكتاب). وعلى الرغم من أن المبرمجين ومنظِّري البرمجة يؤيدون بألسنتهم فكرة أن الحوسبة عبارة عن معالجة للمعلومات، فإنهم لا يهتمون ﺑ «المعلومات» بوجه عام، بل إنهم يهتمون أكثرَ بفكرة كنوث عن البيانات. بعبارة أدق، يهتم أولئك بالبيانات باعتبارها العناصر الأساسية (عناصر البيانات) التي تُنفذ العمليات الحوسبية عليها؛ ومن ثَم فهم منشغلون بتصنيف عناصر البيانات (أنواع البيانات)، وقواعد تمثيل عناصر البيانات المعقَّدة (هياكل البيانات)، وقواعد استخدام عناصر البيانات ومعالجتها وتطويرها بهدف إنتاج عناصر بيانات جديدة. بالنسبة إلى علماء الكمبيوتر هؤلاء، البيانات هي ما تهمهم، وليس المعلومات أو المعرفة. لمزيد من الدقة، يسلِّم المبرمجون جدلًا بأن المعلومات «موجودة» في «العالم الحقيقي». لكن المسألة التي تثير اهتمامهم هي طريقة تمثيل معلومات العالم الحقيقي في شكلٍ لا يتلاءم مع الحوسبة التلقائية فحسب، بل مع فهْم الإنسان أيضًا. (غني عن التوضيح أن الممارسين الآخرين مثل علماء التاريخ والإحصاء والعلماء التجريبيين لا ينظرون عادةً إلى البيانات من تلك الزاوية.) سأتناول هذا الموضوع بمزيدٍ من التفصيل في موضع لاحق من الكتاب. لكن لنضرب مثالًا بسيطًا للغاية على رؤية المبرمجين للبيانات: في البيئة الجامعية، ستكون ثمَّة معلومات في مكتب أمين السجلات عن الطلاب المسجلين، ومنها أسماء الطلاب وتواريخ ميلادهم وعناوين منازلهم وعناوين البريد الإلكتروني، وأسماء الوالدين أو أولياء الأمور، وموضوعات التخصص والدورات التدريبية التي درسوها والدرجات التي حصلوا عليها والمنح الدراسية والرسوم المدفوعة، وغير ذلك. تحتاج إدارة الجامعة إلى نظام ينظِّم هذه المعلومات بطريقة منهجية (قاعدة بيانات) بحيث يمكن استرداد المعلومات التي تخص أيَّ طالب بعينه بدقة وبسرعة، وكذا إدخال معلومات جديدة عن الطلاب الحاليِّين أو الجدد، وتتبُّع تقدُّم فرادى الطلاب تتبُّعًا فعالًا، وجمع الإحصاءات عن الطلاب جملةً أو عن مجموعة منهم. المبرمج الذي توكل إليه هذه المهمة لا تعنيه المعلومات في حد ذاتها، بل تعنيه — بناءً على طبيعة المعلومات — طريقةَ تحديد عناصر البيانات الأساسية التي تمثِّل معلومات الطالب، وشكل هياكل البيانات التي تمثِّل عناصر البيانات، وبناء قاعدة بيانات تسهِّل على إدارة الجامعة المهامَّ الحوسبية التي تريدها. بدأت هذا الفصل باقتراح أن المقوم الأساسي للحوسبة هو المعلومات، وأن الكمبيوتر عبارة عن أوتوماتون يعالج المعلومات، وعليه يكون علم الكمبيوتر هو دراسة معالجة المعلومات. نوع البيانات، عنصر البيانات، هيكل البيانات، قاعدة البيانات، معالجة البيانات، التنقيب في البيانات، البيانات الضخمة … معالجة المعلومات، نظام المعلومات، علم المعلومات، هيكل المعلومات، تنظيم المعلومات، تكنولوجيا المعلومات، تخزين المعلومات واستردادها، نظرية المعلومات … قاعدة المعرفة، نظام المعرفة، تمثيل المعرفة، هيكل المعرفة، نظرية المعرفة، المعرفة التقريرية، المعرفة الإجرائية، اكتشاف المعرفة، هندسة المعرفة، مستوى المعرفة … هل يمكننا إذن اختزال هذه الكيانات الثلاثة — المعلومات والبيانات والمعرفة — إلى قاسم مشترك؟ في الحقيقة يمكننا ذلك. عالم الكمبيوتر بول روزنبلوم جعل المعلومات نظيرًا «للرموز»، ولكن يمكننا المضي إلى ما هو أبعد من ذلك. فبقدرِ ما يتعلق الأمر بعلم الكمبيوتر، يمكن التعبير عن هذه الكيانات الثلاثة (وعادةً ما يعبَّر عنها بالفعل) باستخدام الرموز — أو بالأحرى باستخدام أنظمة الرموز أو «البنيات الرمزية» — أي، الكيانات التي «ترمز إلى» كيانات أخرى أو تمثلها أو تدُل عليها. ومن ثَم من حيث الأساس الأكثر جوهرية، فإن مقوم الحوسبة هو البنيات الرمزية. إذن، الحوسبة هي معالجة الرموز. وأي أوتوماتون قادر على معالجة بنيات رمزية هو كمبيوتر. وعلى حد تعبير بيرليس ونويل وسايمون، يمكن اختزال «الظواهر» المرتبطة بأجهزة الكمبيوتر في نهاية الأمر إلى بنيات رمزية وعمليات معالجتها. وبذلك يصبح علم الكمبيوتر في نهاية المطاف هو علم المعالجة التلقائية للرموز، وهي الرؤية التي أكَّد ألين نويل وهيربرت سايمون عليها. يجوز لنا أن نطلق على البنيات الرمزية اسم المعلومات أو البيانات أو المعرفة بناءً على «الثقافة» الخاصة التي ننتمي إليها ضمن مجال علم الكمبيوتر. وهذا المفهوم — الذي يرى أن الحوسبة هي في الأخير معالجة الرموز، وأن الكمبيوتر هو أوتوماتون يعالج الرموز، وأن علم الكمبيوتر هو علم معالجة الرموز — هو ما يميِّز علم الكمبيوتر عن باقي العلوم. أما فيما يتعلق بغرابته، فهذا ما سنتناوله في فصل لاحق.
سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع». سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع».
https://www.hindawi.org/books/13726364/
علم الكمبيوتر: مقدمة قصيرة جدًّا
سوبراتا داسجوبتا
لا يَخفى على أحدٍ النموُّ المذهل الذي شَهِدته التكنولوجيات المرتبطة بالكمبيوتر على مَدار الستين عامًا الماضية. غير أن العلمَ الذي تقوم عليه هذه التقنياتُ أقلُّ شهرةً وانتشارًا خارج الأوساط المهنية القائمة على تطويره. وباعتبار علم الكمبيوتر مجالًا علميًّا، فإنه يصطفُّ إلى جانبِ علومٍ أخرى مشابهة، مثل علم الأحياء الجزيئي والعلوم الإدراكية، بوصفه أحدَ أهم العلوم الحديثة التي ظهرَت بعد حِقبة الحرب العالمية الثانية.وفي هذا الكتاب من سلسلة «مقدمة قصيرة جدًّا»، يُلقي «سوبراتا داسجوبتا» الضوءَ على هذه المجالات الأقلِّ شهرةً بين الناس، ويتناول الأساسَ المفاهيمي لعلم الكمبيوتر؛ فبعد أن يتناول موضوعاتٍ مثل الخوارزميات والبرمجة والمعالَجة التسلسُلية والمتوازية، يستعرض الأفكار الناشئة الحديثة مثل الحَوسَبة البيولوجية والنَّمذَجة المعرفية.
https://www.hindawi.org/books/13726364/2/
الأدوات الحوسبية
إننا ننظر إلى الكمبيوتر على أنه محور الحوسبة؛ ومن ثَم، علم الكمبيوتر أيضًا. وهذا صحيح. لكن ينبغي الانتباه إلى بعض التحفظات. أولًا: ربما تختلف الآراء بشأنِ ما يشكِّله «الكمبيوتر» بالتحديد. يرى البعض جهاز الكمبيوتر الشيءَ المادي الذي يعملون عليه يوميًّا (جهاز الكمبيوتر المحمول أو الكمبيوتر المكتبي في العمل). يراه آخرون نظامًا كاملًا تحت تصرُّفهم، بما في ذلك أدوات تيسير المهام مثل خدمة البريد الإلكتروني ومعالجة الكلمات والوصول إلى قواعد البيانات، وغير ذلك. لكن لا يزال البعض يربطه بنموذج رياضي بالكامل يسمَّى آلة تورنج (التي سنتناولها لاحقًا في هذا الفصل). ثانيًا: بناءً على قبول أن الكمبيوتر هو أوتوماتون لمعالجة الرموز، هناك أيضًا أدوات أخرى لمعالجة الرموز مرتبطة بالكمبيوتر، ولكن يبدو أنها تختلف قليلًا مع فكرتنا البديهية عن «الكمبيوتر». ومن ثَم، ينبغي لنا أن نتحلى بمزيد من الانتقائية في نظرتنا إلى الأدوات التي تشارك في عملية الحوسبة؛ ومن هنا جاء مصطلح «الأدوات الحوسبية». في هذا الفصل، سنتناول طبيعةَ الأدوات الحوسبية. في الفصل الأول، بدا الكمبيوتر (بشكل أو بآخر) وكأنه صندوق أسود. جلُّ ما ذكرناه أنه أوتوماتون لمعالجة الرموز: فهو جهاز يقبل البنيات الرمزية (التي تشير إلى المعلومات أو البيانات أو المعرفة حسبما يقتضي الحال) في صورة مدخلات وينتج (بفعله الخاص) بنيات رمزية في صورة مخرجات. عندما ننوي فتْح هذا الصندوق الأسود، نجد أنه يشبه إلى حدٍّ ما مجموعةً من الصناديق المتداخلة: بمعنى أنه بالداخل يوجد صندوق أو عدة صناديق أصغر؛ كلما فتحنا صندوقًا من الصناديق الداخلية، تبيَّن لنا أنه توجد صناديق أصغر متشعِّبة منه. وهكذا دواليك. بالطبع درجة تداخل الصناديق السوداء لها نهاية، فعاجلًا أو آجلًا سنصل إلى الصناديق الأولية. يُظهر كلٌّ من العالَمين الطبيعي والاصطناعي أمثلةً على هذه الظاهرة التي تسمَّى «التسلسل الهرمي». العديد من الأنظمة الفيزيائية والأحيائية والاجتماعية والتكنولوجية لها هيكل ذو تسلسل هرمي. الفرْق بين التسلسلات الهرمية الطبيعية (مثل الأنظمة الحية) والاصطناعية (مثل الأنظمة الثقافية أو التكنولوجية) هو أن العلماء عليهم «اكتشاف» التسلسلات الطبيعية و«ابتكار» التسلسلات الاصطناعية. الكمبيوتر الحديث عبارة عن نظام من الأدوات الحاسوبية ذي تسلسل هرمي. وبذلك يصبح ابتكار قواعد ومبادئ التسلسل الهرمي وفهْمها وتطبيقها مجالًا فرعيًّا من علم الكمبيوتر. هناك سبب وراء وجود التسلسلات الهرمية في كلٍّ من العالمين الطبيعي والاصطناعي، وإننا مدينون بتلك الرؤية — على وجه الخصوص — إلى العالِم الموسوعي هيربرت سايمون. قال سايمون إن التنظيم الهرمي وسيلة لإدارة «وجه التعقيد» في كيانٍ ما. وفي رأي سايمون، يصبح الكيان معقدًا إذا كان يتكون من عدة مكونات تتفاعل بعضها مع بعض بطريقة غير بسيطة (أو غير واضحة). وكما سنرى، يُظهر الكمبيوتر هذا النوع من التعقيد، ومن ثَم فهو أيضًا يتألف من نظام هرمي. إن مصمِّمي أنظمة أجهزة الكمبيوتر ومنفذيها مجبرون على هيكلتها بناءً على مبادئ التسلسل الهرمي وقواعده. ويتولى علماء الكمبيوتر مسئولية ابتكار هذه القواعد والمبادئ. بوجه عام، تتكوَّن الأنظمة الهرمية من مكونات مقسمة إلى مستويين أو أكثر. وتُعنى أشهر مبادئ التسلسل الهرمي بالعلاقة بين المكونات داخل المستويات وفيما بينها. من وجهة نظري، أداة «النص» هي «جهاز الكمبيوتر» عندما أكتب مقالًا أو كتابًا (كما أفعل الآن)، وكذلك الحال مع أداة «البريد الإلكتروني» عندما أرسل رسائل البريد الإلكتروني وأداة «البحث في الويب» عندما أبحث في شبكة الويب. بعبارةٍ أدق، يتوافر لديَّ ثلاث صور خيالية مختلفة بديلة لماهية «جهاز الكمبيوتر». يشير علماء الكمبيوتر إلى تلك الأدوات الخيالية باسم «الأجهزة الافتراضية»، وإنشاء هذه الأجهزة الافتراضية وتحليلها وفهمها من أهم شواغل علم الكمبيوتر. فهي تشكِّل إحدى الظواهر التي تحيط بأجهزة الكمبيوتر التي أشار إليها بيرليس ونيويل وسايمون. ويستخدم علماء الكمبيوتر مصطلح «المعمارية» بوجه عام للإشارة إلى البناء المنطقي أو الوظيفي للأدوات الحوسبية. (المصطلح «معمارية الكمبيوتر» له معنًى متخصص أكثر سنتناوله لاحقًا.) من وجهة نظري (أو وجهة نظر أي مستخدم آخر)، أداة «النص» الحوسبية لها معمارية خاصة أراها كما يلي: تتكوَّن من مترجم يترجم الأوامر وينفِّذها، وذاكرة مؤقتة أو عاملة محتواها هو النص الذي أكتبه، وذاكرة دائمة أو طويلة الأجل تحتفظ بكل النصوص المختلفة في صورة ملفات اخترت أن أحفظها، وقنوات مدخلات تنقل تدفقات الحروف والأوامر إلى الجهاز، وقنوات مخرجات تتيح عرض النصوص على الشاشة أو تتيح طباعتها (كنسخة ورقية). هذه المكونات «وظيفية»: ربما لا أعرف (أو لا أهتم على وجه الخصوص) بالوسائط الفعلية التي تتوافر فيها هذه المكونات. ولأنها تميز كلَّ ما أحتاج أنا (بصفتي مستخدمًا) إلى معرفته عن أداة «النص» حتى أتمكَّن من استخدامها، سنطلق عليها اسم معمارية أداة «النص». وبالمثل، عند إرسال رسائل البريد الإلكتروني، تصبح أداة «البريد الإلكتروني» هي «جهاز الكمبيوتر»؛ أي إنها أداة حوسبية افتراضية. وهي أيضًا معالج للرموز. فهي تظهر واجهة مستخدم تمكنني من تحديد مستلم أو أكثر لرسالتي، وربط بنية رمزية أخرى أو أكثر (في شكل نصوص أو صور) في صورة مرفقات تُرسل مع الرسالة، وكتابة الرسالة، وإرسالها إلى المستلم أو المستلمين. وتتشابه معماريتها مع معمارية أداة «النص»؛ حيث إنها تُظهر أنواع المكونات ذاتها. فهذه الأداة بإمكانها ترجمة الأوامر، ولها قنوات مدخلات بما يمكِّن تدفُّق الحروف من التجمُّع في الذاكرة العاملة، وذاكرة طويلة الأجل لحفظ رسائلي بقدرِ ما أرغب من وقت، وقنوات مخرجات لعرض محتويات رسالة البريد الإلكتروني على الشاشة أو لطباعتها. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لأداة «البريد الإلكتروني» الوصول إلى أنواع أخرى من الذاكرة الطويلة الأجل التي تحفظ البنيات الرمزية (كالنصوص والصور) التي يمكن إرفاقها مع الرسالة؛ لكن واحدة من الذاكرات الطويلة الأجل «خاصة» بالنسبة ﻟ «جهاز الكمبيوتر»، ومن ثَم لا يمكن لأحد غيري الوصول إليها، في حين تكون الأخرى «عامة»؛ أي إنها مشتركة مع مستخدمي أجهزة الكمبيوتر الأخرى. وأخيرًا، توجد أداة «البحث في الويب». معمارية هذه الأداة مشابهة للأداتين السابقتين وهي: مترجم الأوامر، وذاكرة مشتركة/عامة (شبكة الويب) يمكن الوصول إلى محتوياتها (صفحات الويب)، وذاكرة عاملة خاصة تحتفظ (مؤقتًا) بالمحتويات التي يتم الوصول إليها من الذاكرة المشتركة، وذاكرة خاصة طويلة الأجل تحفظ هذه المحتويات، وقنوات مدخلات ومخرجات. ولاتخاذ مبدأ التجريد/التفصيل باعتباره طريقةً لإدارة أوجه تعقيد الأدوات الحوسبية تاريخ زاخر يعود إلى الأعوام الأولى لميلاد الحوسبة. ربما كان الشخص الذي أسهم في زيادة وعي مجتمع علم الكمبيوتر الناشئ في ستينيات القرن العشرين بشأن أهمية التسلسل الهرمي هو إدسخر ديكسترا. سنرى لاحقًا أهميته الخاصة في عملية «بناء» الأدوات الحوسبية، ولكن في الوقت الحالي بحسب القارئ أن يقدِّر كيف يمكن أن تُفهم الأداة الحوسبية المعقَّدة فيما يتعلق بمبدأ التجريد/التفصيل، مثلما يمكن فهْم الأداة الحوسبية المعقَّدة فيما يتعلق بالتسلسل الهرمي التركيبي. سنتوقف الآن عن النظر إلى «جهاز الكمبيوتر» من منظور المستخدم. إننا الآن نقف في موقف الذين أنشئوا «جهاز الكمبيوتر» بالفعل: مُنشئي الأداة. وبالمناسبة، ليس هؤلاء بجماعة متجانسة. منذ الأيام الأولى لاختراع الكمبيوتر الرقمي، حرص المصمِّمون والباحثون على حماية المستخدم، بأقصى قدرٍ ممكن، من الحقائق المزعجة — والبغيضة في بعض الأحيان — الخاصة بالكمبيوتر المادي لإضفاء المزيد من السهولة على حياة المستخدم. ما فتئوا يطمحون إلى تصميم واجهة مستخدم سلسة وبسيطة وقريبة إلى اهتمامات المستخدم الخاصة، وتبقى ضمن نطاق راحته. فالمهندس المدني أو مهندس الميكانيكا يريد تنفيذ عمليات حوسبية تأمر الكمبيوتر أن يحل معادلات الميكانيكا الهندسية، ويريد الروائي من الكمبيوتر أن يضطلع بدور أداة الكتابة، كما يريد المحاسب «أن ينفُض عن كاهله» بعضَ العمليات الحسابية المضجرة ويتركها للكمبيوتر، وهلم جرًّا. في كل حالة، يريد المستخدم المعنيُّ صورةً خيالية بأن الكمبيوتر قد صُمِّم خصوصًا لتلبية احتياجاته. بعد ذلك على مدار السنين نشب جدالٌ كبير حول ما إذا كان الأفضل دمج تلك البنى الأساسية والأدوات الخاصة بالمستخدم في الجهاز المادي (تثبيتها في الجهاز) أم توفيرها بطريقةٍ أكثر مرونة باستخدام البرمجيات. وبوجه عام، تم ترشيد تقسيم البنى الأساسية والأدوات عبْر هذا الانقسام بحسب الاحتياجات الخاصة لفئات المستخدمين الذين تُطوَّر أجهزة الكمبيوتر من أجلهم. وكما أبرزنا، يقدِّم «جهاز الكمبيوتر» هذه الصورَ الخيالية للمستخدم الذي تنحصر اهتماماته في كتابة النصوص وإرسال رسائل البريد الإلكتروني واستقبالها والبحث في شبكة الويب. فيوفِّر «جهاز الكمبيوتر» البنية الأساسية للمستخدم لكتابة النصوص وكتابة رسائل البريد الإلكتروني وإرسالها والبحث عن المعلومات على شبكة الويب، تمامًا كما توفِّر «القاعدة» (في مستوًى أدنى) هذه البنية الأساسية من أجل بناء البرامج التي تكون بمثابة مجموعة أدوات للمستخدم. في كتاب حديث يتناول تاريخ ميلاد علم الكمبيوتر، علقتُ قائلًا إن السمة المميزة في علم الكمبيوتر تكمُن في فئاته الثلاث من الأدوات الحوسبية. سنقابل نوعًا آخر مهمًّا من الأدوات الحَدِّية لاحقًا. أما في الوقت الحالي، فما يجعل علم الكمبيوتر مميزًا وغريبًا ليس وجود الأدوات الحدِّية فحسب، بل أيضًا إن ما نطلق عليه «الكمبيوتر» هو عبارة عن جهاز يجمع بين الأدوات المادية والمجردة والحدِّية. فيما يلي قائمة ببعض هذه الفئات الأساسية والفرعية المعترَف بها حاليًّا في علم الكمبيوتر. يوضح اصطلاح الترقيم هنا العلاقةَ الهرمية بينها. ونظرًا لأنه قد لا يعرف القارئ العديد من هذه العناصر، فسأشرح أبرزَها في سياق هذا الكتاب. [١] الأدوات المجرَّدة [١-١] الخوارزميات [١-٢] الأوتوماتا المجردة [١-٢-١] آلات تورنج [١-٢-٢] الأجهزة التتابعية [١-٣] اللغات التعريفية [١-٤] المنهجيات [١-٥] اللغات [١-٥-١] لغات البرمجة [١-٥-٢] لغات وصف العتاد [١-٥-٣] لغات البرمجة الدقيقة [٢] الأدوات الحدِّية [٢-١] أدوات وواجهات المستخدم [٢-٢] معماريات الكمبيوتر [٢-٢-١] معماريات المعالج الأحادي [٢-٢-٢] معماريات المعالج المتعدد [٢-٢-٣] معماريات الكمبيوتر الموزَّعة [٢-٣] البرمجيات (البرامج) [٢-٣-١] أسلوب فون نيومان [٢-٣-٢] الأسلوب الوظيفي [٣] الأدوات المادية [٣-١] أجهزة الكمبيوتر المادية/العتاد [٣-٢] الدوائر المنطقية [٣-٣] شبكات الاتصالات توجد أداة حوسبية يجب أن تُميَّز عن غيرها. إنها آلة تورنج، وهي جهاز مجرد يُنسب اسمه إلى صانعه وهو عالِم المنطق والرياضيات ونظريات الكمبيوتر آلان تورنج. اسمحوا لي أن أصفَ هذه الآلة، أولًا ثم أشرح لماذا تستحق هذا الاهتمام الخاص. تتكوَّن آلة تورنج من شريط غير محدود من حيث الطول ومقسم إلى مربعات. يمكن أن يحمل كل مربع رمزًا واحدًا فقط. وفي أي لحظة من الزمن، يستقر رأس القراءة/الكتابة على مربع واحد من الشريط، والذي يصبح هو المربع «الحالي». الرمز في المربع الحالي (بما في ذلك رمز «الفراغ» أو «المسافة») هو «الرمز الحالي». ويمكن أن تكون الآلة في حالة واحدة ضمن عدد محدود من الحالات. حالة الآلة في أي وقت معيَّن هي «الحالة الحالية». وبناءً على الرمز الحالي والحالة الحالية، يمكن لرأس القراءة/الكتابة أن تكتب رمزًا على المربع الحالي (المخرَج) (بحيث يحل محلَّ الرمز الحالي)، أو تحرِّك أحد المربعات جهة اليمين أو اليسار، أو تحدِث تغييرًا في الحالة فتسمَّى «الحالة التالية». وتتكرَّر دورة التشغيل مع الحالة التالية مثل الحالة الحالية، ويحمل المربع الحالي الجديد رمزًا حاليًّا جديدًا. ويحدِّد «جدول الحالات» العلاقةَ بين الحالات الحالية (المحتملة)، ورموز المدخلات الحالية (المحتملة)، ورموز المخرجات (المحتملة)، وحركات رأس القراءة/الكتابة، والحالات التالية (المحتملة). وسلوك الآلة يحكمه جدول الحالات والآلية غير المرئية التي تؤثِّر في عمليات القراءة والكتابة، وتحرِّك رأس القراءة/الكتابة، وتُحدِث تغييرات في الحالة. إذن، ستكون ثمة آلة تورنج مستقلة (ببساطة أطلق تورنج ذاته عليها اسم «آلة حوسبة») لكل مهمة مستقلة من مهام معالجة الرموز. ستحدد كل آلة تورنج (ذات غرض خاص) أبجدية الرموز التي ستتعرف عليها الآلة، ومجموعة الحالات المحتملة، والمربع الأولي الذي ستُوضع عنده رأس القراءة/الكتابة، وجدول الحالات، والحالة الحالية الأولية. وفي نهاية تشغيل الآلة (حينما تصل إلى حالة «التوقُّف» إن وُجدت)، تعطي المخرجات المكتوبة على الشريط نتيجة مهمة معالجة الرموز. تكمُن أهمية اختراع تورنج في زعمه بأن «أي إجراء نراه على أنه إجراء حوسبي بطريقة «بديهية» أو «طبيعية» هو إجراء يمكن إنجازه بآلة تورنج». ويترتب على ذلك أن آلة تورنج العامة يمكنها تنفيذُ أي شيء نعتبر أنه حوسبة. يطلق على ذلك الزعم «أطروحة تورنج» (أو يطلق عليه في بعض الحالات أطروحة تشرتش-تورنج؛ حيث إن عالِم منطق آخر وهو ألونزو تشرتش توصَّل إلى الاستنتاج ذاته باستخدام خط تفكير مختلف تمامًا). يمكننا أن نعتبر آلة تورنج بمثابة «الآلة الجامعة العظيمة». إنها الجامعة لكل الأدوات الحوسبية؛ بمعنى أنه يمكن «اختزال» كل الأدوات الحوسبية وسلوكها فيما تنجزه آلة تورنج. في ظلِّ ما سبق، وبعد الاعتراف بوجود فرع كامل من علم الكمبيوتر يسمَّى «نظرية الأوتوماتا»، يدرُس بنيةَ آلة تورنج وسلوكها، وقدراتها وحدودها بجميع المظاهر التي يمكن تصوُّرها (مثل حصر الشريط بطول محدَّد أو إدخال عدة أشرطة لها عدة رءوس للقراءة/الكتابة)، لا بد من الاعتراف أيضًا بالموقف المناقض المتمثل في أن آلة تورنج لم يكن لها تقريبًا تأثيرٌ في اختراع أي أداة حوسبية عملية (أو قابلة للاستخدام) ولا في تصميمها ولا تنفيذها ولا سلوكها بأي شكل من الأشكال، وكذلك لم يكن لها تأثير في تفكير علماء الكمبيوتر الذين يتعاملون مع هذه الأدوات ولا في ممارساتهم! إضافة إلى ذلك، ظهر منذ زمن تورنج أدوات حوسبية تعمل بعضها مع بعض أو مع أنظمة أخرى طبيعية أو اصطناعية بطريقة تفاعلية. يشير «التفاعل» هنا إلى التأثير المتبادل أو التبادلي فيما بين «الكيانات» الاصطناعية (بما في ذلك الاجتماعية) و/أو الطبيعية بحيث تشكِّل بعضها مع بعض نظامًا من نوعٍ ما. لنضرب المَثل بدفعي فاتورةَ أحد المرافق؛ ينطوي هذا على تفاعلي وجهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي مع نظام كمبيوتر البنك الخاص بي ونظام كمبيوتر شركة المرافق. في هذا الموقف، تؤثِّر أربعة كيانات (ثلاث أدوات حوسبية وأنا) في عمليات نقل المعلومات والعمليات الحوسبية بطريقة تفاعلية عن طريق تبادل الرسائل والأوامر والبيانات. ولا تمتثل هذه الأنظمة التفاعلية للفكرة «القياسية» لآلة تورنج؛ حيث إن آلة تورنج عبارة عن أداة مستقلة لها مدخلات منقوشة بالفعل على الشريط قبل تشغيل الآلة ولا تُرى مخرجاتها إلا عندما تتوقَّف. أما الأدوات الحوسبية التفاعلية (مثل نظام البنك الخاص بي أو نظام شركة المرافق) فقد لا تتوقَّف عن العمل مطلقًا. ونظرًا إلى هذه الاعتبارات، يشدِّد بعض علماء الكمبيوتر على أن دراسة آلات تورنج — نظرية الأوتوماتا — حريٌّ بها أن تنتمي إلى علم الرياضيات والمنطق الرياضي أكثرَ من علم الكمبيوتر، وعلى الجانب الآخر يشكِّك آخرون في صحة أن أطروحة تورنج تشمل الحوسبة بكاملها. تلخيصًا لما تناولناه حتى الآن، الأدوات الحوسبية عبارة عن أشياء «مصنوعة»؛ فهي تعالج البنيات الرمزية التي تدُل على المعلومات أو البيانات أو المعرفة (بناءً على وجهة نظر المرء والسياق). وعلم الكمبيوتر هو علم الأدوات الحوسبية. غنيٌّ عن البيان أن الأدوات الحوسبية ليست جزءًا من العالم الطبيعي بالمعنى الذي تدُل عليه الصخور والمعادن والحفريات، والنباتات والحيوانات، والنجوم والمجرَّات والثقوب السوداء والجسيمات الأولية والذرات والجزيئات. بل الإنسان هو مَن يوجِد هذه الأدوات. وعليه، فعلم الكمبيوتر ليس علمًا «طبيعيًّا». إذن، أيُّ نوع من العلوم هو؟ يقول أحد الآراء، ما دامت الأدوات الحوسبية نفعيةً ومن ثَم تكنولوجية، فإن علم الكمبيوتر ليس علمًا «بحق» على الإطلاق. بل هو فرع من علم الهندسة. ومع ذلك، فإن العلوم الهندسية التقليدية مثل ميكانيكا المواد ونظرية الإنشاءات والديناميكا الحرارية والمعادن الفيزيائية ونظرية الدوائر الكهربية، وكذلك العلوم الهندسية الحديثة مثل الهندسة الحيوية والهندسة الوراثية هي كلها مقيدة مباشرةً بقوانين الطبيعة. وتبدو الأدوات الحوسبية الحدِّية والمجردة بعيدةً كلَّ البعد عن الأدوات المادية الصرفة — كالإنشاءات وأدوات الماكينات والمحركات والدوائر المتكاملة والمعادن والسبائك والمواد المركَّبة وغيرها — التي درسها علماء الهندسة. هذا من أسباب انتماء الأدوات الحوسبية المادية (عتاد الكمبيوتر) في الغالب إلى نطاق مدارس الهندسة، في حين أن الأدوات الحوسبية الحدية والمجردة تنتمي إلى مدارس العلم. ومع ذلك، هناك شيء مشترك بين جميع الأدوات، سواء الهندسية أو الحوسبية: وهو أنها كلها نتاج لأفكار الإنسان وأهدافه واحتياجاته ورغباته. «تكون الأدوات ذات غرض محدَّد؛ فهي تبرز أهداف صانعيها». يطلِق هيربرت سايمون على كل العلوم المعنية بالأدوات (المجردة أو الحدية أو المادية) اسم «العلوم الاصطناعية». وهي تتميَّز عن العلوم الطبيعية لأنها يجب ألا تغفل جانب الأهداف والأغراض. فالشيء الطبيعي ليس له غرض: بمعنى أن الصخور والمعادن، والنجوم والمجرَّات، والذرات والجزيئات، والنباتات والكائنات الحية لم تأتِ إلى الكون لغرضٍ بعينه. إنها «موجودة» وحسب. فعالِم الفلك لا يسأل: «ما الهدف من المجرة؟» ولا يسأل عالِم الجيولوجيا: «ما الغرض من الصخور النارية؟» إن مهمة عالِم الطبيعة أن يكتشف القوانين التي تحكم بِنى الظواهر الطبيعية وسلوكها، ويتساءل كيف أتت إلى الوجود، ولكن ليست مهمته أن يسأل لماذا — لأي غرض — أتت إلى الوجود. على الجانب الآخر، أُوجِدت الأدوات في العالم مجسِّدة لاحتياجات الإنسان وأهدافه. ولا يكفي أن نسأل ما القوانين والمبادئ التي تحكم هيكلَ الأداة الحوسبية وسلوكها (أو — في هذا الصدد — الأهرامات والجسور المعلَّقة ومسرِّعات الجسيمات وسكاكين المطبخ) إذا تجاهلنا عندئذٍ سببَ وجودها. تنطوي العلوم الاصطناعية على دراسة «العلاقة بين الوسائل والغايات»: بمعنى الأهداف أو الاحتياجات المرادة من الأداة، والأداة التي صُنعت لتلبية الاحتياجات. إذن، تشير كلمة «علم» في علم الكمبيوتر إلى علم الوسائل والغايات. وبناءً على أحد احتياجات الإنسان أو أهدافه أو أغراضه، فإنها تطرح السؤال: كيف تتمكَّن الأداة الحوسبية من تحقيق ذلك الهدف بشكل قابل للإثبات؟ بمعنًى آخر، كيف يمكن أن يبرهن المرء — من خلال التفكير المنطقي أو الملاحظة أو التجربة — أن الأداة الحوسبية تلبي ذلك الغرض؟
سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع». سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع».
https://www.hindawi.org/books/13726364/
علم الكمبيوتر: مقدمة قصيرة جدًّا
سوبراتا داسجوبتا
لا يَخفى على أحدٍ النموُّ المذهل الذي شَهِدته التكنولوجيات المرتبطة بالكمبيوتر على مَدار الستين عامًا الماضية. غير أن العلمَ الذي تقوم عليه هذه التقنياتُ أقلُّ شهرةً وانتشارًا خارج الأوساط المهنية القائمة على تطويره. وباعتبار علم الكمبيوتر مجالًا علميًّا، فإنه يصطفُّ إلى جانبِ علومٍ أخرى مشابهة، مثل علم الأحياء الجزيئي والعلوم الإدراكية، بوصفه أحدَ أهم العلوم الحديثة التي ظهرَت بعد حِقبة الحرب العالمية الثانية.وفي هذا الكتاب من سلسلة «مقدمة قصيرة جدًّا»، يُلقي «سوبراتا داسجوبتا» الضوءَ على هذه المجالات الأقلِّ شهرةً بين الناس، ويتناول الأساسَ المفاهيمي لعلم الكمبيوتر؛ فبعد أن يتناول موضوعاتٍ مثل الخوارزميات والبرمجة والمعالَجة التسلسُلية والمتوازية، يستعرض الأفكار الناشئة الحديثة مثل الحَوسَبة البيولوجية والنَّمذَجة المعرفية.
https://www.hindawi.org/books/13726364/3/
التفكير الخوارزمي
كمثل الشخصية في مسرحية موليير التي لم تكن تعرف أنها تتحدَّث الشِّعر طوال حياتها، قد لا يدرك الكثيرون أنهم كانوا ينفِّذون «خوارزمية» وهم أطفال حينما كانوا يحلون مسألةَ ضرْب أعداد متعددة الأرقام أو يحلون مسألة قسمة مطوَّلة. في الحقيقة، ربما كان الوضع قبل ستينيات القرن العشرين أن القليل ممن هم من خارج أوساط الحوسبة والرياضيات كانوا يعرفون كلمة «خوارزمية». لكن منذ ذلك الحين، وكما هو الحال مع كلمة «النموذج الفكري» (وهو مصطلح ظهر في المجالات النخبوية لفلسفة العلم)، وجدت كلمة «خوارزمية» طريقها إلى اللغة الدارجة كي تعني الصيغ أو القواعد أو الوصفات أو الإجراءات المنهجية لحل المسائل. هذا يرجع إلى حد كبير إلى الارتباط الوثيق — في العقود الخمسة الماضية أو نحو ذلك — بين الحوسبة والخوارزميات. دونالد كنوث (الذي لربما كان باعه أطولَ من غيره في جعل الخوارزميات جزءًا من وعي عالِم الكمبيوتر) وصف في إحدى المرات علم الكمبيوتر بأنه دراسة الخوارزميات. لن يتفق كل علماء الكمبيوتر على هذا الرأي، ولكن لا يتصور أحدٌ علم الكمبيوتر من دون أن تكون الخوارزميات في صلب موضوعاته. إنها تشبه نظرية التطور التي وضعها داروين في علم الأحياء؛ إذ يبدو أن كل الطرق في الحوسبة تؤدي إلى الخوارزميات. وإذا كان التفكير من وجهة نظر أحيائية يعني التفكير من وجهة نظر تطوريَّة، فالتفكير من وجهة نظر حوسبيَّة يعني اكتسابَ عادة التفكير الخوارزمي. كمدخل لهذا المجال، لنتأمل «اختبار ورقة دَوَّار الشمس» الذي هو من أولى التجارب التي ينفِّذها الطالب في مادة الكيمياء بالمرحلة الثانوية. توجد مادة سائلة غير معروفة في أنبوب اختبار أو دورق. يغمس منفِّذ التجربة قطاعًا من ورقة دَوَّار شمس زرقاء في هذه المادة السائلة. إذا تحوَّلت إلى اللون الأحمر، دلَّت على أن المادة السائلة حمضية؛ وإذا بقيت باللون الأزرق، دلَّت على أن المادة السائلة ليست حمضية. في الحالة الثانية، يغمس منفِّذ التجربة قطاعًا من ورقة دَوَّار شمس حمراء في المادة السائلة. وإذا تحوَّلت إلى اللون الأزرق، دلَّت على أن المادة السائلة قلوية، وإذا لم تتحوَّل كانت المادة السائلة محايدة. لاحظ أن منفِّذ التجربة ليس بحاجة إلى معرفة أي شيء عن سبب عمل اختبار ورقة دَوَّار الشمس بالطريقة يعمل بها. هو ليس بحاجة إلى معرفة ماهية «ورقة دَوَّار الشمس» — أي تركيبتها الكيميائية — ولا العملية الكيميائية التي تتسبَّب في تغيير لون الورقة. لتنفيذ التجربة، يكفي تمامًا أن يتعرَّف منفِّذ التجربة على ورقة دَوَّار الشمس عند رؤيتها، وأن يمكنه ربط تغيُّر لون الورقة بالأحماض أو القلويات. أصبح مصطلح «اختبار ورقة دَوَّار الشمس» استعارةً تدُل على حالة محددة أو اختبار حاسم. ولأسباب وجيهة، فإن نجاح هذه الطريقة مضمون. «ستكون» ثمة نتيجة لا لبس فيها، ولا سبيل إلى وجود الشك. إضافة إلى ذلك، لا يستغرق اختبار ورقة دَوَّار الشمس أجلًا غير مسمًّى؛ فمنفِّذ التجربة على يقين بأن الاختبار سيعطي نتيجةً بعد «مدة محددة من الزمن». هذه الخصائص المجمَّعة لاختبار ورقة دَوَّار الشمس — الذي هو إجراء آلي مضمون أنه سيعطي نتيجة صحيحة في مدة زمنية محددة — هي العناصر الأساسية التي تميِّز الخوارزميات. أما بشأن الفاعلية، فيجب أن تكون كل العمليات التي سيجري تنفيذها بسيطةً لدرجة أنه يمكن تنفيذها في مدة زمنية محدودة. في هذه الحالة الخاصة، العمليات مبسطة لدرجة أنه يمكن تنفيذها على ورقة مثلما جرى. يرتبط مفهوم «التجريد» بمواصفات الخوارزميات. بعبارة أخرى، يمكن حل مسائل معينة باستخدام خوارزميات محددة على مستويين مختلفين أو أكثر من مستويات التجريد. قبل اختراع حاسبات الجيب، كان الأطفال يتعلمون مسائل الضرب باستخدام الورقة والقلم. وما يلي هو ما تعلمته في صغري. ولأغراض التبسيط، لنفترض أن عددًا مكوَّنًا من ثلاثة أرقام (المضروب) يُضرب في عدد مكوَّن من رقمين (المضروب فيه). لاحظ أن تنفيذ هذا الإجراء يتطلب أن يكون لدى الطفل بعض المعرفة المسبقة: أولًا، يجب أن يعرف طريقة ضرْب عدد مكوَّن من عدة أرقام في عدد مكوَّن من رقم واحد. ينطوي هذا على ضرورة حفظ جدول الضرب لعددين يتكوَّن كلٌّ منهما من رقم واحد، أو إمكانية الوصول إلى جدول الضرب. ثانيًا، لا بد أن يعرف طريقة جمع الأعداد المكوَّنة من رقمين أو أكثر، ويجب أن يعرف طريقة التعامل مع مسائل الجمع بالحمل. ثالثًا، يجب أن يعرف طريقة جمع عددين مكوَّنين من عدة أرقام. لكن لاحظ دقة الخطوات. فما دام يتَّبع الشخص هذه الخطوات بالضبط كما هو مذكور، فسيكفل ذلك نجاحَ الإجراء بشرط توافر الشرطين الأول والثاني المذكورين فيما سبق في الشخص الذي ينفِّذ هذا الإجراء. من المؤَّكد أن ينتج عن هذه الخطوات النتيجة المطلوبة في مدة زمنية محدودة: وهذا من السمات الأساسية في الخوارزمية. هذه أيضًا خوارزمية ضرب. تعطي الخوارزميتان حاصل الضرب ذاته ولكنهما على مستويين مختلفين من التجريد. ولا يعرف المستخدِم ما الذي يحدث تحديدًا عند تنفيذ الخطوات من الأولى إلى الرابعة في الخوارزمية الثانية. ربما الحاسبة تنفِّذ الخوارزمية ذاتها التي تنفَّذ بالورقة والقلم. وربما أيضًا تستخدم طريقةَ تنفيذ مختلفة. فالمستخدم لا يرى هذه المعلومات. مستويات التجريد في هذا المثال تنطوي أيضًا على مستويات من «الجهل». فالطفل الذي يستخدم خوارزمية الورقة والقلم يعرف معلومات عن عملية الضرب أكثرَ من الشخص الذي يستخدم حاسبة الجيب. تمتاز الخوارزميات بخاصية مريحة وهي أن أداءها لا يعتمد على منفِّذها، ما دام توافر في المنفِّذ شروط المعرفة الثلاثة التي سبق ذكْرها. فما دام لم تتغير المدخلات إلى الخوارزمية، فلن تتغير المخرجات بغض النظر عمن (أو ما) ينفِّذها. إضافة إلى ذلك، ستعطي الخوارزمية الناتج ذاته بغض النظر عن وقت تنفيذها. وبوجه عام، تشير هاتان السمتان إلى أن الخوارزميات تتسم بخاصية الثبات. هذا يفسِّر عدم اعتبار الوصفات المذكورة في كتب الطهي ضمن الخوارزميات؛ فكثيرًا ما تتضمَّن هذه الوصفات خطوات غامضة، ومن ثَم تقوِّض معيار الوضوح الشديد. على سبيل المثال، قد تتضمَّن هذه الوصفات تعليمات لإضافة مكونات «مهروسة قليلًا» أو «مبشورة بشرًا ناعمًا» أو نصيحة «للطهي على نار هادئة». هذه التعليمات بالغة الغموض ولا تفي بالشروط التي ينبغي توافرها في الخوارزمية. بل إنها تُترك لحَدْس الطاهي وخبرته وحكمه كي يفسِّرها. وهذا يفسِّر سببَ اختلاف مذاق الطبق ذاته الذي أعدَّه طاهيان مختلفان بالوصفة ذاتها، أو لماذا يختلف مذاق الوصفة ذاتها التي أعدَّها شخص واحد في مناسبتين مختلفتين. فهذه الوصفات تخلُّ بمبدأ الحسم. لا شك أن الخوارزمية أداة؛ فقد صمَّمها الإنسان أو ابتكرها كي يحقق أهدافه أو احتياجاته. وبقدرِ ما أنها تعالج البنيات الرمزية (كما في حالة خوارزميتي الضرب والعامل المشترك الأكبر)، فإنها أدوات حوسبية. (ليست جميع الخوارزميات تعالج البنيات الرمزية؛ فاختبار ورقة دَوَّار الشمس يتطلَّب كيانات مادية — أنبوب سائل الاختبار، وشريحة ورقة دَوَّار الشمس — باعتبارهما المدخلات، وينتج حالة فيزيائية — لون شريحة ورقة دَوَّار الشمس — باعتبارها المخرجات. إن اختبار ورقة دَوَّار الشمس عبارة عن خوارزمية يدوية تعمل بناءً على كيانات فيزيائية وكيميائية وليس بنيات رمزية؛ ومن ثَم لا يجدُر بنا اعتبارها أداة حوسبية.) لكن الخوارزميات في حد ذاتها ليس لها وجود مادي، سواء أكانت حوسبية أم غير ذلك. فالإنسان لا يستطيع لمسها أو إمساكها أو تحسُّسها أو تذوُّقها أو سماعها. وهي لا تخضع لقوانين علوم الفيزياء ولا الكيمياء ولا حتى قوانين الهندسة. بل هي «أدوات مجردة». إنها تتألَّف من البنيات الرمزية التي — شأنها شأن كل البنيات الرمزية — تمثِّل أشياء في العالم، وقد تكون هذه الأشياء مادية (كورقة دَوَّار الشمس، والمواد الكيميائية، والأزرار في حاسبة الجيب، وغيرها) أو مجردة (كالأعداد الصحيحة، والعمليات المنفذة على الأعداد الصحيحة، والعلاقات مثل التساوي، وغير ذلك). الخوارزمية أداة مساعدة. وكما هو الحال مع معظم الأدوات المساعدة، كلما قل احتياج المستخدِم إلى معرفة المفاهيم النظرية في الخوارزمية، زادت فاعليتها بالنسبة إليه. هذا يثير النقطة التالية: يمكن اعتبار الخوارزمية أداة لها وجهان مثل يانوس. (يانوس هو إله البوابات الروماني الذي كان ينظر في اتجاهين معاكسين في آن واحد.) يتطلب «تصميم» الخوارزمية أو «ابتكارها» إبداعًا في العموم، ولكن «استخدامها» عبارة عن عمل ميكانيكي صِرف ويتطلب القليل من التفكير الإبداعي. وإن جاز التعبير، فالخوارزمية شكلٌ من أشكال التفكير غير الواعي. الخوارزميات أدواتٌ ينشئها المستخدِمون لحل المسائل. وبمجرد صياغتها وإتاحتها للعامة، تصبح ملكًا للعالم. هذا ما يجعل الخوارزميات أدواتٍ موضوعية (وكذلك ثابتة). لكن الخوارزميات تُعَد تجسيدًا للمعرفة أيضًا. وحيث إنها أدوات موضوعية، فهي تجسيدٌ لما يطلق عليه فيلسوف العلم كارل بوبر «المعرفة الموضوعية». (قد يبدو متناقضًا إذا قلنا إن مستخدم الخوارزمية «مفكِّر غير واعٍ» وفي نفس الوقت «كائن عالم»، ولكن حتى التفكير غير الواعي يظل تفكيرًا، والتفكير يستلزم البناء على المعرفة بأحد أشكالها.) لكن ما نوع المعرفة التي تمثِّلها الخوارزمية؟ في العلوم الطبيعية، نتعلم التعريفات والحقائق والنظريات والقوانين وغير ذلك. وفيما يلي بعض الأمثلة من مبادئ الفيزياء والكيمياء. التسارع هو معدَّل تغيُّر السرعة المتجهة. للمادة أربع حالات وهي الصلبة والسائلة والغازية والبلازما. عند تنظيم العناصر الكيميائية حسب ترتيب أعداد الذرات، فإنه يوجد نمط دوري (متكرر) لخصائص العناصر. الاحتراق يتطلب وجود الأكسجين. أي خاصية تنطبق على الصفر وكذلك على العدد التالي مباشرةً لعددٍ تتوافر به هذه الخاصية، تنطبق على كل الأعداد. في المثلث القائم الزاوية، مربع الوتر يساوي مجموع مربعَي طولَي الضلعين الآخرين. وفيما يلي مثال على المعرفة التقريرية في الرياضيات عن طريق التعريف: على الجانب الآخر، لا تُعدُّ الخوارزمية تقريرية؛ بل هي إجراء يوضح كيفية إنجاز شيءٍ ما. إنها تصف عملًا من نوعٍ ما. وعليه، فإن الخوارزمية مثال على «المعرفة الإجرائية»، أو بالمعنى الدارج المعرفة «العملية». لاحظ أنه يمكن تقديم المفهوم ذاته — المضروب — بطريقة تقريرية (كما يفضِّل علماء الرياضيات) وبطريقة إجرائية (كما يحب علماء الكمبيوتر). في الحقيقة، يطرح الشكل التقريري «النظرية» الأساسية («ما المضروب؟») للشكل الإجرائي أو الخوارزمية («كيف نحسب المضروب؟»). باختصار، تعبِّر الخوارزميات عن شكلٍ من أشكال المعرفة الإجرائية التي تتسم بالموضوعية أيضًا. الكلمة المهمة في هذا المقام هي «إنشاء». إن عملية التصميم عملٌ إبداعي، وكما أوضح الباحثون في مجال الإبداع، فالعمل الإبداعي مزيجٌ معقَّد من الإدراك والمنطق والحَدْس والمعرفة وحسن التقدير والدهاء والاكتشافات التي تتم مصادفة. ومع ذلك يتحدَّث واضعو نظريات التصميم عن «علم التصميم» أو «منطق التصميم». فهل يوجد إذن جانبٌ علمي في تصميم الخوارزميات؟ الإجابة هي: «إلى حدٍّ ما». توجد ثلاثة أوجه أساسية يدخل بها «المنهج العلمي» في تصميم الخوارزميات. بادئ ذي بدء، لا تأتي مسألة التصميم من فراغ. فهي تؤطَّر في سياق كمٍّ من المعرفة (سنطلق عليه «فضاء المعرفة») ذي صلة بالمسألة ويحوزها المصمم. ولدى تصميم خوارزمية جديدة، يصبح فضاء المعرفة هذا ذا صلة. على سبيل المثال، قد يُكتشف وجه تشابه بين المسألة المطروحة والمسألة التي حُلت بخوارزمية موجودة حاليًّا (والتي هي جزء من فضاء المعرفة)، ومن ثَم يمكن نقل الأسلوب المطبَّق في المسألة الثانية إلى المسألة الراهنة. وهذه إحدى حالات «التفكير القياسي». أو ربما تبدو استراتيجية تصميم معروفة مناسبة للمسألة القائمة على وجه الخصوص، ومن ثَم يمكن تجربة هذه الاستراتيجية وإن كان بغير ضمان على نجاحها. وهذه إحدى حالات «التفكير الاستدلالي». أو ربما توجد نظرية صورية ذات صلة بالمجال الذي تنتمي إليه المسألة؛ ومن ثَم يمكن أخذُ النظرية في الاعتبار. وهذه إحدى حالات «التفكير النظري». بعبارة أخرى، قد يكون لأشكال التفكير المختلفة تأثيرٌ في تصميم الخوارزمية بناءً على كمٍّ من المعرفة المقرَّرة أو المجرَّبة أو المثبَتة (والتي تكون تقريرية وإجرائية على حد سواء). سنطلق على ذلك اسم «عامل المعرفة» في تصميم الخوارزمية. لكن مجرد التوصُّل إلى الخوارزمية ليس كافيًا. فهناك أيضًا ضرورة إقناع النفس والآخرين بأن الخوارزمية «صالحة». وتنطوي هذه الضرورة على اتباع التفكير المنهجي في توضيح أن الخوارزمية تستوفي المتطلبات الأصلية. سأطلق على ذلك اسم «عامل الصلاحية» في تصميم الخوارزميات. وأخيرًا، وحتى لو ثبَت أن الخوارزمية صالحة، فربما لا يكون هذا كافيًا. فثمَّة مسألة أداء الخوارزمية: ما مدى كفاءة الخوارزمية؟ وسنطلق على ذلك اسم «عامل الأداء» في تصميم الخوارزمية. تنطوي هذه «العوامل» الثلاثة على أنواع التفكير والمنطق وقواعد البرهان التي نربطها عادةً بالعلم. فلنتناول بشيء من الأمثلة كيفيةَ إسهامها في علم تصميم الخوارزميات. توجد فئةٌ من برامج الكمبيوتر تسمَّى «البرامج المترجِمة» ووظيفتها تحويل البرنامج المكتوب بلغة برمجة عالية المستوى (وهي لغة تكون مستقلة عن سمات أجهزة الكمبيوتر المادية الفعلية، مثل لغة فورتران أو سي++) إلى سلسلة تعليمات يمكن لأجهزة كمبيوتر مادية خاصة تنفيذها (تفسيرها) مباشرةً. ويطلق على سلسلة التعليمات الخاصة بالآلة اسم «لغة الآلة». (سنتناول لغات البرمجة في الفصل الرابع.) واجه كتَّاب البرامج المترجِمة الأوائل (في أواخر خمسينيات القرن العشرين وستينياته) مشكلةً تقليدية وهي صياغة خوارزميات تحوِّل «التعبيرات الحسابية» التي تظهر في البرنامج إلى لغة آلة. ومن الأمثلة على ذلك التعبير: إذا ظهر في التعبير عوامل ذات مستوى أسبقية واحد، يصبح ترتيب الأسبقية من اليسار إلى اليمين. بمعنًى آخر، تطبَّق العوامل على المعاملات بالترتيب الموجودة به من اليسار إلى اليمين. التعبيرات الموجودة داخل الأقواس لها أعلى درجات الأسبقية. على الجانب الآخر، إذا كان التعبير خاليًا من الأقواس كما يلي: يمكن تصميم خوارزمية لإنشاء لغة آلة بحيث تقيِّم عند تنفيذها التعبيرات الحسابية المرتبة وسطيًّا تقييمًا صحيحًا طبقًا لقواعد الأسبقية. (ستعتمد الطبيعة المحددة للخوارزمية على طبيعة التعليمات المعتمدة على الآلة، والتي تختلف حسب جهاز الكمبيوتر المادي المحدد.) ومن ثَم وبناءً على قواعد الأسبقية، تستعين الخوارزمية بقواعدَ دقيقة هي جزء من فضاء المعرفة ذات الصلة بالمسألة. كذلك ولأن الخوارزمية تعتمد على قواعد الأسبقية اعتمادًا مباشرًا، فإن إثبات صلاحية الخوارزمية سيصبح يسيرًا إلى حد بعيد. لكن وكما توضِّح الأمثلة السابقة، تزيد الأقواس إلى حدٍّ ما من تعقيد عملية تحويل التعبير المرتَّب وسطيًّا. وثمَّة ترميزٌ لتحديد التعبيرات الحسابية من دون الحاجة إلى الأقواس من ابتكار عالِم المنطق البولندي يان ووكاسيفيتش (١٨٧٨–١٩٥٦)، ومن ثَم أصبح معروفًا باسم «الترميز البولندي». يطلق على إحدى صيغ هذا الترميز «الصيغة البولندية العكسية»، وفيها يأتي العامل الحسابي بعد المعاملَين مباشرةً في صورة تعبير بولندي عكسي. توضح الأمثلة التالية الصيغةَ البولندية العكسية لبعض التعبيرات المرتَّبة وسطيًّا. يتقدَّم تقييم التعبير البولندي العكسي من اليسار إلى اليمين بطريقة مباشرة، ومن ثَم يزيد من سهولة مسألة الترجمة. تنص القاعدة على أن العوامل الحسابية الواردة في التعبير تنطبق على معاملاتها السابقة عليها حسب ترتيب ظهور العوامل، من اليسار إلى اليمين. على سبيل المثال، في حالة التعبير المرتَّب وسطيًّا: الصيغة البولندية العكسية هي: بالطبع سيكتب المبرمجون التعبيرات الحسابية بالصيغة المرتبة وسطيًّا المعتادة. وسينفذ البرنامج المترجِم خوارزمية ستحوِّل تلك الصيغ إلى صيغة بولندية عكسية أولًا، ثم يولِّد لغة آلة من التعبيرات البولندية العكسية. مسألة تحويل التعبيرات من الصيغة المرتبة وسطيًّا إلى الصيغة البولندية العكسية توضِّح مدى إمكانية اجتماع أساس نظري سليم واستراتيجية تصميم مجربة أثناء تصميم خوارزمية يمكن إثبات صحتها. انظر الآن في مسألة تحويل التعبيرات من الصيغة المرتبة وسطيًّا إلى الصيغة البولندية العكسية في الخوارزميات. وهذه المسألة قائمة على مجموعة من القواعد الصورية: لتوضيح كيف تعمل الخوارزمية مع المدخلات الفعلية، انظر الأمثلة التالية: قلنا سابقًا إن الأمر لا يقتصر على تصميم خوارزمية صحيحة. وكما هو الحال مع مصمم أي أداة نفعية، يجب أن يهتم مصمم الخوارزمية بمدى «كفاءة» هذه الخوارزمية؛ أي، مدى فاعليتها في القيام بمهامها. فهل يمكننا «قياس» كفاءة الخوارزمية بناءً على هذا المعنى؟ هل يمكننا عملُ مقارنة نوعية بشكلٍ ما بين خوارزميتين متنافستين تؤديان المهمة ذاتها؟ عامل الكفاءة الجليُّ هو مقدار الوقت الذي تستغرقه الخوارزمية في تنفيذ المهمة. لكن الخوارزمية أداة مجرَّدة. فلا يمكننا قياسها بالزمن الفعلي؛ لا يمكننا قياس الزمن على ساعة حقيقية؛ حيث إن الخوارزمية كخوارزمية لا تتضمن أيَّ شيء مادي. فإذا كنت أنا الإنسان أنفِّذ خوارزمية، فيُفترض أن بإمكاني قياسَ مقدار الوقت الذي استغرقته في تنفيذ الخوارزمية ذهنيًّا (ربما باستخدام الورقة والقلم). لكن هذا ليس إلا قياسًا «لأدائي أنا» للخوارزمية بناءً على مجموعة معينة من المعطيات. واهتمامنا ينصبُّ على قياس أداء الخوارزمية عبْر كل مُدخلاتها المحتملة وبغضِّ النظر عمن ينفِّذ الخوارزمية. متوسط تعقيد الوقت هو مقياس الكفاءة الأكثر واقعية، ولكنه يتطلب استخدام الاحتمالات، ومن ثَم تزيد صعوبة تحليله. وفي هذا المقام، لن نتناول غير سيناريو أسوأ الحالات. أبسط طريقة هي البدء من عند رأس القائمة ومطابقة كل جزء من الاسم بالعنصر المعطَى من اسم الطالب، والتقدُّم عبْر القائمة اسمًا باسم حتى نجد تطابقًا، ثم نخرج عنوان البريد الإلكتروني المقابل له. (لغرض التبسيط، سنفترض أن اسم الطالب المعطى في مكانٍ ما بالقائمة.) يُطلق على هذه الخوارزمية اسم «خوارزمية البحث الخطي». التجربة الجمالية — البحث عن الجمال — لا توجد في الفن والموسيقى والسينما والأدب فحسب، بل توجد في العلوم والرياضيات وحتى التكنولوجيا. استهل الشاعر جون كيتس الأبيات الأخيرة من قصيدة «قصيدة على جَرة إغريقية» التي كتبها عام ١٨٢٠ بقوله: «الجمال هو الحقيقة، والحقيقة هي الجمال». وقد رفض عالِم الرياضيات الإنجليزي جي إتش هاردي — محاكيًا كيتس — فكرةَ وجود «رياضيات قبيحة» رفضًا تامًّا. تأمَّل لماذا يسعى علماء الرياضيات إلى إيجاد براهين مختلفة لمبرهنة بعينها. بمجرد أن يتوصَّل عالمٌ إلى برهان على مبرهنة، لماذا يكلِّف عالِم آخر نفسه عناءَ إيجاد برهان آخر مختلف؟ تكمُن الإجابة في أن علماء الرياضيات يبحثون عن براهينَ جديدة على المبرهنات حينما تكون البراهين الحالية غير جذابة من المنظور الجمالي. إنهم يبحثون عن الجمال في الرياضيات. ينطبق الأمر بالقدْر نفسه على تصميم الخوارزميات. قد يوجد حلٌّ لمسألةٍ ما باستخدام خوارزميةٍ ما ولكنها نوعًا ما قبيحة؛ بمعنى أنها غير متقنة أو تستغرق وقتًا طويلًا. يتجلى هذا القبح في بعض الأحيان في كون الخوارزمية غيرَ فعَّالة. لذا، يبحث علماء الكمبيوتر — لا سيما ذوو الخلفية الرياضية — عن الجمال في الخوارزميات بنفس الشكل الذي يبحث به علماء الرياضيات عن الجمال في البراهين. ربما كان أفصح المتحدثين عن الجمال في الخوارزميات هم علماء الكمبيوتر إدسخر ديكسترا من هولندا وسي إيه آر هور من بريطانيا ودونالد كنوث من الولايات المتحدة. وكما أشار ديكسترا ذات مرة: «الجمال اختصاصنا.» يمكن إشباع هذه الرغبة في الجمال بالسعي إلى أن تكون الخوارزميات أبسط، أو ذات تركيب أفضل، أو تستخدم مفاهيمَ عميقة. لنضرب المَثل بخوارزمية المضروب التي سبق ذكرها في هذا الفصل. قامت هذه الخوارزمية التكرارية على تعريف دالة المضروب كما يلي: لكن يوجد تعريف ذاتي الاستدعاء لدالة المضروب: وبذلك تصبح الخوارزمية المقابلة — في صورة دالة — بالشكل التالي: سيلمس العديد من علماء الكمبيوتر قدرًا أكبرَ من الجمال في هذه الخوارزمية بفضل صيغتها الواضحة وسهولة فهمها وبساطتها، وكذلك لأنها تستغل التعريف الذاتي الاستدعاء الأدق لدالة المضروب. اعلم أن الخوارزميات ذاتية الاستدعاء وغير ذاتية الاستدعاء (التكرارية) تقف على مستويات مختلفة من التجريد: بمعنى أن الخوارزمية ذاتية الاستدعاء قد ينفِّذها شكل متغير من نظيرتها التي ليست ذاتية الاستدعاء. أنْهِ هذا الفصل بتحويل التركيز من الخوارزميات التي تحل المسائل الحوسبية إلى المسائل الحوسبية ذاتها. في قسمٍ سابق، علِمنا أن أداء الخوارزميات يحدَّد بناءً على تعقيد الوقت (أو المساحة) الخاص بها. على سبيل المثال، في مسألة البحث في قائمة الطلاب، تُبرِز الخوارزميتان (البحث الخطي والبحث الثنائي) تعقيدين مختلفين للوقت في أسوأ الحالات على الرغم من أنهما تحلان «مسألة» واحدة. يندرج فرع علم الكمبيوتر الذي يتعامل مع قابلية أو عدم قابلية المسائل الحوسبية للحل ضمن المجالات الرياضية الصورية ويسمَّى «نظرية التعقيد الحوسبي»، والذي تأسس في ستينيات وأوائل سبعينيات القرن العشرين في الغالب على يد العالم الإسرائيلي مايكل رابين والعالم الكندي ستيفن كوك، والعلماء الأمريكيين جوريس هارتمانيس وريتشارد ستيرنس وريتشارد كارب. ما تخبرنا به نظرية مسائل التعقيد الكثيرة الحدود غير القطعية الكاملة هو أن العديد من المسائل التي تبدو متمايزة تكون «مرتبطة بعضها ببعض» بطريقة غريبة. فيمكن تحويل إحداها إلى أخرى؛ فهذه المسائل مكافئة لبعضها. ويتسنى لنا فهمُ أهمية هذه الفكرة بمجرد أن ندرك أن مجموعة كبيرة من المسائل الحوسبية القابلة للتطبيق في مجالات الأعمال والإدارة والصناعة والتكنولوجيا — مشكلات «العالم الواقعي» — هي مسائل كثيرة الحدود غير قطعية كاملة: وإذا ما استطاع أحدهم فقط أن ينشئ خوارزمية فعَّالة (ذات وقت متعدد الحدود) لواحدة من هذه المسائل، فإن بإمكانه إيجاد خوارزمية مجدية لكل المسائل الأخرى. إذن، «كيف» يتكيف المرء مع هذه المسائل المستعصية على الحل؟ سنتناول أحد النُّهج الشهيرة في هذا الصدد في الفصل السادس.
سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع». سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع».
https://www.hindawi.org/books/13726364/
علم الكمبيوتر: مقدمة قصيرة جدًّا
سوبراتا داسجوبتا
لا يَخفى على أحدٍ النموُّ المذهل الذي شَهِدته التكنولوجيات المرتبطة بالكمبيوتر على مَدار الستين عامًا الماضية. غير أن العلمَ الذي تقوم عليه هذه التقنياتُ أقلُّ شهرةً وانتشارًا خارج الأوساط المهنية القائمة على تطويره. وباعتبار علم الكمبيوتر مجالًا علميًّا، فإنه يصطفُّ إلى جانبِ علومٍ أخرى مشابهة، مثل علم الأحياء الجزيئي والعلوم الإدراكية، بوصفه أحدَ أهم العلوم الحديثة التي ظهرَت بعد حِقبة الحرب العالمية الثانية.وفي هذا الكتاب من سلسلة «مقدمة قصيرة جدًّا»، يُلقي «سوبراتا داسجوبتا» الضوءَ على هذه المجالات الأقلِّ شهرةً بين الناس، ويتناول الأساسَ المفاهيمي لعلم الكمبيوتر؛ فبعد أن يتناول موضوعاتٍ مثل الخوارزميات والبرمجة والمعالَجة التسلسُلية والمتوازية، يستعرض الأفكار الناشئة الحديثة مثل الحَوسَبة البيولوجية والنَّمذَجة المعرفية.
https://www.hindawi.org/books/13726364/4/
فن البرمجة وعلمها وهندستها
من باب التذكير، التفكير الخوارزمي أساسي بالنسبة إلى علم الكمبيوتر. إلا أن الخوارزميات أدواتٌ مجردة. بإمكان علماء الكمبيوتر أن يرتضوا العيش (إذا رغبوا في ذلك) في عالَم الخوارزميات العاجي، وألا ينغمسوا مرة أخرى في «العالَم الواقعي»، تمامًا كما قد يفعل علماء الرياضيات «البحتة» إلى حد كبير. لكن إذا أردنا من أجهزة الكمبيوتر المادية الحقيقية أن تنفِّذ المهام الحوسبية نيابةً عنا، أو إذا أردنا من أجهزة الكمبيوتر المادية ألا تكتفيَ بتنفيذ أنواع المهام الحوسبية التي تعيينا كثيرًا (على الرغم من أهميتها) بل تنفذ أيضًا المهام التي تتجاوز قدراتنا المعرفية الطبيعية، فلن يكفي أن نتحلى بالتفكير الخوارزمي وحده. لا بد من «صياغة» هذه الخوارزميات بطريقة تستطيع أجهزة الكمبيوتر المادية أن تفهمها وتفسِّرها وتنفِّذها وفقًا لمعاييرها وليس معايير الإنسان. من هنا، دخلت البرمجة إلى مسرح الأحداث الحوسبي. برنامج الكمبيوتر عبارة عن توصيف للعملية الحوسبية المرغوبة مكتوب بلغة تفهمها أجهزة الكمبيوتر المادية. ويطلق على إنشاء هذه العمليات الحوسبية اسم البرمجة، ويطلق على اللغات التي تحدد البرامج اسم لغات البرمجة. مفهوم البرنامج مفهوم محيِّر وغامض، بل إنه غريب. السبب الأول — كما سأوضح بعد برهة — هو إمكانية وصف العملية الحوسبية الواحدة على عدة مستويات من التجريد بناءً على اللغة التي تعبِّر عن تلك العملية، ما يتيح وجود عدة برامج «متكافئة». السبب الثاني هو أن البرنامج له وجهان مثل الإله يانوس؛ فالبرنامج — من جانب — «نصٌّ» جامد، أي بنية رمزية تحتوي على كل سمات الأداة المجردة. ومن جانب آخر، تُعدُّ البرامج «عملية» ديناميكية؛ بمعنى أنها تتسبب في حدوث أشياء داخل جهاز الكمبيوتر المادي، وهذه العمليات تستهلك وقتًا ماديًّا ومساحة مادية؛ ومن ثَم فإن لها ركيزة مادية تعمل بناءً عليها. إضافة إلى ذلك، تكون البرامج بحاجة إلى وسيط مادي من أجل أن تعمل. إذن، البرامج لها وجه مجرَّد وآخر مادي، ولذلك نقول إنها أدوات حدية. وتبعات هذه الحدية كبيرة ومثيرة للجدل على حد سواء. أولًا، ينجذب البعض من أوساط علم الكمبيوتر إلى فكرة التجريد في البرامج ويرون أن البرامج كائناتٌ «رياضية». في نظرهم، البرمجة نوع من الأنشطة الرياضية التي تتضمن المسلَّمات والتعريفات والمبرهنات والبراهين. ويشدِّد علماء كمبيوتر آخرون على جانبها المادي ويرون أن البرامج كائناتٌ «تجريبية». ففي نظرهم، البرمجة نشاطٌ هندسي تجريبي يتضمن المهام الهندسية العادية، مثل تحديد المتطلبات والتصميم والتنفيذ وإجراء التجارب التي تختبر الأدوات الناتجة وتُقيِّمها. ثانيًا، كثيرًا ما تشبَّه البرامج بالعقل. فإذا كان البرنامج كائنًا حدِّيًّا اصطناعيًّا، فالعقل كائن حدي طبيعي. فمن جهة، العمليات العقلية (أو المعرفية) مثل التذكُّر والتفكير والإدراك والتخطيط وفهْم اللغة وإتقانها وغيرها، هي عمليات يمكن دراستها (وقد جرت دراستها بالفعل على مدار قرون) وكأن العقل شيءٌ مجرد تمامًا يتفاعل مع العالم الواقعي تفاعلًا مستقلًّا. لكن العقل له مكان. وما لم يكن المرء من المتعصبين لنظرية ثنائية العقل والجسد الذين يفصِلون العقل عن الجسد بالكامل، فلن يصدق أن العقل يمكن أن يوجد خارج الدماغ — وهو شيء مادي. وبينما يدرُس بعض الفلاسفة وعلماء العلوم المعرفية العقل «وكأنه» كِيان مجرد، يجدُّ علماء الأعصاب في البحث عن تفسيرات مادية بحتة للظواهر العقلية من حيث العمليات التي تجري في الدماغ. في واقع الأمر، تأثَّرت الدراسات العلمية لعملية المعرفة أو الإدراك تأثرًا كبيرًا بتشبيه العقل بالبرامج. ومن تبِعات هذا التأثر تطويرُ فرع من فروع علم الكمبيوتر يسمَّى «الذكاء الاصطناعي»، يحاول إنشاء أدوات حوسبية تشبه العقل وتشبه الدماغ. ومن التبِعات أيضًا تحويلُ علم النفس المعرفي إلى مجالٍ أشملَ يسمَّى «العلوم المعرفية»، من الفرضيات الجوهرية فيه أنه يمكن تصميمُ العمليات العقلية في صورة عمليات حوسبية على غرار البرامج. ومن ثَم، فقد امتدَّ التأثير الفكري لعلم الكمبيوتر إلى ما هو أبعد من المجال نفسه. وبقدرِ ما توسَّعت نظرية داروين عن التطور إلى ما هو أبعد من علم الأحياء، تخطى تأثير علم الكمبيوتر إلى ما هو أبعد من عملية الحوسبة نفسها، وذلك بسبب تشبيه العقل بالبرامج. بل إن «فكرة» الحوسبة في ذاتها (كما سنرى في فصل لاحق) تجاوزت نطاقَ أجهزة الكمبيوتر المادية والحوسبة التلقائية. وأعتقد أن الإنصاف يقتضي القول بأن قلة من العلوم الاصطناعية فقط هي ما كان لها مثل هذه العواقب الفكرية خارج نطاقات مجالاتها. الخوارزميات + لغات البرمجة = البرامج يترتَّب على هذه الصيغة في حد ذاتها عدة نتائج. إحدى هذه النتائج نشوء نظرية لغات البرمجة باعتبارها فرعًا من فروع علم الكمبيوتر. وقد أدَّى هذا حتمًا إلى نشوء علاقة بين هذه النظرية وعلم اللغويات الذي يهتم بتراكيب اللغة الطبيعية. نتيجة ثانية تتمثَّل في السعي الدءوب وراء ابتكار «أفضل» لغة برمجة، والتي يمكنها أن تنجز المطلوب من أي لغة على نحوٍ أفضل من أي لغة منافسة سابقة عليها أو معاصرة لها. هذا النشاط هو نشاط تصميم اللغة. والصعوبة التي تواجه مصمِّمو اللغة ذات بُعدين، وهما تسهيل توصيل العمليات الحوسبية لأجهزة الكمبيوتر المادية بحيث يمكنها إنجاز هذه العمليات بأقل حد من تدخُّل الإنسان؛ وكذلك تيسير التواصل مع البشر «الآخرين» بحيث يفهمون العملية الحوسبية ويحللونها وينقدونها ويقدمون اقتراحاتٍ لتحسينها تمامًا مثلما يفعل الناس مع أي نص. وقد كان هذا التحدي المزدوج مصدرَ هوس دائم لعلماء الكمبيوتر بالبرمجة ولغات الحوسبة الأخرى. نتيجة ثالثة ترتبط بوضوح بتصميم اللغات وهي دراسة وتطوير البرامج التي تسمَّى البرامج المترجِمة التي تحوِّل البرامج المكتوبة بلغة برمجة إلى لغة الآلة الخاصة بأجهزة كمبيوتر مادية بعينها. إلا أن تصميم البرامج المترجِمة وتنفيذها يعدُّ فرعًا آخر من فروع علم الكمبيوتر. وأخيرًا، كانت ثمَّة جهود لتصميم سمات لأجهزة الكمبيوتر المادية من شأنها تسهيل مهمة البرنامج المترجِم. ويطلق على هذا النشاط «تصميم الكمبيوتر ذو التوجه اللغوي»، وقد حظي باهتمام كبير على مر التاريخ ضمن فرع من علم الكمبيوتر يطلق عليه معمارية الكمبيوتر (انظر الفصل الخامس). لاحظ أني قلت كلمة «لغة» في القسم السابق ولم أقل «ترميز». يشير الترميز إلى الرموز التي تُبتكر «للكتابة» عن شيءٍ ما. ومن الأمثلة على ذلك، الرموز الكيميائية أو الرياضية. أما اللغة فتتجاوز الترميز من حيث إنها توفِّر نسقًا من الرموز للتعبير عن «التفكير» بشأن شيءٍ ما. اللغة متداخلة مع الفكر ذاته. ثمَّة قضية شهيرة أُجريت بشأنها سجالات بين اللغويين وعلماء الأنثروبولوجيا وهي: هل الفكر «تحدِّده» اللغة؟ يؤكد البعض ذلك قائلين إن اللغة التي نستخدمها تحدِّد الطريقة التي نفكِّر بها بشأن العالم والأشياء التي نفكر بها، بل إنها «تحدِّد» تصوُّرنا عن الواقع ذاته. من أكثر نتائج ذلك الرأي تطرفًا هو: بما أن اللغة عنصر محدد للثقافة، فلا يمكن ترجمة الأفكار أو التصورات أو المفاهيم من ثقافة لغة إلى ثقافة لغة أخرى. فكلٌّ منا محتجَز داخل الواقع الذي تحدِّده اللغة. إنها حالةُ ما بعد حداثية جدًّا. ويتبنى آخرون رأيًا أكثرَ اعتدالًا وهو أن اللغة «تؤثر» في طريقة تفكيرنا بشأن العالم ولكنها لا تحدِّدها. والاقتراح بأن اللغة تحدِّد الأفكار أو تؤثِّر فيها يسمى «فرضية سابير–وورف» نسبة إلى عالمَي علم اللغويات الأنثروبولوجية إدوارد سابير وبنجامين لي وورف اللذين صاغاها. (يطلق على هذه الفرضية أيضًا اسم «مبدأ النسبية اللغوية».) تناولت فرضية سابير–وورف اللغات الطبيعية. لكن اهتمامنا ينصب على اللغات الاصطناعية، وبالتحديد اللغات التي ابتُكرت للتعبير عن العمليات الحوسبية. وعلى حد علمي، لم يضَع أحد إطارًا لفرضية مماثلة لفرضية سابير–وورف في مجال الحوسبة، لكن الهوس الذي أظهره علماء الكمبيوتر منذ أوائل أيام أجهزة الكمبيوتر الإلكترونية تجاه البرمجة ولغات الحوسبة يشير بقوة إلى قبول بعض أشكال الفرضية قبولًا ضمنيًّا في أوساط علم الكمبيوتر. وبصورة أدق، يمكننا القول بقدرٍ من الثقة إن لغات الحوسبة (لا سيما لغات البرمجة) مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بطبيعة بيئة الحوسبة؛ وأن لغات البرمجة تؤثِّر في عقلية المبرمجين. لذا، لنتناول لغات البرمجة أولًا. أما طبيعة البرامج فستبرز بصورة طبيعية من هذه المناقشة. ذكرنا من قبل أن عملية الحوسبة يمكن تحديدها باعتبارها برامجَ ذات مستويات تجريد مختلفة تقف على «مسافات» متباينة من أجهزة الكمبيوتر المادية التي تنفِّذ تلك البرامج. وفي المقابل، يمكن تصور لغات البرمجة على مستويات مختلفة من التجريد. هناك تقسيم بسيط يفرِّق بين اللغات «العالية المستوى» واللغات «المنخفضة المستوى». اللغات العالية المستوى تمكِّن من كتابة البرامج بمعزل عن أجهزة الكمبيوتر المادية التي ستنفِّذها، وتشير اللغات المنخفضة المستوى إلى اللغات المصمَّمة لفئات محددة من أجهزة الكمبيوتر أو حتى على نحوٍ أكثر تحديدًا لجهاز كمبيوتر بعينه. من ثَم تكون اللغات العالية المستوى «مستقلة عن الآلة»، واللغات المنخفضة المستوى «معتمدة على الآلة»، مع التنبيه إلى أن درجة الاستقلال أو الاعتماد قد تتفاوت تفاوتًا كبيرًا. يطلق على اللغات ذات المستوى الأقل «لغات التجميع» وهذه اللغات مخصَّصة لأجهزة كمبيوتر مادية معينة (سواء لفئة منها أو لأجهزة فردية) لدرجةِ أن مبرمج لغة التجميع يتعامل حرفيًّا مع سماتِ أجهزة الكمبيوتر نفسها. مرَّ تاريخ البرمجة بوقت كانت كل عمليات البرمجة تقريبًا تتم باستخدام لغات التجميع. حينذاك، كانت هذه البرامج لا تزال بنيات رمزية (ومجردة بدرجة محدودة للغاية)، ولكن كانت هناك برامج مترجِمة تسمى «برامج التجميع» تحوِّل هذه البنيات إلى لغة آلة لأجهزة الكمبيوتر المستهدفة. لكن بسبب الضجر والصعوبة ومقدار الوقت الذي يستغرقه المبرمج واحتمالية الخطأ في البرمجة بلغة التجميع، تحوَّل التركيز إلى ابتكار وتصميم لغات برمجة ذات مستوًى أعلى بكثير ومستقلة عن الآلة، وأوكلت للبرامج المترجِمة مهمة ترجمة البرامج المكتوبة بهذه اللغات إلى لغات آلة مخصَّصة لأجهزة كمبيوتر بعينها. في هذا الفصل وما بعده من فصول إلى نهاية الكتاب، يشير مصطلح «لغة البرمجة» إلى اللغات العالية المستوى ما لم يُذكر غير ذلك صراحةً. وعلى خلاف اللغات الطبيعية، لغاتُ البرمجة لغاتٌ مبتكرة أو مُصمَّمة. ومن ثَم فهي أدوات. وتنطوي على استخدام الرموز. وكما سنرى، لغة البرمجة هي فعليًّا مجموعةٌ من البنيات الرمزية، وهي أدوات مجردة — كونها مستقلة عن أجهزة الكمبيوتر المادية — بالمعنى ذاته مثل الخوارزميات. ومن ثَم يكون لدينا وضعٌ مثير للتساؤل؛ ففي حين أن البرامج المكتوبة بهذه اللغات حدية، فإن لغات البرمجة ذاتها مجردة. لنراجع الفرْق بين الترميز واللغة. يزخر مجال الحوسبة بمئات اللغات الحوسبية. صُمِّمت غالبية هذه اللغات من أجل البرمجة، ولكن توجد لغات مخصَّصة لأغراض أخرى، لا سيما أغراض تصميم ووصف أجهزة الكمبيوتر المادية بمستويات التجريد المتنوعة (انظر الفصل الخامس). ويطلق عمومًا على هذه اللغات «لغات وصف عتاد الكمبيوتر» أو «لغات تصميم أجهزة الكمبيوتر ووصفها». مفاهيم/فئات + ترميز = لغة في الحوسبة، استخدمت علامات مختلفة في لغات مختلفة لترمز إلى مفهوم واحد. وعلى النقيض من ذلك، يمكن أن ترمز العلامة الواحدة إلى مفاهيمَ مختلفةٍ في لغات مختلفة. إذن ما هي تلك المفاهيم والفئات؟ تذكُر أن الحوسبة معالجةٌ للرموز؛ أو معالجةُ المعلومات بتعبيرٍ أكثر شيوعًا. «البداية هي المعلومات» — أو البيانات كما يحب أن يسميَها مصمِّمو اللغة — المراد معالجتها. ومن ثَم فإن المفهوم الأساسي المضمَّن في جميع لغات البرمجة هو ما نطلق عليه نوع البيانات. وكما ذكرنا في الفصل الأول، يحدِّد نوع البيانات طبيعةَ القيم التي يحتفظ بها عنصر البيانات (وإلا سمِّي متغيرًا)، بالإضافة إلى العمليات المسموح بأدائها على هذه القيم. أنواع البيانات إما «أولية» (أو أساسية) أو «مركَّبة» (أو مجمَّعة)، حيث إنها تتركب من أنواع بيانات أساسية أكثر. في مثال المضروب المذكور في الفصل الثالث، لا يوجد سوى نوع البيانات الأولي «الأعداد الصحيحة غير السالبة»، وهذا يعني أن الأعداد الصحيحة الأكبر من أو تساوي صفرًا هي قيمٌ مقبولة للتعبير عن متغيرات هذا النوع، والعمليات الحسابية على الأعداد الصحيحة هي وحدها التي يمكن تنفيذها على متغيرات هذا النوع. وهذا يعني أيضًا أنه لا يمكن تعيين غير القيم الصحيحة لمتغيرات هذا النوع. على سبيل المثال، عبارة تعيين مثل الآتية: لكن البيانات أو المعلومات ليست سوى بداية أي عملية حوسبة. إضافة إلى ذلك، المتغيرات نفسها سلبية. فالحوسبة تتضمن إجراءات، وتضمين هذه الإجراءات في عمليات. ومن ثَم يجب ألا تتضمنَ لغة البرمجة وسيلةً لتحديد عناصر البيانات فحسب، بل يجب أن تتضمن أيضًا «عبارات» تحدِّد الإجراءات والعمليات. في الحقيقة، صادفنا بالفعل ولعدة مرات «أنواع» العبارات الأكثر جوهرية في الفصل السابق. أحد هذه الأنواع هو عبارة التعيين التي يستدعي تنفيذها عمليةً تتضمن كلًّا من الاتجاه والتدفق الزمني للمعلومات. على سبيل المثال، في تنفيذ عبارة التعيين: الصيغة العامة لعبارة التعيين هي: إذن تحدد عبارة التعيين وحدةَ الإجراء في العملية الحوسبية. إنها بمثابة العملية الأولية في العمليات الحوسبية. لكن مثلما تلتحم الذرات في العالم الطبيعي لتكوِّن الجزيئات وتلتحم الجزيئات لتكوِّن جزيئاتٍ أكبر، تحدث عملية مشابهة في عالم الحوسبة. إذ تلتحم عبارات التعيين لتكوين مقاطعَ أكبر، وتتَّحد المقاطع لتكوين مقاطع أكبر إلى أن نحصل على برامج كاملة. ثمة تسلسل هرمي موجود في العالم الحوسبي، كما هو موجود في الطبيعة. من ثَم كانت أكبر مهمة لدى علماء الكمبيوتر هي اكتشاف «قواعد التركيب»، وابتكار أنواع عبارات تمثِّل هذه القواعد، وتصميم ترميزات لكل نوع من أنواع العبارات. وفي حين أن قواعد التركيب وأنواع العبارات يمكن أن تكون عامة إلى حد كبير، يمكن للغات البرمجة المختلفة أن تستخدم ترميزات مختلفة لتمثيلها. من أنواع العبارات العبارة «التسلسلية»؛ وتعني تركيب عبارتين أو أكثر (أبسط) تركيبًا تسلسليًّا بحيث يتم تنفيذهما حسب ترتيب العبارات المكوَّنة. الرمز الذي استخدمته في الفصل الثالث للإشارة إلى التسلسل هو الفاصلة المنقوطة «;». ومن ثَم، نجد العبارة التسلسلية التالية في خوارزمية إقليدس: وفيها يتقدَّم تدفُّق التحكم عبْر العبارات الثلاث حسب الترتيب الموضَّح. البرمجة عمليةُ تصميم، ومثل كل أنشطة التصميم، تنطوي على حسن التقدير والحَدْس والذوق الجمالي والخبرة. ولهذا السبب وضع دونالد كنوث العنوان «فن برمجة الكمبيوتر» لسلسلة أفروداته الشهيرة والمؤثِّرة (التي ظهرت فيما بين عامي ١٩٦٨ و١٩٦٩). وبعد عَقد تقريبًا، أوضح كنوث رأيه في هذا الموضوع في إحدى محاضراته. كتب أنه عندما يأتي الحديث عن فن البرمجة، فإنه يشير إلى البرمجة على أنها «ضربٌ من ضروب الفن». ينبغي أن تُشبع البرامج الذوقَ الجمالي؛ إذ ينبغي أن تكون جميلة. وتجربة كتابة برنامج ينبغي أن تشبه نَظم قصيدة أو تلحين مقطوعة موسيقية. ومن ثَم، فإن فكرة «الأسلوب» — وهي جزء وثيق الصلة بسياقات الفن والموسيقى والأدب — يجب أن تكون عنصرًا من مظاهر الجمال في البرمجة. ولنتذكر مقولةَ عالِم الكمبيوتر الهولندي إدسخر ديكسترا المذكورة في الفصل الثالث: في ابتكار الخوارزميات، «الجمال هو ما نسعى إليه». وقد عبَّر عالِم علم الكمبيوتر الروسي إيه بي يرشوف عن وجهة نظر مشابهة. وفي إطار هذا الموضوع، اقترح كنوث في وقتٍ لاحق أنه ينبغي بالبرامج أن تندرج ضمن «الأعمال الأدبية»؛ بمعنى أن يستمتع المبرمج بكتابة البرامج وأن تمنح هذه البرامج البهجةَ لدى قراءة الآخرين لها. (أطلق كنوث على هذه الفلسفة اسم «البرمجة المتعلمة»، وإن كنتُ أعتقد أن «البرمجة الأدبية» ستكون أليقَ للتعبير عن رأيه.) بالطبع يسعى علماء الكمبيوتر (بمن فيهم كنوث) إلى اكتشافِ أسسٍ صورية وموضوعية أكثر للبرمجة. فهم يبتغون علمًا للبرمجة. والنتيجة التي توصَّل إليها كلٌّ من بوم وجاكوبيني والتي سبق ذكرها هي نوع من النتائج الرياضية الصورية التي يتوق إليها علماء الكمبيوتر. وفي الحقيقة، يرى كثير من علماء الكمبيوتر أن «علم» البرمجة علمٌ «رياضي». رؤية البرمجة باعتبارها علمًا رياضيًّا تجلَّت بشكل بارز بثلاث طرق أخرى تتعلق جميعها بالوجه المجرَّد للبرامج أو — كما أشرت مسبقًا في هذا الفصل — بوجهة النظر التي يتبناها البعض بأن البرامج كائناتٌ رياضية. المساهمة الأولى في علم البرمجة هي اكتشاف «قواعد التركيب اللغوي» في لغات البرمجة. تلك قواعد تحدِّد السلامة النحوية في البرامج ولها تأثير عملي ضخم، حيث إن من أوائل مهام البرامج المترجِمة (التي تحوِّل البرامج العالية المستوى تلقائيًّا إلى لغة آلة) هي التأكد من سلامة النحو أو التركيب في البرامج التي تترجمها. وترجع بدايات ظهور نظرية التركيب اللغوي في لغات البرمجة إلى جهودِ عالِم اللغويات نعوم تشومسكي في نظرية التركيب اللغوي (في اللغات الطبيعية). المساهمة الثانية في علم البرمجة هي تطوير «قواعد الدلالة»؛ وهي المبادئ التي تحدِّد معنى أنواع العبارات المختلفة. ويجب أن تكون أهميتها واضحة؛ فمن أجل استخدام لغة البرمجة لا بد أن يكون المبرمج على وعي تامٍّ بمعاني أنواع العبارات المكوِّنة لهذه اللغة. وكذلك، يجب أن يفهم كاتب البرنامج المترجِم ومن دون لبسٍ معنَى كل نوع من أنواع العبارات من أجل أن يترجم البرامج إلى لغة آلة. ولكن الدلالة، حسب معناها المستخدَم في علم اللغويات، تُعَد مشكلة شائكة حيث إنها تتضمن ربط فئات لغوية بما تشير إليه في العالم، ونظرية الدلالة في لغات البرمجة تعكس هذه الصعوبات ذاتها. ومن المناسب أن نقول إن نظرية الدلالة في البرمجة — على الرغم من صياغتها المتطورة — لم تلقَ القبول ذاته في أوساط علم الكمبيوتر ولم تُستخدم بقدْر الفاعلية ذاته مثل نظرية التركيب اللغوي. بحسب التقليد المسلماتي الشهير في الرياضيات، يبدأ المرء بالمسلَّمات (وهي الافتراضات التي تعتبر صحيحة «بديهيًّا» بشأن المجال المعني، مثل مبدأ الاستقراء الرياضي المذكور في الفصل الثالث)، وتعريفات المفاهيم الأساسية، ثم «يقيم الدليل» تدريجيًّا على رؤًى واقتراحات جديدة (يطلق عليها مجتمعة المبرهنات) مشتقة من هذه المسلَّمات والتعريفات والمبرهنات التي ثبتت صحتها بالفعل، وذلك باستخدام قواعد الاستنتاج. وانطلاقًا من هذا التقليد، تُعنى المساهمة الثالثة في علم البرمجة الرياضي بصياغةِ براهينَ مسلماتية بشأن صحة البرامج بناءً على المسلَّمات والتعريفات وقواعد الاستنتاج التي تحدِّد الدلالة في لغة البرمجة ذات الصلة. يطلق على الدلالة «الدلالة المسلَّماتية» ويُعرف تطبيقها باسم البراهين المسلَّماتية الخاصة بالصحة. ومثلما هو الحال مع المنهج المسلَّماتي في الرياضيات (واستخدامه في مجالات مثل الفيزياء الرياضية والاقتصاد)، يزخر علم البرمجة الرياضي بمظاهر الجمال والتميز الصوري. لكن حري بنا أن نشير إلى أنه على الرغم من تطوير كمٍّ هائل من المعرفة في هذا المجال، فإنه يظل عدد لا بأس به من علماء الكمبيوتر الأكاديميين والممارسين في المجال متشككين بشأن قابلية تطبيقها بشكل عملي في «العالم الواقعي» المضطرب للحوسبة. البرمجة ضربٌ من ضروب الهندسة نظرًا لأن الكثيرين يرون أن البرامج ليست مجرد أدوات جميلة مجردة وحسب. فحتى هور في بيانه يقرُّ بأن البرامج يجب أن تصف سلوك «أجهزة الكمبيوتر» التي تنفِّذها. فأجهزة الكمبيوتر هي الوجه المادي للبرامج وهي التي تضفي عليها صفةَ الحدية. وفي نظر الكثيرين في واقع الأمر، البرامج منتجاتٌ تكنولوجية، ومن ثَم تصبح البرمجة نشاطًا هندسيًّا. على أية حال، «البرمجيات» لها الدلالات المهمة التالية: إنها ذلك الجزء من نظام الكمبيوتر الذي لا يعتبر ماديًّا؛ وهي تتطلب وجودَ الكمبيوتر المادي لتشغيلها؛ وهناك ما يدُل على أنها منتج «صناعي» إلى حد كبير، بكلِّ ما تدل عليه الصفة. إذن، فالبرمجيات أداةٌ حوسبية تسهِّل على العديد من المستخدمين (ربما الملايين أو المليارات) استخدامَ أنظمة الكمبيوتر. وفي أغلب الأحيان (وإن لم يكن على الدوام) تكون البرمجيات أداةً منتجة تجاريًّا تُظهر مستويات معينة من الدقة والموثوقية التي أصبحنا نتوقَّعها من الأنظمة الصناعية. ربما بالتناظر مع الأنظمة الصناعية الأخرى، يرتبط مشروع تطوير البرمجيات ﺑ «دورة حياة». ومن ثَم وكما هو الحال مع العديد من المشروعات الهندسية المعقَّدة الأخرى (مثل مشروع إطلاق قمر صناعي جديد في الفضاء)، يعتبر تطوير نظام برمجي مشروعًا هندسيًّا، وفي هذا السياق، يبدو أن مصطلح «هندسة البرمجيات» (الذي صيغ للمرة الأولى في أواسط ستينيات القرن العشرين) ملائمًا على نحوٍ خاص. وقد أدَّى هذا بطبيعة الحال إلى فكرة «مهندس برمجيات». فليس من قبيل الصدفة أن قدْرًا كبيرًا من التفكير بشأن هندسة البرمجيات منشؤه القطاع الصناعي. تحليل المتطلبات التي تهدُف البرمجيات إلى استيفائها. تحديد المواصفات الدقيقة للوظائف والأداء والتكلفة لمختلف المكونات («الوحدات») التي يمكن تحديدها من تحليل المتطلبات. تصميم نظام البرمجيات الذي (يُرجى) أن يلبي المواصفات. وهذا النشاط قد يتكوَّن في ذاته من مراحل تصميم مفاهيمية ومفصلة. تنفيذ التصميم باعتباره نظامَ برمجيات تشغيليًّا محددًا بلغة برمجة وتجميعه للتنفيذ على نظام (أنظمة) الكمبيوتر المستهدف. التحقق والتثبُّت من مجموعة البرامج المنفَّذة لضمان أنها تستوفي المواصفات. بمجرد إتمام عمليتي التحقُّق والتثبُّت، تأتي صيانة النظام، وتعديله إذا لزم الأمر ووقتما يلزم. بالطبع لا تتوالى هذه الخطوات بطريقة خطية صارمة. فدائمًا هناك احتمال الرجوع إلى مرحلة سابقة من مرحلة متقدمة إذا اكتُشفت عيوب وأخطاء. إضافة إلى ذلك، تتطلب دورة حياة البرمجيات أيضًا بنيةً أساسية — من الأدوات والمنهجيات ومعايير التوثيق والخبرة البشرية، وهذه العناصر مجتمعة تكوِّن «بيئة» هندسة البرمجيات. كذلك لا بد من ملاحظة أن مرحلة أو أكثر من هذه المراحل ستستلزم نظريات علمية محكمة باعتبارها جزءًا من تنفيذها. وربما تنطوي المواصفات والتصميم على استخدام لغات لها قواعد التركيب والدلالة الخاصين بها؛ كما أن التصميم والتنفيذ المفصَّلين سينطويان على لغات برمجة، وربما يتضمنان استخدام أساليب البرهان المسلَّماتية. كذلك لا مناص من أن التحقُّق والتثبُّت سيتطلبان أنماطًا متطورة من الإثبات والاختبار التجريبي للبرمجيات. وبقدرِ ما تستلزم المجالات الكلاسيكية للهندسة (مثل الهندسة الإنشائية أو الميكانيكية) العلوم الهندسية باعتبارها مكونات لها، فكذلك الأمر مع هندسة البرمجيات.
سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع». سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع».
https://www.hindawi.org/books/13726364/
علم الكمبيوتر: مقدمة قصيرة جدًّا
سوبراتا داسجوبتا
لا يَخفى على أحدٍ النموُّ المذهل الذي شَهِدته التكنولوجيات المرتبطة بالكمبيوتر على مَدار الستين عامًا الماضية. غير أن العلمَ الذي تقوم عليه هذه التقنياتُ أقلُّ شهرةً وانتشارًا خارج الأوساط المهنية القائمة على تطويره. وباعتبار علم الكمبيوتر مجالًا علميًّا، فإنه يصطفُّ إلى جانبِ علومٍ أخرى مشابهة، مثل علم الأحياء الجزيئي والعلوم الإدراكية، بوصفه أحدَ أهم العلوم الحديثة التي ظهرَت بعد حِقبة الحرب العالمية الثانية.وفي هذا الكتاب من سلسلة «مقدمة قصيرة جدًّا»، يُلقي «سوبراتا داسجوبتا» الضوءَ على هذه المجالات الأقلِّ شهرةً بين الناس، ويتناول الأساسَ المفاهيمي لعلم الكمبيوتر؛ فبعد أن يتناول موضوعاتٍ مثل الخوارزميات والبرمجة والمعالَجة التسلسُلية والمتوازية، يستعرض الأفكار الناشئة الحديثة مثل الحَوسَبة البيولوجية والنَّمذَجة المعرفية.
https://www.hindawi.org/books/13726364/5/
مجال معمارية الكمبيوتر
لكن إذا طرح أحدٌ السؤالَ التالي: «ما طبيعة جهاز الكمبيوتر المادي؟» فربما أراوغ في إجابتي. يرجع السبب إلى أن جهاز الكمبيوتر المادي، وإن كان جزءًا من تسلسل هرمي أكبر، فإنه معقَّد لدرجةِ أنه يحوي تسلسله الهرمي الداخلي الخاص به. ومن ثَم يمكن تصميمه ووصفه على عدة مستويات من التجريد. والعلاقة بين هذه المستويات تجمع بين مبادئ التسلسل الهرمي التركيبي، التجريدي/التفصيلي، والبنائي التي أوضحناها في الفصل الأول. ربما أهمُّ جانب في هذا التسلسل الهرمي من وجهة نظر عالِم الكمبيوتر (ويرجع الفضل في جزء كبير من هذا الرأي إلى عالِم الرياضيات والقامة العلمية الأمريكي المجري جون فون نيومان؛ حيث إنه أول مَن توصَّل إليه) هو التفريق بين الكمبيوتر المادي باعتباره أداةً حوسبية تعالج الرموز والمكونات المادية التي تتبع قوانين الفيزياء والتي تتكون منها هذه الأداة. هذا التفريق مهم. فباعتبار الكمبيوتر أداة تعالج الرموز، يصبح أداة مجردة بنفس المعنى الذي ينطبق على البرمجيات، ولكن كما هو الحال مع البرمجيات، فهذه الأداة المجردة لا يكون لها وجود من دون تنفيذها ماديًّا. ثمَّة جانب آخر مهم في هذا التفريق. يكمُن هذا الجانب في إمكانية تنفيذ معمارية بعينها باستخدام تكنولوجيات مختلفة. فالمعمارية ليست مستقلة عن التكنولوجيات؛ حيث إن تطور التكنولوجيا يؤثِّر في التصميم المعماري، لكن هناك قدْر معيَّن من الاستقلالية أو «درجات من الحرية» التي يتمتع بها مصمِّم معماريات الكمبيوتر. وفي المقابل، يمكن لتصميم معماريةٍ ما أن يشكِّل نوع التكنولوجيا التي يتم استخدامها. لتوضيح الصورة، لنضرب مثلًا بمؤسسة ولتكن جامعة. هذه المؤسسة لها من السمات المجردة والمادية. فتنظيم الجامعة ووحداتها الإدارية والأكاديمية المتعددة وبنيتها ووظائفها الداخلية وغير ذلك هو نظير معمارية الكمبيوتر. فبإمكان المرء أن يصمِّم جامعة (وهي أداة في نهاية الأمر) ويصفها ويناقشها ويحللها وينقدها ويغيِّر هيكلها تمامًا مثلما يمكن له أن يفعل مع أي كيان مجرد آخر. لكن الجامعة تُبنى بموارد بشرية ومادية. وهذه هي نظير تكنولوجيا (عتاد) الكمبيوتر. ومن ثَم في حين ينطوي تصميم الجامعة أو تطورها على قدْر كبير من الاستقلالية، يمكن أن يعتمد إنشاؤها فقط على طبيعة مواردها ووفرتها وكفاءتها (الموظفون والمباني والمعدَّات والمساحة المادية وبنية الحرم ككل وغير ذلك). وفي المقابل، إن تصميم تنظيم الجامعة سيؤثِّر في أنواع الموارد التي ينبغي توافرها. وفيما يلي توضيح المصطلحات الأساسية المتعلقة بهذا النقاش: «معمارية الكمبيوتر» هي أحد فروع علم الكمبيوتر وتهتم بتصميم الكمبيوتر المادي ووصفه وتحليله ودراسة تنظيمه المنطقي وسلوكه وعناصره الوظيفية؛ وكل هذا يشكِّل معمارية الكمبيوتر (المادي). مهمة اختصاصي معمارية الكمبيوتر هي تصميم معماريات تلبي احتياجات مستخدمي الكمبيوتر المادي (مهندسو البرمجيات والمبرمجون ومصمِّمو الخوارزميات والمستخدمون غير الفنيين) من جانب، ومن جانب آخر تكون صالحة من الناحيتين الاقتصادية والتكنولوجية. بذلك نجد أن معماريات الكمبيوتر أدواتٌ حدية. ولا بد لاختصاصي معمارية الكمبيوتر أن يكون ماهرًا في الجمع بين المتطلبات الوظيفية والأدائية للكمبيوتر، والجدوى التكنولوجية. لكن كما أوضحنا لتوِّنا، تضاءلت أعداد أجهزة الكمبيوتر الأنوية في الوقت الراهن. فابتكار الإنترنت وإنشاء البريد الإلكتروني وشبكة الويب العالمية ومختلف أشكال وسائل التواصل الاجتماعي وضعت حدًّا للأنوية الحوسبية. لكن حتى أكثر الأدوات خصوصية للمستخدم مثل الكمبيوتر المحمول أو الهاتف الذكي تصبح اجتماعية بمجرد أن يتصل المستخدم بالإنترنت ليشتريَ كتابًا أو يطلع على حالة الطقس أو يبحث عن الاتجاهات كي يذهب إلى مكانٍ ما. يصبح كمبيوتر المستخدِم اجتماعيًّا بمعنى أنه يتفاعل ويتواصل مع عددٍ لا حصر له من أجهزة الكمبيوتر الأخرى (على الرغم من أنه لا يعرفها) المنتشرة ماديًّا في ربوع الكوكب عبْر شبكة تسمَّى الإنترنت. في الحقيقة، كل مستخدم يرسل بريدًا إلكترونيًّا أو يبحث عن معلومة أو يشاهد مقطع فيديو عبْر الإنترنت ليس مجرد مستخدم لشبكة الإنترنت، بل يكون جهاز الكمبيوتر الخاص به جزءًا من شبكة الإنترنت. بل إن شبكة الإنترنت مجتمعٌ عالمي تفاعلي قوامه الأدوات الحوسبية ذات النزعة الاجتماعية والكيانات البشرية. لكن توجد شبكات أبسط يمكن أن تكون أجهزةُ الكمبيوتر جزءًا منها. فالأجهزة داخل مؤسسة (مثل جامعة أو شركة) تتصل بعضها ببعض عبْر ما يسمَّى «الشبكات المحلية». كذلك يمكن لمجموعة من أجهزة الكمبيوتر الموزَّعة عبْر منطقةٍ ما أن تتعاون بعضها مع بعض، ويؤدي كل جهاز منها المهمةَ الحوسبية المنوطة به، ولكنها تتبادل المعلومات بعضها مع بعض عند الحاجة. وقد جرت العادة على تسمية هذه الأنظمة باسم أنظمة «الحوسبة المتعددة» أو «الحوسبة الموزَّعة». تتم إدارة الحوسبة المتعدِّدة أو الحوسبة الموزَّعة أو الحوسبة عبْر الإنترنت بموجب مجموعة من قواعد عمل الشبكات تسمى «البروتوكولات» وأنظمة برمجيات بالغة التعقيد. لكن عندما ننظر إلى مجال معمارية الكمبيوتر، فإن ما يهمنا هو الكمبيوتر بمفرده، سواء كان أنويًّا أو اجتماعي النزعة. وهذا ما سنتناوله فيما تبقى من هذا الفصل. دخلت كلمة «معمارية» في سياق أجهزة الكمبيوتر للمرة الأولى في أوائل ستينيات القرن العشرين على يد ثلاثة من مهندسي شركة آي بي إم، وهم جين أمدال وفريدريك بروكس وجيريت بلاو. استخدم ثلاثتهم هذا المصطلح للإشارة إلى مجموعة السمات الوظيفية للكمبيوتر المادي كما هو متاح لمبرمج الكمبيوتر ذي المستوى الأدنى (مبرمجي الأنظمة الذين يبنون أنظمة التشغيل والبرامج المترجِمة والأدوات المساعدة الأساسية الأخرى التي تستخدم لغات التجميع)؛ أو «واجهتها الخارجية» إن جاز التعبير. لكن منذ ذلك الحين، امتدت ممارسة معمارية الكمبيوتر كي تشملَ التنظيم الداخلي المنطقي والهيكلي والوظيفي، وكذلك سلوك المكونات المادية للجهاز. لذا من المنظور العملي، يشير مصطلح «معمارية الكمبيوتر» إلى الجوانب الوظيفية والمنطقية لكلٍّ من الواجهة الخارجية والمكونات الداخلية للكمبيوتر المادي. لكن لم يتم الاتفاق على مصطلحين يشيران إلى هذين الجانبين، وانطلاقًا من مبدأ التبسيط، سأطلق عليهما المعمارية الخارجية والمعمارية الداخلية، على التوالي. يرتبط هذان الجانبان بعلاقة تسلسل هرمي. فهما جانبان مجرَّدان مختلفان للكمبيوتر المادي، حيث تكون المعمارية الخارجية فيه شكلًا مجردًا للمعمارية الداخلية، أو، بالعكس، تكون المعمارية الداخلية تفصيلًا للمعمارية الخارجية. أو بناءً على استراتيجية التصميم المستخدَمة، يمكن اعتبار معمارية الكمبيوتر الداخلية تنفيذًا للمعمارية الخارجية. هذا تسلسل هرمي من حيث الاحتفاظ بالمعلومات وسعة الحجم وسرعة الوصول. ومن ثَم على الرغم من أن المعمارية الخارجية مجرَّدة، فإن الوجه المادي في جهاز الكمبيوتر المادي أصبح واضحًا؛ بمعنى أن المساحة (سعة الحجم) والوقت من الأنماط المادية حيث إنهما يُقاسان بوحدات مادية (وحدات البت أو البايت للمعلومات، والنانوثانية أو البيكوثانية للوقت، وغيرها) وليس بوحدات مجردة. هذا المزيج هو ما يجعل معمارية الكمبيوتر (الخارجية والداخلية) أداة حدية. الذاكرة الطويلة الأجل هي أطول الذاكرات احتفاظًا بالمعلومات (أي، في قدرتها على «التذكر») حيث إنها ذاكرة دائمة وتصلح لكل الأغراض العملية. وهي الأكبر كذلك من حيث سعة الحجم، ولكنها الأبطأ في سرعة الوصول إليها. أما الذاكرة المتوسطة الأجل فلا تحتفظ بالمعلومات إلا إذا كان الكمبيوتر قيد التشغيل. فهي تفقد المعلومات عند إيقاف تشغيل الكمبيوتر. سعة حجم هذه الذاكرة أقلُّ بكثير من الذاكرة الطويلة الأجل، ولكن وقت الوصول إليها أقصر بكثير من الذاكرة الطويلة الأجل. وقد تغيِّر الذاكرة القصيرة الأجل أو العاملة محتوياتها عدة مرات في سياق العملية الحوسبية الواحدة؛ فسعة حجمها أقل بعدة أمثال من الذاكرة المتوسطة الأجل، ولكن وقت الوصول إليها أقصرُ بكثير جدًّا من الذاكرة الطويلة الأجل. السبب في وجود التسلسل الهرمي في الذاكرة هو الحفاظ على توازن جيد بين متطلبات الاحتفاظ بالمعلومات والمساحة ووقت الوصول من أجل العمليات الحوسبية. كذلك ستحتوي مجموعة التعليمات على تعليماتٍ لتنفيذ عمليات نقل البرامج والبيانات بين مكونات الذاكرة هذه. تقوم السمات الأخرى للمعمارية الخارجية على مجموعة التعليمات ومجموعة أنواع البيانات الخاصة بها. على سبيل المثال، يجب أن تتضمن التعليمات طرقًا لتحديد المواقع (العناوين) في ذاكرة المعاملات والتعليمات. ويطلق على الطرق المختلفة لتحديد عناوين الذاكرة «أنماط العنونة». سيكون هناك أيضًا قواعد أو أعراف لتنظيم وتشفير التعليمات الخاصة بمختلف أنواع البيانات بحيث يمكن حفظها داخل الذاكرة بفاعلية؛ ويطلق على هذه الأعراف «تنسيقات التعليمات». وبالمثل، «تنسيقات البيانات» عبارة عن قواعد لتنظيم أنواع البيانات المتنوعة؛ حيث تُحفظ عناصر البيانات من نوع معيَّن من البيانات في الذاكرة طبقًا لتنسيق البيانات ذي الصلة. وأخيرًا، هناك عنصر مهم في المعمارية الخارجية وهو «طول الكلمة». يحدد هذا العنصر كمَّ المعلومات (الذي يقاس بوحدات البت) الذي يمكن قراءته من الذاكرة المتوسطة الأجل (الأساسية) أو نسخه إليها «في آنٍ واحد». إن سرعة تنفيذ التعليمات تعتمد اعتمادًا كبيرًا على طول الكلمة، وكذلك نطاق البيانات الذي يمكن الوصول إليه لكل وحدة من الزمن. فيما يلي أمثلة نموذجية على تعليمات الكمبيوتر (أو تعليمات الآلة، وهو مصطلح قد استخدمته من قبل) مكتوبة بأسلوب (لغة تجميع) رمزي، بالإضافة إلى معانيها (أي، الإجراءات التي تتسبب هذه التعليمات في تنفيذها). المفاتيح: الكمبيوتر المادي في محصِّلته عبارة عن مجموعة من الدوائر الإلكترونية والأسلاك وغيرها من المكونات المادية. ومن حيث المبدأ، يمكن شرح المعمارية الخارجية باعتبارها نتاجًا لهيكل هذه المكونات المادية وسلوكها. لكن المسافة المفاهيمية بين أداة مجردة مثل المعمارية الخارجية والدوائر الإلكترونية المادية كبيرةٌ للغاية لدرجة أن محاولة القيام بهذا الشرح ليست أجدى من محاولة شرح أو وصف كائن حي كامل (ربما باستثناء البكتيريا والفيروسات) من حيث بيولوجيا خلاياه. ما نعنيه أن بيولوجيا الخلية لا تفي مثلًا بشرح بنية جهاز القلب والأوعية الدموية ووظائفه. فلا بد من فهْم الكيانات التي تعلو مستوى الخلايا (مثل الأنسجة والأعضاء) قبل فهْم الجهاز ككل. ومن هذا المنطلق أيضًا، لا تفي نظريةُ الدوائر الإلكترونية الرقمية بشرح المعمارية الخارجية للكمبيوتر، سواء كان كمبيوترًا محمولًا أو حتى أقوى كمبيوتر فائق على مستوى العالم. وبوجه عام، يهتم اختصاصيو معمارية الكمبيوتر بالمعماريات الخارجية والداخلية، وكذلك تفصيل المعمارية الداخلية الذي ذكرناه من قبل باسم المعمارية الدقيقة (والذي سنوضحه لاحقًا). إنهم لا يهتمون بالسمات التي تشكل هذه المستويات المعمارية فحسب، بل يهتمون بالعلاقة فيما بينها أيضًا. يمكن تشبيه وحدات التنفيذ بأعضاء جسد الكائن الحي. يمكن أن تكون هذه الوحدات عالية التخصص ولا تنفِّذ سوى أنواع معينة من العمليات على أنواع محددة من البيانات، ويمكن أن تكون ذات أغراض أشملَ، ومن ثَم تستطيع تنفيذ مجموعات شاملة من العمليات. على سبيل المثال، يمكن تخصيص وحدة تنفيذ بحيث لا تنفِّذ سوى العمليات الحسابية ذات الأعداد الصحيحة، في حين تختص وحدة أخرى بالعمليات الحسابية ذات الأعداد الحقيقية، ويمكن ألا تنفِّذ وحدة ثالثة شيئًا سوى معالجة سلاسل وحدات البت بطرقٍ متعددة، فيما تنفذ وحدة أخرى رابعة العمليات على سلاسل الرموز، وهكذا. ومن حيث المكونات الداخلية، سيكون للمعالج عناصر ذاكرته الخاصة المتناهية قصر الأجل أو «العابرة» (حيث إنها تحتفظ بالمعلومات لمدة أقصر من السجلات المرئية في المعمارية الخارجية، ويطلق عليها أحيانًا «السجلات الانتقالية») والتي تُحضر إليها المعلومات من الذاكرات الأخرى قبل أن تعالج من خلال وحدات تفسير التعليمات أو معالجتها. تشكِّل السجلات الانتقالية المستوى «الأدنى» في التسلسل الهرمي للذاكرة المرئي في المعمارية الداخلية. وحدة التحكم هي دماغ الكمبيوتر مجازًا، وكأنها كمبيوتر مصغَّر، وهي توصف في بعض الأحيان بأنها «كمبيوتر داخل الكمبيوتر». إنها العضو الذي يدير كل أنشطة الأنظمة الأخرى وحركة بنيات الرموز فيما بينها، ويتحكم فيها ويسلسلها. وهي تقوم بذلك عن طريق إصدار «إشارات تحكُّم» (وهي بنيات رموز مختلفة في فئتها عن التعليمات والبيانات) إلى الأجزاء الأخرى في الجهاز متى وكيفما اقتضت الحاجة. إنها محرِّك الدمى الذي يحرك الخيوط لتنشيط الأنظمة الأخرى التي تشبه الدمى. وعلى وجه الخصوص، تصدر وحدة التحكم إشاراتٍ إلى المعالج (الذي هو مزيج من وحدات تفسير التعليمات وتنفيذها) لتجعل المعالج ينفِّذ خوارزمية تكرارية يطلق عليها عادةً «دورة التعليمات». دورة التعليمات هي التي تربط المعمارية الخارجية بالمعمارية الداخلية. وفيما يلي الصيغة العامة لهذا: لاحظ أن دلالة هذه التعليمة على مستوى المعمارية الخارجية ببساطة هي: من الخصال المتأصلة في مبدعي الأشياء — مثل المهندسين والفنانين والحرفيين والكتَّاب وغيرهم — عدم الرضا أبدًا عما أنجزوه؛ فهم لا يفتئون يرجون صناعة أدواتٍ أفضل (مهما كان معيار «الأفضلية»). وفي مجال صناعة أجهزة الكمبيوتر المادية، فإن الرغبتين المهيمنتين متعلقتان بالمساحة والوقت؛ بمعنى صناعة أجهزة أصغر وأسرع. من استراتيجيات تحقيق هذين الهدفين تحسين التكنولوجيا المادية. وتتعلَّق هذه الاستراتيجية بفيزياء الحالة الصلبة والإلكترونيات وتكنولوجيا التصنيع وتصميم الدوائر الإلكترونية. ولا يخفى على أحد ممن يستخدمون أجهزةَ الكمبيوتر المحمولة والأجهزة اللوحية والهواتف الذكية هذا التقدُّم الاستثنائي على مدار ستين سنة أو نحو ذلك منذ صناعة أول دائرة متكاملة، ما وفَّر إمكانية تصنيع مكونات ذات كثافة أعلى وحجم أصغر بالإضافة إلى التركيز المستمر على زيادة قوة الحوسبة. هناك فرضية شهيرة تسمى بقانون مور — نسبة إلى اسم مبتكِرها المهندس الأمريكي جوردون مور — تقول بأن كثافة مكونات الدوائر الأساسية على شريحة واحدة تتضاعف كلَّ عامين تقريبًا، وهو ما أُثبِت تجريبيًّا على مرِّ السنين. ولكن في ضوء التقدم الحادث في مجال التكنولوجيا المادية، نجد أن اختصاصيي معمارية الكمبيوتر طوَّروا أساليبَ لزيادة «سعة المعالجة» أو «السرعة» الخاصة بالعمليات الحوسبية، والتي تقاس بمقاييس مثل عدد التعليمات التي تتم معالجتها لكل وحدة من الزمن أو عدد بعض العمليات الهامة (مثل العمليات الحسابية باستخدام الأعداد الحقيقية إذا كان الكمبيوتر مخصَّصًا للعمليات الحوسبية العلمية أو الهندسية) لكل وحدة من الزمن. تندرج هذه الاستراتيجيات المعمارية تحت مسمى «المعالجة المتوازية». طبيعة المهام. طبيعة الوحدات التي تنفِّذ المهام. تُعرف هذه الشروط باسم شروط برنشتاين، نسبةً إلى عالِم الكمبيوتر إيه جيه برنشتاين الذي كان أول مَن صاغها. وإذا لم يُستوفَ شرط واحد منها، فستوجد علاقة اعتمادية للبيانات بينهما، ولن يمكن تنفيذ المهام بالتوازي. لنضرب مثالًا بسيطًا بمقطع من تدفُّق برنامج يتكون من عبارات التعيين التالية: إذن: يوضِّح هذا الترتيب التسلسلي/المتوازي بنيةَ «البرنامج المتوازي»؛ حيث تكون المهام عبارات فردية توصف باستخدام إحدى لغات البرمجة. لكن لننظر في الكمبيوتر المادي ذاته. الهدف من البحث في المعالجة المتوازية له شقَّان واسعا النطاق، يتمثل أولهما في ابتكار خوارزميات أو استراتيجيات يمكن أن تكتشف وجهَ التوازي بين المهام، ومن ثَم تجدول المهام المتوازية أو تعيِّنها إلى وحدات مختلفة لتنفيذ المهام في نظام الكمبيوتر. أما الشق الثاني، فيتمثل في تصميم أجهزة كمبيوتر تدعم المعالجة المتوازية. تنفيذ تدفقات مهام (أو تعليمات) على نحوٍ متزامن على تدفقات بيانات مستقلة على عدة معالجات منفصلة، ولكن مع اتصال تدفقات المهام بعضها مع بعض (على سبيل المثال، بتمرير الرسائل أو نقل البيانات فيما بينها). تنفيذ تدفقات مهام (أو تعليمات) على نحوٍ متزامن على تدفق بيانات فردي مشترك على عدة معالجات داخل كمبيوتر واحد. شغل تدفقات بيانات متعددة لوحدات ذاكرة متعددة يتم الوصول إليها بنحو متزامن من خلال تدفق مهام (تعليمات) واحد على معالج واحد. تنفيذ مقاطع (وتسمَّى سلاسل) تدفق مهام واحد بشكل متزامن، إما على معالج واحد أو على معالجات متعددة. تنفيذ مراحل أو خطوات تعليمة واحدة بنحو متزامن داخل دورة التعليمات. تنفيذ أجزاء برنامج دقيق بنحو متزامن داخل وحدة تحكم خاصة بجهاز الكمبيوتر. تستخدم كل معماريات المعالجة المتوازية صورًا متباينة من الاحتمالات المذكورة آنفًا، وكثيرًا ما يجري الجمع بينها. كما ذكرنا من قبل، الهدف من معماريات المعالجة المتوازية هو زيادة «سعة معالجة» أو «سرعة» نظام الكمبيوتر من خلال وسائل معمارية بحتة. ولكن كما هو موضح في المثال الصغير لعبارات التعيين الأربع، هناك حدود لتوازي تدفق المهام بسبب قيود اعتمادية البيانات؛ ومن ثَم، هناك حدود للسرعة التي يمكن تحقيقها في بيئة معالجة متوازية. صيغ هذا الحد صياغةً كمية في ستينيات القرن العشرين على يد مصمِّم أجهزة الكمبيوتر جين أمدال؛ إذ قال إن السرعة المحتملة للكمبيوتر المتوازي المعالجة مقيَّدة بقدرِ الحوسبة الذي لا يمكن تنفيذه بنحو متوازٍ. ومن ثَم يتوقف تأثير زيادة السرعة الناتج عن زيادة عدد وحدات التنفيذ المتوازية بعد حدٍّ معيَّن. ويطلق على هذا المبدأ «قانون أمدال». بعد أن وصل القارئ إلى هذا القسم من الفصل، ربما يسأل: إذا ما سلَّمنا بأن معماريات الكمبيوتر أدواتٌ حدية، فبأي نحوٍ يُعَد هذا المجال من العلوم الاصطناعية؟ للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من إدراكِ أن أكثرَ ما يَلفت الانتباه في هذا المجال هو أن مساحة المعرفة فيه تتكون (بالأساس) من مجموعة مبادئ «استدلالية»، وأن التفكير المتَّبع في تصميم معماريات الكمبيوتر هو «التفكير الاستدلالي». وكثيرًا ما نُضطر لاستخدام الاستدلال لأنه قد لا يوجد أيُّ خيار آخر. فنركن إلى التفكير الاستدلالي عند غياب المبادئ القائمة على النظريات والمؤكدة والصورية أكثر. ومبدأ فرِّق تسُد الذي تناولناه في الفصل الثالث مثالٌ على أحد المبادئ الاستدلالية المستخدَمة بكثرة في حل المسائل واتخاذ القرارات. إنه مبدأ مقبول يُتوقع منه أن يساعد في حل مسألة معقَّدة ولكن لا يُضمن نجاحه في حالة بعينها. كذلك المعرفة التجريبية مصدر للعديد من أشكال الاستدلال. وتُعدُّ قاعدة «إذا كانت السماء ملبَّدة بالغيوم، فخُذ معك مظلة» مثالًا في هذا الإطار. قد يكون هناك ما يبرِّر أخذ المظلة، ولكن ليس دائمًا. واستخدام الاستدلال يستجلب معه ضرورةَ «التجريب». فبما أن الاستدلال ليس مضمون النجاح، يكون الملجأ الوحيد تطبيقَه على مسألةٍ بعينها ومعرفةَ ما إذا كان مجديًا عمليًّا؛ أي، القيام بتجربة. وفي المقابل، قد تُشتق مبادئ الاستدلال ذاتها بناءً على تجارب سابقة. «إن الاستدلال والتجارب يسيران جنبًا إلى جنب» هي رؤية استوعبها جيدًا روادُ التفكير الاستدلالي أمثال ألين نيويل وهيربرت سايمون، وكذلك رواد مجال تصميم الكمبيوتر أمثال موريس ويلكس. وكل هذا مقدِّمة لما يلي: «يندرج مجال معمارية الكمبيوتر ضمن العلوم الاصطناعية التجريبية الاستدلالية». على مدار العقود التي تلت ابتكارَ الكمبيوتر الرقمي الإلكتروني، ظهرت مجموعةٌ من القواعد والمبادئ والضوابط والافتراضات والمخططات بشأن تصميم معماريات الكمبيوتر، وتكاد تكون جميعها استدلالية في طبيعتها. ومن الأمثلة على ذلك فكرةُ النظر إلى التسلسل الهرمي للذاكرة باعتباره أحدَ مبادئ التصميم. ومبدأ قنوات التجزئة مثالٌ آخر. إن هذه المبادئ تنشأ من المعرفة التجريبية وعَقد المقارنات والملاحظات المنطقية السليمة. لكن لا بد أن تدمج التجارب مبادئ الاستدلال في التصميم. قد تنطوي هذه التجارب على تنفيذ «نموذج أولي» أو آلة تجريبية وإجراء الاختبارات عليها. أو قد تتضمن إنشاءَ نموذج محاكاة (برمجي) للمعمارية وإجراء التجارب على المعمارية المحاكية. وفي كلتا الحالتين، قد تكشف التجارب عن عيوب في التصميم، وعندئذٍ ستكون النتيجة تعديل التصميم عن طريقِ نبذِ بعض المبادئ وإدخال مبادئ أخرى، ثم تكرار دورة التجريب والتقييم والتعديل. بالطبع يكاد هذا المخطط يطابق نموذجَ حل المسائل العلمية الذي طرحه فيلسوف العلم كارل بوبر:
سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع». سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع».
https://www.hindawi.org/books/13726364/
علم الكمبيوتر: مقدمة قصيرة جدًّا
سوبراتا داسجوبتا
لا يَخفى على أحدٍ النموُّ المذهل الذي شَهِدته التكنولوجيات المرتبطة بالكمبيوتر على مَدار الستين عامًا الماضية. غير أن العلمَ الذي تقوم عليه هذه التقنياتُ أقلُّ شهرةً وانتشارًا خارج الأوساط المهنية القائمة على تطويره. وباعتبار علم الكمبيوتر مجالًا علميًّا، فإنه يصطفُّ إلى جانبِ علومٍ أخرى مشابهة، مثل علم الأحياء الجزيئي والعلوم الإدراكية، بوصفه أحدَ أهم العلوم الحديثة التي ظهرَت بعد حِقبة الحرب العالمية الثانية.وفي هذا الكتاب من سلسلة «مقدمة قصيرة جدًّا»، يُلقي «سوبراتا داسجوبتا» الضوءَ على هذه المجالات الأقلِّ شهرةً بين الناس، ويتناول الأساسَ المفاهيمي لعلم الكمبيوتر؛ فبعد أن يتناول موضوعاتٍ مثل الخوارزميات والبرمجة والمعالَجة التسلسُلية والمتوازية، يستعرض الأفكار الناشئة الحديثة مثل الحَوسَبة البيولوجية والنَّمذَجة المعرفية.
https://www.hindawi.org/books/13726364/6/
الحوسبة الاستدلالية
ليس للعديد من المسائل حلول خوارزمية. فعند تعليم أحد الأبوين الطفلَ ركوبَ الدراجة، فإنه لا يستطيع أن يقدِّم له خوارزمية يمكنه أن يتعلمها ويطبِّقها مثلما يفعل حينما يتعلم طريقةَ ضرب عددين. كذلك لا يستطيع معلِّم الكتابة الإبداعية أو الرسم أن يقدِّم للطلاب خوارزميات لكتابة قصة واقعية جذابة أو رسم لوحة قماشية تعبيرية تجريدية. يعود السبب في ذلك جزئيًّا إلى جهل المرء (وحتى لو كان أستاذًا متخصصًا في الكتابة الإبداعية) أو عدم فهمه للطبيعة الدقيقة لتلك المهام. يريد الرسام أن يصوِّر على سبيل المثال ملمسَ رداءٍ مُخملي، وصلابة تفاحة، وسر ابتسامة. لكن الشيء الذي يشكِّل ذلك الملمس المُخملي وتلك الصلابة وتلك الابتسامة الغامضة من منظور الرسامين ربما يكون مجهولًا أو غير معروف بالتحديد، ومن ثَم لا يمكن ابتكار خوارزمية لتصويرها في لوحة. بل إن البعض قد يقول إن الإبداع الفني أو الأدبي أو الموسيقي لا يمكن أبدًا شرحُه باستخدام الخوارزميات. ثانيًا، تحدِّد الخوارزمية كلَّ الخطوات التي يجب اتباعها. إذ لا يمكننا بناءُ خوارزمية إلا إذا كنا مدركين على نحوٍ واعٍ لخطواتها التي تمثِّل قِوامها. لكن العديد من الإجراءات التي ننفِّذها عند ركوب الدراجة أو التقاط الفروق الدقيقة في المشهد الذي نريد رسمه تحدُث فيما يسميه علماء العلوم المعرفية «اللاوعي المعرفي». ومن ثَم، هناك حدود للمدى الذي يمكن أن ترتقي فيه هذه الأفعال اللاواعية إلى سطح الوعي. ثالثًا، حتى إنْ فهمْنا طبيعة المهمة فهمًا جيدًا (إلى حدٍّ ما)، فقد تتضمن المهمة متغيرات أو معاملات متعددة تتفاعل بعضها مع بعض بطرق غير بسيطة. وقد تكون معرفتنا بهذه التفاعلات أو فهمنا لها مشوَّشة أو منقوصة أو غير ملائمة بشدة. على سبيل المثال، مسألة تصميم معمارية الكمبيوتر الخارجية (ارجع إلى الفصل الخامس) تُوضح هذه النقطة. قد يفهم اختصاصي معمارية الكمبيوتر الأجزاء الفعلية التي تكوِّن المعمارية الخارجية (أنواع البيانات، والعمليات، ونظام الذاكرة، وأنماط عنونة المعاملات، وتنسيقات التعليمات، وطول الكلمة) فهمًا جيدًا، لكن نطاق التباينات لكل جزء من هذه الأجزاء وتأثيرات هذه التباينات بعضها على بعض قد يكون مفهومًا فهمًا غيرَ دقيق أو غير واضح. في الواقع، إن فهْم الطبيعة الكاملة لهذه التفاعلات قد يتجاوز القدرات المعرفية لدى هذا الاختصاصي. رابعًا، حتى إذا كان المرء يفهم المسألة جيدًا بالقدْر الكافي ويمتلك المعرفة بشأن مجال المسألة ويمكنه ابتكار خوارزمية لحلها، فقد لا يمكن توفير مقدار الموارد الحوسبية (الوقت أو المساحة) اللازم لتنفيذ الخوارزمية. ومن الأمثلة على ذلك الخوارزميات ذات تعقيد الوقت الأسي (ارجع إلى الفصل الثالث). لعِبُ الشطرنج مثال على ذلك. طبيعة المسألة مفهومة فهمًا جيدًا. فاللعبة لها قواعد محدَّدة للحركات المسموح بها، كما أنها لعبة «تامة المعلومات» من حيث إن كل لاعب يستطيع أن يرى كل قِطع الشطرنج على الرقعة على الدوام. كذلك النتائج المحتملة معروفة بدقة: إما أن يفوز اللاعب الأبيض أو يفوز اللاعب الأسود أو يتعادلان. يفكر اللاعب الذي حلَّ دوره في اللعب في كل الحركات الممكنة لصالحه. ومع كل حركة يفكِّر فيها من تلك الحركات يفكِّر أيضًا في كل الحركات التي يُحتمل أن يقوم بها الخَصم؛ ومع كل حركة محتملة من خَصمه، يفكِّر مرة أخرى في كل حركاته هو المحتملة؛ وهكذا حتى بلوغ الحالة النهائية وهي: إما الفوز أو الخسارة أو التعادل. وبالعمل بطريقة عكسية، يقرر اللاعب إن كان الموقف الحالي سيعزز من الفوز أم لا، ويختار الحركة بناءً على ذلك، وذلك بافتراض أن الخصم يأتي بالحركات الأفضل لصالحه. في نهاية المطاف، إذا وجب صياغة خوارزمية لحل مسألةٍ ما، فإن أي معرفة ضرورية بشأن المسألة كي تنجح الخوارزمية «لا بد أن تُدرج بالكامل في الخوارزمية». وكما أشرنا في الفصل الثالث، فإن الخوارزمية جزء قائم بذاته من المعرفة الإجرائية. فلكي نُجريَ اختبار ورقة دَوَّار الشمس، أو نحلَّ مسألة ضرب بالورقة والقلم، أو نقدِّر مضروبَ عددٍ ما، أو ننتج تعبيرات بولندية عكسية من تعبيرات حسابية مرتبة وسطيًّا (ارجع إلى الفصل الرابع)، فكلُّ ما يحتاج المرء إلى معرفته هو الخوارزمية ذاتها. وإن تعذَّر إدراج كل المعلومات الضرورية في الخوارزمية، فلن تكون ثمة خوارزمية. إن العالم مليء بالمهام أو المسائل التي تتجلى فيها أنواع السمات المذكورة آنفًا. وهي لا تتضمن الأعمال الفكرية أو الإبداعية وحسب — مثل البحث العلمي، والاختراعات، والتصميم، والكتابة الإبداعية، والأعمال الرياضية، والتحليل الأدبي، والبحوث التاريخية — بل تتضمَّن كذلك أنواع المهام التي يقوم بها الممارسون المهنيون — مثل الأطباء، والمهندسين، والمهندسين المعماريين، والمصمِّمين الصناعيين، والمخطِّطين، والمدرسين، والحرفيين. حتى الأنشطة العادية الرتيبة — مثل القيادة وسط زحام مروري، واتخاذ قرار بشأن عرض وظيفي، والتخطيط لرحلة في عطلة — لا تؤدي إلى حلول خوارزمية، أو على الأقل حلول خوارزمية فعالة. وعلى الرغم من ذلك، يشرع الناس في تنفيذ هذه المهام وحل هذه المسائل. فهم لا ينتظرون الخوارزميات، سواء كانت فعالة أو غير ذلك. في الواقع، لو كان علينا انتظار الخوارزميات كي نحل كل مسائل حياتنا، لانقرض نوعنا منذ زمن بعيد. ومن منظور تطوري، فإن سبل تفكيرنا لا تنطوي على الخوارزميات وحسب. وهذا يطرح السؤال التالي: ما الوسائل «الحوسبية» الأخرى المتاحة لنا كي ننفِّذ هذه المهام؟ الإجابة هي اللجوء إلى نمط حوسبة يستخدم «الاستدلال». الاستدلال عبارة عن قواعدَ وضوابط ومبادئ وافتراضات قائمة على المنطق السليم والتجربة والحكم على الأشياء والمقارنات والتخمينات المبنية على علم وغير ذلك، والتي تبشِّر بحل المسائل من دون ضمان نجاح حلها. وقد أتينا على ذكر الاستدلال في الفصل السابق عندما تناولنا معمارية الكمبيوتر. لكن الحديث عن معمارية الكمبيوتر باعتبارها علمًا اصطناعيًّا قائمًا على الاستدلال شيء، واستخدام الاستدلال في الحوسبة التلقائية شيء آخر. وهذا الأمر الأخير، «الحوسبة الاستدلالية»، هو ما سنتناوله الآن. الحوسبة الاستدلالية تجسِّد روح المغامرة! فهي لا تخلو من عدم اليقين والغموض. فمن يبحث عن حل استدلالي (سواء كان إنسانًا أو كمبيوتر) ليحل مسألةً ما هو فعليًّا كمن يستكشف «أرضًا مجهولة». ومثلما ينخرط الإنسان المتواجد في أرض مجهولة في استكشاف هذه الأرض والبحث فيها، يبحث مَن يقوم بالبحث الاستدلالي عن حل للمسألة — فيما يسميه علماء الكمبيوتر «فضاء المسألة» — وهو ليس على يقين من أنه سيصل إلى الحل. وبذلك يُطلق على أحد أنواع الحوسبة الاستدلالية اسم «البحث الاستدلالي». لننظر، على سبيل المثال، إلى السيناريو التالي. أنت داخل إلى ساحة كبيرة جدًّا لركن السيارات ملحقة بصالة عرض كبيرة تريد أن تشاهد حدثًا فيها. والمسألة هي العثور على مكان لركن سيارتك. السيارات مصفوفة في أماكنها بالفعل، ولكن يبدو أنك ليس لديك معرفة بتوزيع الأماكن الفارغة أو موقعها. ما الذي يفعله المرء في هذه الحالة؟ في هذه الحالة، تصبح ساحة الركن هي فضاء المسألة حرفيًّا. وكلُّ ما يمكنك فِعله حرفيًّا هو البحث عن مكان فارغ. لكن بدلًا من البحث من دون هدف أو عشوائيًّا، قد تقرر اتباع سياسة «الملاءمة الأولى»؛ بحيث تركن سيارتك في أول مكان تراه فارغًا ومتاحًا. أو يمكنك اتباع سياسة «الملاءمة المثلى»؛ وهي البحث عن مكان فارغ ويكون هو الأقرب إلى صالة العرض. هاتان السياستان استدلاليتان تساعدان في «توجيه» البحث عبْر فضاء المسألة. بالطبع لا يخلو الأمر من التنازلات: فاستراتيجية الملاءمة الأولى قد توفِّر وقتَ البحث، ولكن قد تضطر إلى أن تسير مسافةً طويلة حتى تصل إلى صالة العرض، أما استراتيجية الملاءمة المثلى فقد تحتاج إلى وقتٍ أطول للبحث لكنها ستختصر وقت السير نسبيًّا إن نجحت. لكنْ بالطبع «السياستان الاستدلاليتان لا تضمنان النجاح»: كلتاهما ليستا خوارزمية بهذا المعنى. وفي كلتا الحالتين، قد لا يوجد مكان فارغ، وفي هذه الحالة إما أن تظلَّ تبحث وتبحث أو تنهيَ البحث باتباع معيار مختلف مثل «الخروج إن تجاوز وقت البحث الحد المعقول». لكن العديد من الاستراتيجيات التي تستخدم الاستدلال تتضمن كلَّ سمات الخوارزمية (كما ذكرنا في الفصل الثالث) — لكن هناك فرقٌ واحد ملحوظ وهو أنها لا تعطي سوى إجابات «تكاد تكون صحيحة» للمسألة، أو أنها لا تعطي إجابات صحيحة إلا لبعض صور المسألة. ومن ثَم يشير علماء الكمبيوتر إلى بعض الأساليب الاستدلالية في حل المسائل باسم الخوارزميات «الاستدلالية» أو «التقريبية»، وقد نحتاج في هذه الحالة إلى أن نفرِّق بينها وبين الخوارزميات «الدقيقة». ويشمل المصطلح «الحوسبة الاستدلالية» كلًّا من البحث الاستدلالي والخوارزميات الاستدلالية. وسنعرض مثالًا على الخوارزميات الاستدلالية بعد قليل. في أي مسألة تحسين، عادةً ما يكون الهدف هو البحث عن أفضل حل ممكن للمسألة. والعديد من مسائل التحسين لها حلول خوارزمية دقيقة. ولسوء الحظ كثيرًا ما تكون هذه الخوارزميات ذات تعقيد وقت أسي، ومن ثَم فمن غير العملي — وحتى من المتعذر — استخدامها في صور كبيرة من المسألة. ومن الأمثلة على ذلك مسألةُ لعبة الشطرنج التي تناولناها من قبل. إذن، ما الذي يجب أن يفعله المكلَّف بحل المسألة إذا كانت الخوارزميات المثلى يتعذر تطبيقها حوسبيًّا؟ هذا المبدأ أسلوبٌ استدلالي عام وعالي المستوى للغاية، ويمكن أن يكون بمثابة نقطة انطلاق لتحديد المزيد من الأساليب الاستدلالية الخاصة بالمجال. وبذلك يمكننا أن نطلق عليه «الأسلوب الاستدلالي العالي المستوى». دعنا نتأمَّل «الأساليب الاستدلالية المُرضية التي لها علاقة بمسألة الشطرنج». لنفكرْ في مأزق لاعب الشطرنج. وكما رأينا، فقد استبعدنا حلَّ البحث الأمثل. ويلزم توافر استراتيجيات عملية أكثر، وهذا يتطلب استخدام مبادئ استدلالية متعلقة بالشطرنج (أي، مرتبطة بالمجال). والاستراتيجية التالية من أبسطها. لاحظ أننا حاولنا تحقيقَ نوع من الأمثلية هنا. لكنها محاولة تحسين «موضعية» أو «قصيرة الأجل»؛ حيث إنها تتعلق بحركة تالية واحدة فقط. وليس هذا باستدلال بالغ التعقيد، ولكنه نوع يمكن أن يتحلَّى به اللاعب العادي. لكنه يتطلب بالفعل مستوًى من المعرفة العميقة لدى اللاعب (سواء أكان إنسانًا أم كمبيوترًا) بشأن الجودة النسبية لأنساق الرقعة. إنَّ لعب الشطرنج يجسِّد صورًا من البحث الاستدلالي المُرضي. أما الآن فلننتقل إلى مثال على الخوارزميات الاستدلالية المُرضية. لندرس الآن تدفقًا تسلسليًّا لتعليمات آلة يولدها برنامج مترجِم لكمبيوتر مادي مستهدف من برنامج تسلسلي مكتوب بلغة عالية المستوى (ارجع إلى الفصل الرابع). لكن إذا كان الكمبيوتر المستهدف ينفِّذ التعليمات بصورة متزامنة، فسيكون للبرنامج المترجِم مهمةٌ أخرى إضافية وهي: تحديد التوازي بين التعليمات في تدفُّق التعليمات وإنتاج «تدفُّق تعليمات متوازٍ»؛ حيث يتكوَّن كل عنصر من هذا التدفق من مجموعة تعليمات يمكن تنفيذها بالتوازي (لنطلق على ذلك «مجموعة متوازية»). في واقع الأمر، هذه مسألة تحسين إذا كان الهدف هو تقليل عدد المجموعات المتوازية في تدفُّق التعليمات المتوازي. وكما هو الحال مع مسألة الشطرنج، ستنطوي خوارزمية التحسين على استراتيجية بحث مستفيض، ومن ثَم لن تكون عملية حوسبيًّا. عمليًّا، ستطبَّق أساليبُ استدلالية مُرضية أكثر. لنضرب مثالًا بخوارزمية أُطلق عليها هنا خوارزمية «الخدمة بأسبقية الوصول». ستكون خوارزمية الخدمة بأسبقية الوصول كما يلي: إن خوارزمية الخدمة بأسبقية الوصول استراتيجية مُرضية. فهي تضع كلَّ تعليمة في أقرب مجموعة متوازية ممكنة بحيث تظهر أيضًا التعليمات اللاحقة المعتمدة على البيانات في أبكر مرحلة ممكنة في التدفق المتوازي. ويكون معيار الإرضاء: «افحص كلَّ تعليمة بالنسبة إلى سابقاتها وتجاهل ما يليها». وفي هذا المثال بالتحديد، تُخرِج خوارزمية الخدمة بأسبقية الوصول نتيجةً مثلى (أقصر تسلسل ممكن من المجموعات المتوازية). لكن قد يكون هناك تدفقات مدخلات أخرى تُنتج لها خوارزمية الخدمة بأسبقية الوصول مجموعات متوازية لا ترقى إلى المستوى الأمثل. ومدى الاختلاف بينهما مسألة تجريبية. فلا بد من تنفيذ الخوارزميات في صورة برامج قابلة للتنفيذ، وإجراء التجارب على بيانات اختبارية متنوعة، ودراسة المخرجات، والتحقق من نقاط القوة ونقاط الضعف بناءً على التجارب. إذن، تنطوي الحوسبة الاستدلالية على إجراء التجارب. مجال الذكاء الاصطناعي مجال شاسع، ويوجد في واقع الأمر أكثرُ من «نموذج فكري» يفضِّله باحثو الذكاء الاصطناعي. (أستخدم كلمة «نموذج» بالمعنى الذي يستخدمه فيلسوف العلم توماس كون.) ولكن كي نزيد من إيضاح نطاق الحوسبة الاستدلالية وقدراتها في هذا المقام، فلن أتناول غير «نموذج البحث الاستدلالي» في الذكاء الاصطناعي. يقصد نيويل وسايمون ﺑ «نظام الرموز المادية» الأنظمةَ التي تعالج البنيات الرمزية وترتكز رغم ذلك على أساسٍ مادي — ما أسميته الأدوات الحوسبية المادية والحدية، غير أنها تتضمن الكائنات الطبيعية والاصطناعية تحت مظلتها على حد سواء. لكن وبما أن فضاء المسألة يمكن أن يكون كبيرًا للغاية، فإن البحث فيه لا يكون عشوائيًّا. بل يستخدم الكيان الأساليبَ الاستدلالية للتحكم في مقدار البحث، واستبعاد أجزاء من فضاء البحث على أنها غير ضرورية، ومن ثَم الوصول إلى الحل في أسرع وقت ممكن. إذن يكون صميم نموذج البحث الاستدلالي هو الأساليب الاستدلالية المتضمَّنة في فضاء المعرفة. قد تتراوح هذه الأساليب ما بين العامة جدًّا — بمعنى قابليتها لأن تنطبق على مجموعة كبيرة من مجالات المسائل — إلى الخاصة جدًّا — بمعنى أنها ذات صلة بمجالات مسائل معينة. يطلق على النوع الأول «الطرق الضعيفة»، ويطلق على النوع الثاني «الطرق القوية». وبوجه عام، عندما يكون مجال المسألة مفهومًا فهمًا رديئًا، تكون الطرق الضعيفة واعدة أكثر؛ وعندما يكون مجال المسألة معروفًا أو مفهومًا بمزيد من التفصيل، تكون الطرق القوية مناسبة أكثر. بفرض وجود مسألة لها حالة حالية وحالة هدف، حدِّد الفرق بينهما. بعد ذلك اختزل الفرق عن طريق تطبيق «عامل» ذي صلة. لكن إذا لم يُستوفَ الشرط المسبق الضروري لتطبيق العامل، اختزل الفرق بين الحالة الحالية والشرط المسبق عن طريق تطبيق تحليل الوسائل والغايات على الحالة الحالية والشرط المسبق على نحو ذاتي الاستدعاء. يرجى العلم أن استراتيجية تحليل الوسائل والغايات استراتيجيةٌ ذاتية الاستدعاء (ارجع إلى الفصل الثالث). إذن، ما وجه «الاستدلال» فيها؟ النقطة هنا هي أنه لا يوجد ما يضمن أن تنتهيَ استراتيجيةُ تحليل الوسائل والغايات بنجاح في مجال مسائل معين. على سبيل المثال، في ضوء حالة حالية وحالة هدف معينين، يمكن تطبيق عدة إجراءات لتقليص الفرق. وربما يحدد الإجراء الذي يقع عليه الاختيار الفرق بين النجاح والفشل. في هذا الموقف، ربما يجب توجيه اختيار الإجراء المراد بأسلوب استدلالي ذي مستوًى أعلى (مثل اختيار أول قاعدة مطابقة). قد يتبيَّن أن هذا الاختيار كان خاطئًا كما سندرك لاحقًا في العملية الحوسبية، وفي هذه الحالة يجب أن «يرجع» النظام إلى حالة سابقة ويستكشف قاعدة أخرى. بعيدًا عن عدم اليقين المصاحب لنموذج البحث الاستدلالي، فإن الفارق الكبير الآخر بين الخوارزميات (الدقيقة أو الاستدلالية) هو (كما ذكرنا من قبل) أن كل المعرفة اللازمة لتنفيذ الخوارزميات مدمجة في الخوارزمية نفسها. لكن في المقابل في نموذج البحث الاستدلالي، تقع المعرفة كلها تقريبًا في فضاء المعرفة (أو الذاكرة الطويلة الأجل). ويكمُن معظم تعقيد نموذج البحث الاستدلالي فيما يتمتع به فضاء المعرفة من ثراء.
سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع». سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع».
https://www.hindawi.org/books/13726364/
علم الكمبيوتر: مقدمة قصيرة جدًّا
سوبراتا داسجوبتا
لا يَخفى على أحدٍ النموُّ المذهل الذي شَهِدته التكنولوجيات المرتبطة بالكمبيوتر على مَدار الستين عامًا الماضية. غير أن العلمَ الذي تقوم عليه هذه التقنياتُ أقلُّ شهرةً وانتشارًا خارج الأوساط المهنية القائمة على تطويره. وباعتبار علم الكمبيوتر مجالًا علميًّا، فإنه يصطفُّ إلى جانبِ علومٍ أخرى مشابهة، مثل علم الأحياء الجزيئي والعلوم الإدراكية، بوصفه أحدَ أهم العلوم الحديثة التي ظهرَت بعد حِقبة الحرب العالمية الثانية.وفي هذا الكتاب من سلسلة «مقدمة قصيرة جدًّا»، يُلقي «سوبراتا داسجوبتا» الضوءَ على هذه المجالات الأقلِّ شهرةً بين الناس، ويتناول الأساسَ المفاهيمي لعلم الكمبيوتر؛ فبعد أن يتناول موضوعاتٍ مثل الخوارزميات والبرمجة والمعالَجة التسلسُلية والمتوازية، يستعرض الأفكار الناشئة الحديثة مثل الحَوسَبة البيولوجية والنَّمذَجة المعرفية.
https://www.hindawi.org/books/13726364/7/
التفكير الحوسبي
تتسم معظم العلوم في العصر الحديث — ولنقل بعد الحرب العالمية الثانية — بقدرٍ عالٍ من التخصص، بل الحصرية، بحيث يظل فهمُها المتعمق قاصرًا بدرجة كبيرة على المتخصصين في المجال، ونقصد بهم أوساطَ الممارسين لتلك العلوم. انظر على سبيل المثال إلى الفيزياء الحديثة المعنية بالجسيمات الأساسية. يُكشف عن تأثيرات تلك العلوم لعموم الناس في أفضل الأحوال وعندما يكون ذلك مناسبًا من خلال عواقبها وآثارها التكنولوجية. لكن يوجد بعض العلوم التي تمس خيال غير المتخصصين بفعل الطبيعة الجذابة لأفكارها المحورية. ومن الأمثلة على ذلك في مجال العلوم الطبيعية نظرية التطور. فقد امتدَّت أذرع تأثير تلك النظرية إلى علم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد وحتى علم الكمبيوتر، وهي مجالات فكرية لا علاقة لها بالجينات أو الانتقاء الطبيعي. ومن بين العلوم الاصطناعية، يُظهِر علم الكمبيوتر سمةً مشابهة لذلك. وأنا لا أشير إلى الأدوات التكنولوجية الواسعة الانتشار التي غزت العالم الاجتماعي. بل أشير إلى ظهور «عقلية» معينة. عبَّر أحد رواد الذكاء الاصطناعي، وهو سيمور بابيرت، عن هذه العقلية — أو على الأقل بشائر ظهورها — بأسلوب حماسي وبليغ في كتاب من تأليفه بعنوان «العواصف الذهنية» (١٩٨٠). أعلن بابيرت أن هدفه من هذا الكتاب أن يناقش ويذكر كيف أن الكمبيوتر يمكن أن يوفِّر للإنسان طرقًا جديدة للتعلم والتفكير، ليس باعتباره أداةً عملية ومفيدة فحسب، بل بطرق جوهرية ومفاهيمية أكثر. وستتيح هذه التأثيرات أنماطًا للتفكير حتى عندما لا يكون الشخص المفكِّر على اتصال مباشر مع الجهاز المادي. وفي رأي بابيرت، يبشر الكمبيوتر بأنه سيكون بمثابة «ناقل محتمل للأفكار العظيمة وبذور التغيير الثقافي». وقد وعد بأن يتناول كتابه كيف يمكن للكمبيوتر أن يساعد البشرَ مساعدةً مثمرة في تجاوز الحدود التقليدية التي تفصِل بين المعرفة الموضوعية والمعرفة الذاتية، وبين الإنسانيات والعلوم. ما تناوله بابيرت كان رؤية — ربما كانت مثالية — تجاوزت التأثيرَ المادي البحت لأجهزة الكمبيوتر والحوسبة في شئون العالم. وقد ظهرت هذه الرؤية الأخيرة منذ بدايات الحوسبة التلقائية التي نشأت في عصر تشارلز بابيج وآدا كونتيسة لوفليس في أواسط القرن التاسع عشر. بل إن رؤية بابيرت كانت تلقينًا لعقليةٍ ستوجِّه وتشكِّل وتؤثِّر في طرق تفكير الشخص في أوجه العالم وإدراكه واستجابته لها — سواء عالَم المرء الداخلي أو العالَم الخارجي — التي تبدو للوهلة الأولى أنها لا علاقة لها بالحوسبة، ربما من حيث القياس أو الاستعارة أو الخيال. وبعد ما يزيد على ربع قرن من صدور كتاب بابيرت، منحت عالِمة الكمبيوتر جانيت وينج اسمًا لهذه العقلية وهو «التفكير الحوسبي». لكن ربما كانت رؤية وينج واقعيةً أكثر من رؤية بابيرت. ففي عام ٢٠٠٨، كتبت تقول إن التفكير الحوسبي ينطوي على مناهجَ لأنشطة مثل حل المسائل والتصميم وإدراك السلوك الذكي الذي يعتمد على المفاهيم الأساسية للحوسبة. لكن لا يمكن أن يكون التفكير الحوسبي جزيرةً قائمةً بذاتها. ففي مجال حل المسائل، سيكون أقرب إلى التفكير الرياضي؛ وفي مجال التصميم، سيتشارك سمات مع العقلية الهندسية؛ وفي فهم الأنظمة الذكية (بما فيها العقل بالطبع)، فقد يجد أرضًا مشتركة مع التفكير العلمي. ومثل بابيرت، فصلت وينج بين عقلية التفكير الحوسبي عن الكمبيوتر المادي ذاته؛ أي إن المرء بإمكانه التفكير حوسبيًّا من دون وجود الكمبيوتر. قد يكون هناك تفسيراتٌ أدق، ولكن هذه التفسيرات من حيث التفاعل والتنفيذ/المحاكاة كافية لتوضيح النطاق العام للتفكير الحوسبي. أوضحُ تأثيرٍ يمكن أن تحدِثه الحوسبة في الإنسان هو أن تكون مصدرًا للمهارات الذهنية؛ أي تكون مجموعة من أدوات التحليل وحل المسائل التي يمكن أن يطبِّقها الإنسان في سياق حياته بغض النظر عن وجود أجهزة الكمبيوتر الفعلية من عدمه. هذا ما كانت تقصده جانيت وينج. تحديدًا، إنها اتخذت التجريد باعتباره «الجوهر» — الأساس — للتفكير الحوسبي. لكن بما أن التجريد دون شك مفهوم حوسبي أساسي (كما رأينا بين صفحات هذا الكتاب)، فإن علم الكمبيوتر يقدِّم الكثير من الأفكار والمفاهيم التي يمكن أن يستوعبها الإنسان ويدمجها في مجموعة أدوات التفكير لديه. أقصد بذلك الطرق الاستدلالية، سواء الضعيفة أو القوية؛ وفكرة الوصول لحلٍّ مُرضٍ بدلًا من التحسين باعتباره غايةً واقعية لعملية اتخاذ القرار؛ والتفكير بطريقة خوارزمية وفهم متى يكون هذا المسار مناسبًا لحل المسألة، وهل هو مناسب أم لا؛ وشروط ومعمارية المعالجة المتوازية باعتبارها وسيلةً للتعامل مع المساعي المتعددة المهام؛ وأسلوب حل المسائل بطريقة «تنازلية» (بحيث نبدأ بالهدف والحالة الأولية للمسألة، ثم نقسم الهدف إلى أهداف فرعية أبسط، ونقسم الأهداف الفرعية إلى المزيد من الأهداف الفرعية الأبسط، وهكذا دواليك)، أو بطريقة «تصاعدية» (بحيث نبدأ بالهدف وأدنى لبنات بنائه في المستوى، ثم ننشئ حلًّا بتنظيم لبنات البناء لصناعةِ لبناتِ بناءٍ أكبرَ، وهكذا). لكن المهم هو أن اكتساب أدوات التفكير هذه يتطلب مستوًى معينًا من إتقان مفاهيم علم الكمبيوتر. ومن وجهة نظر وينج، ينطوي هذا على إدخال التفكير الحوسبي ضمن المناهج التعليمية منذ المراحل الأولى. لكن التفكير الحوسبي ينطوي على ما هو أكثر من المهارات التحليلية وتلك الخاصة بحل المسائل. فهو يشمل طريقةً «للتخيل»، عن طريق رؤية التشابهات وصياغة الاستعارات. هذا المزيج من المهارات التقنية والخيال هو ما كان يفكِّر فيه بابيرت — على ما أعتقد — والذي يوفِّر الثراء الكامل لعقلية التفكير الحوسبي. سنتناول الآن بعضَ مجالات البحث الفكري والعلمي التي أثبتت هذه العقلية فاعليتها فيها. أحد أقوى مظاهر هذه العقلية بالتأكيد — وإن كان مثيرًا للجدل — هو التفكير في التفكير: بمعنى تأثير علم الكمبيوتر في علم النفس المعرفي. بطرح سؤال تورنج الشهير — هل بإمكان أجهزة الكمبيوتر التفكير (الذي هو أساس الذكاء الاصطناعي)؟ — بنحو عكسي، يدرُس علماء علم النفس المعرفي السؤال التالي: هل التفكير عملية حوسبية؟ يعود تاريخ تمثيل أو نمذجة البنية العصبية للدماغ باعتبارها نظامًا حوسبيًّا، وكذلك اعتبار الأدوات الحوسبية شبكاتٍ من الكيانات ذات مستوى تجريدٍ عالٍ وتشبه الخلايا العصبية إلى العمل الرائد لعالِم الرياضيات وران بيتس وعالِم الفسيولوجيا العصبية وارن مكولوك، والعالِم النابض بالحيوية جون فون نيومان في أربعينيات القرن العشرين. وعلى مدار الستين سنة التالية، تطوَّر نموذج علمي يسمى «الترابطية». في هذا النهج، يعبَّر عن عقلية التفكير الحوسبي على نحوٍ أكثر تحديدًا من خلال تصميم شبكات ذات درجة ترابط عالية فيما بينها (ومن هنا ظهر مصطلح «الترابطية») تتكوَّن من عناصر حوسبية بسيطة للغاية تعمل جميعها لنمذجة سلوك العمليات الأساسية للدماغ، التي هي عبارة عن لبنات بناء في عمليات معرفية ذات مستوًى أعلى (مثل رصد الدلائل أو التعرُّف على الأنماط في العمليات البصرية). وتقع المعماريات الترابطية للدماغ عند مستوى تجريد أقل من المعماريات المعرفية القائمة على معالجة الرموز التي ذكرناها في القسم السابق. معماريات العقل المعرفية القائمة على معالجة الرموز ونماذج الدماغ الترابطية، هما من الطرق التي أثَّرت بها الأدوات الحوسبية ومبادئ علم الكمبيوتر في تشكيل وظهور مجال العلوم المعرفية المتعدد التخصصات والجديد نسبيًّا. وقد وجب التنويه إلى أن علماء العلوم المعرفية لم يتخذوا كلهم — مثل عالِم النفس جيروم برونر — الحوسبة باعتبارها عنصرًا جوهريًّا في المعرفة. وعلى الرغم من ذلك، فإن فكرة فهْم أنشطة مثل التفكير والتذكر، والتخطيط وحل المشكلات واتخاذ القرار والإدراك، وصياغة المفاهيم والفهم عن طريق إنشاء نماذج حوسبية ووضع فرضيات قائمة على الحوسبة تُعدُّ فكرة فاتنة؛ ولا سيما أن رؤية علم الكمبيوتر باعتباره علمَ المعالجة التلقائية للرموز شكَّلت «حافزًا» قويًّا في ظهور العلوم المعرفية نفسها. ويقوم جوهر تأريخ مارجريت بودن للعلوم المعرفية — المذكور في القسم السابق — على تطوير الحوسبة التلقائية. الموضوع الجذاب للإبداع — بدايةً من النوع الاستثنائي والأصيل تاريخيًّا وحتى الصنف الشخصي اليومي — موضوعٌ متشعب استقطب اهتمامًا مهنيًّا من علماء النفس والمحللين النفسيين والفلاسفة والتربويين وعلماء الجمال والمنظرين الفنيين ومنظري التصميم والمؤرخين الفكريين وكتَّاب السير الذاتية؛ فضلًا عن المبدعين أنفسهم الأكثر استبطانًا لذواتهم (العلماء والمخترعين والشعراء والكُتاب والموسيقيين والفنانين وغيرهم). إن نطاق مناهج الإبداع ونماذجه ونظرياته كبيرٌ للغاية، ومن أهم الأسباب في ذلك التعريفات العديدة له. لكن على الأقل لجأت جماعةٌ واحدة من الباحثين في الإبداع إلى التفكير الحوسبي باعتباره «طريقة عمل». اقترح هؤلاء نظرياتٍ ونماذجَ حوسبية لعملية الإبداع تعتمد اعتمادًا كبيرًا على مبادئ الحوسبة الاستدلالية، وعلى تمثيل المعرفة في صورة بنيات رمزية معقَّدة (تسمَّى مخططات)، وتعتمد كذلك على مبادئ التجريد. هنا أيضًا نجد التأثير الدامغ للتفكير الحوسبي؛ حيث مهَّد أرضًا مشتركة لتحليل الإبداع العلمي والتكنولوجي والفني والأدبي والموسيقي: أي، تزاوج العديد من الثقافات كما كان بابيرت يأمُل. على سبيل المثال، طبَّق الباحث الأدبي مارك تورنر المبادئَ الحوسبية على مسألة فهم عملية التأليف الأدبي، تمامًا كما سعى فيلسوف العلم وعالِم العلوم المعرفية بول ثايجارد إلى تفسير الثورات العلمية باستخدام النماذج الحوسبية، وصاغ مؤلِّف الكتاب الذي بين أيديكم — الذي هو عالِم كمبيوتر وباحث في مجال الإبداع — تفسيرًا حوسبيًّا لتصميم وابتكار الأفكار والأدوات التكنولوجية في العلوم الاصطناعية. لقد كانت عقلية التفكير الحوسبي بمثابة الغراء الذي يربط بين هذه الثقافات الفكرية والإبداعية المختلفة في ثقافة واحدة. وفي العديد من هذه الدراسات الحوسبية الخاصة بالإبداع، قدَّم علم الكمبيوتر دقةً في التفكير للتعبير عن المفاهيم المتعلقة بالإبداع التي كانت غائبة من قبل. لنضرب مثالًا، اعتبر الكاتب آرثر كيستلر في كتابه البالغ الأهمية «عمليةَ الإبداع» (١٩٦٤) عملية تسمَّى «الارتباط الثنائي» بمنزلة آليةٍ تتأثَّر بها الأعمال الإبداعية. يقصد كيستلر بمصطلح الارتباط الثنائي الجمع بين مفهومين غير مترابطين أو أكثر ودمجهما، ما يؤدي إلى منتجٍ أصلي. ومع ذلك، ظلَّت الطريقةُ الدقيقة التي يحدُث بها الارتباط الثنائي مبهمة. وقد قدَّم التفكير الحوسبي لبعض الباحثين في مجال الإبداع (مثل مارك تورنر وهذا الكاتب) تفسيراتٍ لارتباطات ثنائية معينة باللغة الدقيقة لعلم الكمبيوتر. لقد اكتشف جيمس واتسون، وفرانسيس كريك، بنيةَ جزيء الحمض النووي عام ١٩٥٣. وعلى إثر ذلك، بدأ علم الأحياء الجزيئي. ومن بين ما يهتم به هذا العلم فهْم واكتشاف آليات كآليات تضاعف الحمض النووي ونسخ جزء من الحمض النووي إلى الحمض النووي الريبوزي، وترجمة الحمض النووي الريبوزي إلى بروتين — وهذه من العمليات البيولوجية الأساسية. ومن هنا، دخلت إلى الوعي الأحيائي فكرةُ تصوير الجزيئات بأنها ناقلات معلومات. فبدأ منظِّرو علم الأحياء المتأثرون بالأفكار الحوسبية في نمذجة العمليات الوراثية من منظورٍ حوسبي (والذي أدَّى مصادفةً إلى ابتكار خوارزميات بناءً على مفاهيمَ وراثية). ومن ثَم شكَّل التفكير الحوسبي ما كان يسمَّى «معالجة المعلومات الأحيائية» أو ما يُسمى باللغة المعاصرة «المعلوماتية الأحيائية».
سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع». سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع».
https://www.hindawi.org/books/13726364/
علم الكمبيوتر: مقدمة قصيرة جدًّا
سوبراتا داسجوبتا
لا يَخفى على أحدٍ النموُّ المذهل الذي شَهِدته التكنولوجيات المرتبطة بالكمبيوتر على مَدار الستين عامًا الماضية. غير أن العلمَ الذي تقوم عليه هذه التقنياتُ أقلُّ شهرةً وانتشارًا خارج الأوساط المهنية القائمة على تطويره. وباعتبار علم الكمبيوتر مجالًا علميًّا، فإنه يصطفُّ إلى جانبِ علومٍ أخرى مشابهة، مثل علم الأحياء الجزيئي والعلوم الإدراكية، بوصفه أحدَ أهم العلوم الحديثة التي ظهرَت بعد حِقبة الحرب العالمية الثانية.وفي هذا الكتاب من سلسلة «مقدمة قصيرة جدًّا»، يُلقي «سوبراتا داسجوبتا» الضوءَ على هذه المجالات الأقلِّ شهرةً بين الناس، ويتناول الأساسَ المفاهيمي لعلم الكمبيوتر؛ فبعد أن يتناول موضوعاتٍ مثل الخوارزميات والبرمجة والمعالَجة التسلسُلية والمتوازية، يستعرض الأفكار الناشئة الحديثة مثل الحَوسَبة البيولوجية والنَّمذَجة المعرفية.
https://www.hindawi.org/books/13726364/0.4/
الخاتمة: هل يندرج علم الكمبيوتر ضمن العلوم الشاملة؟
عبْر هذا الكتاب، كانت الفرضية المطروحة هي أن علم الكمبيوتر يندرج ضمن العلوم الاصطناعية؛ ذلك أنه يرتكز على أدوات معالجة رمزية (أو حوسبية)، وأنه من العلوم التي تهتم بالكيفية التي من المفترض أن تكون عليها الأشياء وليس بتلك التي هي عليها بالفعل، وأنه يجب أخذُ أهداف منشئي الأدوات الحوسبية (مصمِّمي الخوارزميات، والمبرمجين، ومهندسي البرمجيات، واختصاصيي معمارية الكمبيوتر، واختصاصيي نُظم المعلومات) في الاعتبار عند فهْم طبيعة هذا العلم. في كل هذه النواحي، الفرق بينه وبين العلوم الطبيعية واضح. لكن رأينا في الفصل الأخير أن التفكير الحوسبي يعمل بمثابة جسرٍ بين عالم الأدوات الحوسبية والعالم الطبيعي، وعلى وجه التحديد، عالم الجزيئات الأحيائية والإدراك البشري والعمليات العصبية. إذن، أيمكن ألَّا توفِّر الحوسبةُ عقليةً فقط، وإنما تشمل أيضًا — بشكل أكثرَ دهاءً — ظاهرةَ العالمين الطبيعي والاصطناعي؟ وأن علم الكمبيوتر يندرج ضمن العلوم «الشاملة»؟ في السنوات الأخيرة، فكَّر بعض علماء الكمبيوتر في هذا الاتجاه تحديدًا. وعليه حاجج بيتر دينينج بأنه ما عاد ينبغي النظر إلى الحوسبة باعتبارها علمًا اصطناعيًّا؛ حيث إن عمليات معالجة المعلومات توجد بغزارة في الطبيعة. وقد أكَّد دينينج وعالم كمبيوتر آخر وهو بيتر فريمان أنه في العقود القليلة الماضية تحوَّل تركيز الانتباه (الخاص ببعض علماء الكمبيوتر) من الأدوات الحوسبية إلى عمليات معالجة المعلومات في حد ذاتها — بما في ذلك عمليات معالجة المعلومات الطبيعية. وفي اتفاق واسع النطاق من جانبه مع سنودجراس، ورغبةً منه أيضًا في تجنُّب ابتكار ألفاظ جديدة، ضمَّ بول روزنبلوم «علوم» الكمبيوتر إلى جانب العلوم الفيزيائية والحياتية والاجتماعية وقال بأنها «رابع المجالات العلمية العظيمة». تفرُّد علم الكمبيوتر باعتباره نموذجًا معرفيًّا قائمًا بذاته كان موضوعًا ثابتًا في هذا الكتاب، ومن ثَم تتوافق أطروحة روزنبلوم وتناوُل الكتاب. السؤال هو ما إذا كان ينبغي التمييز بين دراسة عمليات «معالجة المعلومات الطبيعية» وعمليات «المعالجة الرمزية الاصطناعية». هنا، يبدو أن الفرق بين المعلومات والرموز له مسوِّغاته. في المجالات الطبيعية، لا تمثل الكيانات شيئًا غير نفسها. فالكيانات، كالخلايا العصبية أو النوكليوتيدات التي هي لبنة بناء الحمض النووي، أو الأحماض الأمينية التي تشكِّل البروتينات، لا تمثل أي شيء غير نفسها. ومن ثَم، أجد أنه من الصعب الإشارة إلى عمليات معالجة الحمض النووي على أنها عمليات معالجة «رمزية»، على الرغم من أن الإشارة إلى هذه الكيانات على أنها ناقلات للمعلومات غير المرجعية تبدو صحيحة. من المنظور الوجودي، أعتقد أنه ينبغي التمييز بين علم الكمبيوتر باعتباره علمًا اصطناعيًّا وعلم الكمبيوتر باعتباره علمًا طبيعيًّا. ففي الأول، الوساطة البشرية (في شكل الأهداف والغاية، والوصول إلى المعرفة، وإحداث تأثير) جزءٌ من العلم. أما في الثاني، فلا يخفى على أحد غيابُ هذه الوساطة. فالنموذجان المعرفيان مختلفان جوهريًّا بعضهما عن بعض. مهما كان الأمر وبغض النظر عن أي اختلاف وجودي محتمَل مثل هذا، فإن ما قدَّمه لنا علم الكمبيوتر — كما حاونا التوضيح في الفصول السابقة — هو طريقة مميزة بنحو ملحوظ لإدراك مجموعة هائلة للغاية من المسائل — تندرج تحت مجالات طبيعية واجتماعية وثقافية وتكنولوجية واقتصادية — والتفكير فيها وحلها. هذا بالتأكيد هو إسهامه العلمي الأكثر «أصالة» في العالم الحديث.
سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع». سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع».
https://www.hindawi.org/books/13726364/
علم الكمبيوتر: مقدمة قصيرة جدًّا
سوبراتا داسجوبتا
لا يَخفى على أحدٍ النموُّ المذهل الذي شَهِدته التكنولوجيات المرتبطة بالكمبيوتر على مَدار الستين عامًا الماضية. غير أن العلمَ الذي تقوم عليه هذه التقنياتُ أقلُّ شهرةً وانتشارًا خارج الأوساط المهنية القائمة على تطويره. وباعتبار علم الكمبيوتر مجالًا علميًّا، فإنه يصطفُّ إلى جانبِ علومٍ أخرى مشابهة، مثل علم الأحياء الجزيئي والعلوم الإدراكية، بوصفه أحدَ أهم العلوم الحديثة التي ظهرَت بعد حِقبة الحرب العالمية الثانية.وفي هذا الكتاب من سلسلة «مقدمة قصيرة جدًّا»، يُلقي «سوبراتا داسجوبتا» الضوءَ على هذه المجالات الأقلِّ شهرةً بين الناس، ويتناول الأساسَ المفاهيمي لعلم الكمبيوتر؛ فبعد أن يتناول موضوعاتٍ مثل الخوارزميات والبرمجة والمعالَجة التسلسُلية والمتوازية، يستعرض الأفكار الناشئة الحديثة مثل الحَوسَبة البيولوجية والنَّمذَجة المعرفية.
https://www.hindawi.org/books/13726364/0.5/
قراءات إضافية
قد يرغب القارئ في دراسة الموضوعات التي تناولتها مختلف فصول الكتاب بمزيد من التعمُّق. وفيما يلي قائمة تضم مجموعة من الأعمال الكلاسيكية والمؤثرة تاريخيًّا (التي لا تزال مقروءة بصورة بارزة)، وكذلك مجموعة من النصوص الأحدث عهدًا؛ وهي مجموعة من المقالات والأعمال التاريخية المخصَّصة لقطاع عريض من القراء، وكذلك مقالات متخصصة أكثر إلى حدٍّ ما.
سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع». سوبراتا داسجوبتا: يشغل حاليًّا منصبَ أستاذ فخري بكلية الحَوسَبة والمعلوماتية بجامعة لويزيانا في لافاييت، وقد شغل منصبَ باحثٍ زائر في عِدَّة جامعات، منها جامعتا أكسفورد وكامبريدج. ألَّف العديدَ من الكتب في مجال التكنولوجيا والعلوم والإبداع، من بينها «مقارَبة تاريخية معرفية للإبداع».
https://www.hindawi.org/books/63795973/
ذبابة ثمار الزيتون
مأمون عبد اللطيف الرحال
«مُدة حياتي كذُبابةٍ كاملة تستمرُّ أربعين يومًا، أضَعُ خلالها أكثرَ من ٢٥٠ بيضة، أغرزها في ثمار الزيتون ذات الحجم الكبير بواسطةِ آلةِ وضعِ البيض.»لا يُحبُّني المزارِعون؛ ولذا يُحاولون قتلي والقضاء عليَّ بكل الطرق. تعالَ معي لكي تَعرف لماذا لا يحبونني، وكيف يقضون عليَّ!
https://www.hindawi.org/books/63795973/1/
ذبابة ثمار الزيتون
أتواجد حيث تتواجد أشجار الزيتون، وخاصةً تلك الأصناف الباكورية كبيرة الحبة. أحببت ثمارها حُبًّا جمًّا؛ فهي موطني الذي نشأت فيه، وتغذَّيت عليه، وخرجت منه. أُشبه كثيرًا الذبابة المنزلية إلا أنني أصغر حجمًا؛ فطولي لا يتجاوز ٥ ملليمترات، أمَّا لوني فهو كستنائي أصفر، وأجنحتي شفافة ذات بقعة سوداء على زاويتها الخارجية. مُدة حياتي كذُبابة كاملة تستمر أربعين يومًا، أضع خلالها أكثر من ٢٥٠ بيضة، أغرزها في ثمار الزيتون ذات الحجم الكبير بواسطة آلة وضع البيض. حيث أضع بيضةً واحدة في كل حبة على عمق ملليمتر واحد تحت بشرة الثمرة في تجويف مائل. وتتشكَّل نتيجة ذلك بقعة دائرية سمراء واضحة في مكان الوخزة على سطح الثمرة، تدل على انتشار الإصابة بنا وتواجد البيوض أو اليرقات داخل الثمرة. بيوضي صغيرة بطول ٧ ملليمتر، أُسطوانية متطاولة بيضاء اللون، تنتهي من أحد أطرافها بزائدة. أُفضِّل وضع بيضة واحدة في الحبة الواحدة حتى تكون مكانًا رحبًا مريحًا ليرقتي، ولكي تؤمِّن لها غذاءً كافيًا، إلا أننا قد نواجه أحيانًا أنا وأخواتي ذبابات ثمار الزيتون مشكلةً في إسكان يرقاتنا منفردةً ضمن حبَّات الزيتون نتيجة انتشارنا بكثرة، فنُضطَر إلى وضع عدد من البيوض قد يصل عددها إلى «٦» بيوض في الحبة الواحدة؛ نتيجة أزمة السكن هذه. وعندما تفقس هذه البيوض العديدة ضمن الحبة الواحدة عن يرقات، فإن يرقاتنا هذه ستُعاني من أزمة نتيجة تنافسها على المكان والغذاء، ممَّا يُلحق بحبة الزيتون ضررًا كبيرًا نتيجة استهلاك لبِّها من قِبَل هذه اليرقات التي تتغذَّى عليه، فتفرغ الحبات وتجف وتتيبَّس، ثم تتساقط على الأرض؛ ممَّا يسبِّب نقمة المزارعين علينا نتيجة خسارة محصولهم من حبات الزيتون التي يعتمدون في غذائهم عليها وعلى ما يستخرجونه منها من زيتٍ ثمين؛ فنُصبح في نظرهم عدوًّا خطيرًا يؤرِّق مضجعهم، وكابوسًا مخيفًا لهم يهدِّد محصولهم. فيلجئون إلى التفكير في وسائل مكافحتنا التي تفنَّنوا فيها وأبدعوا وابتكروا؛ فنراهم تارةً يستخدمون المُبيدات الكيميائية، وتارةً يستخدمون المصائد الجنسية (الفرمونات) الجاذبة لذكورنا، وتارةً يستخدمون المصائد الصفراء اللزجة التي ننجذب إليها فنعلق بها، أو يقدِّمون لنا موادَّ جاذبةً مخلوطة بطعوم مسمومة. بل ويلجئون إلى تربية وإكثار أعدائنا الحيوية من الحشرات الأخرى، ويطلقونها في الحقول لتتطفَّل على يرقاتنا الصغيرة وتفتك بها، كهذه الحشرة التي ترونها: وللقضاء على أجيالي المتعذِّرة تحت أسطح التربة، يلجئون إلى فِلاحة التربة في فصل الشتاء حول الأشجار بهدف تعريض العذارى لأشعة الشمس، والهواء، والعوامل الجوية والبرد؛ فتموت. وتارةً يلجئون إلى رش أشجار الزيتون بالصلصال الأبيض (الكاولين) على شكل ضباب رقيق لتغطية الشجرة وثمارها بطبقة منه تمنعنا من الوصول إلى ثمارها. ولا يزال الإنسان يُفكِّر بالقضاء علينا نحن الذبابات المسكينة؛ حيث يعمل على تطوير منصة على شبكة الإنترنت لجمع المعلومات حول أماكن تواجدنا، والظروف الجوية السائدة في كل منطقة، والأماكن المتوقَّع ظهورنا بها، والوقت والتاريخ، وخطة الدفاع والإجراءات الواجب اتخاذها لمكافحتنا على نطاقٍ واسع في كثير من الدول المشتركة بنظام الاستشعار عن بُعد الخاص بهذه الشبكة المرتبطة بالأقمار الصناعية لمراقبتنا ورصد تحرُّكاتنا. وللحقيقة، فإن يرقاتي الصغيرة تستهلك أثناء نموِّها نسبةً كبيرة من لب الثمار؛ ممَّا يؤدِّي إلى ذبولها، وجفافها أو يباسها، وتساقط الكثير منها على الأرض قبل أوان نُضجها. أمَّا الثمار المسكونة بها، والتي كُتِب لها أن تُتابع نموَّها فهي ثمار تعطي زيتًا مرتفع الحموضة، رديء الجودة والنوعية، قليل الكمية، وغير صالحة للتصنيع نتيجة إصابتها بالفطريات. تختلف الفترة التي تحتاجها بيوضي لتفقس حسب فصول السنة، والظروف الجوية السائدة في مكان إقامتي؛ ففي الصيف تفقس البيوض بعد ٢-٣ أيام من وضعها، أمَّا في فصل الخريف فتطول الفترة لتصل إلى ١٠ أيام. تفقس بيوضي عن يرقات صغيرة بيضاء اللون، طولها ٧ ملليمتر، ما إن تخرج من البيضة حتى تبدأ بحفر نفق على السطح في البداية، ثم تتحرَّك بعد ذلك عميقًا في لُب الثمرة، وتستمر بالتغذية مؤدِّيةً إلى اتساع النفق، وتفريغ الثمرة، متابعةً نموَّها عبر ثلاث مراحل يرقية تستمر ٢-٣ أسابيع. ثم تدخل اليرقات في طَور العذراء داخل الثمرة وتحت القشرة، تمامًا بعد أن تُحدِث ثُقبًا في قشرة الثمرة يسمح لها بالخروج في شهر حزيران بعد ٦–١٥ يومًا قضتها في هذا الطَّور داخل الثمرة أو التربة. حيث تخرج حشرة كاملة تُشبهني تُطِل برأسها إلى الفضاء الخارجي للمرة الأولى. ثم تطير مُتابعةً دورة حياتها التي تمر بأربع مراحل تبدأ بالبيضة فاليرقة فالعذراء، ثم الحشرة الكاملة. عدد أجيالنا في العام أربعة، وقد تصل إلى خمسة أجيال؛ حسب الظروف الجوية المناسبة لنا، وحسب إنتاجية أشجار الزيتون من الثمار، يستمر كل جيل من ٣٥–٤٠ يومًا. يبدأ جيلنا الأول من نهاية أيار حتى منتصف حزيران، وجيلنا الثاني في تموز، يتبعه الجيل الثالث في شهر آب، ثم الجيل الرابع في شهر أيلول. وبشكل عام فإن مناطق زراعة الزيتون في حوض البحر الأبيض المتوسِّط ذات الرطوبة الجوية المرتفعة تُناسب نشاطنا، بينما ارتفاع درجات الحرارة والجفاف يحدَّان منه. في الجيل الأول والثاني تدخل يرقاتي مرحلة العذراء داخل الثمار حتى اكتمال تطوُّرها حشراتٍ كاملةً تشبهني، وتخرج من الثمار تُتابع دورة حياتها. أمَّا بقية الأجيال فيتم تعذُّرها خارج الثمار في التربة، تكون العذراء بلون بني صدئي، وبطول ٤ ملليمتر، تقضي فصل الشتاء في حالة بيات شتوي على عمق ١–٥ سنتيمتر تحت سطح التربة. وفي ربيع العام القادم في شهر أيار تخرج منها الحشرات الكاملة، ذبابات ثمار الزيتون؛ لتتغذَّى على الندوة العسلية للحشرات الأخرى، وعلى رحيق الأزهار وحبوب اللقاح، وتتابع دورة حياتها بالتزاوج ووضع البيوض في ثمار الزيتون.
مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها.  بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية.  أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية. مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها. بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية. أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية.
https://www.hindawi.org/books/31537282/
في عالم الفلسفة
أحمد فؤاد الأهواني
«الفلسفة بحر لا يُعرف له قرار. تحتاج في معرفتها إلى العلم بما قاله القدماء، وما ذكره المُحدثون، وهو شيء لا تُحيط به إلا المتون والمطوَّلات.»الفلسفة هي علمٌ غزيز مليء بالنظريات والأفكار والرُّؤى والتفسيرات. وزخرت مكتبات العالم بمئات الكتب التي أفاضت الحديث عن كافة جوانبها وتطوُّراتها عبر العصور والأزمان. وهذا الكتاب على الرغم من حجمه الصغير، فإنه يُعَد واحدًا من الكتب الفلسفية المهمة لأي قارئٍ يريد الإلمام الجيد بهذا العلم؛ فبين دفَّتَي هذا الكتاب يأخذنا «أحمد فؤاد الأهواني» في رحلةٍ سريعة لثلاثة عوالم فلسفية؛ بدايةً من عالَم الفلسفة اليونانية، مرورًا بعالَم الفلسفة الإسلامية، منتهيًا بعالَم الفلسفة الحديثة، مستعرضًا بإيجازٍ أبرز العلماء والفلاسفة في كل عالَمٍ على حِدَة، ومُتحدِّثًا بأسلوبٍ بسيط غير مُعقَّد عن العديد من النظريات والآراء الفلسفية التي لا نعرف عنها الكثير، والتي تناول بعضها وفقًا لِرُؤاه الشخصية.
https://www.hindawi.org/books/31537282/0/
كلمة المؤلِّف
الفلسفة بحر لا يُعرف له قرار. تحتاج في معرفتها إلى العلم بما قاله القدماء، وما ذكره المُحدثون، وهو شيء لا تُحيط به إلا المتون والمطوَّلات. وليس غرضنا الإحاطة الشاملة بما يُقال في الفلسفة قديمًا وحديثًا. وإنما رأيت أن أُضيف إلى الموجود في اللسان العربي فصولًا لم يلتفت إليها غيري من المؤلِّفين، فتلقي الضوء على بعض الجوانب المجهولة، أو تزيد الناس بها بيانًا. لذلك كان هذا الكتاب جَوْلةً في عالم الفلسفة، لا إحصاءً لدقائق هذا العالم الفسيح. أو هو زهرات من بستان الفلسفة، أُقدِّمها للقُرَّاء باقةً يَشُمُّون منها عبير الفكر. وبعض هذه الفصول يُعبِّر عن رأيي الخاص، وهي ثمرة تفكير متصل طويل. وقد تختلف معي في بعض الآراء التي انتهيت، وعلى الخصوص ما كان منها مبتكرًا. ولكني لا أرهب الخلاف في وجهة النظر؛ لأن استقلالك بالرأي هو الدليل على عمق النظر. ومن العسير الاتفاق في الفلسفة على رأي واحد، وهذا تاريخها يُفصح عن تباين شديد قد يذهب إلى حدِّ التناقض. والخلاف بين أفلاطون وأرسطو أشهر من أن يُذكر، حتى لقد احتاج الفارابي إلى تأليف كتاب في الجمع بين رأيَي الحكيمَين والتوفيق بينهما. والغرض الذي أرمي إليه، إلى جانب العلم بموضوعات لم يسبق معرفتها، أن أُثير اهتمام القارئ حول هذه الموضوعات، فيسعى إلى التوسُّع فيها. وممَّا يُشجِّعني على ذلك إقبال الجمهور على قراءة كتب الفلسفة، بعد أن أُحسن استقبال كتابي السابق «معاني الفلسفة». وهذا دليل على اليقظة الفكرية، والنزعة إلى التقدُّم والرُّقي.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/31537282/
في عالم الفلسفة
أحمد فؤاد الأهواني
«الفلسفة بحر لا يُعرف له قرار. تحتاج في معرفتها إلى العلم بما قاله القدماء، وما ذكره المُحدثون، وهو شيء لا تُحيط به إلا المتون والمطوَّلات.»الفلسفة هي علمٌ غزيز مليء بالنظريات والأفكار والرُّؤى والتفسيرات. وزخرت مكتبات العالم بمئات الكتب التي أفاضت الحديث عن كافة جوانبها وتطوُّراتها عبر العصور والأزمان. وهذا الكتاب على الرغم من حجمه الصغير، فإنه يُعَد واحدًا من الكتب الفلسفية المهمة لأي قارئٍ يريد الإلمام الجيد بهذا العلم؛ فبين دفَّتَي هذا الكتاب يأخذنا «أحمد فؤاد الأهواني» في رحلةٍ سريعة لثلاثة عوالم فلسفية؛ بدايةً من عالَم الفلسفة اليونانية، مرورًا بعالَم الفلسفة الإسلامية، منتهيًا بعالَم الفلسفة الحديثة، مستعرضًا بإيجازٍ أبرز العلماء والفلاسفة في كل عالَمٍ على حِدَة، ومُتحدِّثًا بأسلوبٍ بسيط غير مُعقَّد عن العديد من النظريات والآراء الفلسفية التي لا نعرف عنها الكثير، والتي تناول بعضها وفقًا لِرُؤاه الشخصية.
https://www.hindawi.org/books/31537282/1/
أورفيوس والنِّحلة الأورفية
ويعتقد أرسطو أن أورفيوس لم يكن له وجود. غير أن سائر المؤرِّخين كانوا يعتقدون أنه شخصيةٌ حقيقية، إلَّا أنه كان يعيش في أزمنة بعيدة. وأغلبهم يعتقد أنه كان يعيش قبل هوميروس بعدَّة قرون، خصَّصها بعضهم بأنها أحد عشر جيلًا قبل حرب طروادة. وقال البعض الآخر: إن أورفيوس نفسه عاش من تسعة أجيال إلى أحد عشر. ويقول هيرودوت: إن أورفيوس جاء بعد هوميروس، وبعد هزيود. ومصدر هذا الرأي في الغالب الاعتقاد بأن الأشعار الأورفية متأخِّرة عن إلياذة هوميروس. وهو عند هيرودوت يخلُف هوميروس مباشرة. والرأي السائد في العصر الحديث هو أن أورفيوس أسبق من هوميروس. أمَّا الشِّعر الأورفي فلاحقٌ لهوميروس وهزيود، وأنه يرجع إلى القرن السادس قبل الميلاد. ونسبه إلهي؛ فأُمُّه إلهة الشِّعر كاليوب، وهي المتربِّعة على عرش الشِّعر الغنائي. ولسنا نعرف عن حياته إلَّا ما تذكره الأساطير. ويُصوِّره أبولونيوس روديوس (٢٤٠ قبل الميلاد) في قصيدته الغنائية مغنيًا دينيًّا. ونجده في القرن الرابع بعد الميلاد مغنيًا في قصيدة لشاعر مجهول، وكذلك في كتابات أورفية أخرى. وصاغ الرومان هذه القصة على نسق ما وجده في الإسكندرية. وفحوى القصة نزول أورفيوس، حيث يُشجي الآلهة في العالم السفلي بموسيقاه، ثم إطلاق سراح زوجته، وعدم الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه ألَّا ينظر إليها حتى يصعدا إلى السماء. وأكبر الظن أن هذه الخرافة التي تُحدِّثنا عن النظر إلى الخلف خُرافة قديمة، ممَّا يدل على قِدَم القصة نفسها. وبهذه الطريقة تيسَّر لأورفيوس أن يطَّلع اطِّلاعًا مباشرًا على ما يجري في العالم السفلي، وأن ينقُل هذه المعرفة إلى أتباعه. وبعد أن فقد زوجته أوريديس عاش أعزب. وتروي الأقاصيص المتأخِّرة أنه أصبح يُفضِّل بعد ذلك صُحْبة الرجال. ويختلفون في قصة وفاته. يقول بعضهم إنه انتحر، كما ذكر بوزانياس ولو أنه لا يُصدِّق الرواية. ويقول البعض الآخر إنه مات ضحية الرعد. ويذهب البعض إلى أن انتشار حملة الفلاسفة على المشبِّهة كان سببًا في عقاب أورفيوس؛ إذ تناول الآلهة بحديث سوء. ودُفن في ديون من أعمال مقدونيا. ورأى بوزانياس قبره المزعوم. ويذهب المتأخِّرون من المؤرِّخين إلى أن رأسه انتقل في نهر إيبروس إلى لِسبوس، حيث دُفن هناك. ••• يُنسب أورفيوس إلى آلهة الشِّعر؛ فأُمُّه كاليوب إلهة الشِّعر الغنائي وأبوه أبولون. وكان مبشِّرًا بدين ديونيسوس. وكانوا يَعُدُّونه في الزمن القديم مغنيًا صاحبَ صوت جميل، تنقاد إلى أنغامه وموسيقاه جميع الكائنات، كأنها واقعةٌ تحت تأثير السحر، ويستطيعُ أن يستأنسَ الوحوش الضارية في هذا العالم، والقوى المخيفة في العالم الآخر. وهو كذلك المعلِّم والنبي الذي يكشف الأسرار ويُفسِّرها؛ مثل أصل الآلهة وطبيعتها، والطريق الصحيح الموصل إليها، والسلوك الذي يجب على الناس اتِّباعه في الدنيا والآخرة، والقواعد التي تجري عليها النفس لتبلغ مقرَّها الصحيح. كانت تعاليمه مزيجًا من التعاليم الآسيوية والإغريقية. موسيقاه سحرية في تأثيرها، وكان كغيره من سَحَرة الشرق يُعلِّم تلاميذه تعاويذَ ورقًى تقيهم الشر والسوء. ويظن بعض المؤرِّخين أن قصة مقتله على أيدي الميناديات تُبيِّن مقدار ما كان يُقاسيه من معارضة المظاهر المتطرِّفة في ديانة الخمر. وقَبِل الإغريقُ التأليف الذي أحدثه، فوفَّق بين أبولون وديونيسوس، بين الشِّعر والخمر، كما نجد في دلفي. غير أن تعاليمه المعقَّدة من الوجهة النظرية، والتي كانت تحتاج إلى مجهود عظيم في تأديتها من الوجهة العملية، لم تظفر إلَّا بعدد قليل من الأتباع، سمَّوا أنفسهم الأورفيين، وهم شِيعةٌ اتخذوا ديونيسوس إلهًا عبدوه على طريقتهم الخاصة، واتخذوا نقباءَ يقومون برسوم الطهارة لمن يُريد ذلك. وبقي نفوذ هؤلاء النقباء موجودًا حتى القرن الرابع قبل الميلاد؛ فنحن نجد ثاوفراسطس، زعيم مدرسة المشَّائين بعد أرسطو، يُرسل إليهم «الرجل المتطيِّر» هو وزوجته وأبناءه مرةً كل شهر. وكان اعتماد هؤلاء النقباء على كتب مقدَّسة تُعَد إنجيل النِّحلة الأورفية. ••• وتختلف الأساطير الدينية والأغاني الشعبية في تصوير هذا المذهب، ولا نُحب أن نقف عند كل أسطورة، وإنما نستخلص من هذه الروايات ما ذكرته هذه النِّحلة خاصًّا بأصل العالم، وخلق الكون، وحقيقة الإنسان. في المبدأ كان الزمان، وهو المبدأ الأول. وكان الزمان وحشًا مخيفًا في صورة ثعبان له رءوس ثلاثة: رأس ثور، ورأس أسد، ووجه إله بينهما. وكان يُسمَّى أيضًا هرقل. وفي رواية أُخرى أن البيضة انفلقت نصفَين فصار أحدهما السماء، والآخر الأرض. وفي رواية ثالثة أن القشرة ذهبت فأصبحت قبة السماء، واتحد الأثير مكان الغرقى. أمَّا المُحُّ الذي يُمثِّل الخصب فهو السحاب. ونحن نجد بين هذه الأسطورة التي تُصوِّر بدء الخلق، وأساطير قدماء المصريين شبَهًا عظيمًا. وتطفو جزيرة على وجه الماء وعلى قِمَّتها بيضة. ونرجع إلى أسطورة النِّحلة الأورفية. فانس أو النور هو أول ما أنجبت الآلهة. والنور هو خالق هذا الكون وجميع ما يحويه. وهو يحمل أجنحةً ذهبيةً فوق كتفَيه، وهو كائن يتركَّب من الجنسَين، وله جسمان. أمَّا رواية هيرونيموس وهلانيكوس فتجعل له رءوس ثور في جنبَيه، وفوق رأسه ثعبان يتصوَّر ويتحوَّل إلى جميع أنواع الحيوان، ومن هنا كانت له القدرة على خلق جميع الحيوانات ذكورًا وإناثًا. ومن أسمائه أو صفاته زيوس، وديونيسوس (الخمر)، وإيروس (الحب)، وبان (التناسل)، وميتيس (العقل)، وإيريكيبايوس. والأسماء الخمسة الأولى كانت من صفاته باعتبار أنه خلَقها كما خلق الآلهة، فجميع الأساطير تُحدِّثنا أنها انحدرت منه، وخرجت من صلبه. أمَّا الصفة الأخيرة «إيريكبايوس» فليست إغريقية، والأغلب أنها اسم شرقي، ومدلوله غير معروف تمامًا. ويُؤوِّلونه بأنه القوة، ويذهب بعضهم إلى أنه «واهب الحياة». ثم أنجبت النور ابنةً هي «الليل»، نقيضه وشريكه. ثم اتخذ هذان المبدآن مرةً ثانية فكوَّنا جايا وأورانوس؛ الأرض والسماء. واتَّحدت الأرض والسماء فأنجبا ثلاث بنات وستة بنين منهم الرعد والبرق. وتغلَّب كرونوس فصرع أورانوس أباه، وتزوَّج أخته ريا، فلمَّا أنجبا ابتلع أبناءهما حتى لا يخلفاه في القوة. ثم شرع زيوس يُرتِّب أمور العالم أو الكون، ولم يكن ذلك بغير معارضة. واستطاع التيتان (مرَدة وشياطين) أن ينزعوا الطفل من حِراسة الكوريتين، بأن اجتذبوا أبصاره باللُّعَب ثم مزَّقوه إرْبًا إرْبًا، وأكلوا لحمه. ولمَّا علم زيوس بهذه الجريمة، أنزل عقابه على التيتان فأبادهم؛ إذ سلط عليهم الرعد والبرق. ثم أعاد ديونيسوس الطفل إلى الحياة، وأصبح ديونيسوس الجديد إله الأورفية. وُلد ثلاث مرات؛ فقد كان موجودًا في شخص فانس، ثم ابن برسيفوني، ثم الإله الذي عاد إلى الحياة. وجمع زيوس رماد التيتان، وخلق منه الإنسان، فكان بذلك صاحب طبيعتين؛ طبيعة الإثم ورثها عن التيتان، وطبيعة إلهية أخذها عن ديونيوس الذي أكل التيتان لحمه. وهكذا تتم الأجيال الستة للآلهة؛ الزمان والأثير والعماء، ثم النور ومعه نقيضه الليل، ثم السماء والأرض، ثم كرونوس وريا، ثم زيوس وبرسيفوني، ثم ديونيسوس. فإذا وازنَّا بين هذه الأسطورة الأورفية، وأساطير اليونان الأخرى؛ وجدنا أن الأورفية عدَّلت في الأساطير الشائعة، أو أخذت منها ما يُلائم مذهبها. ونظرة يسيرة إلى أساطير هزيود تُبيِّن لنا ذلك. ونحن لا نجد في أسطورة هزيود الزمان، أو البيضة الخصبة، أو النور، أو ديونسيوس، أو التيتان، ولكنها ضرورية في مذهب أورفيوس لبيان أصل الأشياء، وطبيعة الآلهة والإنسان، وطبيعة الحياة الأورفية. ••• وتُرَتِّب الأورفية على هذا التصوُّر الإلهي والكوني نظريةً تخص طبيعة الإنسان ومصيره؛ فالنفس في المذهب الأورفي تتميَّز تمامًا عن الجسد. فالبدن، وهو العنصر التيتاني، سجن أو قبر للنفس. وتذهب بعض الاستعارات الأخرى إلى أنه جلباب، أو شبكة، أو حصن. وتدخل أو تنفذ النفس، وهي العنصر الديونيسي، إلى البدن باستنشاق «الكل» الذي تحمله الرياح. وغاية الحياة في النِّحلة الأورفية أن نجنح نحو العنصر الإلهي، وأن نحفظ البدن في حالةٍ من الطهارة ما أمكن إلى ذلك سبيلًا، حتى يحين الوقت الذي تنطلق فيه تمامًا من عِقالها وتكتسب حريتها. فالنِّحلة الأورفية تُعلِّم أتباعها الطبيعة الحقيقية للأشياء، ويدخل في ذلك مصير النفس، ومن جهة أخرى القواعد التي تسير عليها النفس لتبلغ مستقرَّها الصحيح. وكانوا يعتقدون أن اتصال النفس بالبدن هو عقاب إثم قديم في حياة أخرى، أو عقوبة للخطيئة الأولى التي ارتكبها الجنس البشري، ونعني بها: تذوُّق التيتان لحم ديونيسوس، ومن التيتان نشأ الإنسان. ولمَّا كان البدن بما فيه من شهوات هو منبع الشر، فينبغي للأورفيِّ أن يكون زاهدًا. لا يجب عليه أن يأكل لحم الحيوان، أو يُشارك في الذبح، وإراقة الدماء، ولكن له أن يُضحي. وهناك بعض المجرَّمات عند النِّحلة الأورفية يُجهل مصدرها. مثال ذلك النهي عن لبس الصوف في المعابد أو الهياكل، وكذلك اتخاذ الأكفان من الصوف، وهي عادات موجودة عند قُدَماء المصريين. ومع أن البدن شر، فلم تُجِز الأورفية الانتحار؛ إذ في ذلك هروب من الواجب. وهذا شبيه بما يُحدِّثنا عنه سقراط في محاورة فيدون، إذ لم يُجِز الانتحار. يجب على النفس أن تبقى مع البدن حتى تستكمل مدة العقوبة المفروضة عليها من الذنب الأول. وأكبر الظن أن الأورفية كالفيثاغورية، كانت تذهب إلى التناسخ. ذلك أن تناسخ الأرواح، وانتقالها من بدن إلى آخر مطلوب للطهارة. ونحن لا نجد نصًّا صريحًا لأورفيوس في هذا المعنى، إلَّا أن اللغة التي يستعملها أفلاطون في فيدر وفيدون وجورجياس ومينون والجمهورية، توحي إلينا أنها لغة أورفيوس وأسلوبه وتعبيراته. وفي أثناء حياة النفس داخل البدن على وجه الأرض، يجب عليها أن تتبع قواعد الطعام والراحة، وأن تخضع لعباداتٍ منظَّمة تجري على يد الكاهن. أمَّا هذه العبادات أو الرسوم ما هي فنحن نجهلها. قيل في بعض الأحيان إنها شكلية بحتة، وإنه من الممكن شراء «كتب النجاة». وأكبر الظن أن الأورفية كغيرها من الديانات الغامضة السرية، كانت تُقيم نوعًا من العبادة الجمعية، تجري فيها الأدعية والترتيل والأغاني والتضحية بغير الحيوان، ثم ذكر الأسطورة الأورفية، وما جرى لديونيسوس، وغير ذلك. فإذا اتبع المُريد هذه العبادات كما ينبغي، وآمن بها؛ فقد يصل إلى السعادة الدائمة الأبدية في العالم الآخر، وذلك عندما يتخلَّص من البدن ويلحق بالصالحين. أمَّا أولئك الذين يعيشون حياة الفسق والفجور، فإن عقابهم لشديد أبدي؛ إذ يُلقَون في الوحل والطين، أو يُكلَّفون أعمالًا لا نهاية لها، كأن يملئوا الغرابيل. ويبدو أن صورة هذه الحياة السعيدة تتخذ في بعض الأحيان صِبغةً مادية، على العكس من حياة الزهد المطلوبة في هذه الحياة الدنيا. فنحن نجد أوديمونتس في الجمهورية يتهم موزايوس وأورفيوس بأنهما يجعلان الحياة الطيِّبة ليست شيئًا آخر إلَّا الطعام والشراب الخالدَين. أمَّا مقر الروح الأخير، فالأغلب أنه وصف بأنه جزر السعادة، حيث يعيش القِدِّيسون في نعيم مُقيم كالآلهة، وهو وصف يُفسح المجال إلى المادية، كما يُفسح المجال للتأويل الشِّعري. وعندما تُفارق الروح البدن عند الموت، فإنها لا تبلغ مقرَّها في الحال؛ إنها تسبح في العالم السفلي، وتصف الأورفية عباداتٍ خاصةً يقوم بها المُريدون. ونحن نعلم عن هذه العبادات ممَّا وصلنا منقوشًا على الألواح الذهبية التي كُشف عنها في مقابر إيطاليا وكريت. وآنية إيطاليا أقدم في التاريخ، وترجع إلى القرن الرابع قبل الميلاد. أمَّا آثار كريت فإنها ترجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد. هذه الألواح كان الغرضُ منها أن يحملها الميت، وفيها أبياتٌ من الشِّعر تُبيِّن الطريق الصحيح لمن يُريد الوصول. ويروى أن النفس سوف تذهب إلى ينبوعَين بجانب أبهاء زيوس؛ أحدهما إلى اليسار، وهذا الينبوع يجب تجنُّبه؛ لأنه ماء النسيان، تشربه الأنفس التي سوف تعود إلى هذه الدنيا. أمَّا الينبوع الذي إلى اليمين فهو الذي تشرب منه النفس، هو الذاكرة، وإلى جانبه حُرَّاس تتوجَّه إليهم النفوس لتصل بينهما وبين الآلهة قائلة: إني ابنة الأرض والسماء، وأَمُت إلى الجنس السماوي، إنني أموت عطشًا. هبني ماءً زُلالًا من بُحيرة الذاكرة. وعندئذٍ يهب الحُرَّاس النفس ماء الينبوع الإلهي؛ فترقى إلى مرتبة الأبطال. فالنفس تلتمس الآن وقد حضرت طاهرة، من برسيفوني أن ترقَّ لها وتُرسلها إلى مقرِّ الأبرار الأطهار. لقد خرجت النفس من الدائرة؛ أي خرجت من دائرة التناسخ، وخطت نحو التاج بخطًا سريعة، والتاج رمز النصر، وفرَّت من أحضان حادس أي الجحيم. والجواب إذا كان ملائمًا أن ترفع النفس إلى درجة الآلهة لا البشر. ••• وكانت تعاليم الأورفية الباطنة سرًّا محجوبًا إلَّا عن المريدين، كسائر الأديان السرية. وكان أصحاب الأورفية يعملون على حفظ أسرارهم، باستعمال لغة من الاستعارات، لغة رمزية لا يفهمها إلَّا المُريدون، وتحتاج إلى تفسير. ثم ظهرت معاجم في عصور متأخِّرة تُفسِّر وتكشف أسرارهم، كما نجد عند كليمان الإسكندري وهو يُفسِّر قصيدةً أورفية. ولا نستطيع أن نُبيِّن أثر الأورفية في الفلسفة اليونانية على وجه التحقيق، نظرًا إلى غموض تاريخ الكتابات الأورفية. ومع ذلك فلا شك في وجود تفاعل كبير بينهما؛ فطاليس يُرجِع كلَّ شيء إلى الماء، والأساطير السابقة تجعل أصل الأشياء المحيط. وأنكسماندر يُرجِع كل شيء إلى الطين. وكان أنكسماس يعتقد في أن الهواء هو الروح؛ أي روح الحياة. ولم يكن أفلاطون غريبًا عن آرائهم، وكذلك أرسطو؛ أمَّا أفلاطون فكان يميل إلى مذهبهم أكثر من أرسطو، وكثيرًا ما يقتبس الأبيات من قصائدهم، ولو أنه لا يذكرهم صراحةً فيقول عنهم: المؤلهة الأقدمين؛ ذلك أن مذهب التناسخ كان يُلائم مذهبه في التذكُّر والنسيان. ويُقال إن احتقاره للبدن، ولعالم الحواس، لا يخلو من التأثُّر بالنظرة الأورفية للحياة، ومن أنها طرد من النعيم، ومن أن البدن مصدر الشر وعدم الطهر. أمَّا أرسطو فكان يُعنى بالأورفية كذلك ويوازن بينهم وبين الفلاسفة الطبيعيين. ومن المؤرِّخين المحدثين مثل برتراند رَسل من يذهب إلى أن فلسفة أفلاطون تلبس أثواب الأورفية. وقد تسرَّبت النِّحلة الأورفية كذلك إلى الفلسفة الإسلامية عن طريق الفلسفة اليونانية.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/31537282/
في عالم الفلسفة
أحمد فؤاد الأهواني
«الفلسفة بحر لا يُعرف له قرار. تحتاج في معرفتها إلى العلم بما قاله القدماء، وما ذكره المُحدثون، وهو شيء لا تُحيط به إلا المتون والمطوَّلات.»الفلسفة هي علمٌ غزيز مليء بالنظريات والأفكار والرُّؤى والتفسيرات. وزخرت مكتبات العالم بمئات الكتب التي أفاضت الحديث عن كافة جوانبها وتطوُّراتها عبر العصور والأزمان. وهذا الكتاب على الرغم من حجمه الصغير، فإنه يُعَد واحدًا من الكتب الفلسفية المهمة لأي قارئٍ يريد الإلمام الجيد بهذا العلم؛ فبين دفَّتَي هذا الكتاب يأخذنا «أحمد فؤاد الأهواني» في رحلةٍ سريعة لثلاثة عوالم فلسفية؛ بدايةً من عالَم الفلسفة اليونانية، مرورًا بعالَم الفلسفة الإسلامية، منتهيًا بعالَم الفلسفة الحديثة، مستعرضًا بإيجازٍ أبرز العلماء والفلاسفة في كل عالَمٍ على حِدَة، ومُتحدِّثًا بأسلوبٍ بسيط غير مُعقَّد عن العديد من النظريات والآراء الفلسفية التي لا نعرف عنها الكثير، والتي تناول بعضها وفقًا لِرُؤاه الشخصية.
https://www.hindawi.org/books/31537282/2/
أرستوفان
عَلَمان يُذكران إذا ذُكر أدب اليونان التمثيلي؛ سوفوكليس وأرستوفان. الأول زعيم المأساة، والثاني زعيم الملهاة. ولم يكن الأدب اليوناني يعرف في نشأته الملهاة أو الكوميديا، بل كان يُؤثِر المأساة أو التراجيديا ويحتفظ لها بالمكانة الرفيعة، ثم ظهرت بين حين وآخر بعض تمثيليات كوميدية لا تحتل من الأدب منزلةً لها قيمتها، بل كان الغرض منها تسلية الجمهور، وإشاعة روح اللهو والمرح والفكاهة. ثم استقلَّت الملهاة عن المأساة، واختُصَّت بيوم مُعيَّنٍ لتمثيلها في أثناء الاحتفال بأعياد ديونيسوس إله الخمر، وهناك يتبارى المؤلِّفون وتُمثَّل رواياتهم واحدةً بعد أخرى في الملعب الكبير أو المسرح الخاص بالإله ديونيسوس في سفح الأكروبوليس، حيث لا تزال آثاره باقيةً حتى اليوم. ويُمنح صاحب أفضل ملهاةٍ جائزةً تتطلَّع إليها الأنظار، وتدور عليها الأطماع. وليست الملهاة بضاعةً أثينية، وإنما وفدت إلى مدينة أثينا من صقلية، التي عرفوا عنها كذلك فن الخطابة. وفي أوائل القرن الخامس قبل الميلاد ساعدت الديمقراطية والحرية على ازدهار الملهاة حتى أصبحت في أثينا الطريقة المألوفة التهكُّم من الأخلاق والسياسة. وكانت تقاليد الاحتفال في عيد ديونيسوس تسمح بحرية لا حدَّ لها في القول، فلمَّا أُسيء استعمال هذا الحق صدر في عام ٤٤٠ق.م. قانونٌ يقضي بعقاب القذف الشخصي في الملهاة، ثم أُلغي هذا القانون بعد ثلاث سنوات، واستعادت الملهاة حُرَّيتها الواسعة في النقد، فكانت للأثينيين أشبه شيء بالصحافة الحرة في العصر الحديث. ولسنا نعرف إلَّا الشيء القليل عن حياة أرستوفان؛ فقد وُلد عام ٤٥٠ أو ٤٤٤ق.م.، قيل في أثينا، وقيل إنه أجنبي عنها. ولقد سعى كليون، وهو الذي خلَّف بركليس في أثينا، إلى محاكمة أرستوفان ليُثبت أنه أجنبي عنها فيخلع عنه الحقوق التي يتمتَّع بها الأثينيون، غير أنه أخفق في ذلك، ممَّا يدل على صِحة انتسابه إلى المدينة. ويذهب بعض المؤرِّخين إلى أن غزو الإسبرطيين لأتيكا دفعه إلى هِجرة موطنه والاستقرار في أثينا، ولم يكن يُؤثِر معيشة المدن، فسخط على الحياة فيها كما سخط على الحروب التي أكرهتْه على هجرة الريف إلى المدينة. وهذا فيما يُقال هو السر في إيثاره السِّلم على الحرب في تمثيلياته. وتُوفي عام ٣٨٠ ق.م.، وقد خلَّف ثلاثة أبناء لا يُحدِّثنا التاريخ عنهم شيئًا. وهو معاصر للحروب البلوبونية التي وقعت بين عام ٤٣١ وعام ٤٠٤، وأثَّرت أبلغ الأثر في حياة الإغريق. وظلَّ يُؤلِّف للمسرح فأنتج نحوًا من أربعين تمثيلية، عدَّها بعض المؤرِّخين اثنتَين وأربعين، لم يبقَ منها إلَّا إحدى عشرة. وتمتاز هذه التمثيليات بالتحرُّر من القيود الأدبية التي كانت مفروضةً على المأساة بوجه خاص، كما تمتاز بحريةٍ واسعة في اختيار الموضوع والأسلوب والمنهج، ممَّا يُقارب بينها وبين الآثار الأدبية الحديثة، سواء أكانت خاصةً بالمسرح أم بغير المسرح. والناظر في هذه المسرحيات يرى أن جمهورها لا بد قد بلغ منزلةً راقيةً من الحياة العقلية، كما يرى أن حياة المدينة كانت على شيءٍ عظيم من الحضارة يُيسِّر لأهلها تذوُّق ذلك الفن الرفيع. ولعلَّك توهَّمت أن كوميديا أرستوفان تُشبه تمام الشبه كوميديا المحدَثين التي تتوجَّه إلى تمثيل الأحداث الشخصية وأدب السلوك على وجه العموم، ويتألَّف نسيجها من المؤامرات والدسائس المتعلِّقة بالحياة الاجتماعية والمنزلية. ولقد عرف اليونانيون هذا اللون من الكوميديا ولكن في زمن مُتأخِّر عن عصر أرستوفان، وميَّزوا بين النوعين؛ فالنوع القديم كان يُمثِّله كراتينوس الذي عاصر بركليس وشنَّ عليه الحرب في تمثيلياته، ثم نسج على منواله فيما بعدُ إيبوليس وأرستوفان، وقد تعاونا على التأليف معًا أول الأمر، ثم اختلفا فافترقا وتهكَّم كلٌّ منهما على صاحبه تهكُّمًا لاذعًا، غير أنهما اتفقا في المشرب وهو مهاجمة الديمقراطية. والنوع الجديد من الكوميديا هو المعروف باسم «كوميديا العادات»، ولم تُؤلَّف هذه المسرحيات إلَّا بعد وقوع أثينا تحت نير مقدونيا، وهي لا تُعالج السياسة. وأشهر المؤلِّفين في هذا النوع ميناندر الذي سار على نهجه فيما بعدُ بلاوتوس وتيرنس في روما. وتمتاز كوميديا العادات بعدم وجود الكورس أو الجَوقة، وعدم وجود «الباراباس» أو المونولوج، وهو الخطاب الذي يُوجِّهه رئيس الجَوقة للجمهور. ويُعَد «الباراباس» من الصفات الهامة المميِّزة لتمثيليات أرستوفان، وهو خطبة تُعبِّر عن رأي المؤلِّف يُجريها على لسان رئيس الجَوقة. ولها نظام مخصوص. وكانت تُلقى عادةً في ختام التمثيل، ويُضمِّنها الشاعر آراءه في أحاديث الساعة والنصائح التي يَوَد أن يتوجَّه بها إلى الناس. وكما اختلف المؤرِّخون في سيرته اختلفوا كذلك في الحكم على فنِّه؛ يُصوِّر بعض النقاد بضاعته مزيجًا من الجمال والحكمة والفُحش أو البذاءة. فإذا كان مزاجه معتدلًا فلن تجد شِعرًا يُجاريه في جمال النظم. وحواره قطعةٌ من الحياة، ممَّا يُذكِّرنا بشكسبير وموليير. وإنك لتحس في شخصياته عبير الزمن، وروح العصر الذي كان يعيش فيه، حتى لقد قيل: إن من لم يقرأ أرستوفان لا يعرف الأثينيين حق المعرفة. ويقسو عليه هؤلاء النُّقَّاد من جهة أخرى فيقولون: إن العقدة في روايته سخيفة لا تلحظ فيها عناية، وقد تنحَل عند منتصف الملهاة. ثم الفكاهة عنده ذات مستوًى منحطٍّ تعتمد على المحسوس من أمور البطون والتناسل ومخارج الفضلات؛ ففي ملهاة «السحب»، يمزج أقذر الفضلات البشرية بأسمى ما وصلت إليه الفلسفة من صفات. ويصف منافسَه القديمَ كراتينوس في بعض التمثيليات بالضعف الجنسي. ولقد أدَّى هذا الفحش والأدب المكشوف إلى صدور قانون يُحرِّم التهكُّم من الأشخاص، ومع أن ذلك القانون أُلغي بعد قليل، إلَّا أن الكوميديا السياسية التي تقوم على النقد السياسي والتهكُّم من الساسة والحُكَّام ماتت مع موت أرستوفان، وحلَّت محلَّها كوميديا العادات والسلوك. ويرى بعض النُّقاد أن الضحك الذي يبلغ حد القهقهة والقرقرة والإغراب هو عِماد الفُكاهة في ملهاة أرستوفان، حتى الآلهة لم تسلم من سخريته ولسانه الحاد. ولعلَّنا نعجب اليوم كيف يُسيء المؤلِّف في حقِّ الآلهة ويسمح لنفسه بهذه الجرأة، ولكن عجبنا يبطل إذا نفذنا إلى صميم المجتمع اليوناني وعرفنا روحه في ذلك الحين؛ فمن حق الشعراء الهزْليين أن يذهبوا إلى أقصى الحدود في فكاهتهم. وكان الشعب الأثيني سريع الفهم للنكتة، شديد الضحك للفُكاهة في ذاتها، حتى لو كانت تمس أشخاصهم، بل ذهبوا إلى أن الآلهة تشعر بالسرور من الفُكاهة الباعثة على الضحك كما يُسَر منها البشر. ويبدو أن الإغريق لم يُؤمنوا بآلهتهم الوثنية إيمان الاعتقاد واليقين. أمَّا الطبقة المستنيرة منهم فقد وجدوا في الآلهة لونًا من التشبيه البارع. وأمَّا الشعب فكانت عنايته منصرفةً إلى الاحتفالات والأغاني والرقص والمآدب، وإلى هذه المظاهر الخارجية التي تُثير الفضول دون أن يكمن وراء ذلك إيمان جِدي، أو إخلاص قلبي؛ فقد آمن الأثينيون بالآلهة عن طريق الخيال لا عن طريق العقل، وكانوا يُقيمون الطقوس المفروضة بغير تقوًى تصدر عن القلب. ولهذا السبب لا نجد الجمهور يهبُّ لتأييد الآلهة إذا مُسَّت بِشَرٍّ على المسرح، بل كانوا يتركونها تحمي نفسها إذا استطاعت. وإذا كان أرستوفان قد استطاع أن يُؤثِّر في جمهور المستمعين على اختلافهم في الثقافة والرأي، وتباينهم في النشأة والثروة، فلا ريب أنه قد امتلك عِنان البيان، وأوتي حظًّا كبيرًا في تصريف شئون اللغة بكل أسلوب؛ وهذا هو سر العبقرية في شاعرنا الهزْلي؛ فإن أسلوب تمثيلياته هو الذي كفل لها الخلود. ولستَ تجد لشعراء اليونان نظيرًا من جهة البساطة والوضوح والأناقة والرشاقة. وأرستوفان يبين بلسان قوي، ولفظ محكم، ونضد سويٍّ، فيمضي إلى صميم المعنى وينفذ إلى عين الموضوع. وقد يبدو على أسلوبه طابع التهلهل والإهمال، حتى إذا كشفتَ عنه الغطاء وجدتَ الغاية في الإبداع، ونهاية الكمال، وروعة الفن، وجمال الصنعة. وحواره يُفصح عن قدمٍ راسخة في الفن. أمَّا أناشيده التي يُجريها على ألسنة الجَوقة، فإنه يُتابِع فيها خطا بندار وسوفوكليس، وهما زعيما فنِّ النشيد في الشِّعر اليوناني بلا منازع. ومن المحسِّنات التي كان أرستوفان مغرمًا بها الاستعارة يكسو بها المعاني، فهو يُشخِّص الأفكار المجرَّدة فيلبسها ثوب الكائنات المتحرِّكة حتى يُسهِّل على الجمهور إدراكها والإحساس بها، ولم يكن يفوته الإشارة إلى مألوف الأعمال مهما تكن تافهةً أو فاحشة. ولقد عابوا على أرستوفان هذه الحرية الواسعة في تصريف الكلام ممَّا ذكرناه عن الطائفة الأولى من النُّقَّاد، ثم قالوا: لقد كان أرستوفان قادرًا على تجنُّب الفُحش والإسفاف. ويحسن قبل أن نُصدر الحكم على هذا الشاعر أن ننظر في العصر الذي كان يعيش فيه، وفي نشأة الكوميديا اليونانية، وفي تأليف جمهور النظارة والمستمعين، فلا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن الكوميديا نشأت في أحضان الاحتفال بإله الخمر، وكان إله التناسل «فلونوريا» يمشي في الاحتفال حاملًا أعضاء التناسل، وكانت هذه العادات الدينية وما يصحبها من حرية لا تزال قائمةً في الوقت الذي ألقى فيه أرستوفان تمثيلياته. ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا كذلك أن حضور المسارح لم يكن مباحًا لجميع النساء أو الأطفال. وإلى جانب ذلك علينا أن نُحيط عِلمًا بالعادات الاجتماعية والخُلُقية المألوفة في ذلك العصر؛ فقد كان الأثينيون يتحدَّثون في صراحةٍ عن كل شيء، ولا يُثير في أنفسهم ما نَعُده اليوم فُحشًا وبذاءة؛ أي اشمئزاز. لهذا يجب ألَّا نعيب أرستوفان بالبذاءة والابتذال؛ لأنه كان يُتابع المألوف من العادات. وإذا كانت شخصياته التي يُصدرها وحشية الطباع، فإنه كان يصف المجتمع الذي عاش فيه، وهو كالمرآة التي ينعكس على صفحتها ذلك المجتمع. فإن قلت: إن بعض الحاضرين من علية القوم يأنفون من الألفاظ المبتذلة ويتذوَّقون الأدب غير المكشوف، قُلنا إن أغلب الحاضرين كانوا من الجمهور الذي يُحب القهقهة والفُحش، فكان على الشاعر أن يُقدِّم إلى السواد ما يطلبون وتشتهي أنفسهم؛ ليكسب التقدير والتصفيق والتهليل. ومع ذلك فقد مدحه قوم من الصفوة، وهذا أفلاطون يسوق إليه المديح بعد وفاته، مع أنه هاجم سقراط في تمثيلية «السحب» مهاجمةً عنيفة، ومع ذلك لم يغضب منها سقراط الذي يروي أنه حضر تمثيلها طول الوقت. ويُحدِّثنا أفلاطون أن سقراط وأرستوفان خرجا بعد هذه التمثيلية صديقَين. ويُقال كذلك إن أفلاطون قدَّم هذه الملهاة إلى ديونيسوس الأول ملك صقلية. وأكبر الظن أن الملهاة تفاعلت على مرِّ الزمن فأشاعت عن سقراط الشُّهرة غير الحميدة التي قام من أجلها إلى المحاكمة. ولقد عالج أرستوفان كل موضوع، ونزل إلى كل ميدان، وتحدَّث عن طبائع وأعمال الإنسان، غير أنه كان يقصر الخطاب على الأثينيين، فيُوجِّه النقد إلى الأخلاق الشائعة، والسياسة القائمة، والشِّعر الغالب، والفلسفة الجارية، والدين الموجود. ويُعَد أرستوفان أرستقراطيَّ النشأة، واسمه نفسه يدل على النُّبل والشرف؛ ولهذا كان من الطبيعي أن يُهاجم الديمقراطية السائدة في عصره، وأن يجد فيها مادةً غزيرةً صالحةً للنقد. والواقع لا تستطيع الملهاة أن تعيش إلَّا على النقد اللاذع، وفي الديمقراطية والديماجوجيا مَعِين لا ينضب لشعراء الكوميديا. وليس معنى ذلك أن أرستوفان أدلى بدلوه في نظام الحكم والسياسة بحكم الفن والصناعة، بل عن اقتناع وإيمان. وآية ذلك أن آراءه السياسية لم تتغيَّر خلال تمثيلياته المختلفة؛ لأنها تقوم على شيء ثابت في طبيعة هذا الفنَّان. الحكومة التي كان ينشدها هي الحكومة العادلة التي تُفسح المجال للحياة، ولا تستبد بالحقوق أو تحجر على العقول. ولو أن الأرستقراطية انتصرت كما كان ينبغي ثم استبدَّت، ما تردَّد في أن يُوجِّه إلى رجالها سِهام النقد والسخرية. ولم يكن من اليسير على أرستوفان أن يطعن الديمقراطية، بحيث يشهد الجمهور مصرع نفسه ويُصفِّق للتحقير من شأنه، ومع ذلك فقد استطاع بعبقريته أن ينتزع إعجاب الجمهور فيُصفِّق له مع أن السخرية موجَّهة إلى النظارة والحاضرين. وهو يكره الحرب ويُؤثر السِّلم؛ فقد رأينا أن الحرب هي التي دفعته إلى هِجرة الريف والذهاب إلى أثينا؛ لهذا السبب كانت أهداف الملهاة السياسية تطلب السلام. وقد بقيت لنا أربع تمثيليات سياسية؛ «الفرسان»: يُهاجم فيها كليون وسياسة الحرب على وجه العموم. و«الأخارنيون»: يُبيِّن فيها البؤس الناجم عن الحرب، وبخاصة هذا الذي يحلُّ بالمزارعين كما يُمثِّلهم ديقوبوليس الأخارني وأتباعه. و«السلام»: يُشيد فيها بنعمة السِّلم. و«لسستراتا»: وهي مؤامرة من نساء الإغريق على رأسهن لسسترانا الأثينية؛ لإرغام الرجال على إبرام الصلح. وكانت أهدافه الخُلُقية غايةً في السمو؛ فهو يرمي إلى إصلاح مفاسد الشعب حتى يعود إلى صفائه القديم الذي استمدَّ منه القوة والإلهام؛ ولهذا السبب يُلح أرستوفان في إظهار «أهل ماراتون» على المسرح، وهم أولئك الذين يدين لهم الأثينيون بالحرية والعظمة في حربهم مع الفرس. والواقع ليس امتداح الشاعر للجيل الماضي نوعًا من الحنين أو العبث؛ لأن أحداث التاريخ تُثبت أنه على حق، ولأن العادات المستحدثة كانت العلة في انحلال الأثينيين؛ فقد تعوَّد الشعب الكسل، وماتت في نفسه حوافز الهمة منذ اتسعت المجالس النيابية لحكم الجمهور. ومن جهة ثالثة أفسدت تعاليم السفسطائيين الشباب؛ فهم يُقدِّمون إليهم حشدًا من النظريات ولا يحفلون بالأخلاق. هذه هي السموم الثلاثة القاتلة للأخلاق، والتي عُنِي أرستوفان لعلاجها؛ المجالس النيابية، والاجتماعات العامة، وتعاليم السفسطائيين. وسبيل أرستوفان في العلاج هو تذكير الشعب بفضائل السلف، في مُقابل العبث السائد عند الخلَف. نجد هذه الآراء مبسوطةً في تمثيلية «السحب» التي يتهكَّم فيها أرستوفان على سقراط والسفسطائيين والتربية الحديثة. وفي ملهاة «الزنانير» يسخر من شغَف الأثينيين بالتقاضي، ويُبيِّن مساوئ المَحاكم. وفي ملهاة «الإكلزيازس» أو «مجالس النساء»، يسخر من المدن الفاضلة مثل جمهورية أفلاطون وما أشبه، وهي التي يطلب أصحابها تغيير النظم الاجتماعية والاقتصادية. وفي ملهاة «الطير» يضيق إقلبيدس وبستتاروس بأحوال أثينا، فيبنيان مدينةً جديدةً في مملكة الطير. ويرى بعض المؤرِّخين في هذه الملهاة تعريضًا بالحملة على صقلية وبمدينة ألقبيادس الفاضلة. وفي تمثيلية «بلوتوس» وهو إله الثروة، يُصيبه زيوس بالعمى فيفقد بصره، ثم يتخفَّى بلوتوس في زِيِّ الفقراء والمساكين، إلى أن يكتشف كريملوس أمره، وكريملوس هذا رجل شيخ أصابه الفقر من شِدة الكرم والجُود على أصحابه. ثم يُعيد أسقلبياذس، وهو إله الطب، إلى بلوتوس بصرَه؛ وعندئذٍ يُكافئ كريملوس مكافأةً حسنة، ويُوزِّع الثروة على البشر توزيعًا عدلًا على أُسس جديدة، فيُغني العادل ويُفقر الظالم. وليست نظرات أرستوفان في الأدب أقل سموًّا من نظراته في السياسة والاجتماع والأخلاق. وهو لا يُهاجم الأدباء بدوافع شخصية، بل ينقد نقدًا عامًّا. ليس غريمه في الواقع هو أوربيذس، شاعر اليونان المشهور، ولكنه يتخذ من اسمه رمزًا لانحراف الذوق الأدبي، والبُعد عن البساطة الشريفة التي كانت تُميِّز طابع عصر بركليس. ولقد كان أوربيذس شاعرًا من شعراء المأساة المشهورين ولا نزاع، غير أن أرستوفان لم يُعجَب بطريقته في الأداء. وفي تمثيلية «الضفادع» يسخر من أوربيذس ومن التراجيديا الحديثة، ويُصوِّر أرستوفان في هذه الملهاة ديونيسوس راعي الدراما ساخطًا على حالة الفن لأنها لا تُرضيه، فيذهب إلى بلوتون إله الجحيم ورَبِّ الموتى ليُعيد إلى الأرض شاعرًا من شعراء المدرسة القديمة الجديرة بالفن. أمَّا في ملهاة «تسموفروز ياسوس» فإن أوربيذس يُستدعى للدفاع عن نفسه أمام نساء أثينا وقد اجتمعن في الاحتفال بعيد بعض الآلهة. هذا عرض سريع لما بقي بين أيدينا من تمثيليات أرستوفان التي كان يُصفِّق لها آلاف المتفرجين إعجابًا في مسرح ديونيسوس؛ فقد كان يتسع لخمسة عشر ألفًا من الأثينيين، وهو عدد يدل على مقدار ما بلغه فن التمثيل من أهمية وأثر في الشعب اليوناني. ولم يكن فوق المسرح سقف يُغطِّيه، فإذا جاء في التمثيلية ذكر الأرض والسماء والشمس والنجوم رأى النظارة أمورًا حقيقية إلى جانب ما يسمعون من شِعر وغناء وتمثيل، ممَّا يبعث على عمق الإحساس وصدق الشعور. وجرت عادة الممثلين أن يرتدوا أقنعةً تُخفي ملامحهم الحقيقية، فإذا كان أشخاص الرواية من الأحياء المعروفين، مثل أوربيذس أو سقراط، رسموا القناع بحيث يُشبه وجه ذلك الشخص. وكان النظارة من الجنسَين، وللنساء جانب خاص، وللرجال جانب آخر. ولم يكن يُسمح للمحصنات من النساء حضور الملهاة. وأمر النظارة عجيب حقًّا؛ فهم يأكلون الفاكهة، ويشربون الخمر، ويُقشِّرون اللوز والبندق وهم يتفرَّجون. ولقد اقترح أرسطو أن يكون مقدار ما يأكله النظارة من طعام مقياسًا لنجاح التمثيلية أو عدم نجاحها؛ لأنه الدليل على إقبال الجمهور واهتمامه. أضِف إلى ذلك التشاحن على الجلوس في المقاعد، والتهليل في وجه الممثِّلين استحسانًا أو الصفير استهجانًا، والدب على الأرض، والصفير والتصفيق، وقذف الممثل الفاشل بالزيتون والتين، بل بالحجارة. ومن الفكاهات التي يذكرونها أن أحد الموسيقيين اقترض حجارةً يبني بها داره، ووعد بردِّها لصاحبها ممَّا ينتظر جمعه بعد التمثيل. كيف إذن نلوم أرستوفان إذا مزج المعاني الشريفة، والآراء الفلسفية، بالفحش من الكلام إرضاءً لمثل هذا الجمهور؟! وجرت العادة في سابق العهد أن تكون الجائزة التي ينالها أفضل شاعر في التراجيديا شاة، وأفضل شاعر في الكوميديا سلةً من التين وجرَّةً من الخمر، ثم تطوَّر الأمر في العصر الذهبي؛ أي في عصر بركليس، فأصبحت الجائزة مالًا. وكان عدد الحُكَّام عشرة يؤخذ برأي خمسة منهم فقط، ومع ذلك فكثيرًا ما امتدت يد الحُكَّام للرشوة أو تأثروا بهوى الجمهور. ويروي أفلاطون في كتاب «النواميس» أن القُضاة كانوا يخشَون الجمهور فيحكمون بما يشهدونه من تصفيق، ممَّا أدَّى إلى تأخُّر الفن في هذا «المسرح الشعبي». وبعدُ فلم يكن أرستوفان أعظم شاعر هزْلي لأنه نال إعجاب الجمهور في عصره فقط، بل لأنه حاز تقدير صفوة رجال الفكر في زمانه وإعجاب المحدثين.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/31537282/
في عالم الفلسفة
أحمد فؤاد الأهواني
«الفلسفة بحر لا يُعرف له قرار. تحتاج في معرفتها إلى العلم بما قاله القدماء، وما ذكره المُحدثون، وهو شيء لا تُحيط به إلا المتون والمطوَّلات.»الفلسفة هي علمٌ غزيز مليء بالنظريات والأفكار والرُّؤى والتفسيرات. وزخرت مكتبات العالم بمئات الكتب التي أفاضت الحديث عن كافة جوانبها وتطوُّراتها عبر العصور والأزمان. وهذا الكتاب على الرغم من حجمه الصغير، فإنه يُعَد واحدًا من الكتب الفلسفية المهمة لأي قارئٍ يريد الإلمام الجيد بهذا العلم؛ فبين دفَّتَي هذا الكتاب يأخذنا «أحمد فؤاد الأهواني» في رحلةٍ سريعة لثلاثة عوالم فلسفية؛ بدايةً من عالَم الفلسفة اليونانية، مرورًا بعالَم الفلسفة الإسلامية، منتهيًا بعالَم الفلسفة الحديثة، مستعرضًا بإيجازٍ أبرز العلماء والفلاسفة في كل عالَمٍ على حِدَة، ومُتحدِّثًا بأسلوبٍ بسيط غير مُعقَّد عن العديد من النظريات والآراء الفلسفية التي لا نعرف عنها الكثير، والتي تناول بعضها وفقًا لِرُؤاه الشخصية.
https://www.hindawi.org/books/31537282/3/
تمثيلية «السحب»
لم يُدوِّن سقراط شيئًا، مع أنه شيخ الفلاسفة، ومعلِّم أفلاطون، وصاحب المدارس الفلسفية في اليونان. مهما يكن من شيء فالإجماع بين المؤرِّخين المحدثين على أن محاورات أفلاطون هي أهم مصدر لمعرفة فلسفة سقراط. ونحن نميل إلى اعتماد هذا المرجع، ولو أن بعض المؤرِّخين مثل برتراند رَسل يُهمله، ويحط من قدره، ويتهمه بمجافاة الروح الفلسفي، وتفاهة التفكير، ولذلك لا يرجع إليه. وكان أفلاطون وزينوفون وأرستوفان معاصرين لسقراط. وأغلب المؤرِّخين يُغفلون أرستوفان، ولا يعدونه مصدرًا لفلسفة سقراط؛ لأنه يعده من السفسطائيين ولم يكن كذلك، ويجعله صاحب مدرسة ولم يُعرف أنه افتتح مدرسة، وأنه كان يتناول أجرًا على التعليم والمأثور امتناعه عن أخذ الأجر، وأنه كان يبحث في الأمور الطبيعية والمعروف أن سقراط انصرف عن الطبيعة إلى البحث في الإنسان، ولذا قيل: إنه أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض. ولا ريب في أن الشاعر بحكم صناعته مضطر إلى تحوير الوقائع حتى تلبس الثوب الذي يُريده، إلَّا أن هذا التحوير لا يُعقل أن يكون تامًّا بحيث يُغيِّر من شخصيته، مثل محبة البحث، وروح الفكاهة، وغرابة الأطوار، والتصدي للتعليم، والسخرية من الآلهة اليونانية. ومع هذا كله فتمثيلية «السحب» مصدر من مصادر سقراط، فهي على أقل تقدير تُبيِّن لنا السر في محاكمته بعد ذلك بتهمة إنكار الآلهة. شخصيات هذه التمثيلية هم: ستربسيادس وهو مواطن غني، وفيديبياس ابنه، وخادم ستربسيادس، وسقراط، وبعض تلاميذ سقراط، وشخصيتان إحداهما تُمثِّل الحق، والأخرى تُمثِّل الباطل. وباسياس المرابي، وشاهد لباسياس، وأمنياس مُرابٍ آخر، ثم الكورس أو الجَوقة. ونُلخِّص هذه التمثيلية بإيجاز في أن ستربسيادس وقع في الدَّين، وليس عنده المال الكافي لدفعه، فذهب ليتعلَّم عند السفسطائيين صناعة الكلام أو البيان، حتى يتخلَّص من هذا الدَّين أمام المحكمة. فذهب إلى مدرسة سقراط ودارت هناك أحاديث كثيرة حول هذا الموضوع. أمَّا الوالد فلا يمكن أن يتعلَّم، فيبعث بابنه فيتعلَّم الابن، وتكون نتيجة تعليمه أن يضرب والده ويُدافع لا عن التخلُّص عن الدَّين، بل عن وجوب دفعه. وهذا كله يفتح عين الناس المتمسِّكين بالقديم، فيهجمون على المدرسة، ويحرقونها. أو بمعنًى آخر هي صراع بين القديم والجديد. تبدأ التمثيلية في حُجرة النوم؛ ستربسيادس على سرير، وفيديبياس على سرير آخر. ويتحدَّث ستربسيادس عن ديونه، وهمومه، وعن الحرب اللعينة، يُشير في ذلك إلى حرب بلوبونيز التي دارت من ٤٣٠ق.م. إلى ٤٠٠ق.م.، والتي جعلت العبيد أو الرقيق لا يأتمرون بأمر الأسياد. ويتحدَّث عن الليل وطوله وكثرة النفقات، وبخاصة النفقات على الخيل والعربات، وهي السبب في أصل هذه الديون، ثم يُوقد المصباح ويحسب ما عليه من ديون وفوائد، بعضها يجب أن يدفعها لباسياس، والأخرى لأمنياس. وينطق فيديبياس وهو يحلم بالسباق والخيل فيغضب والده، إلى أن يستيقظ فيديبياس، ويجري بينهما حديث يسخط فيه الوالد على الزواج الذي أنجب هذا الابن. ثم يأتي الخادم ويُعلن انتهاء الزيت من المصباح فيُحاول أن يضرب الخادم لأنه يستعمل ذؤابةً ضخمةً تستخدم الزيت وتستهلكه. وينتهي الحديث بين الوالد وابنه بأن أمام الدار دار أخرى، هي مدرسة للحكمة، فإذا دفعوا أجرًا مناسبًا؛ تعلَّموا المرافعة في القضايا، فيكسب القضية سواء أكانت عادلةً أم غير عادلة. ويسأل فيديبياس: وما اسم هؤلاء القوم؟ فيُجيب الوالد: إنهم يُفكِّرون. فيقول الابن: لعلك تعني هؤلاء الحُفاة الدجَّالين مثل سقراط المسكين؟ فكأنه يُصوِّره في زي بائس. ثم يسأل الابن: وماذا نتعلَّم عندهم؟ فيُجيب الوالد: نتعلَّم صناعة المغالطة حتى لا ندفع الدَّين. فيأبى فيديبياس. ويذهب ستربسيادس فيدق الباب ويفتح له أحد التلاميذ، فيجد بعض تلاميذ ينظرون في الأرض، وآخرون ينظرون في السماء، ويجد كرةً أرضيةً وخريطة؛ الكرة لدراسة الفلك، والخريطة لدراسة الهندسة ومساحة الأرض. ثم يجد سلةً معلَّقةً في السقف فيها شخص، فيسأله من هو؟ فيُجيب أنه سقراط يسبح في الهواء ويتأمَّل الشمس. فيقول له ستربسيادس: ومن هذه السلة تستطيع أن تحكم على الآلهة؟ فيجيب سقراط بأنه يمزج نفسه بالهواء، هذه المادة اللطيفة، حتى يستطيع أن ينفذ إلى حقائق الأمور السماوية. وعندئذٍ يقول ستربسيادس: جئت أطلب درسًا. فيسأله: أي درس تطلب؟ فيقول: أُريد أن أتعلَّم الكلام لمواجهة الدائنين. ويسأله لماذا وقع في الدَّين؟ فيُجيب إنه الغرام بالخيل هو السبب. عَلِّمني يا سقراط وسوف أدفع لك الأجر بحق الآلهة! قال سقراط: ليست الآلهة عملةً مقبولةً لدينا. فقال ستربسيادس: إذن بماذا أُقسم؟ فقال له سقراط: هل تُريد أن تعلم شيئًا عن الأمور السماوية، وأن تخاطب «السحب»؟ واتضح أن سقراط يُقسم بالهواء الذي تتعلَّق به الأرض، وﺑ «السحب» وهي آلهة تحمل البرق والرعد. ودار بينهما حديث عن «السحب» انتهى إلى أن هذه «السحب» فيها أشكال كثيرة كأشكال الحيوان؛ مثل الذئب والثور وما إلى ذلك، وأن الآلهة اليونانية إن هي إلَّا أساطير؛ فزيوس ليس له وجود، وزيوس عند الإغريق هو الذي يدفع «السحب» إلى الإمطار، وهو الذي يُحرِّكها، وهو الذي يبعث الرعد، وأنكر سقراط كل ذلك، وأثبت أن «السحب» تضرب بعضها ببعض. أمَّا السبب في تسيير «السحب» فهي الرياح. وهذا الجزء من التمثيلية في غاية الأهمية؛ لأنه يُصوِّر سقراط في صورة الشخص الذي يُنكر آلهة اليونانيين، ولعل هذه الناحية هي التي كانت سببًا من الأسباب في توجيه التهمة لسقراط فيما بعد. وانتقلوا بعد ذلك إلى الموضوع نفسه. قال ستربسيادس إنه لم يأتِ ليطلب تعلُّم البلاغة، بل يطلب طريقةً يرد بها الدائنين. وتقول الجَوقة: إذن فلتُلقِ بنفسك في أيدي السفسطائيين. ويسأله سقراط: أي نوع من العلم عندهم؟ وهل عندهم ذاكرة؟ فيُجيب ستربسيادس: هذه مسألة تتوقَّف على الموضوع؛ إن كنت دائنًا تذكَّرت، وإن كنت مدينًا نسيت. ويسأله سقراط هل عنده موهبة طبيعية للكلام أو للبيان؟ فيُجيب موهبة الكلام لا توجد عنده، ولكن عنده موهبة الخداع. ثم تُلقي الجَوقة شِعرًا أو أنشودة تُنكر فيها أيضًا الآلهة. ويطلب سقراط من ستربسيادس إذا كان يُريد أن يتعلَّم النَّظْم والقافية والوزن. ويرد ستربسيادس بأنه لا بأس أن يتعلَّم موازين المال. فيقول سقراط إنه يتحدَّث عن الشِّعر وموازينه، لا في المال. فيقول ستربسيادس: وهل النظم يُقيم الأود ويمد بالطعام؟ فيتهمه سقراط بضيق العقل والغباء. ويطلب ستربسيادس أن يتعلَّم المغالطة، فينقله سقراط إلى مبحثٍ في اللغة، فيسأله: ما هي ذكور الحيوان؟ فيقول ستربسيادس: إنه الكلب والحمام والثور … إلخ. فيقول سقراط: الحمام إذن واحد للمذكَّر والمؤنث. وأخيرًا يُبيِّن له أن هناك ألفاظًا تُطلق على المذكَّر وأخرى تُطلق على المؤنث. وأخيرًا ينتقلون إلى موضوع جديد؛ ستربسيادس يقترح عدة طُرق يتخلَّص بها من دفع دينه؛ منها طريقة أن يستعين بساحرة تُؤخِّر ظهور القمر؛ لأن ميعاد الدفع هو أول الشهر عند ظهور القمر. وفكرة أخرى أن يستحضر مرآةً تعكس الشمس فتنبعث حرارة شديدة تُذيب الكتابة عندما يكتب المسجِّل. أو ينتحر. فيسأله سقراط: كيف يكون الانتحار طريقةً للتخلُّص من الدَّين؟ فكان ردُّه أنه بموته لن يدفع الدَّين. فأراد سقراط أن يُعطيه درسًا، فيستعطفه ستربسيادس، ثم يُقسم بالآلهة، فيثور سقراط لبَلادة التلميذ ونسيانه ما تعلَّمه. وتنصحه الكورس بأن يذهب ويبعث ابنه ليتعلَّم بدلًا منه. ويُعيد ستربسيادس على مسامع فيديبيدس ما جرى له في المدرسة، فيسخر منه الابن، ويتضح أن ستربسيادس ضعيف الذاكرة حقًّا لأنه نسي معطفه وحذاءه، ويرضخ فيديبيدس ويذهب إلى المدرسة بصحبة والده، ويُناول الوالدُ سقراط كيسًا من الدقيق أجرًا لتعليم ابنه. أن سقراط كان صاحب مدرسة ثابتة. أنه يُعَد من السفسطائيين. أنه يتناول أجرًا على التعليم. أنه يُنكر آلهة اليونان القديمة. أن تعاليمه أفسدت هذا الشاب إلى درجة أنه أساء فيما بعدُ في حق والده. أمَّا مكانة هذه التمثيلية من تاريخ الفلسفة، ومن سقراط بوجه خاص، فلا ينبغي أن نأخذ ما جاء فيها على أنه الحق كل الحق. ولكن لا ريب في أن هناك شيئًا من الحقيقة اعتمد عليها أرستوفان في وضع هذه التمثيلية، ثم أخرج الحقائق أو أضاف إليها شيئًا من الخيال والفكاهة؛ لتلائم هذا اللون من التمثيل الذي اعتمد عليه أرستوفان. ونستطيع أن نستخلص هذه الحقائق؛ فهي أولًا: شهرة سقراط في أثينا، فلا ريب أن اختيار أرستوفان لهذه الشخصية دليل على أنها عنوان الفلسفة. والحقيقة الثانية: أن سقراط كان يعلم صناعة الكلام كالسفسطائيين، غير أن أرستوفان يُصوِّره أنه يميل إلى جانب الباطل، والحقيقة أنه كان يميل إلى جانب الحق، أو يطلب الحق. وفي الوقت نفسه طريقة سقراط واضحة في هذه التمثيلية وهي طريقة الحوار، والسؤال والجوب. أمَّا ما نُخالف أرستوفان فيه ولا نستطيع أن نُوافقه عليه، فهو أن سقراط كان يتناول أجرًا، وأنه كان يلزم مدرسةً مُعيَّنة.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/31537282/
في عالم الفلسفة
أحمد فؤاد الأهواني
«الفلسفة بحر لا يُعرف له قرار. تحتاج في معرفتها إلى العلم بما قاله القدماء، وما ذكره المُحدثون، وهو شيء لا تُحيط به إلا المتون والمطوَّلات.»الفلسفة هي علمٌ غزيز مليء بالنظريات والأفكار والرُّؤى والتفسيرات. وزخرت مكتبات العالم بمئات الكتب التي أفاضت الحديث عن كافة جوانبها وتطوُّراتها عبر العصور والأزمان. وهذا الكتاب على الرغم من حجمه الصغير، فإنه يُعَد واحدًا من الكتب الفلسفية المهمة لأي قارئٍ يريد الإلمام الجيد بهذا العلم؛ فبين دفَّتَي هذا الكتاب يأخذنا «أحمد فؤاد الأهواني» في رحلةٍ سريعة لثلاثة عوالم فلسفية؛ بدايةً من عالَم الفلسفة اليونانية، مرورًا بعالَم الفلسفة الإسلامية، منتهيًا بعالَم الفلسفة الحديثة، مستعرضًا بإيجازٍ أبرز العلماء والفلاسفة في كل عالَمٍ على حِدَة، ومُتحدِّثًا بأسلوبٍ بسيط غير مُعقَّد عن العديد من النظريات والآراء الفلسفية التي لا نعرف عنها الكثير، والتي تناول بعضها وفقًا لِرُؤاه الشخصية.
https://www.hindawi.org/books/31537282/4/
الأكاديمية
الغريب أننا لا نعرف شيئًا كثيرًا عن حياة أفلاطون في أثينا، على الرغم من أننا نعرف كثيرًا من حياته خارجها؛ ولذلك كان من الصعب علينا تحديد الكلام عن الأكاديمية وما كان يجري فيها. وأكبر الظن أن المحاورات الأولى التي ألَّفها عقب موت سقراط رفعته إلى أسمى الأوساط الأدبية في أثينا وغيرها من مدن اليونان. وكان أفلاطون يشغل وقته بتأليف هذه المحاورات، ما عدا الأوقات التي كان يرحل فيها، غير أن ما سمعه عن سقراط نفد بعد أن دوَّنه، أو قل إن المحاورات السقراطية أصبحت تضيق بآراء سقراط العالية، ولا يستطيع التعبير عنها في هذا الثوب من التأليف. وأكبر الظن أن أفلاطون بلغ مرتبةً من التفكير جعلته يعتقد أنه يجمل به أن يعلم بنفسه لا على لسان سقراط؛ ولذلك انصرف عن المحاورات وأسَّس الأكاديمية. وهي أشهر من أن تُعَّرف؛ فقد بقيت مفتوحة الأبواب تسعمائة عام، ولا تزال جامعات اليوم تُسمِّي نفسها بهذا الاسم إحياءً لذكرى مؤسِّسها، وهم يعنون بها مدرسة التعليم العالي. ومن الطبيعي أن تبدأ مدرسة أفلاطون صغيرة، ولم تكن فِكرتها قد اكتملت في ذهنه، وأكبر الظن أنه رسم المنهج الذي يسير عليه، ثم نمَت بعد ذلك. وكان هذا المنهج يبدأ بالرياضة وبخاصة الهندسة، ولذلك كان يكتب على باب مدرسته «من لم يكن مهندسًا، فلا يدخل علينا.» ثم الفلك فالموسيقى فالمنطق فالسياسة، لا على المعنى العملي، بل معرفة قوانين العالم ونظمه، وأخلاق الإنسان. ثم علم الحقيقة وهو الذي سمَّاه أرسطو فيما بعدُ علم الفلسفة الأولى، أو ما بعد الطبيعة، أو الميتافيزيقا. فإذا نظرنا إلى هذا المنهج وجدنا أنه يُغفل درس اللغات؛ إمَّا لأن درس اللغات كان يُعلَّم في سن مبكرة فلا شأن له به، وإمَّا لأن أفلاطون لم يكن يحفل بالعلم المدوَّن أو المكتوب، فكان تعليمه شفاهًا أو سماعًا أو حوارًا، لا كتابة، وله في ذلك حكمة وأسباب. ونحن ندهش من أن أفلاطون لم يُدوِّن لنا فلسفته مع أنه كان كاتبًا ممتازًا كما يظهر ذلك من محاوراته؛ وسبب ذلك أنه كان يَعُد العلم المأخوذ من الكتب لا يُفيد، وليس طريقةً حسنةً للتعليم. وقد حدَّثنا عن ذلك في محاوراته، فقال في محاورة بروتاجوراس: «إن الخطباء هم الذين لا يعجزون عن الإجابة عن أي سؤال.» وقال في محاورة فيدر: «إن الكلام المكتوب مضر بالذاكرة.» وقال في محاورة فيدر وهبياس: «إن الحوار الشفوي أنبل من تسجيل الآراء الخاصة.» ذلك لأن الآراء المكتوبة لا تقوى على الجدل، ولا تُعلِّم الحق، أمَّا السبيل الصحيح فهو التعليم الشفهي على لسان المعلِّم الذي تكمن الألفاظ في نفسه، ثم تخرج عنه، فتستقر في النفوس، كأنها حديث القلب إلى القلب. نحن إذن نستطيع أن نتصوَّر أن الأكاديمية كانت مكانًا للبحث والمحاورة، أو كما يُقال اليوم قاعات البحث. ولم تكن هناك محاضرات عامة منظَّمة يُلقيها أفلاطون، والمأثور عنه أنه في الشيخوخة كان يُلقي درسًا عامًّا، وكان موضوع هذه المحاضرة «الحقيقة»، وكان الناس يتهافتون على سماعها، وكانت مثار الاهتمام الشديد، وكان بعض الحاضرين يُقيِّدونها ومنهم أرسطو، وقد عرفنا آراء أفلاطون ممَّا ردَّ عليه أرسطو في كتبه، وأغلب الظن أن هذه الموضوعات كانت عاليةً على الأفهام. فإذا كُنَّا نعرف أفلاطون من محاوراته، فنحن لا نعرفه من دروسه. وكان له طُلَّاب يُعاونونه، بل نستطيع أن نقول إنهم كلهم طلبة ومنهم أفلاطون، فهو نظام من الأخوة شبيه بذلك النظام الذي كان سائدًا في مدرسة فيثاغورس. وكان بعض الطلبة يقومون بالتدريس كنظام العرفاء في الكتاتيب، والمعيدين في الجامعات. وقد ظلَّ أرسطو في الأكاديمية عشرين عامًا، فكان ساعد أفلاطون الأيمن، ولولا ظروف خاصة لخلفه في رئاسة الأكاديمية. وظلَّت الأكاديمية تتلقَّى الطلاب، ويُلقى فيها العلم تسعمائة عام في نفس المكان، إلى أن أغلقها الإمبراطور جستنيان سنة ٥٢٩م، وكانت لا تزال في مكانها بجوار ذلك البستان. ومع أن الطلبة اختلفوا على المدرسة جيلًا بعد جيل، إلَّا أن روح أفلاطون كانت تُرفرف عليها، وتُسيطر على التعليم فيها. ولا نستطيع أن نقول إن الأكاديمية قُضِيَ عليها حين أغلقها جستنيان، بل ظلَّت باقيةً حيَّة، ولكن في ثوبٍ آخر؛ في ثوب المسيحية التي تدين لفلسفة أفلاطون بالشيء الكثير. ولم تأخذ بفلسفة أرسطو إلَّا في القرن الثالث عشر على يد القديس توماس الأكويني. وظلَّت الأكاديمية حيةً في ثوبٍ آخر هو أسماء هذه الجامعات التي تتخذ من الأكاديمية عنوانًا. وقد عادت الأفلاطونية إلى الحياة مرةً أخرى في الجيل الحاضر؛ إذ أخذ العلماء بتفسير أفلاطون الرياضي للكون بدلًا من تفسير أرسطو الطبيعي لها. وكانت الأكاديمية ذائعة الصِّيت في عهد أفلاطون نفسه، وكان يَفِد إليها الطلاب من كل جهة. غير أن قَبول الطلبة لم يكن يسيرًا؛ إذ لا بد أن يكونوا على مستوًى خاصٍّ من الاستعداد والعلم والذكاء، وكان العمل على مقياس ذلك. والواقع فإن المدرسة كانت مخصوصةً بالفلسفة فقط، أو ما نقول عليه اليوم الميتافيزيقا، ولم يكن لها علاقة بالأخلاق والسياسة، وإن كانت موضوعات للبحث. ونحن لا نجد ذكرًا لطلبة الأكاديمية في الحياة العامة، ولم يبرز منهم أحد، وهنا نرى الخلاف بين سقراط وأفلاطون واضحًا؛ فكان تلامذة سقراط منغمسين في الحياة العامة، بل منهم من ساءت سمعته مثل كرتياس وألقبيادس. أمَّا أفلاطون فلا يُعاب من هذه الناحية، على حين أن بعض المؤرِّخين يعيبون على سقراط فساد بعض تلاميذه. وكان يَفِد إلى أثينا كثيرٌ من الزائرين البارزين يشهدون أكاديمية أفلاطون بأنفسهم، وكانت لهذه الزيارات أثر كبير في التعليم؛ إذ تُصبح مثارًا لمناقشات تدور بين الطلبة، وتُعرِّفهم بعقلية جديدة، وقد صوَّر لنا أفلاطون في افتتاح محاورة بروتاجوراس كيف استقبل هذا السفسطائي في منزلي كالياس، وكيف كان يجوس خلال الدار وحوله المستمعون، ونجد فيها كيف أثار مَقدم بروتاجوراس شغف سقراط ولم يسمح له بالدخول، وأكبر الظن أن هذه المشاهد كانت تتكرَّر في الأكاديمية. وإذا ألقينا النظر في المحاورات لوجدنا أن تفكير أفلاطون كان ينضج مع تقدُّمه في السن، فإذا لاحظنا أن تعاليم الأكاديمية أعلى منها، فلا شك أن بعض الطلاب كان يعجز عن فهمها؛ ولذلك ينصرفون عنها. ولم يكن الطلبة يدفعون أجرًا على التعليم، ولكن أغلبهم من الأغنياء، فكان أهلهم يُقدِّمون هِباتٍ للمدرسة أشبه شيء بما كان يوقفه الأمراء على التعليم. ولم يكن في هذه الهِبات ما يُعوِّض التلاميذ عن انقطاعهم للفلسفة والعُزلة الفكرية، ويقال إن ديونيسوس الثاني وهب المدرسة نصف مليون جنيه، ممَّا يُبيِّن صبر أفلاطون على ذلك الملك الجاهل. وكان للطلبة أزياء خاصة، وقلنسوات خاصة، وعباءات تُميِّزهم عن غيرهم. والتقليد الذي يُؤخذ به اليوم من لبس زي خاص في الجامعات هو إحياءٌ لما كان موجودًا في الأكاديمية. وكان شعراء أثينا الهزْليون يسخرون من طلبة الأكاديمية لرِقَّة سلوكهم وجميل ثيابهم. وكان للنساء حق الالتحاق بالأكاديمية طبقًا لمذهب أفلاطون.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/31537282/
في عالم الفلسفة
أحمد فؤاد الأهواني
«الفلسفة بحر لا يُعرف له قرار. تحتاج في معرفتها إلى العلم بما قاله القدماء، وما ذكره المُحدثون، وهو شيء لا تُحيط به إلا المتون والمطوَّلات.»الفلسفة هي علمٌ غزيز مليء بالنظريات والأفكار والرُّؤى والتفسيرات. وزخرت مكتبات العالم بمئات الكتب التي أفاضت الحديث عن كافة جوانبها وتطوُّراتها عبر العصور والأزمان. وهذا الكتاب على الرغم من حجمه الصغير، فإنه يُعَد واحدًا من الكتب الفلسفية المهمة لأي قارئٍ يريد الإلمام الجيد بهذا العلم؛ فبين دفَّتَي هذا الكتاب يأخذنا «أحمد فؤاد الأهواني» في رحلةٍ سريعة لثلاثة عوالم فلسفية؛ بدايةً من عالَم الفلسفة اليونانية، مرورًا بعالَم الفلسفة الإسلامية، منتهيًا بعالَم الفلسفة الحديثة، مستعرضًا بإيجازٍ أبرز العلماء والفلاسفة في كل عالَمٍ على حِدَة، ومُتحدِّثًا بأسلوبٍ بسيط غير مُعقَّد عن العديد من النظريات والآراء الفلسفية التي لا نعرف عنها الكثير، والتي تناول بعضها وفقًا لِرُؤاه الشخصية.
https://www.hindawi.org/books/31537282/5/
طيماوس وخلْق العالم
ومهما يكن من شيء فالمحاورة أسلوبها أسطوري شِعري، لا نستطيع أن نُميِّز رأي أفلاطون من الأساطير القديمة التي يحكيها ولا يُوافق عليها. يقول أفلاطون إن المدركات على نوعين؛ ثابتة تُدرَك بالعقل، ومدركات متغيِّرة تُدرَك بالحس أو الظن. والعالم المشاهَد من النوع الثاني فهو مُتغيِّر، وليس ثابتًا أو أزليًّا. وينتهي من هذا بأن العالم المحسوس مُتغيِّر وليس أزليًّا؛ فهو مخلوق لله، والله خيرٌ مطلق خلَق العالم على مثال الأزل ومثال الخير، ولا يمكن أن يكون المثال المخلوق مُطابقًا تمام المطابقة للأصل. ولأن الله يخلو من الحسد والعواطف الدنيئة، فقد خلق العالم على مثاله، وأراد أن تكون جميع الأشياء خيرًا لا شرًّا، «ثم وجد أن العالم المحسوس أو هذه الكرة المحسوسة لا تستقر، بل تتحرَّك في غير نظام، ولم يُعجبه ذلك فأخرج النظام من الفوضى، وبثَّ النظام في العالم.» ويدلنا هذا النص من محاورة طيماوس على أن الله ليس خالقَ العالم، ولكنه في مواضعَ كثيرةٍ يقول إن الله خالق العالم. مهما يكن من شيء، فلا نستطيع أن نجزم برأيٍ حاسم واضح فيما يختص بفكرة أفلاطون عن الله، هل خلق العالم، أم أنه نظَّمه فقط؟ وبعد أن بثَّ الله النظام في العالم، وضع العقل في النفس، ثم بثَّ النفس في البدن؛ وبذلك جعل العالم كُلًّا واحدًا، وكائنًا حيًّا، أو حيوانًا، فيه نفس وعقل. والواقع فإن الفلاسفة اليونانيين كانوا يعتقدون أن عالم السماء حي. ويختلف أفلاطون مع الفلاسفة الطبيعيين الذين زعموا أن العالم كثير، بل يعتقد على العكس أن العالم واحد؛ وسبب ذلك أنه خُلق على مثال الواحد. والرأي عند أفلاطون وأرسطو من بعده هو أن العالم كله «كائن حي»، أو باصطلاح الفلاسفة «حيوان» محسوس يشمل جميع الكائنات الحية؛ فالعالم كله كرة؛ وسبب ذلك أن الكرة تتشابه أجزاؤها، والشبيه أفضل وأكمل من اللاشبيه، وهذه الكرة تدور حول نفسها لأن الحركة الدائرية أكمل الحركات. ولكن ما موضع العناصر الأربعة في هذا العالم؛ الماء والهواء والتراب والنار؟ بين هذه العناصر تناسبٌ دائم ينتهي إلى الانسجام فيما بينها. وتُرتَّب العناصر كما يأتي؛ النار ثم الهواء ثم الماء ثم التراب، بحسب الثِّقَل. ثم بين هذه العناصر وبين بعضها الآخر تناسب؛ فالنار للهواء، كالهواء للماء، كالماء للتراب. وسِرُّ تناسبها هو ما فيها من روحِ الصداقة والوئام. ولا انفصال لهذه العناصر إلَّا إذا شاء الله. أمَّا النفس فهي على خلاف البدن الذي يتركَّب من العناصر الأربعة. وقد خلق الله النفس أولًا كما ذكرنا، وهي مزيج من الجوهر الثابت اللامنقسم (الإلهي)، والجوهر المتغيِّر المنقسم (العناصر الأربعة) فيه إذن جوهر ثالث متوسِّط. وبعد ذلك يتحدَّث أحد الفيثاغوريين عن أصل الزمان والكواكب فيقول ما يأتي: عندما رأى الخالق العالم الذي خلقه يتحرَّك ويحيا، أراد أن يجعله أكثر شبَهًا به فبثَّ فيه النظام، وجعل حركته حسابيةً عددية، وهذه الصورة الزمان، لم يكن قبل ذلك ليل أو نهار، ثم ظهر الزمان والسنوات في وقت واحد. خلق الله الشمس ليعرف الناس عدد السنين والحساب، ومن دون الشمس فلا ليل ولا نهار ولا حساب. وبالليل والنهار والشهور والسنين عرف الناس الحساب والزمان؛ فعرف الناس الفلسفة، والفضل في ذلك للبصر؛ إذ بالمشاهدة المحسوسة أدركنا كل ذلك. ونظر أفلاطون إلى الكائنات الموجودة في العالم فقسَّمها إلى أربعة أقسام: الآلهة: وهذا أثرٌ من آثار الأساطير اليونانية؛ فهو يرى أن هناك إلهًا واحدًا لهذا العالم. فما موضع الآلهة بجانب هذا الإله الواحد؟ نستطيع أن نُشبِّه ما يقوله في فلسفته بما يقوله أصحاب الأديان بوجود الملائكة بين الله وبين سائر المخلوقات. الطيور: وهي المخلوقات التي تعيش في الهواء. والأسماك: وهي المخلوقات التي تعيش في الماء. ثم الحيوانات البرية: التي تعيش على الأرض. ثم بعد أن خلق الله الآلهة، قال لهم إنه قادر على الخسف بهم، ولكنه لم يفعل وطلب إليهم أن يخلقوا العالم المثالي بعد أن خلق الله العالم الأولي الإلهي. والمفهوم من هذا أن كلام أفلاطون إن هو إلَّا شِعرٌ وأساطير. ثم جعل الله لكل نجم نفسًا، والأنفس فيها الإحساس والحب والبغض والغضب، فإذا تغلَّبت الأنفس على هذه الأهواء عاشت سعيدة، فإذا عاش الإنسان في هذه الدنيا على الحق والخير؛ ذهب في الأخرة إلى نجمه السعيد. وإذا كان شريرًا فسوف ينقلب حيوانًا أو شيئًا آخر، بطريق التناسخ، إلى أن يصير صالحًا. والخلاصة: أن الله وزَّع الأنفس فجعل بعضها على الأرض وبعضها الآخر على القمر، وبعضها الثالث على الكواكب الأخرى، وترك للآلهة أن تضعها في الأبدان. والعِلل على نوعَين؛ عِلل عاقلة، وأسباب غير عاقلة تابعة لها، ومستمدَّة منها. هذه الأسباب غير العاقلة تنقسم بدورها قسمَين؛ قسم يخضع للضرورة أو النظام، وقسم لا يخضع للضرورة، بل للاتفاق والمصادفة. والكلام في العِلل يدخل في نظام العالم بأسره، وهو في صميم الفلسفة. هي يُسيِّر هذا العالمَ ويُحدِث ما فيه من أحداثٍ قوةٌ عاقلة، أم ضرورة حتمية تصل الأسباب بالمسببات، ولا شأن للعقل بهذه الضرورة، أم أن الأمر مصادفة لا ضرورة فيها ولا عقل؟ والواقع أننا إذا رجعنا إلى الفلاسفة قبل أفلاطون، لوجدنا أن بعضهم يقول بالعقل المُسيِّر لنظام العالم مثل أنكساجوراس، وبعضهم الآخر يقول بالمصادفة البحتة؛ فديموقريطس يقول إن الأصل في اجتماع الذرات بحيث تُكوِّن الأشياء والموجودات، إنما كان محض مصادفة. إلَّا أن أفلاطون يجمع بين هذه الأصول، فيرى أن العالم فيه عقل من بعض النواحي؛ بمعنى أنه ليس كل ما في الكون يخضع للقوة العاقلة، إنما الذي يخضع للقوة العاقلة عالم الكواكب وعالم الإنسان، أمَّا سائر الكائنات فإن بعضها يخضع للضرورة، وبعضها الآخر يخضع للاتفاق. وأظن أن أرسطو ولو أن نظرته إلى العلل تُخالف نظرة أفلاطون، إلَّا أنها شديدة الشبَه بما ذكره أستاذه. كل ما في الأمر أنه أكثر تحديدًا للمشكلة؛ فهو يُقسِّم العِلل أو الأسباب إلى أربع؛ المادية والصورية والفاعلية والغائية، وأن العِلة الغائية في الإنسان تخضع للعقل؛ ولذلك كان الإنسان حُرًّا، وكان مسئولًا عن أعماله الخلقية، وأن العِلل في غير الإنسان تخضع للضرورة لأنها قديمة. وليست العلة الصورية إلَّا ما يُعرف بالنوع؛ فالصورة في الشيء هي نوعه، ومن هنا كانت الصورة واحدةً بالنسبة لجميع الأفراد، وليست صورة أرسطو إلَّا مثال أفلاطون، إلَّا أن أفلاطون فصَل المثال وجعله في عالم السماء بعيدًا عن المادة، على حين أن أرسطو حقَّق المثال الأفلاطوني في المادة، ولم يفصل بينهما. ثم نجد عند أرسطو كلامًا في الاتفاق؛ أي في حدوث الأشياء بغير عِلة، ويضرب لذلك مثلًا؛ بعضها في الأعمال الإنسانية، وبعضها في الأعمال الطبيعية. فممَّا قاله في المصادفة الخاصة بالأعمال الإنسانية — وهو يعني بالمصادفة خروج الفعل عن الغاية التي قصدها — ما وقع لأفلاطون من أنه كان يركب السفينة يقصد أثينا فوقع في الأسر. فوقوع أفلاطون في الأسر انحراف عن العِلة الغائية، والعِلة هنا جاءت مصادفة. ومثال آخر؛ فلَّاح يضرب الفأس في الأرض يحرثها بقصد الزراعة، فإذا به يقع على كنز. فوقوع الفلَّاح على الكنز انحراف عن غايته وعن قصده جاء مصادفة. وممَّا يقوله في المسائل الطبيعية تولُّد الديدان والذباب من غير عِلة. ويُعلِّل أرسطو وقوع الأشياء بالمصادفة تعليلًا خاصًّا لا يعنينا الآن. إنما نُريد أن نقول إن مشكلة العِلل والأسباب لا تزال قائمةً حتى اليوم، لم يفصل فيها العلم الحديث؛ فهل هذا العالم منظَّم؟ وهل هو نظام ثابت أم يتغيَّر؟ وإذا أمكن أن يتغيَّر ذهب القول بالضرورة. وليست العناصر الأربعة التي نُسمِّيها العناصر الأولى مبادئ الأشياء، وإنما هي نتيجة لجوهر أول، هو المثال المعقول، فهل هذه الجواهر المعقولة لها حقيقة في ذاتها أم هي مُجرَّد أسماء أو ألفاظ؟! مهما يكن من شيء، فالمشكلة الأساسية عند أفلاطون هي في التمييز بين عالم المعقول، وبين عالم المحسوس. ثم جعل أفلاطون بين العالم المعقول والعالم المحسوس شيئًا ثالثًا يتوسَّط بينهما هو المكان؛ ولذلك قسَّم الموجودات على ثلاثة أنواع؛ الأول: المعقولات وهي متشابهة فيما بينها. وهذ المعقولات ليست مخلوقة، ولا يعتريها الفساد، ولا تتغيَّر ولا تُشاهَد بالحس، بل بالعقل فقط. والنوع الثاني: موجودات تُشبه المعقولات في الاسم فقط، وتُدرَك بالحواس، ومخلوقة، وفي حركة دائمة، وتتغير؛ أي إنها تنتقل في المكان، وتختفي من المكان، وتُدرَك بالحس والظن. والنوع الثالث: المكان، وهو أزلي لا يعتريه الفساد، وهو الذي يُهيِّئ موضعًا للمخلوقات المختلفة، ولا يُدرَك المكان بالحواس، وإنما بعقل أسمى من المرتبة الحسية. وكُنَّا نَوَدُّ أن نُلخِّص جميع أجزاء هذه المحاورة الهامة، وبخاصة ما جاء فيها عن النفس الإنسانية، إلَّا أن ذلك يدفعنا إلى الإطناب. ونُحب أن نختم الكلام بما اختتم به أفلاطون محاورته، حيث يقول على لسان طيماوس: «نستطيع الآن القول بأن حديثنا عن طبيعة العالم قد بلغ النهاية؛ ذلك أن العالم قد تلقَّى الحيوانات، الفانية والخالدة، وهو مملوء بها. وأصبح العالم حيوانًا مرئيًّا يحتوي المرئي، على مثال الله الصانع العظيم الخير الجميل الكامل.»
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/31537282/
في عالم الفلسفة
أحمد فؤاد الأهواني
«الفلسفة بحر لا يُعرف له قرار. تحتاج في معرفتها إلى العلم بما قاله القدماء، وما ذكره المُحدثون، وهو شيء لا تُحيط به إلا المتون والمطوَّلات.»الفلسفة هي علمٌ غزيز مليء بالنظريات والأفكار والرُّؤى والتفسيرات. وزخرت مكتبات العالم بمئات الكتب التي أفاضت الحديث عن كافة جوانبها وتطوُّراتها عبر العصور والأزمان. وهذا الكتاب على الرغم من حجمه الصغير، فإنه يُعَد واحدًا من الكتب الفلسفية المهمة لأي قارئٍ يريد الإلمام الجيد بهذا العلم؛ فبين دفَّتَي هذا الكتاب يأخذنا «أحمد فؤاد الأهواني» في رحلةٍ سريعة لثلاثة عوالم فلسفية؛ بدايةً من عالَم الفلسفة اليونانية، مرورًا بعالَم الفلسفة الإسلامية، منتهيًا بعالَم الفلسفة الحديثة، مستعرضًا بإيجازٍ أبرز العلماء والفلاسفة في كل عالَمٍ على حِدَة، ومُتحدِّثًا بأسلوبٍ بسيط غير مُعقَّد عن العديد من النظريات والآراء الفلسفية التي لا نعرف عنها الكثير، والتي تناول بعضها وفقًا لِرُؤاه الشخصية.
https://www.hindawi.org/books/31537282/6/
إله أرسطو
يذهب أغلب مؤرخي الفلسفة إلى أن إله أرسطو هو «المحرِّك الذي لا يتحرَّك»، ويغفلون كثيرًا عن الصفات التي نسبها أرسطو إلى الله. ومن الإنصاف للمعلِّم الأول، ولتاريخ الفلسفة، أن يُقال إن الله عند أرسطو هو المحرِّك الذي لا يتحرَّك، الواحد، الحي، التام الوحدة، لا ينقسم، وليس بذي عَظْم، لا مادي، وهو موجود، وفعل خالص، وصورة محضة، وعقل محض، ومعشوق لذاته. بل يجب أن يُقال أكثر من ذلك: إن أرسطو في محاورة له «في الفلسفة» نادى بالبرهان الوجودي، وخلاصة الدليل «أن الموجودات بعضها أفضل من بعض، فهناك إذن موجود أفضل منها جميعًا، هو الكمال المطلق، وهو الله». وقال بدليل الإبداع في نفس المحاورة، وضرب مثلًا بقوم يتأمَّلون لأول مرة جمال الأرض والبحر، وعظَمة السماء والنجوم، فينتهون إلى أن هذه جميعًا من صنع الله. وأرسطو يتأثَّر في هذا الدليل الأخير خطا أفلاطون، وما ذكره في محاورة بارمنيدس وغيرها. إلَّا أن أرسطو في مقالة «اللام» من كتاب ما بعد الطبيعة أو الفلسفة الأولى، يعدل عن هذه الأدلة، ويبتعد عن آراء الجمهور الدينية، ويستخلص الدليل من المبادئ التي تتلاءم مع جملة فلسفته، ومع رأيه في الفلسفة الأولى. وبرهان المحرِّك الذي لا يتحرَّك هو البرهان الذي اختُص به أرسطو فاشتُهر به. ويقتضي فهم هذا البرهان الكلام في الحركة والمحرِّك والمتحرِّك والزمان؛ ولذلك يجب أن ينظر الباحث إلى كتاب ما بعد الطبيعة، وفي كتاب الطبيعة، السماء والعالم. والحركة هي تغيُّر أو تبدُّل أو انتقال يشمل المتحرِّك، وهو الجسم، ويقتضي محرِّكًا. ويذهب أرسطو إلى أن حركة العالم أزلية، وليس لها أول ولا آخر، وكل جسم فهو متحرِّك بالفعل أو بالقوة. وكل حركة فيه في زمان، فلا حركة بغير زمان، والزمان مقياس الحركة. فإذا كانت الحركة أزلية، فإنها ناشئة عن ارتباطها بالزمان، والزمان أزلي. فإن قلت: وما الدليل على أزلية الزمان؟ أجاب أرسطو: خُذْ أي مُدة أو لحظة، تجد أنها وسط بين الماضي والمستقبل؛ فالزمان آنات متصلة، ولو وقفنا عند أي مُدة، فهذه المُدة جزء من الزمن المتصل من الماضي إلى المستقبل. وإذن فلا أول للزمان؛ لأن أول الزمان حاضر له ماضٍ ويتبعه مستقبل، فالزمان أزليٌّ لا أول له ولا آخر. ولمَّا كان الزمان عدد الحركة أو مقدارها، وكان الزمان أزليًّا، فالحركة إذن أزلية بالضرورة. ومن هذا الوجه يتبيَّن أنه من التناقض قَبول فكرة الحركة على أنها ذات بداية وذات نهاية؛ إذ يقتضي ذلك القول بوجود «قبل» على مبدأ الحركة، و«بعد» على نهاية الحركة، وهذا خُلف وتناقض؛ لأن «القبل»، وهو الحالة السابقة، و«البعد» وهو الحالة اللاحقة، يتضمَّنان فكرة الحركة. ••• ينبغي إذن أن نُسلِّم — كما يقول أرسطو — بأزلية الحركة. ولا يمكن أن تكون أزليةً إلَّا إذا كانت دائرية. وهذه الحركة الأزلية الدائرية هي الحركة الأولى المتصلة للعالم، وجميع الحركات الأخرى مُترتَّبة عليها، ومتعلِّقة بها؛ ذلك أن سائر الحركات الأخرى تقع بين حدَّين متقابلَين، والتغيُّر المستقيم ذو بداية ونهاية؛ أي إنه يتردَّد بين نهايتَين. الحركة الدائرية فقط هي الحركة المتصلة؛ لأنها تنتهي من حيث بدأت. وكذلك الحركة الأزلية المتصلة إلى ما لا نهاية دون انقطاع، ليست إلَّا للحركة الدائرية. هذه الحركة الدائرية الأزلية هي على التحقيق حركة «السماء الأولى». أمَّا إنها دائرية فلا تحتاج إلى برهان؛ لأنها واضحة لنا بالمشاهدة المحسوسة، وما دامت دائرية، فهي أزلية. ••• فما على حركة «السماء الأولى»، وما علة أزليتها؟ لو قلنا إن المتحرِّك لا بد له من محرِّك؛ لذهبنا مع سلسلة المحركات إلى ما لا نهاية. فلا بد أن نضع حدًّا يكون أصلًا، أو مبدأً للحركة، وهذا الحد لا يتوقَّف إلَّا على ذاته، فهو على حركة ذاته. غير أن المحرِّك الذي يتحرَّك بذاته يقتضي بالضرورة جزأَين؛ جزءًا متحرِّكًا، وجزءًا محرِّكًا لا يتحرَّك. إذَنْ فالعلة الأولى للحركة الأزلية محرِّك لا يتحرَّك. هذا المحرِّك الذي لا يتحرَّك هو الله. ومن صفاته أنه «موجود» ما دامت الحركة التي تتوقَّف عليه أزلية. ومن صفات هذا المحرِّك أنه «تام الوحدة»؛ لأن الحركة الأزلية التي نشأت عن وجوده متصلة، والاتصال يقتضي الوحدة. والله حيٌّ لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، وحياته دائمة أزلية، لأنه يُحرِّك السماء الأولى وما فيها من نجوم وكواكب حول الأرض، والسماء كائن حيٌّ تُحرِّكه نفس، كما أن هناك عقولًا للكواكب التي تزيد على الخمسين وهي التي تُحرِّكها. ولا يكفي أن نقول إن المحرِّك الأول واحد، فهو أيضًا غير منقسم؛ لأنه غير ذي عظم أو مقدار. ولا يمكن أن يكون ذا مقدار أو عظم؛ لأن كل عظيم فهو متناهٍ، وهو يُحرك في زمان لا متناهٍ، والمتناهي لا يُحرِّك اللامتناهي؛ فهو إذن غير ذي عظم ولا ينقسم. ولمَّا كان الله عاريًا عن التغيُّر، فإنه هو ذاته، ووجوده ضروريٌّ ضرورةً مطلقة؛ ذلك أنه فعل خالص لا يشوبه شيء من القوة؛ لأن ما بالقوة قد يتحقَّق وقد لا يتحقَّق. فإذا كان المحرِّك الأول موجودًا بالقوة فقد لا يفعل، ولن تكون حركته أزلية. وما الدليل على أن الله فعل خالص؟ يذهب أرسطو في سبيل إثبات ما يريد إلى أن مبدأ الأشياء فعل خالص، وأنه من الخطأ اعتبار القوة سابقةً على الفعل، وأن أصل الأشياء القوة المجرَّدة، كما يذهب القدماء من رجال الدين، وهم الذين أخرجوا العالم من الظلام والليل، وكما يذهب الفلاسفة القائلون بأن اختلاط المادة هو مبدأ الأشياء. فإذا كانت المادة والقوة حقيقتَين أوليَين، فمن أين جاءت الحركة وهي انتقالٌ من القوة إلى الفعل؟ من المسَلَّم به في نشوء الكائنات الحية أن المبدأ هو البذر، ولا يبلغ الكائن كماله إلَّا في آخر الأمر. غير أن البذر يخرج من الكائن الكامل. فليس المبدأ هو البذر، بل هو هذا الموجود الكامل. وإذن فالحقيقة الأولى هي حقيقة الفعل والكمال. فالمحرِّك الأول يُحرِّك العالم باعتبار أنه كمال مطلق. والمحرِّك الذي لا يتحرَّك معشوق. وليس المعشوق شيئًا آخر إلَّا المعقول؛ لأن موضوع العشق يُدرَك بالعقل والفكر؛ إذ بالفكر نُدرك الجميل والخير، وهما موضوعا العشق. كان المعقول الأول، المعقول الأسمى، هو هذا المبدأ الذي نتحدَّث عنه. ولمَّا كان أزليًّا، لا ينقسم، وكان فعلًا خالصًا؛ فهو لا مادي. إنه الجوهر المعقول العاري عن كل مادة، وحيث كان كذلك فهو الموضوع الأسمى للعشق، وهذا هو علة فعله الدائم. فالمحرِّك الأول يُحرِّك من حيث إنه معشوق، يتعلَّق به السماء والعالم جميعًا. والحركة التي يقتضيها هي فعل العشق الأزلي. هذا الموجود الكامل، المعشوق الكامل الذي يجذب العالم نحوه، هو الذي تُسمِّيه الفلسفة: الله. ولقد ميَّز أرسطو من أول الأمر عند البحث في عِلل الموجودات بين الطبيعة التي تبحث في الموجودات، الطبيعية الخاضعة للحركة والمتلبِّسة بالمادة، وبين الفلسفة الأولى التي تبحث في الله؛ أي الموجود الذي لا يتحرَّك، المفارق للمادة. فالمحرِّك الأول هو هذا الموجود الذي لا يتحرَّك، المفارق للمادة. ونحن نعلم أنه لا يتحرَّك لأنه يُحرِّك من حيث لا يتحرَّك. ونعلم أنه مفارق للمادة ما دامت صفات الأزل والوحدة والفعل الخالص التي يتصف بها، هي صفات الموجود العاري عن جميع شوائب المادة. والله عقل محض؛ لأن الموجود الأسمى لا يصدر عنه إلَّا الفعل الأسمى، وأسمى ضروب الفعل هو الفكر. ولأن الفكر هو أسمى الأشياء، كان الله فكرًا خالصًا. وينبغي ألَّا تُشبِّه الفكر الإلهي بالفكر الإنساني؛ ذلك أن الله فعل محض لا يشوبه شيء بالقوة، ولذلك لا يعتري فكره نقص. وماذا يكون حال الله إذا اعتراه ما يعتري الإنسان إذا أخذته سِنة من النوم؟ وإذا كان الله عقلًا خالصًا فما موضوع الفكر الإلهي؟ لا بد أن يكون موضوع الفكر الإلهي شيئًا لا ينقسم؛ إذ لو كان منقسمًا كان ذا أجزاء؛ عندئذٍ ينتقل الفكر من جزء إلى آخر؛ فيخضع للتغيُّر. فإذا كان موضوع الفكر الإنساني الأشياءَ المركَّبة، ولا يرتفع إلى إدراك الواحد اللامنقسم، فإن الفكر الإلهي حدس دائم متصل يُدرك الواحد المطلق اللامنقسم. ولكن الواحد اللامنقسم هو الله. فالله يدرك ذاته. وموضوع الفكر الإلهي هو ذاته. ولا يمكن أن يكون غير ذلك؛ لأن الله يعقل أسمى الأشياء، وكل ما عدا الله يعتريه النقص. ••• ثم تساءل أرسطو — بعد أن حدَّد الطبيعة الإلهية — عن الصلة بين الله الكامل وبين العالم؟ آلله مفارق مفارقةً تامةً للعالم، أم هو يدخل في نظام العالم؟ يُجيب أرسطو بأن الله مفارق للعالم وحاضر في نظامه في آنٍ واحد. مثَله من العالم مثَل القائد من الجيش، يجمع «الخيرُ» بينهما، ﻓ «الخير» موجود في نظام الجيش وفي عقل القائد. بل «الخير» أكثر وجودًا في عقل القائد؛ لأن نظام الجيش لا يخلق قائده، بل القائد هو سر نظامه. فالكمال موجود في الله المفارق للعالم، والكمال ظاهر في نظام العالم؛ ذلك أن العالم يقوم على النظام، سواء أكان ذلك في عالم السماء أم في عالم الكون والفساد، إلَّا أن النظام في عالم السماء أتمُّ وأكمل. وليس الكون فوضًى لا ضابط له ولا إحكام في أجزائه؛ إذ الواقع أن ما فيه من نظام يقتضي واحدًا حكيمًا.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/31537282/
في عالم الفلسفة
أحمد فؤاد الأهواني
«الفلسفة بحر لا يُعرف له قرار. تحتاج في معرفتها إلى العلم بما قاله القدماء، وما ذكره المُحدثون، وهو شيء لا تُحيط به إلا المتون والمطوَّلات.»الفلسفة هي علمٌ غزيز مليء بالنظريات والأفكار والرُّؤى والتفسيرات. وزخرت مكتبات العالم بمئات الكتب التي أفاضت الحديث عن كافة جوانبها وتطوُّراتها عبر العصور والأزمان. وهذا الكتاب على الرغم من حجمه الصغير، فإنه يُعَد واحدًا من الكتب الفلسفية المهمة لأي قارئٍ يريد الإلمام الجيد بهذا العلم؛ فبين دفَّتَي هذا الكتاب يأخذنا «أحمد فؤاد الأهواني» في رحلةٍ سريعة لثلاثة عوالم فلسفية؛ بدايةً من عالَم الفلسفة اليونانية، مرورًا بعالَم الفلسفة الإسلامية، منتهيًا بعالَم الفلسفة الحديثة، مستعرضًا بإيجازٍ أبرز العلماء والفلاسفة في كل عالَمٍ على حِدَة، ومُتحدِّثًا بأسلوبٍ بسيط غير مُعقَّد عن العديد من النظريات والآراء الفلسفية التي لا نعرف عنها الكثير، والتي تناول بعضها وفقًا لِرُؤاه الشخصية.
https://www.hindawi.org/books/31537282/7/
أمواج الفكر الإسلامي
في القرن السابع الميلادي ظهرت في العالم المعروف في ذلك الزمان أمة غيَّرت معالم التاريخ، وساهمت في بناء الحضارة موجِّهةً إياها إلى أهدافٍ جديدة سياسية واقتصادية واجتماعية وعقلية؛ تلك هي أمة العرب، صاحبة الرسالة المحمدية والدين الجديد، وكتاب الله الذي نزل باللسان العربي المبين. وتقوَّضت معالم الروم والفرس أمام جيوش المسلمين، وزالت دولة الفرس، وأسلم أهلها، وذهب كِيانها الأول، وقُصَّت أجنحة الدولة البيزنطية، فاستولى المسلمون على فلسطين والشام ومصر وشمال أفريقيا. ثم بلغ الإسلام الأندلس في الجنوب الغربي من أوروبا، وازدهرت الحضارة في قرطبة وغرناطة وطليطلة وغيرها من عواصم الأندلس، حتى أصبحت تُنافس دمشق وبغداد والقاهرة في الشرق. وهكذا حلَّت الإمبراطورية الإسلامية محل إمبراطوريتَي الفرس والروم، وهما أضخم دولتَين سياسيتَين تنازعتا المُلك والحضارة في العالم زمنًا طويلًا. وقد صحبت هذه الفتوحات السياسية فتوحات عقلية، فتغلَّب الدين الإسلامي الناشئ، وساد بين أهل البلاد المغلوبة على أمرها، فاعتنق الناس الإسلام أفواجًا، وأصبحت اللغة الرسمية في أواخر الدولة الأموية هي اللغة العربية. دين جديد، ولغة جديدة، وتقاليد جديدة، وفكر جديد؛ كل هذه مظاهر لم يكن للناس بها عهد قبل الإسلام. وليس من اليسير أن يقبل الناس الدين الجديد في سهولة، وليس من اليسير أن يتخلَّوا عن آرائهم ومعتقداتهم القديمة الموروثة بين يوم وليلة، فكان موقف المغلوبين على أمرهم من الإسلام موقف العداء، وحاولوا جهدهم أن يصرعوا العقائد الإسلامية، محاولين أن يُسندوا إليها شيئًا من الضعف والتهافت. واضطُر المسلمون إلى قَبول هذا الصراع العقلي، فقرعوا الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، واندسَّت كثير من المقرَّرات الفارسية والوثنية والمسيحية واليهودية إلى الفكر الإسلامي واندمجت به، وتكوَّن مع الزمن لون أو ألوان من الثقافة الإسلامية هي مزيج من هذا الفكر الأجنبي والآراء الإسلامية، وقد نجد لونًا من الثقافة إسلاميًّا بحتًا، وقد نجد لونًا آخر تغلُب عليه النزعة اليونانية، وقد نجد لونًا ثالثًا يظهر فيه الطابع الفارسي، وهكذا. هذه الأمواج المختلفة من الفكر تتابعت على العصور الإسلامية بمقدار التأثير الذي بلغته الآراء الأجنبية في المسلمين، وبمقدار الاستعداد لقَبولها أو التصدي لدفعها، تخليصًا للعقائد الإسلامية من شوائب التأثيرات الأجنبية. هذا التأثير والتأثُّر تابعان بالضرورة للأحوال السياسية، من اتساع رقعة الإسلام ورُقي الدولة الإسلامية أو ضعفها، وحماية الملوك والأمراء لرجال الفكر، أو العمل على حريتهم ووقفهم عند حدهم. وهذا يقتضي منَّا الإيماء إلى الحياة السياسية لتكون مرجعًا في الزمان يُساعد على تحديد الآراء والأشخاص في سِجل التاريخ والأحداث؛ لأن الحياة كلٌّ لا يتجزَّأ في ذهن الإنسان، فهو يعيش متأثِّرًا بالسياسة والمظاهر الاجتماعية، كما يعيش متأثِّرًا بالتيارات العقلية والحاجات الأدبية والفنية. ومن جهة أخرى فإن الحياة العقلية لا تنفصل عن الأحوال السياسية، فكِلا الحياتَين تُؤثِّر إحداهما في الأخرى. ولعلك تسأل: لماذا آثرنا أن يكون عنوان هذا البحث «الفكر الإسلامي» لا «الفلسفة الإسلامية»؟ فنقول: إن هذا الإيثار يرجع إلى أسباب أهمها أن الموضوعات التي سوف نتحدَّث عنها لا تُعَد في صميم الفلسفة بمعناها الخاص. ومع ذلك فالفلسفة لون من ألوان التفكير، ولو تقدَّمنا بالبحث في هذه الموجات التي سوف نعرضها، لتكلَّمنا عن الموجات الفلسفية، إلَّا أنها متأخِّرة. ولنا رأي نشرناه في كتابنا «معاني الفلسفة»، ذهبنا فيه إلى اعتبار الفلسفة على معنًى واسع؛ ولذلك كان كل إنسان فيلسوفًا. وإذا حملنا الفلسفة على المعنى الضيِّق؛ فالعارفون بالفلسفة عدد قليل والفلاسفة أقل. وإذا انصرفنا بالمعنى إلى دائرة واسعة؛ فكل إنسان فيلسوف؛ لأنه يتساءل هذه الأسئلة التي وضعها الإنسان منذ بدأ يُفكِّر والتي لا يزال يفكر فيها حتى الآن. وأكبر الظن أنه لن يصل إلى نتيجة حاسمة في هذا التفكير كما اهتدى في سائر العلوم الوضعية المحسوسة، ونُثبت بعض هذه الأسئلة؛ لأنها تدور في أذهاننا في القرن العشرين، كما دارت في أذهان المسلمين منذ القرن السابع حتى الآن. ما الوجود؟ وما أصل الوجود؟ وما نهاية العالم؟ وما غاية الإنسان من الحياة؟ وما الخير وما الشر؟ وما الله؟ وما صفاته؟ وكيف خلق العالم؟ وما قيمة العقل البشري؟ وما حدوده؟ وما حقيقة النبوة والوحي والرسالة؟ وما الحياة الآخرة؟ وما صفة الجنة والنار؟ … إلخ إلخ. لا شك أن كل فرد يُحس بهذه المشاكل ويتلمَّس لها الحلول؛ ليصل إلى قبس من نور يهدي نفسه إلى الاطمئنان بعد الاضطراب، والاستقرار بعد الشك والارتياب. وقد اختلفت إجابات المفكِّرين والفلاسفة عن هذه المسائل، ولا يزالون مختلفين. وسنعرض الآراء المختلفة للمسلمين عن هذه المسائل، في أمواجها المتلاحقة على شاطئ الزمان ومحيط المكان. والجديد الذي أرمي إليه هو أن كل جيل من الأجيال كانت تسوده فكرة تشغل الأذهان وتدفع الناس إلى البحث فيها، والاشتراك في جدلٍ صاخب حولها؛ مثال ذلك الموجة الفكرية التي سادت في عصر المأمون وعُرفت ﺑ «خلق القرآن»، وهي التي استمرَّت فترةً من الزمن الشغل الشاغل لجميع العلماء، بل اشترك في ذلك الصراع الفكري كثير من العامة أيضًا. نُريد أن ندرس «الفكر الإسلامي» ناظرين إلى هذه الأمواج التي برزت في كل جيل وكانت هي الظاهرة للعيان. وهذا الأسلوب من الدراسة يبث الحياة في الحركات العقلية، فلا تُصبح جامدةً منعزلةً تقرؤها على صفحات الكتب فلا ترى فيها إلَّا ألفاظًا مرصوصةً تخلو من الروح لأنها تخلو من الحياة. لهذا سمَّينا هذا البحث «أمواج الفكر الإسلامي». تناول «الفكر الإسلامي» هذه المسائل بالبحث، كما بحث في العلوم المختلفة طبيعية ورياضية. وقد انصبَّ تفكير المسلمين على المسائل الفلسفية كما انصرف إلى المسائل العلمية. ولم يُميِّز الأقدمون بين العلم والفلسفة، فمن الحق علينا أن نجمع بينهما حين نقصُّ تاريخهم؛ لهذا كان البحث في «الفكر الإسلامي» أَوْلى من الاقتصار على «الفلسفة الإسلامية»، إلَّا إذا تقيَّدنا بالفلسفة على المعنى الضيق، فلا نذكر غير الفلاسفة الحقيقين بهذا الاسم، بل لا نذكر من تاريخهم إلَّا الجانب الفلسفي. و«الفكر الإسلامي» آراء أشخاص، وكل فكر فهو بطبيعة الحال مِلك لصاحبه الذي صدر عنه وقال به، واهتدى إليه، ودافع عنه بالحجة والبرهان، وسطَّره بالبيان، وأذاعه في الناس، وسجَّله على صفحات الأوراق. إننا ندرس في تاريخ الفكر حياة الأشخاص وجدَل الآراء. ولا يستوي السوقة والدهماء مع قادة الفكر والأعلام العلماء، ولا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. قادة الفكر وأصحاب الرأي قليل عددهم في كل زمان، والناس لهم مُتَّبعون أو مُقلِّدون، وجدير بنا إجلالًا لهؤلاء المفكرين أن ندرسهم، وأن ننظر في حياتهم؛ لأن آراءهم ظلٌّ لشخصياتهم، فنستفيد بذلك فائدتَين؛ جلاء السر في القول بالآراء، واتخاذ سيرتهم مثلًا في الاقتداء. قيل عن ابن رشد فيلسوف قرطبة إنه سوَّد فيما كتب وألَّف عشرة آلاف ورقة، ولم ينقطع عن الكتابة والتأليف طول حياته إلَّا مرتَين؛ ليلة زواجه، وليلة وفاة أبيه. الآراء التي صدرت عن المفكرين سجَّلها أصحابها في كتب كانت مخطوطةً إلى عهد ظهور الطباعة. على أن قيمة الكتاب في تداوله بين القُرَّاء، ولو بقي مِلكًا لصاحبه فقط وحبسًا عليه؛ لاستوى عندنا صدور الكتاب وعدم صدوره. وكان من يُهمه الاطلاع على الكتب في الزمن الماضي إمَّا أن ينسخها بنفسه إذا كان فقيرًا، أو يستخدم ناسخًا بالأجر ينقلها له كما يفعل الملوك والسلاطين والأمراء؛ وبذلك زخرت خزائنهم بالمخطوطات في شتَّى أنواع الفكر لمختلِف المؤلِّفين. ومنهم من كان يهب خزانة كتبه للمدارس والمساجد ليطلع عليها من يُريد البحث والاطلاع. وفي بعض العصور كان الأمراء يُوقفون هذه المخطوطات كما تُوقَفُ الدُّور والأرض الزراعية؛ لتُحبس على العلم ونفع المشتغلين به. مهما يكن من شيء فعمادنا في البحث هو هذه الكتب لأنها المصادر التي نرجع إليها. أين هذه المخطوطات الآن؟ لقد اندثر أكثرها في عصور التأخُّر للمسلمين؛ فمن هذه المحن التي أصابت كنوز الفكر أن هولاكو قائد التتار الذي غزا بغداد ودكَّ عرش الخلافة العباسية، رمى بالكتب في نهر دجلة حتى تخضَّب ماؤه بالسواد، وقيل إن عددها بلغ مليونَي كتاب. ولا يعنينا أن نذكر الأسباب التي أدَّت إلى ضياع أغلب المؤلَّفات الإسلامية، وإنما يُهمُّنا أن نذكر أين يوجد ما بقي منها حتى الآن، وما سبيل الوصول إليها والاطلاع على ما جاء فيها. بعض هذه الكتب مطبوع، إمَّا في مصر، أو الشام، أو فارس، أو الهند، أو أوروبا. وللمستشرقين فضل كبير في تحقيق بعض المخطوطات الهامة وحسن طبعها، مع العناية بالتبويب والترتيب وذكر الهوامش المختلفة، بحيث يستفيد القارئ منها الفائدة المطلوبة. ولكن أغلب المراجع لا تزال مخطوطةً في دُور الكتب في عواصم الدول المتحضِّرة؛ ففي لندن وباريس وبرلين وليدن ومدريد وإسطنبول والقاهرة وحيدر آباد وغيرها آلاف من المخطوطات بعيدة عن متناول الجمهور. وكثير من أصحاب المكتبات الخاصة في الشرق والغرب يقتنون مخطوطاتٍ نادرةً لا توجد في المكتبات العامة. وكثيرًا ما يرجع الباحثون إلى ترجمات لاتينية ويهودية لبعض الكتب الفلسفية المفقودة في اللغة العربية، والموجودة في هذه التراجم الأجنبية منذ كان الغرب ينقُل عن الشرق في العصور الوسطى. ولن تتيسَّر الدراسة الكاملة ﻟ «الفكر الإسلامي» إلَّا إذا تمَّ إخراج جميع هذه المخطوطات إلى عالم الطباعة حتى يُسَد النقص الذي يشعر به كل من يدرس تاريخ الفكر في الإسلام. لهذا كله كانت أغلب الدراسات في العصر الحاضر ﻟ «الفكر الإسلامي»، دراسات تشق الطريق لمن يُريد زيادة البحث، لا دراسات تحقيق تُقنع العقل وتشفي الغليل. ومن جهة أخرى لا يتيسَّر دراسة بواكير الحياة العقلية عند المسلمين إلَّا بعد النظر إلى الثقافات المختلفة التي سادت في الجاهلية، أو التيارات الفكرية التي انتشرت في بيئة الجزيرة العربية. جاء الإسلام فقضى على ديانة العرب في الجاهلية وهي عبادة الأوثان، فقطع بذلك الصلة بين حاضر العرب وماضيهم في الحياة العقلية. ومن الإسراف في القول أن نُعلن أن الصلة انقطعت تمام الانقطاع، أو نتصوَّر أن المسلمين بعد جاهليتهم نسوا ماضيهم وتنكَّروا لحضارتهم السابقة. ومن الأشياء التي امتدَّت من الجاهلية إلى الإسلام طابع الشِّعر العربي، فكان شعراء المسلمين يترسمون خطا الجاهليين في أخيلتهم وطريقة قريضهم. أمَّا النظر العقلي فأساسه القرآن والسنة النبوية المبيِّنة له. وقد وردت في القرآن مسائل قبلها المسلمون الأولون ولم ينعموا النظر فيها، إنما آمنوا بها إيمانًا. فلمَّا نظر المسلمون نظرًا عقليًّا هادئًا ظهرت لهم بعض المتناقضات التي تحتاج إلى بيان، وبرزت مسائل لا بد من زيادة شرحها والتعمُّق في تفصيلها، بعض هذه المسائل يتصل بصميم العقيدة الإسلامية، مثل صفات الله؛ فقد جاء في القرآن إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (لقمان: ٢٨)، هل نفهم هذا القول على ظاهره وقد قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (الشورى: ١١)، فنجعل لله عينًا تبصر وأذنًا تسمع، أم نُنَزِّه الله على النحو الذي أراده تعالى؟ إذن لا مناص لنا من تأويل الآيات التي تتناقض بظاهرها للتنزيه الخالص. هذه مسائل إسلامية خالصة يرجع التفكير فيها إلى القرآن نفسه وليس لها صلة بالفكر الأجنبي، ولو أنه من العسير التمييز بين ما للمسلمين من فِكر وبين ما لغيرهم. نقول من العسير؛ لأن الإنسانية وحْدة لا تتجزَّأ، والعوامل التي تُؤدِّي إلى يقظة العقل، وبعثه على التفكير، وإمداده بالموضوعات المختلفة التي يَنصَبُّ عليها الفكر، هي من العوامل التي شاعت بين الناس في العصر الذي ظهر فيه الإسلام، كما تشيع هذه العوامل بين الناس في كل عصر، فتشغل الأذهان، وتنتقل من مكان إلى مكان. وموضوعات الفكر التي شغلت العقول في ذلك الزمان سادت الشرق والغرب على السواء، أمَّا الخلاف ففي طريقة معالجتها، وهو على الجملة خِلاف يرجع إلى تباين الأفراد والجماعات، أمَّا المسائل العامة فقد شاعت بينهم جميعًا، وتلمَّسوا لها شتَّى الحلول. والموضوع الذي شغل الفكر هو الإنسان، وصلة الناس بعضهم ببعض، والغاية التي يرمي إليها الإنسان من الحياة، ثم الشر الذي يصدر عنه، وما علته وما سبيل دفعه للوصول إلى الخير، ومن خالق الإنسان وخالق أعماله. هذا الموضوع الذي يتناول الإنسان من جوانب مختلفة متعدِّدة، صرفَ الأذهان عن النظر إلى الطبيعة والبحث فيها، والعالم كما تعرف هو الطبيعة والإنسان، أو الإنسان والطبيعة، أو الإنسان الذي يعيش في عالم الطبيعة إذا شئت الجمع بين العالمَين. وفي الوقت الذي ظهر فيه الإسلام كانت الإمبراطورية الرومانية في شيخوختها المتهدِّمة. ثم سقطت هذه الإمبراطورية، وقيل في أسباب سقوطها الشيء الكثير، ولكن أغلب المؤرِّخين يُجمعون على أن الانهماك في الترف من أهم هذه الأسباب. ولمَّا ظهرت المسيحية وجدت نفوسًا مستعدَّة لقَبول ما فيها من زهد وتسامٍ عن المادة. ولكن المسيحية لقيت معارضةً قويةً من الأباطرة، وهم أصحاب السلطان الرسمي، ومن الفلسفة اليونانية التي شاعت بين الناس وارتفعت منزلتها إلى مرتبة الأديان. فكانت مُهمَّة المسيحية شاقة، وهي الدفاع عن الدين، ثم شرح العقيدة المسيحية للتغلُّب على الحضارتَين اليونانية والرومانية. وليست المسيحية عقائد فحسب، إنما هي عقائد وعبادات، ويقوم رجال الكهنوت بمُهمة الدفاع عن العقيدة وشرحها وتعليمها للناس بالوعظ والإرشاد. فالقسيس قدوة لغيره، ومثل حيٌّ للفضيلة؛ ولهذا تطلَّبوا من رجال الدين أن يعيشوا معيشةً خاصةً خالصةً في الأديرة، وأن يتزَيُّوا بزي خاص؛ لتنطبع فيهم السجايا المطلوبة على أشد ما تكون. فانتشرت الأديرة في أنطاكية ورأس العين والرها وحران وغيرها من مدن الشام وفلسطين ومصر، وانقطع الرهبان إلى العلم والعبادة، فدرسوا الفلسفة اليونانية للرد عليها، وترجموا كتب أرسطو وأفلاطون وأفلوطين والفيثاغوريين وغيرهم إلى السريانية. ومن أشهر المترجمين الذين نقلوا الفلسفة من اليونانية إلى السريانية بروبوس، وهو قسيس عاش بأنطاكية في القرن الخامس الميلادي، وشرح كتب أرسطو المنطقية. ومنهم سرجيس الرأس عيني، كان راهبًا وطبيبًا، فصَّل علم الإسكندرية وترجم الإلهيات والأخلاق والتصوُّف والطب والطبيعة والفلسفة. ومنهم يعقوب الرهاوي المُتوفَّى سنة ٧٠٨م، الذي ترجم الإلهيات. ولمَّا انتصرت المسيحية في صراعها العنيف مع الوثنية، وأصبحت الديانة الرسمية للدولة الرومانية، كان العهد قد بَعُد بينها وبين العصر الأول للمسيح، واختلف النصارى فيما بينهم على أصول العقائد، وانقسموا فرقًا، وتشيَّعوا نِحلًا، حتى أمر الإمبراطور قسطنطين بعقد مجمع نيقية عام ٣٢٥م، فأصدر المجتمِعون قرارًا أعلنوا فيه ألوهية المسيح، وأنه من جوهر الله، وأنه قديم بقدم. ثم تقرَّر في المجمع القسطنطيني الأول عام ٣٨١م أن روح القدس ثلاثة أقانيم، وثلاثة وجوه، وثلاثة خواص؛ وحدانية في تثليث، وتثليث في وحدانية. ثم افترقوا إلى ثلاث فرق كبيرة؛ النسطورية، والملكانية، واليعقوبية. النسطورية نسبة إلى نسطور بطريرك القسطنطينية الذي ذهب إلى أن يسوع المسيح لم يكن إلهًا، بل هو إنسان مملوء من البركة والنعمة؛ ففصل بذلك في المسيح وهو على الأرض بين الطبيعتَين الناسوتية واللاهوتية. ولم تُعجِب هذه المقالة بطارقة روما والإسكندرية، وفرَّ نسطور إلى الشرق، وشاعت النسطورية في نصيبين والعراق والمَوصل والفرات والجزيرة. وأصبحت الملكانية هي المذهب الرسمي للدولة، بعد أن تقرَّر في مجمع خلقيدونية ٤٥١ أن المسيح فيه طبيعتان لا طبيعة واحدة، التقتا في المسيح؛ وهما اللاهوت والناسوت. وقالوا إن مريم العذراء ولدت إلهًا ربنا يسوع المسيح، الذي هو مع أبيه في الطبيعة الإلهية، ومع الناس في الطبيعة الإنسانية. أمَّا المذهب اليعقوبي — وعليه مسيحو مصر والحبشة والأرمن والسريان الأرثوذكس — فإنهم يُوحِّدون بين الطبيعتَين ولا يفصلون بينهما، ويعتقدون أن «الله ذات واحدة مثلَّثة الأقانيم؛ أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم الروح القدس. وأن أقنوم الابن تجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، فصيَّر هذا الجسد معه واحدًا وحدةً ذاتيةً جوهرية، منزَّهةً عن الاختلاط والامتزاج والاستحالة، بريئةً من الانفصال؛ وبهذا صار الابن المتجسِّد طبيعةً واحدةً من طبيعتَين ومشيئة واحدة». وقد بلغ التعصُّب بأهل هذه المذاهب مبلغًا عظيمًا وصل حد التعذيب والإيذاء. وقد لقي اليعاقبة في مصر اضطهادًا شديدًا من الملكانيين أصحاب مذهب القسطنطينية؛ ممَّا دعا الأقباط في مصر إلى الترحيب بالعرب تخلُّصًا من الاضطهاد، وطلبًا للحرية في العقيدة. هذا ما كان من شأن التيارات الفكرية المتعلِّقة بالدين التي ذاعت في آسيا الصغرى والشام والعراق وفلسطين ومصر. أمَّا ديانة الفرس القديمة فهي الثِّنوية. أثبتوا أصلَين اثنَين مدبِّرَين قديمَين يقتسمان الخير والشر، والنفع والضر، والصلاح والفساد في العالم. يُسمون أحدهما النور، والثاني الظلمة. فهم يجعلون للعالم إلهَين؛ إله الخير، وإله الشر. ثم اختلف المجوس إلى مذاهب تدور حول الأصل في امتزاج الخير بالشر، والصراع بينهما، وكيف ينتصر الخير؛ فجعلوا الامتزاج مبدأ، والخلاص معادًا. وزعم بعضهم أن الأصلَين قديمان أزليان، وزعم البعض الآخر أن النور هو الأزلي والظلمة محدثة، واختلفوا في سبب حدوثها. ثم ظهرت المانوية وهم أصحاب ماني بن فاتك الذي اتخذ دينًا وسطًا بين المجوسية والنصرانية، وزعم أن العالم مركَّب من أصلَين قديمَين؛ نور وظلمة. وقال بعض المانوية إن النور والظلمة امتزجا بالخبط والاتفاق، لا بالقصد والاختيار. ثم ظهرت المزدكية نسبةً إلى مزدك في عصر كسرى أنوشروان، الذي أمر بقتله لأنه أحلَّ النساء، وأباح الأموال، وجعل الناس شَرِكةً فيها كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ؛ ولأنها السبب فيما يقع بين الناس من بُغض ومخالفة وقتال. وانتشر القول بالصابئة، وهم عبَدة الكواكب، في شمال العراق. ومذهب هؤلاء في أول أمرهم أن للعالم صانعًا فاطرًا حكيمًا مقدَّسًا عن سمات الحدثان. والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله، وإنما يُتقَرَّب إليه بالمتوسِّطات المقرَّبين لديه، وهم الروحانيون المقدَّسون جوهرًا وفعلًا وحالة. أمَّا الجوهر فهم المقدَّسون عن المواد الجسمانية، فُطروا على التقديس والتسبيح، لا يعصون الله ما أمرهم، فنحن نتقرَّب إليهم، ونتوكَّل عليهم، فهم أربابنا وآلهتنا ووسائلنا ونفعاؤنا عند الله، وهو رب الأرباب وإله الآلهة. أمَّا عن الفعل فقالوا: إن الروحانيات هم الأسباب المتوسِّطون في الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور من حالٍ إلى حال، وتوجيه المخلوقات من مبدأ إلى كمال. يستمدُّون القوة من الحضرة الإلهية القدسية، ويُفيضون الفيض على الموجودات السُّفْلية، فمنها مدبِّرات الكواكب السبع السيارة في أفلاكها، وهي هياكلها. ولكل روحاني هيكل فلك. ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختُص به نسبة الروح إلى الجسد؛ فهو ربه ومدبِّره، وكانوا يُسمُّون الهياكل أربابًا. ففعل الروحانيات تحريك الهياكل والأفلاك على قدر مخصوص، ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر، فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات. ثم قد تكون التأثيرات كليةً صادرةً عن روحاني كلي، وقد تكون جزئيةً صادرةً عن روحاني جزئي؛ فمع جنس المطر ملَك، ومع كل قطرة ملَك. فكانوا يتقرَّبون إلى الهياكل تقرُّبًا إلى الروحانيات، ويتقرَّبون إلى الروحانيات تقرُّبًا إلى البارئ تعالى لاعتقادهم أن الهياكل أبدان الروحانيات. ثم استخرجوا من عجائب الحِيَل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يُقضى منه العجب. وهذه الطلسمات المذكورة في الكتب والسحر والكهانة والتنجيم والتعزيم والخواتيم والصور كلها من علومهم. يتقرَّبون إلى الروحانيات بهياكلها، وهذه لها طلوع وأفول، وظهور بالليل وخفاء بالنهار، فنصبوا صورًا وتماثيل يعكفون عليها، ويتوسَّلون بها إلى الهياكل فتُقرِّبهم إلى الروحانيات، فاتخذوا أصنامًا أشخاصًا على مثال الهياكل السبعة، كل شخص في مقابله هيكل. الخلاصة أن العرب قبل الإسلام كانوا على الوثنية، وهذه العبادة قضى الإسلام عليها تمامًا، وكان بعضهم يدين بالمسيحية أو المجوسية أو الصابئة، وتفرَّقت المسيحية على وجه الخصوص إلى مذاهب مختلفة. ولا ريب في أن الفكر الإسلامي قد تأثَّر إلى حدٍّ كبير بهذه الآراء التي كانت شائعةً معروفة، كما أن كثيرًا من الفُرس تحوَّلوا بعد الفتح إلى الإسلام، فحملوا معهم عقائدهم وآرائهم وطريقة تفكيرهم ونظرهم إلى الحياة. وكذلك الحال في النصارى الذين دخلوا الإسلام. لهذا كان من الواجب أن نضع تحت بصرنا هذه الألوان المختلفة من الثقافات، أو هذه التيارات الفكرية المتباينة؛ لأنها تفاعلت مع الدين الجديد، واندمجت بعضُ عناصرها في كتابات المفكِّرين، سواء عن قصد أم عن غير قصد. ولهذا قيل إن تفسير القرآن قد دُس فيه كثير من الإسرائيليات. ثم إن الفرس لم ينسَوا مجدهم البائد، وظلُّوا يعملون سرًّا على استعادة سيادتهم، فتوسَّلوا إلى ذلك بالتشيُّع إلى فريق من المسلمين، هم أهل البيت، ومزجوا الدعوة السياسية بأفكار إسلامية صاغوها على هواهم لتخدم أغراضهم، ممَّا يجعل الفصل بين الحياة العقلية وبين الحياة السياسية أمرًا عسيرًا. والخلاف الثاني في موضعِ دفنه، قال قوم: إنه يُدفن بمكة لأنها مولده، وبها قِبلته، وبها مشاعر الحجر، وبها نزل الوحي، وبها قبر جده إسماعيل عليه السلام. وقال آخرون: إنه يُنقل إلى بيت المقدس؛ فإن به تربة الأنبياء ومشاهدهم. وقال أهل المدينة: إنه يُدفن في المدينة لأنها موضع هجرته، وأهلها أهل نصرته. والثالث اختلافهم في الإمامة؛ فقالت الأنصار: منا إمام ومنكم إمام، وانتهى بخلافة أبي بكر. والمفهوم من كلام الإسفراييني أنه يجعل مبدأ التفرُّق منذ مقتل عثمان؛ لأن «الخلاف لا يكون خطرًا إلَّا إذا كان في أصول الدين، ولم يكن اختلاف بينهم في ذلك، بل كان اختلاف من يختلف في فروع الدين مثل الفرائض، فلم يقع خلاف يُوجب التفسيق والتبري. ونُحب أن نقف قليلًا عند هذا الكلام الذي يُثبته أبو المظفر، ففيه نظر؛ ذلك أنه يعد الخلاف على الفرائض من فروع الدين، بينما رأى أبو بكر وجوب حرب المرتدين الذين حاولوا تعديل الفرائض. وعندنا أن التفرقة بين أصول الدين وفروعه تفرقة اعتبارية لم تظهر إلَّا بعد استقرار الفقه في القرن الثاني. ونحن الآن في القرن الأول من الهجرة، لا نعرف شيئًا من هذه الاصطلاحات الفقهية والأصولية، وإنما الذي يعنينا أن نُسجِّله هو المُشاهد الملموس من أن الإسلام دينٌ حديث، كان همُّه الأكبر محاربة الوثنية وأهل الشرك، وقد نجح في ذلك نجاحًا عظيمًا حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا. ولكنَّ فريقًا من العرب بعد موت النبي حاولوا تعديل بعض أركان الإسلام، فسمَّاهم أبو بكر المرتدِّين، وأوجب حربهم لأنه عَدَّهم كُفَّارًا، حتى قضى على تلك الفتنة، وعاد العرب إلى حظيرة الإسلام. وشاع بعد ذلك القول في المؤمن والكافر، وقد كان ذلك البحث جِدًّا يأخذ على الناس تفكيرهم وقلوبهم وعقائدهم، ممَّا يدفع بهم إلى الحرب والجهاد في سبيل ما يعتقدون. وأول مقالة في هذا الصدد بعد الرِّدَّة تكفير عثمان؛ لأنهم أخذوا عليه مسائل دعَت في نظرهم إلى الثورة والخروج عليه وقتله. والمقالة الثانية هي الخروج على عليٍّ ومعاوية، ويصطلح التاريخ على تسمية أصحابها بالخوارج. والخلاصة أنه بعد موت النبي ظهرت موجتان قويتان؛ تهتم الأولى بالكفر والإيمان، والثانية تتجه نحو الإمامة. ونشأت عن الموجة الأولى فرق الخوارج، وعن الثانية فرق الشيعة. وكثير من كتب الفِرق الإسلامية يُقدِّمون القول في الشيعة على الخوارج. ونحن نرى غير رأيهم لأسباب؛ منها أن القول بالإمامة الأغلب فيه السياسة، والآراء العقلية التي يقول بها الشيعة تخدم القول بالإمامة، وهو قول سياسي قطعًا. ومنها أن القول بالكفر والإيمان كان أسبق في الزمان من القول بالإمامة، والقرآن زاخر بالآيات التي تصف الكُفَّار والمنافقين والمؤمنين. وفي صدر سورة البقرة تفصيل لذلك الوصف. هذا إلى أن الشيعة لهم رأي في الكفر والإيمان لا ينفصل عن رأيهم في الإمامة. وأول فرق الخوارج «المُحكِّمة الأولى». سُمُّوا كذلك لأنهم رفضوا التحكيم بين علي ومعاوية وقالوا «لا حكم إلَّا الله». وقد استمع جماعة ممن كانوا مع علي إلى هذا الكلام، واستقرَّت في قلوبهم تلك الشبهة، وخرجوا إلى حَرُوراء، وكانوا اثنَي عشر ألف رجل من المقاتِلة، فتوجَّه علي إليهم في جيش وقال لهم: يا قوم، ماذا نقمتم مني حتى فارقتموني لأجله؟ قالوا: قاتلنا بين يدَيك يوم الجمل، وهزمنا أصحاب الجمل، فأبحت لنا أموالهم، ولم تُبح لنا نساءهم وذراريهم، وكيف تُحل مال قوم وتُحرِّم نساءهم وذراريهم، وقد كان ينبغي أن تُحرِّم الأمرَين أو تبيحهما لنا؟ فاعتذر عليٌّ بأن قال: أمَّا أموالهم فقد أبحتها لكم بدلًا عمَّا أغاروا عليه من مال بيت المال الذي كان بالبصرة قبل أن وصلت إليهم، ولم يكن لنسائهم وذراريهم ذنب؛ فإنهم لم يقاتلونا، وكان حكمهم حكم المسلمين، ومن لم يُحكم عليه بالكفر من النساء والولدان؛ لم يجُز سَبْيهم واسترقاقهم. وبَعْد لو أبحت لكم نساءهم؛ من كان منكم يأخذ عائشة في قسمة نفسه؟ ثم حاجُّوه في أمور أخرى فاقتنع منهم فريق، وأصرَّ فريق على القتال، ونشبت الحرب بينهما. وقد غلب الأزارقة على بلاد الأهواز وفارس وكرمان في أيام عبد الله بن الزبير، فأرسل عامله بالبصرة لقتالهم، فقتلهم الخوارج، ثم جعل قتالهم إلى المهلَّب بن أبي صفرة. واستمرَّت فتنتهم إلى زمان عبد الملك بن مروان، إلى أن طهَّر جُند الحَجَّاج جميع الأزارقة. قلنا إن الموجة الأولى التي ظهرت في الإسلام هي الكفر والإيمان. وإن هذه الموجة ترجع إلى موت النبي؛ فظهرت في المرتدِّين، ثم نامت إلى أن ظهرت في عهد عثمان، وقتلته كانوا يعدونه في نظرهم كافرًا. ثم تجدَّدت في خلافة علي، فظهر الخوارج يُكفِّرون عليًّا، وظهر الشيعة يُكفِّرون كل من لا يقول بإمامة علي. وظهرت في خلافة عليِّ مقالة قوم في غاية الشناعة، كانت طعنةً موجَّهةً إلى صميم العقائد الإسلامية. وقد ظهر كثير من هذه الموجات في أثواب مختلفة في شتَّى العصور الإسلامية. وكان الشغل الشاغل لأهل السنة من المسلمين أن يدفعوا عن الإسلام ما يُوجَّه إليه من سهام، ويُبيِّنوا صحة عقائده، ويُفنِّدوا مزاعم هؤلاء الأدعياء في الإسلام، ويُزيِّفوا أباطيلهم. ومن الطبيعي أن يظهر قوم بل أقوام يطعنون على الإسلام باعتبار أنه دين جديد؛ فسبق أن رأينا أن العرب ارتدُّوا عن الإسلام، وظهر فيهم من يدعي النبوة كمسيلِمة الكذَّاب. والسر الأول في الردة كما قلنا، هو أن الإسلام كان حديث عهد لم يتمكَّن من النفوس، ولم تنطبع عليه القلوب، وفي النفس حنين فطري إلى ما تعوَّدته ونشأت عليه الأجيال المتعاقبة؛ لهذا لم يكن من الغريب أن تحدث الردة، وهي التي قضى عليها أبو بكر بحزمه وشدته؛ فعاد العرب إلى حظيرة الإسلام، ونسوا عبادة الأصنام. ولكن حرية البحث في الإسلام وإباحة الاجتهاد في الدين أتاحت لبعض أهل العقول الضعيفة أن يتكلَّموا في العقائد ويتأوَّلوا النصوص المحكمة؛ إمَّا لتتفق وما كانوا عليه من مذاهب عزَّ عليهم تركها، وإمَّا لتُؤدِّي إلى إفساد المعتقدات الإسلامية كي يضمحل الإسلام، وتدول دولته التي أذلَّتهم؛ فنشأت مقالات الزنادقة، والغلاة، والإباحيين، ممَّا سيمر بك سُخفها. وذهب عبد القاهر بن طاهر أبو منصور البغدادي إلى أن عليًّا — رضي الله عنه — خاف اختلاف أصحابه عليه، يُريد عبد الله بن سبأ، ورأى المصلحة في نفي من نفى منهم. فنفى ابن سبأ إلى ساباط المدائن. فلمَّا قُتِلَ علي، زعم ابن سبأ أن المقتول لم يكن عليًّا، وإنما كان شيطانًا تصوَّر للناس في صورة علي، وأن عليًّا صعد إلى السماء كما صعد إليها عيسى ابن مريم عليه السلام. أمَّا صاحب مقالات الإسلاميين فيجعل السبئية ضمن «الغالية» أو الغلاة، وهم الذين غلَوا في علي غُلوًّا عظيمًا. على أن الدسيسة التي دسَّها عبد الله بن سبأ على الإسلام من قوله بأن عليًّا لم يُقتل بل رُفع إلى السماء، وما ذكره بعض أتباعه من أن عليًّا هو الإله، استمرَّت بعد مقتل علي، وظلَّت قائمةً طوال دولة بني أمية، وظهرت فرق من الروافض لها قول في التشبيه والتجسيم، لا يقبله عقل سليم. وزعموا أنه نور ساطع كالسبيكة الصافية تتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها. ذو لون وطعم، ورائحة ومجسة، لونه هو طعمه، وطعمه هو رائحته، ورائحته هي مجسته، وهو نفسه لون. ولم يُعيِّنوا لونًا ولا طعمًا غيره. وزعموا أنه هو اللون وهو الطعم. وأنه كان في لا مكان، ثم حدث المكان بأن تحرَّك البارئ فحدث المكان بحركته فكان فيه. وزعموا أن المكان هو العرش. وذكر هشام أنه قال في ربه في عام واحدة خمسة أقاويل؛ زعم مرةً أنه كالبلورة، وزعم مرةً أنه كالسبيكة، وزعم مرةً أنه غير صورة، وزعم مرةً أنه بشبر نفسه سبعة أشبار. ثم رجع عن ذلك وقال هو جسم لا كالأجسام. والفرقة الثانية من الروافض يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام، وإنما يذهبون في قولهم إنه جسم إلى أنه موجود، ولا يُثبتون البارئ ذا أجزاءٍ مؤتلفة وأبعاض متلاصقة. ويزعمون أن الله على العرش مستوٍ بلا مماسَّة ولا كيف. والفرقة الثالثة يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان، ويمنعون أن يكون جسمًا. ويزعم أصحاب هشام بن سالم الجواليقي أن ربهم على صورة الإنسان، ويُنكرون أن يكون لحمًا ودمًا. ويقولون هو نور ساطع يتلألأ بياضًا، وإنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان؛ له يد ورجل وأنف وأذن وعين وفم. ويزعم أصحاب الفرقة الخامسة أن رب العالمين ضياء خالص ونور بحت، وهو كالمصباح الذي من حيثما جئته يلقاك بأمر واحد. فهذه المقالات الخطيرة في التشبيه دفعت فريقًا من المسلمين هم المعتزلة إلى أن ينهضوا للدفاع عن العقيدة الإسلامية وتنزيه البارئ عن الجسمية والتشبيه. حتى لقد اتهم المعتزلة شيوخَ أهل السنة بأنهم من المشبِّهة. قال الرازي يُدافع عن أهل السنة: «اعلم أن جماعةً من المعتزلة ينسبون التشبيه إلى الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين. وهذا خطأ؛ فإنهم مُنزَّهون في اعتقادهم عن التشبيه والتعطيل، لكنهم لا يتكلَّمون في المتشابهات، بل كانوا يقولون: آمنا وصدقنا، مع أنهم كانوا يجزمون بأن الله تعالى لا شبيه له وليس كمثله شيء.» ومعلوم أن هذا الاعتقاد بعيدًا جدًّا عن التشبيه. قلنا إن الموجة الأولى هي موجة الكفر والإيمان؛ لأنها أول هذه الموجات وأقواها، وإن ما تبعها من مقالات فهو كالروافد لذلك التيار القوي الذي يُسيطر على العقول، ممَّا جعل المسلمين يُكفِّر بعضهم بعضًا. على أن الجمهور اتبع سبيل الاعتدال وآثر عدم الخوض في تلك المقالات الخطيرة، وهؤلاء هم أهل السنة، على حين كانت الفرق المختلفة تُمثِّل طوائف المتطرِّفين وأهل اليسار بلغة أهل السياسة. ولم يذكر الفخر الرازي في كتاب اعتقادات فرق المسلمين والمشركين فرقة الشيعة، ولكنه تكلَّم على الروافض، ثم الغلاة، ثم الكيسانية، ثم فرق المشبِّهة. ونحن لا نميل إلى جمع هذه الفرق تحت اسم الشيعة كما فعل الأشعري والشهرستاني، وكما تابعهم الأستاذ الكوثري، بل نتفق مع الرازي وأبي المظفر الإسفراييني في تسمية كل فرقة باسمها دون أن نجمعهم كلهم تحت لفظ الشيعة. وهذا يقودنا إلى البحث في أصل هذه التسمية، ومتى أُطلقت. قال ابن خلدون في المقدِّمة: «الشيعة لغةً هم الصحب والأتباع. ويُطلق في عرف الفقهاء من الخلف والسلف على أتباع عليه وبنيه رضي الله عنهم.» قال: «ومذهبهم المتفق عليه عندهم أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تُفوَّض إلى نظر الأمة، بل يجب تعيين الإمام، وأن عليًّا هو الذي عيَّنه النبي ﷺ.» ذلك أن الراجح أن النبي لم ينُصَّ على خلافة علي بن أبي طالب، وبُويع أبو بكر وعمر وعثمان، على ما هو معروف في التاريخ. ثم أصبح علي رابع الخلفاء الراشدين، ونازعه معاوية، وقتل الخوارجُ عليًّا، وبايع الناس الحسن، ثم تنازل عن الخلافة لمعاوية، ولمَّا مات معاوية وتولَّى ابن يزيد خرج عليه الحسين في المدينة، وعبد الله بن الزبير في مكة، ثم توجَّه الحسين إلى العراق بعد أن راسله أهلها، ولكنه قُتل في كربلاء. والمؤكَّد أنه لم تكن هناك شيعة لعلي في أيام أبي بكر وعمر وعثمان. ويشك المؤرِّخون فيما نُسب إلى عبد الله بن سبأ في زمن علي. وتنازل الحسن برضاه، وقَبِل المسلمون ذلك، وتخلَّى أهل العراق عن الحسين، ولم تكن لهم مقالة في الإمامة وما يتبعها. ونحن نعتقد أن أول تشيُّع صحيح من جهة المذهب، وأساسه القول بإمامة أهل البيت، إنما جاء بعد مقتل الحسين؛ لشعور أهل العراق بالندم لما فعلوه، وتأييد العناصر غير العربية، على الأخص الفرس، للقائلين بالتشيُّع رغبةً منهم في هدم الدولة الأموية، والوصول إلى السلطان. قال الشهرستاني: «الكيسانية: أصحاب كيسان مولى أمير المؤمنين علي — رضي الله عنه — وقيل تلميذ للسيد محمد ابن الحنفية، يعتقدون فيه اعتقادًا بالغًا، من إحاطته بالعلوم كلها، واقتباسه من السيدين الأسرار بجملتها من علم التأويل الباطن، وعلم الآفاق والأنفس.» والراجح أن المختار هو كيسان، وأن الكيسانية اسم الفرقة التي ساقت الإمامة إلى محمد ابن الحنفية، وأول من دعا إلى ذلك المختار، وذهب بعده آخرون. قال الإسفراييني: «وأمَّا الكيسانية فهم أتباع محمد بن أبي عبيدة الثقفي الذي قام يطلب ثأر الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان يقتل من يظفر به ممن كان قاتِلَه بكربلاء. وهؤلاء الكيسانية فرق يجمعهم القول بنوعَين من البدعة؛ أحدهما: تجويز البداء على الله تعالى؛ أي إنه قد يرى رأيًا ثم يبدو له غيره فيرجع عن الرأي الأول. الثاني: قولهم بإمامة محمد ابن الحنفية.» «ولمَّا وقف محمد ابن الحنفية على دعوة المختار تبرَّأ منه حين وصل إليه أنه من دعاته ورجاله، وتبرَّأ من الضلالات التي ابتدعها المختار من التأويلات الفاسدة والمخاريق المموِّهة. فمن مخاريقه أنه كان عنده كرسي قديم قد غشاه الديباج، وزيَّنه بأنواع الزينة وقال: هذا من ذخائر أمير المؤمنين علي — رضي الله عنه — وهو عندنا بمنزلة التابوت لبني إسرائيل. فكان إذا حارب خصومه يضعه في براح الصف ويقول: قاتلوا ولكم الظفر والنصرة، وهذا التابوت محله فيكم محل تابوت بني إسرائيل، وفيه السكينة والتقية، والملائكة من فوقكم ينزلون مددًا لكم. وإنما حمله على الانتساب إلى محمد ابن الحنفية حسن اعتقاد الناس فيه، وامتلاء القلوب بحبه … وكان السيد الحميري، وكُثير الشاعر من شيعته. قال كُثير فيه: وهذا هو مذهب الكربية أصحاب أبي كرب الضرير كما جاء في كتب المقالات: ولمَّا تمَّ للمختار الظفر في حروب كثيرة اغترَّ بنفسه، فأخذ يتكلَّم بأسجاع كأسجاع الكهنة. فلمَّا بلغ خبرُ كهانته إلى محمد ابن الحنفية خاف أن يقع بسببه فتنةٌ في الدين، وهمَّ ليقبض عليه، فلمَّا علم به المختار وخاف على نفسه منه، اختار قتله بحيلة فقال لقومه: المهدي محمد ابن الحنفية وأنا على ولايته. غير أن للمهدي علامةً وهي أن يُضرب عليه بالسيف فلا يحيك فيه. وخاف محمد ابن الحنفية فتوقَّف حيث كان. قال الشهرستاني: «وفي مذهب المختار أنه يجوز البداء على الله تعالى. والبداء له معانٍ: البداء في العلم، وهو أن يظهر خلاف ما علم. ولا أظن عاقلًا يعتقد هذا الاعتقاد. والبداء في الإرادة: وهو أن يظهر له صواب على خلاف ما أراد وحكم. والبداء في الأمر: وهو أن يأمر بشيء ثم يأمر بعده بخلاف ذلك. وإنما صار المختار إلى اختيار القول بالبداء لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال؛ إمَّا بوحي يوحى إليه، وإمَّا برسالة من قِبَل الإمام، فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة، فإن وافق كونه قوله؛ جعله دليلًا على صدق دعواه، وإن لم يوافق قال: قد بدا لربكم. وكان لا يُفرِّق بين النسخ والبداء قال: إذا جاز النسخ في الأحكام، جاز البداء في الأخبار.» هذه مُجمل الروايات عن المختار ودعوته الكيسانية أو المختارية، ويتضح من تضاربها أن الشك يتطرَّق إلى صحتها، وأن كثيرًا منها موضع للتشنيع عليه. ولكن ممَّا لا شك فيه أن ظهور المختار كان صحيحًا، وأنه قام يأخذ بثأر الحسين، وأنه انتسب لمحمد ابن الحنفية وأخذ يدعو له. وبعد، فسُنة الناس أن يختلفوا في مذاهبهم الدينية والسياسية. وقد أوصى الإسلام باحترام الآراء، فالمسلم الحق يتبع منها ما يقوم له الدليل على صحته، ويُوسع صدره لاحترام كل ما يخالف مذهبه، مع اطراح ما يختلقه بعض غلاتها على بعض، لتتحقَّق الوحدة الإسلامية، وخاصةً في هذا العهد الذي يجب أن تتجلَّى فيه هذه الوحدة بأكمل معانيها، وأروع مظاهرها. قلنا إن الموجة الأولى الكفر والإيمان، فبقي جمهور السلف على الإيمان الصحيح، وغالى الخوارج في تكفير طائفة من المسلمين. وإن الموجة الثانية التشبيه، ونهض جمهور أهل السنة لدفعها، وظهرت هذه الموجة في صور مختلفة خلال العصور المتعاقبة. والموجة الثالثة التشيُّع، رجَّحنا ظهورها بعد مقتل الحسين في كربلاء، وعماد الشيعة القول بإمامة أهل البيت، ثم غلا فيها بعضهم غلوًّا كبيرًا. الموجة الرابعة: القدرية، وهي شديدة الصلة بالكفر والإيمان. وقد تأخَّر ظهورها شيئًا لانشغال الأفكار بالسياسة والنزاع بين علي ومعاوية. والقول بالقدر أسبق من الاعتزال الذي قد نتحدَّث عنه فيما بعد، ولو أنهم اتبعوا القول به. قال الشهرستاني عند الكلام على واصل بن عطاء رأس المعتزلة: من هذا يتضح أن فتنة القدرية أسبق من فتنة المعتزلة، وأن واصل بن عطاء مع قوله بالاعتزال كان قدريًّا، وأنه أخذ هذا المذهب عن معبد الجهني وغيلان الدمشقي، وهذان بدورهما تأثَّرا بما يذهب إليه أهل الملل الأخرى. قال اللالكائي في شرح السنة: عن الأوزاعي: «أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يُقال له سوسن كان نصرانيًّا فأسلم، ثم تنصَّر، فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد.» فأنت تلمح خلال هذا الجدل الذي دار بين عليٍّ وبين من يُحاوره البحث عن مسألة القدر من جهة، ومحاولة عدم إرادة الخوض فيها من جهة أخرى. وفي القرآن إشارات كثيرة إلى مسائل سُئل النبي عنها فلم يُجِب، وترك أمرها إلى الله، مثل: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (الزخرف: ٢٠). وأكبر الظن أن اشتغال العرب الأوائل بالإقبال على الإسلام وهدم الوثنية، ثم انصرافهم إلى حرب المرتدِّين، والقيام بالفتوحات المختلفة؛ صرفهم عن الخوض في هذه المسائل الدقيقة، فلمَّا استقرَّت الفتوحات وهدأ بال المسلمين، نظروا في هذه المسائل وأشباهها. وليس بعيدًا أن معبد الجهني وغيلان الدمشقي أخذا القدرية عن واحد من بعض الملل؛ فمن المعروف أن المذاهب النسطورية كانت منتشرةً في البصرة وما جاورها. ويُؤيِّد دي بور ما نذهب إليه، فقال: «أول مسألة قام حولها الجدَل بين علماء المسلمين هي مسألة الاختيار، وكان المسيحيون الشرقيون يكادون جميعًا يقولون بالاختيار. ولعل مسألة الإرادة لم تُبحث من كل وجوهها في زمن من الأزمان، ولا في بلد من البلاد، مثل ما بحثها المسيحيون في الشرق أيام الفتح الإسلامي. وكان هذا البحث متصلًا بالمسيح أولًا، وبالإنسان بعد ذلك.» فأنت ترى أن غيلان كان نصرانيًّا، وأن معبد الجهني أخذ القول بالقدر من سوسن النصراني كما ذكرنا سابقًا. ومن هذا كله يتضح أن القدرية ظهروا في العصر الأُموي قبل عصر هشام بن عبد الملك؛ لأن أول من قال بالقدر هو معبد الجهني الذي قتله الحجاج بعد سنة ثمانين، وقتل هشامُ غيلانَ وأمر بقطع يدَيه ورجلَيه. وإن ظهورهما كان أسبق من المعتزلة وعلى رأسهم واصل بن عطاء، الذي أخذ عنهما القدرية، وأضاف إلى ذلك القول بالمنزلة بين المنزلتَين. وقد توسَّع المعتزلة بعد ذلك في هذه المسألة، وفرَّعوا عليها كثيرًا من الأبحاث، وقام أهل السنة يردون عليهم بما لا يتسع له هذا المجال. كانت الموجة الأولى التي سادت المجتمع الإسلامي هي موجة الكفر والإيمان؛ وذلك لطبيعة ظهور الدين الجديد، الذي كان ظاهرةً لم يعهدها الناس من قبل. وما زالت العقول والقلوب تتجه نحو هذا الهدف؛ بعض الناس يُسرف في الإيمان ويعتقد أن من يُخالفه كافر. وظهر الخوارج يُكفِّرون طائفةً من أطهر القوم قلبًا وأصحهم إسلامًا ودينًا. وقال الشيعة إن عليًّا هو الإمام وكفَّروا غيره. وظهرت طائفة القدرية الذين يقولون بأن للإنسان قدرة، وهو بحث في العمل يتصل من قريب أو بعيد بالكفر والإيمان. وفي غمار هذه الآراء المتباينة اتجه قوم إلى القول بأن الإيمان القلبي شيء، والعمل الظاهر شيء آخر؛ وبذلك فصلوا الإيمان عن العمل وأخَّروه عنه، أو أرجئوه، فسُمُّوا المرجئة. ويرى جولدزيهر في كتاب «مذاهب الإسلام» أن هذه الفرقة نشأت على أثر الحملات التي قام بها الشيعة والخوارج ضد بني أمية، فبثت دعوةً خلاصتها وجوب الخضوع لسلطة الأمويين، وتأجيل الحكم عليهم بالشرك والتكفير إلى يوم الدين. فالإرجاء هو التأجيل. ومن الجائز أن بني أمية نهضوا للدفاع عن أنفسهم، وتخلَّصوا من تهمة تكفيرهم بهذه المقالة، وهي الإرجاء. غير أننا لا نميل كثيرًا إلى الأخذ بهذا التفسير السياسي، ولو أن عليه مسحةً من الصواب؛ لأن بعض المؤرِّخين ينسبون الإرجاء إلى محمد ابن الحنفية، فكيف يكون الأمويون هم أصحاب هذه المقالة بدعوى الدفاع عن أنفسهم من هجمات الشيعة والخوارج، ومحمد ابن الحنفية — كما تعلم — من الشيعة؟! وأغرب من ذلك أن فريقًا من المرجئة وافقوا القدرية في القول بالقدر، ممَّا ينقض كلام الشهرستاني السابق من أن المعتزلة كانوا يُلقِّبون كل من خالفهم في القدر مرجئًا، وهؤلاء مثل «غيلان الدمشقي، وأبي شمر المرجئ، ومحمد بن شبيب المصري. وهؤلاء داخلون في قول النبي ﷺ: «إن القدرية والمرجئة لُعنتا على لسان سبعين نبيًّا.» فيستحقون اللعن من جهتَين؛ من جهة القول بالإرجاء، ومن جهة القول بالقدر». فنحن نرى أن المرجئة انحازوا إلى كل فرقة موجودة؛ إلى أهل السنة، وإلى الشيعة، وإلى القدرية الذين تحوَّلوا فيما بعدُ إلى المعتزلة. ومن الطبيعي أن يُخالفهم الخوارج، لأن مقالتَيهم متعارضتان؛ فالخوارج يُغالون في تكفير من يرتكب أي معصية، بل لقد ذهب الخوارج إلى أن أهل السنة من المرجئة، وأول من سمَّى أهل الجماعة بالمرجئة هو نافع بن الأزرق الخارجي في بعض الروايات. وما حكاه الشهرستاني من نسبة الإرجاء إلى أبي حنيفة يدل على صحة هذا الاتهام. وهذا يقتضي منا بيان حقيقة الإرجاء. الإرجاء في اللغة التأخير، أرجأه أي أمهله وأخَّره. وقال الشهرستاني: إن للإرجاء معنًى ثانيًا هو إعطاء الرجاء. ثم قال: «أمَّا إطلاق المرجئة على الجماعة (يُريد فرقة المرجئة) بالمعنى الأول فصحيح، لأنهم كانوا يُؤخِّرون العمل عن النية والقصد.» وقال صاحب المصباح المنير: «المرجئة طائفة يُرجئون الأعمال، أي يُؤخِّرونها، فلا يُرتِّبون عليها ثوابًا ولا عقابًا، بل يقولون: المؤمن يستحق الجنة بالإيمان دون بقية الطاعات، والكافر يستحق النار بالكفر دون بقية المعاصي.» وقال الشهرستاني: «وأمَّا بالمعنى الثاني (أي إعطاء الرجاء) فظاهر، فإنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.» «وقيل الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يُقضى عليه بحكمٍ ما في الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار. فعلى هذا المرجئة والوعيدية فرقتان متقابلتان.» «وقيل: الإرجاء تأخير عليٍّ — رضي الله عنه — عن الدرجة الأولى إلى الرابعة. فعلى هذا المرجئة والشيعة فرقتان متقابلتان.» «والمرجئة أصناف أربعة؛ مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة.» فلم يذكر الرسعني في المختصر مرجئة الخوارج. وأكبر الظن أن الخوارج لم يكونوا من المرجئة على ما سبق أن ذكرناه. ولم تذكر كتب المقالات إلَّا فرق المرجئة الخالصة، ما عدا الشهرستاني الذي ذكر طرفًا منهم. وهم جميعًا متفقون على أنها خمس: أتباع يونس بن عون، وهم يقولون: إن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان. أتباع غسان المرجئ، وهم يقولون: إن الإيمان غير قابل للزيادة والنقصان. وكل قسم من الإيمان فهو إيمان. أصحاب أبي معاذ التومني، وهم يزعمون أنه لا يضر مع الإيمان معصية ما، وأن الله تعالى لا يُعذِّب الفاسقين من هذه الأمة. أصحاب بشر المريسي، ومرجئة بغداد من أتباعه، وكان يقول: الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان. فلا شك أن المرجئة أسبق من المعتزلة، وقد وقفوا من مسألة الإيمان والكفر موقفًا فريدًا؛ فهم يحكمون على التصديق دون العمل، ويقولون بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. وهذا يُخالف رأي أهل السنة، قال البخاري في كتاب الإيمان: «وهو قول وفعل، ويزيد وينقص، قال تعالى:لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ (الفتح: ٤).» قال الكرماني في شرحه على البخاري: «قالوا الإيمان يزيد وينقص ولم يقولوا الإسلام يزيد وينقص. قال: وقال سفيان بن عيينة: الإيمان قول وفعل، يزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم: لا تقل ينقص. فغضب وقال: اسكت يا صبي! بل ينقص حتى لا يبقى منه شيء!» قال الرازي في اعتقادات فرق المسلمين والمشركين: «وأمَّا مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب فهو أنَّا نقطع بأن الله تعالى سيعفو عن بعض الفُسَّاق، لكنا لا نقطع على شخص مُعيَّن من الفُسَّاق بأن الله لا بد وأن يعفو عنه.»
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/31537282/
في عالم الفلسفة
أحمد فؤاد الأهواني
«الفلسفة بحر لا يُعرف له قرار. تحتاج في معرفتها إلى العلم بما قاله القدماء، وما ذكره المُحدثون، وهو شيء لا تُحيط به إلا المتون والمطوَّلات.»الفلسفة هي علمٌ غزيز مليء بالنظريات والأفكار والرُّؤى والتفسيرات. وزخرت مكتبات العالم بمئات الكتب التي أفاضت الحديث عن كافة جوانبها وتطوُّراتها عبر العصور والأزمان. وهذا الكتاب على الرغم من حجمه الصغير، فإنه يُعَد واحدًا من الكتب الفلسفية المهمة لأي قارئٍ يريد الإلمام الجيد بهذا العلم؛ فبين دفَّتَي هذا الكتاب يأخذنا «أحمد فؤاد الأهواني» في رحلةٍ سريعة لثلاثة عوالم فلسفية؛ بدايةً من عالَم الفلسفة اليونانية، مرورًا بعالَم الفلسفة الإسلامية، منتهيًا بعالَم الفلسفة الحديثة، مستعرضًا بإيجازٍ أبرز العلماء والفلاسفة في كل عالَمٍ على حِدَة، ومُتحدِّثًا بأسلوبٍ بسيط غير مُعقَّد عن العديد من النظريات والآراء الفلسفية التي لا نعرف عنها الكثير، والتي تناول بعضها وفقًا لِرُؤاه الشخصية.
https://www.hindawi.org/books/31537282/8/
نظرية المعرفة عند بعض فلاسفة المسلمين
إخوان الصفا جماعة سرية، اعتنقوا مذهبًا سياسيًّا خاصًّا، ويقال إنهم من الباطنية، وأرادوا تغليب مذهبهم السياسي والفلسفي. ألَّفوا رسائل بلغت خمسين أو إحدى وخمسين رسالةً طُبعت في مصر في أربعة أجزاء. ومذهبهم الفلسفي خليط من الفلسفة اليونانية والهندية والفارسية والتعاليم الإسلامية. ولن نبحث في فلسفتهم إلَّا من ناحية خاصة هي نظرية المعرفة، ولن نبحث في هذه النظرية إلَّا ناحيةً خاصةً منها، وهي أصل المعرفة أفطرية هي أم مكتسبة، أم فطرية ومكتسبة معًا؟ ولا تزال هذه المشكلة قائمةً منذ القديم حتى الآن؛ فأفلاطون من أنصار الفطرة، وأرسطو من أنصار الاكتساب. ثم نجد ديكارت في الفلسفة الحديثة من القائلين بالفطرة على نحو آخر يُخالف ما قال به أفلاطون، على حين أن المدرسة الإنجليزية تقول بالاكتساب، على الأخص لوك وهيوم. والمقصود بالمعقولات الموجودةِ في أوائل العقول المعرفةُ البديهية، مثل الكل أعظم من الجزء، والأشياء المساوية لشيء واحد متساوية. وكثيرون من الفلاسفة والمناطقة يعتبرون أن هذه البديهيات فطرية في النفس لا يكتسبها المرء. وأصحاب رسائل إخوان الصفا مخطئون في فهم أفلاطون؛ لأن معنى جملته المشهورة «العلم تذكُّر والجهل نسيان» أن النفس كانت تعيش مع الآلهة في عالم المُثُل، فعندها معرفة بكل شيء. ولمَّا اتصلت النفس بالجسد نسيت، فإذا انكشف عنها ستار المعرفة، فإنها لا تكسب جديدًا، بل تتذكَّر ما كانت تعرفه في عالم المُثُل قبل اتصالها بالجسد. ومن أدلة أفلاطون على فطرة المعرفة أن الطفل يستطيع بالنظر إلى نفسه أن يكشف البراهين الهندسية، دون حاجة إلى معلِّم. هذا المذهب شبيه بمذهب لوك الفيلسوف الإنجليزي الذي يعتبر أن أصل المعرفة الحواس، وأنه «لا شيء في العقل لم يكن قبل ذلك في الحس». والخلاصة أن رأي إخوان الصفا في نظرية المعرفة واضح. فعندهم أن المعرفة كلها مكتسبة، ورتَّبوا بناءً على ذلك الوسائل المؤدِّية إلى تحصيلها، والتي تستقيم مع مذهبهم وتخدم غايتهم. ذكرنا نظرية المعرفة عند إخوان الصفا، وهم فريق من الفلاسفة أرادوا أن يُقرِّبوا الفلسفة إلى أذهان الجمهور. وانتهينا من النظر في رسائلهم إلى أن الرأي عندهم أن المعرفة مكتسبة وليست فطرية. ثم ذكرنا طرقًا من الوسائل التي يرونها مُؤدِّيةً إلى كسب المعرفة. ونذكر الآن رأي الغزالي في المعرفة. وقد وقع الاختيار على أبي حامد الغزالي دون غيره؛ لأنه يُمثِّل طائفة المتصوِّفة. وحُجة الإسلام الغزالي من أعلام المسلمين وأئمة فقهائهم، تستطيع أن تعتبره فقيهًا، وله في أصول الفقه كتاب «المستصفى» يُعتبر عمدةً في هذا الباب. وتستطيع أن تعده من الأشاعرة وهم فريق من علماء الكلام. غير أن ما يجعلنا نضعه في قائمة المتصوِّفة أنه هو نفسه اعتبر نفسه متصوِّفًا؛ وذلك في كتابه «المنقذ من الضلال» الذي سجَّل فيه تاريخ حياته ذاكرًا أنه طاف بجميع المذاهب في علم الكلام والفلسفة، فلمَّا لم يجد فيها بغيته، انصرف عنها إلى التصوُّف. والعلم الذي هو فرض عين على كل مسلم اعتقاد وفعل وترك؛ أي اعتقادٌ بالله، وفعل بما أمر الله، وترك لما نهى عنه. فالغزالي يُقسِّم العلم إلى فرض عين وفرض كفاية، وهذا التقسيم لم يكن معروفًا عند الفقهاء في صدر الإسلام، ولا في المائة الثانية أو الثالثة، ولكنه أصبح تقسيمًا مقبولًا بعد القرن الخامس. والمهم عندنا أن نتبيَّن رأي الغزالي في تحصيل العلوم، ومنه نستخلص رأيه في نظرية المعرفة. والطريق إلى تحصيل العلوم على وجهين: التعليم الإنساني: وهو التحصيل بالتعليم من خارج. التعليم الرباني: وهو الاشتغال بالتفكُّر من داخل. وهذا المذهب في اكتساب المعرفة عن طريق الحس أولًا، ثم بالفكر والقياس والحدس، هو مذهب ابن سينا كما هو موجود في الشفاء والنجاة وغيرهما من الكتب. أمَّا التعليم الرباني فعلى وجهَين؛ إلقاء الوحي بأن يُقْبِلَ الله تعالى على تلك النفس إقبالًا كليًّا، وينظر إليها نظرًا إلهيًّا، ويصير العقل الكلي كالمعلِّم، والنفس القدسية كالمتعلِّم، فيحصل جميع العلوم لتلك النفس من غير تعلُّم وتفكُّر. ويحصل العلم اللدني باتباع الطرق الآتية: تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر منها. الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة. والغزالي قد لجأ إلى القول بالعلم اللدني لتفسير نظرية النبوة. وللفلاسفة طريقة أخرى في تفسير النبوة ليس هنا مجال ذكرها. ولا يكتفي الغزالي بالإيمان بالنبوة واتصالها بالله، ولكنه يُضيف إلى ذلك الإيمان بالولاية وهي درجة أقل من النبوة. ولا نشك في أنه آمن بهذه النظرية، إلَّا لأنه هو نفسه كان يعتقد في نفسه الولاية. فالمعرفة عند الغزالي فطرية في النفس، ولا بد في تحصيلها من التعلُّم أولًا، ثم التفكر ثانيًا. وُلد الشيخ الرئيس ابن سينا عام ٣٧٠ﻫ، وتُوفي عام ٤٢٨ﻫ بهمذان وقيل بأصبهان. وكتب سيرة حياته بقلمه كما فعل الغزالي في «المنقذ من الضلال». هذه السيرة المكتوبة بأقلام أصحابها تُعتبر مرجعًا هامًّا في التاريخ خصوصًا من الناحية النفسية. ونُريد أن نعرض لناحية من نواحي فلسفته، هي نظرية المعرفة، تتمةً للبحث الذي بدأناه. فقد رأينا أن إخوان الصفا يذهبون إلى أن المعرفة كلها مكتسبة، وأمَّا «المعقولات التي هي في أوائل العقول فليست شيئًا سوى رسوم المحسوسات الجزئيات الملتقطة بطريق الحواس». ونظَم ابن سينا الرأي الذي نحن بصدده في القصيدة المزدوجة في المنطق حيث قال: هذه المعقولات الموجودة في أوائل العقول بالفطرة دون حاجة إلى تعلُّم، يختص بها عقلان من العقول الأربعة التي يُقسِّم ابن سينا العقل إليها، وهي: العقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد. فالعقل الهيولاني: تشبيه له بالهيولى الأولى الخالية في نفسها عن جميع الصور المستعدة لقَبولها، وهي حاصلة لجميع أشخاص النوع في مبادئ فطرتهم. والعقل بالملكة: يُسمَّى كذلك عندما تحصل المعقولات الأولى بالفعل، وبذلك يكون العقل الهيولاني قوة، والعقل بالملكة فعلًا. والعقل بالفعل هو الاستعداد لتحصيل المعقولات الثانية التي هي العلوم المكتسبة، ويكون ذلك بالفكر والحدس. قوله إن النفس تنتزع المعقولات المجرَّدة بواسطة العقل الهيولاني؛ إذ إن رأي ابن سينا أن العقل الهيولاني هو الاستعداد لقَبول الصور العقلية، ولا يتم هذا الانتزاع إلَّا بالعقل المستفاد، وله سبيل آخر نذكره فيما بعد. والخطأ الثاني قوله: «تنظمها بحسب ما في العقل بالملكة من المعقولات الأولى»، وهذا التنظيم لم يقُل به ابن سينا. ثم لم يُبيِّن لنا الدكتور صليبا هل المعقولات الأولى مكتسبة أم فطرية؟ فابن سينا وقف في إشارته عند الكلام على الاتصال عند العقل بالفعل، على حين يرى الرازي أن الاتصال التام يكون بالعقل المستفاد. ونعود إلى تحقيق البحث الذي نحن بصدده وهو: أيكتسب الإنسان المعقولات الأولى عن المحسوسات، أم هي موجودة بالفطرة؟ وإذا كانت فطريةً فمن أين جاءت؟ ومن أدلة ابن سينا على وجود المعاني الكلية وجودًا حقيقيًّا خارجًا عنا، تكتسبها النفس بالاتصال، أن الصور العقلية تُنسى بعد إدراكها، فأين تذهب؟ فإن قيل إن هناك شيئًا كالخزانة تُحفظ فيه الصور العقلية بعد نسيانها، فهذا محال؛ «لأن النفس جوهر مجرَّد، فلا يمكن أن ينقسم إلى قسمَين يكون أحدهما مدركًا والثاني خزانة؛ فلم يبقَ إلَّا أن يُقال إن ها هنا شيئًا خارجًا عن جوهرنا فيه الصور المعقولة بالذات، فإذا وقع بين نفوسنا وبينه اتصال؛ ارتسم منه فينا الصور العقلية الخاصة بذلك الاستعداد». هذا الاتصال يكون بالعقل الفعَّال. أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي، نسبةً إلى مدينة فاراب، وهي إحدى مدن الترك فيما وراء النهر. فيلسوف المسلمين، والمعلِّم الثاني، فهو إلى فلاسفة الإسلام كما كان أرسطو — المعلِّم الأول — إلى فلاسفة اليونان. سُئل الفارابي: من أعلم أنت أم أرسطو؟ فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلامِذته. يقصُّ علينا ابن سينا أنه حفظ كتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو عن ظهر قلب دون أن يفهمه، إلى أن وقع إليه كتاب الفارابي «تحقيق غرض أرسطو في كتاب ما بعد الطبيعة»، فانفتحت له مغاليق فلسفة أرسطو. فهذه شهادة ابن سينا — وهو الفيلسوف صاحب الصدارة في الفلسفة — للمعلِّم الثاني الفارابي. تُوفِّيَ عام ٣٣٩ﻫ في دمشق في صُحبة سيف الدولة الحمْداني الذي أكرمه، وعرف موضعه في العلم، ومنزلته من الفهم. وله تآليف كثيرة منها؛ «مقالة في معاني العقل»، نستخلص منها رأيه في المعرفة. وقد تأثَّر الفارابي خُطا أستاذه أرسطو في هذا الصدد، مع بعض التغيُّر كما يجري عليه أغلب المفسِّرين. وسنُعنى في هذا الصدد ببيان أوجه الخلاف بين المعلِّمَين. وقد أحسن الفارابي صنعًا بالتنبيه على معنى العقل الشائع على ألسنة الجمهور الذين «يَعنون بالعاقل من كان فاضلًا جيِّد الروِية في استنباط ما ينبغي أن يُؤثر من خير، أو يُجتنب من شر». وكذلك أحسن صنعًا بتعريف معنى العقل عند المتكلِّمين حتى ينفي اللبس عن هذا اللفظ، وما يدل عليه من معادن مختلفة حين يُستعمل في الفلسفة. والمتكلِّمون «إنما يعنون به المشهور في بادي الرأي عند الجميع؛ فإن بادي الرأي المشترك عند الجميع أو الأكثر يُسمُّونه العقل». ولا يخلو هذا التنبيه الذي لجأ إليه الفارابي من سبب؛ ذلك أن المتكلِّمين — كما يقول الفارابي — «يظنون بالعقل الذي يُردِّدونه فيما بينهم أنه هو العقل الذي ذكره أرسطو في كتاب البرهان، ولكنك إذا استقريت ما يستعملونه من المقدِّمات الأُول تجِدها كلَّها مقدِّمات مأخوذةً من بادي الرأي المشترك». وعند الفارابي أن العقل الذي يذكره أرسطو في كتاب البرهان «إنما يعني به قوة النفس التي بها يحصل للإنسان اليقين بالمقدِّمات الكلية الصادقة الضرورية لا عن قياس أصلًا، ولا عن فكر، بل بالفطرة والطبع، أو من صباه، ومن حيث لا يشعر من أين حصلت، وكيف حصلت». ومن الواضع هنا أن الفارابي يعتقد بأن المقدِّمات الكلية الضرورية موجودة في العقل بالفطرة. ولكن الوجه الثاني للمسألة، وهو ما ذكره من أنها تحدث في الصبا من حيث لا يشعر المرء من أين أو كيف حصلت، يُبيِّن لنا أن الفارابي لا يجزم بفطرة الأوليات والبديهيات، بل يُجوِّز حدوثها بالكسب دون أن يعرف حلًّا صحيحًا لهذه المسألة. وهذا الموقف يختلف عن موقف غيره من الفلاسفة مثل ابن سينا. وقد رأينا في البحث السابق كيف يجزم بذلك بما لا يحتمل الشك في أكثر كتبه. غير أننا إذا تصفَّحنا ما كتبه الفارابي في مواضع أخرى من مؤلَّفاته وجدنا أنه يميل إلى تأييد المذهب الثاني، ويلتمس له الأدلة، ونعني حصول المعرفة البديهية عن كسب، لا عن فطرة. وهكذا يمضي بنا الفارابي في هذا التحليل البديع مؤيِّدًا نظريته، حتى ينتهي إلى تعليل رأي أفلاطون المشهور: «العلم تذكُّر، والجهل نسيان»، بأنه تذكُّر ما كان في نفسه قديمًا؛ أي ما اكتسبه منذ الصبا. كيف ومن أين حصلت العلوم الأُوَل؟ ونعود إلى الكلام عن أنواع العقول الأخرى التي ذكرها الفارابي في شيء من الإيجاز: العقل الذي ذكره أرسطو في كتاب الأخلاق، فالمقصود منه العقل العملي الذي يحصل بالمواظبة على اعتياد شيء، وعلى طول تجرِبة شيء. وهذا العقل يتزيَّد مع الإنسان طول عمره … ويتفاضل الناس في هذا الجزء من النفس الذي سمَّاه عقلًا تفاضلًا متفاوتًا. أمَّا العقل الذي يذكره أرسطو في كتاب النفس فإنه جعله على أربعة أنحاء؛ عقل بالقوة، وعقل بالفعل، وعقل مستفاد، وعقل فعَّال. والعقل بالقوة هو الاستعداد لانتزاع «ماهيَّات الموجودات كلها وصورها، دون موادِّها فتجعله كلها صورةً لها». والعقل بالفعل هو حصول صور الموجودات، فإذا حصلت فيه المعقولات التي انتزعها عن المواد؛ صارت تلك المعقولات معقولاتٍ بالفعل، وقد كانت قبل أن تُنتزع عن موادها معقولات بالقوة». «والعقل بالفعل متى عقل المعقولات التي هي صور له من حيث هي معقولة بالفعل؛ صار العقل الذي كنا نقوله أولًا إنه العقل بالفعل، هو الآن العقل المستفاد». ثم أفرد الفارابي فقرةً خاصةً بالعقل الفعَّال قائلًا: «إنه صورة مفارقة لم تكن في مادة ولا تكون أصلًا … وهو الذي جعل المعقولات التي كانت معقولات بالقوة، معقولات بالفعل. ونسبة العقل الفعَّال إلى العقل الذي بالقوة كنسبة الشمس إلى العين التي هي بصر بالقوة ما دامت في الظلمة.» هذا ما أثبته الفارابي نسبةً لأرسطو، وأخْذًا عنه، فإلى أيِّ حدٍّ فهم الفارابي أرسطو؟ وهذه الآراء أهي حقًّا آراء أرسطو، أم آراء المفسِّرين الذين جاءوا بعد أرسطو؟ وهذا يقتضي منا الرجوع إلى التاريخ. ومن الفائدة أن نتتبَّع هذا التاريخ لنلمح خلاله تطوُّر الرأي منذ عهد اليونان إلى عصر المسلمين. ولا يفوتنا في هذه المناسبة أن نذكر أن الفارابي يُعتبر أول من فهم أرسطو فهمًا جيدًا، وأول من بسط فلسفته عند المسلمين؛ ولهذا السبب سُمِّيَ بالمعلِّم الثاني. قال ابن قيم الجوزية: «والمقصود أن الملاحدة درجت على أثر هذا المعلِّم الأول، حتى انتهت توبتهم إلى معلِّمهم الثاني أبي نصر الفارابي.» وذكر ابن خَلِّكان أن الفارابي «تناول جميع كتب أرسطو وتمهَّر في استخراج معانيها والوقوف على أغراضه فيها. ويُقال إنه وجد كتاب النفس لأرسطو وعليه مكتوب بخط أبي نصر الفارابي: «إني قرأت هذا الكتاب مائة مرة.» ويُروى عنه أنه سُئل: من أعلم الناس بهذا الشأن أنت أم أرسطو؟ فقال: «لو أدركته لكنت أكبر تلامذته.» وقال القاضي صاعد في طبقاته: إن الفارابي «بَزَّ جميع أهل السلام، وأربى عليهم في التحقيق فيها (أي صناعة المنطق)، وشرح غامضها، وقرَّب تناولها في كتب صحيحة العبارة، لطيفة الإشارة، منبِّهًا على ما أغفله الكندي وغيره من صناعة التحليل وأنحاء التعاليم.» ونظرية العقل التي ذكرها الفارابي هي نفس النظرية التي ذكرها أرسطو في الجزء الثالث من كتاب النفس مع تعديلات رآها، وأخذها عن المفسِّرين الذين فسَّروا أرسطو. ويحسن أن نبدأ بترجمة نص ما ذكره أرسطو بعنوان: «العقل الفعال في كتاب النفس»؛ ليكون مرجعًا إلينا فيما نكتب. قال: «ولكن حيث إنه في جميع الأمور الطبيعية نُميِّز أولًا شيئًا يكون مادةً لكل جنس (وهذا هو ما بالقوة جميع أفراد الجنس)، ثم بعد ذلك شيئًا آخر يكون عِلةً وفاعلًا لأنه يُحدثهما جميعًا، والمثال في ذلك هو الفن بالنسبة للهيولى. فمن الضروري كذلك وجود هذا التمييز في النفس؛ ذلك أننا نُميِّز في النفس العقل الشبيه بالهيولى من جهة؛ لأنه يُصبح جميع المعقولات. ومن جهة أخرى العقل الشبيه بالعلة الفاعلة؛ لأنه يُحدث جميع الأشياء؛ إذ إنه نوع من الوجود شبيه بالضوء؛ لأن الضوء يُحوِّل الألوان بالقوة إلى ألوان بالفعل. وهذا العقل هو العقل المفارق اللامنفعل، الذي لا يشوبه شيء؛ لأنه في جوهره فعل؛ ذلك أن الفاعل أسمى دائمًا من المنفعل، والمبدأ أسمى من الهيولى. والعلم بالفعل متحد بموضوعه، وعلى العكس فإن العلم بالقوة متقدِّم في الفرد … فإذا فارق العقل أصبح بالضرورة خلاف ما كان، والعقل المفارق وحده هو الخالد الأولي (ومع ذلك فإننا لا نتذكَّر؛ لأن العقل الفعَّال لا منفعل، على حين أن العقل المنفعل فاسد)، ومن دون العقل الفعَّال لا شيء يُعقل.» وهناك خلاف كبير بين المترجمين المحدثين على نص أرسطو؛ ومرجع هذا الخلاف إلى صعوبة النص واختصاره وتركيزه، ثم إلى اختلاف المفسِّرين القدماء مثل؛ الإسكندر، وثامسطيوس، وثاوفراسطس، وغيرهم. فإذا كان الأمر كذلك، فليس من الغريب أن ينحو الفارابي نحوًا خاصًّا في فهم نظرية العقل عند أرسطو، وليس من الغريب أن يفهمها غيره من الفلاسفة الإسلاميين على غير هذا النحو. انقسام العقل إلى عقلَين؛ المنفعل والفعَّال. خلود العقل الفعَّال وفساد العقل المنفعل. مفارقة العقل الفعَّال. وحدة العقل الفعَّال. اتصال العقل الفعَّال بالعقول الإنسانية. ونتكلَّم الآن عن النقطة الأولى وهي أقسام العقل. ومن الواضح في ترجمة النص السابق أن أرسطو يجعل العقل عقلَين؛ المنفعل والفعَّال. بينما الفارابي ومن جاء بعده مثل ابن سينا وابن رشد وغيرهما، يجعلون العقل على أربعة أنحاء، أو أربعة عقول. وعند الفارابي أنها عقل بالقوة، وعقل بالفعل، وعقل مستفاد، وعقل فعَّال. أمَّا ترتيب العقول وأسماؤها عند ابن سينا فهي مختلفة عنها عند الفارابي؛ فهي: العقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد. وأول من تكلَّم من المفسِّرين في نظرية العقل وتوسَّع فيها هو الإسكندر الأفروديسي. وعنده أن العقل المنفعل، ويُسمَّى العقل المادي أو الهيولاني كما يُسمِّيه العرب، ليس فيه شيء بالفعل، بل كله بالقوة؛ وسبب ذلك أنه ليس شيئًا قبل أن يعقل، فإذا عقل اتحد بالموضوع. فالعقل الهيولاني ليس إلَّا الاستعداد لقَبول المعاني أو المعقولات، كالشمع الخالي من كل نقش. هذا هو رأي الإسكندر الأفروديسي في كتاب النفس. والراجح، إن لم يكن من المؤكَّد، أن الفارابي أخذ عن الإسكندر لا عن أرسطو؛ لما بين كليهما من تشابه شديد. فهذا التشبيه بالشمعة، مع التنبيه إلى ما بين الشمعة والعقل من فوارق، هو بذاته ما نصَّ عليه ونبَّه إليه الإسكندر كما رأينا. وأخذ الفارابي هذا الرأي وسار معه إلى نهايته المنطقية، فجعل العقل بالقوة هو العقل قبل أن يحصل فيه شيء من المعقولات، أمَّا بعد انتزاع المعقولات فإنه يُصبح عقلًا بالفعل. ذكرنا الخلاف بين الفارابي والمعلِّم الأول على تقسيم العقل؛ ذلك أن أرسطو يقول بعقلَين؛ المنفعل والفعال، بينما الفارابي يجعل العقول أربعة؛ العقل بالقوة، والعقل بالفعل، والعقل الفعَّال، والعقل المستفاد. ولا يتقيَّد الفارابي بهذه الأسماء إذ يقول في بعض مؤلَّفاته عن العقل بالقوة إنه الهيولاني، وعن العقل بالفعل إنه بالملكة. وحينئذٍ نرى أن تسمية ابن سينا للعقول ليست جديدة، بل مأخوذة من المعلِّم الثاني. وننتقل الآن إلى الكلام على النقطة الثانية من موضوعنا وهي فساد العقل المنفعل، وخلود العقل الفعَّال في رأي أرسطو، ثم نرى رأي الفارابي في هذه المسألة. ويحسن أن ننقُل إليك ما ذكره الفارابي عن هذا الشأن. قال: «ولهذا العقل مراتب؛ يكون مرةً عقلًا هيولانيًّا، ومرةً عقلًا بالملكة، ومرةً عقلًا مستفادًا. وهذه القوى التي تدرك المعقولات جوهر بسيط وليس بجسم، ولا يخرج من القوة إلى الفعل، ولا يصير عقلًا تامًّا إلَّا بسبب عقل مفارق وهو العقل الفعَّال الذي يُخرجه إلى الفعل … وهو مفارق للمادة يبقى بعد موت البدن، وليس فيه قَبول الفساد. وهو جوهر أحدي. وهو الإنسان على الحقيقة، وله قوًى تنبعث منه في الأعضاء. وظهوره من واهب الصور.» ورأي الفارابي في هذه الفقرة السابقة التي نقلناها عن عيون المسائل، أوضح من رأيه في مقالة العقل. قال: «وأمَّا العقل الفعَّال الذي ذكره أرسطوطاليس في المقالة الثالثة من كتاب النفس، فهو صورة مفارقة لم تكن في مادة، ولا تكون أصلًا. وهو بنوع ما عقل بالفعل، قريب الشبه من العقل المستفاد.» والفارابي في مقالة العقل أقرب إلى روح أرسطو، بينما رأيه في عيون المسائل ينقل عن الإسكندر الأفروديسي وغيره من المفسِّرين. وعندما ذكرنا ترجمة نص كلام أرسطو في كتاب النفس وجدنا أنه يجعل العقل المنفعل فاسدًا، والفعَّال خالدًا. ولا يفوتنا أن نذكر أن الفارابي يُسمِّي العقل بالقوة أو الهيولاني عقلًا منفعلًا كما سمَّاه أرسطو، وفي ذلك يقول في كتاب «آراء المدينة الفاضلة»: «ويُسمَّى العقلُ الهيولاني العقلَ المنفعل.» ولا نستطيع أن نستخلص رأي الفارابي عن العقل الهيولاني أهو فاسد أم خالد؟ أمَّا رأيه في العقل الفعَّال فهو صريح إذ يقول: «وليس فيه قوة قَبول الفساد»، كما نص في عيون المسائل، غير أن قوله: «وهذه القوى التي تدرك المعقولات جوهر بسيط وليس بجسم»، يجعلنا نشعر أنه يعتقد بأن العقل الهيولاني أو المنفعل غير فاسد أيضًا. ويزيد في اعتقادنا هذا أن الفارابي يفصل فصلًا تامًّا وتمييزًا واضحًا بين المحسوس والمعقول، أو المادة والروح. ولمَّا كانت المادة فاسدةً والروح خالدة، وليس العقل ماديًّا؛ فهو إذن خالد في شطرَيه المنفعل والفعَّال. وإليك نصَّ ما ذكره بشأن الفصل بين المحسوس والمعقول: «ليس من شأن المحسوس من حيث هو محسوس أن يعقل، ولا من شأن المعقول من حيث هو معقول أن يُحِس. ولن يستقيم الإحساس إلَّا بآلة جسمانية فيها تتشبَّح صور المحسوس تشبُّحًا مستصحبًا للواحق الغريبة. ولن يستقيم الإدراك العقلي بآلة جسمانية؛ فإن المتصوِّر فيها مخصوص، والعام المشترك فيه لا يتقرَّر في منقسم، بل الروح الإنسانية هي التي تتلقَّى المعقولات بقَبول جوهر غير جسماني، وليس بمتميُّز ولا بمتمكِّن، بل غير داخل في وهم، ولا يدرك بالحس؛ لأنه من حيز الأمر.» غير أن للمسألة وجهًا آخر؛ ذلك أن العقل الهيولاني متصل بالفرد وليس مفارقًا، فهو يظهر بظهوره ويموت بموته، وفي هذه الحالة يكون العقل الهيولاني فاسدًا. وندع هذه المسألة جانبًا وهي فساد العقل الهيولاني؛ لأن رأي الفارابي عنها غير صريح كما قدَّمنا، وننتقل إلى الكلام عن العقل المفارق وهو الفعَّال. ومن الواضح أن الفارابي لم يأخذ في هذه المسألة برأي أرسطو، بل برأي المفسِّرين كما سنُبيِّن لك. ذلك أن أرسطو لم يبسط رأيه بسطًا وافيًا شافيًا، أو واضحًا لا يقبل التأويل. يقول أرسطو: «لا يكون العقل عقلًا صحيحًا إلَّا حينما يُفارق.» وقد اعتمد المفسِّرون على هذا الرأي الغامض المختصر، فوصلوا به إلى نهايته المنطقية المحتومة، فقالوا إنه لا يُفارق حينًا ويُفارق حينًا آخر، بل يُفارق في جميع الأحيان. وقالوا إنه يُفارقنا بمعنى أنه مِنا ثم يُفارقنا، بل هو جوهر ليس منا يفيض علينا من الخارج، فهو جوهر إلهي. وهذا العقل هو الذي يهدي الإنسان ويُضيء له المعقولات. هذا هو تفسير الإسكندر وثامسطيوس وفيلوبون وسائر المفسِّرين اليونان، وجميع فلاسفة العرب دون استثناء. فإن قيل: إن هذا المذهب لا يتلاءم مع مذهب المشَّائين وفلسفة أرسطو، قلنا: إن أرسطو لم يتحرَّج أن يأخذ من أصحاب الفلسفة السابقين عليه بعض الآراء وضمَّنها مذهبه العام. ونخص بالذكر بصدد العقل ما أثبته لأنكساجوراس، دون أن يعني أرسطو بالالتفات إلى مناقضة رأي أنكساجوراس للمذهب العام الأرسطوطاليسي. فهذه الثغرة التي فتحها أرسطو في فلسفته، يُضاف إليها نزعة المفسِّرين الدينية، هي التي أوحت إليهم أن يأخذوا من أرسطو ما قاله عن مفارقة العقل، ثم يُؤلِّفوا نظريةً تتلاءم مع رأيهم في الدين. أمَّا قول الفارابي: إن العقل الفعَّال «جوهر أحَديٌّ وهو الإنسان على الحقيقة، وظهوره من واهب الصور»، فمأخوذ عن المفسِّرين لا عن أرسطو. وكذلك قوله في «فصوص الحكم»: «الروح الإنسانية هي التي تتمكَّن من تصوُّر المعنى بحَدِّه وحقيقته … وذلك بقوة لها تُسمَّى العقل النظري. وهذه الروح كمرآة، وهذا العقل النظري كصقالها. وهذه المعقولات ترتسم فيها من الفيض الإلهي، كما ترتسم الأشباح في المرايا الصقلية إذا لم يُفسِد صقالها طبع.» وقال في موضع آخر: «الحس تصرُّفه فيما هو من عالم الخلق، والعقل تصرُّفه فيما هو من عالم الأمر، وما هو فوق الخلق والأمر فهو محتجب عن الحس والعقل، ليس حجابه غير انكشافه.» قال رينان في كتابه عن ابن رشد وفلسفته: «إن الإسكندر الأفروديسي هو أول وأعظم المفسِّرين لنظرية العقل التي وردت في الجزء الثالث من كتاب النفس لأرسطو. ويتضح من كلام ثامسطيوس أن جدلًا طويلًا شاع في بدء القرون الوسطى حول هذه النظرية. وعندهما أن العقل المفارق خارج عن الإنسان، وأنه واحد في أصله؛ أي الله، وأنه كثير بكثرة الأفراد الذين يشتركون فيه، كالأشعة الكثيرة التي تفيض عن الشمس.» فهذا كله يُؤيد ما ذكرناه من أن الفارابي أخذ عن المفسِّرين في مفارقة العقل ووحدته. ونذكر بعد ذلك رأيه في الاتصال. إذا كان الفارابي أمينًا إلى حدٍّ ما في نقْل ما ذكره المعلِّم الأول عن انقسام العقل إلى منفعل وفعَّال، ثم الكلام عن خلود العقل الفعَّال وفساد المنفعل، ومفارقة العقل، فإن الفارابي لم يكن متفقًا مع أرسطو في الرأي عن وحدة العقل والاتصال، شأنه في ذلك شأن سائر المفسِّرين لزعيم المشَّائين. واتصال عقولنا بالعقل الفعَّال يفرض حتمًا وجود العقل الفعَّال خارج العقول الإنسانية من جهة، ثم سعي العقول الإنسانية للاتصال به من جهة أخرى. ومجموع هذَين الرأيَين منقول عن الأفلاطونية الحديثة، وعن الإسكندر الأفروديسي؛ لأن الرأي القائل بالفيض والاتصال، كلاهما بعيد عن فلسفة المشَّائين، وعن نصوص أرسطو. والقول بالاتصال يتلاءم كل الملاءمة مع الفلسفة العامة للفارابي، التي لا بد من فهمها أولًا؛ لفهم المسائل الجزئية التي تُعرض بعد ذلك. ولكل فيلسوف مذهب عام، كامل البناء، تترتَّب فيه مسائل الوجود في انسجام. وإذا أردت أن تشهد البناء الكامل لمذهب الفارابي في الفلسفة، فعليك أن تقرأ كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة»، التي بدأها بالقول في الله وصفاته، وأنه سبب الموجودات، ثم انتقل إلى الكلام عن الملائكة، وضرورة الاعتقاد فيها، والأجرام السماوية وتدبير الأفلاك، ثم انتقل إلى الأجسام الهيولانية، والمادة والصورة، وفي ترتيب الموجودات الأرضية، حتى يصل إلى الإنسان وهو أشرفها وأرقاها. ثم يتحدَّث عن قوى النفس والعقل والتخيُّل، والرؤيا الصادقة والوحي. ويختم كلامه برأيه في المجتمع والمدينة الفاضلة وشروطها. هذا التصوير السريع لمذهب الفارابي ضروري لسببَين؛ الأول: لأن العقل يصدر عن الله، «وهو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها». والثاني: أن الله هو الغاية التي يجب أن يتطلَّع كل إنسان لمعرفته، ومعرفتنا له تعالى لا تتم بالمادة ووسائلها، بل بالروح أو العقل. وكلما ابتعد الإنسان عن علائق المادة اقترب من الله. وهذا هو أول طريق للاتصال؛ «إذ كلما قربت جواهرنا منه؛ كانت تصوُّراتنا له أتمَّ وأيقن وأصدق. وذلك أنا كلما كنا أقرب إلى مفارقة المادة؛ كان تصوُّرنا له أتم. وإنما نصير أقرب إليه بأن نصير عقلًا بالفعل. وإذا فارقنا المادة على التمام؛ يصير المعقول منه في أذهاننا أكمل ما يكون.» هذا الكلام السابق شديد الشبه بالصوفية وكلامهم، والفارابي صوفي حقًّا في كثير من مواضع كتبه، خصوصًا في «فصوص الحكم» وعيون المسائل، حيث يستعمل اصطلاحات المتصوِّفة ولغتهم، وطريقتهم في الأداء والتفكير. وقد مرَّ بنا عند ذكر حياته أنه لمَّا ذهب إلى سيف الدولة أقام عنده بزي التصوُّف. على أي نحو يكون هذا الضرب من الاتصال؟ لا نستطيع أن نجد عند الفارابي جوابًا شافيًا. ولكن لعلنا نلتمس من ذلك شيئًا فيما ذكره عن الرؤيا والوحي.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/31537282/
في عالم الفلسفة
أحمد فؤاد الأهواني
«الفلسفة بحر لا يُعرف له قرار. تحتاج في معرفتها إلى العلم بما قاله القدماء، وما ذكره المُحدثون، وهو شيء لا تُحيط به إلا المتون والمطوَّلات.»الفلسفة هي علمٌ غزيز مليء بالنظريات والأفكار والرُّؤى والتفسيرات. وزخرت مكتبات العالم بمئات الكتب التي أفاضت الحديث عن كافة جوانبها وتطوُّراتها عبر العصور والأزمان. وهذا الكتاب على الرغم من حجمه الصغير، فإنه يُعَد واحدًا من الكتب الفلسفية المهمة لأي قارئٍ يريد الإلمام الجيد بهذا العلم؛ فبين دفَّتَي هذا الكتاب يأخذنا «أحمد فؤاد الأهواني» في رحلةٍ سريعة لثلاثة عوالم فلسفية؛ بدايةً من عالَم الفلسفة اليونانية، مرورًا بعالَم الفلسفة الإسلامية، منتهيًا بعالَم الفلسفة الحديثة، مستعرضًا بإيجازٍ أبرز العلماء والفلاسفة في كل عالَمٍ على حِدَة، ومُتحدِّثًا بأسلوبٍ بسيط غير مُعقَّد عن العديد من النظريات والآراء الفلسفية التي لا نعرف عنها الكثير، والتي تناول بعضها وفقًا لِرُؤاه الشخصية.
https://www.hindawi.org/books/31537282/9/
السببية بين الغزالي وابن رشد
هذه قضية خطيرة حقًّا كان لها أعظم الأثر في حياة المسلمين، ومستقبل حضارتهم؛ إذ عليها تتوقَّف الأُسس التي تقوم عليها العلوم المختلفة، فيتسنَّى بذلك أن يرسم الطريق الذي يسلكه العلماء في بحوثهم المختلفة، ويمضون فيه، فيجدونه مفتوحًا أمامهم مُذَلَّلًا، مُؤديًا إلى أهدافٍ يمكن تحقيقها، أو ينصرفون عنه لأنه طريق وعر شائك مملوء بالعقبات التي تصدُّهم عن البحث، وتلويهم عن النظر إلى الظواهر الطبيعية التي تُؤلِّف بنيان العلم. فإن سلَّمنا بوجود أُسس يقوم عليها أمكن التقدُّم العلمي، وإن أنكرنا هذه الأُسس وقف العلم عن التقدُّم. ولقد أخذ المسلمون بالرأي الذي يُنكر على العلم أُسسه؛ فكان ذلك علة التأخُّر في ميدان العلوم، وأخذت أوروبا بالوجهة الأخرى من النظر؛ فسار العلم شوطًا بعيدًا في سبيل التقدُّم، ممَّا نلمس أثره الآن. وكان على رأس المهاجمين للعلم أبو حامد الغزالي المتوفَّى ٥٠٥ هجرية، الذي ألَّف كتاب «تهافت الفلاسفة» يعترض فيه على الفلاسفة والمتكلِّمين، ويُبيِّن فساد آرائهم جملةً وتفصيلًا، ويُبطل قولهم بقدم العالم وأبديته، وأبدية الزمان والحركة، والقول بأن الله لا يعلم الجزئيات، والقول بضرورة الأسباب والمسببات، وغير ذلك من المسائل. ولم يسكت الفلاسفة على هذه الدعاوى، فكتب ابن رشد فيلسوف قرطبة المتوفَّى ٥٩٥ هجرية كتاب «تهافت التهافت»، يقرع الحجة فيه بالحجة، والدليل بالدليل. وكان الجمهور هو القاضي أو الحكم في هذه الخصومة الفلسفية، فانتصر للغزالي، وخلع عليه لقب حجة الإسلام. وغضب ابن رشد، واتُّهمَ بالكفر والزندقة، وحُرقت كتبه. ولسنا نتعرَّض لأسباب هذا الاضطهاد ففيه أقوال كثيرة مذكورة في التاريخ، ولكننا نُرجِّح أن ميول العامة كانت تُعارض الفلاسفة عمومًا، وتسخط على ابن رشد على وجه الخصوص. وتُرجمت كتب ابن رشد إلى اللاتينية، وظلَّت آراؤه تُدرَّس في جامعات أوروبا حتى القرن السادس عشر الميلادي، بل أبعد من هذا. لقد اصطَفت الحضارة الأوروبية آراء ابن رشد الفيلسوف في العلم، فنهضت نهضتها العلمية التي نشهد ثمرتها في العصر الحاضر، وسار المسلمون وراء الغزالي فتأخَّروا علميًّا ممَّا هو واقع أمام بصرنا. وإذا كان المسلمون خاصتهم وعامتهم قد اقتنعوا بأدلة الغزالي، فلهم أعذار كثيرة؛ فالغزالي من أئمة الجدل دون نزاع، برع في المناظرة، ورسخت قدمه في المنطق، وملك عِنان الموضوع الذي يُجادل فيه الخصوم، وهو لا يُخاطب العقل وحده، بل يتجه إلى القلب فيلعب على أوتار العاطفة الدينية، وهي أقوى العواطف في ذلك العصر الذي كان الدين آخذًا فيه بالقلوب في كل ناحية من نواحي الحياة. وإلى جانب ذلك نجد أنه يُحسن عرض الموضوع ويضرب الأمثلة الكثيرة المنوَّعة، ويتخذ في الكتاب أسلوبًا بسيطًا يفهمه صاحب الثقافة اليسيرة. وموضوع النزاع هو الأسباب والمسبَّبات؛ هل بينهما صلة ضرورية حتى إذا ما وُجد السبب نشأ عنه المسبَّب بالضرورة، أم أن هذه الصلة غير ضرورية؟ ويرى الغزالي أن هذه الصلة غير ضرورية، وفي ذلك يقول: «فليس من ضرورةِ وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل: الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهِّل، وهلم جرَّا إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف.» فأنت ترى أنه ينفي مبدأ السببية، ويسوق لذلك مثالًا بعد مثال من المشاهدات العامة ليُؤكِّد المسألة تأكيدًا لا يقبل الشك. ولكن هذا النفي الحاسم لا يضطرب له جَنان ابن رشد الذي يُبادر فيقول: «أمَّا إنكار وجود الأسباب الفاعلة التي تُشاهد في المحسوسات فقول سفسطائي، والمتكلِّم بذلك إمَّا جاحد بلسانه لما في جَنانه، وإمَّا منقاد لشبهة سفسطائية.» فالغزالي وابن رشد على طرفَي نقيض؛ الأول يُنكر مبدأ العلية، ويُنكر أن المسبَّبات مستمدَّة من الأسباب، والثاني يُقرِّر هذا المبدأ أو يُثبته. ولمَّا رأى الفلاسفة إنكار الخصوم للمشاهدات المحسوسة، ردُّوا عليهم ساخرين؛ إذ متى انعدمت الصلة الطبيعية الضرورية بين الأشياء، لم تثبت على حال، وجاز أن يقع كل شيء. ومن وضع كتابًا في بيته فمن الجائز أن يكون قد انقلب غلامًا، أو ترك غلامًا في بيته فليُجوِّز انقلابه كلبًا، أو ترك الرماد فليُجوِّز انقلابه مِسكًا، وانقلاب الحجر ذهبًا والذهب حجرًا. وإذا سُئل أحد عن شيء من هذا فينبغي أن يقول لا أدري ما في البيت الآن؟ وإنما القدر الذي أعلمه أني تركت في البيت كتابًا ولعله الآن فرس، أو أني تركت في البيت جرةً من الماء ولعلَّها انقلبت شجرة تفاح. فماذا كان رد الغزالي على هذه السخرية؟ قال: لم ندَّعِ أن هذه الأمور واجبة، بل هي ممكنة، يجوز أن تقع، ويجوز ألَّا تقع. واستمرار العادة بها مرةً بعد أخرى ترسخ في أذهاننا جريانها على وفق العادة الماضية ترسُّخًا لا تنفك عنه. وأجاب ابن رشد: ما أدري ما يُريدون باسم العادة، هل يُريدون أنها عادة الفاعل، أو عادة الموجودات، أو عادتنا عند الحكم على هذه الموجودات؟ ومحال أن يكون لله تعالى عادة؛ فإن العادة: ملكة يكتسبها الفاعل تُوجب تكرار الفعل منه على الأكثر. والله تعالى يقول: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (الفتح: ٢٣). وإن أرادوا أنها عادة الموجودات، فالعادة لا تكون إلَّا لذي نفس. وإن كانت في غير ذي نفس فهي في الحقيقة طبيعية … وأمَّا أن يكون عادةً لنا في الحكم على الموجودات فإن هذه العادة ليست شيئًا أكثر من فعل العقل الذي يقتضيه طبعه، وبه صار العقل عقلًا. ثم اختار الغزالي مثال النار والاحتراق وناقشه قائلًا: إن الخصم يدَّعي أن فاعل الاحتراق هو النار فقط، وهو فاعل بالطبع لا بالاختيار، فلا يُمكنه الكف عمَّا هو طبعه. ولكن هذا غير صحيح؛ إذ إن فاعل الاحتراق هو الله تعالى بواسطة الملائكة أو بغير واسطة، وأمَّا النار فهي جماد لا فعل لها. وليس للفلاسفة من دليل على قولهم إلَّا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به. وهو رأي جميع الذين يردُّون كل شيء إلى الله، لا رأي الغزالي و«مالبرانش» وحدهما. ونعود إلى الجدل بين الغزالي وابن رشد. فقد أنكر الفلاسفة وقوع سيدنا إبراهيم — عليه السلام — في النار مع عدم الاحتراق وبقاء النار نارًا، وزعموا أن ذلك لا يمكن إلَّا بسلب الحرارة منا لنار، أو بانقلاب ذات إبراهيم وبدنه حجرًا، أو شيئًا لا تُؤثِّر فيه النار. ويرد الغزالي عليهم بأن صفة الإحراق في النار غير ضرورية بل ممكنة، كما أن في مقدورات الله تعالى غرائب وعجائب، ونحن لم نُشاهد جميعها، فلا ينبغي أن نُنكر إمكانها، ونحكم باستحالتها. ويبدو أن التعرُّض للإلهيات كان مثارًا لخوف شديد من جانب الفلاسفة؛ إذ تكفي تهمة الزندقة، أو إنكار ما جاء في الشرع، كي توقع بصاحبها شرًّا عظيمًا. لهذا السبب بادر ابن رشد بنفي هذه التهمة بما يُفصح عن الخوف الكامن في نفسه من نسبة الكفر إليه، وهذا ما يُرجِّح عندنا أن محنته كانت لهذا السبب دون غيره، فقال يرد على الغزالي: «أمَّا ما نسبه من الاعتراض على معجزة إبراهيم — عليه السلام — فشيء لم يقله إلَّا الزنادقة من أهل الإسلام، فإن الحكماء من الفلاسفة ليس يجوز عندهم التكلُّم ولا الجدل في مبادئ الشرع. وفاعل ذلك عندهم محتاج إلى الأدب الشديد.» ولعل الغزالي كان مضطرًّا إلى فسح المجال للممكنات، ونفي ضرورة الظواهر الطبيعية؛ ليتسنَّى له تفسير معجزات الأنبياء تفسيرًا يتلاءم مع المذهب الذي يتصوَّره. وحاصل هذا المذهب أن الظواهر الطبيعية ليست ثابتةً بحيث يمكن القول بوجود الأسباب والمسبَّبات، بل هي ممكنة، وقد تتغيَّر، والله تعالى هو الذي يُغيِّرها، وفي مقدورات الله أن يُدبِّر المادة بما ليس معهودًا لنا. ولمَّا كانت نفس النبي من الصفاء والاتصال بحيث يطَّلع على الممكن من الغيب، ووقعت المعجزة، مثل جواز نزول الأمطار، والصواعق، وتزلزل الأرض، بقوة نفس النبي. بل أكثر من ذلك، فإن في مبادئ الاستعدادات غرائب وعجائب لم نشهدها ولم نعرفها، ولهذا توصَّل أرباب الطلسمات، بمعونة الطوالع ومزج القوى السماوية بالخواص المعدِنية؛ أي يمزج علم خواص الجواهر المعدِنية وعلم النجوم، إلى إحداث أمور غريبة في العلم، «فربما دفعوا الحية والعقرب عن بلد إلى غير ذلك». ومن استقرأ عجائب العلوم لم يستبعد من قدرة الله ما يُحكى من معجزات الأنبياء بحال من الأحوال. وأظنك في غير حاجة إلى معرفة الجوانب الذي سوف يُدلي به ابن رشد عن هذه المسألة الجديدة، فقد سبق أن أجاب عنها حين تعرَّض لمعجزة إبراهيم، وهو أن الكلام في المعجزات ليس فيه للحكماء من الفلاسفة قول. غير أن ابن رشد بعد سَوق هذه المقدمة التي يُدافع فيها عن نفسه وعن الفلاسفة، ما عدا ابن سينا الذي يُثبت له الكلام في المعجزات على النحو الذي يحكيه الغزالي، عاد إلى تعليل المعجزة بأنها مستحيلة على سائر الناس، ممكنة للنبي؛ لأنه يأتي بالخوارق. ومعنى ذلك أن الأشياء الطبيعية متصلة اتصالًا ضروريًّا مع استثناء الخوارق للعادات، وعلينا تصديقها بالتسليم. ومع ذلك فمعجزة المعجزات، وهو كتاب الله العزيز، ليس معجزًا وخارقًا من طريق السماع، كانقلاب العصا حية، بل ثبت كونه معجزًا بطريق الحس والاعتبار لكل إنسان وُجد ويوجد إلى يوم القيامة؛ وبهذا فاقت هذه المعجزة سائر المعجزات. يتصوَّر ابن رشد أن الأشياء الطبيعية متصلة بعضها ببعض اتصالًا ضروريًّا بأسباب محسوسة مشاهدة، وأن الأسباب فاعلة، والمسبَّبات منفعلة. والدليل على ذلك أن لكل موجود فعلًا يخصه؛ لأن له طبيعةً تخصه. ومعرفتها بهذه الطبيعة وهذا الفعل هو الذي يسمح لنا أن نُطلق على كل شيء اسمًا واحدًا يخصه. ولو لم يكن لكل شيء اسم يخصُّه لكانت الأشياء كلها شيئًا واحدًا، أو لا شيء. وإذن فإطلاق الأسماء على الأشياء إنما نشأ من وجود طبيعة واحدة ثابتة تخصها، ولكل طبيعة فعل خاص. فما دام اسم النار باقيًا لها وحدها، فليس ما يوجب أن نسلبها صفة الإحراق، وإلَّا فلْنطلق عليها اسمًا آخر. والعقل هو الذي يُدرك أسباب الموجودات الطبيعية، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل. وإذا رُفِعَ العقل، ورُفعت الأسباب والمسبَّبات؛ فقد بطل العلم؛ إذ لن يكون هناك شيء معلوم علمًا حقيقيًّا، بل ظني فقط. هل يُريد ابن رشد أن يقول إن الفاعل الحقيقي، والسبب في إحداث الأشياء، العقل أم الأشياء الطبيعية؟ أعتقد أنني لا أعدو الصواب حين أُقر أن رأي ابن رشد هو العقل لا الطبيعة؛ فقد ناقش هذه المسألة بصدد ما يقولونه عن جريان الأشياء بالعادة، وأنكر أن تكون عادة الله؛ لأن العادة ملكة مكتسبة، وأنكر أن يكون للطبيعة عادة لأنها لا تكون إلَّا لذي نفس، بقي أن تكون هذه العادة عادتنا في الحكم على الموجودات، وليست هي «شيئًا آخر أكثر من فعل العقل الذي يقتضيه طبعه، وبه صار العقل عقلًا». ويذكر ابن رشد أنه يتفق مع سائر الحكماء في أن الموجودات المحسوسة، ولو أنها فاعلة بعضها في بعض، إلَّا أنها ليست مكتفيةً بأنفسها في هذا الفاعل، بل تحتاج إلى فاعل عنها، فِعله شرطٌ في فعلها. وقد اتفق الحكماء كما يقول ابن رشد على أن الفاعل الأول بريء عن المادة، وأن فعله شرط في وجود الموجودات وفي وجود أفعالها. وظاهر أن ابن رشد يُريد أن يقول: إن هذا الفاعل الخارج عن المادة هو العقل. والله هو واهب العقل، وعنده علم أزلي بطبائع الأشياء، فيستطيع أن يعلم منذ الأزل بما سوف يقع؛ لأن للموجودات طبائع ثابتة. وطبيعة الموجودات تابعة للعلم الأزلي. وعلم الخالق هو السبب في حصول تلك الطبيعة للمخلوق، وليس الوقوف على الغيب شيئًا أكثر من الاطلاع على هذه الطبيعة. وقد يبدو لك أن هذه المناقشات الطويلة بين الغزالي وابن رشد عقيمة، ما كان ينبغي أن يصرف فيها العقلاء وقتهم دون جدوى. غير أن هيوم في القرن الثامن عشر الميلادي؛ أي بعد وفاة ابن رشد بستة قرون، تناول هذا الموضوع نفسه، وأفاض فيه، بما لا يخرج عمَّا كتبه الغزالي وابن رشد ولكن بشكل آخر. ذلك أن هيوم ينظر إلى المسألة محلِّلًا العناصر التي يتألَّف منها عقلنا خاصًّا بمبدأ السببية؛ أي إنه ينقد العقل البشري، على حين أن الغزالي نظر إليها من وجهة نظر الدين، وابن رشد من وجهة نظر الفلسفة. وقد كان لنقد هيوم الموجَّه إلى الدين والفلسفة جميعًا أعظم الأثر في حياة فيلسوف من أعظم فلاسفة القرن الثامن عشر خطرًا، قيل إنه أحدث انقلابًا في الفلسفة شبيهًا بالانقلاب الذي أحدثه كوبرنيق في علم الفلك، ونعني به كانط الذي قال: «لقد أيقظني هيوم من سُبات الاعتقادات.» ويرى هيوم أن الحواس مصدر فكرة السببية وجميع الأفكار الأخرى؛ فالتجرِبة الحسية هي التي تُعلِّمنا أن كرة البلياردو حين تصطدم بِكرة أخرى تُحرِّكها وتدفعها إلى اتجاه مُعيَّن، ونحن لا نعرف بالفطرة أنها تتحرَّك، ولا نعرف اتجاه حركتها. وليس بين ما نُسمِّيه علة، وما نُسمِّيه معلولًا، أيُّ صِلة ضرورية توجد بالفطرة. كل ما نعرفه هو أن الأشياء تتتابع على نسق مُعيَّن؛ فنحن نرى الحرارة تُصاحب اللهب، ولكننا لا نعلم ما العلاقة بينهما. هل هذه العلاقة مستمدَّة من الأشياء الخارجية، أم مستمدة من التأمُّل الباطني لعمليات النفس؟ الواقع لا هذا ولا ذاك، بل معنى السببية لا يدل على شيء؛ فهو من الألفاظ الفلسفية التي اخترعناها وجرينا وراءها. وكل ما نستطيع أن نقوله هو أن السببية عادة نشأت بتوالي النظر إلى شيئَين بينهما علاقة تتابُع دائمة. ونظر كانط إلى المسألة من زاوية أخرى؛ إذ بدأ يُحلِّل العقل نفسه وما فيه من أحكام، والأحكام أساس التفكير. نقول: الحرارة تُمدِّد الأجسام، وهو حكم علمي؛ لأنه ضروري ينطبق على الماضي والحاضر والمستقبل. بأي حق نُثبت أن هذه القضية ضرورية عامة صادقة في جميع الأحوال؟ هل هي التجرِبة التي تُعلمنا ذلك؟ ليست التجرِبة؛ لأنه من الجائز أن الحالات التي لم نُشاهدها تختلف عمَّا شاهدناه. فالتجرِبة وحدها لا تكفي في بناء العلم أو المعرفة العلمية. ولكن تكون الأحكام ضرورية؛ أي علمية، يجب أن تستند إلى مبادئ عقلية أصولها موجودة في العقل كما هي موجودة في الحس بالمشاهدة. فالحواس تُقدِّم مادة الأحكام، والعقل يقوم بربطها، ويطبعها بطابعه، ويُضفي عليها من صورته. في العقل عناصر يُضيفها إلى المعرفة الحسية التي يستقبلها من الخارج، فتكون كعصارة المعدة التي تختلط بالطعام لتهضمه. هذه العناصر الفطرية التي يُنكرها الحِسيون، والتي يُحاول كانط في نقده للعقل الخالص أن يُبيِّن وجودها هي: المكان صورة الإحساسات الخارجية، والزمان صورة الإحساسات الداخلية. وإذن فالحواس تُقدِّم لنا الأشياء في قالَبَين هما الزمان والمكان؛ ولذلك لا نعرف الأشياء في ذاتها، بل كما تبدو لنا خلال هذَين المنظارَين، وإليها يرجع مبدأ السببية العلمي.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/31537282/
في عالم الفلسفة
أحمد فؤاد الأهواني
«الفلسفة بحر لا يُعرف له قرار. تحتاج في معرفتها إلى العلم بما قاله القدماء، وما ذكره المُحدثون، وهو شيء لا تُحيط به إلا المتون والمطوَّلات.»الفلسفة هي علمٌ غزيز مليء بالنظريات والأفكار والرُّؤى والتفسيرات. وزخرت مكتبات العالم بمئات الكتب التي أفاضت الحديث عن كافة جوانبها وتطوُّراتها عبر العصور والأزمان. وهذا الكتاب على الرغم من حجمه الصغير، فإنه يُعَد واحدًا من الكتب الفلسفية المهمة لأي قارئٍ يريد الإلمام الجيد بهذا العلم؛ فبين دفَّتَي هذا الكتاب يأخذنا «أحمد فؤاد الأهواني» في رحلةٍ سريعة لثلاثة عوالم فلسفية؛ بدايةً من عالَم الفلسفة اليونانية، مرورًا بعالَم الفلسفة الإسلامية، منتهيًا بعالَم الفلسفة الحديثة، مستعرضًا بإيجازٍ أبرز العلماء والفلاسفة في كل عالَمٍ على حِدَة، ومُتحدِّثًا بأسلوبٍ بسيط غير مُعقَّد عن العديد من النظريات والآراء الفلسفية التي لا نعرف عنها الكثير، والتي تناول بعضها وفقًا لِرُؤاه الشخصية.
https://www.hindawi.org/books/31537282/10/
سيرة دافيد هيوم
من العسير أن يتحدَّث رجل عن نفسه طويلًا من دون زهو، لهذا سوف لا أُطيل. وقد يلوح في الذهن خاطر الزهو لأنني أقصد تدوين سيرة حياتي، غير أن هذا الحديث لن يزيد كثيرًا على تاريخ كتاباتي؛ إذ الواقع أنني أنفقت معظم حياتي في مطالب وأعمال أدبية، ولم يكن أول نجاح ظفر به معظم ما كتبت موضعًا للزهو. وُلدتُ في السادس والعشرين من أبريل عام ١٧١١ بالتقويم القديم — اليولياني — في أدنبرة. ونشأت من أسرة طيبة من جهة الأب والأم معًا؛ أسرة والدي فرع من إيرل «هيوم» أو «هوم»، وكان أجدادي مُلَّاكًا أجيالًا كثيرةً للضَيْعة التي يملكها أخي. أمَّا والدتي فهي كريمة السِّير دافيد فالكونر عميد كلية العدل. وورث أخوها لقب لورد هلكرتون. ولم تكن أسرتي مع ذلك غنية. ولمَّا كنتُ أخًا صغيرًا، فقد كان ميراثي تبعًا لعُرف دولتي ضئيلًا جدًّا بطبيعة الحال. كان أبي معروفًا بالخلق الكريم، ومات عندما كنت طفلًا فتركني وأخي الأكبر وأختي لعناية والدتي، وهي امرأة ذات فضل عظيم؛ لأنها على الرغم من شبابها وجمالها، انقطعت لتنشئة أطفالها وتعليمهم، ونجحت في مرحلة التعليم العادية. وامتلكتني منذ الصغر شهوة الأدب، تلك الشهوة التي تحكَّمت في حياتي، وأصبحتْ أعظم مصدر للذائذي. ثم إن مَيلي إلى الدرس، واعتدالي، واجتهادي، كان ممَّا أوحى إلى أسرتي بأن القانون هو أنسب المهن إليَّ، غير أني وجدت في نفسي عزوفًا لا يُقاوم عن أي شيء ما عدا طلب الفلسفة والمعرفة العامة. وفي الوقت الذي كان يُخيَّل إليهم أنني مُكِبٌّ على فويت وفينيوس، كان شيشرون وفرجيل من المؤلِّفين الذين أغترف من بحارهم سرًّا. غير أن ثروتي الضئيلة جدًّا؛ لأنها لم تكن تُلائم هذا اللون من الحياة، وصحتي التي تحطَّمت بعض الشيء من شدة الطلب، جعلتاني أُحاول أن، أو أرغَم على أن أُجرِّب تجرِبةً بسيطةً جدًّا أنزل بها إلى مسرح في الحياة أكثر حركة. فذهبت عام ١٧٣٤ إلى برستول أحمل بعض التوصيات إلى عدد من التجار البارزين، ولكنني وجدت بعد شهور قليلة أن هذا الميدان لا يُلائمني بتاتًا. فركبت البحر إلى فرنسا وفي ذهني أن أُتابع دراستي في عُزلة ريفية، وهناك استقرَّ بي ذلك اللون من الحياة الذي أبتغيه في مثابرة ونجاح. وعقدت النية على معيشة الكفاف الشديد حتى أُعوِّض النقص في دخلي، وعليَّ أن أحفظ استقلالي ممَّا قد يمسه، وعليَّ أن أُحقِّر من شأن كل شيء ما عدا تذكية مواهبي في الأدب. ثم تلقَّيت بعد ذلك دعوةً من الجنرال سانت كلير يطلب مني فيها أن أصحبه سكرتيرًا في حملته التي كانت وِجهتها أولًا ضد كندا، ولكنها انتهت إلى غارة على ساحل فرنسا. ودعاني الجنرال في العام التالي ١٧٤٧ أن أصحبه في نفس المنصب، في بعثته العسكرية المفوَّضة إلى بلاطَي فينا وتورين. ولبست عند ذاك زيًّا عسكريًّا برتبة ضابط، وقُدِّمت في هذَين البلاطَين على أنني مساعد أركان حرب الجنرال، ومع السير هاري إرسكين والكابتن جرانت، وهو الآن الجنرال جرانت. ويكاد أن يكون هذان العامان فترة الانقطاع الوحيدة في دراساتي خلال حياتي. لقد أنفقتهما في متعة وصُحبة حسنة، وحصلت من مرتبي مع الاعتدال في النفقة ثروةً عددتها كافيةً في الاعتماد على النفس، ولو أن معظم أصدقائي كانوا يميلون إلى الابتسام عندما قلت ذلك. جملة القول، كنت أملك ذلك الوقت حوالي ألفًا من الجنيهات. كانت تُساورني دائمًا فكرة أن فشلي في نشر «رسالة في الطبيعة الإنسانية» يرجع إلى الشكل أكثر ممَّا يرجع إلى الموضوع. ولقد كنت مخطئًا في عدم تبصُّري عندما ذهبت إلى المطبعة في وقت مبكِّر جدًّا، وعندئذٍ راجعت الجزء الأول من ذلك الكتاب وجعلته في كتابي «بحث في الفهم الإنساني»، الذي نُشر عندما كنت في تورين. ولم يكن ما لقيه هذا الكتاب في أول أمره من النجاح يزيد شيئًا مذكورًا عن «رسالة في الطبيعة الإنسانية». وزهدت نفسي عند عودتي من إيطاليا؛ إذ وجدت إنجلترا كلها تتحدَّث عن كتاب الدكتور مدلتون «بحث حر»، على حين أهملوا كتابي تمامًا، ومرُّوا عليه مرَّ الكرام. وطُبعت رسائلي الخلقية والسياسية طبعةً جديدةً في لندن، فلم يكن حظها أفضل لقاءً. كان مزاجي الفطري من القوة بحيث لم يُؤثِّر هذا الفشل المتكرِّر في نفسي إلَّا قليلًا، أو لم يُحدث في نفسي أثرًا. وذهبت عام ١٧٤٩ فأقمت عامَين عند أخي في منزله الريفي؛ لأن أمي كانت قد قضت نحبها، وألَّفت هناك الجزء الثاني من مقالاتي وسميته «مقالات سياسية»، وكذلك «بحث في مبادئ الأخلاق»، وهو جزء آخر من رسالتي أعدت كتابته، وفي ذلك الوقت أخبرني أ. ميللر الورَّاق، أن كتبي الأولى (ما عدا الرسالة سيئة الحظ) أخذت تُصبح موضعًا للحديث، وأخذ ما يُباع منها يتضاعف تدريجيًّا، وطُلبت طبعات جديدة منها. وجاءني ردَّان أو ثلاثة ردود في عام واحد من أشخاص محترمين ذوي مكانة. وتبيَّن لي من قذف الدكتور واربرتون أن الكتب أخذت تُقدَّر في الأوساط الطيبة، ومع ذلك فكنت قد عزمت على شيء لم أتحوَّل عنه، وهو ألَّا أرد على أحد. ولمَّا كنت هادئ المزاج فلم أجد صعوبةً في الابتعاد عن جميع المنازعات الأدبية. هذه العلامات الدالة على قيام الشهرة مدَّتني بالتشجيع، يُضاف إلى ذلك الميل إلى رؤية الجانب الحسن من الأشياء أكثر من الجانب السيئ، وهذا الطابع الذهني يجعل المرء أكثر سعادةً من وراثة ضَيعة تدر عليه عشرة آلاف جنيه في العام. وانتخبتني كلية المحامين عام ١٧٥٢ أمينًا لمكتبتها، وهو منصب لم أنَل منه إلَّا فائدةً ضئيلة، أو لم أنَل منه فائدةً ما، اللهم إلَّا أن أكون صاحب الأمر في مكتبة كُبرى. ووضعت عندئذٍ مشروع تدوين تاريخ إنجلترا، غير أني رهبت فكرة تدوين تاريخ يستغرق فترةً تبلغ سبعة عشر قرنًا، فابتدأت من أسرة ستيوارت، وهو عصر ظننت أن أحداثه أخذت تنحرف في التأويل، ولقد كنت كما أعترف بذلك شديد الأمل في نجاح هذا العمل، وخُيِّلَ إليَّ أنني المؤرِّخ الوحيد الذي أغفل شأن السلطة القائمة وما لها من اهتمام ونفوذ، كما أغفل أهواء الشعب الصارخة. ولمَّا كان الموضوع متصلًا بكل سلطة، فقد ارتقبت تحبيذًا نسبيًّا، غير أن فشلي كان يدعو إلى الرثاء، وهبَّت في وجهي صيحة واحدة من الاستهجان والعتاب، بل والكراهية؛ فالإنجليز والإسكوتش والإيرلنديون، والهويج والتوري، ورجال الكنيسة وأصحاب الشيع الأخرى، وأحرار الفكر والمتدينون والمواطنون ورجال البلاط، تضافروا على الغضب على ذلك الرجل الذي أقدم يسكب الدموع لمصير شارل الأول وإيرل ستافورد، حتى إذا خِفت حِدَّة غضبهم، ظهر أن مصير الكتاب آلَ إلى زوايا النسيان، ممَّا زاد في كدري. ولقد أخبرني مستر مللر أنه لم يبِع خلال اثنَي عشر شهرًا إلَّا خمسًا وأربعين نسخة. وفي الحق قلما سمعت في أنحاء الممالك الثلاث عن رجل واحد عظمت منزلته، أو ارتفع أدبه، استطاع أن يحتمل الكتاب. ومن واجبي أن أستثني فقط رئيس أساقفة إنجلترا الدكتور هرنج، ورئيس أساقفة أيرلندا الدكتور ستون، ويبدو أنهما شذَّا في غرابتهما؛ فقد أرسل إليَّ هذان الأسقفان الجليلان، كلٌّ منهما على حدة، رسائل تحث على التشجيع. ومع ذلك فإني أعترف أن عزيمتي قد ثبطت، ولو أن الحرب في ذلك الوقت لم تكن ناشبةً بين فرنسا وإنجلترا، لاعتكفت بكل تأكيد في إحدى المدن الريفية في فرنسا، وغيرت اسمي، وما عُدت قط إلى وطني. غير أن هذه الفكرة لم تكن عملية، وكان المجلد أوشك على التمام، فقد عقدت النية على استعادة الشجاعة والمثابرة. وفي سنة ١٧٥٦، بعد عامَين من سقوط المجلَّد الأول، طُبع المجلَّد الثاني من كتابي في التاريخ، شاملًا الفترة الواقعة بين موت شارل الأول والثورة. وحدث أن قلَّ سخط الهويج على هذا الكتاب، ولقيه الناس لقاءً أفضل، إلى حدِّ أنه لم يقف على قدمَيه فحسب، بل ساعد على إنقاذ أخيه سيئ الحظ. ولكني على الرغم من أني علمت أن حزب الهويج كان صاحب الأمر في جميع المناصب سياسية كانت أم أدبية، فلم أكن أميل إلى التسليم بادعاءاتهم الفارغة، حتى إنني بعد زيادة الدراسة والقراءة والتأمُّل في حكم ملكَي ستيوارت الأولَين، جعلت أكثر من مائة حادثة في صالح التوري. ومن السخرية اعتبار الدستور الإنجليزي قبل تلك الفترة أساسًا منتظمًا للحرية. ونشرت عام ١٧٥٩ تاريخ أسرة تيودور، فنال من السخط مثلما نال تاريخ الملكَين الأولَين من أسرة ستيوارت. وكان حكم الملكة إليزابث ممقوتًا بشكل خاص، غير أني أصبحت الآن لا أحفل بحماقة الجمهور، وأخذت وقد رضيت نفسي، في عزلتي بأدنبرة، أُنجز في مجلَّدَين الجزء السابق من تاريخ إنجلترا، وقدَّمته للجمهور سنة ١٧٦١، فحاز نجاحًا يكاد يكون مقبولًا. ولكن على الرغم من الزوابع والأعاصير التي تعرَّضتْ لها كتبي، فإن المباع منها بلغ حدًّا جعل ما قدَّمه لي الناشر من مال يفوق كل ما عُرف في إنجلترا من قبل، فلم أُصبح شخصًا أعتمد على نفسي فحسب، بل أصبحتُ ثريًّا، فاعتزلت في وطني الأصلي اسكتلندا عازمًا ألَّا أخرج منها قط، وقد ارتحت إلى هذا العزم مؤثِرًا له على استجابة طلب أي شخص عظيم، أو توثيق العلاقة بأي شخص عظيم. ولمَّا كنتُ قد اجتزت الخمسين من العمر فقد فكَّرت في إنفاق بقية حياتي على هذا النحو الفلسفي، وإذا بي أتلقَّى سنة ١٧٦٣ دعوةً من إيرل هرتفورد، ولم أكن أعرفه، لأصحبه في سفارته إلى باريس، مع الأمل في تعييني سكرتيرًا للسفارة في وقت قريب، على أن أقوم بمهام ذلك المنصب إلى أن يتم التعيين النهائي. ومع أن هذا العرض كان جذَّابًا فقد رفضت أولَ الأمر لسببَين؛ لأني كنت زاهدًا في وصل العلاقات مع العظماء، ولأني كنت أخشى ألَّا تروق مباهج الحياة في باريس ومجتمعاتها المرحة شخصًا في مثل سِني. ولمَّا ألحَّ اللورد في الدعوة لم يسعني إلَّا قَبولها. كان كل شيء من حيث المتعة والفائدة يجعلني أعد نفسي سعيدًا في علاقاتي بذلك النبيل، وكذلك فيما بعدُ مع شقيقه الجنرال كونواي. إن من لم يشهد التأثير الغريب للطرائف لا يمكنه أن يتصوَّر بحال الاحتفال الذي لقيه في باريس من الرجال والنساء من جميع الطبقات ومختلِف المناصب. وكلما تجنَّبت أدبهم المفرط، حمَّلوني مزيدًا من ذلك الأدب. ومع ذلك فالحياة في باريس مصدر لذة حقيقية بسبب كثرة المجتمعات الرقيقة المثقَّفة المهذَّبة، التي تزخر بها هذه المدينة أكثر من أي مكان آخر في العالم. لقد جال في خاطري بعض الأحيان أن أستقر هناك مدى الحياة. ثم عُينت سكرتيرًا للسفارة، وتركني في صيف عام ١٧٥٦ لورد هرتفورد عقب تعيينه نائب الملك في أيرلندا، فظلِلت قائمًا بالأعمال حتى وصل دوق رتشموند حول نهاية العام، وتركت باريس في أوائل ١٧٦٦. وذهبت في الصيف التالي إلى أدنبرة على النية السابقة: أن أقبر نفسي في عزلة فلسفية. وعدت إلى هذا المكان، لا أقول أكثر غنًى، بل أوفر مالًا وأعظم دخلًا من ذي قبل، بفضل صحبة لورد هرتفورد. وكنتُ قد سئمت تجرِبة نتائج الحياة السطحية بعد أن جرَّبت من قبلُ حياة الجد. غير أني تلقيت عام ١٧٦٧ من المستر كونواي دعوةً لأكون مساعد سكرتير، فلم أملك رفضها لخلق الداعي، ولعلاقاتي باللورد هرتفورد. وعدت إلى أدنبرة عام ١٧٦٩ في غاية الثراء (إذ كنت أملك دخلًا يبلغ ألف جنيه في العام) وفي غاية الصحة، ولو أني طعنت في السن، وفي نيتي أن أستمتع طويلًا بالراحة وأنعم بشهرتي المتزايدة. وأصابني في ربيع ١٧٧٥ اضطراب في الأمعاء لم يُخِفني أول الأمر، ولكنه أصبح منذ ذلك الوقت قاضيًا ولا يقبل الشفاء. وأملي الآن في الانحلال السريع. لقد تألمت قليلًا من هذا الاضطراب، والأغرب من ذلك أنه على الرغم من الانحلال العظيم في جسمي، لم أشعر قط بضعف قواي العقلية، حتى إنني لو أردت اختيار فترة من حياتي أوثرها لأعيشها مرةً ثانية، فقد أميل إلى اختيار هذه الفترة الأخيرة. ولم أزَل كما كنت دائمًا شديد الجد، مرح الصحبة. إنني أعد صاحب الخامسة والستين، حين يموت، أنه قد محا بضع سنين كلها أسقام. وعلى الرغم من أنني أرى علامات كثيرةُ تدل على ذيوع شهرتي التي ازدادت تألُّقًا، فإني أعرف أنني لن أستمتع بها أكثر من بضع سنين. ومن العسير أن يتخلَّص الإنسان من الحياة أكثر ممَّا أنا عليه في الوقت الحاضر. ولأتم هذه السيرة بذكر أخلاقي الخاصة: أنا الآن، أو على الأصح كنت رجلًا معتدل المزاج، صاحب سيطرة، ذا طبع اجتماعي مرح، قادرًا على الوداد، ولكن قليل الميل إلى العداء، شديد الاعتدال في جميع أهوائي. بل إن حُبي للشهرة الأدبية، وهي الشهوة ذات السلطان على نفسي، لم تُفسد قط مزاجي على الرغم من فشلي المتكرِّر. ولم تكن صحبتي بغيضةً للشباب والهمَل، كما لم تكن بغيضةً للمُجدِّين وللأدباء. ولمَّا كنت أجد لذةً خاصةً في صحبة النساء العفيفات، فلم يكن ما يدعو إلى عدم ارتياحي من استقبالهن لي. جملة القول أنه ولو أن أغلب الناس، وعظماءهم كذلك يشكون من الدسائس، فإنها لم تمسسني أو تعضني بنابها المشئوم. وعلى الرغم من أنني عرضت نفسي لغضب جماعات المدنيين والدينيين على السواء، فيبدو أنهم كانوا عزلًا نحوي من غضبهم المألوف. ولم يشكُ أصدقائي قط من أي بادرة في أخلاقي وسلوكي، اللهم إلَّا بعض المتحمِّسين، مع افتراض ذلك، كان يَسُرُّهم أن يخترعوا ويُذيعوا أي حكاية تبدو محتملة. لا أستطيع أن أقول إن هذه الخطبة في تأبين نفسي تخلو من الزهو، ولكني أرجو أنها ليست في غير موضعها، وهذه حقيقة من السهل توضيحها والتثبُّت منها.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/31537282/
في عالم الفلسفة
أحمد فؤاد الأهواني
«الفلسفة بحر لا يُعرف له قرار. تحتاج في معرفتها إلى العلم بما قاله القدماء، وما ذكره المُحدثون، وهو شيء لا تُحيط به إلا المتون والمطوَّلات.»الفلسفة هي علمٌ غزيز مليء بالنظريات والأفكار والرُّؤى والتفسيرات. وزخرت مكتبات العالم بمئات الكتب التي أفاضت الحديث عن كافة جوانبها وتطوُّراتها عبر العصور والأزمان. وهذا الكتاب على الرغم من حجمه الصغير، فإنه يُعَد واحدًا من الكتب الفلسفية المهمة لأي قارئٍ يريد الإلمام الجيد بهذا العلم؛ فبين دفَّتَي هذا الكتاب يأخذنا «أحمد فؤاد الأهواني» في رحلةٍ سريعة لثلاثة عوالم فلسفية؛ بدايةً من عالَم الفلسفة اليونانية، مرورًا بعالَم الفلسفة الإسلامية، منتهيًا بعالَم الفلسفة الحديثة، مستعرضًا بإيجازٍ أبرز العلماء والفلاسفة في كل عالَمٍ على حِدَة، ومُتحدِّثًا بأسلوبٍ بسيط غير مُعقَّد عن العديد من النظريات والآراء الفلسفية التي لا نعرف عنها الكثير، والتي تناول بعضها وفقًا لِرُؤاه الشخصية.
https://www.hindawi.org/books/31537282/11/
مذهب السببية في فلسفة هيوم
وقد مرَّ بنا أن هيوم حين فشل كتابه «رسالة في الطبيعة الإنسانية» اختصر الآراء الأساسية وأودعها كتابه «بحث في الفهم الإنساني». وهذا الكتاب هو الذي ذاع في وسط الفلاسفة، وهو الذي قرأه «كانط» الفيلسوف فقال عنه: «لقد أيقظني هيوم من سُبات الاعتقادات.» كان غرض هيوم كما نصَّ على ذلك أن يُزعزع أركان الفلسفة، ولقد طعنها منذ ذلك الوقت فأصابها في الصميم. وإذا كان حقًّا أن كانط أفاق من سُبات الاعتقادات، إلَّا أنه عاد إلى نوم عميق، فصاغ فلسفته في أثواب «دجماطيقية» لا تحل المشكلات الفلسفية حلًّا معقولًا مقبولًا، ولا تُصلح المسلَّمات التي فرضها فرضًا، بقوله تارةً إنها موجودة بالفطرة أو قبل التجرِبة، كالقول بالزمان والمكان، وتارةً أخرى بأنها مسلَّمات لا غنى عنها لفهم الحياة العملية الخلقية؛ مثل فكرة الله والحرية وخلود النفس. لا تصلح هذه المسلَّمات إلَّا كما قال هيوم: «ستارًا للخطَل والخطأ.» ونُحب قبل أن نعرض رأي هيوم في السببية أن نُمهِّد لذلك برأيه في الفلسفة وفي أصل الأفكار. يذهب هيوم إلى أن الفلسفة على نوعَين، والفلاسفة على ضربَين؛ لكلٍّ منهما قيمتها وأثرها في ثقافة البشر. نوع يَعُد الإنسان موجودًا للعمل، يتأثَّر في سلوكه بالذوق والعاطفة، ويختار هذا الشيء دون ذاك لما فيه من قيمة. ولمَّا كانت الفضيلة هي أثمن شيء في العالم، فإنك تجد هذه الفلسفة تُضفي عليها أبهى الألوان حتى تدفعنا في طريق الفضيلة، وهو الطريق إلى المجد والسعادة. ونوع ينظر إلى الإنسان في ضوء الفكر لا السلوك، ويُحاول أن يصوغ عقله أكثر من تشكيل سلوكه. وهذا الضرب من الفلاسفة يجعلون الإنسان موضوعًا للتأمُّل، فيسعَون إلى كشف المبادئ العقلية التي يقوم عليها الفكر، وتدفع إلى استحسان أو استهجان ألوان العمل والسلوك. ومن الثابت أن الفلسفة السهلة الواضحة أفضل من الدقيقة المستغلِقة، وهذه الفلسفة الواضحة أكثر متعة، وأعظم ثمرة. فإذا رجع الفيلسوف إلى العقل السليم أمن شر الزلل، وسار في الطريق المستقيم، وابتعد عن مخاطر الأوهام. حتى إذا أضفى على فكره ألوانًا من الجمال؛ خلد على الزمان. فهذا شيشرون ذائع الشهرة في الوقت الحاضر (أي في عصر هيوم)، على حين قد خبت شهرة أرسطو تمامًا. ولقد تخطَّت شهرة لابرويير ماء البحار، أمَّا «مالبرانش» فلا يتعدَّى مجدُه حدودَ وطنه أو جيله. «كن فيلسوفًا، ولكن ابقَ في غمار فلسفتك إنسانًا.» ويُذكِّرنا هذا الرأي بما كانت عليه صورة الفلسفة في اليونان، كما نجدها ممثَّلةً في سقراط. وقد ذهبتُ هذا المذهب في كتابي «معاني الفلسفة» وهو عندي الرأي الصحيح. وما دام المرجع هو العقل السليم، فلن يجد أي إنسان عُسرًا في أن يكون فيلسوفًا. ولم يكن هيوم أوَّل من وجَّه سهام النقد إلى أرسطو، ذلك الطود الشامخ الذي ظلَّ رمز الفلسفة قرونًا طويلةً من الزمان، سبقه إلى ذلك بيكون وديكارت، وأقاما صرح فلسفة جديدة ليس هنا مجال ذكرها. إلَّا أن هيوم اختطَّ سبيلًا أخرى تختلف عن السبيل التي سلكها بيكون أو ديكارت؛ ذلك أنه أراد أن يعلم أولًا حدود العقل البشري، بأن نُحلِّل قواه تحليلًا دقيقًا لنرى هل في مقدوره أن يبحث هذه الموضوعات المستغلِقة البعيدة الغور. وكان هيوم بذلك صاحب المذهب النقدي في الفلسفة، والذي تبعه بعد ذلك كانط من بعده. لهذا السبب بدأ هيوم يبحث قبل كل شيء في أصل الأفكار، ونشأتها؛ لأن العقل البشري ليس شيئًا آخر إلَّا مجموعةً من المعاني أو المعقولات، وما العقل إلَّا مضمونه. وقد برزت هذه المشكلة في القرن السابع عشر، وتزعَّم القائلين بالأفكار الفطرية ديكارت في فرنسا. وذهب مستر لوك — كما يُسمِّيه هيوم — إلى شيء من ذلك، ولكن على نحو آخر. أمَّا هيوم فقد كان جريئًا، أمينًا على الخطة الفلسفية التي استنَّها لنفسه في استهلال كتابه، ونعني بها التخلِّي عن الآراء السابقة المنحدرة إلى تراث الفلسفة من قديم الزمان، والرجوع إلى «العقل السليم» فحسب، فنظر إلى هذا الموضوع نظر إنسان يبدأ بألف باء التفكير. ويبدو أن هيوم هو أول من أدخل لفظة «الانطباع» في اللغة الفلسفية، وتداولها الناس في العصر الحاضر، وهي أشيع الآن في الفرنسية. حدَّد هيوم مدلولها بقوله: «إنني أعني بلفظ «الانطباع» جميع مدركاتنا الحسية حين نسمع أو نرى، أو نشعر أو نحب أو نبغض، أو نرغب أو نُريد.» هذا الإحساس المباشر أزهى وأبهى وأكثر حياةً من تذكُّره بعد ذلك بعد انعدام المصدر، «كالرجل الذي يُحس بألم من حرارة شديدة، ثم يسترجع الألم في ذاكرته أو يتخيَّله قبل وقوعه». فالإحساس بالألم هو ما يُسمِّيه ﺑ «الانطباع»، واسترجاع الألم في الذهن هو الفكرة. والفرق بينهما في درجة الحياة والقوة والبهاء. فلْنُسلِّم مع هيوم بهذه الاصطلاحات ولا نتوقف لنقدها في ضوء علم النفس، ثم لنمضِ معه إلى حيث يُريد أن يقودنا. يقول بعد ذلك ما فحواه: أبعد الأشياء عن الطبيعة والواقع، وأكثرها انطلاقًا في غير حدود، هو التفكير الإنساني، الذي يحملنا على جناح الخيال في لحظة إلى أبعد مناطق الكون، بل إلى أبعد ما هو من الكون. وقد يبدو أن الفكر يملك حريةً لا تُحد، إلَّا أن الفحص القريب يُبيِّن لنا أن قدرة العقل على الخلق والإبداع ليست شيئًا آخر إلَّا التركيب والتبديل، والزيادة أو النقصان، في المادة التي تُقدِّمها لنا الحواس والتجرِبة. حين نُفكِّر في جبل من ذهب، لا نفعل إلَّا الجمع بين فكرتَين قائمتَين؛ الذهب والجبل، إذ كنا على علم بهما من قبل. ونستطيع أن نتصوَّر حصانًا فاضلًا؛ إذ قد سبق في شعورنا تصوُّر الفضيلة التي يمكن أن نربطها بشكل الحصان وهيئته، وهو حيوان مألوف لنا. جملة القول: جميع مواد التفكير منتزعة من إحساسنا الخارجي أو الداخلي، أمَّا خلط هذه الإحساسات وتركيبها فهو من شأن العقل والإرادة وحدهما. والدليل على ذلك فكرة الله، الدالة على كمال الحكمة، وغاية الخير، وتمام العلم، فإنها من أنفسنا، ومن تأمُّل عقولنا، فنبسط صفات الخير والحكمة التي نُحسها بحيث تُصبح لا حدَّ لها. ولو نظرنا إلى أي فكرة من الأفكار لوجدنا أنها صورة من الانطباعات. ولا يجب أن يغيب عن بالنا أن فاقد حاسة من الحواس يجهل ما تُدركه هذه الحاسة، كالأعمى الذي لا يعرف ما الألوان. وكذلك من يجهل تجربة المشاعر، فإنه لا يعرفها كما يقول الشاعر العربي: ومن الواضح أن الأفكار حين ترتبط في الذهن بعضها بالبعض الآخر إنما تخضع لقاعدة ونظام. يقول هيوم: «ولو أن ارتباط الأفكار أمر يُعَد من الوضوح بمكان شديد، إلَّا أنني لا أجد أي فيلسوف قد حاول أن يعد أو يُصنف مبادئ الارتباط. وعندي أن الروابط بين الأفكار ثلاثة؛ التشابه، والتلازم في المكان والزمان، والسببية.» وقد نسيَ أن أرسطو قد سبقه بعشرين قرنًا من الزمان فاهتدى إلى قوانين الترابط بين الأفكار وقال إنها التشابه، والتضاد، والتلازم. على أن الذي يعنينا في فلسفة هيوم قوله بهذا النوع من الارتباط بين الأفكار، وهو صلة السبب بالمسبَّب، وهو ما أطلقنا عليه «السببية». ويُعَد بحث هيوم في السببية من أهم البحوث وأعظمها خطرًا في تاريخ الفلسفة؛ لأنه يُريد أن يهدم ما اصطلح عليه الناس أجيالًا متعاقبة، وأن يُزعزع قواعد الحضارة التي تستند إلى اعتقاد الناس في خروج المسبَّبات عن الأسباب. أمَّا الأشياء الواقعة فإن إثبات صحتها أقل وثوقًا من تلك العلوم الرياضية؛ ذلك أن نقيض أي شيء ممكن الوقوع، ولا يمنع العقل التناقض في الأشياء الواقعة. فلنا أن نتصوَّر أن الشمس ستطلع في الغد أو لا تطلع، وكلا الأمرَين ممكن، مع أنهما على طرفَي نقيض، ومن العبث كما يقول هيوم أن نُبيِّن فساد إحدى هاتَين القضيتَين. ويبدو أن أغلب أدلتنا التي تتعلَّق بالأمور الواقعة تقوم على علاقة الأسباب بالمسبَّبات. والسببية هي المرحلة التي تجيء بعد الحواس والذاكرة. سَلْ رجلًا لماذا يحكم على الغائب كأن يقول: إن صديقه في الريف أو في فرنسا، وسوف يُعطيك سببًا لذلك قد يكون هذا السبب حقيقةً واقعةً أخرى؛ كأن يكون قد تلقَّى منه رسالةً أو علم منه عزمه السابق. وإذا عثر شخص على ساعة أو آلة أخرى في جزيرة مهجورة، فإنه يستنتج من ذلك أن إنسانًا كان على ظهر هذه الجزيرة. وعلى هذا النحو يجري تفكيرنا فيما يختص بالأمور الواقعة. ويقال إن بين الشيء الموجود، والسبب الذي نعزوه إليه، علاقة دائمة. وإن هذه العلاقة ترتبط فيما بينهما، ولولا هذه الرابطة أو العلاقة التي تصل بينهما، ما تيسَّر لنا أن نستنتج. يذهب هيوم إلى أن فكرة السببية تنشأ عن التجرِبة، وذلك من مشاهدة الأشياء الجزئية مرتبطة بعضها ببعض على الدوام. والدليل على ذلك أنك إذا قدَّمت شيئًا جديدًا كل الجدة لرجل كامل العقل حاد الذكاء، فإنه لن يستطيع أن يكشف عن أسبابها ونتائجها. وكذلك آدم، وقد كان فيما يُقال على أتمِّ عقل وأحدِّ ذهن، لم يكن ليستطيع أن يستنتج من رؤية النار، وما هي عليه من ضوء وحرارة، أنها تحرق. الخلاصة أننا نكشف الأسباب والمسبَّبات لا بالعقل بل بالتجرِبة. ولو أننا هبطنا فجأةً إلى هذا العالم، ثم نظرنا إلى لاعب «البلياردو»، فلا يمكن أن نستنتج عقلًا أن ضرب الكرة الأولى يُسبِّب حركة الكرة الثانية؛ ذلك أن حركة الكرة الثانية مستقلة تمام الاستقلال، ومتميِّزة تمام التميُّز عن حركة الأولى. ألقِ حجرًا في الهواء، وسوف تجد أنه يسقط على الأرض. فإذا نظرت بالعقل وحده، فليس هناك ما يمنع أن يصعد الحجر إلى أعلى بدلًا من أن يهبط إلى أسفل. وهذا هو السبب في أن الفلاسفة مهما أوتوا من نفاذ العقل، لم يستطع أحدهم أن يهتدي إلى السبب الأقصى في أي عمل من أعمال الطبيعة. وقد اهتدى الإنسان حقًّا إلى اختزال المبادئ الطبيعية بحيث تكون أكثر بساطة، ووصل إلى بعض الأسباب العامة التي أقامها على الملاحظة والتجرِبة. أمَّا علة هذه العلل فمن العبث أن نصل إلى كشفها؛ ذلك أن هذه المبادئ مغلقة، فلا يستطيع العقل البشري إليها نفاذًا. لقد باعدت الطبيعة بيننا وبين أسرارها، ولم تكشِف لنا إلَّا عن المعرفة الظاهرة للأبصار. ثم إن حواسنا تُخبرنا عن صفات الأشياء، فهي تدلنا على لون الخبز وثقله وقوامه. ولكن الحس لا يستطيع، ولا العقل كذلك، أن يُخبرنا عن هذه الصفات التي تجعل الخبز صالحًا لتغذية البشر. وعلى الرغم من جهلنا بالقوى الطبيعية فإننا نستبق الحوادث، ونتوقَّع نتائج مماثلة لما سبق أن شاهدناه. فلو قُدِّم إلينا شيء يُشبه الرغيف ويُماثله في صفاته، لتوقعنا منه نفس الغذاء. نحن إذن نُقيم الأسباب والمسبَّبات على أساس التجارِب السابقة، ولكن بأي حكم نحكم على المستقبل بما شاهدناه في الماضي؟ فالخبز الذي أكلته كان مغذيًا، فهل إذا أكلت خبزًا مرةً أخرى يُغذِّي؟ ولماذا؟ وهل هذه النتيجة ضرورية محتومة؟ الواقع أن الحكم على المستقبل حكم عقلي. ونستطيع في هذه المسألة أو القضية أن نُميِّز قضيتَين مختلفتَين؛ القضية الأولى: لقد ثبت بالتجرِبة أن هذا الشيء تعقبه هذه النتيجة، والقضية الثانية: أني أتوقَّع نتائج مماثلة لهذه الأشياء. وليس التماثل دليلًا موجبًا لاستنباط النتائج. والتمثيل في المنطق أضعف درجات البراهين. وليس التماثل بين الأشياء الموجودة في الطبيعة تامًّا؛ فالبعض متفق في مظهره وصفاته الخارجية، ولكنك تجد تفاوتًا في طعمه. ويُذكِّرنا هذا المثال الذي يضربه هيوم بما قاله ليبنتز: «من أنه لا توجد ورقتان في شجرة واحدة، في غابة واحدة، متماثلتَين تمام التماثل.» على أننا حين نتوقَّع النتائج على الأشياء المماثلة، نزعم بأن هناك قوًى خفيةً هي العلة في إحداث هذه النتائج، وهي التي تصل بين الأسباب والمسبَّبات، فهل لنا الحق إذا رأينا عددًا من التجارِب المتشابهة أن نستنتج علاقةً بين الأشياء المحسوسة وبين القوى الخفية؟ وعلى أي أساس نبني هذا الاستنتاج؟ وما هو الحد الأوسط الذي ينقُلنا من المشاهدات المحسوسة إلى القوى الخفية؟ إننا نفترض أن المستقبل سوف يقع على نسق الماضي، ولكن ما الحال لو تغيَّر الكون واختلف نظام الطبيعة؟ عندئذٍ لا يصلح الماضي أن يكون قاعدةً للحاضر أو المستقبل. ولْنفرض أن شخصًا هبط على ظهر هذه الأرض، فإنه ولا ريب سوف يلحظ تعاقب الحوادث، ولكنه لن يصل إلى فكرة الأسباب والمسبَّبات؛ لأن السببية من المعاني التي لا تُدرَك بالحس، وليس من المنطق أن يُستنتج من تعاقُب حادثتَين أن إحداهما علة، والأخرى معلول. بسطنا من قبلُ رأي فيلسوف إسلامي ذهب هذا المذهب هو أبو حامد الغزالي في «تهافت الفلاسفة». والفرق بين الغزالي وهيوم أن حجة الإسلام يُريد أن ينفي الأسباب حتى لا يكون إلى جانب الله علة مؤثِّرة في الكون. فالله هو مسبِّب الأسباب جميعًا، وهو علة العِلل. يذهب هيوم إذن إلى أن اتصال الظواهر بعضها بالبعض الآخر هو «عادة». وهو لا يزعم أنه يُفسِّر بذلك قوانين الطبيعة، ولكنه يُشير إلى مبدأ تختص به الطبيعة البشرية، وهو من المبادئ التي يعترف بها سائرُ الناس ويعلمون أثرها. فالعادة وحدها هي التي تجعل تجارِبنا مثمرة، وتُبيح لنا أن نتوقَّع في المستقبل ما سبق أن شاهدناه في الماضي. الخلاصة أننا ألِفنا أن نرى الحرارة تصحب اللهب، والبرودة تصحب الثلج، فإذا شاهدنا بالحواس اللهب أو الثلج توقَّع العقل بحكم العادة أن يجد الحرارة والبرودة، وأن يعتقد في وجودهما. وهذا الحكم عمل من أعمال العقل لا من طبيعة الأشياء الخارجية. ويبدو أن السبب في اختلاط الأمر على الفلاسفة، هو عدم تحديد المصطلحات التي تجري في قاموس الفلسفة، ثم يترتَّب على ذلك اللبس والغموض. ومن هذه المصطلحات «القوة»، «والارتباط الضروري»؛ أي ارتباط الأسباب بالمسبَّبات. ومن الطبيعي أن يُحلِّل هيوم هذَين الاصطلاحَين في ضوء التقسيم الذي ذهب إليه من أن المعاني انطباعات وأفكار، وأن الأفكار تقوم على الانطباعات. فنحن نرى كرة «البلياردو» تضرب الكرة الثانية فتُحرِّكها، ولكننا لا نرى في الكرة الأولى هذه «القوة» المؤثِّرة في الثانية بحيث تكون سببًا لتحرُّكها؛ أي إننا لا نرى بالحواس أسبابًا ولا قوًى، وإنما نرى ظواهر متعاقبة. ولعل فكرة القوة المستمدَّة من أنفسنا، أو هي صورة لما فينا من انطباعات باطنة، فنحن نشعر في كل لحظة بهذه القوة الباطنة، ذلك حين نُريد فنصدر أمرًا إلى أعضاء الجسم أن تتحرَّك، فشعورنا بأفعالنا الإرادية هو مصدر فكرة القوة في الطبيعة. ومع ذلك فهناك اعتراضات كثيرة نسوقها على صحة الاعتقاد بهذه القوة النفسانية، وأنها علة حركة الأعضاء وعمل الوظائف العقلية. فالأمر في الظواهر النفسية فيما يخص بالأسباب والمسبَّبات هو كالأمر في الظواهر الطبيعية. والخلاصة أن فكرة القوة النفسانية هي كمثيلتها الطبيعية، ليست شيئًا آخر إلَّا حكم العادة. الواقع أن أغلب الناس لا يجدون صعوبةً في تعليل الظواهر المألوفة في الطبيعة مثل سقوط الأجسام، ونمو النبات، وتناسل الحيوان. وهم لطول عهدهم برؤية هذه الظواهر المألوفة لا يتوقَّعون غيرها، ولا تستطيع عقولهم أن تتصوَّر حدوث ظواهر مخالفة عن الأسباب المزعومة، حتى إذا صدمتهم الطبيعة بما فيها من شذوذ كالزلازل والبراكين وسائر الخوارق؛ عجزت العقول عن التعليل، والتمسوا الأسباب في قوًى غير منظورة، أو قالوا: إنها من عند الله. ويُشير هيوم بقوله إنها من عند الله إلى ديكارت تارة، وإلى «مالبرانش» تارةً أخرى. ولا يعنينا أن نبسط ردوده عليهما، فليس هذا هو المجال. وإنما نُحب أن نقول إن نقد هيوم في السببية، وبحثه في العقل البشري، هو الذي هيَّأ لكانط أن يُقيم فلسفته المثالية. كما نُحب أن نذكر أن العلم الحديث قد أخذ بوجهة نظر هيوم فآثر الابتعاد عن القول بالسببية، وبالأسباب كأنها قوًى مؤثِّرة في المسبَّبات.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/31537282/
في عالم الفلسفة
أحمد فؤاد الأهواني
«الفلسفة بحر لا يُعرف له قرار. تحتاج في معرفتها إلى العلم بما قاله القدماء، وما ذكره المُحدثون، وهو شيء لا تُحيط به إلا المتون والمطوَّلات.»الفلسفة هي علمٌ غزيز مليء بالنظريات والأفكار والرُّؤى والتفسيرات. وزخرت مكتبات العالم بمئات الكتب التي أفاضت الحديث عن كافة جوانبها وتطوُّراتها عبر العصور والأزمان. وهذا الكتاب على الرغم من حجمه الصغير، فإنه يُعَد واحدًا من الكتب الفلسفية المهمة لأي قارئٍ يريد الإلمام الجيد بهذا العلم؛ فبين دفَّتَي هذا الكتاب يأخذنا «أحمد فؤاد الأهواني» في رحلةٍ سريعة لثلاثة عوالم فلسفية؛ بدايةً من عالَم الفلسفة اليونانية، مرورًا بعالَم الفلسفة الإسلامية، منتهيًا بعالَم الفلسفة الحديثة، مستعرضًا بإيجازٍ أبرز العلماء والفلاسفة في كل عالَمٍ على حِدَة، ومُتحدِّثًا بأسلوبٍ بسيط غير مُعقَّد عن العديد من النظريات والآراء الفلسفية التي لا نعرف عنها الكثير، والتي تناول بعضها وفقًا لِرُؤاه الشخصية.
https://www.hindawi.org/books/31537282/12/
تقدير الجمال
أسئلة تخطر على البال، وليس من العسير الجواب عنها، مع أنها تدور في أذهاننا كلما شاهدنا الأشياء الجميلة والآثار الفنية البديعة. ماذا نعني بالجمال؟ وهل يوجد ميزان أو موازين نرجع إليها في تقدير الأشياء الجميلة؟ وما الدور الذي يلعبه العقل أو الذوق في تقدير الجمال؟ وهل الجمال تعبير عن مكنونات النفوس، أو صفة من صفات الأذهان والعقول، أو أثر من آثار الخلق والإبداع؟ ولْندع هذه الأسئلة التي تضرب في الفلسفة إلى الصميم، لنقف موقفًا بسيطًا يقفه كل إنسان عندما يُعجَب بقصيدة من الشِّعر، أو يطرب من نغمة موسيقية، أو يتذوَّق أثرًا من هذه الآثار الفنية في الرسم والتصوير والنحت وما إلى ذلك. إنه يقول هذا جميل، فما سر الجمال؟ وما موضع الإعجاب؟ إن قلت: الجمال لذة الحواس كالبصر والسمع، فليس الأمر كذلك؛ لأن الجمال متعة تُضاف إلى الحواس، لا لذة تُستمد منها. فأنت تجد لذةً في الطعام ومتعةً في النظر إلى المائدة الجميلة، وقد نُضِّدت بالزهور. والفرق بين هذا وذاك هو الفرق بين الحيوانية والإنسانية. وفي ذلك يقول الفارابي في الفصوص: «العمل الحيواني جذْب النافع ويقتضيه الشهوة، ودفع الضار ويستدعيه الخوف، ويتولَّاه الغضب. والعمل الإنساني اختيار الجميل.» ولقد ذهب المحدثون من الفلاسفة ابتداءً من كانط وهيجل، إلى لالو وكروتشي وجيو، مذاهب شتَّى في تفسير الجمال، وتعليل الإعجاب به، وبسط الموازين لتقديره، غير أن ديلاكروا لا يرضى عن أي مذهب من هذه المذاهب، ويَعُد كل واحد منها ناقصًا من وجه، صحيحًا من وجه آخر. ثم يختم كلامه بأن الفن ليس: «إحساسًا أو صورة، أو ائتلافًا في الأرواح أو حقيقة، أو البصر بالمثل، ولكنه كل ذلك، حيث كان فيضًا لقوة مبدعة مؤلفة.» ويبدو أن مذهب أفلاطون قد أُهمل في زوايا النسيان، أو أُدرج في ذيل المذاهب، مع أنه الفيلسوف على التحقيق، وعنه أُخذت الفلسفة الألمانية المثالية، والعلم الحديث يأخذ بتفسيره الرياضي للكون، بعد أن ظلَّت الحضارة الإنسانية ترسف في أغلال مادة أرسطو وصورته حول عشرين قرنًا من الزمان فلم تتقدَّم. ولعلنا إذا رجعنا إلى مذهب أفلاطون في الجمال، ثم أضفنا إليه شيئًا من التعديل، أن نكون أدنى إلى التفسير الصحيح. يصف أفلاطون في محاورة المأدبة رحلة النفس الإنسانية في طلب الجمال، وهنا نجد الكاهنة ديوتيما تدل سقراط على السبُل التي ينبغي على الذين ينشدون معرفة «مُثُل الجمال» اتباعها. فالسبيل الوحيد أن يُقدِّر المرء أولًا جمال شيء واحد جميل، ثم يتدرَّج إلى مرحلة ثانية يُقدِّر فيها جمال عدة أشياء ويلحظ ما بينها من مشاركة. والمرحلة الثالثة تقدير الجمال المعنوي، الذي يخلو من علائق المادة، كالجمال في الأنظمة والنواميس. وهذا كله لا يكفي في بلوغ المثال، أو على حد تعبير أفلاطون في «البصر بالمثال»؛ إذ لا بد من دراسة عميقة لفرع من فروع المعرفة اليقينية، هي الرياضة بأقسامها؛ الحساب والهندسة والفلك. ولم يبلغ الفنان المثال بالذات إلَّا إذا امتلك ناصية العلم الرياضي. ومن المأثور عن أفلاطون أنه كتب على باب مدرسته: «من لم يكن مهندسًا فلا يدخل علينا.» ويرى الفارابي في كتاب تحصيل السعادة أن أول أجناس الموجودات التي ينظر فيها الإنسان علم الحساب والهندسة وما يلحق الأعداد والأعظام والأشكال من «خاصة التقدير، وجودة الترتيب، وإتقان التأليف، وحسن النظام». كيف ينتقل الإنسان من مشاهدة الأشياء الجميلة، ودراسة الحساب والهندسة إلى البصر بالمثال؟ هنا نجد أفلاطون يلبس مسوح المتصوِّفة فيُحدِّثنا بأن اشتغال النفس بالدرس والطلب يُؤدِّي إلى مكافأتها بإشراق نور المثال، كما يندلع اللهب من النار. فالتحصيل شرط، والبصر بالمثال إلهام. وإذا رجعنا إلى نظريات المحدثين من علماء النفس وما حقَّقوه في كلامهم عن الإبداع في الفنون، وجدنا بينهم وبين مذهب أفلاطون شبهًا كبيرًا. وجملة ما يذكرونه أن الأثر الفني، إبداعًا كان أو تقديرًا، تجسيدًا كان أو تفكيرًا، يمر في أربع مراحل؛ الإعداد، والحضانة، والإشراق، والتنفيذ أو التحقيق. والإعداد يُشبه مرحلة الدرس والتحصيل عند أفلاطون. ويعزو علماء النفس إلى فترة الحضانة أهميةً خاصة؛ إذ إن الفكرة تنحدر من الشعور إلى اللاشعور، وتظل كامنة، ولكن العقل يصرفها ويُقلِّبها دون وعي من صاحبها؛ ولهذا كانت أعظم أعمال العباقرة ما جاءت بعد فترة من الكسل أو الراحة بعد الكد والتعب. ثم تبرز الفكرة الجديدة، أو الصورة أو العمل الفني أو هذا المثال الذي يحكي عنه أفلاطون، وكأنه كما يقول ألفريد دي موسيه: «مجهول يهمس في آذاننا.» وهكذا يحصل إلهام الفنان، ووحي الشاعر، واختراع العالم. ويُشبِّهون هذا الإلهام أو الوحي بطفرة ينتقل فيها العقل بعد الإعداد والدرس إلى الكشف، وهي طفرة تستند إلى العلم السابق، ولكنه لا يقتضيها بالضرورة؛ ولهذا يلجأ العلماء إلى التحقيق حتى يتثبَّتوا من هذا الكشف. والخلاصة عند أفلاطون أن الجمال، ابتكارًا كان أو تقديرًا، فهو نوع من الكشف عن مثال الجمال، نَصِل إليه بالمعرفة، ونهتدي إليه بطول الخبرة والممارسة. وبعدُ فإن تقدير الجمال لا يرجع إلى الذوق والوجدان، بل إلى «المعرفة». فالجمال على ذلك موضوعي لا شخصي. أي إن الميزان في تقدير الأشياء الجميلة ميزان خارجي مستمَدٌّ من طبيعة الأشياء نفسها، فلا يقوم على هوى الشخص أو مزاجه. فإذا كنت تُريد أن تحكم بين أبي تمَّام والبُحتري، أو بين شوقي وحافظ، أيهما أعلى شِعرًا وأصدق فنًّا، فلا بد أن تكون على عِلم وثيق بالشِّعر وموازينه. ثم لا يكفي أن تحفظ علم العروض، بل ينبغي أن تُمارس النظم حتى يصير الشِّعر عندك ملكةً أو عادة؛ وعندئذٍ فقط تهتدي إلى «مثال الجمال» في الشِّعر، حتى إذا نظرت في قصائد الشعراء، ووجدت أنها تُطابق هذا المثال الموجود في ذهنك كانت جميلة، وإذا وجدتها تبعد عن هذا المثال كانت قبيحة. وفحوى هذا المذهب أنك لا تصلح حكمًا بين الشعراء إلَّا إذا كنت شاعرًا، ولا ناقدًا لصورة زيتية إلَّا إذا كنت رسَّامًا، ولا بصيرًا بالألحان إلَّا إذا كنت موسيقيًّا؛ ولهذا السبب يختصم الناس إلى النقاد والفنانين والخبراء. ومع ذلك فقلما نجد اتفاقًا بين النقاد على جمال شيء يحكمون فيه، لا لأن المثال يُعْوزهم؛ بل لأنهم قد يرجعون إلى الذوق والعاطفة. أمَّا الجانب الآخر في مذاهب الجمال، فهو الذي يعتمد في التقدير على الشخص. وعلى رأس المتطرِّفين في المذهب الشخصي تولستوي، وله كتاب مشهور عنوانه «ما الفن؟» انتهى فيه إلى أن قيمة الأثر الفني، شِعرًا كان أو تصويرًا، لحنًا أو تمثالًا، إنما يعتمد اعتمادًا تامًّا على تأثيره في أشخاص الناظرين إليه. الفن في رأي تولستوي هو نقل الانفعالات التي أحسُّوا بها، ونقلها عن طريق هذه الآثار الفنية إلى الناس، وهذا هو الفن: تأثُّر، ثم تعبير، ثم تأثير. ومَيزة الفنان أنه أقدر من غيره على التعبير. سُئِلَ أحدهم: لماذا كان المتنبي أعظم الشعراء؟ فأجاب: «لأنه يحكي عن خواطر الناس.» وينبغي أن يرمي الأثر الفني إلى الجمال، والجمال فقط، فإذا جمع بين الجمال واللذة لم يكن فنًّا ساميًا. فإذا أخذنا بمذهب تولستوي وأردنا أن ننصب الميزان للحكم على لحن أو قصيدة أو صورة، فعلينا أن نعرضها على الناس، ثم نَعُد كم شخصًا أُعجِبوا بها، واهتزوا، وتأثَّروا؛ ذلك لأن الجمال ليس موضوعيًّا أو مستمدًّا من طبيعة الآثار الفنية، بل الجمال صفة للتأثير الحادث في نفوس الذين يُشاهدون الآثار الفنية. فالجمال تجربة شخصية، ووظيفة الفنان أن يُبرز الإحساس بالجمال في أعين الناظرين. وهذه مثالية حادة تُشبه ما يقوله أنصارها من أن الحرارة ليست صفةً في النار، بل هي التأثير الحادث من النار في الحواس. ولعمري إن هذا المذهب يجعل من الفن شيوعية، ويرد أحكام الجمال إلى العامة والجمهور، فينزل بقدره، ويهبط بمستواه، ثم يرد التقدير إلى الكم والعدد، لا إلى الكيف والقيم. والمذاهب الشخصية هي التي تسود حضارة اليوم؛ ففي الفلسفة تجد الوجودية، وفي الأخلاق النفعية، وفي الفن الإحساس الشخصي. وقد عدَل بعضهم عن هذه الذاتية الصارخة، وجمع بين وجدان المشاهد وموضوع الأثر الفني. ويقولون في ذلك إن ما نُسمِّيه الجمال هو راحة الانفعال؛ فنحن عندما نحكم على شيء بأنه جميل، إنما نعني أن بعض النوازع النفسية قد برزت عند مشاهدة هذا الشيء إلى حالة من التوازن أو الانسجام الوجداني. فإذا حدث هذا الانسجام ارتاحت النفس، وسلَّمت بوجود الجمال فيما تُشاهده. وحاصل هذا المذهب «أنك تخلع نفسك وإحساسك على العالم الخارجي». ويقوم هذا المذهب في الواقع على أساس من علم النفس؛ فالإنسان مُركَّب من دوافع بعضها فطري وبعضها مكتسب. وهذه الدوافع تكون عادةً متنافرة، وفي صراع دائم، ومن الخير تنظيمها وتأليفها، بحيث يتسنَّى لكل دافع نفساني أن ينطلق في حرية دون أن يتنازع مع غيره من الدوافع. فإذا حدث التنظيم التام للدوافع؛ أحسسنا بالجمال في الأشياء. على أن المذاهب الشخصية لا تستطيع أن تثبُت طويلًا أمام النقد؛ ففي الأشياء عناصر موضوعية لا غنى عنه، ولا يمكن إغفالها بحالٍ من الأحوال. هل تستطيع أن تقرض شِعرًا غير موزون؟ إن البيت المكسور ليُفسد القصيدة، واللحن يُسيء إلى الكاتب، والجهل بتشريح الجسم يجعل المثال عاجزًا. ويبدو أن الذين يأخذون بالمذاهب الشخصية يخلطون في تقدير الجمال بين الوجود والمعرفة. إنهم يُنكرون وجود الشيء الجميل وتأثيره في النفس، ولا يعترفون إلَّا بانفعالاتهم وعواطفهم، وتوافق هذه الانفعالات وانسجامها. فإن قالوا: نحن لا نُنكر وجود الأشياء الجميلة، قلنا: إن لها في ذاتها خصائصَ تجعلها جميلة. والخلاف بيننا وبينهم في «معرفة» هذه الخصائص، فالخروج على قواعد الموسيقى يجعل اللحن متنافرًا تمُجُّه الأسماع. الجمال إذن تناسب وتوافق في الأشياء ذاتها. ونحن لا نُحس الجمال إلَّا عندما نُدرك هذا التناسب ونُميِّزه ويكون حاضرًا في الذهن كالمقياس أو الميزان، وهذا هو المذهب الذي نُؤثره. في كل شيء جميل مادة وصورة كما يذهب أرسطو: «مادة الشِّعر المعاني والألفاظ، وصورته الأوزان. ومادة التصوير الألوان، وصورته التأليف في انسجام. ومادة الموسيقى الأصوات والأنغام، وصورتها الزمان.» هذا الجانب الصوري لا غنى عنه وعن معرفته والخضوع له، وهو الذي نُسمِّيه مقال أفلاطون. فالترتيب، والتتابع، والانتظام، وحُسن التأليف، وضبط الإيقاع، ولطف التداخل بين الأجزاء، ووحدة الشيء في وضوح وانسجام؛ هذا كله مصدر الجمال. والمرجع فيما ذكرنا إلى الإحساس بالزمن وإدراك قيمته، ولا يعنينا أن ندخل في قضية الزمان أنفساني هو أم طبيعي، وإنما الذي يعنينا أن نُقرِّره هو أن إدراك الزمن المنقسم، والإيقاع المنتظم، والتوقيت المؤتلف، هو السر في الجمال. في حفيف أوراق الأشجار اهتزازات لا تختلط في تنافر، بل تتناسب في انسجام. فأنت تجد الجمال في مِشية المرأة؛ لأنها تخطر وكأنها ترقص، والرقص مِشية تجري مع الزمن المنتظم. وكلما أردنا أن نُعبِّر عن إعجابنا بشيء جميل قلنا: لقد جعَلنا نهتز طربًا، أو نرقص طربًا. فلا عجب إذن أن يكون مرجع تقدير الجمال إلى الإحساس بالزمان، وإدراك ما ينطوي عليه من تناسب وانسجام. فإذا سلَّمتَ معي بهذه المقدِّمات، كان من العسير بعد ذلك أن تُؤمن مع الفلاسفة القائلين بأن «الفن حرية»؛ إذ كيف يصح أن تجري الفنون الجميلة طبقًا لأوضاعٍ ونظم، أكثر الناس التزامًا لها هم الفنانون أنفسهم حين يُبدعون الأشياء الجميلة، أو النقاد الذين يحكمون على هذه الآثار، ثم يُقال بعد ذلك إن «الفن حرية»؟! إن كنت تقصد أنها حرية كحرية العصفور السجين في القفص ينتقل بين جدرانه من جانب إلى آخر، فلك أن تُسمِّي هذه الحركة حرية. ولك أن تقول إن من يسعى إلى إدراك الجمال، إنما يسير حرًّا حتى يعثر على هذا النظام البديع، فيدركه، سواء أكان من إبداع الطبيعة أم من خلق الإنسان. ثم يجد لذةً في الاستمتاع بهذا النظام وما فيه من جمال. وهنا نجد الفلاسفة يقولون إن عين الجمال أصدق نافذةٍ نُطل منها سِرَّ الكون ومكنونات الطبيعية. ومن أقوال هيجل: «إن آثار الفنون ليست مظاهر بسيطة. وإنها لتنطوي على الحقيقة أكثر ممَّا تنطوي عليه مظاهر الموجودات في هذا الكون؛ ذلك أن العقل يجد مشقةً في النفاذ إلى باطن الطبيعة، ولا يشق عليه النفاذ إلى صميم الآثار الفنية.» والسر في ذلك أن صاحب الذوق الجميل يُبصر صور الأشياء، وعلاقة بعضها ببعض، ويُميِّز حقيقتها الباطنة، ثم يُعَرِّيها من علائق المادة التي تشوبها، ويُعبِّر بعد ذلك عن هذه الصورة المجرَّدة التي أبصرها في الأشياء الطبيعية والمجتمع الإنساني؛ في تمثال، أو صورة زيتية، أو قصيدة من الشعر، أو قصة أدبية. ومن هنا صحَّ لنا أن نقول إن الفنون الجميلة نوافذ نُطل منها على الحقيقة.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/31537282/
في عالم الفلسفة
أحمد فؤاد الأهواني
«الفلسفة بحر لا يُعرف له قرار. تحتاج في معرفتها إلى العلم بما قاله القدماء، وما ذكره المُحدثون، وهو شيء لا تُحيط به إلا المتون والمطوَّلات.»الفلسفة هي علمٌ غزيز مليء بالنظريات والأفكار والرُّؤى والتفسيرات. وزخرت مكتبات العالم بمئات الكتب التي أفاضت الحديث عن كافة جوانبها وتطوُّراتها عبر العصور والأزمان. وهذا الكتاب على الرغم من حجمه الصغير، فإنه يُعَد واحدًا من الكتب الفلسفية المهمة لأي قارئٍ يريد الإلمام الجيد بهذا العلم؛ فبين دفَّتَي هذا الكتاب يأخذنا «أحمد فؤاد الأهواني» في رحلةٍ سريعة لثلاثة عوالم فلسفية؛ بدايةً من عالَم الفلسفة اليونانية، مرورًا بعالَم الفلسفة الإسلامية، منتهيًا بعالَم الفلسفة الحديثة، مستعرضًا بإيجازٍ أبرز العلماء والفلاسفة في كل عالَمٍ على حِدَة، ومُتحدِّثًا بأسلوبٍ بسيط غير مُعقَّد عن العديد من النظريات والآراء الفلسفية التي لا نعرف عنها الكثير، والتي تناول بعضها وفقًا لِرُؤاه الشخصية.
https://www.hindawi.org/books/31537282/13/
ما بعد النفس، أو الميتابسيشيك
هذا علم جديد لم يكتب عنه أحدٌ فيما أعرف باللغة العربية. موضوع هذا العلم ظواهر ثلاث: وممَّا لا شك فيه أن هذه الظواهر جميعًا تحدث وتقع، ولكنها غير شائعة وغير عامة بين سائر الناس. غير أن ندرة وقوعها ليست دليلًا على فسادها، ووجودها عند بعض الأفراد القلائل ممَّن وهبوا هذه القوى والتأثيرات النفسانية برهانٌ على ذلك؛ أي على صحتها. غير أن الأستاذ ريشيه يقف من هذَين الفرضَين موقفًا آخر؛ فهو لا ينكر قراءة الفِكر، ولكنه يرى أنها لا تُفسِّر كثيرًا من الظواهر التي لا يكون فيها انتقال فكر من شخص إلى آخر. ويرى كذلك أن التفسير الروحاني لا يمكن إثباته علميًّا، على حين أن افتراض وجود حاسة من الحواس، خلاف الحواس المعروفة، بها نستطيع إدراك الأشياء عن بُعد، والتأثير في الأشياء عن بُعد، هو الفرض الذي يمكن إقامة الدليل عليه علميًّا. في أوائل أغسطس عام ١٨٧٨ كان جدي شارل رنوارد البالغ الرابعة والثمانين من عمره يشكو مرضًا بسيطًا لم يمنعه من الحركة، وكان مقيمًا في قصر استورز عند مدام شفريه. وفي ١١ أغسطس ذهبت إلى استورز فوجدت صحة جدي حسنة، وكنتُ قد اتفقت مع زوجتي على تمضية بضعة أيام في الأسبوع التالي باستورز. وكنا وقتئذٍ في ميدون إحدى ضواحي باريس. وفي صباح يوم السبت ١٧ أغسطس الساعة السابعة، استيقظتْ زوجتي وهي تقول: إنه شيء مخيف، لقد رأيت جدك مريضًا جدًّا راقدًا في سريره، وأمك منحنية إلى جانبه. لم أحفل بهذه الرؤيا؛ لأنني في ذلك العهد لم أكن أُعير الرؤيا الصادقة التفاتًا، فطمأنت زوجتي، ثم ركبنا عربةً إلى باريس، فلمَّا وصلنا في الساعة العاشرة، وجدت برقيةً تُنبئ بوفاة جدي، وأن الوفاة وقعت في الساعة الرابعة، فكأن زوجتي شاهدت في الرؤيا الوفاة بعد وقوعها بثلاث ساعات. تفسير هذه الرؤيا بواسطة قراءة الفكر لا يستقيم؛ لأن الرؤيا حدثت بعد الوفاة بساعات، وتفسيرها بواسطة الاتصال الروحاني فرض يحتاج إلى كثير من الإثبات. والأليق أن تُفسَّر بوجود حاسة بها نُدرك ونُؤثِّر في الأشخاص والأجسام عن بُعد. وقد نقول إن هذه الحادثة مزورة على العلم، ولم يُنكر ريشيه وجود الأدعياء والدجَّالين، غير أنه يُقرِّر وجودهم في ميدان العلم الروحاني أكثر من هذا الميدان، ثم هو يتحرَّى الدقة في قَبول الروايات والمشاهدات بحيث تكون موثوقًا بها، لا يُتهم صاحبها بالطعن والتزوير. قد نقول إن هذه الظاهرة من قبيل المصادفة والاتفاق، غير أن الاتفاق إن صح في حادثة واحدة، فلا يصح في حوادث أخرى كثيرة، ليس هنا مجال ذكرها، ومناقشة احتمال وقوعها بالمصادفة. لم يبقَ إذن إلَّا القول بالاتصال بالأجسام عن بعد بواسطة تموُّجات غير منظورة. مثال ذلك الجاذبية، والقوى المغناطيسية، والتيارات الكهربائية، والأشعة فوق البنفسجية وتحت الحمراء، وأشعرة الراديوم، والأصوات التي تزيد على أربعين ألف ذبذبة. ويتبيَّن من هذا أن النافذة التي نُطل منها على هذا الكون، ونعني بها النافذة الحسية ضيقة جدًّا. ولا ريب في وجود قوًى كثيرة تموج من حولنا في هذا الكون الهائل، ولا تزال خفيةً عن حواسِّنا، وعن الآلات التي ابتدعها العلم لكشفها. فلا ضير من القول بوجود حاسة أو حواس نُدرك بها الأشياء الخارجية، ممَّا لا تُوصلنا إليه الحواس المعروفة لنا حتى الآن. ••• ولقد مرَّ هذا العلم في أربعة أطوار؛ الطور الأسطوري، والطور المغناطيسي، والطور الروحاني، والطور العلمي. ونُحب أن نقف قليلًا عند ذلك الصوت الباطني الذي كان يسمعه سقراط فيما يروي أفلاطون وزينوفون؛ كان سقراط يعتقد أن هذا الشيطان أو الإله شيء آخر يختلف عنه، ويوحي إليه بالأمور المجهولة، ويهديه سواء السبيل. ويُشبِّه الأستاذ ميرز هذا الصوت الذي كان سقراط يسمعه بما كانت تسمعه جان درك منذ صباها، وكانت وحدها هي التي تسمع هذه الأصوات وترى هذه الرؤى. لمَّا أعلن مسمر نظريته في باريس؛ أسرع كثير من الأطباء والعلماء والمحامين والقضاة إلى اعتناقها. كان مسمر يقصد بالمغناطيسي التأثير عن بُعد، وهذه ظاهرة علمية صحيحة، واقتصر البحث في هذا العلم الجديد على شفاء المرضى، غير أنه لم ينجح نجاحًا كافيًا في العلاج؛ فانصرف عنه العلماء. ويبدأ الطور العلمي، أو الميتابسيشيك، بظهور السير وليام كروكس في إنجلترا؛ إذ شرع يدرس حالة الوسطاء، ويُجري عليهم تجارِبه؛ فوجد أن ما يصدر عنهم لا شبهة فيه، وأنه حق، ولكنه لا يُفسَّر بالروحانيات، بل بقوًى فسيولوجية ونفسانية مجهولة، سوف يكشف العلم الستار عنها. فكان كروكس بذلك أول من وضع أُسس علم ما بعد النفس أو الميتابسيشيك. ••• الوسطاء هم أصحاب الكشف أو التأثير في الأشخاص والأجسام عن بعد، أو هم عند الروحانيين المتوسِّطون بين عالم الأحياء وعالم الأموات. والذين يُظهرون التأثيرات النفسانية والتجسُّد، أندر من الذين يُظهرون الكشف، أولئك قوم نعدهم شواذ لفراط قِلَّتهم. ونُدرتهم لا تقدح في صحة وجودهم، ويجب التسليم بأن الناس غير متشابهين من حيث القوى والمواهب؛ فنحن نجد بعض الأطفال ذوي ذاكرة فريدة في بابها، أو لهم القدرة على إجراء عمليات حسابية عقلية، ممَّا يُثير العجب حقًّا. وظاهرة الكشف أكثر شيوعًا من غيرها، ونروي هنا حادثةً ذكرها الأستاذ ريشيه في كتاب «حاستنا السادسة»: «برتا فتاة صغيرة اختفت في يوم ٣١ أكتوبر ١٨٩٨ بجهة أنفلد من أعمال نيو همشير. بحثوا عنها في كل مكان؛ في الغابة، وعلى شاطئ البحيرة؛ فلم يعثروا عليها. وفي ليلة ٣ نوفمبر رأت مدام تيتوس في النوم — وهي بمدينة ليبان نفيل التي تبعد ثمانية كيلومترات عن أنفلد — جثة برتا في مكان مُعيَّن. وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى قنطرة شيكر على البحيرة، وأرشدت البَحَّار الغطَّاس بالضبط إلى المكان الذي توجد فيه الجثة، وقالت: إن رأسها إلى أسفل بحيث لا يُرى إلَّا كعب حذائها. واتبع الغطَّاس تعليمات مدام تيتوس، فعثر فعلًا على الجثة على بُعد سبعة أقدام تحت سطح الماء. قال الغطَّاس: «كانت دهشتي عظيمة؛ فالجثث في الماء لا تُخيفني بمقدار ما أخافتني المرأة الواقفة عند القنطرة.»» وروى الأستاذ الإمام محمد عبده في سيرته أنه ذهب إلى الجامع الأحمدي بطنطا، «وفي يوم من شهر رجب من تلك السنة كنتُ أطالع بين الطلبة وأُقرِّر لهم معاني شرح الزرقاني، فرأيت أمامي شخصًا يُشبه أن يكون من أولئك الذين يُسمُّونهم بالمجاذيب، فلمَّا رفعتُ رأسي إليه قال ما معناه: ما أحلى حلوى مصر البيضاء! فقلت له: وأين الحلوى التي معك؟ فقال سبحان الله! من جَدَّ وجد. ثم انصرف، فعددت ذلك القول منه إلهامًا ساقه الله إليَّ ليحملني على طلب العلم في مصر دون طنطا.» والظاهرة المشتركة بين جميع الوسطاء من أصحاب التأثيرات والتجسُّد هي النقر، وهي عبارة عن ذبذبة صوتية تُسمع على خشب المنضدة دون اتصال بها. وهؤلاء الوسطاء معروفون لدى العلماء المشتغلين بهذه المسائل، ويعدُّون منهم بضعة عشر نفرًا. غير أنه مع الأسف كثيرًا ما يُسيء الوسطاء إلى موهبتهم بانصرافهم إلى كسب المال وجمع الثروة، فهم يستغلُّون هذه القوة العجيبة في عقد جلسات لا يُباح الدخول فيها إلَّا بالمال، وعندئذٍ لا يكون بينهم وبين الغش والتدليس إلَّا خطوة يسيرة، وكثيرًا ما يخطونها. ولا ينبغي أن ننسى أن أغلب الوسطاء يُصبحون محترفين، فلا يعنيهم العلم، ويتخذون شتَّى الوسائل للخداع، ويجب على العلماء اتخاذ جميع الاحتياطات لكشف القناع عن أساليبهم. الوسطاء درجات، ويُقسِّمونهم عادةً إلى أربع: الدرجة الأولى التي تفترق عن الحالات العادية: صدور حركات لا شعورية خفيفة، كأنها ومضات أو لمحات يستبين منها البصير المتدرِّب الإحساسات الصادرة عن اللاشعور. ومن الثابت أن خمسين في المائة من البشر يُفصحون بأنواعٍ من الحركات عن أفكارهم الباطنة. هذه الحركات غير الإرادية تُدرَّس في علم النفس العادي، أو في علم وظائف الأعضاء. الدرجة الثانية: هي إحداث شخصية جديدة بواسطة التنويم المغناطيسي، وهذه الشخصية الجديدة الوهمية تحدث بتأثير المنوِّم في الوسيط، وهي ظاهرة مألوفة تُدرس أيضًا في علم النفس العادي. الدرجة الثالثة: أن يوحي الوسيط إلى نفسه بتقمُّص شخصية جديدة؛ مثال ذلك أن الوسيطة هيلين سميث كانت تتقمَّص شخصية الملكة ماري أنطوانيت. وتتصل الكتابة الأوتوماتيكية بهذا النوع من الوسطاء، ولا شأن للأرواح أو علم ما بعد النفس بهذه الظاهرة؛ لأنه حيث أمكن تنويم الوسيط والإيحاء له بتقمُّص شخصية جديدة، فشبيه بذلك أن يوحي الوسيط إلى نفسه فيُصبح شخصًا آخر. ولا محل إذن لافتراض أن روح الملكة ماري أنطوانيت حلَّت في هيلين سميث. الدرجة الرابعة: أن تُصبح الشخصية الجديدة قادرةً على الكشف ممَّا لا يقدر عليه الوسيط نفسه. ويبدو أن البديل، أو الشخص الغريب الذي يحل في جسد الوسيط يملك قدرةً عجيبةً حقًّا. وهذه الدرجة الأخيرة هي التي تدخل في باب الميتابسيشيك؛ لأن التفسيرات النفسية العادية لا تكفي لتعليها. ومن العلماء من يرى أن الوسيط هو ذلك الذي تصدر عنه حركات بغير اتصال مباشر، وتحدث عنه ظاهرة التجسُّد، وهذه هي أعلى درجة في الوساطة والوسطاء. ومن هذا الباب ما شوهد من الوسيطة إيزابيلا من تحريك أشياء بغير لمسها. ••• هل يمتاز هؤلاء الوسطاء بصفات خاصة، أم هم كغيرهم من بني جنسهم؟ والعجيب في أمر الوسطاء أن مواهبهم تظهر فجأةً وتختفي فجأة، دون ضابط، ولا يمكن تعليم الوسيط. يروي الدكتور سيجرد أن ابنته وهي في سن الثانية عشرة أظهرت خلال ثلاثة أيام متوالية حالات بارزةً للتأثير عن بُعد في الأشياء «تليكنزي»، ثم اختفت هذه الأحوال إلى غير عودة. ولا يُثمر التعليم في الوسيط أي ثمرة، بل الواجب أن يترك لحريته؛ حيث إن تأثيرنا عليه مضر به، وكثيرًا ما نُفسده بالتوجيه والإرشاد. وإننا لنُسيء إلى الوسطاء بسوء موقفنا منهم، فنحن نُعاملهم كأنهم أصحاب الأرواح الشريرة، ونسخر منهم، ونعزو إليهم الغش والخداع، ثم يهبط عليهم أصحاب الصحف فيتخذون منهم أداةً للنشر والدعاية الصحفية لما فيهم من أطوار غريبة. ويتجه إليهم الناس يستشيرونهم في أمورهم الخاصة؛ فهذه امرأة تُريد التأثير في حبيبها الذي هجرها، وهذا رجل يرغب في كسب قضية، وهذا شخص فقد أوراقه ويُهمُّه معرفة مكانها. الواجب الاحتفاظ بالوسطاء لمصلحة العلم وتجارِب العلماء الدقيقة، بدلًا من استثمارهم في كسب المال. وبعدُ فلا يزال هذا العلم في أول خطواته، ولسنا ندري ما سوف يتمخَّض عنه في المستقبل.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/31537282/
في عالم الفلسفة
أحمد فؤاد الأهواني
«الفلسفة بحر لا يُعرف له قرار. تحتاج في معرفتها إلى العلم بما قاله القدماء، وما ذكره المُحدثون، وهو شيء لا تُحيط به إلا المتون والمطوَّلات.»الفلسفة هي علمٌ غزيز مليء بالنظريات والأفكار والرُّؤى والتفسيرات. وزخرت مكتبات العالم بمئات الكتب التي أفاضت الحديث عن كافة جوانبها وتطوُّراتها عبر العصور والأزمان. وهذا الكتاب على الرغم من حجمه الصغير، فإنه يُعَد واحدًا من الكتب الفلسفية المهمة لأي قارئٍ يريد الإلمام الجيد بهذا العلم؛ فبين دفَّتَي هذا الكتاب يأخذنا «أحمد فؤاد الأهواني» في رحلةٍ سريعة لثلاثة عوالم فلسفية؛ بدايةً من عالَم الفلسفة اليونانية، مرورًا بعالَم الفلسفة الإسلامية، منتهيًا بعالَم الفلسفة الحديثة، مستعرضًا بإيجازٍ أبرز العلماء والفلاسفة في كل عالَمٍ على حِدَة، ومُتحدِّثًا بأسلوبٍ بسيط غير مُعقَّد عن العديد من النظريات والآراء الفلسفية التي لا نعرف عنها الكثير، والتي تناول بعضها وفقًا لِرُؤاه الشخصية.
https://www.hindawi.org/books/31537282/14/
ثورة في المنطق
مضى على كشف المنطق أكثر من عشرين قرنًا من الزمان؛ إذ يُنسب إلى أرسطو؛ ولهذا سُمِّيَ بالمعلِّم الأول. قال ابن قيِّم الجوزية في كتابه «إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان» يطعن على أرسطو ما يأتي: «ويُسمُّونه المعلِّم الأول؛ لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية، كما أن الخليل بن أحمد أول من وضع عروض الشِّعر. وزعم أرسطو وأتباعه أن المنطق ميزان المعاني، كما أن العروض ميزان الشِّعر. وقد بيَّن نُظَّار الإسلام فساد هذا الميزان وعوجه، وتعويجه للعقول وتخبيطه للأذهان، وصنَّفوا في ردِّه وتهافته كثيرًا …» غير أن منطق أرسطو ظل راسخًا كالطود لم تُزعزع قوائمه هجمات رجال الدين في العصر الوسيط، إسلاميين كانوا أو مسيحيين. وعلى العكس من ذلك تناول الشُّرَّاح كتبه بالترتيب والتبويب والتهذيب، حتى أصبح أشد رسوخًا وأقوى دعامة. والفضل الأول للرواقيين؛ إذ جعلوا المنطق آلةً لا تُفهم الفلسفة بغيرها. ومن تشبيهاتهم المأثورة: إن الفلسفة كالبستان، المنطق سوره، والطبيعة شجرُه، والأخلاق ثمرُه. وأغلب فلاسفة المسلمين يجعلون المنطق آلة العلوم، ولا يعدونه جزءًا منها. وفي ذلك يقول الشيخ ابن سينا في أرجوزته المنطقية: وظلَّ العرب أُمناء على هذا الاتجاه حتى العصور المتأخِّرة، وتعريف صاحب الشمسية مشهور، لا يزال طلبة الأزهر يتداولونه حتى اليوم، وهو: «المنطق: آلة قانونية تعصم مراعاتُها الذهنَ من الزلَل.» غير أن فلاسفة العصر الوسيط نحَوا صوريًّا نحوًا صوريًّا شكليًّا، فأصبح لفظيًّا بحتًا، وصار جدبًا لا يُفيد نتائج جديدة، ولا يزيد في ثروة الفكر، ولا يقترب من الواقع. ••• ولكن ديكارت وبيكون لم يتخلَّصا تخلُّصًا تامًّا من سلطان أرسطو. وظهرت في القرن الماضي مباحث ستيوارت مِلْ، ولاشلييه، ورابييه، وهوسرل، وشللر، وغيرهم، واتجهوا بالمنطق وجهات جديدةً مختلفةً فيما بينها. ولكنهم جميعًا ظلُّوا عبيدًا لخطأ جوهري وقع فيه أرسطو وتبعه سائر الفلاسفة؛ ذلك هو التوحيد بين الفكر واللغة. فالمنطق من النطق، وهم يُعرِّفون الإنسان بأنه حيوان ناطق، ويقصدون بذلك أنه مفكر. قال صاحب البصائر النصيرية: «إن فكر الإنسان في تركيب المعاني قلَّما ينفك عن تخيُّل ألفاظها معها، حتى كأن الإنسان يُناجي نفسه بألفاظٍ متخيَّلة إذا أخذ في التروِّي والتفكُّر.» ولا نُنكر مع القدماء أن اللغة ضرورية، وأننا نستعين بها في تفكيرنا، كما هو الواقع في الغالب، ولكن اللغة تقوم على الألفاظ، والألفاظ «رموز» واصطلاحات نكسو بها المعاني لتتعلَّق بها؛ ولذلك نبَّه أرسطو إلى أن البحث في الألفاظ لا يُهم المشتغل بالمنطق إلَّا عرضًا، وأن ما يُهمُّنا هو اختيار الألفاظ المحدودة المعاني، حتى لا يقع المفكِّر في اللبس والغموض. غير أن لغة الكلام التي نتداولها فيها كثير من العيوب؛ فهي لا تفي بالأغراض الدقيقة التي يُحتاج إليها في التعبير العلمي الحديث. وإن كنتَ في ريبٍ من ذلك، فانظر إلى لغة الرياضيين في الحساب والجبر والرسوم البيانية، تَجِد أن التعبيرات الرياضية أدق وأوفى. فإن قلت: ولكن اللغة غنية بالألفاظ والاصطلاحات، قلنا: إن فائدتها لا تُنكَر في الأدب والبلاغة، ولكن جدواها في العلم قليلة. والأصل في اللغة أنها وسيلة التفاهم بين الناس في صِلاتهم اليومية، ولم يكن القصد منها التعبير عن العلوم. سقراط: هو الموضوع، ومائت: هو المحمول، أو الصفة التي نصف بها سقراط. والرابطة يُصرَّح بها في اللغات الأجنبية، ونعني بها فعل الكينونة، ولكنها تُطوى أو تُضمر في اللغة العربية؛ لأن طبيعة اللسان العربي كذلك، وقد يُصرِّح بها المناطقة نقلًا عن اليونانية بقولهم: «سقراط هو مائت.» والمقصود أن الصفة التي نحملها على الموضوع، تُوضِّحه وتُلقي عليه الضوء؛ لأننا إذا قلنا: سقراط، وسكتنا؛ لم نفهم شيئًا. ولو استمرَّت نهضة الحضارة الإسلامية، ولم تعمل عوامل التوقُّف والتأخُّر عملها؛ لكان خليقًا أن يصل فلاسفة العرب إلى ما وصل إليه علماء أوروبا اليوم في المنطق الحديث. ولقد أصبح المنطق الرياضي في أيدي العلماء أداةً دقيقةً ثمينةً يعز استبدال غيرها بها. وفطن الفلاسفة كذلك إلى أهمية المنطق الرمزي، ولكنهم أحلُّوه في المرتبة الثانية، وعدُّوه فرعًا لا غنى عنه من المنطق العام. أمَّا منطق أرسطو الذي درجنا على درسه واستخدامه فهو ذو فائدة عملية في الحياة اليومية، وهو إلى جانب ذلك رياضة عقلية. أمَّا المنطق الرمزي فإنه يُوضِّح الفكر الغامض؛ حين يُلغي التعبيرات الملتبسة، ويُبعد عن الذهن آثار الغموض، وهو أكثر ضررًا من الخطأ. وهو إلى جانب ذلك لا يوقع المرء في مزالق الأخطاء الناشئة عن الهوى والعواطف، والألفاظ الرنانة الخلَّابة التي تُعبِّر عن المثُل العليا في المجتمعات الإنسانية. أي إن المنطق الرمزي هو الذي يرد العقل حقًّا إلى الصواب، أو كما قال القدماء: إنه هو الذي يعصم الذهن من الزلَل. فإذا أردنا أن نصيد مقدارًا من السمك، فعلينا أن نستعمل شباكًا من نوع خاص. أمَّا معارضة المنطق الرمزي فإنها تُشبه المعارضة التي ظهرت عند استعمال الآلات البخارية، تنشأ من الميل إلى المحافظة والبعد عن التغيير. والمنطق الرياضي ينظر في الألفاظ، ثم في العلاقة بين رمز وآخر، ثم في العلاقة بين هذه المجموعات، ولذلك سُمِّيَ المنطق الحديث منطق العلاقات. والألفاظ، أو الرموز التي نُريد أن نضعها، هي بطاقات نضعها على الأشياء الخارجية، تدل عليها دلالةً ذهنية؛ مثل الباب، والشباك، والماء، والشمس، وهذا البيت … إلخ. فنحن نُشاهد في الواقع أشياء محسوسةً لها طول وعرض وعمق، وتتصف بلون، ولها شكل. وهذه الأشياء تتغيَّر ويتصل بعضها ببعضها الآخر، أو بينها علاقات يُضاف أحدها إلى صاحبه. تقول: الباب أمام الشباك، والشمس فوقنا في السماء، وهكذا … كل شيء من هذه الأشياء، كُلٌّ لا يتجزَّأ، له شخصية مستقلة. وكان المنطق القديم ينظر إلى الأشخاص أو إلى الأفراد، ثم يجمعها في النوع، ويرفع الجنس فوق النوع. النوع «إنسان» يشمل سقراط وزيد وعمرو … وهكذا. ثم تقول بعد ذلك: سقراط إنسان، ثم تقول الإنسان حيوان، باعتبار أن الجنس «حيوان» يشمل أنواعًا منها الإنسان والطيور والزواحف … إلى آخر أنواع الحيوان. هذه النظرة غير دقيقة، وغير صحيحة؛ لأن الإنسان ليس مجموع سقراط وزيد وزيد وفلان وفلان؛ إذ الواقع أن «الإنسان» لا يتركَّب من زيد وعمرو، وليس هذا الشخص وذاك وذاك أجزاء من النوع. هذه المجموعات تختلف عن «النوع» في المنطق القديم. وما يُهمُّنا منها هو الدلالة الأخيرة؛ أي المجموعة التي تضم الأفراد لما بينها من علاقات. والرموز الثابتة والمتغيِّرة مستمدَّة من الرياضة. مثال ذلك: العدد واحد «ثابت»؛ إذ له معنًى لا يتغيَّر مع الاستعمال في العمليات الحسابية. أمَّا الرموز «س»، وما إلى ذلك فهي متغيِّرة؛ لأنها لا تحمل معنًى مستقلًّا بذاتها. فلو قلنا: هل الواحد عدد صحيح؟ كان الجواب بالنفي أو الإثبات، ولكنه على أي حال جواب يدل على معنًى، سواء أكان صادقًا أم كاذبًا. أمَّا إن قلنا: هل «س» عدد صحيح؟ فلن يكون للجواب معنًى مفهوم. الخلاصة أن «س» عدد متغيِّر لا يمكن أن يكون له معنًى حتى نُحدِّده. ونعود بعد ذلك إلى الألفاظ واللغة التي درجنا على استعمالها. الواقع أن دراسة تطوُّر الإنسان من الطفولة إلى الشباب تُبيِّن لنا أن المنطق أسبق من التفكير؛ لأن الطفل يتعلَّم لفظ الكلمات قبل أن يتعلَّم الحكم على مدلولاتها، وكثيرًا ما يحفظ الناس ألفاظًا لا يعرفون مغزاها. على أن وصول الذهن إلى مدلولات الألفاظ لا يتم إلَّا بإضافة الأشياء إلى غيرها، وتحديد ما بينها من علاقات. وقد تكلَّم قدماء المناطقة في الدلالات فقالوا: إنها على ثلاثة أنواع؛ دلالة المطابقة، والتضمُّن، والالتزام؛ وذلك بالنظر إلى الشيء الذي يدل عليه اللفظ. ولكن المنطق الحديث ينظر إلى الدلالة والألفاظ على المعنى من جهات ثلاث؛ (١) الشيء أو الموضوع. (٢) ما يُشير إليه الشيء أو ما يوصف به. (٣) الشخص الذي يشعر بهذا الشيء ويُدركه. وهناك علاقة وثيقة بين هذه الجهات الثلاث؛ مثال ذلك «الورد أحمر»، يفهم منها العالم معنًى، والشاعر معنًى ثانيًا، والرسَّام معنًى ثالثًا. ولا نقصد من ذلك أن نخلط بين النسبية والذاتية؛ فهذه المعاني المختلفة نشأت من النسبة بين المدرِك لها وبين لون الورد. ومهما يكن من شيء، فإن اتجاه المنطق الحديث هو أن يجعل التعبير موضوعيًّا؛ وبذلك يدنو من العلم الصحيح. نحن نقول «الذهب أصفر»، ونعد هذه القضية صحيحةً ذات دلالة تامة، وأنها قضية صادقة لأنها تنطبق على الواقع. ومع ذلك تعالَ نمتحن هذه القضية البسيطة في ظاهرها، وسوف نجد أن الذهب ولونه الأصفر جزآن من العالم الزاخر بالأشياء والصفات، وهو عالم شديد التعقيد، وليس لنا أن نحكم بصدق هذه القضية أو كذبها إلَّا إذا نظرنا في جملة الظروف المحيطة بها؛ فالذهب أصفر في ضوء خاص، فإذا تغيَّر الضوء تغيَّر اللون. وأظن أنه أصبح من الواضح أن أصحاب المنطق الرياضي على صوابٍ في نظرهم إلى الحدود، واعتبار أن بعضها ثابت وبعضها متغيِّر؛ فقد رأينا في «أصفر» ليس حدًّا ثابتًا، بل متغير، وذلك حسب الظروف المحيطة به. ليس غرضنا أن نكتب بالتفصيل في هذا المنطق الحديث؛ فقد أُلِّفَتْ فيه المطوَّلات والمتون، وإنما ضربنا المثل بشيء ممَّا يُقال في باب الألفاظ ومدلولاتها، واستبدال الرموز بها. وجملة القول: إن المنطق الرمزي أصبح أداة علماء الرياضة والطبيعة، ولا يزال المنطق الأرسطوطاليسي أداة اللغة المستعملة بين الناس في معاملاتهم.
أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م. أحمد فؤاد الأهواني: فيلسوفٌ مصري كبير وأحدُ روَّاد علم النفس في مصر والعالَم العربي، أصدَر العديدَ من الكتب والمقالات، ونقَل العديدَ من أمهات الكتب الفلسفية الأجنبية إلى العربية، وشارَك في تحقيق بعض أصول الفلسفة الإسلامية. وُلد عام ١٩٠٨م. التحق بكلية الآداب في الجامعة المصرية منذ إنشائها، فدرَس الفلسفة على يد أعلامها الفرنسيِّين من أمثال «برييه» و«لالاند»، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٩م، وعمل مدرِّسًا ثم مفتِّشًا بالمدارس الثانوية بوزارة المعارف، وحصل على الدكتوراه في أغسطس عام ١٩٤٣م، ثم عُيِّن أستاذًا للفلسفة الإسلامية في كلية الآداب عامَ ١٩٤٦م، وتدرَّج حتى أصبح رئيسًا لقسم الفلسفة عامَ ١٩٦٥م. كانت آراؤه مثيرةً دومًا للنقاش والجدل، فقد سوَّد صفحاتِ المجلات الشهيرة في عصره — من قَبيل «الرسالة» و«الثقافة» و«الكتاب» — بالكثير من مقالاتِ نقد الكتب والترجَمات الصادرة حديثًا؛ إذ قلَّما قرأ كتابًا دونَ أن يكتب رأيَه فيه ويَنتقده، واشتُهِر عنه شِدتُه في النقد، التي وصلَت إلى حدِّ التلاسُن مع العديد من النقَّاد والأدباء في ذلك الوقت. ترَك العديدَ من الآثار العلمية، أبرزها: «فَجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط» و«أفلاطون» و«الفلسفة الإسلامية» و«المدارس الفلسفية» و«خلاصة علم النفس». وشملَت ترجماته: «كتاب النفس» ﻟ «أرسطو»، و«مباهج الفلسفة» ﻟ «ويل ديورانت»، و«البحث عن اليقين» ﻟ «جون ديوي»، و«أصول الرياضيات» ﻟ «برتراند راسل»، و«العلم والدِّين في الفلسفة المعاصرة» ﻟ «إميل بوترو»، وشارَك في ترجمة «تاريخ العلم» ﻟ «جورج سارتون». وكذلك نشَر بعضَ المخطوطات، من أهمها كتاب «في الفلسفة الأولى» ﻟ «الكندي»، وكتاب «أحوال النفس» ﻟ «ابن سينا». تُوفِّي «الأهواني» في عام ١٩٧٠م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/0/
مقدمة
لما كانت بيرل باك ابنة أحد المبعوثين الأمريكيين، فقد أمضت أيام طفولتها بالصين. فعلَّمتها أمها يوم أن كانت طفلة ثم بعثت بها إلى مدرسة بمدينة شنجهاي. وعندما بلغت السابعة عشرة، سافرت إلى أوروبا، ثم إلى وطنها، أمريكا، حيث التحقت بإحدى الكليات الجامعية. عادت بيرل باك إلى الصين بعد أن أتمت تعليمها الجامعي حيث مكثت عامين تسهر على تمريض والدتها التي مرضت مرضًا خطيرًا. ولما شُفِيَت أمها، انتقلت هي وأسرتها إلى مدينة بشمال الصين. وبعد خمس سنين انتقلوا إلى نانكنج وشهدوا فيها ثورة الصين التي استمرت عشرة أعوام ورأوا مولد العصر الحديث الذي أشرق على الشعب الصيني. قضت بيرل باك ردحًا من حياتها تُعلِّم اللغة الإنجليزية في مختلف الجامعات الصينية. وكانت تجد متعة كبيرة في الناس سواء كانوا صينيين أو أمريكيين أو من أي جنسية أخرى، أما طموحها في أن تخلق من الناس في كتبها أقوامًا حقيقيين فقد تحقق بنجاح منقطع النظير. كانت مؤلفات بيرل باك الأولى كلها عن الصين، ولكنها في عام ١٩٤٥م وطدت العزم على الكتابة عن الحياة الأمريكية وقامت بذلك تحت اسم مستعار هو جون سدجز. ولقد حازت رواياتها هذه نجاحًا كبيرًا لحين من الزمان قبل أن يُكتشَف أن المؤلف الحقيقي لها هو بيرل باك وربما كانت قصة «الأرض الطيبة» أبعدها صيتًا وأحب كتبها إلى قلوب الناس. مُنِحَت بيرل باك جائزة نوبل وكذلك جائزة بولليتزر للأدب وتعتبر من أشهر كُتَّاب العصر الحديث الأمريكيين الذين يحظون بأعلى درجات التبجيل وذيوع الصيت.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/1/
الباب الأول
إنه يوم زواج وانج لنج، وعندما فتح عينيه بادئ ذي بدء في ظلام الستائر الموضوعة حول سريره، لم يستطع التفكير في سبب اختلاف هذا الصباح عن غيره في بقية الأيام الأخرى. كان البيت هادئًا! إلا من سعال والده العجوز الخافت الذي كانت حجرته في مواجهة حجرة وانج لنج عبر الحجرة الوسطى. كان سعال الرجل العجوز أول صوت يُسمَع في كل صباح. وكان من عادة وانج لنج أن يصغي إليه وهو راقد، ولا ينهض من فراشه إلا عندما يسمعه وهو يقترب، ويسمع صرير مفصلات باب حجرة والده. بَيْد أنه لم ينتظر ذلك في هذا الصباح. فوثب وأزاح ستائر فراشه جانبًا. كان الوقت مطلع الفجر، وأمكنه أن يلمح السماء خلال ثقبٍ مربع صغير في النافذة حيث كان الورق الممزق يهتز. فاتجه نحو الثقب ونزع الورق. ثم قال لنفسه: «إننا في الربيع، ولا حاجة بي إلى هذا.» لقد خجل من أن يقول بصوتٍ عالٍ، إنه كان يرغب في أن يبدو البيت أنيقًا في هذا اليوم. فأخرج يده من الثقب ليحس بالهواء. كانت نسمة رقيقة تهب برفق من الشرق. كانت ريحًا معتدلة ومليئة بالمطر … لن تمطر السماء في هذا اليوم، بل إذا استمرت هذه الريح، فستمطر السماء بعد بضعة أيام. أسرع وانج لنج إلى الحجرة الوسطى، يشد سرواله الخارجي الأزرق وهو يسير، ويربط حزامه المصنوع من نسيج القطن الأزرق، حول وسطه. وقد ترك الجزء العلوي من جسمه عاريًا حتى يسخِّن ماءً ليستحم. فذهب إلى الحظيرة الملاصقة للمنزل، والتي كانَا يستعملانها مطبخًا، فأخرج ثورٌ رأسَه من ظلامها، وفتح فمه يخور نحوه بصوت عميق. كان المطبخ مبنيًّا باللَّبِن، كما كان البيت مبنيًّا باللَّبِن أيضًا … كذلك صنع جده الموقد، في أيام شبابه من طينة أرضهم. وقد تحول لَبِن الموقد إلى آجُرٍّ واسْوَدَّ من إعداد الطعام فيه طيلة عدة سنوات. وكانت فوق الموقد قِدر حديدية مستديرة عميقة. وضع وانج لنج بعض الماء في القِدر، سكبه فيها من جرَّة فخارية كانت بقربه. ولكنه سكب الماء بحذر، إذ كان الماء ثمينًا. ثم رفع الجرة فجأة وأفرغ كل الماء في القِدر … لقد نوى أن يغسل جسمه كله في هذا اليوم. دَارَ وانج لنج حول الموقد حتى صار خلفه، وانتقى قبضة من الحشائش والأحطاب الجافة مما كان في ركن المطبخ، ووضعها مُرتَّبة بعناية في فتحة الموقد بحيث ينتفع من كل ورقة فيها إلى أقصى ما يمكن. ثم وَلَّد لهبًا من حجر قدح عتيق وقطعة من الحديد، ودفعه إلى القش، فاشتعل. هذا آخر صباح سيوقِد فيه نارًا. كان يوقدها كل صباح منذ أن ماتت والدته قبل ذلك بست سنوات. كان الوالد طيلة هذه السنوات الست ينتظر ابنه كل صباح ليأتيه بالماء الساخن ليخفف عنه سعال الصباح … أما الآن، فيستطيع كل من الأب والابن أن يستريح. ستأتي سيدة إلى البيت. وبينما كان وانج لنج يفكر في هذه الأمور، انطفأت النار في الموقد، وظهر الرجل العجوز عند المدخل وكان يسعل ويلهث، ويقول: «كيف يتأنَّى ألا يُعَدَّ الماء حتى الآن، لتدفئة رئتَي؟» فأحس وانج لنج بالخجل. ثم تمتم، يقول، من مكانه خلف الموقد: «هذا الوقود رطب. إنها الريح الرطبة …» استمر الرجل العجوز يسعل، ولم يكف عن السعال حتى غلى الماء. فصبَّ وانج لنج بعضًا منه في قدح. وبعد لحظة، فتح جرة كانت فوق طرف الموقد وتناول منها حوالي اثنتي عشرة وُرَيْقَة جافة من الشاي ونثرها على سطح الماء. فانفتحت عينَا الرجل المسن في شراهة، وبدأ يتذمر في الحال، قائلًا: «لماذا هذا الإسراف؟ إن شُرب الشاي لأشبه بأن تأكل الفضة.» ضحك وانج لنج ضحكة قصيرة، وأجابه بقوله: «كل واطمئن، فلن يتكرر هذا إلا اليوم فقط!» أمسك الشيخ العجوز بالقدح، وكان ينظر إلى الأوراق وهي تعتدل من تقوُّسها وتنتشر على سطح الماء؛ إذ لا يطيق أن يشرب تلك المادة النفيسة. فقال وانج لنج: «إنه سيبرد.» قال الرجل العجوز: «حقًّا … حقًّا.» وبدأ يشرب الشاي الساخن، ولكنه لم ينسَ كلية رؤية وانج لنج، وهو يصب الماء من القِدر في طست خشبي عميق. وفجأة قال: «إن هذا ليكفي لأن يروي زرعةً حتى تثمر.» فقال وانج لنج في صوت خفيض: «لم أغسل جسمي كله منذ أول السنة الجديدة.» وأسرع يحمل الطست إلى حجرته، ولم يقفل الباب تمامًا. فدخل الرجل العجوز الحجرة الوسطى وأدخل فمه في فتحة الباب وصرخ: «ليس من الحكمة أن نبدأ مع السيدة هكذا .. شاي في الصباح وماء وكل هذا الاغتسال!» فصاح وانج لنج: «إنه اليوم فقط.» ثم أردف قائلًا: «عندما أنتهي من الاستحمام، سأسكب الماء في الحقل، وعندئذٍ لا يضيع كله سُدًى.» سكت الرجل العجوز عندما سمع هذا. وحلَّ وانج لنج حزامه، وخلع ملابسه. وفي حزمة الضوء المربعة الآتية من الثقب، عَصَرَ فوطة صغيرة كانت في الماء الذي يتصاعد منه البخار، ودعك جسمه الأسمر الضئيل. ثم اتجه إلى صندوق كانت تملكه والدته، وأخرج منه حُلَّةً جديدة زرقاء، من نسيج القطن. وربما أحس في هذا اليوم ببعض البرودة وهو لا يرتدي ملابس الشتاء الثقيلة بَيْد أنه فجأة لم يشتهِ أن تراه المرأة لأول مرة في ملابسه القذرة المهلهلة. أما فيما بعد فعليها أن تغسلها وترتقها، لكن هذا لن يتم منذ أول يوم. وارتدى فوق السترة والسروال الزرقاوين القطنيين، ثوبه الطويل الوحيد الذي يلبسه في أيام الأعياد فقط، وكلها عشرة أيام أو نحو ذلك، في مجموعها … وبأصابع سريعة، حلَّ ضفيرته الطويلة المتدلية على ظهره، وأخذ مشطًا خشبيًّا من درج النضد الصغير، وشرع يمشِّط شَعره. اقترب والده ثانيةً، ووضع فمه في شق الباب، وتبرم قائلًا: «ألا آكل اليوم؟ في سني هذه تكون عظامي ماءً في الصباح إلى أن تُعطَى الطعام.» فقال وانج لنج وهو يضفِّر شَعره بسرعة ونعومة: «ها أنا ذا آتٍ.» وبعد لحظة خلع ثوبه الطويل ولف ضفيرته حول رأسه، وخرج يحمل طست الماء. لقد نسي طعام الإفطار كل النسيان. سيضع قليلًا من الماء على دقيق الذرة، ويقلبه، ويعطيه أباه، أما هو نفسه فلن يستطيع أن يأكل شيئًا. ملأ دلوًا من البئر القريبة من بابه، وصب منها قليلًا من الماء في القِدر. وسرعان ما غلى الماء، فقلَّب فيه الدقيق، وأخذه إلى الشيخ العجوز. ذهب وانج لنج إلى حجرته، وارتدى ثوبه الطويل الأزرق ثانية، وأنزل ضفيرة شعره. ربما كان من الأوفق أن يحلق من جديد. ولم تكد الشمس أن تشرق بعد. يمكنه أن يذهب إلى شارع الحلاقين، ويحلق قبل أن يذهب إلى البيت الذي تنتظره السيدة فيه؛ فلو كان لديه نقود لفعل هذا. أخرج الفتى من حزامه كيسًا صغيرًا من المنسوج الرمادي اللون، وعَدَّ ما فيه من نقود. كان به ستة ريالات فضية وحفنة من النقود البرنزية. ولم يكن قد أخبر والده، حتى هذه اللحظة، أنه قد دعا بعض الأصدقاء إلى العَشاء في تلك الليلة. دعا ابن عمه، وعمه، كما دعا ثلاثة من الجيران الفلاحين. وأزمع أن يُحضر معه من المدينة في هذا الصباح بعضًا من لحم الخنزير، وسمكة صغيرة من أسماك البرك، وحفنة من الكستناء. كذلك يمكنه أن يشتري بعضًا من أعواد الغاب من الجنوب، وقليلًا من اللحم البقري ليُطبَخ مع الكرنب الذي زرعه في حديقته. ولكنه لن يشتري هذا إلا إذا تبقى معه نقود بعد شراء زيت الفول وصلصة فول «الصويا». وإذا حلق رأسه، فربما لا يستطيع شراء اللحم البقري … ثم قرر فجأة أن يحلق رأسه. ترك وانج لنج والده العجوز، وخرج في الصباح الباكر وقد نثرت الشمس أشعتها المتألقة فوق الندى وفوق عيدان القمح والشعير النامية. فانحنى وانج لنج ليفحص السنابل المتبرعمة، فإذا هي خاوية لم تمتلئ بالحبوب بعد؛ إنها تفتقر إلى المطر. فنظر إلى السماء فرأى المطر أسود في السحب. فأزمع أن يشتري عودًا من البخور ويضعه في المعبد الصغير من أجل رب الأرض؛ ففي مثل هذا اليوم حَرِيٌّ به أن يفعل هذا. أخذ وانج لنج يضرب في طريقه الضيق وسط الحقول. وكان سور المدينة الرمادية يبدو مرتفعًا على مسافة قريبة. سيمر من باب السور خلفه البيت العظيم الذي نشأت فيه المرأة أمَةً منذ طفولتها. إنه بيت هوانج. وكان هناك مَن يقولون: «من الأوفق أن يعيش المرءُ أعزبَ من أن يتزوج امرأة كانت يومًا أمَةً في بيت عظيم.» فعندما سأل والده: «ألن أتزوج قط؟» أجاب والده: «لمَّا كان الزواج يتكلف كثيرًا في هذه الأيام، وتتطلب السيدات خواتم ذهبية وملابس حريرية قبل أن يتزوجن، فلا يبقى سوى الإماء ليقتنيهن الفقراء.» ذهب والده عندئذٍ إلى بيت هوانج، وسأل عمَّا إذا كان عندهم أمَة لابنه. قال: «نريد أمَةً، ليست صغيرة جدًّا، وفوق كل شيء، لا تكون جميلة.» تألم وانج لنج عندما عَلِمَ أنها لن تكون جميلة. فلما لاحظ والده وجهه الغاضب، صاح فيه قائلًا: «وماذا نفعل بامرأة جميلة؟ يجب أن نقتني امرأة ترعى شئون البيت وتعمل في الحقل. إننا فلاحون.» كان وانج لنج يعلم أن ما يقوله والده هو الصواب. فقال أخيرًا: «على الأقل لا يكون وجهها مشوَّهًا بالثآليل (البثور)، ولا تكون شفتها العليا مشقوقة.» فأجاب والده: «سنرى ما سنأخذها.» اشترى وانج لنج ووالده خاتمين من الفضة المطلية بالذهب، وقرطًا من الفضة أيضًا. فأخذها والده إلى صاحبة المرأة إعلانًا للخطبة. لم يعرف وانج لنج شيئًا عن المرأة التي ستكون زوجته، سوى أنه سيذهب في هذا اليوم لإحضارها. سار وانج لنج في ظلام باب المدينة البارد، وكان السقاءون خارج المدينة يدخلون ويخرجون منها طول اليوم، ورشاش الماء يتناثر من النواجيد إلى الأحجار. ودائمًا ما يكون الجو رطبًا وباردًا في نفق الباب أسفل السور الغليظ المصنوع من الآجُرِّ والطين. وبالرغم من أن موسم الخوخ لم يكن قد حل بعد، كانت هناك بطول السور سلال من الخوخ الأخضر الجاف الصغير. فقال وانج لنج لنفسه: «إذا كانت تحب الخوخ، اشتريت لها حفنة منه ونحن عائدان.» وكان من العسير عليه أن يصدق أنه سيخرج عائدًا من الباب ومن خلفه تمشي امرأة. اتجه الفتى إلى اليمين داخل الباب، وبعد لحظة كان في شارع الحلاقين ولم يكن قد جاء به مبكرًا إلا عدد قليل. كان الحلاقون واقفين في صف طويل على امتداد الطريق، خلف حواجز صغيرة. فتقدَّم وانج لنج إلى أبعد حلاق، وجلس على الكرسي. فأقبل إليه الحلاق في الحال، وأخذ يصب الماء الساخن بسرعة في طاسة. وسأله الحلاق بقوله: هل أحلق كل شيء؟ فأجاب وانج لنج: «كما تريد .. كما تريد.» ثم سمح للحلاق بأن يضع الصابون، ويدعك، ويحلق له. وبينما كان يحلق الجزء العلوي من جبهة وانج لنج، قال: «لن يكون منظر هذا الفلاح رديئًا إذا قص شعره. فالمتبع في هذه الأيام أن تُقَص الضفيرة.» اقترب الحلاق بالموسى من دائرة الشَّعر فوق رأس وانج لنج، فصاح هذا يقول: «لا أستطيع قصها دون إذن والدي.» فضحك الحلاق وترك بقعة الشعر المستديرة. بعد أن انتهى وانج لنج من الحلاقة ودفع للحلاق حسابه انتابته لحظة من الفزع. فما أكثر ما دفع! ولكنه ما إن سار في الشارع ثانية حتى أحس بالهواء عليلًا يداعب بشرته المحلوقة، فقال لنفسه: «إنها مرة واحدة في حياتي.» ثم اتجه شطر السوق فاشترى رطلين من لحم الخنزير، وست أوقيات من اللحم البقري. وبعد أن اشترى كل شيء، حتى المربعات الطازجة من الفول المجمد في الجيلي فوق ورقته، اشترى زوجًا من عيدان البخور، ثم رجع في خجل شديد نحو منزل هوانج. ما إن صار في باب المنزل، حتى ملأ الرعبُ نفسَه. إذ لم يسبق له أن دخل منزلًا ضخمًا من قبل. وقف الشاب عند الباب مدة طويلة، ينظر إليه. كان مقفلًا، ويحرسه أسدان من الحجر، واحد على كل جانب. لم يكن هناك كائن غيرهما. أحس وانج لنج فجأة بالضعف، لأنه لم يأكل شيئًا في ذلك الصباح. فدخل مطعمًا صغيرًا في الطريق، ووضع بنسين على المائدة وجلس. فاقترب منه نادل (جرسون) صغير قذر يرتدي «مريلة» سوداء، فصاح فيه وانج لنج، قائلًا: «قدحان من عصيد الشعرية!» فلمَّا جاءاه التهمهما بشراهة. ثم سأله الصبي: «أتريد مزيدًا من الطعام؟» فهز وانج لنج رأسه، واعتدل في مجلسه، وأخذ يتطلع حواليه. لم يكن بها سوى نفر قليل من الرجال جالسين يأكلون ويشربون الشاي. لقد كان المكان كعبة الفقراء فبدا هو وسطهم أنيقًا نظيفًا على جانب من اليسر والرخاء. جلس وانج لنج حتى ارتفعت الشمس في كبد السماء. ووقف النادل الصبي إلى جانبه يتميز غيظًا، ثم قال أخيرًا في خشونة: «إذا لم تطلب شيئًا آخر فادفع أجر المقعد الذي تجلس عليه.» غضب وانج لنج، وهَمَّ بالنهوض لينصرف، لولا أنه عندما تذكر الذهاب إلى دار هوانج العظيمة ومطالبته إياهم بالمرأة تصبب العرق من جسمه كله. فقال للصبي: «أحضر لي شايًا.» وقبل أن يدير جسمه كان الشاي أمامه، والصبي يسأله في غلظة: «أين البنس؟» لم يجد وانج لنج مناصًا من أن يُخرج بنسًا آخر من حزامه. ثم شرب الشاي بسرعة، وخرج من الباب الجانبي إلى الطريق واستدار ببطء نحو الأبواب الضخمة. لما كان الوقت قد جاوز الظهر، في هذه المرة، فإن الأبواب كانت مفتوحة والبوَّاب واقفًا يتلكأ هناك، ينظف أسنانه من طعام الغداء بقطعة من الخشب. فلما أقبل وانج لنج، صاح فيه البواب بخشونة: «والآن، ماذا تريد؟» فأجاب وانج لنج في صعوبة بالغة، قائلًا: «أنا وانج لنج، المزارع.» فأجاب البواب الذي لم يتعود أن يعامل أحدًا بأدب، غير أصدقاء سيده وسيدته الأثرياء: «وماذا يكون وانج لنج المزارع؟» فقال وانج لنج هامسًا: «توجد هنا سيدة.» وبدا وجهه في ضوء الشمس مبللًا بالعرق. فقهقه البواب صائحًا: «إذن، فأنت هو! أخبروني أن أتوقع مجيء عريس اليوم. ولكني لم أعرفك والسلة في ذراعك.» فقال وانج لنج: «بها قليل من اللحم ليس غير.» وانتظر أن يرشده البواب إلى الداخل. بَيْد أن هذا لم يتحرك، ولما بدا له أن وانج لنج لم يفهم مرامه، قال: «إن قطعة فضية صغيرة لَمفتاحٌ طيب.» وأخيرًا أدرك وانج لنج أن الرجل يريد منه نقودًا. فقال: «أنا رجل فقير.» فقال البواب: «إذن فدعني أرى ما في حزامك.» وتمتم بكلام غير مفهوم عندما رأى وانج لنج يهز في يده اليسرى ما تبقى معه من النقود. كان بها قطعة فضية وأربعة عشر بنسًا من البرنز. فقال البواب: «سآخذ القطعة الفضية.» وسار عبر الباب يصيح بصوت مرتفع: «العريس .. العريس!» لم يسع وانج لنج إلا أن يتبعه حاملًا سلته لا ينظر يمينًا ولا شمالًا. وبوجهه المتوهج ورأسه المنتكس، راح يعبر الأبهاء الواحد تلو الآخر ورنات الضحك تبلغ أذنيه من كل حدب وصوب. وفجأة، بعد أن خُيِّل إليه أنه اجتاز مائة بهو، صمت البواب ودفعه إلى حجرة استقبال صغيرة. فوقف الفتى وحده بينما انطلق البواب إلى الداخل، ثم عاد بعد لحظة، يقول: «قالت السيدة العجوز، إنك لا بد أن تحضر أمامها.» تقدم وانج لنج إلى الأمام. ولكن البواب صاح يستوقفه باحتقار قائلًا: «لا يمكنك أن تقف أمام سيدة عظيمة وفي ذراعك سلة.» فقال وانج لنج: «حقًّا .. حقًّا.» ولكنه لم يجرؤ على أن يضع السلة على الأرض خشية أن يُسرَق منها شيء. فلاحظ البواب خوفه وصاح فيه بازدراء بالغ: «إننا، في منزل كهذا، نقدم مثل هذا اللحم إلى الكلاب!» وأمسك السلة ووضعها خلف الباب، ودفع وانج لنج أمامه إلى بهو لم تقع عينه على مثله في حياته. رأى سيدةً عجوزًا للغاية تجلس في وسط الحجرة وترتدي على جسمها الصغير الرقيق ثيابًا من «الساتين». جثا وانج لنج على ركبتيه، وطرق الأرض برأسه. فقالت السيدة للبواب: «أنهضه. هل أتى يطلب المرأة؟» فأجاب البواب: «نعم، أيتها السيدة العتيقة.» فنظرت إليه السيدة العجوز مليًّا، وقالت: «إذن فقد أتيت من أجل العبدة المسماة «أو-لان». أذكر أننا وعدنا بأن نزوجها لأحد الفلاحين، فهل أنت ذلك الفلاح؟» فأجاب وانج لنج: «نعم، إنني هو.» فقالت السيدة العجوز لإحدى الإماء بجوارها: «استدعي «أو-لان» بسرعة.» وفي لحظة عادت الأمَة تمسك بيد امرأة فارعة الطول، ترتدي سروالًا وسترة نظيفتين، من المنسوج القطني الأزرق. فنظر إليها وانج لنج مرةً واحدة، ثم أشاح بنظره بعيدًا. وكان قلبه يخفق. هذه هي امرأته. فقالت السيدة العجوز في تراخٍ: «تعالي إلى هنا يا عبدة. لقد جاء هذا الرجل يطلبك. فهل أنت مستعدة!» فأجابت المرأة ببطء: «مستعدة.» سمع وانج لنج صوتها لأول مرة، فنظر إلى ظهرها وهي واقفة أمامه. كان صوتها حلوًا بما فيه الكفاية. ليس عاليًا ولا ناعمًا، بل كان بسيطًا وغير فظ. وكان شعرها مُرتَّبًا، وسترتها نظيفة. ولكن خاب ظنه عندما رأى أن قدميها ليستا ملفوفتين. بعد ذلك قالت السيدة العجوز للبواب: «احمل صندوقها خارجًا حتى الباب، ودعهما ينصرفان.» ثم خاطبت وانج لنج، وقالت له: «قف بجانبها وأنا أتكلم.» فلما تقدم وانج لنج قالت له: «جاءت هذه المرأة إلى بيتنا وهي طفلة في العاشرة من عمرها. وعاشت عندنا حتى الآن إذ بلغت العشرين. كنت اشتريتها في إحدى سنوات القحط عندما جاء بها والدها من الجنوب لأنهما لم يجدَا ما يأكلانه. إنها غير جميلة، كما أنها ليست ماهرة، بل تفعل جيدًا ما تؤمر بفعله. وهي حسنة الطباع. خذها وانتفع بها على خير وجه. إنها أمَة طيبة رغم أنها بطيئة وحمقاء ولولا رغبتي في القيام بعمل صالح في المدة الباقية لي في هذه الحياة الدنيا بتزويد المعمورة بمزيد من النسل لاحتفظت بها لنفسي لما تمتاز به من مهارة فائقة في المطبخ. غير أنني أزوِّج عبداتي بمجرد أن يطلبهن أحد.» ثم قالت للمرأة: «أطيعيه، وأعطيه البنين، وبنين أكثر. أحضري إليَّ أول طفل لأراه.» فقالت المرأة: «سمعًا وطاعة، يا سيدتي العتيقة.» فقالت السيدة العجوز: «حسنًا، انصرفا!» فانحنى وانج لنج بسرعة، واستدار خارجًا، والمرأة تتبعه، وخلفه البواب يحمل الصندوق على كتفه. ثم أنزله في الحجرة التي كان وانج لنج قد ترك فيها سلته ثم اختفى دون أن ينطق بكلمة أخرى. استدار وانج لنج خلفه إلى المرأة، ونظر إليها لأول مرة. كان وجهُها مربعًا ينطق بالأمانة. وأنفُها قصيرًا عريضًا، وفمُها واسعًا. وعيناها صغيرتين لونهُما أسود معتم، يملؤهما شيء من الحزن. ورأى وانج لنج قرطه يتدلى من أذنيها، ذلك القرط المطلي بالذهب الذي كان قد اشتراه، وفي يديها الخاتمين اللذين قدمهما إليها. ثم استدار يسير في طريقه، فرحًا في دخيلة نفسه. لقد حصل على امرأته! فقال لها: «هاكِ هذا الصندوق، وهذه السلة.» انحنت المرأة دون أن تنبس ببنت شفة، وأمسكت بأحد طرفي الصندوق ووضعته على كتفها، ولكنها ناءت بحمله وهي تحاول النهوض. فلاحظ وانج لنج عليها ذلك، وقال فجأة: «سآخذ أنا الصندوق، ودونك السلة.» رفع وانج لنج الصندوق على ظهره دون تفكير في أنه يرتدي أحسن ثوب لديه. أما هي، فأمسكت بيد السلة. وأخذ وانج لنج يفكر في المائة بهو التي اجتازها، وفي الضحك الذي ترامى إلى سمعه ثم تمتم قائلًا: «ألا يوجد باب جانبي؟!» عندئذٍ قادته في الطريق عبر بهو صغير غير مستعمل، به باب عتيق مستدير، مرَّا منه إلى الشارع. نظر وانج لنج خلفه، مرة أو مرتين، ليراها. كانت تسير معه، كما لو كانت تسير في ذلك الطريق طول حياتها، لا يبدو في وجهها العريض ما يعبر عن شيء. ثم وقف الفتى عند باب السور، وبحث داخل حزامه عن البنسات الباقية معه، وأخرج بنسين اشترى بهما ست خوخات صغيرات خضراء، وقال: «خذي هذه وكليها.» فأخذتها في شراهة، وأمسكتها بيدها دون أن تنطق بكلمة. ولما نظر إليها ثانية، كانت تقضم خوخة. بَيْد أنها لما رأته ينظر إليها، أخفت الخوخة بيدها، وأبقت فمها ساكنًا لا يتحرك. وهكذا سارَا حتى وصلا إلى الحقل الغربي حيث يوجد معبد الأرض. وهو معبد منخفض، لا يعلو كله إلى أكثر من كتفَي الرجل. وقد بناه جد وانج لنج من الآجُرِّ الرمادي، وسقَّفه بالقرميد. كان بداخل المعبد تمثالان صغيران وقوران، صُنِعَا من تربة الحقول المحيطة بالمعبد، وَهُمَا لرب الأرض نفسه وزوجته. يرتديان ملابس من الورق الأحمر والمذهب. وكان والد وانج لنج، يشتري في كل عام بعض فروخ من الورق الأحمر، يقصها ويلصقها بعناية لتكون ثوبَين جديدَين لرب الأرض وزوجته. وفي كل عام كان المطر والثلج يهطل داخل المعبد، وتسطع شمس الصيف بأشعتها داخل المعبد، فتُتلِف الثوبَين. وكان الثوبان لا يزالان وقتئذٍ جديدَين. فأخذ وانج لنج السلة من ذراع السيدة وبحث بعناية عن عودَي البخور أسفل لحم الخنزير، فغرسهما جنبًا إلى جنب في رماد عيدان البخور الأخرى التي كانت هناك، إذ كانت جميع المنطقة المحيطة تعبد هذين التمثالين الصغيرين. ثم أشعل لهبًا من حجر القداحة وقطعة الحديد، وأوقد عودَي البخور. ووقف الرجل وامرأته معًا أمام ربَّي الحقول، في سكون تام، إلى أن احترق عودَا البخور وتحوَّلَا إلى رماد. ثم حمل وانج لنج الصندوق، وسار مع المرأة إلى المنزل. كان الشيخ العجوز واقفًا عند باب البيت ليودع آخر أشعة الشمس في غروبها. لم يكن في مقدوره أن يرى المرأة، ولكنه صاح قائلًا: «تلك السحابة المتعلقة على القرن الأيسر للقمر الجديد تبشر بالمطر.» وما إن أبصر وانج لنج يتناول السلة من المرأة حتى صاح ثانية: «وهل أنفقت نقودك كلها؟» وضع وانج لنج السلة على المائدة، وقال: «سيكون عندنا ضيوف في هذه الليلة.» ثم حمل الصندوق إلى الحجرة التي ينام فيها، ووضعه بجانب صندوق ملابسه، وحمل السلة إلى المطبخ، وتبعته المرأة إلى هناك ثم أخرج الطعام من السلة، وقال لها: «هنا لحم خنزير، ولحم بقري، وسمك. سيكون عدد الآكلين سبعة. أتستطيعين إعداد الطعام؟» فأجابته بصوتها البسيط: «كنتُ أمَة مطبخ منذ أن ذهبت إلى بيت هوانج. وكان هناك لحم في كل وجبة.» فأومأ وانج لنج برأسه وتركها. ولم يرها بعد ذلك إلا عندما حضر الضيوف، عمه وابن عمه، ومزارعان من القرية، وجاره تشنج. وكان هذا رجلًا صغيرًا هادئًا يعزف عن الكلام إلا إذا لزم الأمر. وبعد أن جلسوا في الحجرة الوسطى، ذهب وانج لنج إلى المطبخ ليخبر المرأة بأن تُقدم الطعام. ثم اغتبط عندما قالت له: «سأناولك الأطباق، وأنت تضعها على المائدة. لا أحب أن أخرج أمام الرجال.» شعر وانج لنج بزهو بالغ، إذ لم تَخَف امرأته من أن تظهر أمامه، ولكنها لا تظهر أمام الرجال الآخرين. فأخذ الأطباق ووضعها على المائدة في الحجرة الوسطى، ورجا وانج لنج ضيوفه أن يأكلوا. فأكلوا بشهية من الطعام الجيد. وامتدح جميعُهم الطهو. وكان وانج لنج يجيبهم في كل مرة بقوله: «إنه طعام متواضع، ورديء الإعداد.» بَيْد أنه كان مسرورًا في دخيلة نفسه من جودة إعداد الأطباق. لأن المرأة كانت بمهارتها قد استخلصت كل ما في اللحم من مذاق، حتى إن وانج لنج نفسه لم يسبق له أن ذاق طعامًا مثل هذه الأطباق، على موائد أصدقائه. بعد أن انتهى الضيوف من تناول الشاي، ومن مزاحهم، في تلك الليلة، وانصرف آخر فرد منهم، دخل وانج لنج المطبخ، فإذا بالمرأة نائمة خلف الموقد على القش بجانب الثور. فأخذها من يدها وقادها إلى الحجرة التي استحم فيها في صبيحة ذلك اليوم. وأضاء شمعة حمراء، ووضعها فوق النضد، فانزوت المرأة خلف ركن الستارة، وبدأت تستعد للنوم.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/2/
الباب الثاني
أصبح الصباح التالي، فبقي وانج لنج راقدًا على ظهره فوق السرير، ينظر إلى المرأة. ولما علا صوت سعال الشيخ الهَرِم عند الفجر، قال لها: «خذي قدحًا من الماء الساخن إلى والدي، لأجل رئتيه.» فسألته: «وهل أضع فيه أوراق الشاي؟» أمضَّ هذا السؤال وانج لنج. كان بوده أن يقول لها: «لا بد من أوراق الشاي طبعًا أم تراك تحسبيننا شحاذين؟» كان بوده أن تعتقد المرأة أنهم يشربون أوراق الشاي دائمًا. غير أنه كان يعلم أن والده سيغضب إذا قدمت له المرأة شايًا، بدلًا من الماء الصرف، في أول يوم. فأجاب بعدم اكتراث: «شاي؟ لا، لا؛ إنه يزيد من حدة السعال.» ظل وانج لنج راقدًا في فراشه، بينما أوقدت المرأة النار في المطبخ، وسخنت الماء. وجال بفكره فجأة ما إذا كانت قد أحبته. فُتِحَ الباب ودخلت المرأة في سكونها المعتاد، تمسك بكلتا يديها قدحًا يتصاعد منه البخار. فجلس في فراشه وتناول منها القدح. كان يطفو على سطح الماء بعض أوراق الشاي. فنظر إليها بسرعة، فخافت وقالت: «لم أقدم شايًا إلى الرجل العجوز .. فعلتُ كما قلتَ لي .. ولكني وضعت لك.» لاحظ وانج لنج خوفها منه، فأجابها قبل أن تنتهي من كلامها: «لقد أعجبني .. لقد أعجبني.» وشرع يرتشف الشاي في جرعات بصوت عالٍ، دلالة على السرور، وقال في قرارة نفسه: «إن زوجتي هذه لتحبني حبًّا جمًّا.» خُيِّلَ إليه في الشهور التالية أنه لا يعمل شيئًا غير النظر إلى امرأته. والحقيقة أنه اشتغل كما كان يشتغل من قبل. بَيْد أن العمل كان نوعًا من الترف بالنسبة له لأنه متى عاد إلى بيته، فإنه يجد الطعام مُعدًّا للأكل، والتراب قد أُزِيل من فوق المائدة، وقد وُضِعَت عليها الأطباق وأعواد تناول الطعام، في نظام. كان وانج لنج إذا ما عاد يجد أرض الحجرة الطينية مكنوسة وكومة الوقود كاملة، ذلك أن المرأة كانت تعود في الظهر ومعها من الحشائش وأوراق الأشجار ما يكفي لطهي الطعام. أما بعد الظهر فكانت تحمل فأسًا ومقطفًا، وتسير في الطريق الرئيسي المؤدي إلى المدينة، تجمع براز البغال والحمير والخيول، وتحمله إلى الدار لأجل الحقول. كانت تقوم بهذه الأعمال دون كلمة واحدة، وبغير أن يأمرها أحد بعملها. كانت تُصْلِح ملابس الأسرة. وتغسل الفراش وتنشره ليجف. وفي كل يوم كانت تعمل شيئًا، حتى صارت الحجرات الثلاث نظيفة جميلة المنظر، وتحسَّن سعال الرجل العجوز. فكان يجلس في الشمس، يغلبه النعاس دائمًا، دافئًا مسرورًا. بَيْد أن هذه المرأة لم تكن تتكلم إلا الكلام المختصر الضروري للحياة. وكان وانج لنج، أحيانًا يفكر في أمرها وهو يشتغل في الحقول. كيف كانت حياتها، تلك الحياة التي لم تقاسمه إياها؟ ثم يخجل من فضوله وإعجابه بها. كانت أخيرًا، امرأة ليس غير. لم يكن في الحجرات الثلاث، ووجبتين من الطعام ما يشغل امرأة طول اليوم. لا سيما وأنها امرأة كانت عبدة في بيت عظيم، تشتغل من الفجر حتى منتصف الليل. وذات يوم، بينما كان وانج لنج يُفَلِّح القمح النامي، حتى يؤلمه ظهره من الإعياء، كان ظلها يقع على الأرض وهناك كانت تقف حاملة فأسًا على كتفها. كانت تقول: «لا عمل في البيت حتى يخيم الظلام.» وتعمل في الأرض عن يساره، وتستمر في العزق. عندما غربت الشمس، عدل ظهره ببطء، ونظر إلى المرأة، فإذا وجهها مبلل بالعرق وملوث بالتراب. كان لونها أسمر بلون الأرض نفسها. وبطريقتها البسيطة المعتادة، قالت: «إنني حُبلَى.» وقف وانج لنج ساكنًا. لقد انتفخ قلبه فخرًا، فخطف الفأس من يدها، قائلًا: «اتركي هذه الآن. لقد انتهى النهار. سنخبر الرجل العجوز بهذه البُشرى.» سار الرجل وامرأته عائدين إلى المنزل، وقد تأخرت خلفه بست خطوات، كما كان يليق بالسيدات. وكان الشيخ الهَرِم واقفًا عند الباب جوعان يريد طعام العَشاء، لم يُطق صبرًا، فصاح يقول: «لقد بلغت من الكِبَر عتيًّا ولا يمكنني الانتظار بدون طعام إلى هذا الوقت!» أما وانج لنج فأنبأه بما أخبرته به زوجته، فقهقه الرجل المسن ضاحكًا وصاح في زوجة ابنه وهي تدخل قائلًا: «ها .. ها .. ها .. إن الحصاد لَقريبٌ إذن!»
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/3/
الباب الثالث
لما اقترب موعد ولادة الطفل، قال وانج لنج لزوجته: «يجب أن نأتي بمَن يساعدنا في هذا الوقت .. أية امرأة.» بَيْد أن المرأة هزت رأسها. كانت ترفع الأطباق من فوق المائدة بعد الانتهاء من طعام العَشاء .. فذهب الرجل العجوز إلى مخدعه، وبقي الاثنان وحدهما في الليل. فسألها في دهشة: «ألا توجد امرأة؟ كانت مع والدتي سيدة من القرية. ألا توجد أمَة عجوز في البيت العظيم تستطيع المجيء؟» كانت هذه أول مرة يذكر فيها وانج لنج البيت التي جاءت منه فاستدارت إليه بصورة لم يسبق له أن رآها وقد ارتسمت على وجهها أمارات الغضب الكئيب. وصاحت فيه: «لا يوجد أحد في ذلك البيت!» أنزل وانج لنج غليونه، الذي كان قد ملأه، وحملق فيها. فقال مدهوشًا: «لديَّ فكرة!» ولكنها لم تنبس ببنت شفة. فاستأنف حديثه، يقول: «نحن، الرجلين، لا ندري شيئًا في مثل هذه الأمور. فإذا جاءت إحدى النساء من المنزل العظيم …» حدجته بنظرها، وبعد لحظة من النظر إليه، قالت: «عندما أعود إلى ذلك البيت، ستكون عودتي ومعي ابني بين ذراعيَّ. سألبسه معطفًا أحمر، وسروالًا أحمر مُزيَّنًا برسوم الأزهار، وأضع على رأسه قلنسوة موشاة من الأمام برسم بوذا مذهبًا، ومعطفًا جديدًا من الساتين الأسود، وسأتوجه إلى المطبخ الذي قضيت فيه حياتي. وسأذهب إلى البهو العظيم حيث تجلس السيدة العجوز، وسأريهم جميعًا نفسي وابني.» لم يسمع وانج لنج منها مثل هذه الألفاظ كلها، من قبل. فما أغربها! كان يظن أنها لن تفكر في الطفل قط. إذ كانت دائبة على عملها في هدوء. وأخيرًا قال: «أظنك ستحتاجين إلى شيء من النقود.» فقالت بخوف: «هل لك أن تعطيني ثلاث قطع فضية. إنها مبلغ عظيم. ولكني حسبت كل شيء بدقة، ولن أبذِّر منها بنسًا واحدًا.» تحسَّس وانج لنج حزامه. كان قد باع في اليوم السابق حِملًا ونصف حمل من الغاب، قطعه من البركة الموجودة بالحقل الغربي. فوضع الريالات الثلاثة على المائدة. وبعد تردد قليل أضاف ريالًا رابعًا. وقال وهو يشعل غليونه: «يحسن أن تأخذي هذا أيضًا. قد تصنعين معطفه، بقطعة صغيرة من الحرير. وعلى أية حال، إنه الولد البكريُّ.» لم تأخذ النقود في الحال، بل وقفت تنظر إليها، ثم قالت في شبه همس: «هذه أول مرة أمسك فيها بيدي نقودًا فضية.» وفجأة أخذت النقود وأسرعت إلى حجرة النوم. جلس وانج لنج يدخن، ويفكر في النقود الفضية وهي موضوعة على المائدة. ففي كل مرة قبل ذلك، كانت النقود التي تخرج من يده ليأخذها أي إنسان، أشبه بأخذ قطعة من حياته وإعطائها شخصًا آخر بإهمال. أما الآن، فكانت هذه أول مرة تخرج فيها النقود من يده دون أن يتألم لها. لأنه رأى النقود الفضية تتحول إلى ملابس فوق جسد ابنه. وأن امرأته الغريبة هذه، التي كانت تشتغل في صمت، والتي يبدو أنها لا ترى شيئًا، قد رأت أن يُكسى الطفل هكذا. لن يكون معها أحد عندما تحين ساعة الولادة وقد أتت تلك الساعة ذات ليلة، في أولها والشمس ما كادت تغرب. كانت تشتغل إلى جانبه في حقل الحصاد. كانا يقطعان الحزم طول النهار. وبدأت تقطع ببطء متزايد، بينما مضى الظهر، وجاء بعده العصر، ثم المساء، فاستدار لينظر إليها في قلق. فوقفت ورفعت بصرها إلى فوق. قالت: «لقد أتت ساعة المخاض. سأذهب إلى المنزل. لا تدخل الحجرة حتى أناديك.» سارت الزوجة وسط الحقول إلى المنزل، فوقف زوجها يلاحظها. كان ظلام الخريف السريع يخيم على الكون، وسرعان ما يتبعها إلى الدار. عندما بلغ وانج لنج البيت وجد العَشاء ساخنًا على المائدة، ووجد والده العجوز يتعشى. لقد وقفت تُعد طعامهم. فذهب إلى باب حجرتهما وناداها، متوقعًا أن ترد عليه، ولكنها لم تفعل. رفع الشيخ العجوز بصره عن الطبق، ليقول: «تناول الطعام، وإلا برد كل شيء، لا تشغل بالك بعد .. أمامك وقت طويل.» ثم قال ثانية، كأنما تذكَّر شيئًا من فوره: «قد أكون غدًا في مثل هذه الساعة جدًّا لطفل ذَكر!» ثم جلس هادئًا يضحك لمدة طويلة في ظلام الحجرة. أما وانج لنج فوقف ينصت عند باب حجرتهما، وإذ تعذر عليه سماع أي شيء، وكان على وشك اقتحام الحجرة، سمع صرخة حادة، فنسي كل شيء. نسي وانج لنج امرأته وصاح متسائلًا: «أهو رجل؟» فردَّ عليه صوتها ضعيفًا: «رجل.» ذهب وانج لنج إلى المائدة حيث جلس. وكان الطعام قد برد منذ مدة طويلة، والرجل الهَرِم نائمًا على المقعد. بَيْد أن كل هذا حدث في سرعة. فهز كتف الشيخ العجوز. صاح وانج لنج ظافرًا، يقول: «إنه طفل رجل! إنك جد وأنا أب!» استيقظ الرجل المسن فجأة وبدأ يضحك كما كان يضحك قبل أن ينام. أخذ وانج لنج طبق الأرز البارد وشرع يأكل. وبعد أن تناول منه كفايته، ذهب إلى الباب ثانية، فنادته ليدخل. كانت الشمعة الحمراء موقدة، وهي راقدة فوق السرير عليها الأغطية مرتَّبة، ويرقد إلى جانبها ابنه ملفوفًا في سروال والده القديم، كما هي العادة في تلك المنطقة. ذهب إلى الفراش، فوقف صامتًا برهة لا يفوه بكلمة. ثم انحنى على الطفل وتفرَّس فيه. لقد كفَّ عن البكاء، ورقد مغمضًا عينيه تمامًا. نظر وانج لنج إلى زوجته، فنظرت إليه. لقد اندفع قلبه نحوهما، فقال وهو لا يدري ما يقول أكثر من ذلك: «سأذهب غدًا إلى المدينة وأشتري رطلًا من السكر الأحمر وأخلطه بالماء الساخن كي تشربيه. ويجب أن نشتري أيضًا ملء سلة من البيض، ونصبغه باللون الأحمر، ونوزعه في القرية، حتى يعرف كل فرد أن لي ابنًا!»
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/4/
الباب الرابع
نهضت المرأة في اليوم التالي لمولد الطفل، كعادتها. فأعدت الطعام للأسرة، ولكنها لم تذهب إلى حقول الحصاد مع وانج لنج. وعلى ذلك بقي يشتغل وحده إلى ما بعد وقت الظهيرة. ثم ارتدى ثوبه الأزرق واتجه شطر المدينة، فذهب إلى السوق واشترى خمسين بيضة، واشترى ورقًا أحمر ليغليه في الماء معها كي يصبغ البيض أحمرَ. ثم ذهب إلى حانوت الحلويات واشترى رطلًا ونيفًا من السكر الأحمر، ورأى بائع السكر وهو يضع شريطًا من الورق الأحمر تحت الخيط الذي يلف به السكر، ويبتسم وهو يفعل هذا، قائلًا: «ربما كان هذا السكر لأم طفل حديث الولادة؟» فقال وانج لنج فخورًا: «ابن بكريٌّ.» فأجاب الرجل: «أتمنى لكم حظًّا سعيدًا.» وخُيِّل إلى وانج لنج أنه أسعد الناس حظًّا. بعد ذلك عرج وانج لنج على حانوت صانع الشمع، الذي كان يبيع البخور أيضًا، واشترى منه أربعةَ عيدان من البخور؛ عودًا لكل فرد من أفراد المنزل، وانطلق بها إلى المعبد لإلهَي الأرض. قبل أن يعلم أحد بما حدث، كانت المرأة تعمل ثانية في الحقول بجانب زوجها. وانتهى الحصاد، ووُضِعَ الحَب في المخزن. ثم جاء وقت زراعة الحقول من جديد بقمح الشتاء. كانت تعمل طول النهار بينما يرقد الطفل نائمًا على الأرض فوق لحاف قديم ممزَّق. جاء الشتاء فكانوا على استعداد له. وامتلأت جميع الحجرات بجرار كبيرة من حصير الغاب مملوءة بالقمح والأرز. ولسوف يباع كثير من هذه الحبوب عندما ينزل الثلج على الأرض، أو في عيد رأس السنة، إذ عندئذٍ يدفع أهل المدينة ثمنًا عاليًا للأطعمة. كان عمه يبيع حبوبه دائمًا قبل أن تنضج. كان أحيانًا يبيع الحبوب وهي ما تزال قائمة في حقولها، وليوفر على نفسه مشقة حصادها. أما زوجة عمه فكانت امرأة غبية، بدينة وكسلانة، تطلب باستمرار فاخر الطعام، وتشتري الأحذية الجديدة من المدينة. أما زوج وانج لنج فكانت تصنع بنفسها جميع الأحذية اللازمة لزوجها وَلِحَمِيها وللطفل ولها. وكان في بيت وانج لنج فخذ خنزير اشتراها من جاره تشنج. كانت فخذًا كبيرة ملَّحتها أو-لان تمامًا وعلَّقتها لتجف. كانوا يمكثون في البيت وسط كل هذا الرخاء، عندما تهب رياح الشتاء من الصحراء متجهة نحو الناحية الشمالية الشرقية لبيتهم — وكانت رياحًا شديدة قارسة البرودة. وسرعان ما كان في مقدور الطفل أن يجلس وحده. وكان كل فرد يحسد وانج لنج على ذلك الابن ذي الوجه الهلالي الكبير البارز عظام الوجنتين، كوجه أمه. تَحُول هذه الريح الجافة دون نمو القمح الموجود بالأرض، وكان وانج لنج ينتظر الأمطار في شوق بالغ. وفجأة هطلت الأمطار ذات يوم هادئ غائم، وقد مكثوا جميعًا في البيت، يراقبون الأمطار تسقط مستقيمة وتنزل في الحقول. أما الطفل فدهش ومد يده ليمسك خيوط المطر الفضية وهي تسقط. وكان يضحك وأهله يضحكون معه. أما في الحقول فنبتت بذور القمح، وظهر مجموعها الخضري ناضرًا فوق التربة البليلة ذات اللون البني. في مثل ذلك الوقت يكثر التزاور، إذ يشعر كل فلاح بأن السماء تقوم مرةً بالعمل في الحقول. فكانوا يجتمعون في الصباح في هذا البيت وذاك، يشربون الشاي. غير أن وانج لنج وزوجته لم يكونا كثيرَا التزاور. لم يكن هناك بيت في تلك القرية ذات المنازل القليلة المتناثرة، ممتلئ بالدفء والخير كمنزلهما. وكان وانج لنج يحس بأنه إذا اتسعت صداقته مع غيره، اقترضوا منه. اقترب عيد رأس السنة الجديدة، ومَن ذا الذي كانت لديه جميع النقود التي يحتاجها للملابس الجديدة وطعام ولائم العيد؟! .. وعلى هذا كان وانج لنج يبقى في منزله. فبينما تُصلح زوجته الثياب وتخيطها، كان هو يُصلح شوكاته الخيزرانية التي يجمع بها الحشائش والأعشاب. فيأخذ خيطًا جديدًا يجدله من القنب الذي زرعه بنفسه، ويلفه على الشوكة موضع خيط قديم يكون باليًا. أو يستبدل قطعة مكسورة من الخيزران بأخرى جديدة. ما كان يصنعه وانج لنج لأدوات الزراعة، كانت تصنعه زوجته أو-لان لأدوات البيت. حصل وانج لنج في هذه السنة الطيبة على حفنة من الريالات الفضية زيادة على ما كانوا يحتاجون إليه. وكان يخاف أن يحتفظ بها في حزامه أو يخبر بها أي فرد سوى زوجته. فأخذَا يُعمِلان فكرَهما في موضع يخبِّئان فيه تلك النقود الفضية. وأخيرًا حفرت المرأة حفرة في الجدار الداخلي لحجرتهما خلف السرير، فأخفى فيه وانج لنج نقوده، وسدَّت المرأة الحفرة بعناية بقطعة من الطين، فكأنما لا يوجد بالحائط شيء. بَيْد أن ذلك الشيء جعل كلًّا منهما يحس في سِرِّه بالغنى.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/5/
الباب الخامس
أقبل عيد رأس السنة فكانت الإعدادات قائمة على قدم وساق في كل بيت. فذهب وانج لنج إلى المدينة واشترى من صانع الشمع فروخًا وشرائط من الورق الأحمر لصقها على باب منزله وعلى أدواته الزراعية، لتجلب له الحظ السعيد. واشترى ورقًا أحمر ليصنع منه ملابس لربَّي الأرض. وهذه كان يصنعها والده العجوز بمهارة فائقة. فأخذها وانج لنج وألبسها الربَّين الصغيرين في معبد الأرض. وأحرق أمامهما قليلًا من البخور، احتفاءً بالسنة الجديدة. بعد ذلك ذهب وانج لنج إلى المدينة ثانيةً واشترى بعضًا من دهن الخنزير ومن السكر الأبيض، فأخذتهما امرأته ومزجتهما، وصنعت منهما كعكات فاخرة لعيد السنة الجديدة، أطلق عليها القوم اسم «كعكات القمر»، كالتي تؤكل في بيت هوانج. عندما وُضِعَت الكعكات على المائدة، استعدادًا لإدخالها الفرن، كان وانج لنج على استعداد لأن ينفجر زهوًا. فما من امرأة غيرها في القرية كلها تستطيع أن تعمل ما عملته امرأته .. تعمل كعكات كالتي لا يأكلها سوى الأغنياء في الولائم. فقال: «من المؤسف أن تؤكل هذه!» وقالت المرأة ويداها مغبرتان بالدقيق الناعم، وملبَّكتان بالدهن: «لسنا أغنياء لدرجة أن نأكل السكر الأبيض ودهن الخنزير. إنني أصنع هذه للسيدة العجوز صاحبة البيت العظيم. سأحمل إليها الطفل في ثاني يوم لعيد السنة الجديدة، وأقدِّم لها هذه الكعكات كهدية.» صار كل شيء غير ذي بال في عيد السنة الجديدة، ما عدا هذه الزيارة. فعندما ارتدى وانج لنج سترته القطنية السوداء الجديدة التي صنعتها له أو-لان، قال في نفسه: «سألبسها عندما آخذهما إلى باب البيت العظيم.» وفي اليوم الثاني من السنة الجديدة، وهو اليوم الذي تتزاور فيه السيدات، بعد أن طعِمَ الرجال وشربوا جيدًا في اليوم السابق، استيقظ وانج لنج وزوجته ساعة أن لمع الفجر في أفق السماء، فألبست المرأة الطفل معطفه الأحمر، وحذاءه ذا وجه النمر الذي صنعته له. ثم وضعته على السرير. وارتدى وانج لنج ملابسه بسرعة بينما مشطت زوجته شعرها الفاحم الطويل، وربطته من أسفل بدبوس نحاسي مطلي بالفضة كان قد اشتراه لها. ولبست معطفها الجديد الأسود … حمل الرجلُ الطفلَ، وحملت المرأة الكعكات في سلة، ثم خرجَا إلى الطريق يسيران وسط الحقول. بعد ذلك نال وانج لنج مكافأته عند باب دار هوانج العظيمة. فعندما أقبل البواب بعد أن نادته المرأة، فتح عينيه وتطلع إلى مَن أمامه، وصاح: «هذا هو الفلاح وانج. ثلاثٌ هذه المرة بدلًا من واحدة! لا حاجة بالمرء أن يتمنى لك حظًّا سعيدًا هذا العام أكثر مما لقيته في العام الماضي. تفضل بالجلوس في غرفتي الحقيرة ريثما أوصل زوجتك وابنك إلى الداخل.» خُيِّل إلى وانج لنج أنه مضى وقت طويل قبل أن يعود البواب مع المرأة والطفل. وكان السرور باديًا على وجه المرأة، فتلهف وانج لنج إلى سماع ما حدث. بعد أن أسرع مع أو-لان بعيدًا، قال لها: «خيرًا؟» فاقتربت منه قليلًا وقالت هامسة: «أعتقد، إذا سألني سائل، أن الحالة المالية لذلك البيت قد تدهورت في هذه السنة.» فسألها وانج لنج: «ماذا تقصدين؟» قالت: «إن السيدة العجوز تلبس في هذا العام نفس المعطف الذي كانت تلبسه في العام الماضي. لم أرَ هذا يحدث من قبل إطلاقًا. كذلك لم تحصل الإماء على ثياب جديدة. أما ابننا فلم يكن هناك أي طفل يمكن أن يُقارَن به، سواء في الجمال أو في الملبس.» ارتسمت على وجهها ابتسامة وهي تقول هذا، فضحك وانج لنج بصوت مرتفع، ثم قال لها: «وهل عرفتِ سبب تدهورهم المالي؟» قالت: «أخبرتني الطاهية، التي كنت أعمل تحت إمرتها من قبل، أن الأمراء الصغار، وهم خمسة، كانوا ينفقون الأموال كأنها المياه، في البلاد الأجنبية. وأن الابنة الثالثة ستتزوج في الربيع، ولا تريد إلا خير الأشياء وأرقاها. لا بد أنهم صاروا أفقر من ذي قبل، لأن السيدة العجوز نفسها أخبرتني بأنهم يرغبون في بيع قطعة الأرض الواقعة إلى جنوب البيت خارج سور المدينة مباشرة حيث كانوا يزرعون الأرز دائمًا.» فكرر وانج لنج حديثها: «يبيعون أرضهم! إذن فهم في طريق الفقر حقًّا. إن الأرض لحم الإنسان ودمه.» وبغتة طرأت على باله فكرة. فاستدار إلى المرأة وقال: «أتدرين ما لم أفكر فيه! سنشتري تلك الأرض!» أخذ كل منهما يحملق في الآخر … هو في سرور، وهي في ذهول. ثم صاح وانج لنج في لهجة الأمراء: «سأشتريها من بيت هوانج العظيم!» فقالت: «إنها بعيدة جدًّا. سنضطر إلى أن نسير نصف الصباح حتى نصل إليها.» عاد قوله: «سأشتريها.» كفت المرأة فجأةً عن الاعتراض وقالت: «اشترها. فعلى أية حال، أرض الأرز طيبة. وهي قريبة من خندق الماء، ومن المؤكد أن في استطاعتنا الحصول على الماء طول العام.» ارتسم الابتسام على وجهها في بطء، وقالت بعد فترة من الوقت: «في مثل هذا الوقت من العام الماضي كنت عبدةً في ذلك البيت.» سار الاثنان بعد ذلك صامتَين يفكران في هذا الأمر.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/6/
الباب السادس
غيَّرَت قطعة الأرض الجديدة التي اشتراها وانج لنج مجرى حياته تغييرًا عظيمًا. فذهب ليراها في يوم غائم من الشهر الثاني في العام الجديد. لم يعلم أحد بعد، أنها له، وقد خرج لمعاينتها وحده. إنها مربع طويل من الطين الأسود الثقيل، يمتد إلى جانب خندق المياه المحيط بسور المدينة. وبينما هو ينظر إلى ذلك المربع الطويل من الأرض، فكر في نفسه: «هذه الحفنة من الأرض ليست شيئًا بالنسبة إلى البيت العظيم، أما بالنسبة إليَّ فهي شيء كثير!» أقبل الربيع برياحه الشديدة وسحبه المطيرة الممزقة. وكانت أيام الشتاء، التي يبقى المرء فيها نصف خامل، بالنسبة إلى وانج لنج، حافلة بأيام طويلة من العمل الشاق في أرضه. كان الرجل العجوز وقتئذٍ يُعنَى بأمر الطفل، بينما تشتغل المرأة مع زوجها من الفجر حتى مغرب الشمس. ولما عرف وانج لنج، ذات يوم، أنها ستلد طفلًا آخر، كان أول ما فكر فيه هو أنها لن تستطيع العمل في الحصاد. لم يُفتَح باب الحديث في أمر الطفل المنتظر، زيادة على هذا حتى حان موعد ولادته في الخريف. فتركت المرأة فأسها ذات صباح، وعادت إلى المنزل تجرُّ قدميها جرًّا .. لم يرجع وانج لنج في ذلك اليوم لتناول طعام الغداء في بيته، إذ كانت السماء محملة بالسحب المشحونة بالمطر. وكان الأرز تام النضج في حقله يتطلب حصده في حُزَم. فسألها دون أن يتوقف عن العمل: «أهو ذكر أم أنثى؟» فأجابت في هدوء: «إنه ذكر آخر.» لم يتحدث كل منهما إلى الآخر بأكثر من هذا. ولكنه كان مسرورًا، وعندئذٍ فقط كانَا قد انتهيَا من حصد الحقل، فعادَا إلى البيت. بعد أن تناول وانج لنج طعامه، دخل ليرى ابنه الثاني. أما أو-لان فرقدت على السرير بجانب الطفل، بعد أن أعدت الطعام. فنظر إليه وانج لنج، ثم عاد إلى الحجرة الوسطى مغتبطًا .. ابن في كل عام .. لم تأته هذه المرأة إلا بالحظ السعيد. فصاح يقول لوالده: «الآن، أيها الرجل العجوز، بما أنه يوجد حفيد آخر، فسنضع الطفل الكبير في سريرك!» ابتهج الشيخ المسن، إذ كان يتلهف منذ وقت طويل لأن ينام ذلك الطفل في سريره كي يدفئه. ولكن الطفل لم يكن يرغب في أن يفترق عن أمه. أما الآن، فيبدو أنه فهم أن شخصًا آخر قد احتل مكانه، فسار بقدمين مترنحتين غير متزنتين، ورضي بأن ينام في سرير جده. كان المحصول وفيرًا هذا العام أيضًا. وجمع وانج لنج نقودًا فضية من بيع غلة أرضه، وأخفاها ثانية في الحائط. والآن عرف كل فرد أن وانج لنج يملك قطعة الأرض الجديدة.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/7/
الباب السابع
بدأ عم وانج لنج يكون مصدر متاعب، في ذلك الوقت. وكان وانج لنج يخشى تلك المتاعب منذ البدء. فعندما كان وانج لنج ووالده فقيرَين، كان هذا العم يجد ما يكفي قوته وقوت زوجته وأولاده السبعة. ولكنهم ما إن يُطعَموا حتى لا يشتغل أحد منهم قط. وكان من العار — وقد كبرت البنات — أن يَجُبنَ طرقات القرية. والأدهى من هذا، أنهن كن يتحدثن إلى الرجال. عندما التقى وانج لنج بابنة عمه، ذات يوم، استشاط غضبًا لدرجة أنه تجرأ على الذهاب إلى امرأة عمه، وقال لها: «مَن ذا الذي سيتزوج فتاة كابنة عمي؟» لم يكن في جسد زوجة عمه عضو نشيط غير لسانها. فأطلقته عندئذٍ على وانج لنج، فقالت: «حسنًا! ومَن سيدفع نفقات الزواج؟ كل شيء سهل على مَن يتكلم ويملك أرضًا أكثر مما يعرف ماذا يفعل بها، ولكن عمك رجل سيئ الحظ.» انخرطت زوجة عمه في البكاء بصوت عالٍ وبدموع غزيرة. فهرعت جاراتها من منازلهن لينظرن ويسمعن. فوقف وانج لنج في مكانه، وصمم على أن يكمل ما جاء ليقوله. فقال: «ومع ذلك، فرغم أنه ليس من حقي أن أنصح شقيق والدي، فإني أقول هذا: من الخير أن تتزوج الفتاة وهي صغيرة السن، ولا يُسْمَح بالتجول في الطرقات.» ما إن تكلم هكذا بصراحة، حتى عاد إلى بيته وترك زوجة عمه تنتحب. جاء عمه في اليوم التالي إلى الحقل الذي كان يعمل فيه. ولم تكن أو-لان هناك، إذ كانت ستلد طفلًا ثالثًا. لم تكن صحتها جيدة في هذه المرة، وعلى ذلك كان وانج لنج يشتغل وحده. أقبل عم وانج لنج إلى حيث كان هو، ووقف صامتًا بينما كان وانج لنج يعزق خطًّا ضيقًا من الأرض بجانب الفول العريض الذي كان يزرعه. وأخيرًا تكلم وانج لنج دون أن ينظر إلى أعلى، فقال: «معذرة يا عماه، إذ لم أتوقف عن العمل. لا شك أنك انتهيت من زراعة فولك، أما أنا فبطيء جدًّا — فلاح معدم — لا أنتهي من عملي في الوقت المناسب، كي أستريح.» فهم العم جيدًا ما يعنيه وانج لنج، فأجاب: «إنني رجل عاثر الحظ. فمن كل عشرين بذرة فول لم تَنمُ هذا العام إلا فولة واحدة. سنضطر إلى شراء الفول إن كنا نأكله.» ثم تنهد تنهيدًا عميقًا. جعل وانج لنج قلبه صلبًا كالحجر، لأنه كان يعلم أن عمه قد جاء ليطلب منه شيئًا. وأخيرًا بدأ عمه يتكلم. «أخبرتني الكائنة التي في منزلي، باهتمامك بأمر عبدتي الكبرى الحقيرة. إنك لأذكى من سنك. يجب أن تتزوج تلك العبدة. ولو كنت أنا غنيًّا مثلك الآن، لاقتسمت ثروتي معك من تلقاء نفسي راضيًا، ولزوجت بناتك لرجال أخيار.» أسقط وانج لنج فأسه وصاح فجأة، وهو يحملق في عمه: «إن كنت أملك الآن حفنة من الفضة، فذلك لأني أشتغل أنا وزوجتي، ولا نجلس بدون عمل كغيرنا، أو نقضي الوقت في القيل والقال، تاركين حقولنا تتحول إلى أعشاب ضارة، أو نترك أطفالنا نصف جياع!» غلى الدم في وجه عم وانج لنج الأصفر، واندفع نحو ابن أخيه ولطمه على خديه كليهما، صائحًا: «خذ هذا جزاء مخاطبتك مَن هو في سن والدك بهذه الطريقة!» وقف وانج لنج مبهوتًا، وقد عرف خطأه، ولكنه حقد في أعماق قلبه على ذلك الرجل الذي كان عمه. فصاح عمه في صوت ثائر: «سأخبر جميع القرية بما قلتَه. سأخبر به القرية، سأتحدث به في القرية …» وأخذ يكرر هذه العبارة مرات ومرات، حتى قال وانج لنج مكرهًا: «وماذا تريدني أن أفعل؟» تغيَّرَ مسلك عمه في الحال، وابتسم، ووضع يده على ذراع وانج لنج، قائلًا في دعة: «بضع قطع فضية في هذه الكف الفقيرة؛ عشر قطع، أو حتى تسع مثلًا، فأستطيع البدء بعمل الترتيب اللازم مع إحدى الخاطبات بشأن عبدتي.» التقط وانج لنج فأسه، ثم ألقاها ثانية، وقال في إيجاز: «تعالَ إلى المنزل. إنني لا أحمل معي نقودًا كما يفعل الأمير.» ثم سار أمامه ودخل المنزل، مبعدًا عن طريقه طفليه الصغيرين اللذين كانا يلعبان عاريَين في أشعة الشمس الدافئة. أما عمه فنادى الطفلين وأمسك طفلًا في كل ذراع. لم ينتظر وانج لنج، بل دخل الحجرة التي تنام فيها زوجته والطفل الأخير. كانت مظلمة جدًّا، فلم يرَ شيئًا. ولكنه لم يعرف أن زوجته ترقد فيها، ونادى في حدة: «ماذا حدث الآن؟ هل حان وقتكِ؟» فأجابه صوتها من فوق السرير ضعيفًا أكثر مما سبق أن سمعها تتكلم: «لقد انتهى الأمر مرة أخرى. إنها عبدة فقط في هذه المرة.» وقف وانج لنج ساكنًا، وقد استبد به إحساس بالشر .. ابنة! إنها ابنة التي سبَّبت كل هذه المتاعب في بيت عمه. والآن قد ولدت ابنة في بيته أيضًا. اتجه وانج لنج إلى الحائط دون أن يرد عليها، وتحسس خشونته التي كانت علامة المخبأ، وأزال قطعة الطين، وعبث خلفها في كومة الفضة، فَعَدَّ تسع قطع. عندئذٍ قالت زوجته فجأة، في الظلام: «لماذا أخذت الفضة؟» فأجابها باختصار: «أنا مضطر إلى إقراضها عمي.» لم تجب زوجته، أولًا، بشيء. ثم قالت: «يحسن ألا تقول «أقرض»؛ فلا إقراض في هذا المنزل، بل هناك إعطاء فقط.» فأجاب وانج لنج، والألم يحزُّ في نفسه حزًّا: «أعرف هذا جيدًا.» خرج وانج لنج، من الحجرة، ودفع النقود إلى عمه، وعاد مسرعًا إلى الحقل. لم ينصرف غضبه قبل المساء. فاعتدل واقفًا، وتذكر بيته وطعامه. ثم فكَّر في ذلك الفم الجديد الذي قَدِمَ إلى بيته في ذلك اليوم. لم يفكر، من شدة غضبه من عمه، حتى في أن يقف وينظر إلى وجه تلك المخلوقة الصغيرة الجديدة. وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسم حصاد آخر قبل أن يتمكن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاور القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآونة طار فوق رأسه سرب من الغربان ينعق بصوت عالٍ. نظر إلى الغربان فإذا بها تختفي كالسحابة في الأشجار المجاورة لبيته. فجرى إليها يصيح ويلوح بفأسه. فطارت ثانية، ثم حامت حول رأسه مرة ومرتين، وطارت أخيرًا إلى الجو الداجي. تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذير شؤم.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/8/
الباب الثامن
يبدو أنه ما إن تنقلب الآلهة، مرةً، ضد رجل؛ حتى لا تهتم به بعد ذلك مرة أخرى، فقد أحجمت الأمطار، التي كان مقدَّرًا لها أن تهطل في أول الصيف، عن النزول، وصارت السماء صافية يومًا بعد يوم، تضيء في لألاء متجدد وبغير اكتراث. لَقَّت وجفَّت الحقول وتشققت، واصفرَّت عيدان القمح الناضرة وتحولت إلى محصول عقيم. وغدت أحواض الأرز التي زرعها وانج لنج، إلى مربعات من النبت الأخضر الباهت فوق التربة البنية. كان يحمل إليها الماء، يومًا بعد يوم، بعد أن يئس من القمح، في دلاء خشبية يعلقها في ساق من الخيزران يضعها فوق كتفيه. جفَّت مياه البركة أخيرًا. وهبطت مياه البئر إلى مستوى منخفض، لدرجة أن أو-لان قالت له: «إذا كان لا بد للأولاد أن يشربوا، وللرجل العجوز أن يحصل على مائه الساخن، وجب أن يجف الزرع.» فأجاب وانج لنج بغضب تحوَّل إلى نحيب: «هذا صحيح. ويجب أن يموتوا كلهم جوعًا إذا ماتت الزروع من العطش.» لم يُنبت أي حقل محصولًا، عدا قطعة الأرض المجاورة للخندق. وكان هذا لأن وانج لنج ترك جميع حقوله الأخرى، وقضى كل يومه في هذه القطعة وحدها، يغرف الماء من الخندق ويصبه فوق التربة النهمة. ولأول مرة باع حبوبه في هذه السنة بمجرد حصادها. وما إن أحس بالفضة في كفه، حتى أطبقها عليها بشدة، وأسرع إلى بيت هوانج حيث قابل وكيل الأراضي، وقال له من فوره: «إن معي ما أشتري به الأرض المجاورة لأرضي بجانب الخندق.» تمسَّك الوكيل بذلك العرض، ومرت النقود من شخص إلى آخر، ووقَّع على عقد التمليك، وأصبحت تلك الأرض ملك وانج لنج. أصبح وانج لنج الآن يملك حقلًا واسعًا من الأرض الطيبة، إذ كان الحقل الجديد ضعف مساحة الحقل الأول. وما كان يهمه أكثر من التربة الخصبة الدكناء نفسها، هو أن هذا الحقل كان ذات مرة مِلكًا لأسرة أمير. ولم يخبر أحدًا، في هذه المرة، بما فعله. مرَّت الشهور واحدًا إثر آخر، ولم تنزل أية أمطار بعد. وعندما اقترب الخريف، تجمعت في السماء سُحب صغيرة خفيفة. بَيْد أنه قبل أن تتجمع سحابة كبيرة تبشر بالمطر، هبت ريح عاصفة من الشمال الغربي، آتية من الصحراء البعيدة، فأزاحت الغيوم من السماء. حصد وانج لنج من حقوله محصولًا ضئيلًا من الفول. أما حقل القمح الذي زرعه عندما اصفرَّت أحواض الأرز وماتت، فجمع منها بضع سنيبلات قصيرة، بها بعض شتات من الحبوب هناك وهنا. وفصل حبوب الذرة عن مُطُرها في أرض الحجرة الوسطى، ولما وضع المُطُر الخالية من الحبوب (القوالح) جانبًا لكي تُستعمل وقودًا، قالت زوجته: «كلا، لا تستهلك هذه في الحريق؛ فإنني أتذكر عندما كنت طفلة وجاءت سنون قحط كهذه، أن الناس كانوا يطحنون مُطُر الذرة الخالية من الحبوب ويأكلونها.» ما إن قالت هذا حتى صمت الجميع، حتى الأطفال. كانت هناك نُذُر بالقحط في هذه الأيام الصحوة الغريبة، عندما تخلت عنهم الأرض. ظل وانج لنج يُعنى بأمر ثوره أطول مدة مستطاعة. غير أنه أتى يوم لم يكن هناك غير قليل من الفول وكمية ضئيلة من الذرة، واستمر الثور يخور من الجوع، فقال الرجل العجوز: «سنأكل الثور بعد ذلك.» عندئذٍ صاح وانج لنج معارضًا، لأن الثور كان رفيقه في الحقول، وكان يعرفه منذ أيام شبابه. فقال الرجل العجوز: «هذا حسن. ولكن المسألة الآن هي: إما حياتك أو حياة الثور، وحياة أولادك أو حياة الثور. وإن في مقدور الإنسان أن يشتري ثورًا آخر بسهولة أكثر مما يستعيد حياته.» ومع ذلك فلم يذبح وانج لنج الثور في ذلك اليوم، ومَر اليوم الثاني، والثالث .. وبكى الأطفال طالبين الطعام. فرأى أخيرًا أن لا بد مما ليس منه بد، فقال بخشونة: «إذن، فليُذبَح. ولكني لا أستطيع أن أذبحه.» زحفت أو-لان فذبحت الثور، بأن قطعت جرحًا كبيرًا في عنقه. ولم يقترب منها وانج لنج حتى انتهى كل شيء، وطُبِخ اللحم، ووُضِع على المائدة. غير أنه لما حاول أن يأكل من لحم ثوره، لم يستطع ابتلاعه. فشرب قليلًا من المرق ليس غير. فقالت له أو-لان: «ما الثور إلا ثور. وقد شاخ ذلك الثور. تناول من لحمه، فسيأتي يوم تحصل فيه على ثور آخر، وسيكون خيرًا من هذا.» سرَّى هذا الكلام عن وانج لنج قليلًا، فأكل قطعة من اللحم، ثم أخرى، وغيرها. كما أكل منه الجميع. كانت القرية كلها في أول الأمر، حانقة على وانج لنج، إذ كانوا يظنون أنه يخبئ نقودًا فضية، وأن لديه مخزونًا كبيرًا من الطعام. وامتلأت قلوب القرويين حقدًا بتأثير الجوع. فما إن همس عم وانج لنج، يقول: «هناك فرد لديه طعام …» حتى أمسك الرجال بالهراوات وذهبوا ذات ليلة إلى بيت وانج لنج وشرعوا يطرقون الباب. فلما فتحه تلبية لصوت جيرانه، دفعوه بعيدًا من طريقهم، وهجموا على كل ركن بحثًا عن موضع يُخبِّئ فيه طعامه. ولما وجدوا مخزونه الحقير من قليل من الفول المجفف، وملء قدح من الذرة المجففة، أطلقوا صيحة معلنين خيبة أملهم ويأسهم. وأمسكوا مائدته ومقاعده والسرير الذي كان يرقد عليه الرجل العجوز يبكي ويرتجف من شدة الذعر. عندئذٍ تقدمت إليهم أو-لان وخاطبتهم. فارتفع صوتها البسيط البطيء على صوت الرجال، صاحت قائلة: «لا تأخذوا هذه الأشياء؛ لم يحن وقت هذه بعد! لقد أخذتم كل ما لدينا من مواد غذائية. وإنكم لم تبيعوا من بيوتكم، موائدكم ولا مقاعدكم. اتركوا لنا أثاث دارنا. إنَّا لا نملك بذرة فول أو حبة من الذرة أكثر مما تملكون. كلا، بل إن لديكم الآن أكثر مما لدينا، لأنكم أخذتم كل ما عندنا. ستنزل السماء بكم ضربتها إن طمعتم في أكثر من هذا. سنخرج الآن سويًّا ونبحث عن الحشائش لنأكلها، ونقشر لحاء الأشجار، أنتم من أجل أطفالكم، ونحن من أجل أطفالنا.» فلما سمع الرجال حديثها خجلوا وتسللوا خارجين واحدًا تلو آخر، لأنهم لم يكونوا أشرارًا، وإنما دفعهم الجوع إلى الشر. وقف وانج لنج في فناء داره، وقد أحس بالخوف لحظة، ثم سرى الاطمئنان في دمه كأنه النبيذ المهدئ، فقال في نفسه: «لن يستطيعوا أن يأخذوا الأرض مني. ولو كانت عندي الفضة لأخذوها. لا أزال أملك الأرض، وهي الآن ملكي.»
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/9/
الباب التاسع
بينما كان وانج لنج جالسًا في مدخل بيته، قال لنفسه: إنه لا بد من عمل شيء، ما في ذلك شك؛ فلا يمكن أن يظلوا في هذا البيت الخالي ويموتوا. كان بذلك الجسم النحيل عزيمة على أن يعيش. وكان يشتد به الغضب أحيانًا، فيخرج ويهز ذراعيه نحو السماء البلهاء، التي تضيء فوق رأسه في زرقة وصفاء وبرودة، والخالية دائمًا من الغيوم. لم يكن أحد من أسرة وانج لنج يبرح فراشه الآن إطلاقًا. فلا حاجة بهم إلى النهوض. وحل النوم المضطرب لفترة ما، محل الطعام، على الأقل. لقد جففوا مُطُر الذرة الخالية من الحبوب وأكلوها. وكان الناس في جميع أنحاء الريف يأكلون أية حشائش يعثرون عليها على التلال في فصل الشتاء. لم يكن هناك حيوان ما في أي مكان. وما كان الإنسان ليرى أي طفل يلعب في طرقات القرية. وعلى أكثر تقدير، كان ابنَا وانج لنج يحبوان إلى الباب ويجلسان في الشمس. أما الطفلة فلم تجلس وحدها قط، رغم أن موعد جلوسها قد فات منذ مدة طويلة، بل كانت ترقد ساعة بعد أخرى ملفوفة في غطاء قديم. وكانت أولًا تملأ البيت صراخًا وعويلًا، ولكنها اضطرت في النهاية إلى التزام الهدوء، تمص في ضعف أي شيء يوضع في فمها. كان تَمَسُّك هذه الروح الصغيرة بالحياة، بطريقة ما، سببًا في كسب محبة والدها. فكان ينظر إليها أحيانًا، ويهمس في رقة، قائلًا: «أيتها البلهاء المسكينة .. يا هذه البلهاء الصغيرة المسكينة!» وذات مرة انفجر باكيًا عندما حاولت أن تبتسم ابتسامة ضعيفة. وبعد ذلك كان يرفعها أحيانًا ويضعها داخل معطفه الدافئ، ويجلس هكذا وهي تنظر خارجًا إلى الحقول الجافة المستوية. أما الرجل العجوز، فلو كان هناك أي شيء يؤكل أعطيه، حتى إذا لم ينل الأطفال منه شيئًا. كان أكثر أفراد الأسرة بهجة. فقال ذات يوم في صوته العجوز المتهدج: «قابلتنا أيام أسوأ من هذه .. رأينا أيامًا أسوأ من هذه.» ••• ذات يوم جاء الجار تشنج، وكان نحيلًا جدًّا إلى أقل من شبح كائن بشري، إلى باب منزل وانج لنج، وقال هامسًا: «في المدينة يأكل الناس الكلاب، وفي جميع النواحي يأكلون الخيول وكل أنواع الطيور. أما نحن فأكلنا هنا الماشية التي كانت تحرث حقولنا، كما أكلنا الحشائش ولحاء الأشجار. فماذا يتبقى الآن كطعام؟» هزَّ وانج لنج رأسه في يأس. وأحس فجأة بالخوف، فقال بصوت عالٍ: «سنترك هذا المكان. سنتجه شطر الجنوب!» فنظر إليه جاره في صبر، وقال بحسرة: «إنك صغير السن. أنا أكبر منك سنًّا، وزوجتي عجوز، وليس لنا سوى ابنة واحدة. يمكننا أن نموت راضين!» فقال وانج لنج: «إنك لأسعد مني حظًّا؛ فأنا أعول والدي العجوز، وهذه الأفواه الثلاثة الصغيرة.» ثم بدا له فجأة أن ما قاله، هو عين الصواب، فنادى أو-لان، التي كانت ترقد على السرير يومًا بعد يوم دون أن تفتح فاها بكلمة، إذ لم يكن هناك طعام تطبخه على الموقد ولا وقود للفرن. فقال لها: «تعالي، أيتها المرأة. سنرحل إلى الجنوب!» نهضت أو-لان من فراشها في ضعف، مستندة إلى باب حجرتهم، وقالت: «أعظِمْ بهذا من عمل! فعلى الأقل يموت الإنسان وهو سائر.» ••• عندما أشرقت الشمس في صبيحة اليوم التالي، دون أن تتغير سماؤها الزرقاء، خُيِّل إلى وانج لنج أن التفكير في الرحيل عن داره ليس إلا أضغاث أحلام. فليس معه أية نقود، وحتى لو كان معه نقود لما أفادته إلا قليلًا في ذلك الوقت، إذ لم يكن هناك أية مواد غذائية يمكن أن يشتريها. وبينما هو جالس في مدخل بيته بعد ذلك، رأى أناسًا آتين من بعيد وسط الحقول، رجالًا يُيَمِّمُون جهته. وعندما اقتربوا منه تبيَّن أن عمه أحدهم، ومعه ثلاثة رجال لم يعرفهم. نظر وانج لنج إلى عمه. كان نحيلًا، هذا صحيح. ولكنه لم يكن جائعًا كما كان ينبغي أن يكون. فأحس وانج لنج بما بقي فيه من قوة بحقد عظيم ضد هذا الرجل، عمه، فتمتم، قائلًا: «كيف تسنى لك أن تأكل؟ كيف حصلت على الطعام؟» فرفع عمه يديه نحو السماء، وصاح: «أكلتُ! آه، لو رأيت منزلي! إن العصفور الصغير نفسه لا يجد حبة فتات يلتقطها فيه.» فأعاد وانج لنج قوله ببرود: «إنك أكلت.» فأجاب عمه: «لم أفكر في أحد سواك وفي والدك، الذي هو أخي. وها أنا ذا أبرهن لك على صدق قولي. لقد اقترضت بعض الطعام من هؤلاء الرجال الأخيار ساكني المدينة، واعدًا إياهم أن أساعدهم في شراء بعض من الأراضي المحيطة بقريتنا. وكان أول تفكيري في أرضك الطيبة.» لم يتحرك وانج لنج .. ولكنه رأى أنهم من المدينة حقًّا. كان يلوح أنهم تناولوا طعامًا، فما زال الدم يجري في عروقهم. وفجأة اعتراه شعور بأنه يمقتهم. فنظر إليهم باكتئاب، ثم قال: «لن أبيع أرضي.» خطا عمه إلى الأمام. وفي تلك اللحظة أقبل ابن وانج لنج الأصغر، يحبو عند المدخل على يديه ورجليه، فإذ لم يكن لدى الطفل في هذه الأيام إلا قوة بسيطة، عاد يحبو كما كان يفعل أيام رضاعه. فصاح العم: «أهذا ابنك؟ أهذا هو الطفل الصغير السمين الذي رأيته في أيام الصيف؟» تطلَّع الجميع إلى الطفل، وعندئذ تساقطت الدموع من عينَي وانج لنج، فأخذ يبكي في سكون، مع أنه لم يذرف دمعة واحدة طوال هذه المدة كلها. وأخيرًا قال وانج لنج هامسًا: «كم تدفعون ثمنًا للأرض؟» عندئذٍ تكلم أحد رجال المدينة، فقال: «أي رجُلي المسكين! إكرامًا لخاطر ابنك الذي يموت جوعًا، سنعطيك ثمنًا أعلى مما يمكن الحصول عليه في هذه الأيام في أي مكان.» وسكت برهة، ثم قال: «سنعطيك مائة بنس ثمنًا للفدان!» ضحك وانج لنج في أسًى، وصاح: «لماذا هذا؟ إنني أدفع قَدْر هذا الثمن عشرين ضعفًا عندما أشتري أرضًا!» فقال رجل آخر من رجال المدينة: «هذا صحيح، ولكنه ليس كذلك عندما تشتريها من أناس يتضوَّرون جوعًا.» نظر وانج لنج إلى ثلاثتهم. كان أولئك الرجال متأكدين من حالته! وماذا لا يفرط فيه المرء من أجل أطفاله الجياع ووالده العجوز؟ … تبدل ضعفه غضبًا لم يعهده طول حياته من قبل، فقفز واقفًا، وصاح في الرجال: «لن أبيع أرضي إطلاقًا! سنبقى هنا، وسنموت فوق الأرض التي ولدتنا!» كان يبكي بشدة، ثم انصرف عنه غضبه فجأة، ووقف يبكي ويرتعش. وفجأة أقبلت أو-لان عند الباب، وتحدثت إليهم، فقالت: «أما الأرض فلن نبيعها، هذا أكيد، وإلا ما وجدنا شيئًا نقتات منه بعد عودتنا من الجنوب. غير أننا سنبيع المائدة والسريرين والفراش والمقاعد الأربعة، وحتى القِدر الموضوعة فوق الموقد. ولكننا لن نبيع شوكات جمع الحشائش ولا الفأس ولا المحراث، ولا الأرض.» تمتم الرجال ببعض كلمات فيما بينهم، ثم استدار أحدهم، وقال: «إنها أشياء حقيرة ولا تصلح إلا وقودًا. وعلى أية حال، سنعطيكِ قطعتين من الفضة. فخذيها أو اتركيها.» بعد ذلك أدار الرجل ظهره وهو يتكلم بازدراء، ولكن أو-لان أجابته في هدوء، قائلة: «إن هذا لأقل من قيمة سرير واحد. ولكن إذا كانت الفضة معكم، فعليَّ بها في سرعة، وخذوا الأشياء.» وضع الرجال الفضة في يدها الممتدة، ودخلوا ثلاثتهم إلى البيت وحملوا الأشياء فيما بينهم. بيد أنهم عندما دخلوا حجرة الرجل العجوز، وقف عم وانج لنج خارجًا إذ لم يرغب في أن يبصر به أخوه الأكبر. عندما انتهى كل شيء، قالت أو-لان لزوجها: «هيا بنا نرحل والقطعتان لا تزالان معنا، وقبل أن نضطر إلى بيع عوارض السقف، وبعدئذٍ لا نجد ثقبًا نأوي فيه عند عودتنا.» فأجاب وانج لنج، متثاقلًا: «هيَّا بنا.» أرسل وانج لنج بصره عبر الحقول إلى الهياكل الصغيرة للرجال الذين انصرفوا من عنده، وأخذ يتمتم مكررًا عدة مرات: «على الأقل، لا أزال أحتفظ بالأرض .. أحتفظ بالأرض!»
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/10/
الباب العاشر
لم يكن هناك ما يفعلونه إلا أن يجذبوا الباب بشدة ويحكموا إقفاله. كانت جميع ملابسهم على أبدانهم. ووضعت أو-لان في يد كل طفل طبقًا من أطباق الأرز، وزوجًا من أعواد تناول الطعام. وهكذا خرجوا يسيرون وسط الحقول، موكبًا كئيبًا يتحرك ببطء. وكان يبدو أنهم لن يبلغوا سور المدينة قط. ساروا في صمت، ومروا بالمعبد الصغير، وفي داخله الربان الصغيران لا يلاحظان شيئًا مما يمر بهما. وكان العرق يتصبب من وانج لنج بسبب ضعفه، رغم الريح الباردة اللاذعة. وصلوا إلى سور المدينة في الوقت المناسب، وكانوا يستريحون بعد كل مسافة قصيرة. مروا بجوار باب البيت العظيم، ولكنه كان موصدًا تمامًا. وكان يرقد على درجات سلم الباب عدة أشباح من الرجال والنساء، ينظرون إلى الباب المقفل وهم يتضورون جوعًا. وعندما مر وانج لنج، صاح أحدهم: «لا يزال لدى أولئك الأغنياء أرز يأكلونه، وما فتئوا يصنعون النبيذ من الأرز الفائض من طعامهم، بينما نموت نحن جوعًا.» غير أن وانج لنج لم يجب بشيء، بل ظل يسير مع أسرته في صمت متجهين صوب الجنوب. ••• كان الوقت قرب المساء عندما اجتازوا المدينة وبلغوا الطرف الجنوبي، ورأوا أناسًا كثيرين سائرين شطر الجنوب، فسأل وانج لنج واحدًا منهم كان بقربه: «إلى أين يذهب كل هؤلاء القوم؟» فقال الرجل: «إننا أناس جائعون، وذاهبون لنركب «عربة النار» لتنقلنا إلى الجنوب. إنها تبدأ من أمام ذلك المنزل وبها عربات لأمثالنا بأجر يقل عن قطعة فضية صغيرة لكل شخص.» عربات النار! كان وانج لنج قد سمع الناس فيما مضى يتحدثون عن هذه العربات المتصلة ببعضها بالسلاسل، والتي لا يجرها إنسان ولا حيوان، بل تجرها آلة تتنفس نارًا وماء، فاستدار مرتابًا إلى المرأة، وقال: «وهل سنركب نحن أيضًا عربة النار هذه؟» نظر كل منهما إلى الآخر في لهفة وخوف. كانت أو-لان لا تزال تحمل الطفلة ورأسها تتدلى فوق ذراعها في منظر يوحي بالموت يخيم عليها، حتى إن وانج لنج نسي كل شيء آخر، وصاح يقول: «هل ماتت العبدة الصغيرة؟» هزت أو-لان رأسها، وقالت: «لم تمت بعد. ولكنها ستموت في هذه الليلة، كما سنموت نحن جميعًا، إلا …» فقال وانج لنج بكل ما يمكن أن يوجد في صوته من بهجة: «هيا يا ولديَّ، وساعدَا جدَّكما؛ سنركب عربة النار ونجلس بينما نذهب جنوبًا.» ما من أحد كان يعرف إن كان بوسعهم السير لو لم ينبعث من وسط الظلام صوت مرعد وعينان تنفثان النار، حتى إن كل فرد صاح وجرى. فتزاحموا مندفعين في ديجور الظلام وهم يصرخون، حتى بلغوا الباب الصغير المفتوح، ودخلوا حجرة أشبه بالصندوق. ثم تحرك القطار الذي كانوا يركبونه محدثًا صخبًا ودويًّا خلال الدجى، يحملهم في طريقه.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/11/
الباب الحادي عشر
دفع وانج لنج من القطعتين الفضيتين أجر السفر لمسافة مائة ميل، فردَّ إليه الضابط الذي أخذ فضته حفنة من البنسات البرنزية، فاشترى منها من أحد الباعة، أربعة أرغفة صغيرة من الخبز، وطبقًا من الأرز الطري للطفلة. فكان هذا أكثر مما حصلوا عليه من الطعام في أية مرة لعدة أيام. وعندما غدا الطعام في أفواههم تخلت عنهم شهيتهم، ولم يستطع الأولاد ابتلاع الخبز إلا بِحَثِّهم على ابتلاعه. لم ينفق وانج لنج كل النقود البرنزية في الطعام، بل احتفظ بكل ما يمكنه الاحتفاظ به ليشتري حصيرًا يبني به حظيرة لهم عندما يصلون إلى الجنوب. وكان بعربة النار رجال ونساء اعتادوا الذهاب كل سنة إلى مدن الجنوب الغنية للعمل والتسول. وبهذا يدخرون ثمن الطعام. وكان وانج لنج يصغي إلى حديث أولئك الرجال، بعد أن تعوَّد على الدهشة وهو ينظر من خلال الشقوق إلى الأرض التي يمر بها القطار في طريقه. فقال أحد الرجال: «يجب، أولًا، أن تشتري ست قطع من الحصير بسعر بنسين لكل قطعة.» وكان وانج لنج يصغي باهتمام إلى حديثه .. فسأله وانج لنج: «ثم ماذا؟» فقال الرجل: «بعد ذلك تربط الحصير بعضه ببعض، وتصنع منه كوخًا، ثم تخرج لتتسول.» لم يسبق أن تسوَّل وانج لنج قط في حياته من أي إنسان. وكان يمقت فكرة التسول من الأغراب في الجنوب. كرر سؤاله: «أيجب على المرء أن يتسوَّل؟» فقال الرجل: «نعم، حقًّا. ولكنك لن تتسول إلا بعد أن تأكل. فلدى قوم الجنوب أولئك، كثير من الأرز، حتى إنه في مقدورك أن تذهب كل صباح إلى مطعم شعبي، وتأكل كفايتك من الأرز الأبيض نظير بنس واحد.» بيد أن وانج لنج اكتأب لفكرة التسول. وسأل الرجل فجأة: «ألا يوجد عمل لساعدَي الرجل؟» فقال الرجل: «نعم، عمل!» وبصق على الأرض: «يمكنك أن تجرَّ رجلًا غنيًّا في عربة ريكشا صفراء، إذا راقك. وتتصبب بدل العَرَق دمًا من الحر، ثم يتجمد العَرَق كطبقة من الثلج فوق جسمك عندما تقف تنتظر. أما أنا فأفضِّل التسول!» ثم أخذ يسب ويلعن حتى إن وانج لنج لم يسأله بعد ذلك شيئًا. عندما بلغت بهم عربة النار وجهتهم، كان وانج لنج قد حزم أمره على خطة. فأجلس الرجل العجوز والأطفال بجانب حائط منزل رمادي، وذهب ليشتري الحصير. عثر على دكان بائع الحصير، أخيرًا، عند طرف المدينة، فدفع له النقود، وحمل حزمة الحصير. فلما رجع إلى الموضع الذي ترك فيه أسرته، صاح الأولاد عندما أبصروه أمامهم. ولاحظ وانج لنج أن الذعر قد استبد بهم بسبب غرابة ذلك المكان عليهم. أما الرجل العجوز فكان وحده يشاهد كل شيء في سرور ودهشة، وتمتم إلى وانج لنج: «أترى سمنة هؤلاء الجنوبيين. إنهم يأكلون لحم الخنزير في كل يوم، ما في ذلك شك.» ما من أحد من المارة نظر إلى وانج لنج وأسرته. فذهب هذا يبحث عن مكان يقيم فيه كوخه. كان هناك أكواخ أخرى صُنِعت من قبل تستند إلى الحائط القائم خلفهم. فنظر إلى تلك الأكواخ وشرع يُشكل حصيراته، على هذه الصورة وتلك. وفجأة قالت أو-لان: «إن في مقدوري صنع الكوخ. أتذكَّره منذ طفولتي.» وضعت الزوجة الطفلة على الأرض، وطفقت تجذب الحصير إلى هذا الجانب وذاك، وشكَّلت سقفًا مستديرًا يصل إلى الأرض. وكان عاليًا بما يكفي لأن يجلس تحته رجل فلا يصطدم رأسه بقمته. ووضعت حول حافات الحصير الملاصقة للأرض أحجارًا جمعتها من قِطعِ الآجُرِّ الملقاة على الأرض. فلما أتمت صنع الكوخ انتقلوا إلى داخله. وكانت قد احتفظت بحصيرة، ففرشتها على الأرض. وهكذا جلسوا وأووا داخل ذلك الكوخ. إن جلوسهم هكذا، ينظر كل منهم إلى الآخر، لم يكن يبدو، في اليوم السابق، ممكنًا، يوم أن غادروا منزلهم وأرضهم التي تبعد عنهم الآن مسافة مائة ميل. سرَّهم الشعور بوفرة الغذاء في هذه الأرض وسرعان ما وجدوا أن مطاعم الفقراء كانت في نهاية شارع قريب من كوخهم. ورأوا كثيرًا من الناس ذاهبين إليها يحملون أوعية ودلاء فارغة. وهكذا ذهب وانج لنج وأسرته مع هؤلاء الآخرين. فوصلوا إلى بناءين كبيرين من الحصير ازدحم كل شخص أمام طرفهما المفتوح. كان بالجزء الخلفي من كل مبنى مواقد كبيرة من الطين عليها قدور كبيرة في اتساع البِرْكة. وعندما رُفِعَت أغطيتها الخشبية بان الأرز الأبيض الطيب تعلوه الفقاقيع وهو يغلي. فعندما شم أولئك القوم رائحة الأرز، تزاحموا في كتلة ضخمة، وصاح العمال الذين كشفوا القدور، يقولون: «لدينا ما يكفي كل رجل وكل فرد بدوره!» بَيْد أنه ما من شيء استطاع وقف الكتلة الجائعة من الرجال والنساء. كانوا يناضلون كالوحوش حتى أكلوا جميعًا. بعد ذلك خرجوا إلى الشارع ثانية، ووقفوا يأكلون أرزهم. فأكل وانج لنج حتى شبع، وبقى قليل من الأرز في الآنية، فقال: «سآخذ هذا معي إلى المنزل كي آكله في المساء.» غير أن رجلًا من حراس ذلك المكان صاح فيه بعنف: «كلا، لا يمكن أن تأخذ معك شيئًا سوى ما في داخلك. فهناك من يحضرون لشراء الأرز الذي يُعطاه الفقراء، ويحملوه إلى منازلهم ليطعموا به الخنازير.» أصغى وانج لنج إلى هذا القول مدهوشًا، وصاح: «أيوجد أناس قساة القلوب إلى هذه الدرجة!» ثم قال: «ولكن لماذا يعطي الناس هكذا للفقراء، ومَن هم الذين يعطون ذلك الأرز؟» عندئذٍ أجابه الرجل: «إنهم أغنياء المدينة الذين يفعلون هذا.» فقال وانج لنج: «يا له من عمل صالح!» ثم عادوا إلى الكوخ الذي صنعوه. فناموا حتى الصباح التالي؛ إذ كانت هذه أول مرة يأكلون فيها ويشبعون منذ الصيف الماضي. كان لا بد لهم من نقود في الصباح التالي. فنظر وانج لنج إلى أو-لان لا يدري ماذا يجب عليهم أن يفعلوه. فأجابت أو-لان كما لو كانت هذه هي الحياة التي عرفتها دائمًا: «أستطيع أن أتسوَّل أنا والطفلان، وكذلك الرجل العجوز.» فنادت الولدين وقالت لهما: «ليمسك كلٌّ منكما طبقه هكذا، ويصيح هكذا.» وأخذت هي طبقها الخاوي في يدها، ومدتها قائلة بلهجة تستدر العطف: «كن رحيم القلب، أيها السيد الطيب .. إنه عمل صالح لحياتك في السماء! إن النقود الصغيرة — القطعة البرنزية التي تدفعها — تطعم طفلًا يموت جوعًا!» نظر إليها الولدان الصغيران، وكذلك وانج لنج. من أين تعلَّمَت أن تصيح هكذا؟ كم في هذه السيدة من أشياء لم يعرفها بعد؟ فأجابت على نظرته بقولها: «كنت أقول هكذا وأنا طفلة. وبهذا كنت أحصل على الطعام. إنه في سنةٍ كهذه أن باعني أهلي عبدةً.» بعد ذلك استيقظ الشيخ الهَرِم، فأعطوه طبقًا، وخرج أربعتهم إلى الطريق ليتسولوا. فبدأت المرأة تصيح، وتهز طبقها لكل عابر في الطريق. وقليل منهم دفع إليها نقودًا صغيرة مُكرَهِين. أما وانج لنج فذهب إلى الطرقات، ولما وجد المكان الذي تؤجر منه عربات الريكشا، دخله واستأجر عربة لمدة يوم بأجر نصف قطعة فضية يُدفَع في الليل. جَرَّ وانج لنج خلفه العربة الخشبية ذات العجلتين لأول مرة في حياته، وقلَّما كان يستطيع السير. فاتجه إلى شارع جانبي ضيق، وأخذ يسير فيه جيئة وذهابًا لفترة من الوقت. وما إن فكَّر في نفسه أنه خير له أن يتسول، حتى فُتِحَ باب وخرج منه رجل عجوز وناداه. قال له: «أوصلني إلى معبد كونفوشيوس» ثم اعتدل في جلسته هادئًا. فسار وانج لنج كما رأى غيره يفعلون، رغم أنه لم يعرف مكان معبد كونفوشيوس. كان وانج لنج يسأل عن ذلك المعبد وهو سائر. وكان يسير بأسرع ما يمكنه. عندما بلغ وانج لنج أبواب المعبد، نزل الرجل العجوز من العربة، وأخرج قطعة نقود فضية صغيرة، وأعطاها وانج لنج قائلًا: «لن أدفع أكثر من هذه، ولا فائدة من الشكوى.» لم يكن وانج لنج يفكر في الشكوى إطلاقًا، إذ لم يرَ هذه النقود من قبل، ولا يعرف كم بنسًا تساوي. فذهب إلى حانوت أرز قريب، حيث كانت تُستبدَل النقود، فأعطاه الصراف ستة وعشرين بنسًا. فدهش للسهولة التي تأتي بها النقود في الجنوب. بيد أن سائق ريكشا آخر وقف بجانبه ونظر إليه وهو يعد النقود، وقال له: «ستة وعشرون فقط؟! من أي مكان نقلتَ هذا الرأس العجوز؟» فلما أخبره وانج لنج، صاح: «يا له من رجل عجوز قاسي القلب! لقد أعطاك نصف الأجر الصحيح. علامَ اتفقتَ في البدء؟» فقال وانج لنج: «لم أتفق على شيء .. قال لي تعالَ، فذهبت إليه.» فصاح الرجل ليسمعه الناس الواقفون بقربه: «إنك ريفي أبله، يا ذا الضفيرة الطويلة. اعرف أيها الغبي أن الأجانب البيض وحدهم، هم الذين يؤخذون بغير مساومة! إنهم أغبياء ويُخرِجون فضتهم من جيوبهم كالماء.» فضحك كل مَن سمع ذلك الكلام. لم يقل وانج لنج شيئًا. كان يحس بأنه وضيع جدًّا وجاهل وسط ذلك الحشد من أهل المدينة. قال لنفسه: «ورغم ذلك، فإن هذه النقود تطعم أطفالي غدًا.» ثم تذكَّر أن عليه أن يدفع إيجار العربة في تلك الليلة. نقل وانج لنج راكبًا آخر في فترة الصباح، وقد ساومه في هذه المرة، واتفق معه على أجر معين. وبعد الظهر ناداه راكبان آخران. بَيْد أنه عندما عَدَّ كل نقوده ليلًا، وجد أنه لا يفيض له سوى بنس واحد زيادة على إيجار العربة. فعاد إلى كوخه يطفح كآبة. عندما دخل الكوخ، وجد أن أو-لان جمعت أربعين قطعة صغيرة من التسول، قيمتها كلها أقل من خمسة بنسات. أما الأولاد، فقد جمع الولد الأكبر ثماني قطع صغيرة، والولد الأصغر ثلاث عشرة قطعة. فيكون مجموع ما ربحوه في يومهم هذا، كافيًا لثمن أرز الصباح. ولكن الولد الأصغر اعتزَّ بالنقود التي جمعها من تسوله، ولم يستطيعوا أن يأخذوها منه، حتى دفعها هو بنفسه ثمن أرزه. أما الرجل العجوز فلم يحصل على شيء إطلاقًا. ظل جالسًا طول النهار بجانب الطريق، ولكنه لم يتسول. ولما كان من الجيل القديم فلم يمكن لومه.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/12/
الباب الثاني عشر
هكذا كان وانج لنج وزوجته وأطفاله كالأجانب في هذه المدينة الجنوبية. حقيقة كان الناس السائرون في الشوارع ذوي شعر أسود كشعر وانج لنج وكل أفراد أسرته. وحقيقة أنه إذا أصغى المرء إلى لغة أولئك الجنوبيين أمكنه فهمها، ولو بصعوبة. بيد أن القرية الصغيرة المكونة من الأكواخ المستندة إلى الحائط، لم تصبح قط جزءًا من المدينة أو من الضواحي الممتدة بعدها. وذات مرة عندما سمع وانج لنج شابًّا يصيح في حشد من الناس، ويقول أنه يجب أن تحدث ثورة في الصين، ويجب أن تقوم الصين ضد الأجانب الممقوتين، ذعر وتسلل بعيدًا، لأنه أحس بأنه من الأجانب الذين يتحدث عنهم ذلك الشاب. كان وانج لنج، ذات يوم، في أحد شوارع سوق الحرير يبحث عن راكب، فعلم يومئذ فقط أنه يوجد مَن هم أجانب أكثر منه في هذه المدينة. وبينما كان مارًّا في ذلك اليوم أمام باب حانوت، إذ خرج فجأة من باب ذلك الحانوت مخلوق لم يرَ شبهه من قبل. لم يعرف وانج لنج ما إذا كان هذا المخلوق ذكرًا أم أنثى. ولكنه كان فارع الطول، يرتدي ثوبًا أسود من منسوج خشن، ويضع حول عنقه جلد حيوان ميت. وعندما مر أمام الباب، ناداه ذلك الشخص ثم أخبره بلغة سقيمة أن يذهب به إلى شارع القناطر. فانطلق وانج لنج يجري بسرعة. وفي أثناء سيره نادى سائقًا آخر، كان قد عرفه أثناء عمله، وقال له: «انظر إلى هذا .. ما هذا الذي أجره في عربتي؟» فصاح الرجل خلفه، وقال: «أجنبية .. إنها سيدة من أمريكا .. إنك غني …» كان وانج لنج يجري بأسرع ما في مكنته خوفًا من المخلوق الغريب الجالس خلفه. نزلت السيدة من العربة، وقالت بنفس اللغة السقيمة: «ما كان هناك داعٍ لأن تتعب نفسك بالإسراع حتى تموت»، وتركته بعد أن وضعت في كفه قطعتين من الفضة. وكان هذا ضِعف الأجر المعتاد. عندئذٍ عرف وانج لنج أن هذه السيدة حقيقة أجنبية، وأن جميع الناس ذوي الشعور السوداء والعيون السوداء من جنس، وذوي الشعور الزاهية والعيون الزاهية من جنس آخر. رجع وانج لنج إلى كوخه، ذات ليلة، متأخرًا، فوجد في الكرنب المطبوخ قطعة كبيرة مستديرة من لحم الخنزير. كانت هذه أول مرة يحصلون فيها على اللحم منذ أن ذبحوا ثورهم. فتفتحت عيناه، وقال لزوجته: «لا بد أنك أخذت صدقة من أجنبي اليوم!» ولكنها لم تجبه بشيء، غير أن الطفل الصغير امتلأ زهوًا وقال: «أنا الذي أخذتها. إنها قطعتي، قطعة اللحم هذه. فعندما أدار القصَّاب وجهه إلى الناحية الأخرى، خطفتُها.» فصاح وانج لنج في غضب: «إذن فلن آكل من هذا اللحم! قد نكون شحاذين، ولكننا لسنا لصوصًا.» وأخرج قطعة اللحم من القِدر وألقى بها على الأرض. عندئذٍ جاءت أو-لان والتقطت قطعة اللحم من على الأرض، وغسلتها ثم وضعتها ثانية في القِدر التي يغلي بداخلها الطعام، وقالت في هدوء: «اللحم لحم.» لم يُجب وانج لنج بشيء، بل قال في نفسه: «لا بد من أن نعود إلى أرضنا.»
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/13/
الباب الثالث عشر
رغم ثراء هذه المدينة، كان يعيش وانج لنج، يومًا بعد يوم، في أسس الفقر التي وُضِع عليها. وبينما كان الطعام يتدفق من الحوانيت، والأغنياء يلبسون الديباج والمخمل (القطيفة)، لم يكن في المنطقة التي يعيش فيها وانج لنج غذاء يكفي لإطعام جائع، ولا ملابس تكفي لستر العظام. رضي المسنون من الرجال والنساء بالحياة التي يحيونها. بيد أن الشبان كانوا يتحدثون فيما بينهم حديثًا ينم عن التذمر. وذات ليلة، أرهف سمعه لمثل ذلك الحديث، فإذا به يسمع لأول مرة بما يدور خلف الحائط العظيم الذي تستند إليه أكواخهم. كان في إحدى أمسيات يوم من أواخر الشتاء، أن لاح أن الربيع قد يعود ثانية. كان بالجو رطوبة طفيفة في تلك الليلة أقضَّت مضجع وانج لنج، فتحرك في نفسه حنين بالغ إلى حقوله. فقال لوالده: «في يوم كهذا يجب تقليب تربة الحقول وبَذْر القمح.» فقال الشيخ العجوز: «نعم … أعلم ما يدور بخلدك. مرتين، ومرتين في حياتي، اضطررت إلى أن أفعل ما فعلناه هذا العام.» «ولكنك كنت تعود ثانية، يا أبتاه!» فقال الأب ببساطة: «كانت هناك الأرض، يا ولدي.» فقال وانج لنج في نفسه: «حسنًا. إذن فسيرجعون هم أيضًا، إن لم يكن في هذا العام، ففي العام القادم.» ثم قال لزوجته في خشونة: «لو كان لدي شيء أبيعه لبعته لأعود ثانية إلى الأرض.» كانت أو-لان تغسل أطباق الأرز بقليل من الماء، فنظرت إليه من المكان الذي كانت جالسة فيه. قالت في تؤدة: «لا شيء يمكن بيعه غير الطفلة.» فتوقف وانج لنج عن التنفس، وقال بصوت عالٍ: «كلا، لن أبيع طفلًا!» فأجابت ببطء: «لقد باعني أهلي. باعوني لبيت عظيم حتى يستطيعوا العودة إلى بيتهم.» – «وهل تبيعين الطفلة، إذن؟» – «إن كان الأمر من أجلي وحدي لقتلتها قبل بيعها. ولكني أبيع هذه الطفلة من أجلك أنت؛ لأرجع بك إلى الأرض.» فقال وانج لنج: «كلا، لن أبيعها حتى إذا قضيت حياتي كلها في هذه البرية.» بَيْد أن الفكرة عاودته بالرغم منه. فنظر إلى الطفلة الصغيرة التي كانت مع جدها. وكما فعلت هذه الطفلة من قبل، ما إن نظر إليها حتى ابتسمت. فقال في نفسه: «كنت أبيعها إذا لم تبتسم هكذا.» بعد ذلك أخذ يفكر في أرضه، وصاح بحرقة: «هلا أراها ثانية! فمع كل هذا العمل والتسول، لا نحصل على أكثر من غذائنا.» فأجابه صوت من وسط الظلام يقول: «لستَ أنت الوحيد الذي هذا شأنه. يوجد مائة مائة من أمثالك بالمدينة.» جاء الرجل يدخن غليونًا من الخيزران. وكان هو رب الأسرة التي تسكن بعيدًا عن كوخ وانج لنج بكوخين. فسأله وانج لنج بمرارة: «وهل ستظل الحال هكذا إلى ما شاء الله؟» أخذ الرجل يدخن من غليونه، وبصق على الأرض، ثم قال: «كلا، ليس إلى ما شاء الله. هناك طرق عندما يكون الأغنياء أغنياء جدًّا، كما أن هناك طرقًا عندما يكون الفقراء فقراء جدًّا. لقد بعنا بنتين في الشتاء الماضي. واحتفظت بعبدة واحدة، هي الأولى. لأن بيع الأُخريات خير من قتلهن. هذه هي إحدى الطرق عندما يكون الفقراء فقراء جدًّا. أما إذا كان الأغنياء أغنياء جدًّا، فهناك طريقة. وإذا لم أكن مخطئًا، فإن هذه الطريقة ستأتي سريعًا.» ثم أشار إلى الحائط القائم خلفهم، وقال: «هل رأيت داخل هذا الحائط؟» هز وانج لنج رأسه، ونظر إليه. فاستمر الرجل يقول: «أخذت إليه إحدى إمائي لأبيعها هناك، فرأيت داخله. لن تصدقني إذا أخبرتك عن كميات النقود التي تجيء وتذهب كل يوم في ذلك المنزل. فحتى الإماء يلبسن أقراطًا من اليشم واللؤلؤ في آذانهن.» أصغى وانج لنج وفمه مفتوح. إذن فوراء ذلك الحائط مثل هذه الأشياء! فقال الرجل: «هناك طريقة عندما يكون الناس أغنياء جدًّا.» وكما لو كان لم يتفوَّه بشيء، أضاف قائلًا: «حسنًا، سأذهب ثانية إلى العمل.» ثم انصرف وسط الظلام لأنه كان ينام النهار كله ويعمل بالليل. لم ينم وانج لنج بسبب تفكيره في الذهب والفضة واللآلئ الموجودة في الجانب الآخر من هذا الحائط، فقال في نفسه: «من الخير أن أبيع الطفلة لبيت غني حتى يمكنها أن تأكل جيدًا وتلبس الجواهر.» ثم عاد يفكر على الرغم منه، وقال في نفسه: «هل أبيع الطفلة لنموت جوعًا هناك بدلًا من هنا؟ ليس لدينا حتى الحَب الذي نبذر به الأرض.» لم يعرف وانج لنج شيئًا عن الطريقة التي تحدَّث عنها الرجل عندما قال: «هناك طريقة عندما يكون الأغنياء أغنياء جدًّا.»
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/14/
الباب الرابع عشر
أقبل الربيع على قرية الأكواخ. فكنتَ ترى حشدًا من النساء والأطفال المهلهلي الملابس يخرجون كل يوم من الأكواخ بحثًا عن الطعام في الحقول المجاورة والطرقات. وكانت أو-لان تخرج كل يوم هي وأولادها مع ذلك الحشد. أما الرجال فكان عليهم أن يعملوا. وكان وانج لنج يشتغل كما كان يفعل من قبل. كانوا يشتغلون في الشتاء وهم صامتون، وفي صمت يأكلون الطعام الذي يهيئه لهم عملهم وتسوُّلهم. ثم ينامون في سبات عميق. شرع الحديث يخرج من شفاههم عندما قدم الربيع. كان هؤلاء الرجال يتحدثون دائمًا عن النقود. وأخيرًا، كانوا يتحدثون دائمًا عما يفعلونه لو حصلوا على أموال الرجل القاطن وراء ذلك الحائط. كان وانج لنج يصغي إلى ذلك الحديث فلا يسمع منهم إلا ما سيأكلونه، وكيف سيكون نومهم. وفوق كل شيء عن أنهم لن يشتغلوا بعد ذلك ثانية، كما يفعل ذلك الرجل الغني الساكن خلف الحائط، والذي لم يشتغل في حياته إطلاقًا. صاح وانج لنج بغتة، يقول: «لو حصلت على الذهب والفضة، لاشتريت بهما أرضًا. أرضًا طيبة، وأنتج محاصيل طيبة من الأرض!» عند ذلك انقلب عليه الجميع ساخرين. ولكن هذا لم يُثنِ وانج لنج عن عزمه، وجعله أكثر قلقًا، كل يوم، على الأرض التي كان يملكها. لما كان وانج لنج يفكر دائمًا في أرضه، فإنه كان يرى الأحداث التي تمر به في المدينة يوميًّا، وكأنه في حلم. فمثلًا كان يرى الناس يوزعون أوراقًا في كل مكان، ولقد حصل مرتين على مثل هذه الأوراق. حمل وانج لنج الورقة، أول مرة، وعاد بها إلى الكوخ ليلًا، وأطلع الرجل العجوز عليها. ولكن هذا أيضًا لم يعرف القراءة. وبعد بضعة أيام، نُسِيَت هذه الورقة، فأخذتها أو-لان، وخاطتها في نعل حذاء مع أوراق أخرى جمعتها من هنا ومن هناك، لكي تجعل نعل الحذاء صلبًا. أما في المرة الثانية، فجاء شاب حسن البزة، من رجال المدينة، وأعطى وانج لنج ورقة عليها صورة رجل ميت أصفر البشرة نحيل الجسم، يرتدي أسمالًا زرقاء بالية. ووقف رجل ضخم بدين الجسم فوق الرجل الميت، يحمل في يده سكينًا طويلة. فنظر وانج لنج إلى الصورة وتاق إلى معرفة معنى الحروف المكتوبة تحتها. فالتفت إلى الرجل الواقف بجواره وقال له: «أتعرف حرفًا أو حرفين فتخبرني عن معنى هذه الصورة المخيفة؟» فقال الرجل: «الزم السكون، وأصغِ إلى المعلم الشاب، سيشرح لنا كل شيء.» وهكذا أصغى وانج لنج؟ فسمع ما لم يسمعه من قبل إطلاقًا. صاح المعلم الصغير، يقول: «إن هذا الرجل الميت هو أنتم. والذي يقتلكم هو الرجل الغني.» علا صياح مَن كانوا يسمعون. ولكن وانج لنج رجع أدراجه غير مقتنع. ومع ذلك فقد أخذ الأوراق من الشاب، لأنه تذكر أن ليس لدى أو-لان ورق يكفي لنعال الأحذية. فلما عاد إلى الكوخ، أعطاها تلك الأوراق. زيادة على التذمر من الربيع، كان هناك التذمر الجديد الذي ينشره ذلك الشاب وأمثاله، بين سكان الأكواخ. على الرغم من أن وانج لنج قد رأى ذلك، وأحس بغضب الجمهور، فلم يرغب في شيء إلا أن يرى أرضه تحت قدميه ثانية. ••• رأى وانج لنج شيئًا آخر، في هذه المدينة، لم يفهم له معنى. فقد أبصر، ذات يوم، وهو يبحث عن زبون، ثلةً من الجنود المسلحين يقبضون على رجل. وبينما كان يشاهد ذلك مدهوشًا، رآهم يقبضون على رجل آخر، وعلى ثالث. بعد ذلك وجد وانج لنج أن أولئك الناس كانوا مثله لا يعرفون سببًا للقبض عليهم. فدفع عربته إلى حارة جانبية، ودخل حمَّامًا عامًّا واختبأ فيه حتى مَرَّ الجنود، ثم سأل صاحب الحمَّام عن معنى ما رآه. فأجابه الرجل العجوز بعدم اهتمام: «ليس معنى هذا سوى نشوب حرب في مكان ما. هؤلاء الجنود ذاهبون إلى ميدان القتال بناحية ما. إنهم يجبرون العمال أمثالك على حمل أمتعتهم وبنادقهم.» فسأله وانج لنج وهو يلهث: «وماذا بعد ذلك؟ أي أجر ..؟ أية فائدة ..؟» كان الرجل المسن عجوزًا جدًّا، فأجاب بعدم اكتراث، قائلًا: «لا أجر سوى لقمتين من الخبز الجاف في اليوم، ويجدر بك أن تعود إلى بيتك إذا استطاعت ساقاك أن تحملاك.» فقال وانج لنج مذعورًا: «حسنًا، ولكن عائلة المرء …» قال الرجل الهَرِم: «وماذا يعرف الجنود عن هذه، أو لِمَ يهتمون بها؟» ومع ذلك، فقد كان هذا الرجل طيب القلب، ورأى الجنود عائدين مرة أخرى، يفتشون الشوارع فقال يخاطب وانج لنج: «انحَنِ أكثر من هذا، فإنهم عائدون.» انحنى وانج لنج، ومَرَّ الجنود في الطريق، متجهين غربًا. وعندما انقطع صوت أحذيتهم، خرج من مكمنه، وأمسك عربته وجرى بها خاوية إلى الكوخ. كانت أو-لان قد عادت من فورها من الطريق لتطبخ قليلًا من الخضراوات التي جمعتها. فأخبرها وانج لنج بما حدث، وكيف استطاع الإفلات ولمَّا يكد. ثم قال: «أحقيقة أني مضطر إلى بيع العبدة الصغيرة، والذهاب شمالًا إلى الأرض؟» غير أنها بعد أن سمعت قصته، قالت بلهجتها البسيطة الثابتة: «انتظر بضعة أيام؛ فإن حديثًا غريبًا يدور حولنا.» رغم هذا، لم يخرج وانج لنج إطلاقًا في ضوء النهار، بل كان ينتظر حتى ينشر الظلام غلالته الدكناء على الكون، فينصرف إلى المتاجر. وبنصف ما كان يكسبه من قبل، يجر طول الليل عربات ضخمة محملة بالصناديق. كل عربة يجرها ويدفعها اثنا عشر رجلًا، وهم يئنون. كان وانج لنج يجر العربات في الشوارع طول الليل، ثم يرجع إلى منزله عند الفجر منهوك القوى لا يكاد يقوى على التنفس، فيتناول طعامه وينام. أما في وضح النهار، فبينما يفتش الجنود الشوارع، كان ينام آمنًا في أقصى ركن من الكوخ. كان وانج لنج يسمع، وهو مختبئ في كوخه، وقع أقدام الجنود، ساعة بعد ساعة، وهم سائرون إلى القتال. لم يكن أحد يتحدث إلى غيره في هذه الأيام. إذ كانت المدينة ترتجف رعبًا. وكان كل رجل يعمل بسرعة ما يجب عليه فعله ثم يعود إلى بيته ويقفل بابه. كان الهمس يدور في كل مكان بأن العدو على الأبواب. ففزع كل مَن كان يملك شيئًا. أما وانج لنج فلم يعتَوِره أي خوف، وكذلك لم يخف أي فرد من ساكني الأكواخ. فإذا كان العدو على الأبواب فليدخل، فلن تصبح الحال أسوأ مما هم عليها الآن. بعد ذلك أخبر مديرو المتاجر عمالَ النقل بأن لا حاجة بهم إلى أن يعودوا ثانية، إذ لم يكن هناك مَن يشتري ويبيع في تلك الأيام. وعلى هذا بقي وانج لنج في كوخه ليل نهار دون القيام بعمل ما. فاغتبط لهذا في أول الأمر، إذ كان يبدو أن جسمه لم يكن يحظى بالراحة الكافية. غير أنه إذا بقي بغير عمل فإنه لا يكسب عيشه، وبعد بضعة أيام نفد ما ادخره من بنسات قلائل، وأخذ يفكر في يأسٍ ماذا يفعل. وكأنما لم تبلغ الحال درجة كافية من السوء في ذلك الوقت، فإذا بالمطاعم الشعبية تغلق أبوابها. فلم يعدْ هناك طعام ولا عمل ولا عابر طريق يمكن مدُّ اليد إليه بالسؤال. أخذ وانج لنج ابنته بين ذراعيه، ونظر إليها ثم قال بعطف: «أيتها البلهاء الصغيرة، أتودين الذهاب إلى بيت عظيم حيث تنعمين بالطعام والشراب. وتنالين معطفًا كاملًا يكسو جسمك؟» فابتسمت الطفلة وهي لا تفهم شيئًا مما قال. ومدت إليه يدها الصغيرة لتلمسه، فلم يحتملها، وصاح يقول لامرأته: «أخبريني، هل كنت تُضرَبين في ذلك البيت العظيم؟» فأجابته في صراحة وبلاهة: «كنت أُضرَب كل يوم بسوط من الجلد معلق على حائط المطبخ.» بينما كان وانج لنج جالسًا هكذا إذ سمع فجأة صوتًا أشبه بقصف الرعد في السماء، فارتمى كل واحد منهم على الأرض، وأخفى وجهه. وغطى وانج لنج وجه الطفلة بيده، وصرخ الولدان رعبًا. وعندما عاد السكون، رفعت أو-لان رأسها وقالت: «لقد حدث ما سمعت عنه. لقد اقتحم العدو أبواب المدينة.» وقبل أن يردَّ عليها أحد بشيء، ارتفعت صيحة خلال المدينة. خافتة أولًا ثم تجمعت في صراخ أخذ يعلو شيئًا فشيئًا حتى ملأ الشوارع. عندئذٍ جلس وانج لنج. وطفق كل منهم يحملق في الآخر، انتظارًا لشيء لم يعرفوه. ثم سمعوا، من جهة الحائط القريب منهم، صوت باب ضخم يصرُّ وهو يُفتح عنوةً. وفجأة أطل الرجل الذي تحدَّث إلى وانج لنج ذات مرة في الظلام، برأسه في مدخل الكوخ وصاح قائلًا: «ألا تزالون جالسين هنا حتى الآن؟ لقد جاءت الساعة .. انفتحت لنا أبواب الرجل الغني!» وكما لو كان بفعل السحر، اختفت أو-لان، متسللة من تحت ذراع الرجل وهو يتكلم. نهض وانج لنج متثاقلًا، ووضع الطفلة على الأرض، وخرج إلى بيت الرجل الثري. فُتِحَت الأبواب الضخمة، واندفع الناس خلالها في زحام شديد، حتى إنهم كانوا يتحركون ككتلة واحدة. وأسرع آخرون من الخلف، وأمسكوا وانج لنج ودفعوه أمامهم وسط الزحام، سواء أرَغِب في ذلك أم لم يرغب. فظل يُدفَع من بهو إلى آخر، ولم يرَ أحدًا من الرجال أو النساء الذين كانوا يعيشون في ذلك البيت. بل رأى الطعام فوق الموائد في الحجرات، والنار موقدة في المطابخ. كان ذلك الحشد على علم بأبهاء الأغنياء، لأنهم مروا على كل شيء في الأبهاء الداخلية حيث كانت الأَسرَّة الفاخرة للُّوردات وسيداتهم، وصناديق الملابس الحريرية والكنوز. فانهالت جموع الناس على هذه يخطفون كل شيء، ولا يقف أحدهم ليرى ما أخذه. أما وانج لنج، فهو وحده الذي لم يأخذ شيئًا وسط تلك الفوضى. لم يحدث في حياته كلها أن أخذ قط شيئًا يملكه غيره. ولم يستطع أن ينهب من فوره. وعلى هذا وقف أولًا وسط الجموع، ثم أفاق لنفسه واندفع إلى جانب، فألفى نفسه في نهاية آخر بهو كانت تقيم فيه سيدات الأغنياء. كان الباب الخلفي مفتوحًا، ولا شك أن جميع السكان قد هربوا في ذلك اليوم من هذا الباب. بَيْد أن رجلًا واحدًا لم يتمكن من الهرب. فالتقى به وانج لنج فجأة في حجرة داخلية خاوية. كان ذلك الرجل بالغ السمنة، ليس بالعجوز ولا بالشاب. فما إن أبصر وانج لنج حتى ارتعد فرائصه وسقط على ركبتيه وصاح: «أبقِ عليَّ حياتي .. ولا تقتلني. عندي أموال لك .. أموال كثيرة!» كانت كلمة «أموال» هذه هي التي نفذت بوضوح إلى ذهن وانج لنج كأنما هناك صوت يقول: «أموال .. إذن فالطفلة قد نجت .. والأرض!» فصاح عندئذٍ بصوت لم يعهده في صدره من قبل، وقال: «عليَّ، إذن، بالأموال!» أخرج الرجل البدين يديه الصفراوين من جيب ثوبه وهو يبكي، يتدفق منهما الذهب. فبسط وانج لنج طرف سترته وتلقى فيه النضار. ثم صاح ثانية بصوته الغريب، الذي كان أشبه صوت رجل غيره، وقال: «زدني من هذا!» ومرة ثانية خرجت يدَا الرجل يتدفق منهما العسجد، وصاح قائلًا: «لم يبقَ معي شيء الآن. ليس عندي غير حياتي الحقيرة.» ثم طفق يبكي. نظر إليه وانج لنج وهو يرتعش ويبكي، واشمأز منه فجأة أكثر من اشمئزازه من أي شيء آخر في حياته كلها، فصاح فيه، يقول: «اغرُب من أمام وجهي، وإلا قتلتك كما لو كنتَ دودة سمينة!» هكذا صاح وانج لنج رغم أنه كان رقيق القلب لدرجة أنه لم يقوَ على قتل ثور. فجرى الرجل من أمامه واختفى. بعد ذلك وضع وانج لنج الذهب في صدره وخرج من الباب المفتوح، واجتاز الشوارع الخلفية حتى بلغ كوخه. وأخذ يكرر في نفسه: «نعود إلى الأرض .. غدًا نعود إلى الأرض.»
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/15/
الباب الخامس عشر
لم تمضِ بضعة أيام حتى خُيِّل إلى وانج لنج أنه لم يبتعد عن أرضه كما ابتعد عنها في هذه المرة. فاشترى بثلاث قطع ذهبية بذورًا جيدة من الجنوب، قمحًا وأرزًا وحبوبًا، لم يسبق أن زرع مثلها. وبخمس قطع ذهبية اشترى ثورًا من فلاح كان يحرث أرضه. فقد شاهد رجلًا يحرث. فوقف، ووقف معه جميع أفراد أسرته، وراحوا ينظرون إلى الثور. لقد بهت وانج لنج بعنقه الضخم القوي، فصاح قائلًا: «هذا ثور حقير! بكم تبيعه، بالنقود الفضية أو الذهبية، إذ ليس عندي بهيمة وأريد الحصول على أي شيء؟» فأجابه الفلاح بقوله: «من الأسهل علي أن أبيع زوجتي ولا أبيع هذا الثور الذي لم يتجاوز الثالثة من العمر، ولا يزال في أول حياته.» واستمر يحرث، ولم يقف ليتحدث إلى وانج لنج. خُيِّل إلى وانج لنج أنه لا بد أن يحصل على هذا الثور من بين جميع الثيران الموجودة في الدنيا، فقال لأو-لان: «كيف ترين هذا الثور؟» فقالت أو-لان: «إنه أكبر مما يقول بسنة.» غير أن وانج لنج لم يقل شيئًا، إذ صمم على اقتناء هذا الثور. وأخيرًا بعد أخذ ورد وعراك، ترك الفلاح له الثور بقدر ثمنه في تلك الجهات مرة ونصف مرة. فقاده وانج لنج ومشى. عندما وصلت عائلة وانج لنج إلى بيتها، وجدت بابه منزوعًا، واختفى أكثر السقف. كما أنها لم تجد الفأسين ولا شوكتَي جمع الحشائش التي تركتها. بَيْد أنه بعد زوال أثر الدهشة المفاجئة، لم يكن هذا أمرًا ذا بال يكترث له وانج لنج. فذهب إلى المدينة واشترى محراثًا جديدًا متينًا، وشوكتين وفأسين، وحصيرًا لتغطية السقف ريثما يعيدون بناءه من جديد. عندما أقبل المساء، وقف وانج لنج بباب داره: ومد بصره عبر الأرض، أرضه، وهي مفككة ويانعة بعد تجمدها في الشتاء، ومُعَدَّة للبذر. كان الوقت في عز الربيع. واستطاع، من خلال الشفق، أن يرى الأشجار عند حافة الحقل القريب. كانت أشجار خوخ وصفصاف وقد بدأت تُنبت أوراقًا غضة خضراء. وكان يتصاعد من الأرض ضباب خفيف فيعلق بجذوع الأشجار. خُيِّل إلى وانج لنج، في بادئ الأمر، أنه لا يرغب في رؤية أحد. بل كان يفضل أن يبقى وحده في أرضه. فلم يذهب إلى بيت أي شخص في القرية. وعندما أتى إليه جيرانه، قابلهم بجفاء. فصاح في وجوههم، قائلًا: «مَن منكم الذي نزع باب بيتي؟ ومَن منكم أخذ شوكتَيَّ وفأسَيَّ؟» بعد ذلك جاء جاره تشنج، يزحف من منزله، ليرى وانج لنج، وقال: «كان يعيش بمنزلك في الشتاء عصابة من اللصوص. ويقال إن عمك يعرف عنهم أكثر مما يجب أن يعرفه الرجل الشريف. وعلى أية حال، فما من أحد يعرف الحقيقة في هذه الأيام.» لم يكن هذا الرجل إلا شبحًا حقًّا. كان هزيلًا ممتقع اللون، مع أنه لم يبلغ الرابعة والخمسين من عمره. فحملق فيه وانج لنج، ثم قال: «يبدو أنك رأيت أيامًا أسوأ مما رأينا. وماذا كنت تأكل؟» تأوَّه الرجل في همس، وقال: «وماذا كنت لا آكله؟ أكلنا الكلاب الميتة. وذات مرة، قبل أن تموت زوجتي، أعَدَّت لنا حساءً من لحم لم أجرؤ على أن أسأل ماذا كان.» وظل ساكنًا. وبعد مدة قال: «لو كان عندي بذور لزرعت ثانية. غير أنني لا أملك بذورًا.» فقال وانج لنج: «تعالَ هنا!» وأخذه من يده إلى داخل البيت، وأعطاه قمحًا وأرزًا، وبذور كرنب، وقال له: «سأذهب غدًا، وأحرث أرضك بثوري العظيم.» بعد ذلك بدأ تشنج يبكي، فجأة، ولم يستطع أن يجيب عليه بشيء، وانصرف يبكي ويبكي. ابتهج وانج لنج عندما عَلِمَ أن عمه قد غادر القرية، ولم يعرف أحد إلى أين رحل بالضبط. أخذ وانج لنج يشتغل في الأرض، ولم يرغب حتى في أن يضيع وقتًا بمنزله في تناول الطعام وفي النوم. كان يعجبه أن يأخذ رغيفه وبعض الثوم إلى الحقل. وإذا بلغ به الكلال غايته بالنهار، استلقى في أخدود ونام، مستدفئًا بحرارة أرضه الطيبة الملامسة لجسده. أما أو-لان فلم تكن خاملة بالمنزل. فأخذت بيديها طينًا من الحقول وخلطته بالماء، وأصلحت حوائط البيت. وبَنَت الموقد من جديد، وسَدَّت الثقوب التي أحدثها المطر في أرض الحجرات. وفي أحد الأيام، ذهبت إلى المدينة مع وانج لنج واشتريَا معًا أَسرَّة ومائدة وستة مقاعد. ثم اشتريَا، مسرورَين، إبريق شاي من الفخار الأحمر، وستة أقداح تناسبه. واشتريَا أخيرًا شمعدانين وشمعتين حمراوين. بعد هذا فكَّر وانج لنج في الربَّين الصغيرَين الموجودَين بمعبد الأرض. فتمتم بعض كلمات على مضض وقال: «يجب أن أغرس عودين من البخور أمام الإلهَين القائمَين في المعبد، فعلى أية حال، لهما السلطة على الأرض.»
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/16/
الباب السادس عشر
في إحدى الليالي، أحس وانج لنج بِصُرة صلبة على جسم زوجته، فقال لها: «ما هذا الذي تضعينه فوق جسمك؟» ولما أمسك بها ليجذبها، تركتها له، وقالت: «حسنًا، انظر ما فيها إن كان لا بد لك من ذلك.» وسحبت الخيط الذي ربطت به الصرة إلى عنقها، وقطعته وأعطت زوجها الصرة. كانت ملفوفة في قطعة من الخرق، فمزقها. فوقعت في يده فجأة كتلة من الجواهر، فنظر إليها وانج لنج مذهولًا. لقد عَلِم من بريقها وتألقها في الحجرة شبه المظلمة، أنه يمسك ثروة. فأمسكها وراح هو والمرأة ينظران معًا إليها. وأخيرًا همس إليها وهو مبهور الأنفاس: «من أين … من أين …؟» فهمست إليه في رقة، قائلة: «من بيت الرجل الغني. رأيت آجُرَّة مزعزعة في الحائط، فنزعتها، فإذا بي أرى هذه الأشياء تتألق، فأخذتها وخبأتها في كمي.» صمت كلاهما من جديد وهما يتطلعان إلى غرابة الأحجار. وبعد فترة طويلة، قال وانج لنج في حَزْم: «لا يمكننا الاحتفاظ بكنز هكذا. لا بد من بيعه وتحويله إلى أرض؛ فلا أمان لشيء غيرها.» لف وانج لنج الأحجار في الخرقة ثانية. وعندما فتح معطفه ليضعها في صدره، نظر إلى وجه امرأته بمحض الصدفة. كان يتحرك ويتجلى فيه لهفة كئيبة. فسألها: «ماذا تريدين الآن؟» وهو يعجب من منظرها. وفي لهجة تَنُم عن اللهفة والعجز قالت: «أتمنى لو استطعت أن أحتفظ باثنتين منها لنفسي.» حتى إنه تأثر كما يتأثر لمنظر أحد أطفاله يتلهف إلى لعبة، أو إلى قطعة من الحلوى. فصاح مدهوشًا: «وماذا الآن؟» قالت في ذلة ومسكنة: «هل أستطيع الاحتفاظ باثنين منها؟ حجرين صغيرين فقط .. حتى ولو كانا اللؤلؤتين البيضاوين الصغيرتين … يمكنني أن أتحسسهما بيدي أحيانًا.» تأثر وانج لنج بشيء لم يفهمه، فأخرج الجواهر من صدره، وقدَّمها إليها في سكون. فأخذت تبحث في الأحجار المتألقة حتى عثرت على لؤلؤتين بيضاوين ناعمتين، فأخذتهما. ثم ربطت الباقي ثانية وأعادته إلى وانج لنج. أخذت اللؤلؤتين، ومزقت قطعة قماش من معطفها ولفتهما فيها، وأخفتهما في صدرها. وبذا ارتاحت. ولكن وانج لنج شاهدها مستغربًا، وهو نصف عارف قصدها. أما فيما يختص ببقية الجواهر، فقد قرر أخيرًا أن يذهب إلى البيت العظيم ويسأل عما إذا كانت توجد لديهم أرض يمكنه شراؤها. انطلق إلى البيت العظيم، ولم يكن يقف أمام بابه بواب في هذه الأيام، بل إن الأبواب موصدة، فشرع وانج لنج يطرقها بكلتا قبضتيه. ولكن أحدًا لم يخرج إليه. وأخيرًا سمع وَقْع أقدام آتية صوب الباب، وهمس صوت، يقول: «مَن الطارق؟» عرف وانج لنج أن ذلك هو السيد العجوز نفسه، فأجاب: «سيدي وأميري! أتيتُ لأمر بسيط مع الوكيل الذي يخدم عظمتكم.» فرد عليه السيد العجوز من خلال شق الباب: «لقد تركني ذلك الكلب منذ عدة شهور خلت، وليس هو ها هنا.» لم يدْرِ وانج لنج ماذا يفعل بعد ذلك الرد. من المستحيل أن يتحدث عن شراء أرض مع السيد العجوز مباشرة. فقال مترددًا: «أتيتُ من أجل مبلغ بسيط من النقود.» ما إن سمع السيد العجوز ذلك حتى أغلق الباب في الحال، وقال بصوت أعلى مما اعتاد أن يتحدث به: «لا توجد نقود بهذا المنزل. لا يمكن دفع أية ديون.» فصاح وانج لنج بسرعة، وقال: «كلا .. كلا، إنما جئتُ لأدفع، وليس لأحصِّل دينًا.» عند ذلك سمع وانج لنج صيحة من صوت لم يسمعه من قبل، وأطلت امرأة بوجهها فجأة من الباب. قالت المرأة في حدة: «هذا شيء لم أسمع به منذ زمن طويل.» وفتحت الباب فتحة تتسع لدخوله، ثم أغلقته ثانية. وقف السيد العجوز هناك يسعل ويحملق، وقد لفَّ جسمه بثوب قذر من الساتين الرمادي. فحملق فيه وانج لنج بدوره، وقد لاح له أنه يستحيل أن يكون هذا هو السيد العجوز الذي سمع عنه كثيرًا، هذا الشخص المسن الذي لم يكن مهيبًا أكثر من والده. والحقيقة أنه كان يقل عنه هيبة؛ لأن والده رجل عجوز نظيف باسم، أما هذا العجوز فلم يغسل جسمه ولم يحلق ذقنه. أما المرأة فكانت في غاية النظافة. كان وجهها صلبًا حادًّا، ووجنتاها وشفتاها حمراء وصلبة. وأما صوتها فلا يدل على أنها من أسرة اللورد، بل عبدة حادة الصوت سليطة اللسان. ولم يكن يوجد بالمنزل أي فرد غير هذين. فقالت المرأة بحدَّة: «ماذا عن النقود؟!» ولكن وانج لنج لم يستطع الكلام جيدًا أمام اللورد العجوز، ولاحظت المرأة ذلك في الحال، فقالت للرجل المسن: «انصرف من هنا!» فانصرف السيد العجوز صامتًا لا ينطق بكلمة واحدة، وكان يسعل في أثناء سيره. فقالت المرأة في حدَّة بالغة: «وماذا الآن، أيها الرأس الخشبي؟!» فوثب وانج لنج عندما سمع صوتها. فقالت: «ما هي مهمتك؟ إن كان معك نقود فأرنيها.» فقال وانج لنج: «كلا، لم أقل إن معي نقودًا، بل جئت لعمل.» قالت: «العمل يعني النقود.» قال: «بيد أنه لا يمكنني التحدث في هذا مع امرأة.» قالت: «ولمَ لا؟» ثم صاحت فيه فجأة: «ألم تسمع، أيها الغبي، أنه لا يوجد أحد هنا؟ ليس هنا سواي أنا والسيد العجوز .. وما من أحد آخر!» فسألها وانج لنج: «أين إذن؟» وكانت دهشته بالغة، لدرجة أن كلامه كان عديم المعنى. فأجابت المرأة، قائلة: «حسنًا. لقد ماتت السيدة العجوز. ألم تسمع كيف اقتحم اللصوص هذا المنزل ونهبوا كل ما اشتهوا أن ينهبوه؟ وعلقوا اللورد العجوز من إبهاميه وضربوه، وربطوا السيدة العجوز في مقعد، فهرب كل فرد كان هنا. ولكني بقيتُ واختبأت. وعندما خرجت كانوا قد هربوا، وماتت السيدة العجوز وهي جالسة على مقعدها، من الذعر.» فقال وانج لنج وهو يلهث: «والخدم والعبيد؟» فأجابته بعدم اهتمام: «كانوا قد انصرفوا منذ وقت طويل؛ إذ أطلق كل فرد العنان لقدميه؛ لأنه ما إن جاء منتصف الشتاء حتى نفد كل ما لدينا من الطعام والنقود.» سكتت المرأة بعد ذلك، ثم قالت: «ولكن هذا لم يكن شيئًا غير متوقع؛ فقد كفَّ اللوردات في الجيل الماضي عن الإشراف على الأرض، وقنعوا بالنقود التي كان يعطيهم إياها الوكلاء، وأنفقوها.» فسأل وانج لنج: «وأين اللوردات الصغار؟» قالت: «هنا وهناك؛ فعندما سمع اللورد الأصغر بما حدث لوالده ووالدته، بعث رسولًا ليأخذ السيد العجوز. ولكنني حثثته على عدم الذهاب معه.» نظر وانج لنج إليها مليًّا. بدأ يتأمل في كنه هذه المرأة التي تعلقت برجل عجوز على حافة القبر، لتحصل منه على آخر ما يمكنها الحصول عليه. فقال بازدراء: «أرى أنكِ لست إلا عبدة، فكيف أعقد معك صفقة عمل؟» عندئذٍ صاحت فيه، قائلة: «سيفعل السيد العجوز أي شيء آمره به.» أخذ وانج لنج يفكر في هذا الرد. ثم إن هناك الأرض التي يستطيع أن يشتريها غيره عن طريق هذه المرأة إذا لم يشترِها هو. فقالت المرأة بسرعة: «إذا كنتَ قد أتيت لشراء أرض، فلدينا أرض للبيع. ليست كلها قطعة واحدة، ولكنها قطع كبيرة، ويمكن بيعها لآخر فدان.» رأى وانج لنج أنها تعرف كل شيء تركه الرجل العجوز، ومع ذلك فلا يريد أن يعقد الصفقة معها. فقال: «ليس من المعقول أن يبيع اللورد العجوز كل أرض عائلته بدون موافقة أولاده.» فأجابت المرأة على قوله هذا بلهفة: «أما من هذه الوجهة، فقد أخبره أولاده بأن يبيع كلما استطاع أن يبيع.» فسألها وانج لنج: «وفي يد مَن أدفع النقود؟» قالت: «في يد السيد العجوز طبعًا. فهل تدفعها ليد أحد غيره؟» بيد أن وانج لنج كان يعرف أن يده تفرغ في يدها. استدار وانج لنج قائلًا: «في يوم آخر .. في يوم آخر.» انصرف وانج لنج يسير في الطريق ليفكر فيما سمعه. فذهب إلى مَشرَب شاي صغير وطلب قدحًا من الشاي. وعندما وضعه الصبي أمامه، أخذ يفكر في الأسرة العظيمة الغنية التي سقطت الآن وتشتَّت أفرادها. فكر في نفسه قائلًا: «هذا يأتي من أرضهم.» ثم فكر في ولديه وقرر أن يجعلهما، في هذا اليوم عينه، يشتغلان في الحقل حيث يشعران، في عظامهما ودمهما، بالأرض التي تحت أقدامهما. كانت الجواهر معه طيلة ذلك الوقت، ولن يهدأ له بال حتى تتحول إلى أرض. فأخذ يراقب صاحبَ المشرب حتى وجده خاليًا لحظة، فناداه وقال له: «تعالَ، واشرب قدحًا على حسابي، وأخبرني بأنباء المدينة إذ كنتُ غائبًا عنها منذ الشتاء الماضي.» كان صاحب المشرب على استعداد دائمًا لمثل هذا الحديث، ولا سيما إذا شرب شايًا على حساب غيره. فجلس وأنشأ يتكلم من فوره: «فضلًا عن أنباء الشعب الجائع، التي ليست شيئًا جديدًا، فإن أعظم الأنباء هي السرقة التي حدثت في بيت هوانج.» كان هذا عين ما يأمل في سماعه وانج لنج. واستمر الرجل يقص عليه كيف طُرد بضعة العبيد الباقين، أو أُخذوا، حتى إنه ما من أحد يهتم بالحياة في ذلك المنزل إطلاقًا. ثم أتم حديثه بقوله: «لا أحد غير اللورد العجوز، الذي تسيطر عليه تمامًا أمَة تدعى كوكو.» فسأله وانج لنج أخيرًا: «والأرض! هل هي للبيع؟» فأجاب الرجل بعدم اكتراث، قائلًا: «آه، الأرض! سمعت أنها للبيع، ما عدا القطعة التي بها مدافن العائلة.» بعدئذٍ نهض وانج لنج، وانصرف. فاقترب من الأبواب الضخمة من جديد. وأقبلت المرأة ثانية، فقال لها: «أخبريني أولًا؛ هل يضع اللورد العجوز خاتمه على عقد البيع؟» فأجابته المرأة متلهفة: «يضعه .. يضعه .. أقسم بحياتي!» فقال لها وانج لنج: «هل تبيعون الأرض بالذهب أم بالفضة أم بالجواهر؟» تألقت عينَا المرأة وهي تجيبه بقولها: «أبيعها بالجواهر!»
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/17/
الباب السابع عشر
أصبح وانج لنج يملك أرضًا أكثر مما يستطيع رجل أن يحرث بثور واحد، ويجمع المحصول. ولذلك بنى حجرة صغيرة أخرى في منزله، واشترى حمارًا، وقال لجاره تشنج: «بعني قطعة الأرض الصغيرة التي تملكها، واترك منزلك الذي تعيش فيه وحيدًا، وتعالَ إلى منزلي، وساعدني في خدمة الأرض.» ففعل تشنج كما طلب إليه وانج لنج، وسُرَّ لفعله. عندما حان موعد الحصاد، لم يستطع وانج لنج وتشنج أن يجمعا المحصول وحدهما؛ إذ كان كبيرًا جدًّا، فاستأجر وانج لنج رجلَين آخرَين للعمل معهما، وبذا حصدوه جميعًا. وبينما هو يشتغل في الحقل، تذكر اللوردين الصغيرين لبيت هوانج. فأخذ ولديه معه إلى الحقول، وجعلهما يشتغلان فيما تستطيعه أيديهما الصغيرة. أما أو-لان، فلم يسمح لها بالعمل في الحقول؛ لأنه لم يعد فقيرًا بعد. ولم يحدُث أن أنتجت الأرض غلة كالتي أنتجتها في هذه السنة، فاضطُر إلى أن يبني حجرة بالمنزل، ليخزن فيها محاصيله. واشترى ثلاثة خنازير، وقطيعًا من الدجاج ليتغذى بالحبوب المتخلفة من الغلال. كانت أو-لان إذن تعمل بالمنزل؛ فصنعت ملابس وأحذية جديدة لكل فرد. وعملت حشايا جديدة من القماش المشجر والقطن الدافئ لكل سرير. ثم رقدت على سريرها، وولدت مرة أخرى، رغم أنها لا تزال تلد وحدها دون أن يكون معها أحد. عندما رجع وانج لنج إلى بيته في المساء، وجد أباه واقفًا عند الباب يضحك. وعندما دخل الحجرة الداخلية، أبصر أو-لان راقدة على السرير، وبجانبها طفلان حديثَا الولادة. كانَا ولدًا وبنتًا، متشابهين تمام الشبه، كما تتشابه حبتان من الأرز. ضحك وانج لنج بصوت مرتفع مما فعلته أو-لان. فابتسمت ابتسامتها البطيئة المؤلمة. لم يكن لدى وانج لنج الآن ما يحزنه، سوى أن ابنته الكبرى لم تتكلم ولم تفعل شيئًا مما يناسب سنها. ولكنها كانت لا تزال تبتسم ابتسامة طفولتها. وقد ظل وانج لنج ينتظر، شهرًا بعد شهر، أن تنطق بأول ألفاظها … غير أنها لم تنطق بعد، وعندما نظر إليها، تأوَّه قائلًا: «أيتها البلهاء الصغيرة .. يا بلهائي الصغيرة المسكينة!» وكما لو كان يرغب في أن يعوِّض الطفلة، كان يهتم بها كثيرًا، وكانت تتبعه أينما ذهب صامتة. تبتسم عندما يتكلم وينظر إليها. ••• في هذه المنطقة التي عاش فيها وانج لنج طول حياته، وعاش فيها أبوه، وأبو أبيه، على الأرض، كان يحدث قحط كل خمس سنوات. أو إذا أشفقت عليهم الآلهة، كان يحدث كل سبع أو ثماني أو عشر سنوات. والسبب في ذلك هو أن المطر، إما أن يهطل وابلًا، وإما أن لا يسقط إطلاقًا. أو لأن النهر الشمالي كان يمتلئ بمياه الأمطار والثلوج التي تسقط شتاءً في الجبال البعيدة، فيفيض في الحقول من فوق الحواجز التي بناها القوم منذ عدة قرون، لتوقفه. هرب الناس من الأرض، ثم عادوا إليها، مرةً بعد مرة. ولكن وانج لنج دبَّر أموره وثروته، بحيث إذا صادفته سنون سيئة، لا يُضطر إلى ترك أرضه مرة ثانية. وكانت المحاصيل تأتي من الأرض لمدة سبع سنوات. فكان وانج لنج ورجاله يحصدون محاصيل تزيد كثيرًا عن طعامهم. وكان يستأجر عمالًا في كل سنة، حتى صار لديه ستة من العمال. وبنى بيتًا جديدًا وراء بيته القديم، به حجرة كبيرة خلف بهو، وحجرتان صغيرتان على كل من جانبَي البهو. وغطى سقف هذا البيت الجديد بالقرميد. أما الحوائط فما زالت من اللبِن الذي يصنعه من طين حقوله. بَيْد أنه طلاه بالجير، فصار أبيض نظيفًا. وانتقل وانج لنج وأسرته إلى هذه الحجرات. وسكن العمال، وعلى رأسهم تشنج، في البيت القديم، أمامه. بعد مرور خمس سنوات لم يعد وانج لنج يشتغل بنفسه في حقوله إلا قليلًا، وإنما كان يقضي كل وقته في بيع المحاصيل وما يتعلق بها من أمور، وفي الإشراف على عماله. وكان عدم معرفته بإمساك الدفاتر عائقًا كبيرًا يحيِّره، كما كانت موضع سخرية كتبة متاجر الحبوب. فقال في نفسه: «حقيقة إنه ليخجلني ألا أعرف القراءة والكتابة. ولكني سأسحب ابني الأكبر من العمل في الحقول وأُرسله إلى المدرسة بالمدينة، فعندما أذهب إلى أسواق الغلال، يتولى هو القراءة والكتابة لي. وبذلك أضع حدًّا لذلك الضحك مني.» في نفس ذلك اليوم، دعا إليه ابنه الأكبر، وكان فتًى طويل القامة في الثانية عشرة من عمره، يشبه أمه منظرًا، وأباه سرعة نظر. فلما جاء أمامه قال له: «لا تشتغل بالحقول من اليوم فصاعدًا؛ لأنني أريد أن يكون في أسرتي عالِم يقرأ العقود ويكتب اسمي حتى لا أخجل من نفسي في المدينة.» عندئذٍ لمعت عينا الصبي، وقال: «أبتاه، هكذا كانت رغبتي في هاتين السنتين الأخيرتين، ولكني لم أجد الجرأة على طلب ذلك.» لمَّا سمع الغلام الأصغر بهذا الأمر ملأ البيت عويلًا وأخذ يتذمر قائلًا: «وأنا كذلك لن أشتغل في الحقول.» لم يحتمل وانج لنج صخب وضوضاء ذلك الصبي، فقال بسرعة: «حسنًا، وحسنًا جدًّا. كلاكما سيذهب إلى المدرسة.» بعد ذلك أرسل أم ولدَيه إلى المدينة لتشتري قماشًا تصنع منه ثوبًا طويلًا لكل منهما. وأخيرًا أُعِدَّ كل شيء لإرسال الغلامين إلى مدرسة لرجل عجوز بقرب باب المدينة. عندما صحبهما في أول يوم سار أمامهما؛ إذ لا يليق أن يسير الأب والابن جنبًا إلى جنب. وكان يحمل صرة زرقاء مملوءة بالبيض الطازج ليقدمه إلى المدرس العجوز عندما يصل إلى المدرسة. فلما بلغها، انحنى وانج لنج أمام الأستاذ حتى كاد رأسه يلمس الأرض، وقال: «أي سيدي، هاكَ ولديَّ الحقيرين. إن كان ثمة شيء سيُدفع في جمجمتيهما الغليظتين، فلن يكون إلا الضرب. ولذلك، إذا أردت أن تسرني، فاضربهما ليتعلمَا.» عندما رجع وانج لنج وحده إلى منزله، كان الزهو يملأ قلبه، ولاح له أنه ما من صبي بين جميع الصبيان الموجودين بحجرة المدرسة، يعادل ولديه من حيث الطول والقوة والوجه البني اللامع. منذ ذلك اليوم لم يُطلَق على الولدين «الأكبر والأصغر»، بل أطلق عليهما المدرس العجوز اسمين مدرسيَّين؛ فسمَّى الأكبر ننج إن، والأصغر ننج ون. واللفظ الأول لكل منهما معناه «شخص ثروته من الأرض».
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/18/
الباب الثامن عشر
هكذا كوَّن وانج لنج ثروة بيته. وما إن أقبل العام السابع حتى طفح النهر العظيم المتجه إلى الشمال، بالماء؛ إذ هطلت أمطار غزيرة، ونزل ثلج كثير من المناطق الشمالية الغربية. فارتفعت المياه على الشاطئَين وغمرت جميع أراضي المنطقة. بيد أن وانج لنج لم يخشَ شيئًا؛ فلم يتطرق الخوف إلى نفسه على الرغم من أن خُمسَي أرضه صارت بحيرة يصل الماء فيها إلى أكتاف الرجل ويزيد. كانت أسواق الغلال مدينة له بالنقود. وكانت مخازنه مملوءة بغَلَّة السنتين الماضيتين. وكانت بيوته تقف هكذا شامخة فلا تصل إليها المياه. لمَّا لم يمكن زرع معظم الأرض، ظل وانج لنج بدون عمل، أكثر من أي وقت مضى في حياته كلها. وليس من اليسير على المرء أن يجلس وينظر إلى بحيرة من الماء تغطي حقوله. كما أنه لا يستطيع أن يأكل في وجبة واحدة أكثر مما تتسع له معدته. وعندما كان ينام، كان يملُّ النوم. وقد شمل المنزل هدوء لا يطيقه الدم المتوثب. أما الرجل العجوز فقد أصابه الضعف حتى أصبح لا يتحدث إليه أي فرد إلا ليسأله عمَّا إذا كان يشعر بالدفء والشبع، أو عمَّا إذا كان يريد قدحًا من الشاي. وقد أقلق وانج لنج ألَّا يستطيع والده أن يرى ما فيه ابنه من ثراء. وما كان أحد ليقول له شيئًا؛ لأنه كان ينساه في الحال. ليس لدى الرجل العجوز، والبنت الكبرى التي لم تتكلم إطلاقًا، بل كانت تظل جالسة بجانب جدها ساعة بعد ساعة، تلوي بين يديها قطعة من المنسوج؛ ليس لدى هذَين ما يقولانه له. كان وانج لنج يدير وجهه دائمًا عن ابنته الكبرى في لحظة هدوء، وينظر إلى طفليه الصغيرين، الولد والبنت، اللذَين ولدتهما أو-لان معًا أخيرًا، واللذَين كانَا يجريان الآن في مرح. غير أن المرء لا يمكن أن يقنع ببلاهة الأطفال الصغار؛ ولهذا أخذ ينظر إلى زوجته أو-لان. وخُيِّل إليه أنه ينظر إليها لأول مرة في حياته. فرأى لأول مرة أنها امرأة، لا يمكن أن يصفها أي رجل إلا بأنها مخلوق غبي عادي، تعيش وهي صامتة، لا تفكر في منظرها، الذي تبدو به في عيون الآخرين. فلما نظر إليها هكذا، صاح قائلًا: «كل مَن ينظر إليك الآن، لا يقول إلا إنك زوجة رجل عادي، لا زوجة رجل يملك أرضًا.» كانت هذه أول مرة يتكلم فيها عمَّا تبدو عليه أمام ناظريه. فعَلَتْ عظامَ خدَّيها حمرةُ خجل شديدة. وتمتمت قائلة: «منذ أن ولدتُ هذين التوءمين، وصحتي ليست على ما يرام. أشعر بالتهاب في أعضائي.» فأجابها بخشونة أكثر مما أراد: «أقصد أن أقول، ألَا يمكنك أن تشتري قليلًا من الزيت لشعركِ، كما تفعل السيدات الأخريات، وتصنعي لك معطفًا من المنسوج الأسود؟» ولكنها لم تُجب بشيء، بل نظرت إليه في ذلة. فأحس بعد ذلك كما لو كان قد خجل بينه وبين نفسه من أنه قد جرح كرامة هذه المخلوقة التي تبعته كل هذه السنين في وفاء، كما يتبع الكلب سيده، فاستمر يقول: «وأقدامكِ هذه …» لم يُتم وانج لنج كلامَه إذ كانت تبدو أمامه دميمة في كل شيء، ولكن أكثر دمامتها كان في قدميها الكبيرتين داخل الحذاء المصنوع من المنسوج القطني، فنظر إليهما باشمئزاز حتى إنها أدخلتهما تحت المقعد. وقالت أخيرًا هامسة: «لم تربط أمي قدميَّ؛ إذ باعتني عبدةً وأنا صغيرة السن. أما أنا فسأربط قدمَي الطفلة الصغيرة.» خجلت أو-لان لغضب زوجها منها. أما هو فارتدى ثوبه الأسود الجديد، وقال: «سأذهب إلى مشرب الشاي الجديد عساي أسمع شيئًا جديدًا. لا أحد في منزلي غير البلهاوات ورجل عجوز وطفلين.» كان بالمدينة مشرب شاي كبير افتتحه حديثًا رجل من أهل الجنوب. وأراد وانج لنج أن ينسى تعسُّفه مع زوجته، فذهب إلى ذلك المكان. بادئ ذي بدء، لم يتكلم وانج لنج في مشرب الشاي العظيم، بل طلب قدحًا من الشاي واحتساه في هدوء، ونظر حواليه متعجبًا. كان المشرب بهوًا فسيحًا عُلِّقت على جدرانه لوحات من الحرير الأبيض رُسم عليها صور بعض النسوة … خُيِّل إلى وانج لنج أنهن نساء عالم الأحلام. فنظر إليهن في اليوم الأول، وشرب الشاي بسرعة، وانصرف. بَيْد أنه طالما كانت المياه تغطي أرضه، كان يذهب يومًا بعد يوم إلى ذلك المشرب ويطلب الشاي. كان يجلس وحيدًا ويشرب الشاي، ويحملق في صور السيدات الفاتنات. وكان سيستمر على تلك الحال لعدة أيام، لولا أنه بينما كان جالسًا يشرب الشاي ذات مساء، ويمعن النظر في الصور، إذ بشخص يأتي من السلم الضيق القائم في الطرف البعيد للبهو، ويربت على كتفه. فالتفت مذعورًا. وما إن رفع رأسه حتى وقع بصره على الوجه الصغير الجميل، وجه المرأة كوكو، التي وضع في يديها الجواهر يوم أن اشترى الأرض. فقالت وهي تضحك منه: «حسنًا. هذا هو وانج المزارع! ومَن كان يفكر في أن يراك هنا!» خُيِّل إلى وانج لنج أنه لا بد أن يبرهن لهذه المرأة أنه أكثر من مجرد فلاح ريفي. فضحك، وقال بصوت عالٍ: «أليست نقودي التي أُنفقها، طيبة كنقود أي رجل آخر؟ وإني لأملك نقودًا في هذه الأيام.» وقفت كوكو عند سماعها ذاك القول، وكان صوتها سلسًا كالزيت، فقالت: «ومَن ذا الذي لم يسمع بهذا؟ وهل ينفق أي رجل نقوده في مكان طيب، إلا في هذا المكان؟ لا يوجد نبيذ يفوق نبيذنا .. هل ذقته، يا وانج لنج؟» أجاب وانج لنج وهو شبه خجلان: «لم أذق إلا الشاي حتى الآن.» فصاحت مدهوشة وهي تضحك عاليًا: «شاي! وأظنك لم تنظر إلى شيء سواه، أليس كذلك؟» قال: «كلا .. كلا .. لم أنظر …» ضحكت المرأة ثانية، وأشارت إلى الصور المرسومة وقالت: «اختر أية سيدة تريدها من هؤلاء، وضع النقود الفضية في يدي، وأنا أحضرها لك.» فقال وانج لنج مستغربًا: «ظننتهن نساء الأحلام كاللائي يتحدث عنهن مَن يقصون الحكايات!» أجابت: «إنهن نساء الأحلام، ولكنها أحلام تُحوِّلها قطعة فضية صغيرة إلى لحم.» ثم سارت في طريقها. أما وانج لنج، فجلس يحدق النظر في الصور بمتعة جديدة، ورأى الآن أن بعضهن أجمل من البعض الآخر، وأن من بينهن واحدة أجملهن جميعًا؛ فتاة نحيلة العود ذات وجه صغير مدبب كوجه القطيطة، تُمسك في إحدى يديها ساق زهرة لوتس في برعمها. أحدق النظر فيها، وقال فجأة في صوت مرتفع: «إنها لأشبه بالزهرة.» ولما سمع صوت نفسه، خجل ونهض بسرعة، ودفع حسابه، واختفى وسط الظلام.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/19/
الباب التاسع عشر
لو هبطت المياه في ذلك الوقت، لانقطع وانج لنج تمامًا عن الذهاب إلى مشرب الشاي العظيم، ولنسي الوجه المدبب المرسوم على المصورة الحريرية. بَيْد أن المياه لم تتحرك، وأصبح وانج لنج قلقًا، ويتحاشى عينَي أو-لان، التي كانت تنظر إليه في بؤس وهو يسير هنا وهناك، يرتمي على مقعد، ثم ينهض من فوقه دون أن يشرب الشاي الذي أفرغته له. وفي نهاية يوم طويل في الشهر السابع، دخل حجرته، من غير أن ينطق بكلمة واحدة، وارتدى معطفه الجديد المصنوع من القماش الأسود اللامع، وذهب إلى مشرب الشاي الجديد. وقف وانج لنج في مدخل المشرب، في الضوء الساطع. وكان من الممكن أن ينصرف لولا أن خرجت له سيدة كانت متكئة بالداخل دون عمل. تلك هي كوكو. وما إن عرفته حتى قالت: «آه، إنه الفلاح ليس غير!» غضب وانج لنج فأكسبه غضبه شجاعة لم يعهدها في نفسه من قبل، فقال: «وهلَّا أجيء إلى هذا المكان كما يجيء غيري من الرجال؟» فضحكت، وقالت: «إن كان معك فضة كما مع غيرك من الرجال.» عندئذٍ أراد وانج لنج أن يريها أنه غني بدرجة تُمكِّنه من أن يفعل ما يحلو له. فأخرج حفنة من النقود الفضية، وقال لها: «أهذه تكفي، أم لا تكفي؟» أمعنت كوكو النظر في حفنة الفضة. وقالت: «ادخل وقل ما تريد.» وبدون أن يدري وانج لنج معنى ما يقوله، تمتم قائلًا: «لست أعرف ما إذا كنت أريد شيئًا.» ثم همس يقول: «تلك الصغيرة ذات الوجه الشبيه بالزهرة، التي تمسك في يدها برعم لوتس .. أريد مقابلتها.» ••• أصاب وانج لنج مرضٌ، أعظم مما يصيب أي رجل. كان يذهب كل يوم إلى مشرب الشاي، وكان يلتقي كل مساء بالفتاة المسماة لوتس. دأب وانج لنج، طيلة الصيف القائظ، على زيارة هذه الفتاة التي لم يعرف عنها شيئًا. وقلما كان يصغي إلى حديثها السريع المتواصل. لم يلاحظ غير وجهها ويديها وجمال عينيها الواسعتين الحلوتين. وعندما ضحكت من ضفيرة شعره، انطلق دون كلمة واحدة وقصَّها، رغم أن أحدًا ما لم يستطع من قبل أن يجعله يقصها. عندما رأت أو-لان ما فعله، انفجرت مذعورة وقالت: «لقد قطعتَ حياتك.» ولكنه صاح فيها بقوله: «وهل سأظل أبدو كأبله من الطراز العتيق إلى ما شاء الله؟ إن جميع شبان المدينة يقصون شعورهم قصيرة.» كان وانج لنج لا يغسل جسمه البني الطيب إلا نادرًا، أما الآن فقد شرع يستحم كل يوم، حتى إن زوجته قالت مهمومة: «ستموت من كل هذا الاستحمام!» اشترى صابونًا معطرًا، وكان يدعك به جسمه. ولم يعُدْ، بأي ثمن، يأكل الثوم، مع أنه كان يحبه من قبل؛ وذلك حتى لا تكون رائحته كريهة أمام الفتاة لوتس. لم يعرف أحد، في منزل وانج لنج، معنًى لكل هذه التصرفات. غير أن أو-لان قالت له ذات يوم في صرامة: «إن في تصرفاتك ما يُذكِّرني بأحد لوردات المنزل العظيم.» عندئذٍ ضحك وانج لنج عاليًا. ولكنه ابتهج في دخيلة نفسه. وكان رقيقًا معها في ذلك اليوم، أكثر مما كان معها في عدة أيام. كانت النقود الفضية الطيبة تتدفق الآن من يدي وانج لنج؛ إذ كان عليه أن يشتري الدبابيس الذهبية والجواهر للفتاة. ولم تفاتحه أو-لان في شيء، بل كانت تلاحظه في ضيق شديد؛ إذ كانت تخافه منذ ذلك اليوم الذي لاحظ فيه أنها ليست على شيء من الجمال الشخصي، وأن قدمَيها كبيرتان. وكانت لا تسأله شيئًا خشية غضبه المستعد لها باستمرار. كان وانج لنج عائدًا، ذات يوم، إلى داره المطلة على الحقول، فاقترب من أو-لان وهي تغسل ملابسه عند البركة. فوقف صامتًا برهة، ثم قال لها بخشونة؛ إذ كان خجلان: «أين اللؤلؤتان اللتان أخذتهما؟» فأجابته في وجل وهي ترفع بصرها عن الملابس التي كانت تضربها فوق قطعة مستوية من الحجر، قائلة: «اللؤلؤتان؟! معي.» فصاح فيها فجأة بعد فترة صمت: «هاتيهما .. إنني بحاجة إليهما.» وضعت أو-لان يدها المبتلة المجعدة، في صدرها ببطء، وأعطته الصرة الصغيرة. وظلت تراقبه وهو يفض الصرة، فعكست اللؤلؤتان أشعة الشمس كاملة لطيفة، فضحك. أما أو-لان، فعادت تضرب ملابس زوجها، والدموع تنهمر غزيرة من مآقيها في بطء، فلا ترفع يدها لتمسحها، بل كانت تضرب في سرعة أكثر، بعصاها الخشبية، الملابس المنشورة فوق الحجر.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/20/
الباب العشرون
كانت الحال ستستمر على ذلك المنوال إلى أن ينفق وانج لنج كل فضته لولا أن عمه عاد فجأة دون أن يوضح أين كان أو ماذا كان يفعل، فوقف بالباب وملابسه غير مقفلة بالأزرار، وتأوَّه بصوت عالٍ وهم جميعًا جالسون إلى المائدة يتناولون وجبة الصباح الباكر. فنهض وانج لنج، وقال: «حسنًا، وها هو عمي. هل أكلت؟» قال: «كلا، ولكني سآكل معكم.» ثم جلس، وسحب أمامه طبقًا وعيدان تناول الطعام، وأكل كأنه كان جائعًا جدًّا. وبعد أن شبع، قال ببساطة كما لو كان هذا من حقه: «سأنام الآن؛ لأنني لم أذق للنوم طعمًا هذه الليالي الثلاث.» لم يدْرِ وانج لنج ماذا يفعل إلا أن يقوده إلى سرير والده، فارتمى عليه العم واستسلم للنوم من فوره دون أن يتكلم كلمة واحدة. عرف وانج لنج أنه لا يمكنه أن يطرد عمه طالما كان هذا يعلم أن ابن أخيه غني. كما عرف أن زوجة عمه ستأتي هي الأخرى إلى المنزل، ولا أحد يستطيع منعها. حدث ما كان يخشاه وانج لنج؛ إذ خرج عمه من الحجرة بعد الظهر ومضى، وقال لوانج لنج: «سأحضر الآن زوجتي وابني؛ فلن نفتقر إلى ما نأكله في هذا البيت العظيم، ولا إلى الملابس الحقيرة التي نلبسها.» لم يسَعْ وانج لنج إلا أن يجيب بنظرات ملؤها الغيظ؛ إذ من العار أن يطرد الرجلُ عمه وابن عمه من منزله وهو يملك ما يكفيه ويفيض. بَيْد أنه من نكد الدنيا على المرء أن يكون مغيظًا أشد الغيظ، ويُضطر إلى إخفائه، ويُرحِّب بأقاربه باسمًا. وبقي ثلاثة أيام لا يذهب إلى المدينة. ولما وجد أن عمه وأسرته سيكونون مؤدَّبين من أجل طعامهم ومأواهم، اتجهت أفكاره ثانية إلى الفتاة لوتس. وسرعان ما أدركت زوجة عمه ما هو عليه، فصاحت ضاحكة، تقول: «يحاول وانج لنج الآن، أن يقطف زهرة من مكان آخر.» فلما نظرت إليها أو-لان في ذلة، وهي لا تفهم ما تعنيه، ضحكت ثانية: «الأمر ببساطة، هو أن زوجك مُتيَّم حتى الجنون، بامرأة أخرى!» سمع وانج لنج زوجة عمه وهي تقول هذا، وكان راقدًا في غرفته ذات صباح، فجال بفكره بغتة، أنها هي الشخص الذي سيرتب أمر زواجه. فنهض من سريره في الحال، وأومأ سرًّا إلى زوجة عمه. فلما تبعته إلى خارج البيت في مكان لا يسمعهما فيه أحد، قال لها: «لقد سمعت ما قُلتِه في الأبهاء. وإنكِ لعلى حق. لماذا لا أتزوج ثانية طالما عندي من الأرض ما يقوتنا جميعًا؟ ولكن، مَن يقوم لي بدور الوسيط؟» أجابته في الحال: «اترك هذه المسألة في يديَّ. وكل ما عليك هو أن تخبرني فقط بمَن تكون هذه المرأة.» عندئذٍ أجابها وانج لنج: «إنها المرأة المسماة لوتس، وتقطن بمشرب الشاي الكبير في الشارع الرئيسي للمدينة.» أخذت تفكر برهة، ثم قالت أخيرًا: «لا أعرف أحدًا هناك.» فأخبرها بالسيدة كوكو التي كانت عبدة في البيت العظيم، فضحكت وقالت: «تلك المرأة! إنه لأمر بسيط حقًّا. تقوم هذه المرأة بأي عمل إذا أحست بالفضة في كفها.» فلما سمع وانج لنج هذا، قال: «الفضة فقط! الفضة والذهب! أي شيء، حتى ثمن الأرض نفسها!» لن يذهب وانج لنج بعد ذلك إلى مشرب الشاي العظيم إلى أن يتم تدبير المسألة. وكان دائمًا ينطلق إلى زوجة عمه ليقدم المزيد من النقود والملابس الحريرية والأطعمة اللذيذة إلى لوتس. حتى صاحت فيه تلك المرأة البدينة أخيرًا، وقالت: «هل أنا غبية؟ أو هل هذه أول مرة أدبِّر فيها أمر الزواج بين رجل وفتاة؟ اترك المسألة لي وحدي، وأنا أنفِّذ كل شيء.» بعد ذلك قال وانج لنج لنفسه أنه ما دام سيكون في البيت امرأتان فلا بد من وجود جناح آخر … فريثما تُتِم زوجة عمه الموضوع، دعا عماله وجعلهم يبنون جناحًا آخر بالمنزل خلف الحجرة الوسطى، يتألف من بهو حوله ثلاث غرف. إحداها كبيرة، والاثنتان الأخريَان صغيرتان على الجانبين. فأحضر الرجال الطين من الحقول، وأقاموا الجدران وجعلوها ملساء. وأرسل وانج لنج مَن يشتري قرميدًا للسقف من المدينة. عندما انتهى الرجال من بناء الحوائط، فرشوا أرض الحجرات الثلاث بالآجُرِّ، لأجل لوتس. واشترى وانج لنج منسوجًا أحمر للستائر، ومنضدة جديدة، ومقعدين مزخرفَين بالحفر، وصندوقًا أحمر ذا غطاء، مطليًّا بالبرداخ (اللاكيه)، كي يضع فيه كعك السمسم والحلويات التي ملأه بها، ثم وضعه على المنضدة. واشترى سريرًا منقوشًا بالحفر أيضًا، وحوله ستائر مزوقة برسوم الأزهار. وكان يخجل في كل هذا أن يطلب من أو-لان شيئًا. ولذلك جاءت زوجة عمه، وقامت بعمل الأشياء التي لا يتسنى للرجل أن يعملها. تم كل شيء، ولم يبقَ ما يمكن عمله، ولكن المأمورية لم تنتهِ بعد. فاستدعى وانج لنج عاملًا، فحفر بركة مربعة الشكل طول ضلعها ثلاث أقدام، وبطَّنها بالقرميد. ثم ذهب وانج لنج إلى المدينة واشترى خمس سمكات ذهبية لهذه البركة. في تلك الأثناء، كان لا يتحدث مع أحد بشيء، إلا ليزجر الأطفال إن كانوا قذرين، أو يصرخ في أو-لان لأنها لم تمشط شعرها لمدة ثلاثة أيام. ولذا انخرطت أو-لان في البكاء صباح أحد الأيام، وعلا نحيبها بدرجة لم يرها تبكي بها من قبل، فقال بخشونة: «ماذا بكِ، أيتها المرأة؟ ألا يمكنني أن أقول لك أن تمشطي ضفيرتك الشبيهة بذيل الحصان، دون حدوث كل هذه الضجة؟» ولكنها لم تجبه بشيء إلا لتكرر أنينها وقولها: «ولدتُ لك البنين … ولدتُ لك البنين …» صمت وانج لنج لأنه خجل أمامها، فتركها وشأنها. سارت الحال على هذا النمط حتى جاءت زوجة عمه في أحد الأيام، وقالت: «تَمَّ الموضوع. ولكن يجب أن تدفع مائة قطعة من الفضة. وتريد هذه الفتاة قرطًا من اليشم، وخاتمًا من اليشم أيضًا، وآخر من الذهب، وثوبَين من الساتين، وثوبين من الحرير، واثنى عشر زوجًا من الأحذية، ولحافين من الحرير لسريرها.» لم يسمع وانج لنج إلا جزءًا من هذا الكلام، حتى جرى إلى الغرفة الداخلية وأحضر الفضة، وقال لزوجة عمه: «وخذي لنفسك أيضًا عشر قطع طيبة من الفضة.» فصاحت في همس عالٍ: «كلا، لن آخذ شيئًا، نحن عائلة واحدة، وقد قمتُ بهذا من أجلك أنت، لا من أجل الفضة.» ولكن وانج لنج وجد يدها ممدوة، فصبَّ فيها الفضة الطيبة. واعتبرها قد أُنفقت في موضعها الصحيح. واشترى كل شيء فاخر كان يعرفه، ثم انتظر. ••• في يوم مشرق من الشهر القمري الثامن، الذي هو نهاية الصيف، جاءت لوتس إلى منزل وانج لنج. فأبصر بها وهي قادمة من مسافة بعيدة. فلم يعد يعرف تمامًا ما يفعله. فدخل بسرعة غرفته التي كان ينام فيها طيلة هذه السنين العديدة، وأقفل الباب عليه، وبقي في الظلام حتى سمع صوت زوجة عمه تناديه ليخرج. كانت كوكو هناك أيضًا، فصاحت قائلة: «تعالي، يا زهرتي، يا لوتس. هنا بيتك، وهنا سيدك.» نزلت لوتس في دلال من هودجها الذي حضرت فيه، وأمسكت كوكو من يدها. وعندما مرت أمامه أحنت إليه رأسها، وخفضت أجفانها، وهمست بصوت خافت: «أين شقتي؟» بعد ذلك تقدمت زوجة عمه، وقادتاها بينهما إلى البهو وإلى الحجرة الجديدة التي بناها وانج لنج خصيصًا لها. وما إن دخلت حتى سحبت كوكو الستائر خلفها. بعد مدة خرجت زوجة عم وانج لنج تضحك قليلًا وهي تقول: «ليست صغيرة كما تبدو، يا ابْن أخي! أستطيع أن أقول بكل جرأة، إنها إذا لم تكن في حدود السن التي يكفُّ فيها الرجال عن النظر إلى النساء، لكان من المشكوك فيه أن يغريها اليشم والذهب والحرير والساتين، على أن تتزوج مزارعًا.» ولما رأت الغضب باديًا على وجهه، قالت بسرعة: «ولكنها جميلة. لم أرَ في حياتي امرأة تفوقها جمالًا.» لم تقترب أو-لان، طوال كل ذلك الوقت، من المنزل. فعندما بزغ الفجر، حملت فأسًا، ونادت الأطفال، وأخذت قليلًا من الطعام البارد، ولم ترجع. وعندما أقبل الليل، دخلت البيت صامتة منهوكة القوى. ولم تتكلم مع أحد، وإنما ذهبت إلى المطبخ وأعدت الطعام ووضعته على المائدة كما كانت تفعل دائمًا. ونادت الرجل العجوز وأطعمت المسكينة البلهاء ثم أكلت بعض الشيء مع الأطفال. ولما ناموا جميعًا، استحمت قبل أن تنام، وأخيرًا ذهبت إلى حجرتها ونامت. كان وانج لنج يدخل كل يوم حجرة لوتس، حيث يجدها جالسة لا تقوم بأي عمل. لم تكن لتخرج في حرارة أيام أوائل الخريف. بل تظل جالسة، بينما تغسل لها كوكو جسمها، إذ أمرت بأن تبقى كوكو معها كخادمة لها. كانت هذه الفتاة تمكث كل يوم في برودة ظلام حجرتها، تتسلى بأكل الحلويات والفواكه، مرتدية ملابس الصيف الحريرية الخضراء. وكانت تخرج وقت غروب الشمس إلى البهو وتفحص البركة الصغيرة ذات السمكات الذهبية الخمس، بينما يقف وانج لنج يتأمل في عجيب ما لديه.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/21/
الباب الحادي والعشرون
تنبأ وانج لنج بأن مجيء الفتاة المسماة لوتس، وخادمتها كوكو لا بد أن يسبب إزعاجًا ما. لأن اجتماع امرأتين تحت سقف واحد لا يعني سلامًا. ورغم أنه أدرك من كآبة أو-لان وحدَّة كوكو، أن هناك نزاعًا ما، فإنه لم يُعِر الأمر أهمية. ولكنه رأى أخيرًا أن هناك شقاقًا بين أو-لان وكوكو. فأدهشه هذا. إذ كان يتوقع أن تكره أو-لان لوتس. بيد أنها لم تشكُ من لوتس، وإنما كان حنقها بالغًا ضد كوكو. يبدو أن أو-لان، عندما أبصرت كوكو، استشاطت غضبًا أي غضب، لم يرَ وانج لنج له مثيلًا. ولم يعرف أنها ستغضب ذلك الغضب الشديد … فقالت له: «ماذا تفعل هذه الأمَة في بيتنا؟» فلما وجد وانج لنج أنه لا بد من أن يجيب بشيء، قال بصوت منخفض: «وما شأنك بهذا؟» ترقرقت العبرات الحارة، عندئذٍ، ببطء في عيني أو-لان، فأمسكت بطرف ميدعتها الزرقاء، ومسحت عينيها، ثم قالت: «إن الأمر جد مرير في بيتي، وليس لي بيت أمٍّ في أي مكان أعود إليه.» ثم نظرت إليه في حزن واستعطاف من طرفَي عينيها الغريبتين البكماوين. وخرجت تجرُّ قدميها جرًّا، وتتحسس طريقها إلى الباب إذ غشت الدموع على بصرها. راقبها وانج لنج وهي تخرج، وسَرَّه أن تركته وحده، إذ كان قد خجل من نفسه. غير أن أو-لان لم تنتهِ من هذا الموضوع. فلما أصبح الصباح، وضعت الماء على النار ليسخن. إلا أنه عندما ذهبت كوكو لتحضر ماء ساخنًا لسيدتها، وجدت القِدر فارغة. وعندما حان موعد إعداد عصيد الصباح في القِدر، لم يكن بالقدر مكان لماء للسيدة لوتس. كانت أو-لان تنهمك في الطهي ولا تجيب بشيء على شكاوى كوكو. بعد ذلك ذهبت كوكو إلى وانج لنج وشكت إليه، فصاح يؤنب أو-لان. ولكنها كانت تجيبه بعبوس يعلو وجهها، أشد من أي عبوس ظهر على وجهها من قبل، قائلة: «لستُ في هذا البيت أمَةً للإماء، على أقل تقدير.» كان غضب وانج لنج فوق ما يطاق. فهزَّ أو-لان من كتفها هزًّا عنيفًا، وقال: «كفى بلاهةً، بعد الآن. ليس الماء للخادمة، بل للسيدة.» فنظرت إليه وقالت ببساطة: «وقد أعطيتَ هذه السيدة لؤلؤتَيَّ!» هبطت يد وانج لنج، وانصرف غضبه، وخرج خجلان، فقال لكوكو: «سنبني موقدًا آخر، ومطبخًا ثانيًا. إن الزوجة الأولى لا تعرف شيئًا عن الترف اللازم للزوجة الأخرى، والذي تتمتعين به أنت أيضًا. ستطبخين فيه ما يحلو لك.» أمر وانج لنج العمال ببناء حجرة صغيرة وموقد من الطين. واشترى قِدرًا طيبة. ولاح له أن متاعبه قد انتهت، وأن السلام سيسود بين زوجتيه. ظهر أخيرًا أن المطبخ الجديد قد أضحى مصدر متاعب لوانج لنج. فكل يوم تذهب كوكو إلى المدينة وتشتري جميع صنوف الأطعمة الفاخرة الغالية التي لم يسمع عنها قط. فكانت تكلفه نقودًا أكثر مما يود أن ينفق. ولكنه كان على يقين، تبعًا لما أخبرته به كوكو، من أن النفقات لم تكن باهظة. كما أنه كان يخاف أن يتحدث في هذا الأمر لئلا تستاء منه لوتس. فكان هذا سببًا في فتور حبه فتورًا طفيفًا، نحو لوتس. نشأت متاعب أخرى، عن المتاعب الأولى. وهي أن زوجة عمه المولعة بالغذاء الجيد، كثيرًا ما كانت تدخل البهو الداخلي في مواعيد تناول الطعام حيث تجد حريتها. ولم يرق وانج لنج أن تتخذ لوتس هذه المرأة صديقة لها، من بين أهل بيته. ولما فاتح لوتس في هذا الأمر برقة، غضبت وقالت: «ماذا، إذن؟ وليس لي أحد غيرك. وزوجتك الأولى تمقتني، وأطفالك يضايقونني، وليس لي أحد. إنك لا تحبني، إذ لو أحببتني لرغبتَ في سعادتي.» عندئذٍ لانَ وانج لنج، وقال: «ليكن كما تشائين، وإلى الأبد.» عندما كان يذهب إلى بهوها بعد ذلك، وكانت تتحدث إلى زوجة عمه، أو تأكل معها، كانت تتركه ينتظر ولا تهتم به. ففتر حبه لها قليلًا، رغم أنه لم يعرف ذلك. وهكذا حدثت ثغرات في حبه نحو لوتس، مرة بعد مرة، من جراء مسائل الغضب الصغيرة التي كان يزيد في حدتها أنه لم يؤنب أو-لان عليها. خبَّأ القدر في جعبته لوانج لنج متاعب أخرى، فذات يوم استيقظ والده فجأة وهو نائم في الشمس، وتعثر في مشيته حتى وصل إلى المدخل ذي الستار، بين الحجرة الرئيسية والبهو الذي كانت تسير فيه لوتس، والذي لم يلاحظه من قبل. فتوجه إليه، وأزاح الستار … وتصادف أن كان في إحدى الأمسيات التي يسير فيها وانج لنج مع لوتس في البهو بجانب البركة، وهما يشاهدان الأسماك. فلما أبصر الرجل العجوز ابنه واقفًا بجانب فتاة نحيفة، صاح بصوت مشدوخ: «ما هذه المخلوقة التي بالمنزل؟» خشي وانج لنج أن تغضب لوتس، فأخذ أباه إلى البهو الخارجي، وهدأه بقوله: «هوِّن عليك، يا أبتاه، إنها زوجة ثانية بالمنزل.» بَيْد أن الرجل العجوز لم يهدأ، فصرخ في وانج لنج، قائلًا: «لم أتزوج سوى امرأة واحدة، وتزوج أبي امرأة واحدة أيضًا، وكنا نفلح الأرض.» منذ ذلك الوقت والرجل العجوز يحس بعداوة ماكرة حيال لوتس. فكان يزيح ستار بهوها ويبصق على القرميد، أو يقذف حصاة صغيرة في البركة ليخيف السمك. وكان وانج لنج يخجل من أن ينهر والده، وفي الوقت نفسه كان يخاف غضب لوتس. سمع وانج لنج، في أحد الأيام، صراخًا انبعث من الأبهاء الداخلية، فجرى إليها، فوجد أن طفليه الصغيرين صحبَا، إلى البهو الداخلي، ابنته الكبرى، بلهاءه المسكينة. إذ أُغرِم الأطفال الأربعة باستطلاع بعض الشيء عن السيدة التي تعيش في البهو الداخلي. كان الطفلان الكبيران يخجلان. أما الطفلان الصغيران فلم يقنعا قط بالنظر وغمس أصابعهما في أطباق الطعام التي تحملها كوكو بعد أن تفرغ تلك السيدة من تناول الطعام. شكت لوتس عدة مرات من مضايقة الأطفال لها، فأجابها وانج لنج بقوله: «إنه ليعجبهم أن ينظروا إلى وجه حسن، كما يعجب ذلك والدهم.» لم يفعل وانج لنج شيئًا إلا أن أمر الأطفال بعدم دخول بهوها. ولكنهم، عندما لا يكون والدهم هناك، ينطلقون إلى البهو سرًّا، جيئة وذهابًا. في ذلك اليوم، كان الغلامان الكبيران بالمدرسة، ففكر الطفلان الصغيران في أن أختهما البلهاء يجب أن ترى السيدة التي في البهو الداخلي. فعندما رأت هذه البلهاء ما ترتديه لوتس من ألوان زاهية، مدت يديها لتتحسسها، وقهقهت ضاحكة. فذعرت لوتس، إذ لم ترها قبل ذلك إطلاقًا، فصرخت. وعندما أسرع وانج لنج يجري، صاحت قائلة: «لم أكن أعلم أنه يتحتم عليَّ أن أحتمل بعض البُلَهاء. ولو علمت ذلك لما أتيت .. أطفالك القذرون هؤلاء!» فقال وانج لنج في خشونة: «لن أسمح بأن يُلعَن أي فرد من أطفالي، حتى ولو كانت بلهائي المسكينة.» ثم قال للأطفال: «أيْ بُني وابنتي، اخرجَا الآن ولا تعودا إلى بهو هذه المرأة ثانية لأنها لا تحبكما. وإذا كانت لا تحبكما فهي لا تحب أباكما أيضًا.» ساء وانج لنج أيما إساءة، أن تجرؤ لوتس على أن تلعن ابنته هذه وتصفها بأنها بلهاء. فامتنع عن الاقتراب منها مدة يومين. عندما ذهب ثانية إلى لوتس، لم يَقُل أحدهما للآخر شيئًا عن عدم مجيء وانج لنج في هذين اليومين. بَيْد أنها كانت تجتهد بصفة خاصة في أن تدخل السرور إلى نفسه، فأخذت يده ووضعتها على وجهها. ولكن رغم أنه أحبها ثانية، فإنه لم يحبها كما كان يحبها من قبل. أتى يوم ولَّى فيه الصيف، وهبَّت ريح خريفية نظيفة على الأرض في عنف، فأفاق وانج لنج، كما لو كان من نوم. فذهب إلى باب داره، فرأى المياه قد جفت، وصارت الأرض لامعة بفعل الريح الباردة الجافة والشمس القوية. تغلغل حب وانج لنج لأرضه في نفسه أعمق مما كان في أي وقت مضى. فخلع ملابسه الفاخرة، وشمر سراويله حتى الركبتين، وصاح قائلًا: «أين الفأس والمحراث؟ وأين بذور القمح لزرعها؟ هلم، يا صديقي تشنج .. هيَّا، نادِ الرجال .. سأخرج إلى الأرض!»
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/22/
الباب الثاني والعشرون
كما شُفي وانج لنج من مرض القلب عندما عاد من المدينة الجنوبية، كذلك شُفي الآن من مرض الحب، بواسطة أرض حقوله الطيبة السوداء. فأمر عماله أن يذهبوا إلى هذا الموضع وذاك. وفي البدء كان يقف هو خلف الثيران، ثم عهد بذلك إلى تشنج، فسلمه خطامها، بينما أمسك هو بالفأس وطفق يعزق الأرض، إذ كان يهوى العزق، وليس لداعي الحاجة قط. فإذا ما تعب، استلقى على الأرض ونام. عندما أقبل الليل، ذهب إلى بيته مكدود الجسم متعبًا ظافرًا، فأزاح الستار ودلج إلى البهو الداخلي حيث تتبختر لوتس في ثيابها الحريرية. فما إن رأته حتى صاحت فيه، لما على ملابسه من طين. ولما اقترب منها ارتجفت. ولكنه ضحك وقال: «الآن ترين أن سيدك ليس إلا فلاحًا، وأنكِ زوجة فلاح!» فصاحت في حماس: «لستُ زوجة فلاح. أما أنت فكن ما تشاء!» عندئذٍ ضحك وانج لنج وانصرف عنها في سهولة. خُيِّل إلى وانج لنج أنه ابتعد مدة طويلة، وعرف فجأة أنه يجب أن يقوم بأعمال كثيرة. عندما كان يرجع إلى بيته ظهرًا وفي الليل، كان يأكل جيدًا من الطعام الذي أعدته له أو-لان. من الأرز الجيد والكرنب وخثارة الفول وخبز القمح المحشو بالثوم الطيب. وعندما كانت لوتس تصيح فيه بسبب رائحة فمه، كان يضحك ولا يكترث. إذ شُفِي من مرض حبه. هكذا احتلت هاتان المرأتان وظيفتيهما في البيت: لوتس كلعبته. أما أو-لان فكامرأة للعمل، وكأم أنجبت أولاده وتطعمه هو وأباه وأطفاله. كان من فخر وانج لنج في القرية أن يتحدث الناس بحسد عن السيدة التي في بهوه الداخلي. فكانوا ينظرون إليه بعين الاحترام، ويعاملونه كشخص يعيش في بيت عظيم. شُغل وانج لنج في ذلك الوقت بعدة أشياء. فقد هطلت الأمطار في موسمها، ونبت القمح ونما. وجاء الشتاء فأخذ وانج لنج غلة أرضه إلى الأسواق، إذ كان يحتفظ بحبوبه حتى ترتفع الأسعار. وصحب معه ابنه الأكبر في هذه المرة. يحس المرء بالكبرياء عادة عندما يرى ابنه الأكبر يقرأ بصوت عالٍ ما كتب على الورق من حروف، ويكتب على الورق بالمرقاش (الفرشاة) والمداد ما يقرؤه الآخرون. وقد أحس وانج لنج بهذا الكبرياء الآن. ولكنه لا يدَّعي بأن هذا أمر غير عادي، أن يكون له ابن كهذا. فوقف مرفوع الرأس يتطلع إلى ابنه وهو يمسك بالمرقاش ويكتب. فلما انتهى الابن من كتابة اسم أبيه على عقد بيع الحبوب، وعلى إيصال تسلُّم النقود، عاد كلاهما معًا، الأب والابن، إلى البيت. ورأى وانج لنج أنه يتحتم عليه أن يقوم بواجبه نحو ولده: أن يختار له عروسًا ويخطبها له. أخذ وانج لنج على عاتقه أن يبحث عن فتاة لتكون زوج ابنه. ولم يكن هذا بالعمل الهين، لأنه لا يريد فتاة من عامة الشعب ولا أنثى عادية. فكان يتسمَّع الحديث في كل مكان بمشْرب الشاي، عندما يجرى ذكر الفتيات على الألسنة، أو سيرة الأثرياء بالمدينة الذين لديهم بنات للزواج. جاء الربيع وبدأت أشجار الصفصاف تخضر قليلًا، وظهرت البراعم القرنفلية اللون في أشجار الخوخ، ولم يعثر وانج لنج على ضالته التي ينشدها لابنه. أقبل الربيع بأيامه الطويلة الدافئة المعطرة بأريج أزهار البرقوق والكريز، وتغير ابن وانج لنج الأكبر فجأة، ولم يعد طفلًا. وصار عصبيًّا غضوبًا، لا يأكل هذا الصنف ويرفض أن يأكل من ذاك، وملَّ كتبه. وإذا غضب والده، انفجر باكيًا وترك له الحجرة. وزيادة على ذلك، بدأ يكره معلمه، ولا يذهب إلى المدرسة إلا إذا صاح فيه وانج لنج أو ضربه. وأحيانًا كان يقضي أيامًا كاملة يتسكع في طرقات المدينة. وأخيرًا ضاق وانج لنج ذرعًا بابنه، فضربه حتى سمعته أو-لان وهرعت إليه من المطبخ، ووقفت بين ابنها وأبيه. وعندما انصرف الفتى، وقفت أو-لان أمام وانج لنج. فرأى أن لديها ما تريد الإفضاء به إليه، فقال لها: «تكلمي! ماذا تريدين أن تقولي، يا أم ولدي؟» قالت: «لا فائدة من أن تضرب الصبي هكذا. رأيت هذا الشيء ينتاب اللوردات الصغار في أبهاء البيت العظيم. فإذا ما بدر منهم ذلك أسرع اللورد العجوز بتزويجهم.» قال: «لا حاجة لأن يكون الأمر هكذا. فعندما كنت صبيًّا، لم أُقدِم على مثل هذا البكاء ولا هذه العصبية.» فقالت أو-لان في تؤدة: «لم أرَ الأمر على هذا النحو إلا مع اللوردات الصغار. إنك كنت تشتغل في الأرض. أما هو فأشبه بلورد صغير، ولا يقوم بعمل ما في المنزل.» كان هذا مفاجأة لوانج لنج. فبعد برهة من التفكير، رأى الحقيقة فيما تحدثت به. وزها في نفسه أن يكون له ابن هكذا. ولذا قال لأو-لان: «حسنًا، إذا كان كلورد صغير، فهذه مسألة أخرى. سأخطب له وأزوِّجه في سن مبكرة، ويجب عمل هذا.» ثم نهض وذهب إلى البهو الداخلي.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/23/
الباب الثالث والعشرون
لما رأت لوتس أن وانج لنج مشغول بأمور غير جمالها، قطبت جبينها، وقالت: «لو عرفتُ أنك بعد مرور سنة قصيرة ستنظر إليَّ ولا تراني، لما تزوجتك.» وأدارت رأسها وهي تتكلم، ونظرت إليه من طرفَي عينيها، حتى إنه ضحك، وقال: «لا يستطيع المرء أن يفكر دائمًا في جوهرة خاطها في معطفه. ولكنه لا يطيق فقدانها. شُغِل بالي بولدي هذين اليومين، وبأنه يجب أن يتزوج. ولا أدري كيف أهتدي إلى عروس تليق به.» منذ أن صار الابن الأكبر فارع الطول، ورشيقًا بشبابه الغض، ولوتس تنظر إليه بعين العطف، فأجابت: «كنت أعرف رجلًا يتحدث كثيرًا عن ابنته، ويقول إنها تشبهني، وأنها جميلة نحيلة العود. بَيْد أنها لا تزال طفلة.» فسألها وانج لنج قائلًا: «أي نوع من الرجال هذا؟ وما مهنته؟» فأجابته بقولها: «كان رجلًا طيبًا، ولست أعرف مهنته، ولكني أعتقد أنه كان رئيسًا في سوق الغلال. وسأستعلم عنه من كوكو التي تعرف كل شيء عن الرجال وعن أموالهم.» صفقت لوتس بيديها، فحضرت كوكو من المطبخ على عجل. فسألتها لوتس عن اسم ذلك الرجل، فأجابت في الحال: «إنه ليو، تاجر الحبوب، وسوقه في شارع الجسر الحجري.» وقبل أن تتم كلامها، فرك وانج لنج يديه فرحًا، وقال: «إنه المكان الذي أبيع فيه غلالي. إنه مشروع طيب وممكن التنفيذ.» فقد لاح له أنه من حسن الحظ أن يزوج ولده ابنة التاجر الذي يشتري حبوبه. ما إن يبدر أمر يحتاج إلى تنفيذ، حتى تشم فيه كوكو رائحة النقود، فقالت بسرعة: «إنني على استعداد لخدمة السيد.» شك وانج لنج في قدرة كوكو على تنفيذ هذا المشروع، ولكن لوتس قالت مغتبطة: «ستذهب كوكو وتستوضح الأمر من ليو. وإذا تم الموضوع على خير وجه، أخذت أجر الخاطبة.» فصاح وانج لنج: «كلا، فلم أقرر شيئًا بعد. لا بد أن أفكر في الأمر بضعة أيام، ثم أخبرك برأيي.» وهكذا كان يمكن أن ينتظر وانج لنج عدة أيام يفكر في هذه وتلك، لولا أن ابنه الأكبر عاد إلى المنزل ذات يوم عند الفجر. وكان وجهه ساخنًا وأحمر اللون من احتساء النبيذ. وكان يتعثر في مشيته، ثم سقط على الأرض. ارتاع وانج لنج، فنادى أو-لان، فرفعا الصبي، وأرقدته أو-لان على سريرها حيث استغرق في نوم عميق أشبه برجل ميت. بعد ذلك دخل وانج لنج الحجرة التي ينام فيها الولدان، وسأل الغلام الأصغر: «أين كان أخوك الأكبر في الليلة الماضية؟» ذُعر الولد، فانخرط في البكاء، وقال: «لا أعرف أين كان، ولكنه ذهب مع ابن عمك.» عندئذٍ ذهب وانج لنج غاضبًا إلى حجرة عمه، ونسي أنه شقيق والده، ولم يفكر إلا في أن ذلك الرجل هو والد الشاب العاطل الوقح الذي أفسد ابنه اللطيف، فصاح: «لقد آويتُ جماعة من الثعابين الناكرة للجميل، فلدغتني!» كان عمه يتناول طعام الإفطار. وما كان لينهض قط من فراشه قبل الظهر، فقال في كسل: «وماذا الآن؟» أخبره وانج لنج بما حدث، ولمَّا لم يجبه بغير الضحك صاح قائلًا: «هيَّا، اخرج من بيتي الآن، أنت ومَن معك. إني لأفضِّل أن أحرق البيت على أن يئويكم.» رأى وانج لنج أن عمه لم يكترث له، فخطا إلى الأمام، ورفع ذراعه. وعندئذٍ استدار عمه، وقال: «اطردني إن كانت لك الجرأة على طردي.» وفتح سترته وأطلعه على ما بداخل بطانتها. ما إن أبصر وانج لنج ما بداخل سترة عمه، حتى وقف ساكنًا لا يتحرك. فقد رأى على البطانة لحية مستعارة من الشعر الأحمر، وشريطًا من المنسوج الأحمر. وهذان شعار عصابة من اللصوص تعيش في المنطقة الشمالية الغربية، أحرقت عدة بيوت، وربطت عددًا من المزارعين الأخيار بالحبال في أبواب بيوتهم حيث كان يجدهم الناس في اليوم التالي، إما في حالة هذيان، أو أمواتًا. فألقى وانج لنج نظرة على ذلك الشعار، واستدار منصرفًا دون أن ينبس ببنت شفة. وبينما هو منصرف، سمع ضحك عمه الخافت وهو ينحني على طبق الأرز. كان عم وانج لنج يأتي ويخرج كسابق عادته. ولم يجرؤ وانج لنج على أن يتحدث إليه إلا بعبارات التوقير خوفًا من بطشه. وعرف فجأة السبب في سرقة غيره من الناس، وبقائه هو آمنًا طيلة إيوائه وإطعامه الأشخاص الثلاثة، أسرة عمه. لم يتحدث وانج لنج مع عمه بعد ذلك في أمر مغادرته البيت. وكان يعطي زوجة عمه وابن عمه نقودًا فضية. وأخذ يراقب ابنه هو بنفسه، ولم يسمح له بمبارحة أبهائه بعد غروب الشمس، ولو أن هذا أغضب الفتى، فكان يدور في البيت ويصفع إخوته الصغار لغير ما سبب إلا سوء خلقه. وهكذا أحاطت المتاعب بوانج لنج. وكأنما لم يكن هذا كافيًا، فقد رجعت كوكو من عند تاجر الغلال تخبره بأن الفتاة ما زالت صغيرة جدًّا على الزواج، وأنه يجب الانتظار ثلاث سنوات. ففزع وانج لنج من احتمال غضب وبطالة ذلك الغلام ثلاث سنوات أُخَر. وصاح في أو-لان تلك الليلة وهو يأكل: «هيَّا بنا نخطب لهؤلاء الأطفال الآخرين بأسرع ما في مكنتنا. وكلما بكرنا كان التبكير خيرًا. فلا أستطيع أن أحتمل تكرار هذا ثلاث مرات أُخر.» خلع وانج لنج ملابسه الفضفاضة وحذاءه، في الصباح التالي، وكما كانت عادته عندما تتأزم الأمور في بيته، أخذ فأسًا وخرج إلى حقوله. ظل يخرج إلى حقوله، يومًا بعد يوم، لعدة أيام. فإذا بسحابة صغيرة باهتة تظهر من الجنوب ذات يوم، كما لو كانت لتريحه من متاعبه. فنظر إليها أهل القرية والرعب يخيم عليهم، وكان ما ارتعدوا منه هو أن يأتي الجراد من الجنوب ليَلْتهم ما في حقولهم من زرع. فظلوا هكذا يحملقون في تلك السحابة. وأخيرًا قذفت الريح بشيء عند أقدامهم. كان ذلك الشيء جرادة ميتة. نسي وانج لنج كل شيء أهمَّه، واندفع وسط القرويين المروَّعين، وصاح فيهم: «فلنحارب هذه الأعداء الوافدة من الجو دفاعًا عن أرضنا الطيبة!» أما الجراد فانتشر في الجو وفوق الأرض. نادى وانج لنج عماله، ووقف تشنج إلى جانبه صامتًا متأهبًا للعمل. وكان معهما بعض صغار الفلاحين، فأشعلوا بأيديهم الحريق في بعض الحقول، وأحرقوا القمح الطيب القائم في الحقول ناضجًا للحصاد تقريبًا، وحفروا خنادق عريضة، وملئوها بالماء من الآبار. ودأبوا على العمل دون أن يذوقوا طعم النوم. وكانت أو-لان تُحْضر لهم الطعام، كما أحضرت النسوة الأخريات الطعام لرجالهن. فكان الرجال يأكلون وهم واقفون يشتغلون في الحقول ليل نهار. بعد ذلك اسودت السماء، وامتلأ الجو بضجيج حفيف كثير من الأجنحة، يصطفق كل منها بالآخر. وسقط الجراد على الأرض، يطير على هذا الحقل ثم يتركه كله، ويسقط على حقل آخر فيتركه قاعًا صفصفًا كالشتاء. فثارت ثائرة وانج لنج، وأخذ يضرب الجراد ويطؤه بقدميه. وكذلك فعل رجاله، وسقط الجراد في النيران التي أُشعلت، وطفا ميتًا على سطح الماء في الخنادق التي حفروها. وماتت ملايين كثيرة من الجراد، ولكنها لم تكن شيئًا يُذكر بجانب الأحياء منها. كوفئ وانج لنج على كل نضاله بنجاة خير حقوله. وكان لا يزال لديه قمح يحصده، وأُنْقِذت أحواض الأرز الصغير. فسرَّ وقنع. بعد ذلك طفق كثير من الناس يأكلون الجراد المشوي. ولكن وانج لنج نفسه لم يأكل منه شيئًا إذ عافته نفسه لما أحدثه من ضرر بأرضه. رغم ما فعله الجراد بوانج لنج، فإنه ظل سبعة أيام لا يفكر في شيء إلا في أرضه. فقال لنفسه في هدوء: «لكل امرئ متاعبه. ولا بد أن أتغلب على متاعبي قدر طاقتي. وعمي يكبرني سنًّا وسيموت. ويجب أن تمرَّ ثلاث سنوات على ابني، كيفما كان … ولن أقتل نفسي.» حصد وانج لنج قمحه، وهطلت الأمطار، ونبت الأرز الصغير في الحقول المغمورة بالماء، ثم جاء الصيف من جديد.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/24/
الباب الرابع والعشرون
عاد وانج لنج إلى داره في ظهر أحد الأيام، فتقدم نحوه ابنه الأكبر، قائلًا: «أبتاه! لو أن لي أن أصير عالمًا، فليس لدى ذلك الرأس العجوز بالمدينة ما يُعَلِّمنيه.» كان وانج لنج قد غمس فوطة في حوض من الماء المغلي، ورفعها أمام وجهه والبخار يتصاعد منها، فقال: «وماذا الآن؟» تلعثم الغلام برهة، ثم أردف يقول: «إذا كان لي أن أصبح عالمًا، فإنني أودُّ الذهاب جنوبًا إلى المدينة، وألتحق بمدرسة كبيرة، حيث أتعلم ما يجب تعلمه.» مسح وانج لنج وجهه بالفوطة المبتلة بالماء الساخن، وردَّ على ابنه في حدة: «ما هذا الهراء؟ أقول: هذا لا يمكن. لقد تعلمتَ ما يكفي لهذه البقاع.» بَيْد أن الفتى وقف في مكانه ينظر إلى والده بحقد، وقال: «لن أبقى في هذا المنزل الغبي، وأُرَاقَب كما يُراقَب الأطفال. سأسافر وأتعلم شيئًا وأرى بقاعًا أخرى.» نسي وانج لنج أنه كان يزهو بمعرفة ولده للكتابة واجتهاده في دروسه، فصاح فيه: «إذن فلتذهب إلى الحقول. ادعك جسمك بقليل من التربة الطيبة لئلا يظنك الناس سيدة، واشتغل قليلًا من أجل الأرز الذي تأكله!» وقف الصبي ينظر إلى والده في مقت. ولكن وانج لنج لم يلتفت إلى الوراء ليرى ما يفعله الغلام. عندما عاد وانج لنج ليلًا، ودخل الأبهاء الداخلية، وجلس إلى جانب لوتس وهي جالسة على سريرها، وكوكو تروح لهما بمروحة، قالت لوتس في خمول: «يرغب ابنك الأكبر في أن يرحل من هنا.» «حسنًا، وماذا يعنيك من هذا؟ لا يمكنني أن أتركه في هذه الحجرات وهو في تلك السن.» فأسرعت لوتس تقول: «لا .. لا .. إنها كوكو التي تقول ذلك.» لم يفكر وانج لنج إلا في غضبه من ابنه، فقال: «كلا، لن يرحل، لن أنفق نقودي بلاهة.» ولم يتكلم عن هذا الأمر بعد ذلك. لم يأتِ ذِكر هذا الموضوع لعدة أيام، ويبدو أن الفتى رضي فجأة بالأمر الواقع. ولم يذهب بعد ذلك إلى المدرسة، وقد سمح له وانج لنج بهذا. كان يمكن أن يرتاح بال وانج لنج بعودة حياته إلى الهدوء ثانية، ورضي ابنه بحاله. غير أنه بينما كان جالسًا وحده في إحدى الليالي يعد على أصابعه ما يمكنه بيعه من الذرة، وما يمكنه أن يبيعه من الأرز، جاءت أو-لان إلى الحجرة في رقة. مرت السنون على أو-لان، فجعلتها نحيلة هزيلة، غائرة العينين. وإذا سألها امرؤ عن صحتها فلا تقول غير: «توجد نار في أحشائي.» كانت تصحو من نومها مع الفجر، فتقوم بعملها. وكان وانج لنج لا يراها إلا عندما يرى المائدة أو مقعده. وما كانت لتتكلم، بل تدأب على طبخ الطعام، وغسل الملابس عند البِركة حتى في الشتاء والماء كالزمهرير يكسر الثلج من فوقه. ولم يفكر وانج لنج في أن يقول لها يومًا ما: «لماذا لا تستأجرين خادمة أو عبدة بالنقود الزائدة عن حاجتي؟» لم يفكر قط في أن هناك أية حاجة إلى مثل ذلك رغم أنه استأجر عمالًا لحقوله. عندما جلس وحده في هذا المساء، وقفت أمامه، وقالت أخيرًا: «أريد أن أخبرك بشيء.» فحملق فيها مدهوشًا، وأجاب: «إذن، فهاتي ما عندك.» فقالت في همس خشن: «يذهب الولد الأكبر كثيرًا، للتحدث في الأبهاء الداخلية، وأنت غائب عن هناك.» فحملق فيها وانج لنج. قالت: «عُد إلى بيتك، يا سيدي، على غير انتظار.» وبعد فترة صمت، قالت: «مِن الخير أن ترسله إلى مكان ما، حتى إلى الجنوب.» ثم انصرفت في هدوء وتركته جالسًا هناك. فقال وانج لنج في نفسه إن هذه المرأة تغار. ولكنه تذكَّر بعد ذلك أن لوتس كانت على علم برغبة ابنه في السفر، فقال لنفسه: «لا بد لي من مراقبة هذا الأمر بنفسي!» خرج وانج لنج بعد ذلك ليرى رجاله كعادته في وقت الحصاد والبذر. ثم صاح حتى يسمعه كل مَن بالمنزل: «سأذهب إلى قطعة الأرض المجاورة لخندق المدينة، ولن أعود مبكرًا.» ما كاد وانج لنج يسير نصف الطريق، حتى جلس يفكر في نفسه، وأخذ يقلِّب الأمر في ذهنه عدة مرات، ويقول: «هل أرجع ثانية؟» ثم عاوده الغضب، ورجع إلى منزله من طريق آخر، ودخل ووقف ينصت بجانب الستار المعلق على باب البهو الداخلي. فسمع صوت همهمة رجل، وكان صوت ابنه. سرى في قلب وانج لنج غضب لم يعهده من قبل طول حياته. فصرَّ على أسنانه، وخرج فانتقى خيزرانة رفيعة مرنة، ونزع فروعها. ثم دخل فوجد ابنه واقفًا في البهو يتحدث إلى لوتس الجالسة على مقعد صغير عند حافة البِركة. ولم يسمعه كلاهما. ولكن كوكو خرجت ورأته وصرخت، فأبصراه. انقض وانج لنج على ابنه وأخذ يضربه حتى سال منه الدم. ولما صرخت لوتس وأمسكت بذراعه، ضربها هي الأخرى. ثم رمى الخيزرانة، وهمس يصرخ في ابنه، وهو مبهور الأنفاس: «انصرف إلى حجرتك الآن، ولا تحاول الخروج منها حتى أتخلص منك، وإلا قتلتك!» نهض الولد صامتًا لا ينطق بحرف واحد، وانصرف. جلس وانج لنج على المقعد الذي كانت لوتس جالسة عليه، وكان صدره يعلو وينخفض في عنف، وهو يتنفس. ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه. فظل هكذا جالسًا حتى هدأ، وانصرف غضبه. نهض بعد ذلك مكدودًا، وخرج ومرَّ بحجرة ابنه، وناداه دون أن يدخل: «ضع أمتعتك في صندوق وارحل غدًا إلى الجنوب إلى حيث تريد، ولا ترجع إلى هنا حتى أرسل في طلبك.» استمر وانج لنج في سيره حتى وجد أو-لان جالسة تخيط بعض ملابسه. وإذا كانت قد سمعت الضرب أو الصراخ فلم يبدر منها ما يشير إلى ذلك. ثم خرج وانج لنج إلى حقوله في شمس الظهيرة العالية قد برَّح به التعب كما لو كان اشتغل يومًا كاملًا.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/25/
الباب الخامس والعشرون
أما ابن وانج لنج الثاني فلم يشبه أخاه الأكبر كما يمكن أن يكون عليه شقيقان في بيت واحد. كان من طباعه ما ذَكَّر وانج لنج بأبيه، فقال: «سيكون هذا الولد تاجرًا ناجحًا، سأخرجه من المدرسة وأرى ما إذا كان يمكن أن يتتلمذ في سوق الغلال.» ولذلك قال لكوكو ذات يوم: «اذهبي إلى والد خطيبة ابني الأكبر، وأخبريه بأن لديَّ شيئًا أود أن أتحدث إليه فيه.» ذهبت كوكو ثم رجعت تقول: «سيقابلك متى شئت. فإذا ذهبت لتشرب النبيذ عنده ظهر اليوم، كان خيرًا. أو إذا رغبتَ، جاء ليقابلك هنا.» وهكذا اغتسل وانج لنج، ولبس معطفه الحريري، وخرج يسير وسط الحقول. فذهب أولًا إلى شارع الجسور كما أخبرته كوكو، ثم وقف وطرق بيده بابًا على يمين الجسر ويبعد عنه ببابين. فُتِح الباب في الحال، ووقفت به خادمة فسألته عمَّن يكون. فلما ذكر لها اسمه، تفرَّست فيه، وصحبته إلى بهو الرجال، ثم أمعنت النظر فيه ثانية إذ عرفت أنه والد خطيب ابنة صاحب البيت. ثم خرجت لتنادي سيدها. أخذ وانج لنج يدقق النظر فيما حواليه، وسرَّه ما رأى. إذ كان هناك ما يدل على المعيشة الطيبة، وليس على الثراء الواسع. لم يكن يرغب في زوجة ابن غنية لئلا تكون متكبرة وغير مطيعة، وتطلب هذا اللون من الطعام وذاك، وهذه الملابس. وتغيِّر قلب ابنه من جهة والديه. وفجأة سمع وانج لنج وقع أقدام ثقيلة، ودخل رجل عجوز ممتلئ الجسم. فوقف وانج لنج، وانحنى له. فانحنى له الرجل أيضًا. ونظر كل منهما إلى الآخر سرًّا، وكلاهما يحترم الآخر لمركزه كرجل ثري له قيمته. ثم جلسَا وشَرِبَا من النبيذ الساخن الذي صبته لهما الخادمة. وتحدثَا ببطء في هذا الأمر وذاك. وأخيرًا قال وانج لنج: «جئت لأحدِّثك في أمر. فإذا لم يحظَ منك بالرضا، تكلمنا في غيره. إذا كنت في حاجة إلى خادم في سوقك العظيمة، فهاك ابني الثاني، وهو ذكي. وإن لم تكن بحاجة إليه، فلنتكلم في شئون أخرى.» فأجاب التاجر بأسلوب راقٍ رقيق: «إنني في حاجة إلى شاب ذكي، إذا كان يعرف القراءة والكتابة.» فأجاب وانج لنج مزهوًّا: «إن ولديَّ كليهما عالمان ماهران.» فقال ليو: «هذا عظيم. وليأتني متى يشاء.» نهض وانج لنج مسرورًا، وضحك وقال: «نحن الآن صديقان. أما عندك ولد لابنتي الثانية؟» فضحك التاجر بعظمة إذ كان بدينًا ويتغذى غذاء طيبًا، ثم قال: «لي ابن ثانٍ يبلغ من العمر عشر سنوات، ولم أخطب له بعد. كم عمر الابنة؟» ضحك وانج لنج ثانية، وقال: «ستبلغ العاشرة في عيد ميلادها القادم، وإنها لزهرة جميلة.» ضحك الرجلان معًا. ولم يتكلم وانج لنج بعد ذلك إذ ليس هذا الموضوع بالأمر الذي يُتحدَّث فيه وجهًا لوجه أكثر من ذلك. ولكنه انصرف مغتبطًا. ولما عاد إلى بيته نظر إلى ابنته الصغرى، وكانت طفلة جميلة. وقد ربطت أمها قدميها ربطًا شديدًا، ولذا كانت تسير في خطوات قصيرة رشيقة. لما نظر إليها وانج لنج من كثب، رأى على خديها علامات الدموع. وكان وجهها ممتقعًا قليلًا تبدو عليه أمارات الغضب الذي لا يتفق وسنها، فجذبها نحوه قليلًا من يدها الصغيرة، وقال: «ماذا يبكيك؟» رفعت الطفلة رأسها وقالت في خجل، وفي شبه تمتمة: «لأن أمي ربطت قدميَّ بالقماش، وكل يوم تزيد الربط شدة حتى إنني لا أستطيع النوم بالليل.» فقال مدهوشًا: «لم أسمعك تبكين.» فقالت ببساطة: «كلا؛ لأن أمي قالت إنه لا يجب عليَّ أن أبكي بصوت مرتفع لأنك رحيم جدًّا ورقيق القلب فلا تتحمل سماع الآلام، وأنك قد تأمر بترك قدميَّ على حالهما، وبعد ذلك لا يحبني زوجي كما أنك لا تحبها.» خُيِّل إلى وانج لنج أن خنجرًا قد أُغمد في صدره عند سماعه هذه العبارة. لأن أو-لان أخبرت الطفلة بأنه لا يحبها، وهي أم الطفلة. فقال بسرعة: «حسنًا. وقد سمعتُ اليوم عن زوج جميل لك، وسأطلب من كوكو أن تعمل على تدبير المسألة.» فابتسمت الطفلة وخفضت رأسها. وفي ذلك المساء، قال وانج لنج لكوكو: «اذهبي واسألي عمَّا إذا كان بالإمكان إتمام هذا الأمر.» استيقظ وانج لنج في تلك الليلة، وفكر في أو-لان، وكيف أنها كانت خادمة وفيَّة إلى جانبه، وفكَّر فيما قالته الطفلة. فحزن، لأنه على الرغم من كل غباوة أو-لان، فقد رأت حقيقته. لأول مرة منذ زواج وانج لنج من أو-لان، بدأ يفكر فيها، فنظر إليها في حزن غريب، فرأى أنها نحلتْ وجفَّت بشرتها واصفرَّت لم يفكر في سبب رغبتها في البقاء دائمًا بالمنزل في المدة الأخيرة وفي أنها كانت تتحرك في بطء وتمشي في بطء أكثر. وتذكَّر، وقد فكر في ذلك الأمر الآن، أنه كان يسمعها أحيانًا، تئن في الصباح عند مغادرتها الفراش، وعندما تنحني لتضع الوقود في الفرن. فنظر إليها، وإلى الانتفاخ الغريب في جسمها، فامتلأ حزنًا، وناقش نفسه قائلًا: «ليس خطئي أنني لم أحبها.» ولكي يخفف عن نفسه قال: «لم يحدث أن ضربتها، كما كنت أعطيها النقود كلما طلبتها.» ولكنه لم ينسَ ما قالته الطفلة. وكان ينظر دائمًا إلى أو-لان عندما تحضر له الطعام، أو عندما تمشي في البيت. وذات يوم، عندما انحنت لتكنس الأرض المصنوعة من الآجُرِّ، بعد تناول الطعام، امتقع لونها من الألم الداخلي، وتوجعت بأنين خافت، فسألها في حدَّة، وقال: «ماذا بك؟» فأدارت وجهها، وأجابته برقَّة: «لا شيء غير الألم القديم في أحشائي.» فنظر إليها وقال للبنت الصغرى: «خذي المكنسة واكنسي لأن أمك مريضة.» وقال لأو-لان في رقة أكثر مما كان يكلمها به لعدة سنوات: «ادخلي إلى حجرتك واستريحي في سريرك، وسآمر البنت بأن تحضر لكِ ماءً ساخنًا. لا تقومي من الفراش.» أطاعته في بطء، وبدون أن تردَّ عليه، استلقت على سريرها وأخذت تئن أنينًا خافتًا. فجلس ينصت إلى أنينها إلى أن عجز عن احتمال سماعه. فنهض وذهب إلى المدينة ليسأل عن دكان الطبيب. وجد الطبيب جالسًا بدون عمل وأمامه إبريق من الشاي. فلما أخبره وانج لنج بأعراض مرض زوجته، فتح درجًا وأخذ منه لفافة مغلفة بقماش أسود، وقال: «سآتي الآن.» عندما وصلا إلى سرير أو-لان، كانت نائمة نومًا خفيفًا والعرق فوق شفتها العليا وجبينها كقطرات الندى. وما إن رآه الطبيب حتى هزَّ رأسه، وقال: «إنها حالة صعبة. إذا لم ترغب في ضمان الشفاء، كتبت لك وصفةً من أعشاب تُغلى معًا وتشرب منقوعها. ولكن إذا رغبت في ضمان تام للشفاء، فادفع خمسمائة قطعة فضية.» سمعت أو-لان كلام الطبيب، فاستيقظت من نعاسها فجأة، وقالت في ضعف: «خمسمائة قطعة فضية.» «كلا. إن حياتي لا تساوي كل ذلك المبلغ. يمكن أن تشتري به قطعة أرض طيبة.» فلما سمعها وانج لنج تقول هذا، عاودته جميع أحزانه، وأجابها بخشونة: «لا أريد وفاةً في بيتي. وفي مقدري أن أدفع النقود الفضية هذه.» فلما سمعه الطبيب العجوز يقول هذا، أبرقت عيناه جشعًا. ولكنه كان يعلم القانون إذا لم يبرَّ بوعده وماتت المرأة. وعلى ذلك قال: «كلا، فعندما نظرت إلى بياض عينيها. وجدتني مخطئًا. لا آخذ أقل من خمسة آلاف قطعة فضية لضمان الشفاء الكامل.» عندئذٍ نظر وانج لنج إلى الطبيب في صمت. وفي تفاهم حزين. ليس لديه ذلك المبلغ من الفضة. وكان يعلم أنه حتى إذا باع أرضه فلا فائدة. لأن الأمر ببساطة كان كما قال الطبيب: «ستموت هذه السيدة.» خرج وانج لنج مع الطبيب ونقده قطع الفضة العشر. وعندما انصرف الطبيب، دخل المطبخ المظلم الذي عاشت فيه أو-لان معظم حياتها، وأدار وجهه إلى الحائط المسود، وانخرط يبكي.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/26/
الباب السادس والعشرون
بَيْد أنه لم يكن بجسم أو-لان روح الموت الفجائي. بقيت راقدة على سريرها تموت، طيلة أشهر الشتاء. ولأول مرة عرف وانج لنج والأطفال ماذا كانت في البيت. وكيف كانت تعد أسباب الراحة لكل فرد، دون أن يعرفوا ذلك. يبدو الآن أنه لا يوجد بينهم مَن يعرف كيف يشعل النار في القش ويحتفظ به متقدًا في الفرن. ولم يعرف أحد النوع الصحيح من الزيت الذي يُقلى به هذا النوع من الخضراوات أو ذاك، أهو زيت السمسم أم زيت الفول. وكانت فضلات المائدة وفتات الخبز تقع أسفل المائدة فلا يكنسها أحد إلا إذا ضاق وانج لنج برائحتها ونادى كلبًا من البهو ليأكلها. أو يصيح في البنت الصغيرة لتجمعها وترميها في الخارج. كان الغلام الأصغر يقوم بهذا العمل وذاك ليملأ مكان أمه نحو الرجل العجوز جده، الذي كان عاجزًا وقتئذٍ كالطفل الصغير. ولم يكن بوسع وانج لنج أن يُشعِر الرجل العجوز بما حدث، وأن أو-لان لن تحضر إليه الشاي أو الماء الساخن بعد ذلك. وأخيرًا صحبه وانج لنج إلى حجرة أو-لان، وأراه السرير الذي كانت نائمة عليه. فبكى الرجل العجوز إذ أدرك أن هناك سوءًا ما. أما البلهاء المسكينة فهي وحدها التي لم تعرف شيئًا. فكانت تبتسم وتلوي قطعة المنسوج وهي تبتسم. بَيْد أنه لا بد للمرء من الاعتناء بهذه المسكينة، والاهتمام بنومها ليلًا، وبإطعامها، وبوضعها في الشمس نهارًا وإدخالها إلى المنزل إذا نزل المطر. يجب أن يتذكر أحدهم كل هذه الأشياء. غير أن وانج لنج نفسه كان ينسى. وذات مرة تركوها خارج البيت ليلة كاملة. فغضب وانج لنج من ابنه وابنته لأنهما نسيَا البلهاء المسكينة أختهما. ثم وجد أنهما ليسَا سوى طفلَين يحاولان القيام بعمل أمهما فيعجزان عنه. وبعد ذلك، صار يهتم بأمر البلهاء المسكينة بنفسه صباحًا ومساءً. لم يهتم وانج لنج بالأرض طيلة أشهر الشتاء وأو-لان راقدة تموت. فوَكَّلَ عمل الشتاء والإشراف على العمال إلى تشنج الذي كان يشتغل في إخلاص، وكان يأتي صباحًا ومساءً إلى باب الحجرة التي ترقد فيها أو-لان ليسأل عن صحتها. وأخيرًا لم يحتمل وانج لنج ذلك، لأن صحتها لم تتحسن، فأخبر تشنج بأن لا داعي للسؤال عنها بعد ذلك، بل يكفي أن يقوم بالعمل على خير وجه. كان وانج لنج يقضي معظم وقته طيلة الشتاء البارد جالسًا إلى جانب سرير أو-لان. وإذا وجد جسمها باردًا وضع بجانب سريرها مدفأة بها فحم نباتي متقد ليدفئها. فكانت في كل مرة تتمتم بضعف: «إن هذا يتكلف كثيرًا.» وأخيرًا، عندما قالت هكذا، ذات يوم، لم يطق احتماله، فانفجر صائحًا: «لا يمكنني تحمُّل هذا! إنني على استعداد لأن أبيع كل أرضي إن كان بالإمكان شفاؤك.» ابتسمت أو-لان عند ذلك، وهمست تقول: «كلا، ولن أجعلك تفعل هذا؛ لأنني لا بد أن أموت يومًا ما بأية حال، أما الأرض فستبقى بعدي.» ولكنه لا يريدها أن تتكلم عن موتها، فلما تحدثت عن الموت، نهض وخرج. ومع ذلك، فلأنه كان يعرف أنها لا بد أن تموت، وأنه يجب أن يقوم بواجبه، ذهب في أحد الأيام إلى المدينة إلى حانوت صانع النعوش، وأخذ ينظر في كل نعش هناك، من النعوش المعدَّة للبيع. فاختار نعشًا طيبًا أسود اللون، مصنوعًا من الخشب الثقيل الصلب. فقال له النجار الذي كان يطلعه على النعوش: «إذا اشتريت نعشَين حصلت على خصم ثلث الثمن. ولماذا لا تشتري نعشًا لنفسك وتطمئن عليه؟» قال وانج لنج: «كلا، في استطاعة أولادي أن يقوموا بهذا العمل.» ثم فكَّر في والده، فقال ثانية: «هناك والدي العجوز، وسيموت قريبًا يومًا ما، وعلى ذلك سآخذ نعشَين.» وعده الرجل بأن يطلي النعشين بلون أسود جيد، ويرسلهما إلى بيته. فأخبر أو-لان بما فعل، فسرَّت من أنه قد أعد ما يلزم لدفنها. وهكذا كان يجلس بجانبها عدة ساعات من النهار. ولم يتكلمَا كثيرًا، لأنها كانت ضعيفة. وفضلًا عن هذا فلم يكن هناك حديث قط بينهما. وكثيرًا ما كانت تنسى أين هي. وكانت تتمتم أحيانًا بعبارات عن أولادها. ولأول مرة رأى وانج لنج ما في قلبها عن طريق مثل هذه الكلمات الموجزة: «سأحضر اللحم إلى الباب فقط .. وأنا أعرف أنني دميمة الخلقة ولا أستطيع الظهور أمام سيد عظيم …» ثم تقول وهي تلهث: «لا تضربني .. لن آكل من الطبق مرة أخرى …» ثم تكرِّر عدة مرات قولها: «أعلم أنني قبيحة المنظر ولا يمكن أن يحبني أحد …» عندما قالت هذا، لم يطق وانج لنج سماعه. فأمسك يدها. ولكنه لم يحب تلك اليد المتخشبة التي في طريق الموت. ومن أجل هذا كان أكثر عطفًا عليها. فاشترى لها طعامًا خاصًّا. ومهما فعل، فلم يستطع أن ينسى أو-لان. ••• في بعض الأوقات كانت تصحو أو-لان إلى ما حولها. وذات مرة طلبت كوكو. فلما أرسل وانج لنج يطلبها، رفعت أو-لان نفسها على ذراعها وهي ترتعش، وقالت في وضوح تام: «ربما تكونين قد عشت في أبهاء اللورد العجوز، وكنت تعتبرين جميلة. ولكني كنت زوجة رجل وولدت له البنين وأنت لا تزالين عبدة.» لما أرادت كوكو أن ترد على ذلك في غضب، قادها وانج لنج إلى الخارج، قائلًا: «لا تعرف هذه المرأة معنى ما تقوله.» ثم قالت له أو-لان عندما عاد إلى الحجرة: «بعد أن أموت، يجب ألا تدخل هذه المرأة ولا سيدتها حجرتي، أو تمسَّا أمتعتي. وإذا فعلتَا أرسلت روحي ثانيةً لتصب اللعنة.» ثم استغرقت في نومها المضطرب، وسقط رأسها على الوسادة. غير أنها، ذات يوم، قبل حلول السنة الجديدة، تحسنت فجأة، وجلست على سريرها وطلبت شايًا لتشرب وعندما أتى وانج لنج، قالت له: «سيأتي العام الجديد ولم يُعد الكعك ولا اللحوم، وقد فكرت في شيء. لا أريد هذه العبدة في مطبخي، بل أود أن ترسل في طلب عروس ابني، المخطوبة لابننا الأكبر. لم أرها بعد. ولكن عندما تأتي، سأخبرها ماذا تفعل.» سرَّ وانج لنج لقوتها، رغم أنه لم يهتم بعمل ولائم في هذه السنة. فأرسل كوكو إلى ليو تاجر الغلال. وبعد برهة وافق ليو عندما سمع أن أو-لان قد لا تعيش حتى نهاية الشتاء. وعلى أية حال، كانت ابنته في السادسة عشرة من عمرها، وأكبر من بعض مَن يذهبن إلى منازل أزواجهن. مراعاة لحال أو-لان، لم يُقِم وانج لنج أية ولائم في العيد. وحضرت الفتاة في هودج، ولم يأتِ معها سوى أمها وخادمة عجوز. ورجعت أمها بمجرد أن تركتها مع أو-لان أما الخادمة فبقيت لخدمة الفتاة. لم يتحدث وانج لنج إلى الفتاة إذ لم يكن هذا لائقًا. ولكنه سُرَّ منها لأنها كانت تعرف واجبها. وكانت تسير بالمنزل في هدوء وهي تخفض عينيها. وكانت على قدر كافٍ من الجمال، ولكن جمالها لم يكن بارعًا حتى يدفعها إلى الغرور. وكان جميع سلوكها صحيحًا. فتدخل حجرة أو-لان وتعتني بها. وهذا ما خفف من حزن وانج لنج على زوجته، إذ كانت توجد سيدة بجانب فراشها. وكانت أو-لان مسرورة غاية السرور. ظلت أو-لان مسرورة مدة ثلاثة أيام أو يزيد، ثم فكرت في شيء آخر، وقالت لوانج لنج: «لي طلب قبل أن أموت.» فردَّ عليها في غضب، قائلًا: «لا يمكن أن تتحدثي عن الموت وتدخلي السرور إلى نفسي!» فابتسمت ببطء ثم قالت: «لا بد من أن أموت، لأنني أحس بالموت ينتظر في أحشائي. غير أنني لا أريد أن أموت قبل أن يعود ابني الأكبر إلى بيته، ويتزوج هذه الفتاة اللطيفة، التي هي زوجة ابني. أريد أن يتزوج هذه الفتاة حتى أموت مرتاحة.» لم يعارضها وانج لنج، ولو أنه كان يرغب في فسحة من الوقت أكبر من ذلك، كي يقيم حفل عرس فخمًا لابنه الأكبر، فقال لها: «حسنًا. سننفذ هذا الطلب. وسأرسل اليوم رجلًا إلى الجنوب ليبحث عن ابني ويعود به ليتزوج. أما أنتِ فيجب أن تَعديني بألا تفكري في الموت لتتحسن صحتك. لأن البيت بدونك أشبه بمغارة وحوش.» قال هذا ليدخل السرور إلى قلبها. وفعلًا اغتبطت، ولو أنها لم تتكلم ثانية، بل رقدت ثانية وأغمضت عينيها، وهي تبتسم قليلًا. أوفد وانج لنج رجلًا ليحضر ابنه، وأمر كوكو بأن تُعِدَّ وليمة كأحسن ما يمكنها، وأن تستدعي طهاة من مشرب شاي المدينة لمساعدتها، وقال: «أعديها كما لو كانت ستُعَدُّ في البيت العظيم في مثل هذه المناسبة، وعندي من الفضة ما يكفي ويفيض.» بعد ذلك ذهب إلى القرية ودعا كل شخص يعرفه، ثم ذهب إلى المدينة ودعا كل مَن يعرفه أيضًا، وقال لعمه: «ادعُ مَن شئتَ إلى حفل عرس ابني.» وكان وانج لنج لطيفًا مع عمه، ويعامله كضيف موقَّر. وهكذا كان يفعل منذ أن عرف مَن هو عمه. عاد ابن وانج لنج الأكبر في الليلة السابقة للزواج، ونسي وانج لنج كل المتاعب التي سببها له عندما كان بالمنزل، إذ مرَّ أكثر من سنتين منذ أن رآه آخر مرة. لم يعُد غلامًا، بل صار رجلًا فارع الطول لطيفًا. فصحبه إلى أمه. جلس الشاب إلى جانب سرير أمه، وترقرقت الدموع في عينيه وهو يراها على تلك الحال. فقالت أو-لان ببساطة: «سأراك تتزوج ثم أموت.» لا يجب أن يرى الشاب عروسه في ذلك الوقت. ولهذا أخذتها لوتس معها إلى البهو الداخلي لتعدَّها للزواج. لم يكن هناك مَن يقوم بهذه المأمورية خيرًا من لوتس وكوكو وزوجة عم وانج لنج. فأخذن الفتاة، وفي صباح يوم العرس، غسلنها من رأسها إلى قدميها، وربطن قدميها ثانية بقماش أبيض جديد تحت جوربها الجديد. ثم ألبسنها الثياب الجديدة التي أحضرتها معها من منزلها، ثم ثياب العرس الساتينية الحمراء. وجعلن جبينها مرتفعًا وناعمًا ومربعًا. ثم طَلَيْنَ وجهها بالمسحوق (البودرة)، والأصباغ الحمراء، ووضعن على رأسها تاج العروس وخمارًا مُوشى بالخرز. كما ألبسنها حذاءً مطرزًا. وصبغن أطراف أصابعها، وعطرن كفيها وكانت الفتاة خجلى من كل شيء، كما يليق بها. عندما كان وانج لنج وأبوه وعمه والمدعوون منتظرين في الحجرة الوسطى، وأقبلت الفتاة تسندها خادمتها وزوجة عم وانج لنج، وقد خفضت العروس رأسها كما لو كانت لا تريد أن تتزوج رجلًا، سُرَّ وانج لنج، وقال في نفسه إن هذه هي الفتاة المناسبة الصحيحة. بعد ذلك أقبل ابن وانج لنج الأكبر مرتديًا ثوبه الأحمر وسترته السوداء وقد لمع شعره وحلق ذقنه، وجاء خلفه أخواه. وفكر وانج لنج في نفسه أنه لو كانت أو-لان في صحة جيدة وغير راقدة في سريرها، لكان يومًا سعيدًا حقًّا. لاحظ وانج لنج أن الشاب ينظر إلى الفتاة خلسة وهو مسرور مغتبط على طريقته الخاصة. فقال في نفسه مزهوًّا: «لقد اخترتُ له فتاة يحبها.» بعد ذلك انحنى الشاب والفتاة معًا أمام الرجل العجوز وأمام وانج لنج، ثم ذهبَا إلى الحجرة التي ترقد فيها أو-لان. فطلبت هذه أن يلبسوها معطفها الأسود القيم. وجلست. وعندما دخل العروسان انحنيَا أمامها، فربَّتت بيدها على السرير، وقالت: «اجلسَا هنا واشربَا النبيذ، وتناولا أرز عرسكما، لأني أود أن أرى كل شيء. فسأنتهي سريعًا وأُحمل إلى المدافن.» لم يُجب أحد على كلامها عندما قالت هذا. وجلس العروسان بجانب بعضهما صامتَين، وقد خجل كلٌّ منهما من الآخر. ودخلت زوجة عم وانج لنج بدينة عظيمة، تحمل قدحَين من النبيذ الساخن. فشرب كلٌّ منهما من قدحه على انفراد، ثم مزجَا نبيذ القدحَين وشربَا ثانية، وأكلَا من الأرز، ثم خلطَا الأرز. وبهذا صارَا زوجين. وبعد ذلك انحنيَا ثانية أمام أو-لان ووانج لنج، ثم خرجَا سويًّا، كما انحنيَا لجميع المدعوين. امتلأت الحجرات والأبهاء بالموائد وبرائحة الطعام وبصوت الضحك إذ جاء المدعوون من كل قاصٍ ودانٍ. وأحضرت كوكو طهاةً من المدينة، فأعدوا الوليمة، وأكل كل فرد كفايته وشرب قدر طاقته، وكانوا جميعًا مسرورين. طلبت أو-لان أن تُفتَح جميع الأبواب، وتُزاح كل الستائر حتى يمكنها أن تسمع الضوضاء والصخب والضحك، وتشم رائحة الطعام. وكثيرًا ما كان يدخل وانج لنج ليطمئنَّ على صحتها، ويؤكد لها أن كل شيء يسير وفق رغبتها. فاغتبطت وهي راقدة تنصت إلى ما يدور في الحفل. انتهى الحفل وانصرف المدعوون، وأقبل الليل. وغدت أو-لان مُتعبَةً واعتراها الضعف. فاستدعت إليها العروسين اللذَين تزوجَا في ذلك اليوم، وقالت لهما: «إنني راضية مطمئنة الآن، وسيعمل مَرَضي ما بدا له. أي بُنيَّ، اهتم بأمر والدك وأمر جدك. وأنت يا بُنيَّتي، اعني بشئون زوجك وشئون والده وجده والبلهاء المسكينة الجالسة في البهو. ولا واجب لأحد عليك غير هؤلاء.» قصدت أو-لان بقولها الأخير لوتس، التي لم تتحدث إليها قط. ثم نسيتهم جميعًا، ورقدت تُتمتِم. فصرفهما وانج لنج وجلس إلى جانبها وهي تنام وتصحو، واهتم بما يلزمها. وبينما هو ينظر إليها فتحت عينيها واسعتين وحملقت فيه جدًّا، ثم حملقت فيه ثانية كما لو كانت تريد أن تعرف مَن هو. وفجأة ارتمى رأسها على الوسادة المستديرة، ولفظت آخر أنفاسها. ما إن فارقت أو-لان الحياة حتى لاح لوانج لنج أنه لا يستطيع احتمال البقاء إلى جانبها. ولكي يهدئ من روعه، شغل نفسه بالذهاب إلى المدينة واستدعاء رجال لإقفال النعش. وقد وجد أن أول يوم طيب يلائم الدفن هو بعد ثلاثة أشهر منذ ذلك اليوم. وعلى هذا ذهب إلى المعبد وساوم رئيس الكهنة على استئجار مكان يضع فيه النعش مدة ثلاثة أشهر. اشترى وانج لنج ملابس الحِداد له ولأولاده، كما صنع لهم أحذية من المنسوج الأبيض، الذي هو لون الحداد، ووضعوا حول مفاصل أقدامهم شرائط بيضاء، وربطت نساء البيت شعورهن بحبال بيضاء. يبدو أن الموت إذا دخل منزلًا لا يتركه بسهولة. فقد رقد الرجل العجوز والد وانج لنج في فراشه ذات ليلة لينام. وعندما ذهبت إليه الابنة الثانية في الصباح لتحضر له الشاي، كان راقدًا على سريره، ورأسه متجهًا إلى الخلف ميتًا. ولولت الفتاة عند رؤية جدها هكذا، وجرَتْ إلى أبيها تصرخ. فجاء وانج لنج ووجد الرجل العجوز على تلك الحال. فغسَّله بنفسه، ووضعه برفق داخل النعش الذي اشتراه له، وأقفله، وقال: «في يوم واحد سندفن اللذَين ماتَا من بيتنا، وسأنتقي قطعة أرض طيبة من رابيتي وأدفنهما فيها معًا. وعندما أموت أنا، سأرقد هناك أيضًا.» فعل وانج لنج ما اعتزم فعله. فعندما أقفل نعش الرجل العجوز، وضعه على مقعدَين في الحجرة الوسطى حيث بقي حتى حان يوم الدفن. وعندما جاء ذلك اليوم في ربيع تلك السنة، استدعى وانج لنج كهنة من المعبد. فأخذ هؤلاء الكهنة يقرعون الطبول ويرتلون طول الليل كله من أجل مَن ماتَا. عندما طلع النهار، وبعد أن انتهى الكهنة من ليلة الترتيل، لبس وانج لنج ثوبًا أبيض من الخيش. وأعطى ثوبًا مماثلًا لعمه وابن عمه وثوبًا لكل ولد من أولاده ولزوجة ابنه ولابنتيه. وطلب هوادج من المدينة لتحملهم. وعلى ذلك ركب لأول مرة في حياته على أكتاف الرجال. وهكذا ساروا به خلف نعش أو-لان. أما وراء نعش والده، فركب عمه في المقدمة. وحتى لوتس، التي لم تستطع الظهور أمام أو-لان في مدة حياتها، ركبت هودجًا خلفها وقتئذٍ، لتظهر للناس أنها تقوم بالواجب نحو قرينة زوجها الأولى. أخذوا يبكون ويصيحون بصوت مرتفع، وهم في طريقهم إلى المقابر، يتبعهم تشنج والعمال سيرًا على الأقدام، وقد لبسوا أحذية بيضاء، لم يبكِ تشنج بصوت عالٍ كما كان يفعل الآخرون، ولم تكن في عينيه دموع. بعد أن واروهما التراب، وسويت الأرض فوق القبرين، عاد وانج لنج صامتًا وقد صرف الهودج، ورجع إلى المنزل وحده. ومن بين جميع أحزانه أمضَّته فكرة واحدة. كان يتمنى أن لم يأخذ اللؤلؤتين من أو-لان يوم أن كانت تغسل ملابسه عند البِركة. وكان لا يطيق رؤية لوتس وهي تلبسهما بعد ذلك في أذنيها. رجع وانج لنج محزون الفؤاد وهو يفكر هكذا، وقال لنفسه: «لقد دُفِن في أرضي أول نصف طيب من حياتي، بل وأكثر.» وفجأة ذرفت عيناه الدموع فترة قصيرة، ثم جفف عينيه بظهر يده كما يفعل الأطفال.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/27/
الباب السابع والعشرون
نادرًا ما كان وانج لنج يفكر في محاصيله طيلة كل ذلك الوقت، إذ كان مشغولًا بولائم العرس وبالجنازة. بيد أن تشنج أتاه ذات يوم، وقال: «بما أن الأفراح والأحزان قد انتهت، فلديَّ ما أريد أن أُفضي به إليك فيما يختص بالأرض.» قال: «هاتِ ما عندك، إذن. لم يخطر ببالي هذين اليومين، ما إذا كنت أملك أرضًا أو لا أملك، إلا لأدفن فيها الموتى.» صمت تشنج بضع دقائق احترامًا لوانج لنج وهو يتكلم، ثم قال في رقة: «أرجو أن يمنع الله ما سيحدث. ولكن يبدو أنه سيكون هناك فيضان، في هذا العام، لم يسبق له مثيل. إذ ترتفع المياه فوق الأرض رغم أن الصيف لم يأتِ بعد، ولا يزال الوقت مبكرًا جدًّا ليحدث مثل هذا.» خرج وانج لنج إلى أرضه، فرأى أن الأمر كما قال تشنج. فكل الأرض المجاورة للخندق تغطيها المياه التي نشعت من أسفل، حتى إن القمح الجيد النامي بهذه الأرض، قد أصابه المرض واصفرَّ. كان الخندق أشبه ببحيرة. وكانت القنوات أنهارًا، حتى ليستطيع الأبله أن يدرك من تلك الحال، ولم تأتِ أمطار الصيف بعد، أنه سيحدث فيضان عظيم في تلك السنة. بعد ذلك أخذ وانج لنج يجري في أرضه، في هذه الناحية وفي تلك، يتبعه تشنج كظله صامتًا. وكان وانج لنج ينظر إلى القنوات وقد امتلأت بالماء حتى حافة شواطئها. بعد ذلك بدأ النهر يحطم السدود، واحدًا بعد آخر، حتى صار من المتعذِّر أن يعرف الإنسان موضع أي سد في تلك المنطقة كلها. وارتفع الماء في النهر حتى انبعج مجراه وطغى فوق كل الأراضي الزراعية كالبحر، وصار القمح والأرز الصغير في قاع ذلك البحر. تحولت القرى، واحدة بعد أخرى، إلى جزر. وكان الناس يشاهدون الماء وهو يرتفع، حتى إذا صار على مسافة قدمين من أبوابهم، ربطوا المناضد والأسِرَّة معًا، ووضعوا عليها أبواب منازلهم ليجعلوا منها أطوافًا. ثم كوَّموا فوقها كل ما أمكنهم من فراشهم وملابسهم ونسائهم وأطفالهم. ثم ارتفعت المياه داخل البيوت المصنوعة من اللبِن، وبللت الحوائط وحولتها إلى طين، وفصلتها من بعضها، فتداعت وذابت في الماء، وصارت كأن لم تكن بالأمس. جلس وانج لنج في مدخل داره، وسرح ببصره فوق المياه التي كانت لا تزال بعيدة جدًّا عن منزله، الذي بُني فوق تل عريض مرتفع. ولكنه رأى المياه تغطي أرضه. فأخذ يراقبها لئلا تغطي القبرين الحديثي البناء. ولكنها لم تصل إليهما رغم أن أمواج المياه الصفراء كانت ترتطم جائعة حول الأموات. لم يكن هناك حصاد من أي نوع في تلك السنة. وجاع الناس جميعًا وغضبوا مما حاق بهم للمرة الثانية. فرحل بعضهم إلى الجنوب، وانضم البعض الآخر الجريء الغاضب الذي لم يكن يهتم لما يفعله، إلى عصابات اللصوص المنتشرة في كل مكان بالريف. رأى وانج لنج أن الأرض سيصيبها قحط لم يعهد مثله، إذ لم تهبط المياه في موعد زراعة القمح للشتاء. وأنه لن يحصد محصولًا ما في السنة القادمة. لم يسمح وانج لنج بشراء أو بيع أي شيء بعد مجيء الشتاء، إلا ما قال عنه. واحتفظ جيدًا بكل ما لديهم. وفي كل يوم، كان يعطي زوجة ابنه ما يحتاجه البيت من طعام في ذلك اليوم. ويعطي تشنج ما يلزم للعمال، ولو أنه آلمه كثيرًا أن يُطعم رجالًا لا يقومون بعملٍ ما. فما إن جاء برد الشتاء وتجمدت المياه حتى أمر الرجال بالذهاب إلى الجنوب ليتسوَّلوا أو يشتغلوا هناك حتى يأتي الربيع. وعندئذٍ يمكنهم أن يرجعوا إليه. أما لوتس، فكان يعطيها وحدها السكر والزيت، لأنها لم تتعود شظف العيش. لم يكن وانج لنج حينئذٍ فقيرًا كما كان يريد أن يظهر أمام الناس، إذ كانت لديه نقود فضية، وبعض النقود الذهبية، مخبأة في جرة مدفونة بقاع البحيرة في أقرب حقوله. كما كان عنده حبوب من السنة الماضية لم يبِعها في السوق، ولم يكن بيته عرضة لخطر المجاعة. أما في كل مكان حوله، فأناس يتضورون جوعًا. فذكَّره هذا بصياح الجائعين عند باب المنزل العظيم وهو يمرُّ من هناك ذات مرة. وعلم أن كثيرًا من القوم يمقتونه لأنه لا يزال يجد ما يأكله وما يطعم به أولاده. ولذلك أقفل أبوابه باستمرار. ولكنه كان يعلم حق العلم، أن هذا الاحتياط لا يمكن أن يحفظه من اللصوص في ذلك الوقت، إن لم يكن إكرامًا لخاطر عمه. ولذا كان يبالغ في توقير عمه وابنه وزوجة عمه. وكان أولئك الثلاثة كالضيوف في بيته. رأى وانج لنج، أنه على الرغم من أن عمه نفسه قد شاخ وصار خاملًا ومهملًا. ولا يتعب نفسه بالشكوى إذا ما تُرك وشأنه، فإن الشاب الصغير وأمه أقلقاه. وذات ليلة بينما كان وانج لنج واقفًا عند الباب، إذ سمعهما يقولان للرجل العجوز: «إن لديه المال والطعام، فلنطلب منه نقودًا فضية.» وقالت المرأة: «لن نكفَّ عنه مرة ثانية كما فعلنا، لأنه يعرف لولا أنك عمه لسُرِق وأصبح منزله خرائب، لأنك نائب رئيس عصابة ذوي اللحى الحمراء.» لما كان وانج لنج هناك، وسمع خلسة هذا القول، غضب غضبًا شديدًا، وكادت بشرته تنفجر غيظًا. ولكنه صمت وحاول أن يدبر خطة إزاء هؤلاء الثلاثة. ولكنه لم يستطع التفكير في شيء. وفي اليوم التالي جاء عمه يطلب منه نقودًا. ولم يمضِ يومان حتى جاءه ثانية، وثالثة ليطلب النقود. وأخيرًا، صاح وانج لنج، قائلًا: «وهل لنا أن نموت جوعًا بعد فترة وجيزة.» فضحك عمه، وقال بعدم اكتراث: «إنك تحت سماء طيبة ترعاك. هناك أناس أقل منك ثراء شنقوا معلقين في سقوف منازلهم المحترقة!» عندما سمع وانج لنج هذا، تصبب منه عرق بارد، وأعطاه الفضة دون أن ينطق بكلمة واحدة. وهكذا رغم اضطرار أهل البيت ألا يأكلوا اللحم، كان هؤلاء الثلاثة يأكلون لحمًا. ورغم أنه قلما كان وانج لنج نفسه يذوق طعم التبغ، كان عمه دائم التدخين في غليونه. نادرًا ما كان ابن وانج لنج الأكبر، منذ زواجه، يدري بما يحدث، غير أن يخفي زوجته غيرةً عليها من نظرات ابن عمه، حتى إن هذَين الشابَّين لم يعودَا صديقَين وإنما أصبحَا عدوَّين. وقلما كان وانج لنج يترك زوجته تغادر حجرتها إلا في الأمسيات التي يخرج فيها ذلك الشاب مع والده. ولكنه ما إن علم بما يفعله أولئك الثلاثة مع والده، حتى استشاط غضبًا، وقال: «إذا كنتَ تهتم بشئون هؤلاء النمور الثلاثة، أكثر من اهتمامك بشئون ابنك وزوجته، التي هي أم أحفادك، فهذا أمر غريب، والأفضل لنا، عندئذٍ، أن نقيم في منزل آخر.» أخبر وانج لنج ابنه، في صراحة، بما لم يخبر به أحدًا غيره، فقال: «إنني لأمقت أولئك الثلاثة أكثر مما أمقت حياتي. وإذا اهتديت إلى طريقة للتخلص منهم، لجأت إليها. فإن عمك رئيس عصابة من اللصوص المتوحشين، وطالما نحن نطعمه وندلله، فنحن آمنون.» عندما سمع الابن الأكبر بهذا، شَخَصَ ببصره. وعندما فكر فيه برهة، غضب غضبًا لم يعهده من قبل، وقال: «أما من طريقة للتخلص منهم؟ هيَّا بنا نقذفهم في الماء ليلًا.» بيد أن وانج لنج لا يستطيع أن يقتل، وإلا لقَتَل عمه أفضل مما يقتل ثوره. لا يمكنه أن يُقدِم على القتل، حتى في حالة الكراهية. فقال: «كلا، حتى إذا كان في مقدوري أن أفعل هذا، فلن أفعله؛ فماذا نعمل عندما يعلم به اللصوص الآخرون؟ وإننا لآمنون طالما هو حي.» صمت الأب والابن بعد ذلك، وكل منهما يقدح ذهنه يفكر فيما يجب عمله. وأخيرًا تكلم وانج لنج بصوت عالٍ، وهو يفكر، قائلًا: «إن كانت ثمة طريقة للاحتفاظ بهم هنا دون أن يزعجونا، كانت عين ما نبغي، ولكن لا يوجد سحر له هذا المفعول!» فصاح الشاب يقول: «إذن فقد أخبرتني بما أفعل! فلنشترِ لهم أفيونًا يبهجهم، ونزيدهم من هذا الأفيون، ونمدهم بكل رغبتهم منه كما يفعل الأغنياء.» بَيْد أنه طالما لم يفكر وانج لنج في هذا الأمر بنفسه أولًا، فإنه يرتاب فيه. فقال ببطء: «إنه يكلفنا كثيرًا. إذ أن الأفيون كاليشم، غالي الثمن.» فعارضه الشاب بقوله: «وإن الاحتفاظ بهم على هذا النحو لأغلى من اليشم. وعلاوة على ذلك فإن هذا الشاب يضايقنا بالنظر إلى زوجتي.» لم يوافق وانج لنج في الحال، إذ لم يكن القيام بهذا أمرًا يسيرًا. وإن تنفيذه ليكلفه كيسًا من الفضة. من المشكوك فيه أن يُعمل شيء ما، إن لم يكن قد حدث شيء بالفعل. وهذا الشيء هو أن ابن عم وانج لنج نظر إلى ابنة وانج لنج الثانية، التي كانت ابنة عمه وكأخته. كانت هذه الابنة الثانية رائعة الجمال، ذات بشرة زاهية كأزهار اللوز، وأنف صغير، وشفتَين رفيعتَين حمراوَين، وقدمَين صغيرتَين. أمسك ابن عم وانج لنج بهذه الفتاة، في إحدى الليالي وهي تجتاز البهو وحدها، في طريقها إلى المطبخ. فصرخت، فجرى إليها وانج لنج، وضرب الشاب على رأسه، فضحك هذا عاليًا، وقال: «لا يعدو هذا أن يكون محض مداعبة. أوليست هي أختي؟» ولكن وانج لنج جذب الفتاة وأرسلها إلى حجرتها. في تلك الليلة أخبر وانج لنج ابنه بما حدث، فقال الابن: «يجب أن نرسل الفتاة إلى منزل خطيبها بالمدينة.» ذهب وانج لنج في اليوم التالي إلى منزل التاجر بالمدينة، وقال له: «لقد بلغت ابنتي الثالثة عشرة من عمرها، ولم تَعُد طفلة بعد، وهي يانعة للزواج. وقد ماتت أمها، وإنها لَجميلة، والمنزل يعج بهذا وذاك، ولا يمكنني مراقبتها طول الوقت. وبما أنها ستكون من أسرتك، فأرى أن تمكث هنا.» كان التاجر رجلًا طيبًا، فأجابه بقوله: «حسنًا، فلتأتِ الفتاة، وسأتحدث إلى أم ولدي، فيمكنها أن تأتي وتكون بمأمنٍ هنا في الأبهاء مع حماتها. وبعد المحصول القادم، يمكن أن تتزوج.» هكذا سُوِّيت هذه المسألة، واطمأن وانج لنج غاية الاطمئنان، وانصرف. في طريق عودته إلى باب سور المدينة حيث كان تشنج ينتظره بقارب، مرَّ بحانوت يبيع التبغ والأفيون. فدخل ليشتري لنفسه بعضًا من التبغ المغري ليملأ به غليونه في المساء. وبينما كان البائع يضع التبغ في الميزان، قال له وانج لنج في رغبة فاترة: «ما سعر الأفيون لديكم إن كان عندكم منه؟» فقال البائع: «لا يصرح القانون، في هذه الأيام ببيع الأفيون في الدكاكين. ونحن لا نبيعه علنًا. ولكن إذا كنت ترغب في شراء شيء منه ولديك الفضة، فإننا نَزِنُه في الحجرة الخلفية. الأوقية بقطعة فضية.» لم يفكر وانج لنج أكثر من هذا، وقال بسرعة: «سآخذ منه ست أوقيات.»
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/28/
الباب الثامن والعشرون
قال وانج لنج لعمه، ذات يوم: «بما أنك شقيق والدي، فهاك قليلًا من التبغ، من صنف أرقى مما تدخنه.» أخذ عمه التبغ بجشع، إذ كانت رائحته حلوة، واشترى غليونًا، وأخذ يدخن فيه الأفيون، راقدًا طول اليوم على سريره وهو يدخن. وأكثر وانج لونج منه لعمه وزوجة عمه وابنهما. ولم يبخل على شرائه بالنقود، لأنه جلب له راحة البال. لما اقترب الشتاء، وبدأت المياه تهبط، حتى استطاع وانج لنج أن يخرج إلى أرضه ويسير فيها، حدث أن تبعه ابنه الأكبر ذات يوم وقال له مزهوًا: «سرعان ما سيكون بالمنزل فم آخر، وهو فم حفيدك.» فرك وانج لنج يديه فرحًا، وقال: «يا له من يوم سعيد حقًّا!» طيلة الربيع، كان وانج لنج على علم بالولادة التي ستحدث لراحته. ولما تقدم الربيع ودخل في الصيف، رجع الناس الذين كانوا قد رحلوا، منهوكين ومتعبين من الشتاء، وفرحين بعودتهم، رغم أن منازلهم قد اندثرت وبقي في مكانها طين أصفر ليس غير. بَيْد أنه يمكن بناء تلك البيوت من جديد من هذا الطين. وجاء كثيرون إلى وانج لنج ليقترضوا منه نقودًا. فكان الضمان الذي يطلبه دائمًا هو الأرض. وإذا لم يستطع بعضهم اقتراض نقود، باعوا أرضهم. بيد أن هناك بعضًا منهم لم يبع أرضه، وإنما باع، بدلًا منها، بناته. فجاء بعضهم إلى وانج لنج ليبيعوه البنات، إذ شاع بينهم أنه ثري وذو نفوذ وطيب القلب. اشترى وانج لنج خمس إماء في يوم واحد، إذ كان غنيًّا بدرجة تجعله يقرر ما يريده، في سرعة. بعد ذلك بعدة أيام، جاءه رجل يحمل طفلة صغيرة رقيقة، سنها حوالي سبع سنوات، يريد أن يبيعها. وفي بادئ الأمر رفض وانج لنج أن يشتريها إذ كانت صغيرة وضعيفة. ولكن لوتس رأتها وأعجبت بها، فقالت: «سآخذ هذه الطفلة لأنها جميلة.» نظر وانج لنج إلى الطفلة، وأبصر عينيها الجميلتين الخائفتين، وهزالها، وقال يداعب لوتس من جهة، ومن جهة أخرى ليطعم الطفلة ويسمنها: «حسنًا. ليكن كذلك ما دمت ترغبين فيها.» وعلى ذلك اشترى الطفلة بعشرين قطعة فضية، فعاشت في الأبهاء الداخلية. وكانت تنام عند قدمي السرير الذي تنام فوقه لوتس. ••• بدا لوانج لنج أن في مكنته أن يحظى بالهدوء في بيته، فلما أقبل الصيف، ولزم بذر الأرض، شرع يسير في كل ناحية، وينظر إلى كل قطعة من الأرض. وكان يصحب معه ابنه الأصغر الذي سيخلفه في مباشرة الأرض، أينما ذهب، وذلك حتى يتعلم الصبي أمور الزراعة. وكان الغلام يسير مطأطئ الرأس تتجلى في وجهه أمارات الكآبة. وما من أحد كان يعرف فيمَ يفكر. لم يستقر الهدوء في بيت وانج لنج بسبب ابن عمه وابنه الأكبر. عندما عاد وانج لنج من الحقول مع ابنه الأصغر، قابله ابنه الأكبر وانتحى به ناحية، وقال له: «لا أريد ابن عمي هذا في المنزل بعد ذلك، لأنه يسترق النظرات، ويتسكع من ناحية إلى أخرى، ويثبِّت عينيه على الإماء.» فقال وانج لنج: «أما يرتاح بالي أبدًا من هذه المتاعب بين الذكور والإناث في بيتي؟» وبعد فترة صمت صاح: «وماذا تريد أن أفعل؟» فأجاب الشاب على الفور: «أود أن نترك هذا البيت، ونعيش في المدينة. تاركين عمي وزوجته وابنه هنا. أما نحن فنعيش في المدينة آمنين وراء أبواب سورها.» ضحك وانج لنج في حسرة عندما قال ابنه هذا. ثم قال: «هذا بيتي. ويمكنك أن تعيش فيه أو لا تعيش.» ونهض، وبصق على الأرض، سالكًا سلوك الفلاحين، رغم أنه كان فخورًا بابنه في دخيلة نفسه. أما الابن الأكبر فلم يكن على استعداد للخضوع. فتابع والده بقوله: «هناك البيت العظيم لأسرة هوانج. يزخر جزؤه الأمامي بعامة الشعب، أما الأبهاء الداخلية فمقفلة وهادئة. وفي استطاعتنا أن نستأجرها ونعيش هناك في سلام.» وذرفت عيناه الدموع، فلم يمسحها. لا يعرف وانج لنج ما إذا كانت الدموع وحدها هي التي حركت قلبه. ولكنه تأثر بكلام ابنه عندما قال: «البيت العظيم لأسرة هوانج.» لم ينسَ وانج لنج أبدًا أنه ذهب إلى ذلك البيت العظيم، ووقف خجلان في حضرة مَن كانوا يعيشون فيه. ووثبت الفكرة في ذهنه، فقال في نفسه: «أستطيع أن أجلس على المقعد الذي كانت تجلس فوقه السيدة العجوز.» لم يرد على ابنه بشيء، بل أخذ يحلم بما يمكنه أن يفعل لو وافق. ومع ذلك فكان مستاءً من بطالة ابن عمه، ورأى أنه حقيقة ينظر إلى الفتيات، فتمتم قائلًا: «لا أستطيع الحياة في بيتي مع هذا الكلب.» نظر وانج لنج إلى عمه، ثم نظر إلى زوجة عمه، وكانا مغتبطَين بالأفيون، ونعسانَين. وصارَا الآن مصدر قليل من المتاعب، وقد فعل الأفيون ما أراده منه وانج لنج. عندما ذهب وانج لنج إلى المدينة، في أحد الأيام، ليقابل ابنه الثاني في سوق الغلال، سأله: «ماذا ترى، يا ثاني بَنيَّ فيما يريده أخوك الأكبر، من أن ننتقل إلى المدينة، إلى البيت العظيم، إذا استطعنا أن نستأجر جزءًا منه؟» كان الابن الثاني قد بلغ وقتئذٍ مبالغ الرجال، رغم صغر جسمه، وبشرته الصفراء، وعينَيه الخبيثتَين، فأجاب قائلًا: «إنها لفكرة رائعة، وتوافقني كثيرًا، إذ عندئذٍ أستطيع أن أتزوج وأعيش مع زوجتي هناك، ونكون جميعًا تحت سقف واحد كأسرة عظيمة.» لم يكن وانج لنج، حتى ذلك الوقت، قد فعل شيئًا نحو زواج هذا الابن، إذ كانت لديه مشاغل أخرى كثيرة. وعندئذٍ قال في خجل: «لقد حدَّثت نفسي منذ زمن طويل بأنك يجب أن تتزوج. ولكني لم أجد الوقت اللازم لذلك، إذ كان يشغلني هذا المشكل وذاك. أما الآن، فلا بد من تنفيذ هذا الأمر.» عندئذٍ قال الابن الثاني: «حسنًا، إذن فسأتزوج؛ لأنه شيء حميد وخليق بالرجل أن ينجب البنين. ولكن لا تحضر لي زوجة من بيت بالمدينة مثل زوجة أخي. لأنها ستتحدث باستمرار عما كان في بيت أبيها، وتضطرني إلى إنفاق النقود، الأمر الذي يثير حنقي.» سمع وانج لنج هذا مستغربًا، لأنه لم يعلم أن زوجة ابنه على هذا النحو، بل كان يرى فقط أنها امرأة تحرص على عدم وجود عيب في مسلكها، وأن تكون جميلة في منظرها. ولاح له ما قاله ابنه، هو عين الحكمة. فنظر إلى الشاب، ابنه الثاني، ولاحظ حركاته الرتيبة، وعينَيه الثابتتَين الكتومتَين، وقال: «أي نوع من الفتيات تريد إذن؟» فأجاب الشاب كما لو كان قد صمم هذا الأمر من قبل، فقال: «أريد فتاة من الريف، من أسرة طيبة، تملك أرضًا، وليس لها أقارب فقراء. فتاة تُحضر لي معها بائنة طيبة، ليست بسيطة المنظر، ولا جميلة، وماهرة في الطهي. أريد مثل هذه الفتاة.» دهش وانج لنج عندما سمع هذا الكلام. ومع ذلك فقد أُعجب بحكمة ابنه، وقال ضاحكًا: «حسنًا، سأبحث عن مثل هذه الفتاة، وسيفتش عنها تشنج في القرى.» انصرف وانج لنج وهو لا يزال يضحك، وسار في الشارع المؤدي إلى البيت العظيم. ولما لم يكن هناك مَن يوقفه، دخل فرأى الأبهاء الأمامية ملأى بالناس الذين يؤمُّون أبهاء العظماء بعد أن يرحل عنها أولئك العظماء. لو كان في قديم الزمان لأحس وانج لنج بأنه واحد من أولئك العامة. أما الآن وقد صار يملك الذهب والفضة مخبَّئين في مكان أمين، فقد احتقرهم وغدا ضدهم، كما لو كان هو نفسه ينتمي إلى ذلك البيت العظيم. عندما دخل البهو الداخلي أبصر سيدة عجوزًا نائمة. ولما نظر إليها خطر بباله كم سنة مضت منذ أن كان شابًّا، وحضر بابنه البكريِّ على ذراعيه. وشعر وانج لنج لأول مرة بأن سنه تتقدم به. قال للسيدة العجوز في نوع من الكآبة: «استيقظي وافتحي لي الباب.» استيقظت المرأة مذعورة، وقامت تدعك في عينيها، وقالت: «غير مسموح لي بأن أفتح الباب إلا لمَن يستأجر الأبهاء الداخلية كلها.» فقال وانج لنج فجأة: «حسنًا، سأفعل هذا إن أعجبني المكان.» سار وانج لنج خلف السيدة، وكان يتذكر الطريق جيدًا. وكانت الأبهاء ساكنة هادئة. وظل يتبعها حتى وصل إلى البهو العظيم نفسه. وطوى السنين القهقرى في ذهنه بسرعة، وتذكر يوم أن وقف هناك ينتظر، ليتزوج عبدة من ذلك البيت. وتقدم إلى الأمام، وجلس حيث كانت تجلس السيدة العجوز في ثيابها الساتينية المفضضة. وملأت قلبه غبطة كان يتوق إليها طول حياته، فقال بغتة: «سآخذ هذا البيت!»
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/29/
الباب التاسع والعشرون
في ذلك الوقت، كان وانج لنج إذا قرر شيئًا لا ينفذه بسرعة. وعلى هذا طلب من ابنه الأكبر أن يرتب المسألة. وأرسل لابنه الثاني لكي يأتي ويساعد في نقل الأثاث. وبعد أن أعد كل شيء، انتقلوا إلى المدينة. أولًا لوتس وكوكو وعبيدهما وأمتعتهما. ثم ابن وانج لنج الأكبر وزوجته وخدمهما والعبيد. أما وانج لنج نفسه فلم ينتقل معهم سريعًا. وبقي معه ابنه الأصغر. وعندما حانت ساعة مغادرته الأرض التي وُلد فيها، لم ينتقل بسهولة، وقال لأولاده عندما أخذوا يحثونه على الانتقال: «أعِدُّوا لي بهوًا أستعمله وحدي. وسأحضر عندما نعثر على الفتاة التي ستتزوج ابني الثاني.» لم يبقَ بالمنزل، إذن، إلا العم وزوجته وابنه، وتشنج والعمال، علاوة على وانج لنج وابنه الأصغر والبلهاء. نام وانج لنج مستريحًا إذ أحس بالتعب فجأة، وكان البيت هادئًا. وكان ابنه الأصغر غلامًا ساكنًا، يبتعد دائمًا عن طريق والده. وأخيرًا نشَّط وانج لنج نفسه، فأمر تشنج بأن يفتش عن فتاة تتزوج ابنه الثاني. فلما سمع تشنج ما أمره به وانج لنج، استحم وارتدى معطفه القطني الأزرق الجيد، وطفق يذهب إلى هذه القرية وتلك، وأخيرًا رجع يقول: «هناك فتاة في قرية تبعد عنا بثلاث قرى. فتاة حذرة طيبة، لا عيب فيها إلا ضحكتها الحاضرة، ويرغب والدها في تزويجها، والبائنة طيبة في هذه الأيام. كما أنه يملك أرضًا.» لاح لوانج لنج أن هذه الفتاة مناسبة جدًّا، ولما جاءت الأوراق، وقَّع عليها بخاتمه، وقال: «يبقى أمامي ولد واحد، ثم أنتهي من كل هذه الزيجات. ويسرني أنني قريب جدًّا من الراحة والسكينة.» عندما تمَّ كل شيء وحدد يوم الزفاف، استراح وانج لنج وجلس في الشمس، ونام كما كان يفعل والده من قبل. لما رأى وانج لنج أن تشنج قد تقدمت به السن وضعف، وأنه هو نفسه قد صار ثقيلًا في حركاته وكثير النعاس بسبب طعامه وسِنِّه، وأن ابنه الثالث لا يزال صغيرًا، وجد من الأوفق أن يؤجر بعض حقوله البعيدة لغيره من القرويين. فجاء إليه كثيرون من القرى المجاورة ليستأجروا أرضه ويكونوا مستأجرين لديه. فاتفق على شروط التأجير، بأن يأخذ وانج لنج نصف المحصول، ويأخذ المستأجر النصف الآخر. ولما لم تكن هناك حاجة إلى وجوده بالقرية كما كانت من قبل، فكان يذهب أحيانًا إلى المدينة وينام في الجناح الذي أُعِد له. فإذا أتى وقت الحصاد، ذهب إلى القرية وشم رائحة الحقول اليانعة وابتهج بها. يبدو أن الآلهة أشفقت عليه مرة فمنحته راحة البال بسبب كِبر سنه. فإن ابن عمه الذي كان دائم الشغب بالمنزل، سمع عن نشوب حرب في الشمال، فقال لوانج لنج: «يقال إن هناك حربًا في الشمال منَّا. سأذهب وأنضم إليها إن أعطيتني فضة أشتري بها ملابس أخرى وفراشًا وبندقية أجنبية أحملها على كتفي.» أعطاه وانج لنج الفضة في الحال، وقال لنفسه: «هذا حسن، فلربما يُقتل؛ لأن كثيرين يموتون في الحرب أحيانًا.» إذن فقد ابتهج نفسًا، ولو أنه كان يخفي بهجته، وأخذ يهوِّن الأمر على زوجة عمه عندما بكت قليلًا لما سمعت بذهاب ابنها إلى الحرب. وأخيرًا حصل وانج لنج على السكينة إذ لم يبقَ هناك غير عجوزَين نعسانَين بالمنزل الريفي. أما في منزل المدينة فاقترب موعد ولادة حفيد وانج لنج. لما دنت ساعة الولادة هذه، كان وانج لنج يمكث أوقاتًا أكثر في منزل المدينة، يتأمل فيما حدث، وأنه يسكن هو وزوجته وأولاده وزوجات أولاده في هذا المنزل الذي كانت تعيش فيه أسرة هوانج العظيمة. والآن سيولد فيه طفل من الجيل الثالث. ملأت الغبطة قلب وانج لنج حتى انتفخ فرحًا، ولم يعزَّ نقوده على شراء أي شيء. وصمم على أن يأكل الأطعمة الفاخرة، وذاق جميع الأشياء التي يأكلها الأغنياء كما أكل منها أولاده ولوتس أيضًا. ولما رأت كوكو كل ما آل إليه أمرهم، ضحكت وقالت: «هذا أشبه بالأيام الماضية عندما كنت في هذه الأبهاء.» ظل وانج لنج ينتظر قدوم حفيده، وهو جالس لا يقوم بأي عمل. وذات صباح ذهب إلى أبهاء ابنه الأكبر، فقابله ابنه وهو يقول: «حانت الساعة، ولكن كوكو تقول إن الوقت سيطول.» عاد وانج لنج إلى بهوه الخاص وجلس. ولأول مرة في سنوات عدة تملَّكه الخوف وأحس بالحاجة إلى معونة إله ما فنهض وذهب إلى حانوت البخور، واشترى بعض البخور واتجه إلى معبد المدينة ليحرق البخور أمام ربة الرحمة. وبينما وانج لنج يراقب الكاهن وهو يضع عيدان البخور في الرماد، قال في ذهنه فجأة والرعب يتملكه: «وماذا إذا لم يكن حفيدًا، بل طفلة!» فصاح يقول بسرعة: «إذا كان حفيدًا دفعت ثمن ثوب جديد أحمر للربة، وإن كانت بنتًا لم أدفع شيئًا!» وبسبب عدم تفكيره في هذا من قبل، خرج واشترى مزيدًا من البخور رغم أن اليوم كان قائظًا ومُتربًا. وذهب إلى معبد الريف الصغير الذي فيه الربان المشرفان على الحقول والأرض، وغرس البخور في الرماد وأوقده، ثم تمتم يقول للربين: «لقد اعتنينا بكما؛ والدي وأنا وابني، فإذا لم يكن المولود ابنًا فلا شيء لكما بعد ذلك!» وأخيرًا بدا له أن الوقت سرعان ما سيكون ليلًا، وقد انتظر طويلًا. ودخلت لوتس تستند إلى كوكو، لثقل جسمها وصغر قدميها، وضحكت وقالت بصوت عالٍ: «حسنًا، لقد جاء ابن في هذا البيت لابنك، رأيت الطفل، وإنه لجميل وصحيح الجسم.» فضحك وانج لنج أيضًا، وقال: «كنت جالسًا هنا كرجل ينتظر مجيء ابنه البكريِّ، ويخاف من كل شيء.» ولما عادت لوتس إلى حجرتها، جلس ثانيةً، وفكر في نفسه يقول: «لم يعترِني هذا الخوف عندما ولدت زوجتي الأخرى أول مولودها، ابني.» وجلس صامتًا، وتذكر في مخيلته ذلك اليوم الذي ذهبت فيه وحدها إلى الحجرة المظلمة الصغيرة، وولدت وحدها الأبناء ثم الأبناء والبنات. وكانت تلدهم في سكون. وكيف أنها كانت ترجع بعد الولادة وتشتغل ثانية إلى جانبه. ويبدو له أن ذلك كان منذ عهد طويل. ••• عندما صار عمر الطفل شهرًا، أَوْلَم ابن وانج لنج وليمة الولادة، فدعا إليها عظماء المدينة. وصبغ عدة مئات من بيض الدجاج باللون الأحمر الدموي، وقدم منها لكل مدعو، وأقام لهم وليمة وعمَّ الفرح جميع أرجاء البيت. وعندئذٍ تذكر وانج لنج الثوب الأحمر الذي نذره لربة الرحمة. وعلى هذا ذهب إلى المعبد ودفع ثمنه. وبينما هو عائد إلى البيت، أقبل شخص يجري من حقول الحصاد ليخبره بأن تشنج راقد يموت فجأة، وطلب أن يأتي إليه وانج لنج ليراه وهو يموت. كان طعام الظهر معدًّا لوانج لنج على المائدة، ولكن بالرغم من ذلك، ورغم أن لوتس نادته كي ينتظر حتى تأتي شمس المساء، فإنه ذهب إليه. فأرسلت لوتس وراءه عبدة تحمل مظلة من الورق المطلي بالزيت. بَيْد أنه كان يجري بسرعة حتى إن العبدة كانت تجد مشقة بالغة في الاحتفاظ بالمظلة فوق رأسه. بالمظلة فوق رأسه. ذهب وانج لنج من فوره إلى الحجرة التي وُضِع فيها تشنج، فجلس إلى جانبه، وأمسك بيده، وانحنى فوقه وقال في أذنه بصوت مرتفع: «ها أنا ذا قد جئت، وسأشتري لك نعشًا لا يفوقه إلا نعش والدي فقط!» إذا كان تشنج قد سمع وانج لنج، فإنه لم يُبدِ أية إشارة. وإنما كان يلهث وهو يحتضر حتى مات وهو على تلك الحال. عندما لفظ تشنج نفسه الأخير، انحنى فوقه وانج لنج وبكى بكاءه على موت والده. وطلب نعشًا من أجود نوع، واستأجر كهنة للجنازة، وسار خلفه مرتديًا ملابس الحداد البيضاء. وإمعانًا في الحزن، جعل ابنه الأكبر يضع شريطًا أبيض حول مفصلَي قدميه، كما لو كان الميت أحد أقاربه، رغم أن ابنه تذمر قائلًا: «ما كان إلا رئيس خدم، ولا يليق أن يحزن المرء على خادم بهذه الطريقة.» لو تُرِكَ وانج لنج يفعل ما يشاء، لدفن تشنج في مقبرة أسرته حيث دفن والده وأو-لان. غير أن أولاده لم يسمحوا له بذلك. دفن وانج لنج تشنج عند باب السور، وقنع بما فعله، وقال: «هذا عمل صحيح؛ إذ كان يقف دائمًا بيني وبين الشر.» وأمر أولاده بأن يدفنوه، عند موته، في أقرب موضع من تشنج. بعد ذلك كان وانج لنج لا يذهب لرؤية أرضه إلا لمامًا، أقل من أي وقت مضى، لأن تشنج مات. ولكنه لم يتحدث قط عن بيع قدم واحدة من أية قطعة. وضع وانج لنج أحد العمال وزوجته وأولاده ليعيشوا في المنزل الريفي ويعنوا بالعجوزَين الحالمَين بالأفيون، ثم قال لابنه الأصغر: «يمكنك أن تأتي معي إلى المدينة، وسأصحب معي بلهائي المسكينة أيضًا. وستعيش معي في البهو الذي أعيش فيه. إن المكان هنا موحش لك، ولا يوجد هنا مَن يعلِّمك شئون الأرض، إذ قد ذهب تشنج.» وهكذا أخذ وانج لنج معه ابنه الأصغر وبلهاءه، ولم يعد يأتي بعد ذلك إلى البيت القائم في أرضه إلا نادرًا، وبعد مدة طويلة.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/30/
الباب الثلاثون
يبدو أنه لم ينقص وانج لنج شيء ما، وصار في مكنته الآن أن يجلس على كرسيه في الشمس بجانب بلهائه. وكان من الممكن أن يسير الأمر على هذا المنوال، لولا أن ابنه الأكبر لم يكن قانعًا قط، بل كان يطلب المزيد دائمًا. فجاءه ذات يوم، يقول: «سيتزوج أخي الأصغر مني بعد ستة شهور، وليس لدينا من الحجرات ما يكفي. أقصد أننا يجب أن نستأجر الأبهاء الخارجية أيضًا. ويجب أن يكون لدينا ما يلائم أسرة لها من الأموال والأراضي مثل ما نملك.» برِمَ وانج لنج بابنه الأكبر، وضاق ذرعًا، وصاح يقول: «افعل ما يحلو لك، افعل ما يحلو لك .. غاية ما في الأمر، لا تزعجني به!» ما إن سمع الابن هذا من أبيه حتى خرج مسرعًا لئلا يغيِّر أبوه رأيه. ولما جاء العيد، وقُدِّرت الإيجارات، وجد عامة الشعب أن الإيجارات قد رُفِعَت بنسبة كبيرة، فاضطُروا إلى الانتقال من مساكنهم، وهم يتذمرون ويلعنون؛ لأن الرجل الغني يستطيع أن يفعل ما يريد. استدعى ابن وانج لنج النجَّارين، وأصلح الحجرات وأعاد بناء البرك، وجمَّل كل شيء بقدر ما يعرف للجمال معنًى. خرجت النقود التي أُنفِقت في كل ذلك من يد وانج لنج شيئًا فشيئًا، وما كان سيعرف كم من النقود أعطى، لولا أن جاء ابنه الثاني إلى البهو ذات صباح وقال: «أمَا من نهاية، يا أبتاه، لإنفاق كل هذه الأموال؟ وهل نحن في حاجة لأن نعيش في قصر؟» وجد وانج لنج أن هذَين الأخوَين سيتنازعان بسبب هذا الموضوع، فقال: «كل هذا إكرامًا لحفل زواجك.» فأجابه الشاب بقوله: «إنه لمن الأمور العجيبة أن يتكلف حفل الزفاف عشرة أضعاف ما تتكلفه العروس، فهذا ميراثنا يُنفَق، لا لشيء سوى فخر أخي الأكبر.» فقال وانج لنج بسرعة: «سأكلم أخاك، وأُقفل يدي.» تحدث وانج لنج إلى ابنه الأكبر في ذلك المساء، فقال: «كفى إنفاقًا للفضة، هذا يكفي!» كان الابن الأكبر على استعداد لأن يطيع أباه الآن؛ إذ كان راضيًا كل الرضا بما عمله في الحجرات وفي الأبهاء، على الأقل حتى ذلك الوقت. ولكنه قال ثانية: «فلنكتفِ بهذا، ولكن هناك شيء آخر؛ إنه لأخي الأصغر الذي هو ابنك؛ فلا يليق أن يشب في جهله هذا المطبق. يجب أن نعلِّمه شيئًا. يمكننا أن نُحضر له مدرسًا ليعلِّمه. ولما كنت أنا موجودًا بالمنزل لأساعدك، وأخي الثاني في تجارته الناجحة، فلندع الصبي يختار ما يريده.» فقال وانج لنج أخيرًا: «أرسله هنا إليَّ.» ••• ما هي إلا برهة حتى جاء الابن الثالث ووقف أمام أبيه، فرأى وانج لنج أمامه غلامًا طويلًا نحيل العود لا يشبه أباه ولا أمه إلا في أن له صمت أمه. فقال وانج لنج: «يقول أخوك أنك ترغب في تعلُّم القراءة. وأظن أن هذا يعني أنك لا تريد أن تعمل في الأرض، وأنه لن يكون عندي ابن يرعى شئون الأرض.» قال هذا بحسرة. ولكن الصبي لم يرد عليه بشيء. وأخيرًا غضب وانج لنج من صمته وصاح فيه: «لماذا لا تتكلم؟ أحقيقي أنك غير راغب في الإشراف على الأرض؟» فأجاب الصبي بكلمة واحدة: «نعم.» فصاح وانج لنج ثانية وقد أحس بأن أبناءه يسيئون إليه: «وماذا يعنيني ما تفعله؟ اغرب من أمام وجهي!» انصرف الغلام بسرعة، فقال وانج لنج لنفسه إن ابنتَيه لَأفضل من كل أبنائه. ومع ذلك، فقد فعل كما كان يفعل دائمًا بعد ذهاب غضبه؛ أن يترك أولاده يفعلون ما يشاءون. فنادى ابنه الأكبر وقال له: «أحضِر مدرسًا للابن الثالث إذا أراد ذلك.» ونادى ابنه الثاني وقال له: «بما أنه ليس لي ولد يُشرف على الأرض، فمن واجبك إذن أن تُعنَى بأمر الإيجارات والأموال الآتية من الأرض في كل موسم حصاد.» سرَّ الابن الثاني كثيرًا بهذا التكليف؛ إذ يعني أنه سيعرف ما تغله الأرض. وحتى في يوم زفافه كان حريصًا في إنفاق النقود، فمنح الخدم والإماء أقل مبالغ يمكن أن يُمنحوها، حتى خجل أخوه الأكبر وأعطاهم نقودًا أخرى من عنده. وهكذا دب الشقاق بينهما، حتى في يوم الزفاف. لم يَدعُ الابن الأكبر غير القليل جدًّا من أصدقائه إلى حفل زواج أخيه؛ لأنه كان يخجل من دناءته، ولأن العروس ليست سوى فتاة قروية. يبدو أن لا أحد ممن يعيشون في ذلك البيت العظيم الآن، كان في راحة بال، ما عدا الحفيد الصغير الذي وُلِد لوانج لنج. وهذا هو مَن كان وحده يسبب راحة ضمير وانج لنج. فلم يشبع من النظر إليه والضحك معه، وإنهاضه عندما يقع. لم يكن هناك هذا الحفيد وحده؛ لأن زوجة الابن الأكبر كانت تلد بانتظام، وكذلك زوجة الابن الثاني أيضًا كانت تلد في مواعيدها، فأنجبت بنتًا أول ما أنجبت، كما يليق بها احترامًا لزوجة شقيق زوجها. وعلى ذلك، في خلال خمس سنوات، كان لوانج لنج أربعة حفداء وثلاث حفيدات. وامتلأت الأبهاء بضحكهم وبكائهم. ليست خمس سنوات بشيء يُذكر في حياة المرء، إلا إذا كان صغير السن جدًّا، أو بالغ الشيخوخة. وإن كانت تلك السنوات قد أعطت وانج لنج كل هؤلاء الحفداء، فقد أخذت منه الحالم العجوز عمه. لم يعلم وانج لنج في أية ساعة مات عمه، سوى أنه كان راقدًا ميتًا عندما دخلت الخادم ذات مساء لتقدم له طبقًا من الحساء. فدفنه وانج لنج في يوم قارس البرودة، ووضع نعشه في مقبرة الأسرة في مكان منخفض عن قبر والده بقليل، ولكنه أعلى من المكان الذي أعده وانج لنج لنفسه. صنع وانج لنج ملابس الحداد لجميع أفراد أسرته. وظلوا سنة كاملة يضعون شارة الحداد؛ إذ كان هذا من الواجبات المرعية في الأُسَر العظيمة عندما يموت أحد أقاربها. بعد ذلك نقل وانج لنج زوجة عمه إلى منزله بالمدينة، وخصَّص لها حجرة في نهاية بهو بعيد، وعبدة تُعنى بها. واشترى لها نعشًا من الخشب. فظلت هذه العجوز تمص أفيونها في رضًا تام، ونعشها بجانبها حيث تستطيع رؤيته وتطمئن على نفسها.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/31/
الباب الحادي والثلاثون
كان وانج لنج يسمع طول حياته عن حرب هنا وهناك، ولكنه لم يَرَها. وعلى حين غرة اقتربت منه الحرب كما تظهر الزوبعة العنيفة في جو السماء. سمع وانج لنج أول ما سمع من ابنه الثاني الذي قال لوالده: «لقد ارتفعت أسعار الحبوب فجأة؛ لأن الحرب تقترب منا يومًا بعد يوم. فيجب أن نحتفظ بما في مخازننا أطول مدة إذ سترتفع الأسعار وترتفع كلما اقتربت منا الجيوش.» في أحد أيام أوائل الصيف، قدمت فرقة من الرجال آتية من الشمال الغربي. وذات صباح مشمس كان حفيد وانج لنج الصغير واقفًا أمام الباب، فلما أبصر صفوف الرجال الطويلة ذوي الحلل الرمادية، صاح: «انظر هؤلاء القادمين، أيها العجوز!» خرج وانج لنج معه إلى الباب، فرأى رجالًا يملئون الشارع، ذوي وجوه غريبة متوحشة، فجذب الطفل إليه، وقال: «هيا بنا ندخل ونقفل الباب؛ فلا يجدر بنا أن نرى هؤلاء الرجال، يا قلبي الصغير.» وفجأة، قبل أن يستدير وانج لنج، رآه شخص من بين أولئك الرجال، وصاح يناديه: «هيا ابن شقيق أبي العجوز!» اتجه وانج لنج ببصره نحو ذلك النداء، فإذا به يرى ابن عمه، الذي ضحك بخشونة، وصاح يقول لزملائه: «يمكننا البقاء هنا، يا إخوتي؛ فهذا رجل غني ومن أقربائي!» قبل أن يتحرك وانج لنج فزعًا، كان الرجال يتدفقون داخل أبوابه، مارين بجانبه، فجرى عائدًا بالطفل ليبحث عن ابنه الأكبر. فلما سمع هذا الابن ما أخبره به والده، تأوَّه وخرج. ولكنه عندما أبصر ابن عمه، ورأى أن كل رجل يحمل سكينًا، قال: «مرحبًا بابن عمي. مرحبًا بعودتك ثانية إلى بيتك. سنُعِدُّ لكم طعامًا كي يأكل هؤلاء الرجال قبل أن يسيروا في طريقهم.» فقال ابن عمه متبرمًا: «نعم، ولكن لا حاجة إلى السرعة؛ لأننا سنمكث هنا عدة أيام أو شهرًا أوسنة أو سنتين لأننا سنبقى بالمدينة حتى تستدعينا الحرب.» تظاهر الابن الأكبر بأنه يجب أن يذهب ويُعِد ما يلزم. وأمسك بيد والده، واندفع كلاهما إلى البهو الداخلي، وأقفل الابن الأكبر الباب بالمزلاج. جاء الابن الثاني، بعد ذلك يجري، وأخذ يطرق الباب ويلهث، قائلًا: «الجنود في كل منزل وفي كل مكان. يجب أن نعطيهم كل ما يريدون، ولنصلِّ طالبين انتقال الحرب إلى منطقة أخرى في أقرب وقت!» فقال الابن الأكبر: «يجب أن نضع النساء سويًّا في أبعد بهو داخلي، ونحتفظ بالأبواب مقفلة بالمزاليج.» وهكذا فعلوا. فشرع الابن الأكبر وأبوه يراقبان الباب ليلًا ونهارًا. وكان الابن الثاني يأتي كلما استطاع. بَيْد أنه كان هناك ابن العم ذاك، وبسبب قرابته لم يستطع أحد إبعاده، فكان يروح ويجيء كيفما شاء، يحمل في يده سِكينَه لامعةً ومشهورة. وكان دائم النظر إلى هذه السيدة وتلك. بعد أن شاهد ابن العم كل شيء، دخل ليرى أمه، فدخل معه وانج لنج ليريه مكانها. كانت راقدة على سريرها نائمة، حتى إن ابنها لم يستطع إيقاظها إلا بصعوبة. وأمعن الشاب النظر فيما حوله ليرى ما صارت إليه أمه. وعندما رقدت ثانية ونامت، خرج يتوكأ على قذافته كعصًا في يده. لم يمقت وانج لنج وأسرته أحدًا من حشد الرجال الجالسين بدون عمل في الأبهاء الخارجية، كما كانوا يمقتون ابن عمهم هذا؛ إذ كان يدخل ويخرج حسبما أراد، ويُلقي نظراته على الإماء. فلاحظت ذلك كوكو، وقالت: «ليس أمامنا إلا أمر واحد؛ وهو أن نعطيه عبدة يتزوجها مدة بقائه هنا.» فأخبر وانج لنج كوكو بأن تذهب إلى ابن عمه وتسأله عن أية واحدة يريد. فعلت كوكو ما أمرها به، وعادت تقول إنه يريد الأمَة الصغيرة الزاهية اللون، التي تنام على سرير السيدة. كان اسم هذه العبدة «نورة الكمثرى»، وهي التي اشتراها وانج لنج في سنة القحط. ولما كانت نحيفة، فقد دللوها وكلفوها بأقل أعمال عند لوتس. عندما سمعت نورة الكمثرى هذا الأمر، بكت حتى خُيِّل إلى المرء أنها ستموت من كثرة البكاء. وجرت إلى وانج لنج، وجثت أمامه ووضعت رأسها عند قدميه، فقال للوتس: «لننظر ما إذا كان بمقدورنا أن نفعل شيئًا آخر، ونرسل أمَة أخرى إلى ابن عمي.» أخذت كوكو فتاة ممتلئة الجسم، قد بلغت العشرين من العمر، ليتزوجها ابن العم. ومع ذلك فما زالت الفتاة الصغيرة متعلقة بقدمَي وانج لنج. فرفعها برفق، فوقفت أمامه، فرأى وجهَها صغيرًا ناعمًا بيضيَّ الشكل رقيقًا وزاهي اللون، وفمَها دقيقًا أحمر. فرفعت عينيها ونظرت إليه نظرة كاملة، ثم مرَّت من أمامه وانصرفت.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/32/
الباب الثاني والثلاثون
ولدت العبدة التي تزوجت ابن عم وانج لنج طفلة، فأعطاها وانج لنج بعضًا من الفضة، وأمرها بأن تُعنَى بزوجة عمه بقية أيامها. وعندما ماتت زوجة العم، طلبت منه الفتاة أن يزوجها لأحد الفلاحين. فأرسل في طلب أحد رجاله، فحضر وتزوجها شاكرًا؛ لأنه كان فقيرًا جدًّا فلا يستطيع الزواج إلا من مثل هذه الفتاة. خُيِّل إلى وانج لنج أنه سيحظى بالهدوء وراحة البال حقيقة؛ إذ كان على أبواب الخامسة والستين من عمره. ولكنه لم يجد الهدوء؛ إذ كانت كل من زوجتَي ولديه تكره الأخرى، وتشعبت الكراهية منهما إلى الرجلين أيضًا، فكان بهواهما مليئَين بالغضب. ••• زيادة على هذا، كان لدى وانج لنج متاعبه السرية مع لوتس منذ أن حجز عبدتها ولم يعطها ابن عمه. فكانت تغار من الفتاة، وتخرجها من الحجرة عندما يدخل وانج لنج؛ فقد رأى أن الفتاة جميلة حقًّا وزاهية اللون كزهرة الكمثرى تمامًا، وبدأ يفكر فيها كثيرًا. كأنما لم يكن لدى وانج لنج ما يكفيه من المتاعب مع نساء بيته. فهذا ابنه الأصغر، الذي كان يعيش بين الجنود عندما كانوا هناك، يأتيه الآن، ويقول له: «عرفتُ ماذا أفعل؛ سأكون جنديًّا وأذهب إلى الحروب.» فصاح فيه وانج لنج قائلًا: «ما هذا الجنون؟! أمَا قُدِّر لي أن أحظى بهدوء البال مع أولادي؟» فقال الغلام فجأة وقد استقرت عيناه تحت حاجبيه: «ستنشب حرب لم نسمع بمثلها قط .. ستحدث ثورة وقتال لم يحدثا من قبل، وستتحرر أرضنا!» فقال وانج لنج مستغربًا: «لا أعرف معنى كل هذا الكلام؛ فإن أرضنا متحررة فعلًا، أؤجرها لمَن أشاء، وأنت تأكل منها وتكتسي. ولا أدري أية حرية تريدها زيادة على هذا.» فتمتم الولد بحسرة، قائلًا: «إنك عجوز جدًّا .. ولا تفهم شيئًا.» فكر وانج لنج، ثم قال في تؤدة: «حسنًا، وسنزوجك قريبًا يا بنيَّ.» فأجاب الغلام: «لستُ بالشاب العادي. إن لي آمالًا وأحلامًا. إنني أصبو إلى المجد. وفضلًا عن هذا، فربما لا يكون في الأبهاء فتاة جميلة غير الفتاة الصغيرة خادمة السيدة التي في الأبهاء الداخلية.» عرف وانج لنج أنه يتحدث عن نورة الكمثرى، فامتلأت نفسه غيرةً غريبة. ولما انصرف ابنه، تمتم يقول في نفسه: «لا راحة بال في أي مكان بمنزلي!»
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/33/
الباب الثالث والثلاثون
لم يكفِ وانج لنج عن التفكير فيما قاله ابنه الأصغر عن نورة الكمثرى، حتى ملأ التفكير ذهنه. لم يقل لأحد شيئًا، بل جلس وحده في بهوه. وهكذا مرَّ اليوم طويلًا موحشًا بالنسبة لوانج لنج. عندما أقبل الليل، كان لا يزال وحده هناك، ولم يوجد أحد قط في البيت كله يمكنه أن يذهب إليه ويتخذه صديقًا. وبينما هو جالس في الظلام تحت شجرة خيار القاسيا العطرة الأريج، مرَّ شخص بجانب الموضع الذي كان جالسًا فيه ونظر إليه نظرة خاطفة. كان ذلك الشخص هو نورة الكمثرى. فناداها وانج لنج قائلًا: «أي نورة الكمثرى! تعالَي عندي هنا.» ما إن سمعته الفتاة حتى ذهبت إليه، وجلست على الأرض وأمسكت بقدميه، فقال: «إنني رجل عجوز .. عجوز جدًّا …» قالت: «أحبك .. إنك عظيم الحنان.» امتلأ قلب وانج لنج بالحب العميق نحو تلك الفتاة. ••• لم يعرف أحد بسرعة ماذا فعل وانج لنج بعد أن تزوج نورة الكمثرى؛ لأنه لم يتحدث عنه مع أي فرد على الإطلاق. ولماذا يتكلم عنه، وهو سيد البيت؟ كانت كوكو هي أول مَن عرف ذلك الأمر، فقالت: «لا بد أن أخبر السيدة.» ولما كان وانج لنج يخشى غضب لوتس، فقد وعد بأن يعطي كوكو حفنة من الفضة، ويعطي لوتس أي شيء تريده. بقي بعد ذلك الأبناء الثلاثة .. جاءوا إليه واحدًا بعد آخر. فقَدِمَ إليه الابن الثاني أولًا. فلما جاء، بدأ يتكلم عن الأرض وعن المحصول. وكان يتطلع حواليه من كل جهة من الحجرات وهو يتكلم، ليتحقق من صحة ما سمعه. فصاح وانج لنج، يقول: «أحضري لي شايًا، يا طفلتي، وشايًا لابني!» خرجت نورة الكمثرى، ونظر إليها الابن الثاني، ولكنه لم يقل شيئًا وهما يتحدثان في هذا الموضوع وذاك. لقد علم الابن الثاني كل ما كان يريد أن يعرفه، فانصرف. بعد ذلك جاء الابن الأكبر، قبل أن ينتصف نهار ذلك اليوم. وكان وانج لنج يخاف كبرياءه، فلم ينادِ نورة الكمثرى في بادئ الأمر. ثم رأى ابنه الأكبر على حقيقته؛ رجلًا كبير الجسم، ولكنه مع ذلك يخاف زوجته، ابنة المدينة، ويخاف عدم نبل محتده أكثر منها ومن أي شيء آخر. وبعد ذلك لم يعد وانج لنج يكترث لابنه الأكبر، فنادى نورة الكمثرى ثانية، وقال: «تعالي، يا طفلتي، وصبي الشاي ثانية لابني الآخر!» عندئذٍ جلس الرجلان صامتين وهي تصب الشاي، وأخيرًا قال الابن: «لم أصدق أن المسألة هكذا.» فقال وانج لنج: «ولمَ لا؟ هذا منزلي، وهذه جاريتي.» لم ينطق الابن الأكبر بعد ذلك بحرف واحد، وخرج. ولما صار الوقت ليلًا، جلس وانج لنج في الحجرة الوسطى المطلة على البهو، في ضوء الشموع الحمراء الموقدة فوق المنضدة. جلس يدخن بينما جلست نورة الكمثرى إلى جانب المنضدة الآخر، وقد أطبقت يديها ساكنتَين في حجرها. وكانت تنظر إلى وانج لنج بين الفينة والفينة، وهو يحدجها بنظراته فخورًا بما عمل. وبغتة رأى ابنه الأصغر واقفًا أمامه، ولم يلاحظه أحد وهو يدخل … تألقت عينَا الصبي، وثبتهما على والده. وأخيرًا قال بصوت منخفض: «سأذهب الآن لأكون جنديًّا .. سأذهب وأصير جنديًّا.» دبَّ الرعب فجأة في قلب وانج لنج من ابنه هذا، الذي قلَّما كان يلاحظه منذ أن وُلِد وأثناء نموه. فأعاد الابن قوله ثانية وثالثة: «أنا ذاهب الآن .. أنا ذاهب الآن ..» استدار الابن فجأة ونظر إلى الفتاة مرة، ونظرت هي إليه، ثم غطَّت وجهها بيديها لكيلا تراه. بعد ذلك أدار الشاب نظره عنها، وخرج من الحجرة. فشمل السكون جميع الأرجاء. التفت وانج لنج إلى الفتاة أخيرًا، وقال في رقة وحسرة: «إنني عجوز جدًّا بالنسبة لك يا قلبي، وأعلم هذا تمامًا. إنني رجل عجوز، رجل عجوز.» بَيْد أن الفتاة خفضت يديها وأنزلتهما عن وجهها، وصاحت تقول: «إنني أحبك أكثر من أي رجل آخر!» عندما أصبح الصباح، كان ابن وانج لنج الأصغر قد خرج إلى حيث لا يعلم أحد.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/64831928/
الأرض الطيبة
بيرل باك
«وقف وانج لنج مستندًا إلى فأسه يَطفح حزنًا وغمًّا. سيمر موسمُ حصادٍ آخَر قبل أن يتمكَّن من شراء تلك الأرض، قطعة تجاوِر القطعة التي اشتراها من قبل. ثم هذا الفَم الجديد بالمنزل. وفي تلك الآوِنة طار فوق رأسه سِرب من الغربان يَنعق … تأوَّه وانج لنج بصوت عالٍ. إنه نذيرُ شؤم.»تُعَد رواية «الأرض الطيِّبة» من أهم الكتب التي تناوَلت حياةَ الريفيين الصينيين البُسطاء، وتدور أحداثها حول مَسيرة كفاح الفلَّاح الصيني «وانج لنج» وعلاقته بأرضه التي أخلَص لها، فحوَّلته من فلَّاح بسيط إلى أحد الأثرياء وملَّاك الأرض الكِبار؛ فقد استطاع هو وزوجته أن يجتهدَا في زراعة أرضه ورعاية محاصيلها، حتى تمكَّنَ من شراء أرض أسرة «هوانج» الثَّرية بعد إفلاسها. لكن فجأةً تشحُّ المياه، وتَذبل المحاصيل، وتحلُّ المجاعة، ويعاني هو وأسرته الجوع، لكنه يظلُّ متمسِّكًا بأرضه ويرفض بيعها، ويجتهد حتى يستعيد ثراءَه مرةً أخرى، إلا أن أحوالَ الأسرة تظلُّ في اضطراب وتبدُّل بين الثراء والفقر حتى يموت «وانج لنج» وزوجته، فيفكِّر الأبناء في بيع الأرض، فهل سيفعلون؟!
https://www.hindawi.org/books/64831928/34/
الباب الرابع والثلاثون
كبر وانج لنج وشاخ، ولكنه كان كلفًا بنورة الكمثرى، وكان وجودها في بهوه عاملًا على اطمئنانه وراحة باله. وكانت تعطف على بلهائه المسكينة إكرامًا لخاطره، فكان هذا العطف عاملًا آخر على اطمئنانه، وعهد إلى نورة الكمثرى بالعناية بالبلهاء بعد وفاته. أخذ وانج لنج ينطوي على نفسه، ويخلد إلى الاعتكاف وحده، إلا من بلهائه المسكينة ونورة الكمثرى. كان ينظر إلى نورة الكمثرى أحيانًا ويشق عليه أمرها، فيقول: «إنها لحياة هادئة بالنسبة لك، يا طفلتي.» ولكنها كانت تجيبه دائمًا في رقة واعتراف بالغ بالجميل، فتقول: «إنها لحياة هادئة وآمنة، وإنك لرحيم بي.» فلا يقول وانج لنج بعد ذلك شيئًا؛ لأنه كان وقتئذٍ يهوى راحة البال أكثر من أي شيء آخر، ولا يتمنى إلا أن يجلس في بهوه بقرب هاتين الاثنتين. ••• هكذا كان يجلس وانج لنج، وتقدمت به سنُّه يومًا بعد يوم، وسنة بعد أخرى. وكان يقول في نفسه إن حياته قد انتهت وهو قانع بها. كان يذهب في بعض الأحايين إلى الأبهاء الأخرى، وأحيانًا يرى لوتس التي كانت تُرحِّب به غاية الترحيب؛ إذ صارت عجوزًا هي أيضًا، وقانعة بالطعام والنبيذ اللذَين تحبهما، وبالفضة التي تنالها عندما تطلبها. بعد تلك السنين، كانت تجلس مع كوكو كصديقتَين، تتحدثان وتأكلان وتشربان وتنامان، وتصحوان من النوم لتتحدثَا ثانية قبل تناول الطعام والشراب. عندما كان وانج لنج يذهب إلى بهوَي ولديه، كانَا يُهرعان ليُقدِّما له الشاي، فيسألهما عدة مرات؛ لأنه كان ينسى بسرعة: «كم حفيدًا وحفيدة عندي الآن؟» وكان يتلقى الجواب على الفور: «أحد عشر حفيدًا وثماني حفيدات، لولديك معًا.» بعد ذلك يجلس فترة قصيرة وينظر إلى الأولاد المجتمعين حوله، ويسألهم: «هل تذهبون إلى المدرسة، وهل تدرسون الكتب الأربعة؟» فيضحك الأولاد من هذا الرجل العجوز، ويقولون: «كلا يا جدي، لا أحد يدرس الكتب الأربعة منذ عهد الثورة.» بعد ذلك لم يَعُد يذهب ليرى ولديه، ولكنه كان يسأل كوكو أحيانًا: «هل زوجتا ابنيَّ على وفاق بعد كل هذه السنين؟» فتبصق كوكو على الأرض، وتقول: «هاتان! إنهما كقطتين تواجه كل منهما الأخرى.» ومرة أخرى قال لكوكو: «أمَا سمع أحد عن ابني الأصغر، وإلى أين ذهب؟» فكانت ترد عليه؛ إذ لا يخفى عليها شيء في هذه الأبهاء، فتقول: «يقال إنه موظف حربي وذو مركز عظيم فيما يطلقون عليه في الجنوب، اسم الثورة.» كان وانج لنج يصحب أحيانًا خادمًا، ويأخذ سريره إلى أرضه، وينام ثانية في بيته القديم المصنوع من الطين. وذات يوم في أواخر الربيع، سار في حقوله مسافة قصيرة، وذهب إلى الرابية التي دَفن فيها موتاه. ونظر إلى القبور، وتذكَّر كلَّ فرد منهم. كان يتذكرهم بوضوح أكثر من أي فرد آخر، حاشا بلهاءه المسكينة ونورة الكمثرى، ثم فكَّر فجأة: «حسنًا، وسأكون أنا بعدهم.» نظر وانج لنج إلى قطعة الأرض التي سيرقد فيها، وتصور نفسه فيها، وفي أرضه أخيرًا، وإلى الأبد، وتمتم يقول: «لا بد أن أرى نعشي.» اشترى ابنه نعشًا مصنوعًا من الخشب المستعمل في دفن الموتى؛ لأن هذا الخشب متين متانة الحديد، فاطمأن وارتاح ضميره. بعد ذلك عقد نيته على الذهاب إلى المنزل القائم في أرضه، هو ونورة الكمثرى والبلهاء، وما يلزمهم من خدم. وأمرهم بنقل نعشه إلى هناك. وهكذا اتخذ مسكنه ثانية في أرضه. كان وانج لنج يجلس في شمس الخريف الحارة، في الموضع الذي كان يجلس فيه والده، ويسند ظهره إلى الحائط. ولم يعُد يفكر الآن في شيء سوى طعامه وشرابه وأرضه. كان يشكو أحيانًا من ابنَيه إذا لم يحضرَا إليه كل يوم، فكانت نورة الكمثرى تقول: «لديهما كثير من المشاغل؛ فقد عُيِّن ابنك الأكبر ضابطًا على أغنياء المدينة، وتزوج بسيدة أخرى. وافتتح ابنك الثاني سوقًا عظيمة للغلال خاصة به.» كان وانج لنج يصغي إليها، ولكنه كان ينسى كل شيء بمجرد أن ينظر إلى أرضه. ••• رأى وانج لنج نِيَّة ولديه في وضوح تام؛ فذات يوم حضرا إليه سويًّا، وسارَا حول المنزل، ثم إلى الأرض، وتبعهما وانج لنج في صمت، وسمع ابنه الثاني يقول: «سنبيع هذا الحقل، وهذا، وسنقسم الأموال بيننا بالتساوي …» ما إن سمع الرجل العجوز العبارة: «سنبيع الأرض» حتى صاح قائلًا: «الأبناء الأشرار العاطلون، يبيعون الأرض؟» فهدآه قائلين: «كلا .. كلا .. لن نبيع الأرض إطلاقًا …» قال: «إنها نهاية الأسرة .. عندما تبيع الأرض. مِن الأرض جئنا، وإليها نعود.» ثم انحنى وأخذ حفنة من تراب التربة، وأمسكها في يده، وتمتم يقول: «لو بعتم الأرض لكانت النهاية.» أمسك الولدان أباهما، كل واحد من جانب، وكان يشدد قبضته على تراب الأرض الدافئ المفكك. فطمأناه، وأخذا يكرران قولهما. يقول الابن الأكبر، ثم يعيد قوله الابن الثاني: «استرح في طمأنينة يا أبانا، استرح في طمأنينة. لن تُبَاع الأرض.» ولكنهما كانا ينظران، أحدهما إلى الآخر، من وراء ظهره، ويبتسمان.
بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م. بيرل باك: روائيةٌ وكاتبة أمريكية، حصلت على «جائزة نوبل» في عام ١٩٣٨م عن مُجمَل أعمالها، التي قالت عنها لجنة الجائزة إنها «تمهِّد الطريقَ للتعاطُف الإنساني الذي يتجاوز الحدودَ العِرقية السحيقة»، وكانت أولَ امرأة أمريكية تحصل على الجائزة. وُلدت في الولايات المتحدة عام ١٨٩٢م لأبٍ وأم مُبشِّرَين، سافَرا بها وهي رضيعة إلى الصين، حيث عاشت حتى بلغَت الأربعين من عمرها. درست الأدبَ الإنجليزي والكتابةَ في جامعة راندولف ماكون في فيرجينيا، وتزوَّجت من الاقتصادي الأمريكي «جون لوسنغ باك»، وعاشت معه حياةً قاسية في الصين، وعملت مبشِّرةً هناك لثلاث سنوات. طُلِّقت من «جون» وتزوَّجت من الناشر «ريتشارد وَلش» في اليوم نفسه، ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة نهائيًّا، وامتنعَت عن زيارة الصين بعد الثورة الشيوعية عام ١٩٤٩م. بدأت الاشتغال بالكتابة في عام ١٩٣٠م، وكتبت روايتها «ريح الشرق، ريح الغرب» ونشرتها في الولايات المتحدة، ثم عاصَرَت فيضاناتِ عامِ ١٩٣١م في الصين لتكتب عنها مجموعةً من القصص القصيرة المؤثِّرة حول المشرَّدين واللاجئين الذين خلَّفتهم، وجمعتها في كتاب بعنوان «الزوجة الأولى وقصص أخرى». ثم في عام ١٩٣٢م أصدرَت روايتها الشهيرة «الأرض الطيِّبة» التي حازَت بها شُهرةً عالمية، وحصلت بفضلها على «جائزة البوليتزر». كانت كاتبةً غزيرةَ الإنتاج، فأصدَرت أكثرَ من ثمانين رواية، وما يربو على مائة قصة قصيرة، وتميَّزت كِتاباتُها — بحسب وصفِ النقَّاد — بالنَّثر الجميل والسرد المشوِّق. عاشت «باك» في الولايات المتحدة حتى تُوفِّيت بسرطان الرئة في عام ١٩٧٣م.
https://www.hindawi.org/books/15704927/
قلب الليل
نجيب محفوظ
«نحن نتكلَّم عن القلب كنبعٍ للإيمان، ولكن تذكَّرْ أن الله لم يعبده إلا الإنسان العاقل، فالعقل في الواقع هو أساس الإيمان، ولكن عجزه النسبي عن إدراكه — مع حرصه عليه — جعله يُرجِع الإيمان به إلى عضو آخَر؛ هروبًا من التناقض.»رحلة طويلة ممتدة بعُمر الإنسان، يبحث خلالها عن الحرية، وعن الحقيقة، وعن الإله؛ يتمرَّد فيها على التابوهات التي كبَّلَته، لكن هذا التمرُّد يقوده إلى الضياع، لا يستقر على شاطئ، ولا يستكين قلبه، يظل يسبح في بحر الحياة والفِكر باحثًا عن ذاته، لكن هذا البحث يقوده إلى لا شيء! هذا هو «جعفر الراوي» الذي تتشابه محطات حياته مع كثيرين بحثوا أيضًا عن ذواتهم، وعن قيمة الحياة. لم يَرَ «جعفر» أباه، لكنَّه عشقَ الحب، وعشقَ تمرُّده على جدِّه «سيد الراوي»، وبدلًا من أن يعيش في كنَف جدِّه ليصبح أحد شيوخ الأزهر، خرج عن طاعته؛ فحُرِم من جنة «الراوي»، ونزل إلى معترك الحياة. شخصية متخبِّطة بدأت بالحب، ثم الموسيقى، ثم القانون، ثم الفلسفة، ثم القتل، ثم السجن، ثم حياة الصَّعلكة!
https://www.hindawi.org/books/15704927/1/
قلب الليل
قلت وأنا أتفحَّصُه باهتمام وموَّدة: إني أتذكَّرك جيدًا. انحنى قليلًا فوق مكتبي وأحدَّ بصره الغائم. وضح لي من القرب ضعف بصره، نظرته المتسولة، ومحاولته المرهقة لالتقاط المنظور، وقال بصوت خشن عالي النبرة يتجاهل قِصَر المسافة بين وجهَينا وصِغَر حجم الحجرة الغارقة في الهدوء: حقًّا؟! .. لم تعُد ذاكرتي أهلًا للثقة، ثم إن بصري ضعيف. – ولكن أيام خان جعفر لا يمكن أن تُنسى. – مرحبًا، إذن فأنت من أهل ذلك الحي! قدَّمتُ نفسي داعيًا إياه إلى الجلوس وأنا أقول: لم نكن من جيل واحد، ولكن ثمة أشياء لا تُنسى. فجلس وهو يقول: ولكني أعتقد أنني تغيَّرتُ تغيُّرًا كليًّا، وأن الزمن وضع على وجهي قناعًا قبيحًا من صنعه هو، لا من صنع والدي! وقدَّم نفسه بفخار دون حاجة إلى ذلك قائلًا: الراوي، جعفر الراوي، جعفر إبراهيم سيد الراوي. لم تخفَ عليَّ أسباب اعتزازه بالاسم، وأكَّد ذلك التناقض الحادَّ بين منظره التعيس وبين لهجته المتعالية. قال: إنك تعود بي إلى ذكريات عزيزة، أحياء خان جعفر والحسين المقدسة، أيام الهناء والتجربة. – وكانت ثمة وقائع مثيرة وحكايات غريبة. فضحك عاليًا. اهتز جسده الطويل النحيل حتى أشفقتُ على بدلته الرثة أن تتمزَّق، ورفع لي وجهه ذا الجلد المدبوغ، والشعر النابت وهو يهرش شعر رأسه الأبيض المتلبِّد، وقال: نحن أهل، ومن حقي أن أستبشر خيرًا لقضيتي العادلة! فسألته مؤجِّلًا الخصام: تشرب قهوة؟ فقال بلا أدنى تردُّد وبجرأة: لنبدأ بسندوتش فول ثم تجيء القهوة بعد ذلك. وراقبته وهو يأكل بنهَم جائع حتى ساورني الأسى، واستقرَّت رائحته في أنفي خليطًا من العرق والتبغ والتراب. ولما أكل وشرب اعتدل في جلسته وقال: أشكرك، لا أريد أن أضيع وقتك أكثر من ذلك، لا شك أنك اطَّلعتَ على طلبي بحكم وظيفتك، فما رأيك؟ فقلت بأسف: لا فائدة، نظام الوقف لا يسمح بشيء من ذلك. – ولكن الحق واضح مثل الشمس. – الوقف واضح أيضًا. – كان القانون ضمن ثقافتي، ولكني أعتقد أن كلَّ شيء يتغير. – إلا الوقف فإنه حتى اليوم لم يتغير. فهدر صوته الخشن صائحًا: لن يضيع حقي أبدًا، ولتعلم ذلك وزارة الأوقاف. ولما وجد مني هدوءًا باسمًا تراجع إلى الهدوء وقال: دعني أقابل المدير العام. فقلت بلطف: المسألة واضحة جدًّا، فوَقْف الراوي أكبر وَقْف خيري في الوزارة، ريعه موقوف على الحرمَين الشريفَين ومسجد الإمام الحسين، بالإضافة إلى جمعيات خيرية ومدارس وتكايا وأسبلة، والوقف الخيري لا يمكن أن يئول إلى شخص بحال من الأحوال. قاطعَني بحدة: ولكنني حفيد الراوي، وريثه الوحيد، وإني في مسيس الحاجة إلى مليم على حين أن الإمام الحسين غني بجنات النعيم. – ولكنه الوَقْف! – سأقيم دعوى. – لا فائدة من ذلك. – سأستشير محاميًا شرعيًّا، ولكن تلزمني استشارة مجانية لأن النقود كائنات مجهولة في عالمي. – لي أكثر من صديق بين المحامين الشرعيين، وممكن أن أدبِّر لقاءً بينك وبين أحدهم، ولكن لا تضيع وقتك جريًا وراء أمل لا يمكن أن يتحقَّق. – إنك تعاملني كطفل! – معاذ الله ولكنني أذكِّرك بحقيقة لا جدال فيها. – ولكنني حفيد الراوي، وإثبات ذلك يسير عليَّ. – المهم أن تركة الراوي أصبحت وقفًا خيريًّا. – وهل من العدل أن أُترَك أنا للتسوُّل؟ – المتفق عليه في الإدارة، وهو المتبع في مثل ظرفك، أن تُقدِّم طلبًا بالتماس صرف إعانة شهرية من الخيرات، بشرط أن تثبت نسبك. جعل يردِّد: إعانة شهرية! .. يا لهم من مجانين ظالمين! وواصل قائلًا: صاحب الوَقْف يلتمس إحسانًا! .. هذا جنون .. وما مقدار الإعانة؟ صمتُّ لحظات متردِّدًا ثم قلت: قد تصل إلى خمسة جنيهات .. وقد تزيد. قهقهَ ساخرًا كاشفًا عن أسنان مثرمة سوداء، ثم قال: صدِّقني، سأكافح، لقد حملت حياة لا يقدر على حملها الجن، فلتكن معركة، لن أكفَّ عن القتال حتى أنال حقي الكامل من تركة جدي اللعين! فلم أتمالك من الابتسام وقلت: ليرحمه الله جزاء ما قدَّم للخير. فضرب حافة مكتبي بقبضته المعروقة وقال: لا خير فيمَن ينسى حفيده الوحيد. – ولماذا نسيك؟ قبض على ذقنه دون أن يجيب، شعرتُ بأن الزوبعة ستنقشع عاجلًا أو آجلًا، وأن التماس الإعانة سيُكتب. ما أكثر المتسولين عندنا من حَفدة الباشوات والأمراء والملوك، ويقيني أنه لا يجحد أحد ذريته بلا سبب، فماذا فعلتَ يا جعفر؟! ومدَّ بصره الضعيف إلى لا شيء وراح يقول: وَقْف خيري، حرمان من الميراث، هكذا فعله دائمًا مزيج من الخير والشر، ها هو يمارس سلطته ميتًا كما مارسها حيًّا، وها أنا أكافح في موته كما كافحتُ في حياته .. وحتى الموت. توثَّقَت العلاقة بيني وبين جعفر الراوي. كان في وحدته على استعداد حادٍّ للالتصاق بمَن يشجِّعه ولو بابتسامة، وكان يشجِّعني على المغامرة شعوري بأنها عابرة سريعة الزوال، فشخصيته المضطربة لا توحي بالاستقرار والدوام، وإرضاؤها يسير هيِّن، ثمة أشياء ظاهرة وباطنة جذبتني إليه، هناك على سبيل المثال الذكريات القديمة، وافتتاني ببيت الراوي وحكاياته، وما تردَّد يومًا عن مغامرات جعفر وجنونه، وهناك أيضًا ميلي إليه رغم فظاعة منظره، ورثائي له في خاتمته التعيسة. وكان ذا قامة مديدة، ولولا البؤس — وربما الأمراض — لنضحَتْ شيخوخته بروعة وجلال. سألته بعد أن تناولنا عشاءنا من الكوارع في شارع محمد علي: كيف تعيش يا جعفر؟ – أتخبَّط في الشوارع نهارًا وحتى منتصف الليل. – وأين تسكن؟ – أبيت في الخرابة. – الخرابة؟! – هي ملكي بوضع اليد، وهي ما تبقَّت من بيت جدي القديم! وكنت قد انقطعت عن الحي العتيق منذ عهد بعيد، فلم أعرف أن البيت تحوَّل إلى خرابة. – أليس لك أهل؟ – لعلهم يملئون الأرض. ابتسمت. فقال جادًّا: لي أبناء قضاة وأبناء مجرمون. – أتعني ما تقول؟ – رغم ذلك فإني وحيد. – يا لها من طريقة في الحديث! – اسمع، رُدَّ إليَّ الوقف وأعدك بأن تراني محاطًا بالأبناء والأحفاد، وإلا فستجدني دائمًا وحيدًا طريدًا. – أراك تحب الألغاز. فضحك قائلًا: إني أحب اللقمة الحلوة والوَقْف، كما أحب لعن الواقفين. – أليس لك مورد رزق من أي نوع في شيخوختك؟ – لي أصدقاء قدماء، أعترض أحدهم فيمدُّ يده بالسلام، ويدسُّ في يدي ما يجود به، إنني أتمرَّغ في التراب، ولكنني هابط في الأصل من السماء. قلت بأسى: حياة غير لائقة، اكتب الالتماس فورًا. – هي الحياة الإنسانية الأصيلة، جرِّبها بشجاعة إن استطعت، اقتحم الأبواب بجرأة، لا تتمسكن فكلُّ ما تحتاجه هو حق لك، هذه الدنيا ملك للإنسان، لكل إنسان، عليك أن تتخلى عن عاداتك السخيفة، هذا كل ما هنالك. – ومع ذلك فإنك تتمنَّى أن تسترد تركة جدك؟ فقهقهَ قائلًا: لا تحاسبني على التناقض، إني حزمة من المتناقضات، ولا تنسَ أنني عجوز، ولا تنسَ أنني أخوض معركة مع جدي منذ قديم. – أود أن أعرف لماذا حرمك ميراثك؟ – هذه هي المعركة، لا تتعجل، لست بسيطًا كما يتراءى لك، كثيرون ينخدعون فيَّ، حتى الصِّبْية يجرون ورائي وأنا أتخبَّط في الشوارع، ماذا يظنون؟ إني أحب الكلام، ولمَّا كنت وحيدًا فإني أكلم نفسي، ماذا يظنون؟ لقد تقدَّم بي العمر ولمَّا تكفَّ الأسئلة عن مطاردتي، صدِّقني فإنني شخص غير عادي، حتى في الجبل كنت غير عادي، ولا في القصر ولا في الخرابة، ورغم التصعلُك والتسوُّل فإنني أقف أمام الحياة مرفوع الرأس متحدِّيًا، إذ إن الحياة لا تحترم إلا مَن يستهين بها! جعلت أتأمله باسمًا وهو يتحدى الوجود ببدلته المتهتكة وجلده المدبوغ، ثم تمتمت: عفارم عليك! – وليس الإنسان وحده مَن تعاملت معه فلي صِلات عريقة مع الجماد والجن والعفاريت، فضلًا عن عناصر الحضارة الجوهرية. ثم غير نغمته فجأة وسألني: هل وقع اختيارك على محامٍ ثقة لنذهب إليه؟ فقلت متوسلًا: انسَ بالله هذه القضية الوهمية يا جعفر. – ألستُ جعفر إبراهيم حفيد سيد الراوي؟ – بلي … ولكن لا توجد قضية على الإطلاق. فصاح: إذن سأشعل ثورة تقلب نظام الكون. – هذا أقرب إلى الإمكان من كَسْب القضية، اكتب الالتماس ولا تبدِّد الوقت. فقال ضاحكًا: إنكم في الوزارة تعيشون من فتات أوقافنا، ثم تمدون أيديكم إلينا بالإحسان. – اكتب الالتماس ولا تبدِّد الوقت. وغشانا الصمت دقائق ثم قال وكأنما يحادث نفسه: خمسة جنيهات! – يجب أن تستأجر ولو حجرة فوق سطح. – كلا. إن المبلغ يكفي للغذاء والسجاير والكساء، أما المأوى فكيف أستأجر مسكنًا وأنا أملك قصرًا؟! .. لن أهجر الخرابة. – اكتب الالتماس في أقرب فرصة وأرسِلْه إلى الوزارة. – لا داعي للعجلة، دعني أفكِّر، قد أكتب الالتماس وقد أستشير محاميًا، ولا يبعد أن أواصل الحياة بلا التماس ولا محام، لا داعي للعجلة. – على أي حال فقد عرفت سبيلك. فقال بحدة: لا سبيل للتفاهم بيننا، فأنت ممَّن يخافون الحياة، وأنا ممَّن يزدرونها، وجميع ما ترتعد لمجرَّد تصوُّره قد عانيتُه، جميع ما تسأل الله ألا يقع قد ذهبتُ إليه فوق قدمي. – عظيم جدًّا يا جعفر. – هل يعجبك كلامي؟ – جدًّا. – أتود أن تسمع المزيد منه؟ – ثِق من ذلك كلَّ الثقة. – لقد قدَّمتَ لي عشاء فاخرًا، وستقدِّم إليَّ مساعدات هامة في الأيام القادمة، فضلًا عن أننا أبناء حي واحد، بنا إلى مقهى ودود بالباب الأخضر! وسِرنا جنبًا إلى جنب نحو الحي العتيق، حتى اخترقنا القبو الأثري إلى الباب الأخضر، وجلسنا ندخِّن البوري ونشرب القهوة على حين جرى الحديث في سكون الليل الطويل. هجعت عطفة الباب الأخضر تحت ستار الليل، تعود في تلك الساعة أفواج من الشحاذين إلى أركانهم، ينطلق المجاذيب في جنباتها، يفوح البخور من زواياها، لا غريب يطرقها ليلًا إلا روَّاد مقهى ودود القلائل، وجميعهم من مدخِّني البوري، قال جعفر: دعني أحدثك عن عهد الأسطورة. – لعلك تقصد الطفولة. – إني أعني ما أقول فلا تقاطعني، لا توجد طفولة، ولكن يوجد حلم وأسطورة، عهد الحلم والأسطورة، وهو يفرض ذاته في عذوبة فائقة، وربما زائفة، بسبب من معاناة الحاضر الأليمة عادة، وهو دويٌّ ضخم في وجداني، وعندما أحلِّله لا أجده شيئًا، وهذا ما يؤكد طبيعته الأسطورية، حسبك أن تعرف أن قطبَيه الأساسيين — أبي وأمي — لا أكاد أعرف عنهما شيئًا ذا بال. – هل غادراك وأنت طفل؟ – لا أذكر أبي بتاتًا، لا صورة له في ذاكرتي، ولم يُخلِّف صورة فوتوغرافية لتُذكِّرني به، وقد فارق الدنيا قبل أن ينجب غيري، ولا يوجد سوى موقف واحد يشير إليه إشارة غامضة، موقفه يوم الاحتفال بالمحمل وراء نافذة تطل على مرجوش، وأنا ممتطٍ قفاه وأنظر من فوق منكبه إلى الجموع، وإلى رأس المحمل المذهَّب الذي يتبختر في مستوى النافذة، موقف يدل على العطف والحنان أليس كذلك؟ والمحمل مَعْلم من معالم الأسطورة، أما الجموع فحقيقة من نوع خاص، بعثت في نفسي ذات يوم في مكتبي بميدان باب الخلق فهتفت في وجه «سعد كبير» وقلت … قاطعته: نحن الآن في الأسطورة فلا تجاوز حدودها! – دعني أتكلم بحرية فإني أكره القيود! – ولكن الحكاية ستذروها رياح الخواطر فأضلُّ بين شذراتها! قهقهَ قائلًا: ألا تسمح لي بأن أعبث بالزمن كما عبث بي؟! حسن، لنعُد إلى الأسطورة، إلى الجن الماجن والجماد اللعوب والحقائق الطيفية والأحلام الحقيقية، لنعُد إلى الأسطورة، قلت لك إنني لا أتذكر أبي ولكنني لا أنسى يد أمي. – يد أمك؟ – صبرًا، لقد مات أبي، كيف ولِم؟ لا أدري، ولكنه مات في ريعان الشباب كما علمتُ فيما بعد، كنت في الخامسة وربما دون ذلك، حتى بيت مرجوش لا أتذكَّره، ثمة حجرة يصعد إليها من الدهليز بسلم ذي درجتَين، وفراش مرتفع يُرقى إليه بسلم خشبي يغري باللعب، ونارجيلة معزولة فوق صوان حتى لا تمتد لها يدي، وقطط مُدلَّلة، وجندرة، وكرار مظلم تسكنه أنواع شتى من الجن، وفأر أسود، ومَبْخرة، وقلة مغروسة في صينية يسبح الليمون في مائها، وكانون وزكائب فحم، ودجاج وديك مزهوٌّ فخور، مات أبي لا أدري كيف، ولا أدري ماذا كان يعمل، ولكن بوسعي أن أحدثك عن الموت نفسه فإني به خبير، إني من صُنَّاعه، حُق لي يومًا أن أقول إنني واهب الحياة، فعندما يشتعل الغضب وتلتهم ألسنته كلمات السماء تفتح أبواب غامضة تتسلَّل منها الشياطين، بل يجيء إبليس نفسه في موكبه الناري يحفُّ به القضاة ورجال الشرطة والسجانون، عند ذاك يغير جعفر الراوي اسمه ولقبه وجلده. قلت برجاء: ماذا عن موت أبيك؟ – سامحك الله، إنك خانق الإلهام، تودُّ أن تعرف كيف مات أبي كما لو كان أباك أنت، ماذا أعرف عن ذلك؟ أستيقظ في الظلام فأنتبه إلى أن أمي تحملني بين ذراعَيها وتغادر بيتنا إلى بيت جارتنا، لا شك أن النوم غلبني، ولما أستيقظ في الصباح أجدني في مكان غريب فأبكي، تجيء الجارة بطعام فأسأل عن أمي. – أمك في مشوار وستجيء في الحال .. تناول طعامك. وأتناول الطعام رغم ضيقي، وأسمع طوال الوقت صواتًا، ولكن الصوات والزغاريد أصوات مألوفة في حارتنا، وأرجع إلى بيتنا في نفس اليوم ليلًا أو في اليوم التالي، فألقى جوًّا غريبًا وكئيبًا يُفشي سرًّا أليمًا لا أعرف كُنهه، ولكن تصيبني منه وَحْشة وقلق مُبهَم، ها هي أمي، ما أشدَّ تغيُّرها، جلبابها أسود، وجهها مريض شاحب، نظرتها خابية وذابلة، فقدَ البيت مناخه النقي ومرحه الأصيل. – ما لك يا أمه؟ – كل شيء طيب، العب. – أين أبي؟ ودارت وجهها عني وهي تقول: سافرَ .. العبْ .. عندك السطح ولا تُكثر من الأسئلة. إنني أُعامَل معاملة جديدة لا تخلو من جفاء وقلة اكتراث، أمي تهرب مني، تهرب بعينَيها إن لم تهرب بجسمها كله، وهي تبكي من وراء ظهري، أبي لا يعود من السفر، ثم إنني لست جاهلًا كلَّ الجهل، بلغَتْني أشياء عن الله .. الشيطان .. الجن .. الجنة والنار .. حتى الموت بلغَتْني عنه أشياء مُنذِرة بغير السرور، متى يعود أبي من سفره، ومتى يرجع وجه أمي إلى صفائه المعهود، وكم دام انتظاري القلِق لأبي، ومتى أدركَني اليأس منه، وكيف أُنسيتُه وشُغلت عنه، وكيف واصلتُ حياتي بعد ذلك وكأن شيئا لم يكن؟ نسيت ذلك كله ولا سبيل إلى تذكُّره وتسجيله، أما يد أمي فلا يمكن أن تُنسى. – ذكرتَ مرارًا يد أمك؟ – تمسك بي أو أمسك بها ونسير معًا في الحواري والأسواق. – للتسوق أم للنزهة؟ كنت بدأت آنس إلى روحه المتقدة وراء الأطلال والخرائب، وبدا هو سعيدًا مُمتنًّا للعشاء والبوري وظفره بمستمِع يتابع ما يقول باهتمام، قال: أحيانًا أحاول أن أتذكَّر صورة أمي فلا أعثر على شيء ذي بال، ما طولها على سبيل المثال؟ كنت بطبيعة الحال أقصر منها جدًّا ودائمًا أنظر إلى فوق حين أحدِّثها ولكن ذلك لا يدل على شيء ولا يحدِّد طولها، ولا فكرة لي عن وزنها كذلك، ولا لون عينَيها، ولا لونها نفسه، ثمة صورة عامة غير مُحدَّدة الخطوط، وإشارات ونبرات غير مسموعة، وعواطف جياشة، وابتسامات وضحكات وزجرات، أشبه بأطياف الأحلام، غير أنني أستطيع أن أقرِّر بأنها كانت جميلة، لولا جمالها لما حدثَتِ المأساة، كما أنني أذكر قول جارتنا لمناسبة منسية «ولد يا جعفر يا ابن الست الجميلة»، ولكنها لم تبقَ في الحياة كثيرًا حتى تُمكِّنني من حفظها في قلبي من الدمار، يدها فقط التي بقيت معي، أحسُّ حتى الساعة مسَّها وضغطها وشدَّها وانسيابها، وهي تمضي بي من مكان إلى مكان، خلال طرقات مسقوفة ومكشوفة، وتيارات من النساء والرجال والحمير والعربات، أمام الدكاكين وفي الأضرحة والتكايا، وعند مجالس المجاذيب وقراء الغيب، وباعة الحلوى واللعب، تقودني في جلبابي وعلى رأسي طاقية مزركشة تتدلي من مقدمها تعويذة كالحلية، وكانت أحاديثها متنوعة ذات صِيَغ شعرية تخاطب بها الكائنات جميعًا، كُلًّا بِلُغته الخاصة به، فهي تخاطب الله في سمائه، وتخاطب الأنبياء والملائكة، كما تخاطب الأولياء في أضرحتهم، حتى الجن والطير والجماد والموتى، وأخيرًا ذلك الحديث المتقطع بالتنهُّدات الذي تُناجي به الحظ الأسود، كانت الدنيا حية واعية تتلقى الكلام وتردُّه، وتشارك بإرادتها الخفية في حياتنا اليومية، لا فرق في ذلك بين ملاك وباب ضريح، بين الهدهد وبوابات القاهرة القديمة، حتى الجن كانت تلين لكلماتها السحرية، وبفضل ذلك نجوتُ من مهالك لا حصر لها. ولما وجدته جادًّا لم أتمالك من الضحك، فسألني دون أن يخرج من جديته: علامَ تضحك؟ فقلت بلهجة المعتذِر: إنك تروى حلمًا ولكنك الآن تعرف تفسيره وتأويله. فقال بكبرياء: لا تتخيَّلْ أنك تعرف من الدنيا نصف ما عرفتُ. – هكذا؟ – إني بَحْر ولا فخر! – ولكنك لا تفرِّق بين الحقيقة والخرافة. – لا توجد خرافات وحقائق، ولكن توجد أنواع من الحقائق تختلف باختلاف أطوار العمر وبنوعية الجهاز الذي ندركها به، فالأساطير حقائق مثل حقائق الطبيعة والرياضة والتاريخ، ولكلٍّ جهازه الروحي، وإليك مثالًا حيًّا، فقد أخذَتْني أمي ذات يوم لزيارة قبر أبي بين قبور الفقراء المكشوفة في العراء، ثم راحت تُناجيه قائلة: «زوجتك وابنك يُحيِّيانك ويسألان الله لك الرحمة والغفران يا أحب الناس وأكرمهم، إني أشكو اليك وحدتي وهمي فادعُ لنا ربك يا حبيب» وسرعان ما ألصقتُ أذني بجدار القبر، فسمعتُ تنهُّدةً وكلامًا أخبرتُ به أمي فقالت لي: «مبارك أنت حتى يوم الدين». فسألته بإشفاق: ماذا قال لك أبوك؟ – إنك غير مؤهَّل لتصديقي فلن أجيبك! ساورني شعور بأنه يغطي ماء الدعابة بسطح من الجدية الخشنة أو أنه يريد إحاطة أسطورته بجو أسطوري يتوافق معها ليُرضي حنين قلبه، فتمتمتُ مذعنًا: فوق كلِّ ذي علم عليم. – كانت دنيانا دنيا حية، تنبض بالرغبات والعواطف والأحلام، فيها الجد والمزاح، فيها الفرح والأسى، ينتظمهم جميعًا — الإنس والجن والحيوان والجماد — لحن التفاهُم والتعامل. – ولكنك تدرك ذلك كله؟ – كلَّ الإدراك، بشغف وإصرار. ألم يطوقك الخوف؟ – أحيانًا ولكني سرعان ما ملكتُ أسلحة الدفاع والهجوم وصرت سيد الدنيا، كنت ذات مساء ألاعب الليمون في صينية القلل على حافة النافذة، فما أدري إلا ورأس كائن يتطلَّع إليَّ من موضع في مستوى النافذة من الطريق، عيناه تضيئان في الظلام وقدماه منغرستان في الأرض، فتراجعتُ مضطربًا حتى استلقيت على ظهري فوق أرض الحجرة ومزَّقَت صرختي سكون الليل، وقد علمتُ فيما بعد أن لقاء الإنسي بالجني لا يجوز أن يتم على ذلك النحو، وقالت لي أمي إنه آنَ لي أن أحفظ الصمدية، أما عفاريت بيتنا — وهم يقيمون في الكرار — فكانوا يميلون بطبعهم للدعابة، ولا يصدر عنهم أذى حقيقي، يخلطون المش بالعسل، أو يُخفون السمن لاستعمالهم الشخصي، أو يُطفئون المصباح بيد الماشي ليلًا، وأسوأ مزاحهم تحويل الأحلام إلى كوابيس. – هل تستطيع أن تعطيني فكرة عن صورة العفريت؟ كلا، إنك غير مؤهل للتصديق، ثم إن الجن تختفي من حياة الفرد مع اختفاء عهد الأسطورة وسرعان ما ينساها تمامًا، بل إنه يُنكرها، رغم أنه يلقاها كلَّ يوم في صور جديدة من البشر، وفي الحال الأخيرة يصدر عنها شر حقيقي وأذى كبير، ولكنك تُصرُّ على أن الجن خرافة ليس إلا، ومن ناحية أخرى فقد شاء لي القدر أن أرى النور المبارك في ليلة القدر وأنا جالس على حِجر أمي، أتطلَّع إلى السماء! .. فتحت نافذة وأطلَّ منها نور باهر طمس أضواء النجوم. فقلت ضاحكًا: يُقال إنه لا يرى نور ليلة القدر إلا مَن كُتبت له السعادة من البشر. فقهقهَ طويلًا ثم قال: يبدو أنك غلبتني هذه المرة، ولكن إلى حينٍ فقط، حقًّا إني أبلَغُ مثال للبؤس، ولكن العبرة بالخواتيم، والخاتمة ما زالت مجهولة، وقد أجدُ الجواب في الجنة، ولي مع الجنة تاريخ طويل، كانت أمي تحدِّثني عنها حديث الخبير، فأحببتها حبًّا لا مزيد عليه، خلبتني وسلبت لبي، فصارت حلمي الباهر، جنة السحر حيث يُرى الله بالعين ويُسمع بالأذن ويُخاطب باللسان، في حديقة الأنهار والألحان والشباب الدائم، ولكن لنرجع إلى حديث أمي، كيف كانت تعيش بعد وفاة أبي؟ خطر لي هذا السؤال فيما بعد ولم يُسعِفني الجواب، كنا نغادر بيتنا كلَّ يوم، نزور أضرحةً ودكاكين، ونبتاع ما يلزمنا، ثم نرجع إلى بيتنا لتنهمك هي في الواجبات المنزلية، وآوي أنا إلى جنتي الأرضية بين القطط والدجاج، وقد تزورنا جارتنا، وكان لا أهل لي ولا أهل لها، أكانت تملك مالًا؟ .. حتى اليوم لم أعرف وجه الحقيقة في ذلك، وقد ظلَّت ترتدي السواد عقب وفاة أبي، وكانت تبكي أحيانًا إذا خلَتْ إلى نفسها، وأكثر من مرة ضبطتُها وهي تبكي، وأدركتُ سر العلاقة بين البكاء وبين اختفاء أبي، وسألتها: ألستِ تقولين إن أبي يقيم بين يدي الله؟ فأجابت بالإيجاب فسألتها: إذن فلماذا تبكين؟ فقالت: إنه لخطأ يا جعفر، ولكن الدموع تفيض رغم إرادة الإنسان. لم يقعدني ذلك عن مغامراتي اليومية فأمضي في البهجة، أجمع البيض، أطارد الفئران، أتحدى العفاريت، ولبثَتِ المغامرة السعيدة عامًا عقب وفاة أبي، وأخذَتْ تجذبني حكايات الرباب في المقهى تحت النافذة، تابعتُها باهتمام على قَدْر استيعابي لها، وشاهدت معارك تنشب بسبب التعصُّب لأبطالها، ومن نفس النافذة شاهدت معارك الفتوات في الزفاف، فأُعجِبتُ بالفتوات كإعجابي بالجن، وحلمت طويلًا بأن أكون فتوَّة إن أعجزني أن أكون عفريتًا. سألته: ألم يتحقق لك حلم من أحلام الطفولة؟ – لا تسخر مني وانتظر، أريد أن أحدثك عن الحب في عهد الأسطورة. – ولكن عهد الأسطورة ليس بعهد الحب. – ولكن الحب بدأ عندي من سن السادسة، كنت أحب الغوص وسط البنات في ليالي رمضان، والعلقة الوحيدة الجادة التي أصابتني من يد أمي كانت بسبب الحب، إذ أغويت بنتًا تماثلني في السن فأخذتها إلى سحَّارة وأنزلتُ الغطاء علينا، ولكن لم يدُم لي الحب طويلًا، فسرعان ما بُوغِتُّ برفع الغطاء، فرفعت وجهي فزِعًا فرأيتُ وجه أمي يحملق فيَّ، وضفيرتها تسقط فوق رأسي، وعلى فكرة كانت ضفيرتها طويلة جدًّا وكنت ألعب بها ما وجدتُ إلى ذلك سبيلًا، فأحلها وأعقدها وأدوِّرها كحبل، لا شك أن أمي كانت جميلة، ولولا جمالها ما نشأت المأساة أصلًا. – أعطني فكرة عن حب الطفولة. وهو يضحك: إنه يبدو عبثًا ضائعًا ولكني أذكر أنه صخب بانفعالات حادة قاربَتِ السكر. – ذاك شذوذ! لست تربويًّا على أي حال، وبوسعي أن أؤكد لك أن الجنس لم يكن عنصرًا طاغيًا في حياتي، ولكنه لعب دورًا حاسمًا في حينه، أما في الطفولة فقد أسهم في نطاقه الضيق في تأليف الأسطورة، غير أن الأسطورة تعرَّضت لضربة قاضية لم تكن في الحسبان، فقد استيقظتُ ذات صباح وحدي دون أن توقظني أمي كالعادة، أدركتُ أنني استيقظت وحدي عندما وجدتها مستغرقة في النوم، راقدة على وجهها، وسرَّني جدَّا أن أوقظها ولو مرة في حياتي الصغيرة، قربت فمي من أذنها وناديتها، مرةً ومرةً وهي لا تستجيب، حرَّكتُها بلطف مكرِّرًا النداء، ارتفع صوتي واشتدَّ تحريكي لها ولا مجيب، وأصررت على إيقاظها، وتماديت في إصراري حتى ملأ صوتي الحجرة بلا أدنى نتيجة، ويئستُ تمامًا فانزلقتُ من الفراش وغادرت الحجرة، وتناولت من فوق الكنصول رمانة، وصعدت إلى السطح وأنا أقشِّرها وأقضم حباتها الكهرمانية، ثم أتفل حثالتها للدجاج، ورأيت جارتنا فجَرَّنا الحديث إلى الحال التي تركتُ عليها أمي، وجعلَتْ تحقِّق معي ثم أمرَتْني أن أفتح لها الباب، وهرولَتِ الجارة إلى أمي، وانكبَّت فوقها وأنا واقف عند الباب، وما لبثَتْ أن ضربت صدرها بيدها وهتفت «يا خبر أسود يا أم جعفر»، ثم أقبلَتْ نحوي فرفعَتْني إلى صدرها ومضت بي إلى مسكنها، وانقبض قلبي لذلك التصرُّف، وتذكَّرتُ به تصرُّفًا مشابهًا يوم اختفى أبي إلى الأبد، ومضيت أصرخ «أمي … أريد أمي …» وقضيت في بيت جارتنا يومَين كانا أسوأ أيام عهد الأسطورة، وفي مساء اليوم الثاني طيَّبَت الجارة خاطري وقالت لي: لا تحزن يا جعفر فربُّك رحمن رحيم. فقلت يائسًا: أنا فاهم، أمي ذهبت إلى أبي. فدمعت عينا المرأة وتمتمت: ربنا معك، هو الأب والأم، هو كل شيء. وقال زوجها وكان يدلِّك أسنانه بمسواك: يجب عمل شيء، ولو باللجوء للحكومة. فقالت المرأة: حتى الحَجَر يلين! ومضت أيام وأنا أعيش ضائعًا ذاهلًا حتى أقبلَتْ عليَّ الجارة تقول متهلِّلة: يا حبيبي، أبشِر، أمرَ ربنا بالرحمة، ستذهب الى جدك! لم أفهم شيئا، كنت أسمع الكلمة لأول مرة. سألته بدهشة: لأول مرة؟ – لأول مرة. — لم يجرِ له ذِكر في حياة أمك؟ – مطلقًا، علمًا بأنه كان في نفس الحي يقيم. – ولِم أخْفَت أمك عنك أمره؟ – ربما لحنقها عليه، على أي حال أفهَمَتْني جارتنا أنه جدي، أنه أبو أبي، ولم يكن البيت بعيدًا عن مرجوش، ولا كان غريبًا عليَّ، فطالما سرت تحت سوره العالي ونحن — أنا وأمي — في طريقنا إلى الحسين، وأذكر أنني سألتها مرة عن هوية ذلك السور العالي الذي يقوم أمام قبو بيت القاضي كالجبل، فقالت لي بعجلة: «إنه السجن حيث يقضى المجرمون أعمارهم في الظلام»، ولم يكن معزولًا عما حوله، ففي الأحياء الشعبية تتلاصق بيوت الأغنياء والفقراء، ولم يكن يظهر من البيت ذاته شيء ولا من حديقته، فقط سوره المطِلُّ على بيت المال، وهو سور حجري يمتد طولًا وارتفاعًا كأنه حقيقة سور سجن أو جدار قلعة، أما بابه فيفتح على عطفة جانبية، ولما اجتزنا بوابته تمَّ أول لقاء بيني وبين حديقته، فلم يكن لي عهد قبل ذلك بالحدائق، ولا رأيتُ من عالم النبات إلا شجرة بَلْخ بميدان بيت القاضي، وشجيرة صبَّار بالقرافة، اقتحم أذني تغريد البلابل وزقزقة العصافير، ورأيت الأغصان محملة متواثبة بأفرادها الصغيرة الملونة، كما رأيت أسرابًا من الحمام تحوم حول برج قائم وراء تكعيبة العنب، يُطلُّ على جدول ماء يشق الحديقة بالعرض، يقف فيه بستاني مغروسًا حتى ثلث ساقه وبيده مقطف، أما أنفي فقد فغمته أخلاط من روائح الجنة حتى أثملَتْه، وقد ذهلت حتى أوشكت أن أصرخ من الأعماق، وسِرت في ممشى تتجاذبني على الصفين ألوانُ الأزهار والورود في طريقي إلى السلاملك، وشدَّ جاري على يدي وهمس في أذني مشجعًا: هذا هو بيتك الجديد يا جعفر! كنت في حيرة شاملة، وكان جدي يجلس على أريكة ذات مسند عالٍ مُطعَّم بالأرابيسك تتوسط السلاملك، والظاهر أن جاري أنهى حديثًا قصيرًا مع جدي ثم قبَّل يده وذهب، فوجدت نفسي وحيدًا تحت بصره، لمَّا أفِقْ من سحر العصافير والأزهار والجدول، وفي أعماق قلبي أسى لم تهُن نواجذه، إنه يجلس متربِّعًا في جلباب أبيض فضفاض، متلفِّعًا بشملة مزركشة مغطى الرأس بطاقية بيضاء، طويل الوجه نحيله، قمحي اللون ذو نظرة هادئة مستقرة، جبهته عالية بصورة بارزة، وأنفه طويل شامخ، أما لحيته فبيضاء مُسدَلة على الرقبة، وتلامس أعلى الصدر، تبادَلْنا نظرة فلم أقرأ في عينَيه ما يخيف، وتبدَّى لي على قمة عمر طويل، وآية في النبل والوقار، ومالكًا جديرًا بالحديقة الفاتنة. وقفت غير بعيد وغير قريب في جلبابي المقلم، وطاقيتي المزركشة، حاملًا التعويذة، أنتعل مركوبًا ملونًا، وأحمل تحت إبطي لفافة تحوي ثيابي القليلة. أطال إليَّ النظر حتى اجتاحتني رغبة في الفرار. وكأنما قرأ ما في صدري فابتسم، وأشار إليَّ بالاقتراب. قلت بحرارة: أريد أن أرجع إلى أمي. مَدَّ لي يده فاقتربت مادًّا يدي، تصافحنا، تملَّكتني رعشة بكاء، ولكنني تمالكت نفسي فلم أبكِ، وسرى إلى جسدي من ملمسه دفء، قال برقة: أهلًا بك. أجلسَني إلى جانبه وقال: أنت في بيتك، هل أعجبتك الحديقة؟ فأحنيت رأسي بالإيجاب. – تكلَّم، إني أحب الكلمات. فغمغمتُ: نعم. – أتعرف مَن أكون؟ – جدي. – ما معنى ذلك؟ – أبو أبي. – تُصدِّق ذلك؟ – نعم. – هل تتذكر أباك؟ – كان يحملني لأرى المحمل ولكني أتذكر أمي … وأجهشتُ في البكاء فربت على ظهري ثم سأل: ماذا تذكر من أبيك أيضًا؟ – زرتُ قبره. فنحَّى وجهه عني قليلًا ثم سأل: ما اسمك؟ – جعفر. – ثم ماذا؟ – جعفر إبراهيم. – ثم ماذا؟ – جعفر إبراهيم! – جعفر إبراهيم سيد الراوي، أعِدْ. – جعفر إبراهيم سيد الراوي. – مَن الذي خلقك؟ – الله. – ومَن نبيك؟ – سيدنا محمد. – هل عرفت الصلاة؟ – كلا. – ماذا تحفظ من القرآن؟ – قل هو الله أحد. – ألم تحفظ الفاتحة؟ – كلا. – ولِم بدأتَ بقُل هو الله أحد؟ – لفائدتها في إخضاع الجن. – هل تتعامل مع الجن؟ – نعم، كثيرون منهم يقيمون في كرار بيتنا، وهم يملئون مرجوش لیلًا! – هل رأيتهم بعينَيك؟ – كثيرًا. – إنك تكذب على جدك. – رأيتهم وتعاملتُ معهم. أجرى أصبعه على الخطوط المكونة لوجهي برقة وعناية، فأنِستُ إليه، وتخلَّى أكثر الارتباك عني. قال: لا تكذب يا جعفر فإني لا أحب الكذب. – ولكني أقول الصدق. – انظر بعينَيك ولا تتخيل ما لا وجود له. وسكتَ فسألتُه بدوري: يا جدي. فنظر إليَّ مستطلعًا فواصلت: لمَ لمْ تزُرْنا؟ مَدَّ بصره إلى الحديقة ثم قال: جدك متقدِّم في السن كما ترى. – لمَ لمْ تدْعُنا إلى بيتك؟ بعد صمت آخَر أجاب: رفض أبوك ذلك! فسألته: هل سأقيم هنا دائمًا؟ – إنه بيتك يا جعفر. – وألعب في الحديقة؟ – وستلعب في الحديقة، ولكن لن تكون حياتك لعبًا خالصًا، إنك في السادسة ويجب أن تبدأ الحياة كذلك. وبدأت الحياة الجديدة. ••• وتوقَّفَ ملتفتًا نحوي وهو يقول بحِدَّة: ذلك هو جدي، الراوي، صاحب الوَقْف، فأي نظام يحرمني حقي الثابت؟ فقلت برجاء: لنرجع إلى حياتك الجديدة! – لستُ تافهًا كما تتصوَّر، إني صاحب حق، وذو ثقافة، بوسعي أن أحدثك عن عيوب الديمقراطية، وعيوب الشيوعية. – وستحدِّثني عن ذلك في سياق حكايتك، ولكن ارجع الآن إلى حياتك الجديدة. فرفع منكبَيه في أسف وقال: يا للخسارة، لقد ضعف بصري، وإني مهدَّد بفقده نهائيًّا ذات يوم، ولم يبقَ من العمر إلا أيام، وما زالت البشرية تعني العذاب والقلق، ما زلنا نموت مخلِّفين وراءنا أملًا قد تحقَّق ونُسي، وسبع خيبات تؤرِّقنا حتى الاحتضار، وأنت تريدني أن أروي قصتي بالطريقة التي تعجبك أنت، لا التي أرتاح إليها أنا. فقلت برجاء: النظام هو ما يلزمنا لنلم بقصتك في الأيام القلائل الباقية من الحياة. – كانت الحياة الجديدة حلمًا بديعًا، نسيت الماضي كله، نسي القلب الخئون أمي الراحلة التي لم أزُر لها قبرًا، حلمتُ بها ذات ليلة ولما استيقظت شعرت بثقل قلبي وبكيت، ولكن القلوب الصغيرة تتعزى بسرعة، لا تتأتى إلا لكبار الحكماء، شُغلت تمامًا بجدول الماء وأشجار الحناء والنخيل والليمون والأعناب والضفادع والعصافير والبلابل والحمام واليمام، وازَّيَّن خيالي بالفراش النحاسي المذهَّب، والسجاجيد الفارسية والصوان الفخم، والمرآة الكبيرة المصقولة والستائر الملونة والدواوين الوثيرة والشرفة المسقوفة باللبلاب والحمَّام الكبير بأرضيته المعصراني وخزان مياهه العجيب، كنت أكتشف في كل ركن شيئًا جديدًا وثمينًا وأثري باسم جديد ومنظر فتَّان، على أن ذلك كله بهرني دون أن يستحوذ على قلبي حقيقةً، فلم يُراعَ في إعداد القصر مطالب الأطفال، لذلك لم يؤثر فيَّ شيء مثلما أثَّر حمار البستاني، وجدت فيه الصديق والملهاة، وقضيت على ظهره الوقت الطويل، قاطعًا الممشى ذهابًا وإيابًا وأنا أتفادى من الغصون الدانية، وأُعجِبتُ كثيرًا بالطلمبة والبئر والفسقية وتمثال الطاووس الذي يتوسَّطها فوق عامود مرمري، وتولَّت أمري امرأة كهلة حنون، نحاسية اللون تُدعى بهجة، سرعان ما وثقت بيننا العواطف الطيبة المتبادلة، ومن بهجة عرفتُ الكثير عن مأساة مولدي في مناسبات شتى وعلى مدى غير قصير، وتبيَّن لي أن جدي كان يعيش في البيت وحده محاطًا بحاشية من الوصيفات والخدم، جدتي ماتت منذ زمن قصير، كما مات أبي بعيدًا عن البيت، وكان الابن الوحيد الذي تبقَّى له على قيد الحياة حتى بلغ سن الرجولة، عقب سبعة إخوة ماتوا بين الطفولة والصبا، فكان الأمل الباقي بعد عذاب، وكان حلم المستقبل الذي تمخَّض — في نظر جدي، ولا شك — عن خيبة أملٍ أنكَى من الموت، وإلا ما هان عليه أن يعاقبه حتى القطيعة المُطلَقة، والغربة العدائية، والنبذ من البيت والأسرة والتراث، وذلك ما يجعل من جدي لغزًا في نظري، شخصيته توحي بالسماحة والرحمة والعذرية، ولكنه ينقلب بالغضب شيطانًا أو حجرًا صلدًا، عرفته وهو شِبه معتكف في بيته، ولكنه كان في الأصل أزهريًّا، ورث عن أبيه وأجداده الثراء الواسع والأزهر، على ذلك لم يعمل في وظيفة عامة دينية أو تعليمية، عمله كان إدارة أملاكه، فراغه كان للدراسة والاطلاع على علوم الدين والفلسفة والاقتصاد والسياسية والأدب، بَهْوه كان ملتقى لرجال الدين والتصوف والسياسة والأدب. ••• سألته: ألم يكن له نشاط في الكتابة؟ – كلا، ولكنه كان يدوِّن مذكرات أو يوميات بصفة مستمرة .. ولا أدري عنها شيئًا. – وهل كان كذلك أبوه وجده؟ – كانوا دائمًا من هيئة كبار العلماء، هو وحده الذي آثَر استثمار أملاكه والحياة الحرة. – هل لك فكرة عن الرجل العصامي في سلسلة أجدادك، أعني الرجل العادي الفقير الذي منه نشأ الثراء؟ – إنها أسرة عريقة في الثراء والدين، ولعلَّي أنا أول صعلوك فيها! فضحكتُ وقهقهَ ثم واصل: نشأ أبي نشأة دينية، التزامًا بخط الأسرة حتى فاز بالعالمية، وأراد أبي أن يسافر إلى أوروبا للسياحة والدراسة، فتردَّد جدي مليًّا، ثم وهبه الموافقة فسافر إلى فرنسا، تعلَّم الفرنسية، واستمع إلى محاضرات في الفلسفة واللاهوت في دراسة حرة، ثم رجع إلى وطنه دون أن يحصل على شهادة أو يحرِّر رسالة، وأعلن عن رغبته في مساعدة جدي في إدارة الأملاك فسمح له بذلك، وكان يرسل بمقالات إلى الصحف بين الحين والحين، ثم أحبَّ أمي في الوقت الذي كان جدي يدبِّر تزويجه من كريمة شيخ الأزهر، وتزوَّج منها دون مبالاة، ماذا كان عيبها؟ الفقر؟ الحق أنني لم أعرف لها أهلًا على الإطلاق، لا خال ولا خالة، لا قريب من قريب أو بعيد، على أي حال انفجر غضب الراوي، وهوى بقبضته على رأس الابن الوحيد فقطعه ونبذه، وخُيِّل إلى كثيرين أن سلسلة الراوي بمضمونها التاريخي قد انعدمت وانتهت، ولا شك أن أبي لم تكن تهمُّه سلسلة الراوي في شيء، كان يريد أن يحقِّق ذاته بطريقة أخرى، ولا أخفي عنك أنني أعجبت به، وأسفتُ لموته الذي لم أحزن له في حينه لصغر سني. ••• سألته: أليس لديك فكرة عن المقالات التي كان ينشرها في الصحف؟ – بحثتُ عنها في أرشيف بعض الصحف، وهي تدور حول التوفيق بين الدين من ناحية، والعلم والفلسفة من ناحية أخرى، واعتبرتها دون تحيُّز عصريةً ومتقدِّمة، وبصفة عامة يمكن أن يُصنَّف أبي في الليبراليين، وعلمت أن أبي عمل مترجمًا في صحيفة الفجر عقب استقلاله عن أبيه، وأذكر أنني ناقشتُ جدي في موقف أبي عندما بلغت سنَّ المناقشة، سألته ذات مرة ونحن في جلسة مؤانسة: كيف هان عليك يا جدي أن تطرد أبي لزواجه من امرأة من عامة الشعب؟ .. إنك رجل مؤمن صافي الروح نبيل الخلق، فكيف هان ذلك عليك؟ وكان واضحًا أنه لم يرحِّب بالسؤال، ولكنه أجابني قائلًا: إنك مخطئ في تصوُّرك، إني أرى الإنسان نوعين: إنسان إلهي وإنسان دنيوي، الإنسان الإلهي هو مَن يعايش الله في كل حين ولو كان قاطع طريق، والدنيوي هو مَن يعايش الدنيا ولو كان من رجال الدين. – وهل كان أبي سيئًا؟ – كان دنيويًّا فحسب. – كانت أمي طيبة ونبيلة. فتمتم: فليرحمها الله! ثم واصل بعد هنيهة: لم أخطئ ولم أندم، ولكنى حزنت طويلًا. كنت متأكدًا من حزنه، لولا حزنه الدفين ما لان قلبه لي، وقال لي: لقد فتحتُ لك قلبي وبيتي، سيكون كل شيء لك، ولكن عليك أن تكون إنسانًا إلهيًّا، إني لا أدعوك للزهد، فإن عملي الأول هو إدارة الأملاك. ورتَّب لي منذ أول يوم مدرِّسًا يعلِّمني مبادئ الدين واللغة والحساب، لُقِّنت مبادئ دين جديد غير الدين الذي تلقَّيْته على يد أمي، دين المغامرة والأسطورة والمعجزة والحلم والشبح، أما هذا فدين يبدأ بالتعلُّم والجدية، حفظ سور وشرحها، إلمام بالقواعد، ممارسة للصلاة والصيام، دين نظري وعملي، ومدرِّس جادٌّ يرفع التقارير لجدي أسبوعًا بعد أسبوع، ولم يُخفِ المدرس رضاه عني فقال لي: أنت ولد مبارك، وليتم الله نعمته عليك. كنت قوي الحافظة، حسن الفهم، محبًّا للعمل، ومارست الصلاة بسرور مؤتمًّا بجدي، كما مارست الصيام، ولم يُنسِني ذلك ديني الأول، فتراكمَ الجديد فوق القديم، ولم يسكت صوت أمي المتردِّد في أعماقي، وقد قال لي المدرس في أثناء مناقشة: الضريح مبنى من المباني، والوليُّ جثمان. فقلت بإصرار: بل لكل شيء حياة لا تفنى أبدًا. فابتسم الرجل وقال: فلنترك خلافاتنا للزمن، وللمزيد من العلم. ويبدو أنني أحرزت تقدُّمًا يستحق الارتياح، وكان جدي يدعوني إلى شهود مَجالِسه العامرة بصفوة رجال الدين والدنيا، كان يدعوني لشهودها وقتًا قصيرًا يناسب استعدادي، وكثيرًا ما سمعتُ القوم وهم ينوِّهون بأجدادي في مواقفهم المأثورة، حتى امتلأتُ فخرًا بأولئك الرجال الممتازين الذين عُرفوا بالعلم والجود ومكارم الأخلاق، بقدرِ ما تنغَّص صفوي لغياب ذِكر والدي، والظلام الذي يغشي أصل أمي، وكلما تقدَّم بي العمر عاودتُ التفكير في أمي بمرارة أشد وأعمق، واقتنعت بأن مأساتها — ومأساة والدي بالتبعية — حادثة غير معقولة، ومناقضة للدين الذي أتعلَّمُه وأمارسه، وأن جدي يتصرف أحيانًا تصرُّف مَن لا دين له! لقد ذهبَتْ أمي، ولكنها أورثَتْني دينها ومأساتها، وسوف يرسبان في جانب من نفسي طويلًا، ربما أطول ممَّا تصوَّرتُ. وأغدق جدي عليَّ حبه وحنانه وهو يتابع نجاحي وتقدُّمي، قال لي: يا جعفر، أراك جديرًا بتجديد شباب شجرتنا المباركة! وقال لي: سِر متأبِّطًا ذراع الحكمة، وافعل ما تشاء. وقال لي أيضًا: مبارك مَن يتحلى بوحي الله، وأمام المجتهد وسيلة ليتبوَّأ العرش! وفي نشوة من التفاؤل قال: خطواتك في النجاح مباركة، وسوف تدخل الأزهر الشريف عما قريب، ألا يسرك ذلك؟ فأجبته بإخلاص: يسرني جدًّا يا جدي، وأودُّ بعد ذلك أن أسافر إلى أوروبا. فتجلى الاهتمام في عينَيه وسألني: ما الذي جعلك تودُّ ذلك؟ – أسوة بما فعل أبي! – فمسح على لحيته البيضاء وتمتم: عليك أن تتحلى بوحي الله، ثم افعل ما تشاء. فتردَّدتُ قليلًا ثم سألته: أكانت خطيئة أبي الوحيدة أنه تزوَّج من أمي؟ فتجهَّم وجهه وقال بحِدَّة: ما مضى قد مضى. وأغمضَ عينَيه كأنما ليُفرغ شحنة احتداده، ثم قال: لقد شرحتُ لك ولكنك لا تريد أن تفهم! قلت لك إن وجهه تجهَّم، ولكن ما رأيتُه كان أفظع من ذلك، لم تكن لحظة عابرة، ولكنه تصوَّر في صورة جديدة ومخيفة، تحجَّرَت نظرته وشُدَّت عضلاته، وتغيَّر لونه، فخُيِّل إليَّ أني أرى شخصًا لم أرَهُ من قبل، عدوٌّ منطلِق من بركان، حاملًا غضب الأرض، قل إنه الصاعقة أو الموت نفسه، ولكنها كانت لحظة عابرة خاطفة، ثم عاد جدي إلى مجلسه، عدا ذلك لم أجِده قاسيًا ولا مخيفًا ولا ثقيلًا، كانت الإنسانية عبيره والحب إشارته حتى عزَّ عليَّ أن أصدق أنه فعل بأبي ما فعل، وكثيرًا ما قلتُ لنفسي لعله كان يُضمر الغفران، ويتحيَّن الفرص ليُصدر عفوه، لولا أن عاجلت المنية أبي في عز شبابه، وحتى بعد لحظة تجهُّمه المخيفة حدستُ في قوله «ما مضى قد مضى» ألمًا أثارته الذكرى وندمًا يُصرُّ على مطاردته، ولعل عذابه ناشئ عن مثاليته المفرطة، فهو يطالب الإنسان بالسموِّ والتطهُّر والكمال، وباعتناق رؤياه في الوجود، ويحتقر الضعف وما يراه انحلالًا وتدهورًا في التكامل البشري، هكذا اقتنعتُ بأن الطريق إلى حنانه واضح ومستقيم، ولكنه حافل بالجهد والصبر والعرق، والقوة والتقدُّم والسموِّ، وهو ما عناه بقوله «الإنسان الإلهي». وفي المواسم كان يجتمع الزوار للاستماع والطرب، فتغرِّد الحديقة بالأغاني الصوفية، تردِّدها الحناجر الذهبية الذائعة الصيت، وكان جدي من عشاق الطرب، وله فيه ذوق يستوي في مكانه من نفسه الغنية بشتى الاهتمامات الدينية والدنيوية، وكنت أتابع الأناشيد ساهرًا حتى الفجر وأنتظر تلك السهرات بلهفة المحبين، وقد ضبطني مرة وأنا أغني: كنت مفترشًا حصيرة تحت شجرة ليمون، وأردِّد الغناء مقلِّدًا الشيخ، فانتبهتُ إلى ظِله وهو يُغطِّيني وأمسكت عن الغناء، في غاية من الارتباك والحياء، ووقفت أمامه في أدب، ابتسم، تمتم: ما هذا؟ .. صوتك لا بأس به يا جعفر! فأحنيت رأسي في رضى وبركة، سألني: ماذا تُغنِّي أيضًا في خلوتك؟ فأجبت: أغنيات من العهد القديم. – مثل ماذا؟ فتردَّدت قليلًا ثم قلت: عصفوري يا أمة عصفوري. فواصل ابتسامه وقال: ها أنت تحفظ هنا أناشيد مباركة. ومضى يتفقَّد الحديقة، وقد بدا جليلًا مضيئًا. وفي أوقات الفراغ كنت أجلس إلى بهجة لتحكي لي الحكايات، أو أغنِّي، أو ألعب في الحديقة مع الحمار، وأحيانًا ألاعب أبناء البستاني والطاهي وسواق الحنطور، وطيلة الوقت أتعطَّش للانطلاق في الحارة، وهل يمكن أن أنسى رحلاتي المتواصلة في حواري القاهرة تشدني يد أمي؟ وصارحتُ جدي برغبتي في الخروج، فقال لي: اركب معي الحنطور في نزهة المساء. – أريد أن ألعب في الحارة. – أليست الحديقة أجمل من الحارة؟ فقلت بحرارة: أريد أن ألعب مع الأولاد في الحارة. فهزَّ رأسه مستسلمًا وقال: بشرط ألا تغيب عن عين بهجة، وألا يفوتك ميعاد صلاة. هكذا خرجت إلى الطريق الذي منه جئتُ. وكانت بهجة تجلس على كرسي أمام الباب لترعاني من بعيد، وسرعان ما عرفتُ أولاد الجيران، وفي مقدمتهم ابن لسواق سوارس يُدعى محمد شكرون، كان حسن الصورة رغم ضخامة أنفه وعرجه، دعاني أول يوم إلى مسابقة في الجري، وجرى بأسلوب مضحك وبعناد، وبين آونة وأخرى كان يثب وثبة شيطانية يقطع بها مسافة خيالية، متحدِّيًا ضعفه الطبيعي، وكان لطيفًا وصريحًا، فبعد أن تقرَّر له الفوز قال لي: إنك حفيد الشيخ الكبير، وعلى مَن كان غنيًّا مثلك أن يشتري لنا الملبن الأحمر والسوبيا. ولما أكل وشرب انبسط وراح يغني: وإذا به يملك صوتًا عذبًا يهز النفس هزًّا، وأدركتُ لتوي أنني لا أستطيع منافسته، ولكنني رغم ذلك غنَّيت ما حفظته من غنائه، فتكرَّر على مسمعي ما سبق أن قاله جدي لي، قال: صوتك لا بأس به! فقلت له: صوتك جميل حقًّا يا شكرون. فقال في مباهاة: ستسمعني يومًا مطربًا من المطربين. سرعان ما اتَّحدت علاقتنا في صداقة وطيدة، تميَّزت وسط العلاقات السطحية الكثيرة عاطفة راسخة وعميقة، وكان الغناء محور اجتماعنا، وبخاصة في ليالي رمضان الساهرة، ومن ناحيتي دعوتُه لشهود سهرات الطرب الديني في بيتنا، فسُرَّ لذلك سرورًا لا مزيد عليه، وأبهجه أن يسمع أقطاب المنشدين وأن يدرس عن قربٍ مهاراتهم الغنائية وخواصهم الصوتية وقدراتهم في التطريب والتأثير، وتجلَّى ذلك في انفعاله العنيف الذي بلغ حدَّ العشق والولَه، ودفعه ذلك لاقتحام وقار المجلس بجرأة فاقت كلَّ تصوُّر، فما كاد المنشد يختم وصلة حتى قام محمد شكرون من مجلسه إلى جانبي وراح ينشد بصوته الحسن: فجذب الأسماع بحلاوة صوته وحداثة سنه، وعمَّت شهرته الحاضرين من منشدين ومدعوِّين، حتى جدي لم يُخفِ إعجابه به، وكان بين الحاضرين شيخٌ يُدعى طاهر البندقي، صوفي وملحِّن وأستاذ في الموسيقى الشرقية، ومن أقرب المقرَّبين إلى جدي، فأُعجِب بشكرون جدًّا، وجاذبه الحديث طويلًا، حتى عرفَ أصله وفصله وآماله، هذا هو سحر الغناء، والجن يطربون لنا، ونحن نطرب لهم، وقد زعم بعض أهل مرجوش أنهم كانوا يسمعون غناء مطرب من الجن قبيل الفجر. فقاطعتُه برجاء: دعنا من الجن، نحن الآن في بيت الراوي، ثم إنني مؤمن تمامًا بأنك لا تصدق شيئًا من ذلك. – الذكريات تنهمر كالمطر. – هي دائمًا كالمطر، ومهمتك أن تصنع جدولًا صافيًا. فتنهَّدَ ثم واصل: زار الشيخ طاهر البندقي جدي عقب أسبوع من مغامرة شكرون، وأطلعَه على خاطرة خطرَت له، وهي أن يعلم محمد شكرون الموسيقى الشرقية، ويدرِّبه على الغناء، فوافق جدي على ذلك بسرور، وتعهَّد بأداء نفقات التعليم والتدريب، وثبت عندي من ذلك حب جدي العميق للغناء والموسيقى، وأنها عاطفة مستقلة بذاتها عنده، وليست تابعة لتدينه فحسب، وقد قلت له عندما أخبرني بما قرَّره بخصوص صدیقي: إنك تحب الغناء يا جدي! فابتسم متسائلًا: لِم لا؟ إنه صديق الروح الحميم. – وهل سمعت يا جدي كبار المطربين؟ – نعم، في بيوت الأصدقاء في المناسبات السعيدة. ولم يكن إنفاقه على شكرون إلا مثلًا من إنفاقه على المحتاجين من أهل حيِّنا. ••• فقلت تلقائيًّا: وتوَّج ذلك بوقف أملاكه كلها للخير! فصاح جعفر: أما ذلك فلا، لا خير في خير يقوم على شر! – أعتذر عن المقاطعة. – اعتذر عن رأيك وهو الأهم. – أعتذر. نفخ غيظه وواصل حديثه قائلًا: أصبح محمد شكرون تلميذًا للشيخ طاهر البندقي، وأتاه الحظ عَبْر صداقتنا الوطيدة، وكنت أنا البواب الذي فتح له باب النجاح، وقد سُررت لذلك سرورًا بالغتُ فيه أمام جدي، ولكنه نظر إليَّ بارتياب وسألني: هل يمازج سرورك شيء من الغيرة؟ فنفيت ذلك بشدة، ولكنه قال باستياء: الغيرة رذيلة، لك عليها في مثل سنك عذر، أما الكذب فلا عذر لك فيه، لا تكذب يا جعفر، كن دائمًا صادقًا، لا تُغضب جدك فهو يحب النقاء، وقد وهبك الله عقلًا راجحًا كما وهب صديقك صوتًا عذبًا، فانعم بما وهبك ولا تنغِّص صفوك بما تفتقد، ولو كنت ذا استعداد للغناء ما ساءني أن تصير مطربًا، فالمطرب أيضًا يستطيع أن يكون إنسانًا إلهيًّا، من رحمة الله أن كلَّ شخص يسعه أن يكون إلهيًّا حتى الزبال، أما أنت فعليك أن تستعد لدخول الأزهر. فقلت بصدق: أعز آمالي يا جدي أن أُوفَّق في حياتي الدينية. لا أنكر أنني شعرتُ بشيء من الغيرة، وأزعجني أن يقتحمني جدي بقدرة خارقة على قراءة ما في الصدور، ولكنني على أيِّ حال شعرت بشيء من الغيرة، ها هو شكرون يتفوَّق بموهبة لا حيلة للاجتهاد فيها، وها أنا أعاني تناقض العواطف في رحاب القلب المعذَّب، على أن أحلامي حامت حول الدين والحياة الدينية، وشعرتُ شعورًا مُبهَما بأن ثمة رسالة ما تنتظرني في هذا المجال المقدَّس، فتطلعت إليها أشواقي من الأعماق، ولم تغِب عن خاطري التركة الكبيرة التي سأرثها ذات يوم، عزبة المرج والعمارات والأموال السائلة، ولم يكن العمل يهمني ولكني حلمت بالرسالة، والجلوس فوق أريكة جدي أستقبل الرجال، رجال الدين والدنيا، نناقش جميع الأمور الهامة، ونطرب مع المطربين في أوقات الفراغ. ••• قلت مقاطعًا: إني أتذكر المغنِّي الأعرج كما أتذكرك في الجبة والقفطان. فسألني مباهيًا: ألم ترَ بنفسك أن الله خلقَني في صورة حسنة؟ – كنت حسن الصورة حقًّا. – كنت حسن الصورة، حسن السريرة، شريف الآمال، وقد دخلت الأزهر في طور المراهقة مُدعمًا بقوة إنسانية منوَّرة، كأنني أمير سماوي، لأجد نفسي في بيئة شعبية أصيلة أنهكها الفقر والتقشُّف والأسى، ولا تتيسر لها الإنسانية الحقة، إلا في الجد الصارم والاجتهاد المتواصل وتحصيل العلم بلا هوادة، عرفت العديد من الأقران، وصادقت كثيرين، وقد ذكروني بشعبيتهم وخرافاتهم بمرجوش، وبيد أمي، وبأصلي المأساوي الأصيل، فأحبَبْتهم رغم كل شيء، وكنت أدعوهم للعشاء مساء كلِّ جمعة في بيتي، وطيلة شهر رمضان كانت نخبة منهم تفطر معي وتتسحَّر معي، وفيما بين الإفطار والسحور كنا نمضي الوقت في المذاكرة والمناقشة، وبذلك اكتسبت مكانة فريدة لا تتأتَّى عادة لطالب، ولاحظ جدي سروري بذلك، فقال لي: إياك والخيلاء، املأ قلبك بحب هؤلاء الفقراء الأشراف، واذكر دائمًا نعمة الله عليك. ولكن تفوُّقي كان يزكيني دائمًا عنده، فشيخ التوحيد أثنى عليَّ عند جدي، كذلك أستاذ الفقه والنحو، والمنطق، حتى سُرَّ جدي وقال لي: ستكون شيخًا ممتازًا. ثم مستدركًا: الأهم من ذلك أنك تمضي في طريق النقاء بخُطى ثابتة. وقلت لجدي: أريد أن أهب حياتي للدين، لا أدري كيف، ولكنني غير متحمِّس لأي عمل كالوعظ أو التدريس أو غيرهما. – لا أهمية لذلك البتة، ما يهمني هو إرادتك النقية، هو إيمانك وحبك للدين، بعد ذلك ستجد أن كلَّ كتاب هو كتاب دين، وكلَّ مكان معبد، سواء في مصر كان أم في أوروبا، وسييسِّر الله لك سبيل الحكمة لتكون ممَّن يجودون بالحكمة، بالكلمة أو بالفعل، وهذه هي الحياة الإلهية. استثار ذلك حماسي لأعلى الدرجات، وكنت أتقدَّم مُترَع القلب بالإيمان والقداسة، أستضيء بمثل جدي في الحياة، بحياته الجميلة الغنية التي عاشرتها في قَصره، بأصدقائه ومناقشاته وطربه. ولكن كانت تمرُّ بي ساعات سوداوية، تتسلَّل إليَّ من مكامنها، فتغيِّر مذاق الحياة، وتغشاني سحب الذكريات السود، فأفكرُ بحياة النفي التي عاناها أبي، ومأساة أمي ذات التاريخ الغامض المجهول، وعند ذاك يثور غضبي على جدي، وأحاسبه في الخيال حسابًا عسيرًا، ويتبدَّى لي شيطانًا في ثوب ملاك، وأقول ما هو إلا رجل من الأعيان يستمتع بكل طيب في الحياة ويزعم أنه قديس إلهي. ولم أجد مَن أُفضي به إليه بهواجسي إلا محمد شكرون. كان بدأ يشق طريقه بصعوبة في ميدان مزدحِم بأصحاب العروش من كبار المطربين والمطربات. وكان يحب جدي ويحفظ له جميله، ويقول عنه: إنه النبيل ابن النبلاء، لا نظير له في خلق الله. فأسأله: وما رأيك في موقفه من أبوَيَّ؟ فيقول لي: علاقة الأب بابنه علاقة غامضة بالرغم من وضوحها السطحي، أحيانًا يتدفَّق منها الحنان، وأحيانًا تتجمَّد بالقسوة، عَرَجي هذا الذي تراه ما هو إلا عاهة صنعها أبي في ساعة غضب، أما أخلاق الرجل الحقيقية فتُقيَّم على ضوء علاقته بالآخَرين. وطبعًا لم أقتنع بتلك النظرية وقلت: إن أخلاق الرجل — أيَّ رجل — وحدة لا تتجزأ. على أن تلك الساعات السوداوية كانت تجيء كأحوال عابرة، لا آراء ثابتة، وسرعان ما يعود إليَّ صفاء النفس والرؤية الواضحة، أما أزمة تلك الفترة الحقيقية فكانت أزمة جنس، أزمة المراهق المتشوِّف إلى القداسة ونزاعه الدائم مع غرائزه القوية، وعاودَتْني كثيرًا ذكريات السحَّارة والبنت التي باتت الآن مجهولة تمامًا، وتعجَّبتُ كثيرًا كيف أن جدي يناقشني في كل خاطرة تخطر على أنه يتجاهل المعركة الحقيقية الناشبة في صدري، وكان في بيتنا ثلاث نساء — بالإضافة إلى بهجة العجوز — في الحلقة الخامسة من أعمارهن، لسن جميلات ولا مغريات ولكنهن لا يخلين من رمق يزكِّيهن عند مراهق مكبوت، وكنت أرى النساء في الشارع في ثيابهن المحتشمة غايةً في الإثارة، وكان النضال بين ضميري وغريزتي لا يكفُّ ولا يهدأ، غير أنني تغلَّبتُ على الإغراء بقوة تستحق الإعجاب، وكأن تشوُّفي لله فاق كلَّ شيء وهزم الشيطان في معاقله جميعًا. أجل، لاحظَتْ بهجة نظراتي نحو زميلاتها، فجزعت وتوسَّلت بمنزلة الأمومة التي احتلَّتْها من نفسي لتصارحني بمخاوفها: لا تُعرِّض نفسك للهوان، جدك يعتبر جميع ما في البيت امتدادًا لشخصه، والمساس بأيٍّ منها مساسًا بذاته المصونة، وقد نعمتَ حتى الآن برضاه، ووجدتَه بلا شك نعمة تستحق الحمد عليها، ولكنَّ لجدك جانبًا آخَر يسكنه الغضب، فتجنَّبْه وأنت خير مَن يفهم ذلك. فتمتمت بذهول: أبي! – أجل، وأنت مؤمن، وصلواتك عبادة حقيقية، لِم لا تفكِّر في الزواج، وجدك كفيل بتزويجك من فتاة تحقِّق أحلامك وزيادة؟! فقلت بدهشة: لم أفكِّر بذلك، وأعتقد أن الوقت المناسب لم يحِنْ بعدُ، كما أنني أكره فكرة الزواج كبديل للخوف من الخطيئة! – أنا لا أفهم أفكارك، ولكن إذا أردتَ مساعدة فإني رهن إشارتك. وقد علم محمد شكرون بذلك الحديث، وكان على علم بأزمتي ونضالي، وكان يعجب لها، وطالما قال لي: تعالَ معي إلى بيوت العوالم، فثمة فرص فريدة، وما عليك إلا أن تغيِّر ملابسك الدينية في بيتي. ضحكتُ طويلًا، ورفضتُ أيَّ فرصة ممنوحة بكبرياء واعتزاز بالنفس، وأسعدني أن أتألم في ذلك الطريق، وأن أنتصر على ألمي، وكنت أقول لنفسي: طوبى لي، إني أنتصر كلَّ يوم مرة على الأقل على الشيطان، وإني جدير حقًّا بمستقبلي الطاهر. وفكرتُ بأمور جديدة لأول مرة، فسألتُ بهجة: متى ماتت جدتي؟ فترحَّمَت عليها قائلة: منذ حوالي عشرين عامًا. – أكان لمأساة أبي دخل في ذلك؟ – الأعمار بيد الله وحده. – ولمَ لمْ يتزوَّج جدي بعدها؟ – هذا شأنه. وتساءلتُ: تُرى هل كان لجدي حياته الجنسية الخاصة؟ وارتعدتُ لغرابة الفكرة، وقلت لنفسي إنه سيقرأ خواطري في عيني كالعادة، وسرعان ما تقع مأساة جديدة، وقلت لنفسي أيضًا إن جانبًا من نفسي يتعقَّب جدي بالانتقام، وإن حبي له ليس خالصًا تمامًا، وإنني لا أريد أن أنسى تمامًا مأساة والدي، وآيُ ذلك أنني ما زلت ألحُّ على بهجة حتى اعترفَتْ لي بأن أمي كانت ابنة دلَّالة تتردَّد على بيتنا، وسألتها إن كان عُرف عنها أو عنهما شيء من سوء، فأجابت بالنفي وقالت لي صراحة: جدك لا يعترف بالناس المجهولين! فقلت بامتعاض واحتجاج: ولكن الناس جميعًا إلا ما ندر مجهولون. إلا أنه يحلم بعالم من البشر الإلهيين على حدِّ تعبيره، أفلم يفطن إلى قسوة حلمه؟ وقررتُ أن أصوم رجب وشعبان ورمضان كلَّ عام، ومضتِ الحياة في جدٍّ واجتهاد وطهارة، وكان جدي يتابعني باهتمام وارتياح مغمغِمًا: ما شاء الله العظيم! كنت أسير بصحبة محمد شكرون في أطراف الدرَّاسة عندما أقبلَت علينا قافلة من الأغنام تقودها امرأتان: تنحَّيْنا جانبًا لنوسع للقافلة، رأيت المرأتَين، وهما أم وابنة غالبًا، صورة واحدة متكرِّرة، ترتدي جلبابًا أسود، متمنطقة بزنَّار، حافية القدمَين، متلفِّعة بشال أسود، وبرقع فضفاض تُطل من فوق حافته العينان، وباليد مغزل. ••• وانقطع عن الكلام مليًّا حتى سألته: ماذا حدث يا جعفر؟ فالتفتَ نحوي قائلًا: إني أتساءل أيضًا عما حدث. – ماذا تعني؟ – بكل إيجاز، لقد نظرتُ إلى عينَي الفتاة فاقتحمني الجنون الكامل، ولكن لندعْ مناقشة ذلك إلى حينه، سأصف لك الآن ما وقع، لقد شعرتُ بأنني متُّ، وبأن شخصًا جديدًا يُبعث في مكاني، وسوف تصدِّق أنه شخص جديد بكل معنى الكلمة، لا علاقة له بالشخص الميت، شخص جديد ثمِل، يفيض قلبه بالأشواق والقدرة الخارقة على التحدي والالتحام. وسمعتُ محمد شكرون يقول لي: متى تواصل السير؟ وراقبَني بحدة، ثم تمتم باسمًا: إنها راعية غنم! فقلت وأنا ألهث: بل إنه القدر. – فيمَ تفكر؟ – لا بد من معرفة مقرها. – حسن، ولكن لا تنسَ العمامة فوق رأسك! قوة أخرى غير إرادتي تسلَّمَت زمامي، سِرنا وراء القافلة، اخترقنا النحَّاسين فالحسينية، ثم رأيت العباسية فالوايلية، لم أشعر بتعب، لم أرحم عرج صاحبي، سِرت بقوة الجنون والسكر، وتفجَّرَت في قلبي ينابيع المغامرة بلا حدود، وتتابعَتْ أقوال محمد شكرون وشكاياته: سامحك الله! – ماذا حلَّ بك؟ – البنت منتبهة إلى متابعتك لها. – إنهم غجر وأفظع من الشياطين. – قل لي بالله ماذا تريد على وجه الدقة؟ أخيرًا رأينا القافلة وهي تدخل معسكر عشش الترجمان، وشعاع الشمس يتقلَّص من ساحتها الرهيبة لينطوي في شفق المغيب، مودِّعًا أكواخها المصفَّحة، وأناسها المتوحشين، وطابع البداوة والنفي الذي يفصل بينها وبين المدينة، وتوقَّف محمد شكرون مُمسِكًا بذراعي وهو يقول: لا خطوة بعد ذلك، فليس ثمة مكان لغريب. وتأوَّه مستطردًا: لقد دميت أقدامنا. فقلت من عالمي الوجداني البعيد: لقد ودَّعَتني بنظرة حية قبل اختفائها. – مبارك عليك. ثم توسَّلَ إليَّ قائلًا: لنستقلَّ سوارس في عودتنا. ولم يفارقني شكرون ليلتها، فسهر معي حتى منتصف الليل في البيت، وجعل يتأملني طويلًا وكأنه لا يصدق، وسألني: ماذا دهاك؟ فقلت له بأسي: ما تراه بعينَيك. – لا أفهم. – ليكن، إني مجنون بالبنت. – أيحدث ذلك بهذه السرعة؟ – لقد حدث. – ولكنها راعية، ومن بيئة شريرة. – إنه القضاء لا مفرَّ. – ومضى يفكِّر قائلًا: كيف يمكن إغراؤها؟ .. هل لهنَّ استعداد لذلك؟ .. كيف نعمل مع تجنُّب الفضائح؟ .. وما العمل إذا تحدانا المستحيل؟ فقلت بإصرار لا نهائي: بأي حال من الأحوال أريدها. وجعلت أمضي الأصيلَ عند مشارف الدرَّاسة، مع صديقي أو مع نفسي، جالسًا على حجر، من حولي ترعى الشاة والماعز والجدي، على حجري كتاب المنطق مفتوحًا، وعيناي تسترقان النظر إليها وهي جالسة لِصق أمها وهما تغزلان، وكان المكان شبه خالٍ، لا يمُرُّ به إلا المتشردون وهم راجعون إلى المقطم، وعندما تميل الشمس نحو المغيب تمضي القافلة في رحلتها اليومية مُخلِّفة في قلبي كآبة وفراغًا لا يملؤه شيء، فأذهب إلى الجامع لأصلي المغرب ثم أحضر درس المنطق. وقررتُ أن أخفي كوبًا في جيب قفطاني. وعندما جمعنا الخلاء اقتربتُ من الأم وقدمت الكوب طالبًا حليبًا، فوثبت مروانة — كما سمعت أمها تناديها — إلى ماعز، وراحت تحلب لي اللبن، ثم ردَّت إليَّ الكوب مُغطى بالحباب، فتناولتُه وأنا أقول لها: عاشت يداكِ يا مروانة. فابتسمَتْ لي عيناها، على حين نظرَتِ الأم نحوي بارتياب وأنا أشرب اللبن، ثم تمتمت: هنيئًا! فشكرتُها، فقالت لي بلهجة ذات معنى: أنتم يا شيوخ رجال ربنا. فقلت بامتنان: الحمد لله. سعدت بإنشاء العلاقة وتبادل الحديث وشملتني غبطة سابغة حتى لحظة الفراق. ومن موقع المراقبة قال لي محمد شكرون: لقد تحريتُ بما فيه الكفاية، وأقول لك إن أولئك الناس مع كلِّ شرٍّ إلا الشر الذي يسيل لعابك عليه. فقلت له باستهانة: سيخرج من القمقم مارد لن تعرفه مهما ادَّعيتَ بأنك كنت له صديقًا. ولم يقدِّر ما في قولي من ثورة، لم يعرف أنني أصبحتُ ملك الملوك، وأنني أفعل ما أشاء بغير حساب، وأنني سكران بفَوْرة الجنون الأحمر. وربَطَ كوبُ اللبن بيننا برباط حريري قاتِل، ومن شدة نشاطها لمستُ أناملها وأنا أتناول الكوب، وقلت لها: أنتِ كريمة يا مروانة! فحبكَتِ الخمار حول رأسها وهي ترمقني بشيطنة، فقلت وأنا أذوب في كلامي: ما أجمل عينَيك! وقلت أيضًا وهي تمضي: ما أجيء هنا إلا من أجلك! وكفَّتِ الأم عن الغَزْل وقامت، تناولَتْ حصاة من الأرض ورمَتْها بعيدًا صوب الجبل، ورأتني أنظر اليها متسائلًا، فقالت: وسيلة حكيمة لصد الزواحف والحشرات. فقلت بارتياب: الله خير حافظًا. فقالت بحزم: ولكن علينا أن نخاطب الشرَّ بلغته. ••• وضحك وقال لي: صدِّقني فيما أقول، كله، وبلا تردد، لا تتأثر بمنظري الراهن، إن مَن يراني يؤمن بأنني وُلدت في مزبلة ولم أمارس إلا انفعالات القيء، ولكن ما فكرتك عن الحب؟ فقلتُ مباغتًا بصعوبة السؤال: الحب هو الحب، إني أصدِّق جميع ما يُقال عنه. – وتؤمن بأنه يصنع المعجزات والعجائب؟ – أجل، لست غرًّا، ولكن حدِّثني عن حبك يا جعفر، عن نوعه، راعية غنم حافية الأقدام قد تشعل الدم. – كان كذلك، نداء للدم، نداء صارخ دافع للحركة، مُغرٍ بالجنون والمهالك، يقتحم الأبواب والنوافذ ويرتكب الجرائم وينتحر. فقلت بدهشة: ولكنك كنت وليًّا من أولياء الله الصالحين. – لكي تعيش تجربتي تصوَّر أنك فقدتَ الذاكرة فجأةً، وأنك أصبحت شخصًا جديدًا. – ولكن الفرد يتغير بالتدريج فيما أتصوَّر. – كلا .. کلا .. إني أتغيَّرُ من النقيض إلى النقيض .. فجأةً! – لا شك أنه يحدث في الظلام أمور كثيرة بعيدة عن وعيك. – الإنسان يخلق المنطق، ولكنه يتجاوزه في حياته، والطبيعة يا عزيزي تستعمل الطفرة كما تستعمل التطور! – هاتِ ما عندك يا جعفر. فواصلَ قائلًا: وذات يوم دعاني جدي إلى مجلسه، سمح لي بالجلوس ثم سألني: كيف حال دراستك؟ أدركتُ لتوي أنه دعاني لأمر آخَر، إذ إن شيوخي كانوا يبلِّغونه عن تقدُّمي الفريد أوَّلُ فأوَّلُ، وعلى ذلك أجبتُ بأنني عند حسن ظنه فقال: ولكن الطريق طويل وهو مليء بالمتاعب. فقلت بحماس ظاهري فحسب: المؤمن لا يخشى الطريق. – قول حسن ولكن الفعل الحسن أهم من القول الحسن. – هذا حق. وتريَّث لحظات ثم قال: ثمة أمور تدعو للتأمُّل، وقد حلمتُ حلمًا، وعند اليقظة عقدتُ العزم على شيء. – وما الحلم يا جدي؟ – لا أهمية لذلك، والأحلام تُنسى بسرعة، ولكن بقيَ ما عقدت العزم عليه. – أهو يتعلَّق بي يا جدي؟ – أجل، وسوف يسعدك. – حقًّا؟! – قرَّرتُ أن أزوِّجك من بنت الحلال. ذُهلتُ، صمتُّ، قلت لنفسي إن الرجل عالم بكل شيء، كيف غابَ عني أن جولة مسائية غريبة يقوم بها حفيد الراوي لا شك تلفت الأنظار وتثير التأويلات ثم يتطوَّع بإبلاغها إليه المتطوعون، إنه عالم بكل شيء ويحاول إنقاذ ما يُمكن إنقاذه. – ماذا بك يا بني؟ – لم يخطر لي ذلك ببالٍ. – فليخطر إذن. – ولكن … – إن الشباب يمضي بلا زواج لأسباب قهرية، وقد حباك الله بنعمته فما معنى أن تؤجِّل ما يُعتبر نصف الدين؟ – دعني أفكِّر في الموضوع بعض الوقت! – سأختار لك عروسًا فريدة وسأترك الحكم لك! رجعتُ إلى حجرتي هائجًا، فلم يغمض لي جفن حتى ترامى إليَّ أذان الفجر، شُحنت بقوة جبارة وأردتُ أن أنهال على الجدران فأدكها دكًّا، انطلقَ المارد متحدِّيًا، صمَّم على نيل فتاته ولو على أنقاض الحي كله لا القصر وحده؛ وناجيتُ أبي وأمي طويلًا، وثار غضبي على جدي بلا حساب، إنه لا يريد أن يكفِّر عن جريرته، وما زال غرامه عنيفًا بالتسلُّط والقهر، وفي حومة الأفكار المتضاربة نشب الحوار بيني وبين جدي، في حلمٍ أو في هذيان الليل أو بين النوم واليقظة لا أنكر. – جدي .. إني أرفض. – ترفض نعمتي؟ – أرفض القهر. – ولو كان مني؟ – ولو كان! – أنت عاقٌّ، تخون الجمال والنقاء، في سبيل ماذا؟ – الحرية! – راعية الغنم. – الدم والتشرُّد والهواء النقي. – إنه الجنون الذي يخرج به الممسوسون من بيتي العتيق. – النعيم الحق في الجنون. – إنك ابن والديك. – وإني أعتز بذلك إلى الأبد. – نصفك يودُّ الانتقام مني. – لا أريد أن أفكر فدعني أفعل. – والجبة والقفطان؟ – سأخلعهما من توي. – إذن كفرتَ؟ – لا أريد الدين مهنة. – ماذا تريد أن تفعل؟ – أريد أن أمارس الحب والجنون والقتل! أعتقد أنني عبَّرتُ بهذا الحوار عن الحال التي كنت أعانيها تعبيرًا كاملًا، وعندما أفضيت بأسراري إلى محمد شكرون ذهل تمامًا ولم يصدِّق أذنَيه، ولما وجد منى الجدَّ كلَّ الجد سألني: هل ترفض حقًّا ما عرضه جدك عليك من أجل مروانة؟ فأجبتُ بالإيجاب. – أتترك البيت من أجل راعية الغنم؟ – نعم. – ما معنى ذلك؟ – اعتبرني مجنونًا إذا شئتَ. – ألا تخشى أن يحرمك ميراثك، وتجد نفسك شحاذًا؟ – هذا مُحتمَل. – لا تستحق امرأة تضحية بهذه الجسامة. فهززتُ منكبي استهانة فقال: أنا لا أفهمك. – المسألة لا تتعلق بالفهم، إنها واقع. – وما تفسيره؟ .. هل ثمة سر؟ – إنه جنون باهر وأنا مسحور به. – صبرك، يمكن التوفيق. – إني أحتقر التوفيق. – يمكن أن تبقى في رعاية جدك وأن تواصل دراستك وأن تمارس حبك الجنوني. – كلا .. كلا .. إنها أشياء متنافرة جدًّا، وقد اخترتُ. – اخترتَ ماذا؟ – سأهجر البيت والأزهر. – لا ضرورة لذلك. – بل ضروري جدًّا، إنها حياة جديدة .. وإلا طُرِدتُ من الاثنين. – عين أصابت هذا الشاب! – لا بقاء في بيت جدي إلا لإنسان إلهي .. أما الأزهر فإنني ما وددتُ مهنته قط، والإيمان لا يحتاج إلى جميع تلك التعقيدات. – ليتك كنت تهجر ذلك لشيء أفضل. – المغامرة أفضل .. الجنون أفضل! فقال بإصرار: لن أفهمك ما حييتُ. فقلت بسخرية: رغم حماقاتك يا شكرون فإنك لم تعرف الجنون بعدُ. – أيعني هذا أنك هجرتَ ماضيك كله بسبب الحب؟ – بل إنني بسبب الحب عرفتُ جنون المغامرة! سلَّم محمد شكرون بالأمر الواقع، شعرتُ بأنه يؤمن حقًّا بأن المأساة لا تخلو من جنون حقيقي، واضطُرَّ إلى أن يَعِدني بالمساعدة بجس نبض مروانة وأمها، باعتبار أن العاشق يحتاج إلى سنِّيد كالمغنِّي، وبخاصة بعد أن أكدت له تحرياته أن مثل مروانة قد تُقتل ولكنها لا ترضى بعلاقة غير شرعية، ثم قال بامتعاض: وماذا عن مستقبلك؟ فحتى المغامرون الأحرار مضطرون إلى تناول لقمة؟ وأغرب شيء أنني لم أكن أوليتُ ذلك ما يستحقه من تفكير جادٍّ، وقد خطر لي للحظة أن أدرِّس لغة عربية ودينًا في مدرسة أهلية، ولكن سرعان ما نبذتُ الفكرة جانبًا لتنافرها مع جو المغامرة المسحور، وأحللتُ فكرة أخرى مكانها فقلت: أكون جوقة لإنشاد التواشيح النبوية؟! – سيمُرُّ زمن طويل قبل أن تحيي ليلة ثم يظل نجاحك بعد ذلك موضع شك وعناء، والطريق الطبيعي أن تبدأ فردًا في جوقة، وهو ما لا يناسبك بحال! فتفكَّرتُ مليًّا ثم قلت: أفضِّل أن أعمل في تختك أنت. – تختي؟! – لم لا؟ صوتي أجمل من أيِّ سنِّيد عندك. – إنك وليُّ نعمتي ولكن … – لا لكن من فضلك، ثم إنك تُحيي حفلات في الشهر الواحد لا تقل بحال عن ثلثه، ونجاحك مطَّرِد. وصمت محمد شكرون، فقلتُ بحماس: ولن تفتر همتي في تكوين الجوقة الدينية الخاصة في الوقت نفسه. – هذا ضروري واعتمد على صداقتي لسماسرة الحفلات الدينية، لا أصدق ما نتفق عليه، فإنه يبدو خيالًا، وما زلتُ مصرًّا على أنه يمكن معالجة الأمر بصورة أخرى. فقلت بإصرار: لا رجوع إلى الوراء ولا خطوة واحدة، وسيكون لي رداءان، البدلة لتختك، والجبة والقفطان للجوقة النبوية، أليس ذلك ممتعًا؟! ونظر نحوي في سكون الليل وسألني: لأيِّ درجة تصدِّقني؟ – لي من العمر ما يجعلني أصدِّق أي شيء. – أريد درجة من التصديق أشد حرارة، كثيرون لم يصدقوني، تألَّمتُ لذلك وسعدتُ به، تألَّمتُ لأن العمل الفذَّ يحتاج إلى شهود، وسعدت لأن إقدامي مما يعزُّ تصديقه، أريد، ومن حقي أن أريد، أن يُعترف بي كإنسان غير عادي، إنسان لا يستطيع أي إنسان أن يهجر النعيم الذي كنتُ فيه بالبساطة التي هجرتُه بها … – بدافع الحب وحده؟ – الحب لا يكفي؟! .. الحب هو الجنون خالقًا! – أكانت مروانة على ذلك القدر من الجمال؟ – ولكن ما الجمال؟ .. المسألة نداء يصيب مفتاحًا كهربائيًّا. – ألم ترغب أيضًا في حرمان جدك من وريثه الوحيد؟ – مأساة والدي لم تفارقني، ولكن انطلاقتي كانت ملائكية لا تلوِّثها رغبة خفية أو ظاهرة في الانتقام. – ورد فعل للكبت العنيف الذي فرضته على نفسك بصفتك إنسانا إلهيًّا؟! – أرفض هذا التفسير أيضًا، قلت لك إنها كانت انطلاقة ملائكية، مثل أغنية الفجر، قدح الحب الشرارة فكشف ضوءها عن حلم يتجسَّد ويتوثَّب لتحطيم جدار القصر والانطلاق متحدِّيًا الجاه والقيود للتمرُّغ في تراب الأم الخالدة، كما هجر بوذا قصره ذات يوم لغير ما سبب مُقنع لأحد من الناس .. ويحدث ذلك فجأة، وليس التطوُّر الذي يملأ دماغك إلا الترسيخ العملي للفجاءة المبدعة، وإليك مثالًا حيًّا حدث هذه اللحظة فجأةً، لقد قررتُ الآن ألا أكتب الالتماس. – ماذا تعني؟ – الالتماس بتقرير إعانة شهرية لي من وقف جدي! – أهي عودة للتفكير في قضية عقيمة؟ – لا قضية ولا التماس! – ولكن … – ولا لكن! – فلنؤجل ذلك إلى حينه، واستمِرَّ الآن في حكايتك من فضلك. وقهقهَ كعادته وقال: وذات مساء زحف محمد شكرون وهو يعرج — وأنا أتبعه — نحو العربية العجوز في مجلسها، فنحَّتْ مغزلها وقامت متوجِّسة، فقال لها: صاحبي يرغب في الزواج من كريمتك على سنة الله ورسوله! ذهلت المرأة، هرولَتْ مروانة بعيدًا، وعاد محمد شكرون يقول: ها نحن تحت أمرك. وتمالكت المرأة انفعالاتها وقالت: لنا قوم نرجع إليهم. وكان لهم قريب من بعيد غير مُحدَّد القرابة فكان علينا أن نقابله. كان يومًا عجيبًا. كنا أول غريبَين يشقان سبيلهما في عشش الترجمان نهارًا دون أن يتعرَّضا للموت، حدَّقَت فينا أعين شريرة باستطلاع ساخرٍ وتحَدٍّ، وتوقفَتِ الحركة دقيقة، حركة تدريب القرود، وجَزِّ الأغنام ووزن المخدرات، وجلاء الأدوات المسروقة، ودقِّ الطبول. وتجمَّعَ حولنا نفَرٌ من الغلمان، وراحوا يُحيُّون الشيخ جعفر هاتفين: ومضينا إلى العجوز الجالس أمام كوخه، وأم مروانة واقفة بين يدَيه. وتصافحنا، وكان طاعنًا في السن حتى الموت، فقالت أم مروانة نيابةً عنه: إنه يرحب بكما. فقال العجوز يخاطبها بعد أن لكَمَها في ظهرها: لأنكِ أنتِ توافقين عليكِ اللعنة. فقال محمد شكرون: صاحبي من أصل كريم. فبصقَ العجوز قائلًا: طظ! فقال محمد شكرون مُحرَجًا: وهو يعمل … ولكن العجوز قاطعه: لا يهمنا العمل أيضًا! فقال: أخلاقه … فقاطعه العجوز: ولا تهمنا الأخلاق! فقال شكرون وهو يتحلى بمزيد من الصبر: بكل إيجاز نريد كريمتكم على سنة الله ورسوله. فضحكَ العجوز عن فمٍ خالٍ تمامًا وقال: مع ألف سلامة … تكلَّمْ عن المهر. – تكلَّمْ أنت، فأنت كبيرنا. فانتفخ العجوز قائلًا: عشرة جنيهات في يدي هذه. وبسط يده، فتحرَّكت أم مروانة حركة غامضة، فقطب العجوز قائلًا: لنقرأ الفاتحة. وانطلقَتْ من حولنا الزغاريد. لم يعلِّق محمد شكرون بكلمةٍ احترامًا لعواطفي، وقررتُ من ناحيتي أن أواجه جدي بالحقيقة كما يجدر بشاب بلغَ رشده وأتمَّ مرحلةً لا بأس بها من تعلُّمه، فاتخذت مجلسي على مقربة من أريكته في السلاملك وكان يسبِّح في همس، وقطته الرومية تهر إلى يساره، وأعتقد أنه نشأ جوٌّ من التوقُّع والتحفز شارك كلنا فيه، أنا بما أُضمر من نوايا، وهو بفراسته التي يقرأ بها ما في الصدور، وجاءني سؤاله المألوف: كيف الحال؟ فأجبت وعقلي شارد: عال والحمد لله. فقال بهدوء: ستُعلَن الخطوبة بعد ثلاثة أشهر عقب انقضاء رمضان! صمَّمتُ على تجربة قوتي الجديدة بلا تردُّد، فقلت: معذرة يا جدي لقد وقع اختياري على زوجة أخرى. فلم يبدُ عليه أي تأثُّر وتساءل: حقًّا؟ – هي إرادة الله على أيِّ حال. – إذن هو حق ما ترامى إليَّ؟ فلم أنبس، فعاد يتساءل: راعية غنم؟! فأجبت ببساطة: أجل يا جدي. قال ولعلَّه تنهَّد: إنك راشد وأدرى بمصلحة نفسك. فسألته باهتمام: هل أطمع في نيل رضاك؟ فمضى يسبِّح في هدوء، فسألته: هل يعني ذلك أنه عليَّ أن أغادر البيت؟ فلم يلتفت نحوي: إلى الأبد. قمت فتناولتُ يده فلثمتها وذهبت. وكان وداع بهجة أليمًا ودامعًا، وقد اقترحَتْ أن تطلب لي نقودًا ولكني صارحتها بأن لي من المدخرات ما يجاوز المائة جنيه، وجعلَتْ تبكي وهي تقول: الأحزان تبدأ في هذا البيت مع الزواج. وهمسَتْ في أذني: صدِّقني .. جدك تعيس الحظ .. إنه لا ينام من الليل إلا ساعة. فقلت لها صادقًا: إني أحبه وأرفضه! وغادرتُ البيت الذي عشتُ فيه أربعة عشر عامًا طاهرة. وذهبت مع عروسي إلى شقة جديدة بالخرنفش، اكتراها لي محمد شكرون، وساعدني على تجهيزها، مكوَّنة من حجرتَين وصالة، وبدَتْ مروانة في ثوبها الجديد آية من الجمال والإثارة، ولعلِّي كنتُ أرى لونها الطبيعي لأول مرة بعد أن خلقها حمام العرس خلقًا جديدًا، ولا أقول إني سعدت بذلك، وأعترف بأن اللون النحاسي الغامق القديم كان أصبح جزءًا لا يتجزأ من الصورة التي زلزلت أركان حياتي، على أن نداءها ظلَّ مستبدًا طاغيًا، وسيطرَ عليَّ سيطرة كاملة حتى اعتبرتُ نفسي أسيرًا في يد قوة لا تعرف الرحمة ولا الهوادة، ومن ناحيتها كانت فاتنة بفطرتها كلسان من اللهب، ومعتزة بنفسها وبقومها، تكاد تسبغ قداسة على التراب الذي منه جاءت کوردة برية، حتى حياءها الأنثوي كان غشاء شفافًا، لا ضعفًا متأصِّلًا أو رخاوة طبيعية، ومنذ اللحظة الأولى شعرت بأنني حيال أنثى قوية، لا عمر لها، تتدفق منها الفتنة والسحر والتحدي، وأنني أستسلم في رحابها كاشفًا عن ضعفي بقوة وعنف؟ وأنني أجرى كمطارد أو مجنون فاقد الوعي والحذر، واشتُهر أمري بين صحبي الجُدد فأطلقوا عليَّ «الرجل السعيد» و«الرجل الضعيف السعيد» وانهالت عليَّ التحذيرات والوصفات معًا. ولم يُنسني شهر العسل عملي الجديد، فنشطت له بهمة عالية، ووجدتني هيابًا بعض الشيء وأنا أدسُّ نفسي في بيئة جديدة، وأناس جدُّهم في الحياة لهو ولعب، وكانوا يستقبلونني هاتفين: أهلًا بحفيد الراوي! وهو نداء له مغزاه، تبعني كظلي في كل مكان أختلف اليه، تردَّد في الخرنفش، في تخت محمد شكرون، في الجوقة التي تم الاتفاق على أن تعمل معي حين الحاجة، وأخذتُ أحفظ وأتدرَّب بسرعة استعدادًا للتخت والجوقة معًا، وفي شهر العسل نفسه اشتركتُ مع التخت في إحياء حفل زفاف بالدرب الأحمر، ارتديتُ البدلة لأول مرة والطربوش حتى صاح محمد شكرون: تبارك الخلاق فيما خلق! وارتبكتُ وأنا أخوض أمواج المدعوِّين والمتفرِّجين، وكنت أحد اثنين في التخت لا يستعملان إلا حنجرتهما ويجلسان خاليي اليد من أي آلة، وقدَّم لي محمد شكرون قدح نبيذ قائلًا: إنه ضروري جدًّا وإلا انحبس صوتك. في أسبوع واحد عرفتُ النبيذ والمنزول، وردَّدتُ الغناء بقوة وانضباط، وكنتُ الصوت الثاني في التخت ولا جدال، وقد نفخت في السنِّيدة روحًا جديدة هزَّت التخت بالجلجلة والطرب وهو يقدم: ولقينا استحسانًا كبيرًا، وضمن الاستحسان أصابَتْني غمزة من سكران فصاح: «يخلق من ظهر العالم فاسد»، وضجَّ المكان بالضحك حتى مال محمد شكرون نحوي وهمس: اضحك مع الضاحكين. وقد فكَّرتُ فيما قال الرجل فيما بعدُ طويلًا، الناس يتصوَّرون أنني كنت شيخًا طيبًّا ثم فسدتُ فانقلبتُ سنِّيدًا في تخت أغني وأتعاطى النبيذ والمنزول، كلا، ليس الأمر كذلك، لقد غيرتُ مهنتي هذا كلُّ ما هنالك، استبدلت بمهنة التدريس أو الوعظ مهنة أخرى هي الغناء، أما روحي فقد ارتفعت درجات وقلبي لم يفسد ولم يتزعزع إيماني، وجدي نفسه هو القائل إن الزبال نفسه يستطيع أن يكون إنسانًا إلهيًّا، ولعلي كنت محمولًا بتيار عواطفي الصاخب في ذلك الحين، فلم أدرك أبعاد تجربتي كما أدركتها فيما بعدُ، أو كما أُدركها اليوم، ولكنني رغم ذلك ثُرتُ على قول السكران واعتدتها دعابة عربيدة وظالمة، على أيِّ حال بدأتُ عملي الجديد بثقة ونجاح ولكن كان عليَّ أن أنتظر وقتًا ليس بالقصير لكي أنشد التواشيح النبوية كصاحب جوقة له وزنه، أما سعادتي فقد غطَّت على النجاح وعلى كلِّ شيء، سعادتي الزوجية، وكنت بها فخورًا، أنوه بأسرارها في كافة المناسبات، وبفضائل الحياة الزوجية ومزاياها الطيبة، حتى ضُرب بي المثل، وفي غمرة السعادة لم أنظر إلى الحياة في بيتي الصغير بعين ناقدة ولا حتى محايدة، واستقبلت أولى آيات الأمومة بما يشبه الوجد الديني. حقًّا كانت توجد لحظات خائنة حتى في أيام السعادة الخالصة … ولكن ما هي اللحظات الخائنة؟ هي اللحظة التي تنفصل فيها عن تيار حياتك، فتقف على ربوة فوق الشاطئ لتراقبه بدهشة. في تلك اللحظة كنت أشعر بأن ثمة شخصًا قد ضحك عليَّ، قد جرَّعني مقلبًا. وأسأل نفسي عما حدث. أو أنظر إلى مروانة بذهول وأجد رغبة طارئة للانتقام منها. ما معنى ذلك؟ كأنني أمقتها فجأةً وبلا مقدِّمات. ولكنها لم تكن إلا لحظة عابرة، كتقلُّص عضلة طارئ، ثم يعود التيار إلى مجراه السعيد المبلَّل بأنفاس العشق المستعر. وأعجب لطاقتي في معاشرة الفوضى، فأنا لا أتذمَّر على حين مروانة لا تُحسن تنظيف الشقة، ولا طهي الطعام، وتمضي حافيةً، نصف عارية منتفشة الشعر، تتحدى الخيال، وتناقر الهواء، وتسحبني من يدي لزيارة أمها وقريبها العجوز في معسكر الشياطين ليضحك المخرِّف ويقول لي: ألم يكن الأفضل أن تعمل إمامًا لجامع؟ أو يبارك بطن زوجتي قائلًا للجنين: شرفنا وكن قاتلًا، فقد ضقنا باللصوص والمهرِّبين! ويسخر من أصلى الكريم قائلًا: مَن جدك الراوي؟ .. أنا جدك الحقيقي، واهِبُك هذه المرأة الجميلة التي تمتص قذائف غرائزك الشريرة. فأقول له: جدي من رجال الله. فيُقهقه قائلًا: نحن رجال الله حقًّا، الله المنتقم الجبار خالق الجحيم والزلازل، انظر إلى هؤلاء (مشيرًا إلى معسكر المتشرِّدين) إنهم رجال الله، صورة منه في جبروته وانتقامه. والتقيت في تلك الأيام بجارة أمي في بين السورين، عرفتُها ولم تعرفني، اعترضتُ طريقها وقدمتُ لها نفسي، ذهلَتْ ودعَتْ لي طويلًا، وتذكرت أنني لم أكن أعرف اسم أمي كما أن بهجة لم تكن تعرفه، كنت أناديها «أم» فتجيب، حتى أعجزها الموت عن الإجابة، وسألتُ الجارة عن اسمها فقالت: ليرحمها الله .. كان اسمها سكينة! وشعرت بإغراء في طرح المزيد من الأسئلة عن أصلها وتاريخها ولكنني أخمدته، ربما احترامًا للذكرى، وشددتُ على يدها ومضيتُ في سبيلي، هكذا عرفتُ اسم أمي مصادفة. وسوف أنجب من الذكور أربعة، وسوف تمضي الحياة بعد انطفاء شعلتها، وسوف تجيء أيام الجفاف والجفاء والوحشية. طالما سرَّني أن يُقال هذا الفتى الذي هجرَ قصر النعيم ينشد الحب والحرية. وطالما استعذبتُ موقف مروانة المحب من الطقاطيق التي أحفظها لتخت محمد شكرون، بقدر ما رحمتُ موقفها الكاره من القصائد والتواشيح التي أُعدُّها لجوقتي الخاصة. وطيلة الوقت كنت أقاوم الفقر بالعمل والنبيذ والمنزول، وشعرتُ بأن المعركة تستغرقني من الفجر حتى الفجر. وتأوَّهتُ قائلًا: أي عبودية! وجاءت أيام الجفاف والجفاء والوحشية. ها هي مروانة قوية متحدية سليطة اللسان طويلة اليد كأنما خُلقت لتقاتل. وقلتُ لها مرة: للرجل احترامه. فقالت لي: وللمرأة احترامها. ثم قالت بوحشية: لا يوجد رجال خارج عشش الترجمان. فقلت محزونًا: أهذا جزاء مَن أعدَّ لكِ البيت والأثاث؟ فصاحت بي: إني أكره رائحة البيوت! وأوغلنا السير في أيام الجفاف والجفاء والوحشية. وتابعني محمد شكرون بأسى، وقال: إني أخاف الحب الجنوني وأفضِّل الاعتدال. فقلتُ بحزن لم يدرك مداه: إني ضحية الشهوة العمياء. – الحياة الزوجية تمُرُّ بحالات مَرَضية حتمية، تحتاج إلى حكمة الأطباء. فقلت بامتعاض: لقد دخلت منطقة اليأس! ذلك أنني وجدت أن الشركة تتحول إلى معركة، مُضمَرة حينًا ومُعلَنة حينًا، وأن مروانة إذا تجرَّدَت من رمز الإثارة الجنونية فإنما تتمخض عن لا شيء البتة، أو تتمخض عن ذئبة. وهي إذا غضبت حطَّمَت ما بين يدَيها، مزَّقَت ملابسي، طوَّحَت بكراسة الأغاني والتواشيح من النافذة، التحمَتْ معي في عراك، وأصيحُ بها: إنكِ أبغض إليَّ من الموت. فتصيح بي: إنك أبغض من القيح. وقد تمتدُّ فترات البغضاء، وقد تتسلَّل إليها الهدنة بفضل الأولاد غالبًا، وعند ذاك قد تشتعل انفعالات الرغبة من جديد، اشتعالات خاطفة، تُعيد ذكرى الأحلام من بعيد، أجل من بعيد. ••• وسألته باهتمام: ولكن ماذا أفسد حياتك الزوجية؟ – ألم أوضِّح ذلك في سياق الحكاية؟ – كلا فيما أعتقد، ما زلتَ في حاجة إلى تحديد أسباب واضحة. – إن الذي ربطني بها حال جنونية، فلما زالَتْ وجدتُني مع امرأة لا أعرفها ولا أجد مبررًا لبقائها معي، ولا شكَّ أن سلوكي العام نمَّ عن مشاعري الدفينة، فأثارها من ناحية أخرى. فقلت: تزول حال الجنون ولكن يبقى الأولاد! – الأولاد أطالوا عمر زواجي، ولكنهم لم يؤمِّنوه ضد الخواء، مروانة مجرَّد إثارة، ليست امرأة، لا هي ربة بيت ولا هي أم ولا هي سيدة بالمعنى، وصفاتها الجوهرية خليقة بأن تخلق منها رجلًا، بل قاطع طريق. – وهي ألم تحبك؟ – لا أظن، ربما فَوْرة جنونية عابرة، أو مغامرة استطلاعية، لم أكن أمثِّل الرجل الذي يمكن أن تحلم به، لقد جمع زواجنا بين مغامرَين، وكان عليه أن يموت بمجرد أن تتحول المغامرة إلى روتين … أظن الأمر واضحًا؟ – أجل، شكرًا. – وكان لي أحلامي الخفية، كنت أحلم بالهروب من الواقع، من البيت، أحلم بالتوحُّد فحتى أولادي كانوا يختفون من رؤيا الحلم، ولكن إلى أين؟ وكان عملي لا يترك لي مجالًا للنظر إلى فوق، فأوساط المنشدين لا قمة لهم يتطلعون إليها، إلى ذلك فالله لم يهبني القناعة والرضى بالمقسوم. والأهم من ذلك أنني لم أكن أحلم وحدي، أجل كانت مروانة تحلم أيضًا، وتمسكَّت بالغضب عقب مشاجرة، وسُدت الأبواب في وجه الصلح، وتحدَّتْني بنظرة باردة وهي تقول: يجب أن نعيد النظر في حياتنا. ولمست في نبرتها تصميمًا حيًّا، فانقبض صدري وتمتمت: حياتنا؟ – أقول لك صراحة إنه من الظلم أن نكلف هذا البيت بأن يجمعنا أكثر من ذلك. فتابعت أصوات الأولاد، المتلاحمة بإشفاق وقلت: كل الأزواج يفعلون ذلك. فقالت بهدوء مخيف: ولكني أريد أن أذهب. فسألتها ببلاهة: إلى أين؟ – إلى أهلي! تماسكت رغم حنقي وتساءلت: ألا تعجبك الحياة في هذا البيت؟ فأجابت بقوة: كلا، أنت تتوهم أنك صاحب فضل، هذا هو نقصك! – أظنني ضحيتُ بالكثير. – إني أولى الضحايا! – اسمعي … ولكني أمسكتُ تجنُّبًا للشجار فصاحت: لقد كرهتُ هذه الحياة حتى الموت! فنفختُ قائلًا: الأولاد .. الأولاد. – من حقي أن آخذهم معي. – لكي ينشئوا في عشش الترجمان؟ – لكي ينشئوا رجالًا! – إنك لمجنونة! – أنت المجنون وأقسم على ذلك، لا عاقل يعيش من حنجرته كالنساء! – لا أمل يُرجى من مناقشتك! – دعني أذهب. – ولكن عليكِ أن تتركي لي الأولاد. – ماذا تفعل بهم؟ إنك تستيقظ من نومك قبيل العصر، ولا ترجع إلى بيتك إلا مع الفجر أو بعده، وعلى حالٍ لا يعلم بها إلا الله، فكيف يعيشون؟ هل تعني حقًّا ما تقول؟ فشعرت بالقهر وقلت: لذلك يجب أن يبقى هذا البيت من أجلهم. – إني أرفض ذلك … ولم ينتهِ الحوار بحسم الموضوع. فكرتُ بالأولاد طويلًا، أيقنتُ أنه لا حياة لهم معي، وأن عليَّ أن أتحلى بالصبر من أجلهم مهما كلفني ذلك، غير أن مروانة حسمَتِ الأمر بطريقتها الخاصة، فرجعتُ عند فجر يومٍ لأجد البيت خاليًا لا يتردَّد فيه نفس، وذهبتُ من توي إلى عشش الترجمان، فبلغتها مع الصباح الباكر. وجاءتني أم مروانة بوجه متجهِّم وقالت لي: اذهب بسلام وافعل ما يفعله الرجال ولو مرة! قلت لها: الأولاد. قالت بازدراء: إنهم أولادنا! وجاء العجوز في ثلة من الرجال المفترسين وقال: أنت رجل خائب، فارجع إلى بيتك. وهمهم الرجال بألفاظ مبهمة فلم يغَبْ عني الخطر المحدِّق بي، وعاد العجوز يقول: طلِّق، أعطها حقها كاملًا، وإذا كان الشرع يعطيك حقوقًا الآن أو مستقبلًا فإني أنصحك بأن تنزل عنها صونًا لحياتك، ارجع قبل أن تطلع الشمس على وجهك، فقد أُقدِمُ على شر كبير إذا رأيتك في ضوء الشمس. وذهبت من توِّي لأطلِّق … وأجَّلتُ التفكير في المشكلة لحين بلوغ البكري السنَّ التي أستحقه فيها، تأجيل أو هروب إذا شئت، كنتُ على يقين من أنني لن أطالب بأولادي بجدية حقة، معنى ذلك من ناحيةٍ أن أخاصم قومًا يتخرَّج في معسكرهم عتاة مجرمي القاهرة، ومعناه من ناحية أخرى أن أعيدهم إلى حياةٍ لا أملَ لأيِّ قَدْر من الرعاية فيها، فهؤلاء الأولاد، من حفدة الراوي قد كُتب عليهم الضياع حيثما كانوا، ولن تُكتب لهم النجاة إلا إذا كُتبت للمجتمع كله، وبصورة حاسمة، هكذا ذهبَتْ مروانة طاوية معها قصة الحب والجنون والخيبة، وقصة الجفاف والبغض، لم يبقَ منها إلا ذكرى الشهوة المذهلة، والقوة المتحدية، والعجرفة الصلبة، وهي مثل العاصفة مخيفة وضارة ومثيرة للإعجاب، وبضياع الأولاد تسلَّلَ الأسى إلى أعماق نفسي ليقيم في حجرة الأحزان ملتحمة بذكريات أمي وأبي. ولم يكن ممكنًا أن أواصل الحياة بهوادة كأن لم يقع شيء. وكان محمد شكرون يتابعني بحذر وإشفاق، فسألني ذات يوم: حتى متى تمضي في ترديد الأغاني وتعاطي النبيذ والمنزول؟ مع وجود مروانة والأولاد كان ثمة حياة متكاملة أيًّا تكن، أما الآن فالسؤال يبدو معقولًا، وقلتُ له وأنا لا أعني ما أقول: حتى الموت! فقال جادًّا غاية الجد: آنَ لك أن ترجع إلى جدك. قلت: لقد انتهى الشيخ جعفر الراوي. – يمكن أن يبدأ من جديد، علينا أن نحاول. – إني أرفض المحاولة. – عن كبرياء؟ – بل عن تسليم بالواقع الحي. – أي واقع يا رجل؟ – إنه لا يرضيني، ولكني رفضت المهنة الدينية رفضًا لا رجوع فيه، الحياة التي رسمها جدي لي مرفوضة تمامًا، وهو لن يقبلني — إذا قبلني — إلا بشرط الرجوع إليها. – لعله يمنحك حريتك الشخصية؟ – كلا، إنك لا تعرفه كما أعرفه، وإني أرفض أن أعرض نفسي لتجربة ذليلة. فقال بإخلاص لا يداخلني فيه شك: إنك صديق عزيز، ومن واجبي أن أصارحك بأنك تمارس حياة لا تليق بك، فلا أنت مطرب ولا أنت ملحِّن، ويجب أن تفكر في مستقبلك بجدية أكثر. – هذا مُمكِن بعيدًا عن جدي! – أراك غير سعيد الآن. – ربما، ولكنني قمت بمغامرة جنونية سأظل فخورًا بها ما حييت، وإني فخور أيضًا بأنني أتكيَّفُ مع أي مستوى للحياة دون تذمُّر أو ضعف، تجدني طافحًا بالبشر والقوة سواء عشت حياة الأعيان أو حياة الصعاليك، وها أنا أتمسك بالصعلكة وأرفض محاولة الرجوع إلى حياة القصر، أرفض أن أكون شيخًا محترمًا وزوجًا نبيلًا وممارسًا للطقوس والتقاليد الرفيعة، لا لأنني أختار ذلك بإرادتي الحرة ولكن احترامًا لرؤيا جدي وطمعًا في تركته. – وماذا عن مستقبلك؟ – سأفكِّر جديًّا في دراسة الموسيقى والتلحين عند الشيخ طاهر البندقي، إذ لا يمكن أن تمضي الحياة بلا طموح. كانت مروانة رمزًا للحياة الماضية، كما كانت العُذر الثابت لتقبل حياة عادية بلا طموح، فلما ذهبَتْ وجدتُ نفسي عاريًا. وكان عليَّ أن أعيد النظر في حياتي! وفي تلك الفترة القلقة من الحياة عرفتُ هُدى صديق. كان محمد شكرون يُحيي حفلًا في حديقة لبتون، وفي الاستراحة دُعي مع أفراد تخته إلى مقابلة هدى هانم صديق في بنوارها، وكانت تنتظرنا وعلى شفتَيها ابتسامة مليئة بالثقة، وعلى مقربة منها تجلس سيدة شديدة السمرة بدا من تأدُّبها أنها وصيفة. راعني أول ما راعني بهاء منظرها، وأناقتها المحتشمة، واعتزازها بنفسها الذي لا يجاوز حدود الأدب، وهالة من الجاذبية الرصينة، أما جمالها الأنثوي فيتركَّز في عينَيها السوداوين واستدارة وجهها، وكانت على وجه اليقين في الحلقة الرابعة. ترك منظرها في نفسي أجمل الأثر، ووقفتُ بين الزملاء الكهول مزهوًّا ببدلة جديدة وبصحة وشباب وقامة فارعة. دعتنا للجلوس وأمرت لنا بالمرطبات، وقالت موجِّهة الخطاب لمحمد شكرون: صوتك عذب، وتختك ممتاز، إني من أسرة تعشق الأصوات الجميلة. فلهج محمد شكرون بالشكر، ونوَّه بذكرى المغفور له والدها الذي يحتفظ له أهل الفن بأجمل الذكريات، قال: طالما سمعتُ أستاذي الشيخ طاهر البندقي يقول عن قصره إنه كان مَعْقل الموسيقى الشرقية. فابتسمَت الهانم في رضى، والتقَتْ عينانا أكثر من مرة، فقال محمد شكرون مشيرًا إليَّ في مباهاة: زميلي جعفر حفيد سيد الراوي. فتساءلَتْ باهتمام: حقًّا؟! – إنه يهيم معنا حبًّا في الفن. – جميل، ولكن هل يرضى الراوي الكبير عن ذلك؟ فأجبتُ: ندر أن يرضى جدٌّ عن حفيد! ونظرَت السيدة نحو محمد شكرون قائلة: سوف نتقابل عما قريب. انصرفنا سعداء، وفسَّرَ لي محمد شكرون قولها قائلًا: هذا يعني أننا سنُدعى قريبًا لإحياء حفل في بيتها. وقال لي باهتمام: إنها من آل صديق، كريمة الرجل العظيم، أرملة واسعة الثراء والثقافة. وصمت قليلًا ليزن كلامه ثم قال: أعتقد أنها مالت إليك. انبعث في نفسي طرب، وسألته: ألك خبرة بتأويل نظرات النساء؟ – أجل لمحتها أكثر من مرة في أثناء الغناء وهي تنظر نحوك حتى قبل أن تعرف نسبك. – ليصدق حدسك يا صديقي. فقال محذِّرًا: ولكنها سيدة محترمة. فقلت محتجًّا: يا للأسف! وفكَّرت بها مليًّا، إنها شيء نفيس بلا شك، ولا يقلِّل من قيمتها أنها تكبرني على الأقل بعشر سنوات، بل زادها ذلك ملاحة في نظري، أما الجنون الذي اجتاحني ذات يوم، فيبدو أنه لا يتكرر. وقال لي محمد شكرون: يا لها من فرصة! – ماذا تقصد؟ – امرأة ممتازة كالقشدة. – هَبْني لم أحبها؟ – أهذا ممكن؟ ألم تشم رائحتها المسكرة؟ فضحكتُ عاليًا، وكان محمد شكرون قد أحبَّ راقصة وتزوَّج منها ووُفِّق في حياته الزوجية غاية التوفيق. ••• وذهبنا إلى بيت آل صديق بالحلمية احتفالًا بختان طفل، ذكَّرني السلاملك والحديقة بقصر جدي، ولكن الحديقة كانت أصغر، كما أن سور البيت كان قصيرًا لا يحجبه عن العالمين، وأُقيم لنا سرادق مكشوف في الحديقة التي عبقت بشذا زهر البرتقال، مما يدلُّ على أن الوقت كان ربيعًا. وغنَّى محمد شكرون بانبساط حقیقي، وردَّدنا الغناء بحماس غير عادي، وارتفع صوتي وأنا أردِّد: وعقب الوصلة الثانية اندلع النبيذ في رأسي وتسلطن المنزول فجلستُ تحت شجرة برتقال في إعياء. وجاءت هدى هانم صديق تتفقَّد أحوالنا وتُجاملنا، فقمت لها وأنا أكاد أترنَّح، فتمتمَتْ: أنتَ في حال! فقلتُ ممتنًّا: هذا ما يفعله بي السرور. وأمرَتْ لي بقدح ليمون بالصودا، ثم قالت: تعجبني روح المغامرة! فأدركت أنها تشير إلى صعلكتي في تخت محمد شكرون، فقلت: إني أقرِّر مصيري بإرادتي الحرة. فابتسمتْ قائلة: المغامرة الحقة في رأس الإنسان! – ماذا تعنين يا سيدتي؟ فتجاهلَت السؤال وقالت: ترامت إليَّ أنباء مثيرة عن خلافك مع جدك. فقلت باستسلام: ها هي شهرة ضلالي تذيع بين الصفوة. فابتسمت ابتسامة جذابة وذهبَتْ. وشعرتُ بأن باب حياة جديدة ينفتح لي رويدًا. وعقب السهرة مضى بي محمد شكرون إلى مقهى باب الخلق، قال لي بجدية: علينا أن نتدبر أمرنا. فتساءلت متخابثًا: أي أمر أيها البلبل؟ – لا تتغابَ، عرفت من وصيفتها أنهم عرفوا عنك كل شيء. – كل شيء! – السؤال له مغزاه الكبير. – والجواب له عواقبه الوخيمة! – رغم كل شيء … وحدَّقَ فيَّ باهتمام ثم واصل: رغم كل شيء فأنت مدعوٌّ إلى لقاء في حديقة لبتون، إني مُكلَّف بإبلاغك. فذهلت وتمتمت: هذا يفوق تصوُّري! – ولكنه الواقع دون زيادة. – أجل. – علينا أن نتفق على خطة. – ولكنك لم تسألني عن عواطفي؟ – لا أظنها عدائية! – طبعًا. – يكفي هذا، وفي اعتقادي أن الهانم وقعَتْ كما وقعتَ أنت ذات يوم. – لا تبالغ. – خبِّرني، ألا يُسعدك أن تتزوَّج منها؟ – أنت تتخيل أنها تفكِّر في الزواج؟ – إنها ترفض العلاقات غير المشروعة. – تتزوج من صعلوك؟! – إني أعرف قصة أمير هجر قصره ليتزوج من صعلوكة. فضحكتُ، فسألني: ماذا عن قلبك؟ – إني معجَب بها، بشخصيتها وجمالها، لا شك أن الارتباط بها يسعدني. – هذا هو الحب، أو هو نوع من الحب، أو هو استعداد طيب للحب. – ليكن. – إذن، فعليك أن تبدأ احترامًا لكرامتها. – مزيدًا من الشرح من فضلك. – لقد بدأت هي خطوات ثابتة، وها هي تدعوك للقاء، فهل تذهب لتنتظر كالبنت أن تفاتحك هي بحبها؟ .. كلا .. يجب أن تكون أنت البادئ، احترامًا لكرامتها كما قلتُ. – أترى ذلك؟ – المسألة ذوق أولًا وأخيرًا، لا تنسَ التضحيات المتوقَّعة من ناحيتها، حقًّا إنها سيدة نفسها، وأغنى الأسرة، ولكن حتمًا ستتمزق أواصر قُربى وعلاقات أسرية بسبب الزواج، لا شك في ذلك .. وإنها لشجاعة لأنها ستصمد في وجه ذلك كله. – لولا أنني مررت بتجربة مشابهة لما صدقتُ الواقع. – بلى، ولكنك مررتَ بنفس التجربة، ولا تنسَ أنها تريدك وأنت مقطوع السبب بالراوي، والزوج السابق لمروانة وأبو أربعة أبناء بعشش الترجمان، إنه المستحيل عندما يصير مُمكِنًا. وفكَّرتُ في الأمر من شتى جوانبه بعد أن وجدتُ من عقلي وقلبي اقتناعًا به، فقلت: إذا وقع هذا الزواج المذهل فسأجد نفسي مضطرًّا إلى التخلي عن العمل في التخت؟ – هذا واجب لا شك فيه. – ولكن كيف أرضى بألا يكون لي عمل إلا زوج الهانم؟! فقال بثقة: سيكون لك عمل، لا أدرى الآن ماذا يكون، ولكن توجد أعمال كثيرة تحتاج إلى رأس المال والمجهود البشري، وأنت تملك هذا المجهود؟ ثم وكأنه يشجعني: هاك مغامرة جديدة أيها المغامر الأعظم. فقلت بفتور: المغامرة الحقة استجابة لنداء مجنون، أما هذه الخطوة فتتحقَّق في رحاب الروية، وتحسب بالتفكير والمنطق، أنتقل بها من حال إلى حال. – إلى حال أفضل! ليكن، إني أجري كالعادة وراء الجديد المثير، معي قدرتي العجيبة على التكيُّف والاستهانة بالصعاب، ألستُ أعيش وكأنني نسيتُ أبنائي الأربعة رغم أن جرح القلب لا يريد أن يندمل؟! وذهبت إلى لقاء هدى في الموعد المضروب بحديقة لبتون. أقبلتُ عليها بشجاعة وثبات وثقة بالنفس، فذابت الفوارق وتمَّ لقاء بين رجل وامرأة. جلسنا حول منضدة تحت سقيفة، على حين جلست «أم حسين» الوصيفة غير قريب، ورغم عظمتها الذاتية اعتراها شيء من الارتباك، فقالت: أرجو ألا أكون أزعجتك بدعوتي؟ فقلت بثقة: كوني على يقين من أنها جاءت مُحقِّقة لأحلامي. فتساءلت برقة أنثوية: حقًّا؟ – كنت أتمناها، ولا أدري كيف أحقِّقها. – حقًّا؟ .. ولكن .. ولكن لماذا؟ – هذا حديث يطول، ولكن يحسن بي أن أقنع بالاستماع. فقالت بلهفة: لا أهمية لذلك، لماذا كنت تتمناها؟ فقلت بصوت دافئ: كما يجدر برجل أحبَّكِ من كل قلبه. فأسبلَتْ جفنَيها موردة الخدَّين، والتفَّتْ بالصمت في جو من القبول والرضى والسعادة. – أجل من كل قلبي. تذكرت الموقف فيما بعد فلم أجد فيه ما يستحق الخجل، كان عقلي وقلبي مقتنعين بها، كنت مُرحِّبًا تمامًا بالارتباط بها، وبلا أدنى طمع في مالها، ومن ناحية أخرى فإن حبها لي — وهو مؤكَّد — يقتضي ذلك الاعتراف من ناحيتي تحية لكرامتها، فضلًا عن ذلك كله، فإنني لم أكذب أو لم أكذب بالقدر الذي يجعلني كذابًا. وناقشنا مستقبلنا بكل صراحة، قلت: لن يتصل ما انقطع من علاقة مع جدي. وقلت أيضًا: قد لا يحرمني ميراثي كله. ثم قلت بوضوح: سأكون تعيسًا لو عشت بلا عمل. فقالت بهدوء باسم: هذه الهموم لا تخلق عقبة حقيقية في طريق الحب، أما جدك والميراث فلا يهمني، وأما العمل فإني أعلم أن الرجل لا يعيش بلا عمل. ثم وهي تضحك: ولكن هل تعتبر عملك في التخت عملًا حقيقيًّا؟ – كان حركة في مغامرة أكبر، هذا كل ما هنالك. – أوافقكَ كلَّ الموافقة. ولقد فكرت في حبنا طويلًا. من ناحيتي صادفت سيدة جميلة، كريمة الأصل، مثقَّفة، عاقلة رصينة، واعدة بمعاشرة سعيدة، فمِلتُ إليها كما ينبغي لي، وأحببت فكرة الارتباط بها. أما من ناحيتها فكيف يمكن تبرير هذا الحب؟ إني ضائع، طريد، شبه عاطل، شبه جاهل، لا مستقبل لي، فكيف يمكن تبرير هذا الحب؟ لكنها كانت هي في الواقع التي تحب حبًّا حقيقيًّا، حبًّا بلا مبرِّر، فوق التبريرات والأفكار، ولعل هذا الحب لا يخلو من رغبة في انتشالي من الضياع وإعادة خلقي من جديد، فكما توجد في الحب سادية وماسوشية، توجد كذلك أحيانًا أمومة ورغبة حميمة في الإنقاذ. هذه أفكار عن الحب الذي ربطني بهدي، فانتهى بعقد قراننا بعد أن مزَّقَ أواصر أسرتها. لم أكن وقتذاك أفهمه بهذا الوضوح الذي يتبدَّى لي به اليوم، أما في حينه فقد فسرتُه التفسير الذي يُرضي شبابي وغروري، ويعوضني عن الإهانة التي لحقَتْني من جرَّاء هجر مروانة لي. وودعتُ محمد شكرون وزملائي من أفراد التخت، كما ودعتُ أفراد فرقتي الدينية، وكانوا متطوعين يعملون مع أكثر من منشد ثانوي تبعًا لظروف العمل، ودُعي الجميع إلى حفل زفافي الذي أحياه محمد شكرون، وانبسطنا غاية الانبساط وكأننا نودِّع عهد النزق ونصفيه. وقلت لمحمد شكرون: لن يفرِّق بيننا شيء. فاغرورقت عيناه وهو يقول: معاذ الله يا أعز الناس. وتم الاحتفال في بيت الحلمية — بيت هدى — فلم يشهده من أسرتها أحد، واقتصر على الجارات، وأمل محمد شكرون أن يعلن جدي رضاه على نحو ما، خطاب أو هدية أو طاقة ورد، ولكن لم نلقَ من ناحيته إلا الصمت. وكان محمد شكرون قد زاره لمناسبة عيد الهجرة، وقال له وهو يقبِّل يده: فُرِض عليَّ أن أنهي إلى فضيلتكم أنباء حسنة عن جعفر. فتجاهل جدي قوله تمامًا، فقال محمد شكرون: إنه يبدأ حياة جديدة مع سليلة الشرف هدى هانم صديق. ولكنه واصل تجاهله وفتح موضوعًا جديدًا لا صلة له بي. غير أن محمد شكرون قال لي: لقد لمستُ رغم ذلك تأثُّره، مثل: تقبُّض يده على المسبحة عندما جاء ذكرك، وعندما ترزق بمولود فاذهب به إليه ليباركه. ولكنني لم أكن أهتم برضى جدي. ولم أكن أخلو من انفعالات حنق عليه. استقبلتُ شهر العسل الثاني في حياتي، الأيام الهنيئة التي تمضي في رحاب العاطفة الخالصة والحب المتكامل، ينعم فيها الزوجان بعطلة سعيدة قبل أن يرجعا إلى الحياة ليتغلغلا في أعماقها أكثر. وجدتني على رغمي أقارن بين مروانة وهدى. امرأتان مختلفتان جدًّا، مروانة عبقرية في لعبة الجسد، ترجع الرجل إلى عهد الفطرة، أما هدى فترجع الجسد إلى مستوى القلب، ورغم أنني لم أحترق، إلا أنني شعرت بطمأنينة ورسوخ ودوام، ورغم مشاعري الفياضة وحناني المتدفِّق، فقد افتقدتُ جحيم مروانة الأبدي. وفي توقيت رائع قالت لي هدي: أودُّ ألا تبقى يومًا أكثر بلا عمل. فقبَّلْتها امتنانًا، فقالت بحذر: وحتى إدارة أملاكي لا تُعتبر عملًا مُقنِعًا ولا هي ترضي طموحي. فتساءلتُ برقة: إذن لكِ طموح؟ – ألا تحب أن تكمل دراستك الأزهرية؟ – كلا. – لماذا وجَّهكَ جدك تلك الوجهة؟ – إنه ذو تفكير خاص وسوف أحدِّثك يومًا عن رأيه في الإنسان الإلهي. – سأصارحكَ بما أفكِّر فيه، يجب أن تدرس في بيتك. – دراسة نظامية؟ – نعم، حتى البكالوريا، ثم تتخصَّص في دراسة عليا، مثل الحقوق مثلًا، وتعمل محاميًا ذات يوم! – يلزمني عشر سنوات. – لم لا؟ التعلُّم في ذاته عمل، وأنت في الخامسة والعشرين، وستجد فيها ميزة لاستيعاب الدراسة. ففرحتُ بالفكرة وقلت: إني أحب التعلُّم، ولن يهمني ما فاتني من عمر، ثم إنني أريد عملًا لا وظيفة بالمعنى التقليدي. وسرعان ما بدأت بعزم جديد. خرجتُ من عصر البطالة المقنَّعة والبطالة الحقيقية، وغطى التعلُّم على إحساسي بأنني زوج بلا عمل، وبخاصة وأنني لم أعترف بإدارة الأملاك كعمل حقيقي، فهي لم تكن تعني أكثر من تحصيل إيجارات، والإشراف على إجراء بعض الترميمات والتجديدات أو توكيل بعض المحامين عند الضرورة. وحققتُ تقدُّمًا مذهلًا، واستعنتُ أحيانًا ببعض المدرسين. وفي أوقات الراحة كنا — أنا وهدى — نختلف إلى المسرح أو صالات الطرب، فهي مُغرَمة بذلك كله. وكنت أشرب رغم تأفُّفها فتقول لي برجاء: اشرب، ولكن لا تسكر. أما المنزول فقد أخذَتْ عليَّ عهدًا بألا أقربه، وكلما رأتني جالسًا مع محمد شكرون ذكَّرتني بالعهد، ولكني نبذته بإرادة قوية، وعبَرْتُ الفترة الحرجة بعزم صادق، حتى ضحك محمد شكرون وقال لي: إنك شيطان في تكيُّفك مع العربدة، ملاك في تكيُّفك مع الاستقامة. فقلت له: إني مصمم على أن أكون شيئًا. مارست حياة رائعة، استعادت من ناحيةٍ سعادتي في أسطورة أمي، كما استعادت، من ناحية أخرى، النقاء الذي نعمتُ به في بيت جدي، ولكن تفشى فيها القلق المنبعث من رغبة حادة في تحقيق الذات. أريد أن أكون شيئًا، ولكن ما عسى أن يكون هذا الشيء؟ القانوني الضليع؟ أم المحامي الناجح؟ الحق أني فُتنت بموادِّ الدراسة المتنوِّعة، واستوعبتُها بمقدرة شخص ناضج، وانجذبتُ لها بأقوى مما انجذبتُ إلى علوم الدين، وكنت أحفظ المقرَّر وأفيض عنه فيما يهمني من فروع المعرفة، فقرأت كثيرًا في التاريخ والفلسفة والنفس والاجتماع، ومضيت أمتلئ بحب الحقيقة. ••• وقهقهَ عاليًا ثم قال لي: تصوَّر الرحلة من أحلام العفاريت إلى حب الحقيقة! .. ما رأيك؟ فقلت: رحلة عظيمة. أعجبني بصفة خاصة المنهج العلمي الذي يتحقَّق به أكبر قدر من الدقة والموضوعية والنزاهة، هل نستطيع أن نفكِّر بنفس الأسلوب في سائر شئون الحياة؟ لنعرف المجتمع والوطن والدين والسياسة بنفس الدقة والنزاهة الموضوعية؟ وكانت هدى تساعدني، فهي مُثقَّفة، حاصلة على شهادة مدرسة أجنبية، درستْ مبادئ العلوم والرياضة والآداب واللغات، كما درست العربية على مدرس خصوصي، وهي غاية في الذكاء والاستيعاب، وقد ساعدتني أكثر مما ساعدني أيُّ مدرس خصوصي. وكانت تقول لي: الشهادة لا تهم في ذاتها ولكنها الوسيلة الوحيدة المعترف بها للعمل، ثم إنها تضفي على الدراسة جدية أكثر. ولم تفترْ همتها في مساعدتي حتى بعد أن تغيَّر مزاجها العام بالحمل والوحم. جمعنا، رغم فارق السن والعلم، حب يزداد مع الأيام رسوخًا، وهو بمأمن من النزوات وردود الفعل العنيفة. لقد انتقلتُ من الفوضى والمخدرات إلى حياة زوجية نقية، وتحصيل للمعرفة بلا حدود، في نظام دقيق أفقدني الكثير من مظاهر الحرية السطحية، ولكنه فتح لي أبواب الحرية المضيئة التي يسمو بها الإنسان على ذاته بالوعي، الوعي الذي يسعد به الإنسان الحر حتى وإن أبصر بقوة أكثر مأساة الحياة الخافية. ••• وهنا قاطعته قائلًا: حدِّثني عن تجربتك مع الحقيقة والحرية والمأساة. فقال ضاحكًا: إلى مَن تُوجِّه كلامك؟ إنك في الواقع تخاطب إنسانًا لا وجود له، لم يبقَ منه إلا الخرابة التي تجالسك الآن في مقهى ودود بالباب الأخضر، لقد مات، لقد دفنت أكثر من شخص عاشوا في جسدي متتابعين ولم يبقَ إلا هذه الخرابة. وضحك مرةً أخرى، ثم واصل: ولكنها خرابة غنية بالآثار على أي حال. وتنحنح ثم قال: لقد عشقتُ العقل وقدَّستُه فأحببتُ تبعًا لذلك الحقيقة، العقل هو ما يعمل بالمنطق والملاحظة والتجربة ليصل إلى حكم نقي تمامًا مما يخلُّ بالمنطق والملاحظة والتجربة، وهو ما أسميته بالحقيقة. وهذا العقل يُعتبَر مخلوقًا حديثًا نسبيًّا إذا قيس بالغرائز والعواطف، فالذي يربط الإنسان بالحياة غريزة، والذي يربطه بالبقاء غريزة، والذي يربطه بالتكاثر غريزة، ودور العقل في كل أولئك هو دور الخادم الذكي. حسن، كيف يمكن أن ينقلب الوضع؟ أي أن يُقرِّر العقل أولًا ثم يستغل الغرائز لخدمته. هل يمكن أن يقتنع فرد بضرورة فيُقرِّر قتل نفسه؟ إن الذين يقتلون بدافعٍ من غرائزهم لا حصر لهم، ولكن لم يقتل أحد بدافع من تفكيره الخالص النزيه النقي، إذن فقد عشقتُ العقل وحلمت طيلة الوقت بسيادته المُطلَقة باعتباره أشرف هدية إلهية لنا، أحلم بألا يكون لنا من مُحرِّك إلا العقل، ولا هدف إلا العقل، ولا سلوك إلا من وحي العقل، أحلم بحياة عقلية خالصة يستوي العقل فيها على عرش السيادة على حين تستكنُّ الغرائز على أرض الطاعة والعبودية، حلمت بأن نشطب من قاموسنا جملًا مثل «أعرف بقلبي» أو «ألهمتني عواطفي» أو «التعبير الوجداني للحياة»، وصببت غضبي على حجم الشعور واللاشعور، وجبل فرويد المطمور تحت الماء إلا قمته، إذ إن المسألة ليست مسألة حجم ولكنها مسألة القيمة أولًا وأخيرًا، أردتُ لقمة الإنسان — عقله — أن يحكم وأن يسيطر، حتى في شئون الغذاء والجنس، والحب نفسه، أي قيمة له إذا لم يقتنع به العقل تمامًا؟ الحب الأعمى سيظل أعمى ويتمخَّض بعد الإشباع عن خواء، مكرِّرًا مأساتي مع مروانة، لذلك أتمنى أن يلعب العقل دوره في حياتنا الحميمة كما يلعبه في المعمل، وبنفس اليقظة والنزاهة والموضوعية، ويجب بالتالي أن تتغير أغانينا وأشواقنا وأحلامنا. ولا أزعم أنني استطعت أن أرتفع إلى هذا المستوى، بل لعلَّ عجزي كان عنصرًا هامًّا في المأساة، كما أنني لا أدعو إلى تجاهل الغرائز أو الاستهانة بها، ولكن أتشوَّف إلى تجنُّب آثارها المدمرة على الحقيقة، تصوَّر أن نقيم أنفسنا دون خضوع للأنانية، أن نقيم أوطاننا بلا تأثر بما ندعوه الوطنية، وبصفة عامة أصبح الإنسان العاقل حلمي كما كان الإنسان الإلهي من قبل. قلت له: هذه الصورة العقلية للعالم صوَّرها أناس في كتبهم في صورة مخيفة. – أعلم ذلك، لأنهم عالجوها بقلوب رومانتيكية مريضة وسخيفة، ولكني أومن بأن العقل سيغني الإنسان ذات يوم عن غرائزه وعواطفه فتصبح جميعًا مثل الزائدة الدودية. – ولكن كيف انقلبتَ هذا الانقلاب الخطير من النقيض إلى النقيض؟ – كما قلت لك من قبل إني أتحرك في الحياة بالطفرة، لقد اكتشفت عالم العقل فجأةً ففُتنت به، وأيقنت أنني كنت أغامر في خواء، وأني مدعوٌّ الآن حقًّا للمغامرة في عالم الفكر، هذه هي المغامرة الحقة. فسألته باهتمام: وماذا عن الحرية؟ – مثل المغامرة، تمارسها أحيانًا كمتعة للغرائز كما استمتعتُ بمروانة والنبيذ والمنزول، هي عبودية متنكِّرة في لباس حر، الحرية الحقيقية وعي بالعقل ورسالته وأهدافه وتحديد الوسائل بحرية الإرادة وتنظيمها التنظيم الدقيق الذي يُجريها مجرى القيود، فهي حرية في لباس عبودية، وجرَتْ حياتي على هذا النحو في رحاب بيت المنيل، فثمة ساعات للمذاكرة، وساعات للقراءة الحرة، وساعات للمناقشة والنزهة والحب، على طريق طويل رفعتُ على ساريته راية العقل. وهنا قلت له: هلا حدثتَني الآن عن المأساة؟ فنفخَ وهو يقول: انتظر قليلًا، فثمة مأساة خاصة، ولكني أودُّ أن أعرض عليك رؤياي عن مأساة عامة أولًا، هي مأساة الإنسان العاقل، فقبل خلق العقل كان الإنسان مُنسجِمًا مع ذاته وحياته، حياة صراع قاسية، ولكن يبدو ألا حيلة له فيها، مثله مثل أي حيوان آخَر، فلما أن وهب العقل، وشرع يخلق الحضارة، حمل أمانة جديدة، مسئولية لا مفرَّ منها، وفي الوقت نفسه هو غير أهل لتحمُّلها، بدأ يدرك النظرة الشاملة، وأن حياته على الأرض هي حياة رجل واحد رغم التناقض الظاهري، ولكنه كان وما زال يمرُّ بفترة انتقال تتواجد فيها الغرائز والعقل معًا، فما يقول به العقل تعارضه الغرائز، وما يزال النصر مقررًا حتى اليوم للغرائز، على الأقل في الحياة العامة، لم يظفر العقل بالسيادة المطلقة إلا في العلم، فيما عدا ذلك فهو يخضع للغرائز، حتى ثمار العلم نفسه تلتهمها الغرائز، وعلى حين يحتفظ العقل بلغته الخاصة في مجال البحث فاللغة التي تستجيب لها الملايين ما تزال هي لغة العواطف والغرائز، أغاني الجنس والوطن والعنصرية والأحلام السخيفة والأضاليل، هذه هي المأساة العامة، ولن تنقشع سحبها الحمراء إلا حين يعلو صوت العقل وتتراجع الغرائز نحو الذبول والفناء. أما مأساتي الخاصة فنشأت من الصراع بين عقلي وبين إيماني الراسخ بالله. واعترضني السؤال، كيف تصون إيمانك إذا أردتَ أن تجعل من العقل هاديك ومرشدك؟! تزعزعتْ ثقتي في الإيمان الخالص كما تزعزعتْ في لغة القلب. وعلى العقل أن يحلَّ بقوته هذه المشكلة. والقول بأنه لم يُخلق لذلك اعتراف بالعجز ليس إلا، واقتراحُ بديلٍ له نسميه القلب أو البداهة اعتراف آخَر بالإفلاس. ••• – وماذا قال لك عقلك؟ – عجز تمامًا عن إدراكه أو تصوُّره، ولكنه لم يجد مفرًّا من افتراض وجوده، وهذه هي المأساة، وإذا قرَّر أناس أن المشكلة مُفتَعلة، وأنه يمكن أن نعيش دون التفكير فيها، فقدَ كلُّ شيء معناه مهما خلقنا له من معنى بقوة الخيال والإرادة والشجاعة، وإني لأحسد الذين يعيشون عيشة كبيرة ويموتون راضين بلا إله. وكاشفتُ هدى بهمومي، وهي مؤمنة ايمانًا بلغ من قوته أنها لم تبالِ يومًا بالصلاة أو الصوم، فقالت لي: لا يمكن تقبُّل الكون بغيره، ألا ترى إلى عمليات الخلق المتواصلة تحت أعيننا في عوالم النبات والحيوان والإنسان؟ فلا يمكن الشك في قوة الخلق. قلت لها: أريد علاقة حميمة واقتناعًا لا مفر منه مثل ١ + ١ = ٢. فقالت هدى: نحن نتكلم عن القلب كنبعٍ للإيمان، ولكن تذكَّرْ أن الله لم يعبده إلا الإنسان العاقل، فالعقل في الواقع هو أساس الإيمان، ولكن عجزه النسبي عن إدراكه — مع حرصه عليه — جعله يُرجع الإيمان به إلى عضو آخَر؛ هروبًا من التناقض. فقلت لها: لقد أدرك الإنسان الحياة والموت والخوف فافترض عقله فرضًا لينقذ الأمل، وحتى موسى نفسه أراد أن يرى الله! ••• عند ذاك سألته: ماذا عن إيمانك اليوم يا جعفر؟ فطوَّح برأسه إلى الوراء مُرسِلًا بصره الضعيف نحو جدول النجوم الجاري بين مئذنة الحسين من جهة وأسطح البيوت العتيقة من جهة أخرى وتمتم: إني عاجز عن الكفر بالله! ••• ثم واصل حديثه قائلًا: تقدَّمتُ في الدراسة، أحرزت النجاح بعد النجاح، اتسعت مداركي، تنوَّعتْ ثقافتي، أنجبت أربعة ذكور، عشت فترة تُعتبَر من أغنى وأسعد فترات حياتي. وكان محمد شكرون هو الذي يوصل النفقة الشرعية إلى أم مروانة، وعندما بلغ ابني الأكبر السن التي أستحقه فيها قررتُ أن أسترده، وخاطبتُ في ذلك هدى فلم تمانع، والحق يُقال، ولكن تبيَّن لي أن مروانة تزوجت، وأنها رحلت هي والأولاد إلى إحدى الواحات، بل قيل إنها رحلت إلى ليبيا، واشتد حزني طويلًا. ولم تهُن صداقتي بمحمد شكرون، كنا نصلي الجمعة معًا في جامع الحسين ثم نتناول الغداء في الحلمية، وقد اقتصر إسلام شكرون على صلاة الجمعة والامتناع عن الخمر في رمضان، وكان يؤكد لي أن الفنانين أمثاله سيُحاسبون حسابًا ملطفًا تراعى فيه ظروف حياتهم ومتطلبات مهنتهم، وكان نجاحه كمطرب من الدرجة الثانية قد تأكَّدَ، كما أن ألحانه الشعبية ذاعت وطُبعت في أسطوانات ناجحة، وقد انتقل هو وأسرته إلى روض الفرج ولكنه لم ينجب ذرية. وقد ظلَّ صديقي الوحيد حتى تعرفتُ على زملاء من خان جعفر ممَّن سبقوني في التعليم وعملوا محامين ومدرسين، وقد أفدتُ منهم في دراستي، ولم يقِفْ أثرهم عند هذا الحد كما سوف ترى. وسعدت بالأبناء أكثر من أي شيء آخَر، كانوا آيات في الجمال والصحة والنضارة، وكان البكري صورة طبق الأصل من جده الراوي. أما جدي نفسه فما عرفت عنه إلا اليسير مما كان يبلغني عن طريق محمد شكرون. طعن الشيخ في السن، اعتكف في بيته بصفة شبه دائمة عدا الخروج لصلاة الجمعة، وخصَّص ليلة واحدة لاستقبال الأصدقاء والمريدين، وأحيانًا تستغرقه الشيخوخة فيُخيَّل إلى من يعاشره أنه نسي همومه الماضية والراهنة، فبتُّ أشك في أن أبقى مجرَّد ذكرى في روحه. وتتابع النجاح والتفوُّق والسنون حتى نلتُ درجة الليسانس في الحقوق. وأتمَّتْ هدى نعمتها عليَّ ففتحتْ لي مكتبًا للمحاماة في ميدان باب الخلق، وأثثته بمكتبة غنية وحجرة استقبال فاخرة، لا يوجدان عادة إلا في مكاتب كبار المحامين! هكذا بدأتُ مرحلة جديدة من الحياة. كان وكيل المكتب هو محور النشاط فيه، فهو سمسار قضايا صغيرة تليق بمحامٍ مبتدئ، وأنا أعمل في الواقع كتابع له وفي نطاق نشاطه. ولكن مكتبي صار ملتقى للأصدقاء الذين اتخذتُ منهم مرشدين في دراستي القانونية، وكانوا في الأصل أقران طريق من بعيد، وفي ذلك الملتقى الدائم تم الغزو السياسي لروحي. أودُّ أن أقول لك إنني لم أكن مقطوع الصلة بالسياسة كما قد تظن، ففي بيت جدي كان يزوره فيمَن يزورونه قوم من رجال السياسة، وكانوا جميعًا ذوي طابع واحد، فهم يمجدون الصفوة التي يجب أن تحكم لخير الصفوة والرعاع والوطن. وكان الحديث يدور كثيرًا حول الدستور، لا باعتباره أساس الحكم للشعب، ولكن باعتباره وثيقة تمنحهم شرعية الحكم، وتؤكد ذاتهم في مواجهة الحاكم، وكان الميدان لا يشغله إلا الحاكم والصفوة. وكانوا يستحوذون على إعجابي بفخامة منظرهم وشواربهم الكثة ولحاهم المُهذَّبة، وكانوا يتحاورون بهدوء وتؤدة، ويتكلمون كثيرًا عن العلم والتعليم والبعثات وتجديد الفكر الديني، ولم يخفوا احتقارهم للغوغاء وحكم الغوغاء، وأكدوا على حاجة الشعب إلى التربية الطويلة والتوعية المتواصلة حتى يحق له قدر من المشاركة المتواضعة في الحياة السياسية. وسمعت جدي يتساءل مرة: إذن فالسياسة في نظركم مثل التصوُّف مضنون بها على غير أهلها؟ وجاء الجواب بالإيجاب، فتساءل جدي: ومَن يرعى مصالح الغوغاء؟ وكان الجواب: نحن أصحاب المصالح الحقيقية، فنحن أهل الزراعة والتجارة والصناعة، أما الغوغاء فحاجتها لا تعدو حرفة للرزق وبعض الخدمات. ومِلتُ في ذلك الوقت إلى الاقتناع بتلك النظرية، والتسليم بها كوسيلة ناجعة لانتظام الأمور، وحمدت الله على انتمائي في النهاية إلى الصفوة لا الغوغاء. وقد مرَّت بنا أيام مثيرة، تعالى فيها اسم الشعب حتى ملأ الفضاء، وتدفقَتْ أمواج المظاهرات من الغوغاء كالطوفان، فراقبتها من فوق السطح بذهول وسرور. بيد أنني لم أنفعل بالسياسة بقوة ملحوظة أبدًا، وآمنت بأنه يمكن أن أبلو الحياة حلوها ومُرَّها من غير أن أطرق للسياسة بابًا. ••• في مكتبي بميدان باب الخلق غزَتْني السياسة بعنف لأول مرة، وعلى غير توقُّع. اصطرعت في حجرة مكتبي أفكار الليبرالية والاشتراكية والشيوعية والفوضوية والسلفية الدينية والفاشستية، وجدتني في دوَّامة صاخبة دارَ بها رأسي، وعملًا بمبدئي في تقديس العقل، نزعتُ إليه أسأله الرشد وسط ذلك الطوفان. وذات يوم سألني الأستاذ «سعد كبير» ونحن بصدد استعراض المذاهب، وسوف أقتصر على ذكر اسمه لخطورة الدور الذي لعبه في حياتي، ولتفاهة أثر الآخَرين، سألني: ما أنت؟ فقلت بعد تردُّد: لا شيء. فقال بحنق وكان شديد الحساسية والعصبية رغم ذكائه وشمول ثقافته: إنه الموت. – ولكني دارس مجتهد ممَّن يُقدِّسون العقل. – وهل يتم للعقل مضمونه دون أن يُبدي رأيه في نظام الحكم البشري؟ – ولكن .. ولكن السياسية مصالح. – المصالح تهدي الرجل العادي إلى حزبه، ولكنَّ العقل يستطيع بنوره أن يميِّز بين الحق والباطل. فتساءلت مبتسمًا: أين تُوجِّهني مصالحي فيما تظن؟ – ولكنَّك بالعقل تستطيع أن تتجاوز موقفك. – على أي حال يجب أن أُعطَى مهلة أطول للتفكير. وأفضيتُ بهمومي إلى هُدى، باعتبارها الصديق الأول الذي لا أخفي عنه شيئًا، فقالت بلا تردُّد: ألاحظ أن السياسية مفسدة للعقل. فقلت لها وكأنما أعلن عما يضطرم في أعماقي: ذلك يتوقف على العقل نفسه. فقالت لي بإيمان: في السياسة يجد العقل نفسه في محنة. – ربما، ولكن لن يكون الحل في الهرب. الحق أن التفكير أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتي، وما سمعته في مكتبي قد تحدَّاني بعنف، فرُحتُ أتساءل عن معنى ذلك كله، ورغم عواطف الصداقة المتبادلة فإنني لم أشكَّ في أن بعضهم ينظر إلى «وضعي الطبقي» نظرة عدائية أصيلة، وبالتبعية جعلت — لأول مرة — أنظر إلى هذا الوضع باعتباره مثار نزاع سياسي اجتماعي، كأنما استيقظت فجأة لأجد نفسي مستلقيًا فوق فوهة بركان. أجل، فإنني بصفتي حفيد الراوي أنتمي إلى الطبقة الإقطاعية، وعليه فمصلحتي تتفق مع حكم الصفوة، ولعلها لا تتناقض بحدة مع السلفية الدينية، ولكني لا أتفق مع الليبرالية الشعبية، وأما الشيوعيون والاشتراكيون فهم أعدائي الطبيعيون، مثل عداوة القط والفأر، هكذا فكَّرتُ، ثم تساءلت هل يتيسر لي رغم ذلك أن أحكِّم العقل بنزاهة بين هذه المذاهب؟ أو تخونني العواطف فأستخدمه كعبد ذكي؟ بوسعي أن أوثر السلامة بتجنُّب السياسية ولكنني آمنت بأن ذلك لا يتفق بحال مع احترام العقل وتقديسه. السياسة هي الحياة. ولم ينقطع الحوار بيني وبين «سعد كبير» فقد وجدت في موقفه التحدي الحقيقي الذي يواجهني بكل صلابة. قلت له مرة: السياسة عالَم رحيب، مفاتنه مُوزَّعة على جميع المذاهب. فتقلَّص وجهه الأسمر، دقيق القسمات، وقال: مغفور لك تردُّدك، فلا بد للفكرة من مهلة حضانة. – صبرك، إني أجد في الصفوة نُبلًا وثقافة وعراقة تاريخية؟ – ممكن في نظام اجتماعي عادل أن يرتفع كافة الأفراد إلى مرتبة الصفوة. فتفكَّرتُ مليًّا ثم قلت: وفي الليبرالية حرية وقيم وحقوق للإنسان آية في الجمال؟ – استُغِلَّ ذلك كله لخدمة طبقة معينة. فقلت بالإخلاص نفسه: وفي الشيوعية عدالة كاملة تجد المذاهب البشرية في مناخها تفتحها وازدهارها. – لعلَّ هذا أقل ما يُقال فيها! – وفي الدين مزايا متوازنة لا تُعَدُّ ولا تُحصى. ففقد أعصابه هاتفًا: اللعنة! فقلت دون مبالاة بعصبيته: لا بد من الحقيقة ولو طال التخبُّط. وكانت هدى في الحقيقة ليبرالية أصيلة ترى في النظام الإنجليزي مثلها الأعلى، وكانت تتابع تأمُّلاتي باهتمام مشوب بالقلق حتى سألتها: لمَ تقلقين يا هدى؟ فقالت لي بصراحة: التفكير في السياسة قد يُتبَع بنشاط سياسي، وهو أمر لا يخلو من خطورة. فقلت لها متنهِّدًا: الأمان جميل ولكن في الحياة أشياء أهم من الأمان. – لذلك أشعر أحيانًا بأن بيتي السعيد أصبح مُهدَّدًا. فقبَّلتها وأنا أقول: كوني شجاعة كعهدي بكِ دائمًا. – أصبحت الموضة هذه الأيام أن يؤمن الشباب بالشيوعية. – ولكني أفكِّر يا عزيزتي، فلا تهمني الموضة بحال من الأحوال. وواليت الدراسة والتفكير. ••• وهنا قهقهَ عاليًا بصوت أزعج النائمين والهائمين في الحارة التاريخية، فسألته: ماذا يُضحكك؟ – سأعترف لك بسِرٍّ لم أبُحْ به لإنسان، ولا لزوجتي الصديقة. – حقًّا؟! – خطر لي ذات مرة أنه تُوجَد أوجُه شبَه بين حياة النبي وحياتي! وتريَّث قليلًا، ولكني لم أعلِّق، فواصل حديثه: فقد تُوفِّي والدي وأنا دون الوعي، وتُوفِّيَت أمي وأنا لم أكَدْ أجاوز الخامسة من عمري، فتكفَّلني جدي، ثم تصوَّرتُ خروجي من قصر جدي نوعًا من الهجرة. – ولكن النبي لم يهاجر من أجل المغامرة. – كلا .. كلا .. إنه تشابُه وليس تطابقًا، ثم جاء زواجي من سيدة ذات حسَب ونسَب تكبرني في العمر، وكيف وجدت في المناخ الذي هيَّأَتْه لي فرصة طيبة للدراسة والتفكير، تأملت ذلك فخطر لي أنني سأكون صاحب رسالة أيضًا. فتساءلت ضاحكًا: رسالة دينية؟ – لتكن رسالة من نوع جديد، ولكن سرعان ما فتنَتْني الفكرة، فبتُّ أسيرًا لها، وواليت الدراسة والتفكير. وكنت أحذِّر نفسي دائمًا من خدع الغرائز والعواطف لأنقِّي تفكيري من كلِّ شائبة. ووصلتُ إلى أولى النتائج، وهي أن نظامنا الاجتماعي غير معقول، ظالم، وأنه مسئول عن أدوائنا من الفقر والجهل والمرض، وأنني لستُ من الصفوة كما توهَّمتُ كثيرًا، ولكنني فرد من عصابة، واحتجَّتْ هدى على هذا الوصف، ونوَّهَتْ بشرف أجدادها، ولكنني أخذتُ في تحليل أسباب الثراء من الهِبات والانتهازية والاستغلال والعسف والقوة حتى اقتنعَتْ بأنه لا يوجد ثراء مشروع بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. وشجَّعني سعد كبير قائلًا: هذا اتجاه طيب يَعِد بخاتمة طيبة، ولكن عليك أن تبدأ بالمادية الجدلية والمادية التاريخية. فقلت بثقة: إني أقف موقفًا واحدًا من جميع الفلسفات، والفلسفة الماركسية ليست إلا فلسفة من الفلسفات، فلماذا تتحوَّل إلى عقيدة، ولماذا تفرض نفسها بالقوة والدكتاتورية؟ – ليست فلسفة من الفلسفات، ولكنها أُنزِلَت من سماء التأمُّل النظري لتُطبَّق على حياة الناس، ولتعطي للبشرية أملًا جديدًا، فهي تستحق أن تكون عقيدة. فقلت مُتملمِلًا: الجزم بالمادية ليس أقوى في شرعة العقل من الجزم بالله. فقال بازدراء: ما زلتَ مثاليًّا. فهتفتُ بغضب: لا ترمِ بالصفات الغريبة والتزم بالمناقشة الموضوعية. فرجع إلى الهدوء وقال: ادرس، يلزمك مزيد من الدراسة. فقلت: ولكنني غير مُقتنِع بالنظرية، على حين أنني أرى العدالة الاجتماعية بديهية لا تحتاج إلى نظرية. وانقطعتُ زمنًا للدراسة والتفكير. وصار صدري معتركًا لصراعٍ كالجحيم. في ذلك الوقت لم أستمتع بصداقة زوجتي إلا قليلًا، ولم أهنأ بملاعبة أبنائي إلا خطفًا، ولاحَتْ لعيني فكرة الرسالة كقوةٍ واعدة ومسيطرة، ومتواضعة في الوقت نفسه؛ لأنني نذرتُ نفسي لإنقاذ البشرية في مصر فحسب! وكنت أفكِّر وأعاود التفكير، وأوجِّه إلى نفسي التحذير تلو التحذير من أن ينزلق تفكيري في مزالق العاطفة أو العقائد الموروثة. ولكي تتضح لي الأمور قرَّرتُ أن أسجِّل أفكاري على الورق. فسألته باهتمام: وفعلتَ؟ – نعم. – هل طبعتها في كتاب؟ – كلا، سبقَتْني الأحداث. – أتذكر خلاصتها؟ قال وهو يضحك: عرضت تاريخًا موجزًا للمذاهب السياسية والاجتماعية، من الإقطاع حتى الشيوعية، ثم عرضت مشروعي الذي يقوم على أسس ثلاثة: أساس فلسفي، مذهب اجتماعي، أسلوب في الحُكم، أما الأساس الفلسفي فمتروك لاجتهاد المريد، له أن يعتنق المادية أو الروحية أو حتى الصوفية، والأساس الاجتماعي شيوعي في جوهره، يقوم على الملكية العامة، وإلغاء الملكية الخاصة والتوريث، والمساواة الكاملة، وإلغاء أي نوع للاستغلال، وأن يكون مثَلُه الأعلى في التعامل «من كلٍّ على قَدْر طاقته، ولكلٍّ على قَدْر حاجته»، أما أسلوب الحكم فديمقراطي يقوم على تعدُّد الأحزاب وفصل السلطات وضمان كافة الحريات — عدا حرية الملكية — والقيم الإنسانية، وبصفة عامة يمكن أن تقول إن نظامي هو الوريث الشرعي للإسلام والثورة الفرنسية والثورة الشيوعية. وأعطيت نسخة من المخطوط للأستاذ سعد كبير وأنا أقول: هاك رأيي. فتناوله بدهشة وهو يتمتم: حقًّا؟! فقلت بإصرار: ولن تخيفني نُعُوتك المشهورة، برجوازي .. تصالُحي .. تجميعي، فمن حقي أن أنشئ مذهبًا جديدًا إذا لم أقتنع بالمذاهب القائمة. فلاحَتْ في عينَيه نظرة ارتياب وقال: بشرط أن تُنشئ حقًّا لا أن تُلفِّق. فقلت غاضبًا: جميع المذاهب أخذٌ وعطاء. وقرأ سعد كبير المخطوط في مكتبي حتى فرغ منه في حوالي الساعتَين أو أكثر، ثم تنهَّد طويلًا وتمتم: لا فائدة! فانتظرتُ متوثِّبًا فعاد يتمتم وكأنما يحادث نفسه: سمك لبن تمر هندي! فقلت له: أفصِح. فقال بعصبية: تلفيق .. أحلام يقظة .. خيال .. تجميع ما لا يجتمع .. لا شيء. – أهذا هو رأيك النهائي؟ – ماذا تتوقع؟ – أتوقع أن تقتنع برأيي. – ثم ماذا؟ – ثم نكوِّن جمعية .. هيئة .. حزبًا. فضحك ضحكة باردة وتمتم: يا للخسارة! فقلت محتدًّا: إنكم مسلوبو الإرادة والتفكير! فقال بجدية تامة: أنت تعلم على الأقل أننا جادُّون، وأننا نحمل رءوسنا على أكُفِّنا، وأننا نؤمن بالإنسان! – إني أومن بالإنسان أكثر منك، لا أصدِّق أن مؤمنًا حقًّا بالإنسان يمكن أن يقتنع بنظام دكتاتوري، وإني جادٌّ أيضًا، وعلى استعداد لحمل رأسي على كفي. – ماذا تنوي أن تفعل؟ – سأكوِّن جمعية أو حزبًا. وقام سعد كبير وهو يقول بفتور: لنا رجعة ورجعة ورجعة. وقبل أن أشرع في الدعوة إلى تكوين الجمعية شاورت زوجتي في الأمر، فانزعجَتْ جدًّا، وكانت قد قرأت المخطوط بعناية، وقالت: إنك قانوني، وتعلم أن دستور البلاد يعتبر الشيوعية جريمة. فقلت: الشيوعية شيء ومذهبي شيء آخَر. – إنك تدعو إلى نظام اجتماعي شيوعي وهذا هو ما يهم القانون وواضعيه. – يمكن أن أغيِّر صياغة البند الثاني؛ فإني أجد مثلًا أن كلمة الاشتراكية مقبولة، ثم إنني مؤمن بالله رغم أنني لا أريد فرض الإيمان على أحد، وأخيرًا فإنني مستمسك بالنظام الديمقراطي كما يُمارَس في الغرب، ألا يُبعِد كلُّ ذلك الشبهة عني؟ – لا أظن يا عزيزي، فإني أراك في الواقع شيوعيًّا قُحًّا في الأمر الجوهري الذي يهم مَن يملكون ومَن لا يملكون. – المسألة أنكِ يا هدى لا تؤمنين بي. – إني ديمقراطية، وأرى الديمقراطية نظامًا لا ينقصه كي يبلغ الكمال إلا الرعاية الإنسانية لجماهير الشعب! وأنه لا يداخلني شكٌّ في أن المواطن الإنجليزي مثلًا يتمتع بحياة أفضل من المواطن الروسي. – أما أنا فلا أشاركك الإيمان بذلك. فقالت بشيء من الاستياء: حسن، طالما اتفقنا في كل شيء، والآن آنَ لنا أن نختلف! وكان سعد كبير يحاول من ناحيته إقناعها بالماركسية. كان الأصدقاء يتناولون العشاء كثيرًا على مائدتنا، ودعوت محمد شكرون معهم، ولكنه لم يرتح إلى صحبتهم وتلقَّى مناقشاتهم بالتثاؤب. وأظن أنه يجب أن تعرف شيئًا أكثر عن سعد كبير، لقد كان أحد الأصدقاء الذين يجتمعون في مكتبي للمناقشة، يُمثِّلون في مجموعهم جميع المذاهب، حتى المذهب الإقطاعي البائد، ولكنه كان أشدهم حماسًا وتفاعُلًا مع مصيري، كان محاميًا مبشِّرًا، راسخًا في مادته، ذا ثقافة واسعة، ومقدرة في الجدل والمحاضرة، وكان ذا طبيعة حادة متماسكة، شديد اليقين بما يؤمن لحدِّ التعصُّب الأعمى، من الذين يعملون بكل قواهم في اتجاه واحد، ولا يتوانى عن تحطيم خصمه بكل الوسائل البلاغية والمناورات الغريبة التي تثير ثائرة مَن يحترم العقل ويُقدِّسه مثلي. وقد لمحتُ في عينَي هدى إعجابًا به واستسلامًا لجدله الحماسي العنيف. وذات يوم قال لي محمد شكرون: أصحابك لا يُعجبونني. فقلت له متودِّدًا: ولكنهم طيبون. فقال بفتور: ربما، لكن المدعو سعد كبير ليس بالطيب. – ولكنه رجل ممتاز بكل معنى الكلمة. – ربما .. لكنه أذكى مما يجب. فضحكت مؤمنًا بقوله، فعاد يقول: لا تفتح بيتك لكل مَن هبَّ ودبَّ. فآنستُ من صوته ما يشبه الاحتجاج أو التحذير، فاشتعل وجداني وسألته: ماذا تعني يا شكرون؟ فقال متهرِّبًا: المسألة أنني لا أرتاح إليه. فقلت بحدة شديدة: أفصِح! – إنه من النوع المُعتَدِّ بنفسه، ولكنه ليس أهلًا للثقة. – إنك تقصد أشياء أكثر من ذلك. – أبدًا، وأقسم على ذلك برأس الحسين! بعد ذلك الحوار لم أرجع إلى طمأنينتي السابقة، وجعلتُ أراقب ما يدور حولي بدقة وسوء ظن، وفي الوقت نفسه أبَتْ عليَّ كرامتي أن أغيِّر من نظام الأشياء، ولو بدرَ مني أمر كهذا لأغضبتُ بلا شك سيدة أبيَّة مثل هدى، ولسقطتُ في نظرها، ولكني جعلتُ أراقب وأحترق من شدة الانتباه والقلق، كان ينهمك في الحديث معها، فتنهمك معه، ووضح لي أن أسلوبه في الحوار يُعجبها ويبعث فيها حيوية دافقة، وأنها تبدو في شوق دائم إلى المزيد منه. وقلت لها في أعقاب سهرة: لن أدهش إذا اعترفتِ لي فجأةً بأنك شيوعية! فابتسمت متسائلة: أغرَّكَ إقبالي على حديثه؟ – وتأثُّركِ به. – إنه شخص ممتاز ولذلك فإنني أرثي له! كانت هدى في ذلك الوقت في الخمسين أو جاوزَتْها بقليل، وكان سعد كبير في الثلاثين، ولم يكن بقي في قلبي لها إلا صداقة عميقة، ورغم ذلك ركبني الهم، ورحتُ أتساءل عما عناه محمد شكرون، هل رأى أكثر مما رأيتُ، هل كتم عليَّ أشياء، هل تُعاني هدى أزمة من أزمات الشيخوخة؟ ولكنها كانت وما زالت مثالًا للعقل والرزانة، ولم أعثر من ناحيته على إشارة واحدة تستحق الريبة، لا إشارة ولا حركة ولا كلمة، ورغم ذلك كله اهتزَّ عقلي المقدَّس، وسقطتُ فريسة لانفعالات مُبهَمة. ثم اجتاحَتْني المأساة، كأنها زلزال، غير مسبوقة بأسباب واضحة. ••• وصمتَ مليًّا فتساءلت: المأساة؟ فضحك ولم ينبس، فعدتُ أتساءل: المأساة … ماذا قلت؟ – وقعت المأساة وأنا أتأهَّب لتكوين الحزب. – ثم ماذا؟ – وأتهيَّأُ لخوض غمار المعركة مُتحدِّيًا اليسار واليمين معًا. وواصل حديثه مُتنهِّدًا: كنا مجتمعين في مكتبي أنا وسعد كبير مُنفردَين، وجرى الحديث، حادًّا من ناحيته كالعادة، وحادًّا من ناحيتي على غير العادة. قال ثائرًا: إنك تتوهَّم أنك صاحب مذهب ميتافيزيقي اجتماعي سياسي، إن أي مذهب خليق بأن يستغرق عمرًا كاملًا في تكوينه، ولكن القارئ يطَّلع على المذاهب كلها في عام أو عامَين، وقد يتراءى له أن يقوم بعملية انتخاب من المذاهب، يظنُّها تفكيرًا، وهي ليست إلا عملية انتخاب للجمع بين متناقضات يستطيعها أيُّ مخلوق، ويمكن بهذه الطريقة أن يكون لدينا مذاهب بعددِ غيرِ الأُمِّيِّين في العالَم! وصِحتُ به على غير توقُّع منه: وَقِح .. قليل الأدب! نظرَ إلى بذهول وتمتم: ماذا؟ فصِحتُ بإصرار: وَقِح .. قليل الأدب! فتساءل بحنق: أنسيتَ أنك تخاطب أستاذك؟! وثبتُ عليه. لطمته، لكمني، اشتبكنا في صراع مخيف، لم يُوجَد مَن يُخلِّص بيننا، كنتُ أقوى منه وكان أكثر شبابًا، ولما بدأتُ ألهث تناولت قطَّاعة الورق … ••• وصمتَ مليًّا. ورحتُ أتخيَّل المنظر. ثم واصلَ حديثه: صورة وجهه لا يمكن أن تُنسى، أعني بعد أن غرزتُ النصل الحادَّ في عنقه، وجهه وهو ينطفئ هابطًا إلى قرارة الظلمة، وهو يتخلَّى عن المعركة ويستسلم للمجهول، وهو يتخلَّى عن الجدل والذكاء والمجد وكل شيء. هتفتُ: قتلتَ يا جعفر؟ – أصبح جعفر الراوي قاتلًا. – يا للخسارة! – وقفتُ أتأمَّل جثته الملقاة بين المكتب والكنبة الجلدية في ذهول بارد سرمدي، وأنا أشعر بأنني تخفَّفتُ دفعة واحدة من كافة أعباء الحياة وانفعالاتها، ثم غصت فجأةً إلى أعماق دنيا العِلم فرأيتُ من كوة في جدارها المتهافت شبح المأساة وهو يجري بعيدًا عني، في كونٍ آخَر مضاد لا تربطني به صلة بشرية، وسمعتُ صوتًا، لعله صوتي أو صوت آخَر يهتف مذبوحًا: «یا عقلي المقدَّس، لماذا تخلَّيْتَ عني؟» – يا للخسارة! – من رئاسة حزب إلى التأبيدة! وبعد صمت ثقيل قصير سألته: أكان للقتل ما يُبرِّره؟ – من ناحيةٍ، فللقتل ما يُبرِّره دائمًا، ومن ناحية أخرى فلا شيء يمكن أن يُبرِّر القتل. – أعني هل وجدتَ في شكوكك ما يُبرِّر القتل؟ – لا شيء البتة، صدِّقني، وجاء انهيار زوجتي حزنًا عليَّ مؤكِّدًا لحماقتي، كأن المأساة قد وقعَتْ لتسخر من عابد العقل ومُقدِّسه، هذا كلُّ ما هنالك. – وهل ورد في المحكمة ذِكرٌ لشكوكك؟ – كلا، أبيتُ ذلك كلَّ الإباء، فصُوِّرَ الموضوع في المحكمة باعتباره نزاعًا بين شيوعِيَّين أدَّى إلى القتل .. وكنت في السجن أصرُّ على اعتباري مجرمًا سياسيًّا، ولكني اعتُبِرتُ مجرَّد قاتل، وحتى اليوم فإني مُصِرٌّ على أني مجرم سیاسي، ما رأيك؟ – لعلك مجرم نصف سياسي! – ولكن لولا السياسة لما وقعَتِ الجريمة أصلًا. – ربما .. ولكن ماذا كان موقف جدك؟ – قبيل الحادث بأيام جاءني محمد شكرون وأخبرني أن جدي مريض جدًّا، واقترح عليَّ أن أزوره مُصطحِبًا زوجي وأبنائي، شاورتُ هدى في الأمر فرحَّبَتْ به جدًّا، وأجَّلتُ الزيارة ليوم الجمعة ولكن الجريمة وقعَتْ مساء الخميس، ولم يَصِلني من ناحيته رسول أو رسالة، ولا عرفت حتى إن كان علم بجريمتي. المهم أني طالبت في السجن باعتباري مجرمًا سياسيًّا، رغم أنه لا توجد تفرقة في المعاملة بين المجرم السياسي والمجرم العادي، واشتُهِرتُ بذلك، فصرتُ به دعابةً، واعتُبر أحيانًا شغبًا تعرَّضتُ بسببه لعقوبة الجلد، وقد زارَتْني هدى مرةً واحدة. فتساءلتُ باهتمام: هل انقطعَتْ بعد ذلك؟ – انتقلَتْ إلى جوار ربها! ثم واصل: حزنت جدًّا، وقلقتُ على الأبناء جدًّا، ثم أخبرني شكرون أن عمة والدتهم تكفَّلتْ بهم وأنهم سافروا إليها في المنيا ليبقوا تحت رعايتها، ولا شك أنهم نسوني سريعًا كما نسيتُ أمي في مثل سنِّ أكبرهم، وفي زيارة تالية أخبرني محمد شكرون أنه سيقوم برحلة فنية في شمال أفريقيا، فانقطعَتْ أخباره عني حتى اليوم، مات جعفر الراوي، ومات العالم الخارجي. واصلتُ الجهاد في السجن داعيًا إلى مذهبي الجديد، فاصطدمتُ بجهل وسلبية وسخرية، حتى مأمور السجن دعوتُه، وكان يعطف على أصلي ومهنتي وسوء حظي. وفي السجن ضعف بصري، وأُصِبتُ بأمراضٍ شتَّى، وخرجت وحالي كما تراني أمامك. خرجتُ وحالي كما تراني أمامك، خرابة من الخرابات. عجوز مريض، نصف أعمى يحمل حفنة من الذكريات لا تُصدَّق. ولكني لم أفقد صفاء الذهن ولا قوة الإصرار، ولم ينطفئ في قلبي سحر الآراء. وقلت لو أعثر على محمد شكرون فقد أجدُ فيه الخيط الذي يوصلني إلى قلب الأشياء، ولكني لم أعثُرْ له على أثَر، ولم أصادف أحدًا يعرفه، وكأنه لم يُطرِب بصوته جيلًا من الناس، وفي معهد الموسيقى الشرقي أخبرني أحدهم بأنه — محمد شكرون — أقام في المغرب ثم انقطعَتْ أخباره. وذهبتُ إلى قصر الحلمية، فوجدت مكانه عمارة شاهقة تملكها شركة تأمين، وكنت قد ورثتُ عن زوجتي مبلغًا محترمًا من النقود، أنفقتُ أكثره في السجن في شراء السجائر وخلافه، ولم يكَدْ يبقى منه شيء ذو بالٍ. وذهبت أيضًا إلى عشش الترجمان، ولكني لم أجِدْ لها أثرًا، لقد اجتاحها العمران، فتحوَّلتْ إلى حي وبستان ومحطة بنزين. وعثرتُ على زملاء غير قليلين، بعضهم على المعاش، وبعضهم ما زال يعمل في المحاماة، وأصارحك بأنه لم يتهرَّب مني أحد، واستقبلني بعضهم بحرارة، منهم مَن لا يزالون على حماسهم الأول لعقائدهم، ومنهم مَن شغلته الحياة ومطالبها. ولكن أين أبناء مروانة وأين أبناء هدى؟ وقررتُ أنه لا خير يُرجى من الاهتداء إليهم، وأنني يجب أن أتركهم دون إزعاج، ويطيب لي أحيانًا أن أتخيَّل حيواتهم وحياة أحفادي منهم، أجل يُوجَد بينهم الآن قُطَّاع طرق، وقضاة، ولعلهم أكثر مما أتصوَّر، ولعلي أصادفهم في تخبُّطي فلا أعرفهم ولا يعرفونني. ولما فرغتُ من هذه الأمور العاجلة فكَّرتُ في إمكان استئناف الجهاد في سبيل مذهبي، وتكوين الحزب، غير أنني اصطدمت بعقبات ليس من اليسير تذليلها، منها سِنِّي الطاعنة وضعفي الشديد، وسحنتي التي أصبحَتْ تثير الرثاء، بل وأحيانًا الاشمئزاز. إن الزعيم كما تعلم يجب أن يحوز شخصية ذات قوة وجاذبية معًا، فضلًا عن ذلك فإن ميدان السياسة حافل بالشخصيات ذوات الحيوية والتأثير، فقلت أسجِّل نظريتي في كتاب فإن أعجزني ذلك، ولا بد أن يُعجزني، فإنني سأدعو إليها حيثما أسير، وقد يتبنَّاها عني شخصٌ أقدَرُ على نشرها وتحقيقها مني. عند ذاك بدا لي أنه لم يبقَ لي إلا الراحة القهرية القصيرة التي تسبق الراحة الأبدية. ••• ولاذ بالصمت مليًّا ثم تمتمَ بهدوء: طالَعَني من الماضي وجه الراوي. هممتُ بالحديث ولكنه بادَرَني قائلًا: لم أكن أشكُّ في وفاته، ولكن ما مآل ثروته وقصره؟ .. ووقفتُ تحت سور القصر الشاهق وهو قائم كالجبل، وتسللتُ إلى العطفة نحو الباب الكبير، فأدهشني أن أجده مواربًا! وصمتَ لحظات ثم قال: دفعتُ الباب قليلًا ودخلت فرأيت منظرًا لم أتوقَّعْه، لم أتصوَّرْه، لم يجرِ لي في خاطر، لا الحديقة هناك ولا السلاملك، لا أخلاط العبير، ولا زقزقة العصافير، ولكن خرابة مترامية، وأكوام من النفايات، ونفر من الصعاليك! فهتفتُ مستغربًا: كيف … هل هُدم؟ – لا شيء إلا الخراب يحيط به جدار شاهق وباب عظيم، ونظر إليَّ الصعاليك بحذر وارتياب، فضربت الأرض بقدمي، ورحتُ أبحث عن أحدٍ حيٍّ من مريدي جدي، وفي أثناء بحثي وتجوالي علمتُ أن الراوي توفي بعد سجني بعام واحد، وبأنه أوقفَ ثروته كلها على الخيرات دون أن يُخصِّص لي مليمًا واحدًا، ولا لأحد من ذريتي، أما القصر فقد أُلقِيَتْ عليه قنبلة في إحدى الغارات الجوية، ثم أُزيلَتْ أنقاضه، هذه هي القصة كلها من أولها لآخِرها، وأدركتُ في الحال أنني لن أظفر براحة في الراحة القهرية القصيرة التي تسبق الراحة الأبدية، ولكنني قررتُ أن أجعل بيتي في الخرابة المتخلفة عن قصر جدي، وأني أنام فيها عادةً ما بين الفجر والضحى كصعلوك من الصعاليك. وضحكَ ضحكة قصيرة ثم سكت وهو ينفخ، فقلت برثاء: شيخوخة غير سعيدة! فهتفَ بكبرياء: كلا، إني أرفض الرثاء والعطف، تذكَّرْ دائمًا أنك تخاطب عظيمًا من الرجال، ومن أسباب عظمته السحرية أنه قادر على التكيُّف مع أقسى الظروف والأحوال، فيخوضها بكل تعالٍ وابتسام! وآمنتُ بقوله، ولكنني قلت: على أيِّ حال، فإن الإعانة الشهرية التي … فقاطَعَني بحدة: لقد اتخذتُ فيها قرارًا! – لم أظنك جادًّا فيما قرَّرتَ. – ولكني جادٌّ كلَّ الجد! – أتعني أنك لن تكتب الالتماس؟ – قطعًا. – ولكنه الجنون عينه! – سَمِّه كما تشاء، لقد حرمَني الراوي من تركته، وإني أرفض أن أتسوَّل منها مليمًا واحدًا! – ولكنك يا جعفر عجوز وضعيف، وفقير، وسرعان ما تنفد النقود المتبقية لديك. – أعرف هذا حرفًا حرفًا ولكني أعنَدُ من الراوي نفسه. – دعني أكتب الالتماس بنفسي. – إني أرفض. – ولكن … – إني أرفض الكلام حول هذا الموضوع! وساد الصمت، وكان التعب قد نالَ منه مُحدِّثًا، كما نال مني مُستمِعًا. وتثاءبتُ، فضحك قائلًا: إني لا أتثاءب قبل الفجر. فتمتمت بفتور: عفارم. – إني صعلوك مُتجوِّل، أغادر خرابة الراوي لأهيم على وجهي في الطرقات، من مرجوش إلى الخرنفش إلى النحاسين إلى خان جعفر، في كل مكان لي ذكرى ونجوى، وفي الحلمية ذكريات، وفي ميدان باب الخلق يخفق قلبي، وفي كل مكان أدعو دعوة صريحة إلى مذهبي، أدعو البشرية إلى إنقاذ نفسها. – مذهبك؟ – أجل. – علانية؟! – أجل. – يجب أن تحذر المتاعب. – إني لا أخشى المتاعب. وقلت لنفسي إن هيئته لا توحي بأي جدية فلا خوف عليه. واستنمنا إلى الصمت مُرهقَين. وفي لحظة من التخدير والأسى انطلقَ صوت المؤذن يعانق أمواج الظلام. وتمطَّى جعفر قائلًا بصوته الرنان الخشن: آنَ لنا أن نذهب. سِرنا جنبًا إلى جنب، اخترقنا القبو إلى الميدان، وهمس جعفر: لتمتلئ الحياة بالجنون المقدَّس حتى النفَس الأخير. وكان رأسي يطن بحديث الليل الطويل.
نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان. نجيب محفوظ: رائدُ الرواية العربية، والحائزُ على أعلى جائزةٍ أدبية في العالَم. وُلِد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في حي الجمالية بالقاهرة، لعائلةٍ من الطبقة المتوسطة، وكان والده موظفًا حكوميًّا، وقد اختار له اسمَ الطبيب الذي أشرَف على وِلادته، وهو الدكتور «نجيب محفوظ باشا»، ليصبح اسمُه مُركَّبًا «نجيب محفوظ». أُرسِل إلى الكُتَّاب في سنٍّ صغيرة، ثم الْتَحق بالمدرسة الابتدائية، وأثناء ذلك تعرَّف على مغامرات «بن جونسون» التي استعارها من زميله لقراءتها، لتكونَ أولَ تجرِبة ﻟ «محفوظ» في عالَم القراءة. كما عاصَر ثورة ١٩١٩م وهو في سنِّ الثامنة، وقد تركَت في نفسه أثرًا عميقًا ظهر بعد ذلك في أعماله الروائية. بعد انتهاء المرحلة الثانوية، قرَّر «محفوظ» دراسةَ الفلسفة فالْتَحق بالجامعة المصرية، وهناك الْتَقى بعميد الأدب العربي «طه حسين» ليُخبِره برغبته في دراسةِ أصل الوجود. وفي هذه المرحلة زاد شغَفُه بالقراءة، وشغلَته أفكارُ الفلاسفة التي كان لها أكبرُ الأثر في طريقة تفكيره، كما تعرَّف على مجدِّد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث «مصطفى عبد الرازق»، وتعلَّم منه الكثير. بعد تخرُّجه من الجامعة عمل موظفًا إداريًّا بها لمدة عام، ثم شغل العديدَ من الوظائف الحكومية مثل عمله سكرتيرًا في وزارة الأوقاف، كما تولَّى عدةَ مناصب أخرى، منها: رئيس جهاز الرقابة بوزارة الإرشاد، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة دعم السينما، ومستشار وزارة الثقافة. كان «محفوظ» ينوي استكمالَ الدراسة الأكاديمية والاستعداد لنيلِ درجة الماجستير في الفلسفة عن موضوع «الجَمال في الفلسفة الإسلامية»، ولكنه خاضَ صِراعًا مع نفسه بين عِشقه للفلسفة من ناحية، وعِشقه للحكايات والأدب الذي بدأ منذ صِغَره من ناحيةٍ أخرى، وأنهى هذا الصراعَ الداخلي لصالح الأدب؛ إذ رأى أنه يُمكِن تقديمُ الفلسفة من خلال الأدب. بدأ «محفوظ» يَتلمَّس خطواتِه الأولى في عالَم الأدب من خلال كتابة القصص، فنشَر ثمانين قصةً من دون أجر. وفي عام ١٩٣٩م خرجت إلى النور أولى تجاربه الإبداعية؛ رواية «عبث الأقدار»، ليواصل بعدَها كتابة الرواية والقصة القصيرة بجانب المسرحية، فضلًا عن المقالات الصحفية، وسيناريوهات بعض أفلام السينما المصرية. مرَّت التجرِبة الروائية لدى «محفوظ» بعِدةِ مراحلَ بدأت بالمرحلة التاريخية التي عاد فيها إلى التاريخ المصري القديم، وأصدر ثُلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طِيبة». ثم المرحلة الواقعية التي بدأت عام ١٩٤٥م، تزامُنًا مع الحرب العالمية الثانية؛ حيث اقترب في هذه المرحلة من الواقع والمجتمع، فأصدر رواياته الواقعية مثل «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي»، ليصل إلى ذُروة الإبداع الروائي مع الثلاثية الشهيرة: «بين القصرَين» و«قصر الشوق» و«السُّكَّرية». ثم المرحلة الرمزية أو الفكرية، التي كان من أبرز أعمالها: «الطريق»، و«الشحَّاذ»، و«ثرثرة فوق النيل»، و«أولاد حارتنا» (التي أحدَثَت جدلًا واسعًا في الأوساط الدينية، ومُنِع نشرها لفترة). تعرَّض «محفوظ» عام ١٩٩٤ لمُحاوَلةِ اغتيالٍ نجا منها، لكنها أثَّرت على أعصابِ الطرف الأيمن العلوي من الرقبة، فأثَّر ذلك سلبًا على قُدْرته على الكتابة. حصل على العديد من الجوائز العالمية والمحلية، أبرزُها: «جائزة نوبل في الأدب» عام ١٩٨٨م، و«قلادة النيل» في العام نفسه. رحل أيقونة الأدب المصري والعربي «نجيب محفوظ» عن دُنيانا في ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦م، بعد حياةٍ حافلة بالإبداع والعطاء، قدَّمَ خلالَها الكثيرَ من الأعمال الأدبية القريبة من الإنسان والمحمَّلة بفلسفة الحياة، والتي تُعَد إرثًا عظيمًا يحتفي به كلُّ مصري، وكلُّ عربي، وكلُّ إنسان.
https://www.hindawi.org/books/85285919/
حفار ساق اللوزيات
مأمون عبد اللطيف الرحال
«بعد حوالي أربعة أيام من إكمالِ وضعِ البيوض تنتهي حياتي بعد أن أكون قد أدَّيت وظيفتي في إنتاج جيل يُتابع من بعدي.»أُحبُّ فصل الربيع، حيث الجو الدافئ والخُضرة المنتشرة في الحقول. أُحبُّ الطيران في البساتين مُتنقِّلًا بين أشجار اللَّوْزيات. يتَّهمني المزارعون بأنني أُسبِّب أضرارًا كبيرةً لأشجار اللَّوْزيات، ولكن هل تعرف لماذا؟ تعالَ معي لتعرف!
https://www.hindawi.org/books/85285919/1/
حفار ساق اللوزيات
في فصل الربيع، وتحديدًا في شهر أيار، حيث ترتفع درجة حرارة الجو المحيط، فينتشر الدفء، وتعم الخُضرة، وتتفتَّح البراعم فتكتسي الأشجار حُلَّتها الخضراء الجميلة من الأوراق الغضة الجديدة، تجدونني أطير في البساتين وسط هذه الخُضرة منتقلًا بين أشجار اللَّوزيات، أتغذَّى على براعمها الجديدة، وأوراقها الغضة الطرية، وعلى قلف الأغصان والفروع، تاركًا بها جروحًا، وحُفرًا، دالَّةً على آثار وجودي، مُسبِّبةً ضعف الشجرة، وفاسحةً المجال للبكتيريا والفطريات بمهاجمتها من خلال هذه الجروح. وما إن تصل درجة الحرارة اليومية إلى ٢٥ درجةً مئوية وما فوق، حتى أبدأ في وضع البيض في الأماكن المشمسة، والنظيفة، والدافئة، والجافة، على مسافة تتراوح بين ٣٠سم إلى ١٢٠سم من قاعدة جذع الشجرة، وعلى عمق من ٣ إلى ٢٠سم. أضع البيوض مباشرةً على سطح التربة في الأراضي الخفيفة، أمَّا في الأراضي المتوسِّطة القوام أو الثقيلة فأضعها في شقوق التربة، أو في البُقَع المحمية تحت الحجارة. وأتجنَّب وضع بيوضي في الأراضي الرطبة، أو تلك الملوَّثة بمساحيق المبيدات لضمان فقس البيوض وسلامة يرقاتي الفاقسة. بعد حوالي أربعة أيام من إكمال وضع البيوض تنتهي حياتي بعد أن أكون قد أدَّيت وظيفتي في إنتاج جيل يُتابع من بعدي. بيوضي ذات لون أبيض براق، وقشرة صلبة بيضاوية الشكل، يختلف حجمها حسب درجات الحرارة السائدة التي تُؤثِّر أيضًا على فترة حضانة البيضة، ويكون مُتوسِّط طولها ٣مم ومُتوسِّط عرضها ٢مم. تفقس بيوضي بعد أسبوع من وضعها، وقد تمتَد حتى الشهر، حيث تقل فترة الحضانة بارتفاع درجة الحرارة عن ٢٠ درجة مئوية، ولا تفقس البيوض في الأراضي العالية الرطوبة أو في درجات الحرارة دون ١٨ درجةً مئوية. تكون يرقاتي الفاقسة بطول نصف سم وتستمر في النمو والتطوُّر إلى نهاية مرحلة اليرقة ليصبح طولها ٨سم وعرض ١سم. بعد فقس البيوض تتحرَّك اليرقات باتجاه جذور الشجرة معتمدةً على تقلُّص عضلات جسمها، وتصل إلى داخل الجذر خلال ثلاثة أيام مُحدِثةً الإصابة، وإذا لم تصِل خلال هذه المدَّة تموت اليرقات جوعًا. وبعد وصولها تبدأ بحفر الأنفاق مُؤدِّيةً إلى تدمير الأوعية الناقلة، تاركةً مُخلَّفاتها على شكل نشارة خشبية نتيجة تغذيتها على الأنسجة القشرية وتحت القشرية، مُسبِّبة ضررًا واضحًا على الأشجار المصابة نتيجة ضعف الشجرة، ومهاجمتها من قِبَل حشرات أخرى كسوس القلف، وتماوت الجذور، الأمر الذي يُؤدِّي إلى ضعف نمو الأفرع الحديثة، وصغر حجم الأوراق والثمار وتساقط جزء منها لعدم حصولها على احتياجها من الماء. يبدأ جفاف الأفرع من الأعلى إلى الأسفل، وتظهر الإفرازات الصمغية على الساق، والأفرع الرئيسية، وتُصبح القشرة في منطقة الإصابة سهلة النزع مع وجود نشارة مُتصلِّبة مختلطة مع مُخلَّفاتنا، وبالنهاية موت الشجرة بالكامل. ومن أهم ما يُميِّز الإصابة بنا موت الشجرة الفجائي وعليها الأوراق والثمار. يمكن ليرقة واحدة من يرقاتي أن تقتل شجرةً فتية بعمر سنة، ويمكن لعدة يرقات أن تُؤدِّي إلى موت شجرة كبيرة في غضون سنتَين. تُتابع اليرقات تغذيتها طيلة أشهر الصيف والخريف إلى أن يكتمل نموها فتتحوَّل إلى مرحلة العذراء، وتدخل في سُبات شتوي حتى الربيع القادم. تكون العذراء بلون رمادي أبيض، طولها ٣سم وعرضها ١سم تقريبًا. وفي الربيع القادم تخرج العذارى من شرانقها حشرات كاملةً فتية تغادر الجذور إلى جذع الشجرة لتتغذَّى على أوراقها وبراعمها وقشور الأغصان والفروع، وتُتابع دورة حياتها من جديد. تظهر الحشرات الكاملة في شهر أيار حيث تخرج لتتغذَّى على المجموع الخضري قبل التزاوج ووضع البيوض، فتُدمِّر أعناق الأوراق مؤديةً إلى تساقطها، وتقضي على البراعم ممَّا يُؤدِّي إلى ضعف وتشوُّه نمو الشجرة، كما تقضي على غراس التطعيم نتيجة تدمير البراعم في تلك الغراس. يتهمونني بأنني أُسبِّب أضرارًا كبيرة لأشجار اللوزيات، وفي حقيقة الأمر فإن الطور الضار لنا هو الطور اليرقي؛ أي عندما نكون يرقات تتغذَّى على الجذور وتُتلفها، حيث تبدأ الإصابة بمنطقة العنق الجذري فتحفر اليرقات أنفاقًا طويلة متداخلة ومملوءة بالنشارة في الجذور السطحية يصل طولها حتى نصف متر أحيانًا، ممَّا يُؤدِّي لضعف الشجرة ومهاجمتها من قِبَل حشرة سوس القلف وتماوت الجذور، وبالنهاية موت الشجرة بالكامل. تبدو بداية الإصابة ضعفًا بحجم وكمية الثمار، ثم قِصر الطرود، وتفشل الشجرة بالقدرة على إعطاء النموات الخضرية. وتنتشر الإصابة لتشمل الحقل بالكامل، وتنتقل إلى الحقول المجاورة نتيجة انتقالنا حيث نطير بين الأشجار والبساتين، من أجل ذلك لم يتركنا أصحاب البساتين وشأننا فتراهم يستعدُّون لمكافحتنا والقضاء علينا ما أمكنهم ذلك، باستخدام طُرق المكافحة المختلفة بدءًا من التخلُّص من الأشجار المصابة فيقتلعونها ويحرقونها ويُعقِّمون التربة مكانها ليتخلَّصوا من بيوضنا ويرقاتنا الحديثة الفقس، كما أنهم يلجئون إلى ري الأشجار بعمل الأحواض حولها وغمرها بالماء بهدف قتل اليرقات الحديثة ومنع بيوضنا من الفقس، إضافةً إلى أنهم يستخدمون مادة الفوستوكسين السامة في النفق الذي تحفره يرقاتنا ثم يُغلقونه؛ ممَّا يُؤدِّي إلى اختناق اليرقات بالغازات السامة المتصاعدة من هذه المادة. وعندما تخرج حشراتنا الكاملة في شهر أيار لتتغذَّى على المجموع الخضري قبل التزاوج ووضع البيوض، فإنهم يستقبلونها برشها بالمبيدات السامة، أو يجمعونها في الصباح الباكر ويتخلَّصون منها. ليس هذا فحسب، بل وفي كثير من الأحيان لا نتمكَّن من وضع بيوضنا في الأماكن المناسبة على جذع الشجرة نتيجة طلاء الساق بعجينة بوردو التي يصنعونها من مادة الكلس وكبريتات النحاس والشبَّة مضافًا إليها مبيد حشري مناسب للتخلُّص من بيوضنا ويرقاتنا. كما أنهم راحوا يستبدلون جذور أشجار اللوزيات التي تُحبُّها يرقاتنا للنمو داخلها ويستبدلونها بجذور اللوز المُر والمحلب، حيث تكون أصولًا قويةً مُقاومة تُطعَّم عليها أشجارهم. كل هذا وأكثر؛ فقد اعتبرونا من أخطر وأشد الآفات فتكًا بأشجار اللوزيات تصعب مقاومتنا إذا تقدَّمت بنا الإصابة وزادت أعداد يرقاتنا في جذور وجذوع الأشجار، وازدادت بالتالي أعدادنا في البساتين المجاورة. أنا حفَّار ساق اللوزيات، اسمي العلمي كابنودس، من فصيلة الناصعات، رتبة الخنافس، طائفة الحشرات، شعبة مفصليات الأرجل، وينتهي نسبي إلى مملكة الحيوان.
مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها.  بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية.  أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية. مأمون عبد اللطيف الرحال: كاتب ومهندس زراعي سوري، وُلد في عام ١٩٦٠م بقرية «سكوفيا» في القنيطرة بسوريا. تَلقَّى تعليمَه الأولي على يدِ أساتذةٍ مَهَرة من أبناء قريته، ثم أتمَّ تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدارس ريف مدينة دمشق، ولحبِّه بيئةَ قريته وولَعه الشديد بها وبجمالها الطبيعي أصرَّ أن يَتلقَّى تعليمه الجامعي بكلية الزراعة ليكون على اتصالٍ مع مكونات البيئة وعناصرها. بعد تخرُّجه في الجامعة، عمل «مأمون عبد اللطيف» في مجال الإرشاد الزراعي، وساهَم بشكلٍ كبير في تشجيع الفلاحين على زراعة الأشجار في الكثير من المناطق الخالية من الأشجار، وبعدها انتقل للعمل في وزارة الزراعة في مشروع استمطار الغيوم وحصادها، ثم سافَر إلى دولة الإمارات للعمل بها في المعاهد التعليمية الخاصة، وحينما عاد مرةً ثانية إلى سوريا عمل في التوثيق العلمي في وزارة الزراعة، وكان له إسهامٌ بارز في إنشاء مكتبة المركز الوطني للتوثيق الزراعي، وفي إنشاء وفهرسة وتصنيف وتوثيق مكتبة المركز الوطني للسياسات الزراعية، وإنشاء المكتبة المركزية في هيئة الأبحاث القومية، فضلًا عن وضعِ خطةٍ لإنشاء المكتبة المركزية في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي. إلى جانب هذا، شغل «مأمون عبد اللطيف الرحال» منصبَ مديرِ مكتب رئيس النادي العربي للمعلومات، ومديرِ المركز الوطني للمعلومات والتوثيق الزراعي، ورئيسِ قسم المعلومات والاتصالات في المركز الوطني للسياسات الزراعية، ورئيسِ قسم المكتبة والتوثيق والأرشفة في هيئة الأبحاث القومية. أما عن أعماله، فقد كتب «مأمون عبد اللطيف الرحال» العديدَ من المقالات التي نُشِرت في عددٍ من الدوريات العربية مثل: «المجلة العربية السعودية»، و«مجلة الكويت»، و«مجلة العربي الكويتية»، و«مجلة العربي الصغير للأطفال» وغيرها من المجلات الورقية والإلكترونية.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/0.1/
تصدير
تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك؛ أما أن يتغير العلم ثم يتشبث رجال الفلسفة بمنطق لا يسايره، فأمر لا بد أن ينتهي إلى الموقف الغريب الذي نراه اليوم، وهو أن يكون العلماء ببحوثهم الفعلية في وادٍ، ورجال الفلسفة الذين يزعمون أنهم يصوغون للعلم منطقه في وادٍ آخر، بحيث يصبح ما يسمونه في كتب المنطق «المنهج العلمي» شيئًا غريبًا على مسامع العلماء أنفسهم؛ فلا مندوحة لنا — إذا أردنا لأنفسنا وحدة ثقافية متَّسقة الجوانب — من أن نراجع وجهة نظرنا إلى مسائل المنطق ومناهج البحث، مراجعة تُوائم بينها وبين البحوث العلمية كما يجريها العلماء فعلًا في عصرنا الراهن. وهذا الكتاب الذي ننقله اليوم إلى اللغة العربية عن «جون ديوي» (١٨٥٩–١٩٥٢م) الذي أصدره عام ١٩٣٨م، وأسماه «المنطق – نظرية البحث» إنما يَعرض علينا منطقًا يُساير العلم في أوضاعه الراهنة، كما ساير المنطق الأرسطي أوضاع العلم في العصر اليوناني وفيما شابهه من العصور التالية. وكما تختلف النظرية المنطقية باختلاف الأساس الذي ينبني عليه العلم في عصر معين، كذلك تختلف باختلاف المذهب الفلسفي الذي يذهب إليه صاحب تلك النظرية؛ فقد يعيش في العصر العلمي الواحد أكثرُ من فيلسوف ينتمون إلى أكثر من مذهب فلسفي واحد، ومِن ثَم تراهم يختلفون في تحليل الأساس العلمي الذي يجعلونه هدفهم ومدار بحوثهم؛ ففي عصرنا هذا مثاليون وواقعيون وبراجماتيون ومنطقيون وضعيون، ولكل من هؤلاء وجهة للنظر تنعكس على النظرية المنطقية عنده؛ وهذا الكتاب الذي نقدمه اليوم مترجَمًا إلى العربية تعبير عن وجهة النظر البراجماتية؛ فعلى الرغم من أن كلمة «براجماتية» لم تَرِد بنصها في هذا الكتاب؛ إذ اجتنبها مؤلفه عمدًا على الرغم من أنه إمام البراجماتية في عصرنا، لأنها — كما يقول في مقدمة الكتاب — «ربما تكون مدارًا لسوء الفهم» إلا أن الكتاب — كما يقول المؤلف أيضًا في المقدمة — «براجماتي من أوله إلى آخره؛ إذا نظرنا إلى «البراجماتية» نظرة تُؤوِّلها تأويلًا سليمًا، وأَعني به أن تُستخدم النتائج على أنها اختبارات لا بد منها للدلالة على صدق القضايا، على شرط أن نتناول هذه النتائج من حيث هي عمليات يمكن إجراؤها، ومن حيث هي وسائل تؤدي إلى حل المشكلة الخاصة التي قد استدعت تلك الإجراءات». فقد كان أصحاب المذاهب الأخرى يبحثون عن «الحق» الثابت الذي لا يتغير مهما يكن زمانه ومكانه، فعارض «ديوي» هذا الاتجاه، جاعلًا «البحث» — بمعناه الاصطلاحي — لا «الحق الثابت» هو أساس العلم، وإذن فهو أساس المنطق. و«البحث» — بالمعنى الاصطلاحي — هو العمليات الموجهة التي يؤديها الإنسان ليحول موقفًا غير متعين إلى موقف متعين؛ ومعنى ذلك أن الإنسان لا يأخذ في التفكير إلا إذا صادف موقفًا فيه إشكال يُحدث التنافر بين عناصره، فيحاول أن يُدخل فيه من التغيير والتحوير ما يُزيل عنه ذلك التنافر، ويجعل منه موقفًا محدد المعالم موحد العناصر محلول الإشكال؛ وعلى هذا فليس من الفكر ما لا يبدأ بمشكلة معينة وينتهي بحلها. والكلام الذي يُقال دون أن يكون أداة نغير بها جوانب الموقف المشكِل تغييرًا يَفُضُّ إشكاله، لا يكون من المنطق في شيء. فالمحور الرئيسي لشتى المذاهب المنطقية الأخرى منذ أرسطو فنازلًا، هو التماس الشروط التي تجعل قضية ما صادقة؛ حتى لقد كانت تلك المذاهب المنطقية الأخرى تُعَرِّفُ القضية في المنطق بأنها ما يجوز وصفه بالصدق أو بالكذب، وأما العبارات التي لا يجوز وصفها بإحدى هاتين الصفتين — كالأمر والرجاء — فليست قضايا، ولا يكون للمنطق شأن بها. على أن «الصدق» المنشود لم يكن يُشترط فيه عند تلك المذاهب أن يكون متصلًا بالتطبيق العملي للعبارة التي نصفها بأنها صادقة، ولهذا كان من الجائز أن يتصور الإنسان بفكره البحت قضية، فيقبلها المنطق ما دامت صالحة لأن تُوصف بالصدق أو بالكذب، دون أن يسأل حيالها: أهي وسيلة لإحداث أثر عملي في الوجود الخارجي من شأنه أن يُزيل الإشكال عن موقف مشكِل؟ كلا، لم يكن المنطق التقليدي، بل لم يكن المنطق في كثير من مذاهبه المعاصرة، يجعل إمكان التطبيق العملي شرطًا لازمًا لقبول الفكرة المعينة على أنها قضية من قضاياه. وأما «ديوي» فلا يفتح بابه إلا للجملة التي تكون ذات مهمة أدائية تؤديها في عملية البحث، أي تؤديها بالتعاون مع غيرها في حل الإشكال الذي يكتنف الموقف المشكل الذي كان بادئ ذي بدء باعثًا للإنسان على التفكير؛ فالقضايا عنده «وسائل» نتوسل بها إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها — كالعُدَد والآلات وغيرها — لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل توصف بأنها مؤدية أو غير مؤدية، فكذلك لا تُوصف القضية في منطقه بأنها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدية إلى الغرض المقصود أو غير مؤدية إليه؛ فإذا كان الكلام غير ذي صفة أدائية عملية، فهو بالبداهة خارج عن مجال المنطق، وكذلك يخرج عن مجال المنطق — في رأيه — كل كلام طابعه الصدق الصوري وحده؛ فالأمر في أي كلام هو كالأمر في الخرائط الجغرافية؛ إذ لا تكون الخريطة جديرة باسمها إلا إذا صلحت أن توجِّه السائر في طريق من شأنه أن يؤدي به إلى غاية يريدها؛ أما إذا صور المصور خطوطًا هنا وخطوطًا هناك، تتخذ شكل الخريطة دون أن يكون لها جانب أدائي في توجيه الإنسان إزاء الرقعة المصورة، فذلك لا يكون من الخرائط الصحيحة في شيء؛ وهكذا قل في العبارات الكلامية العلمية أي في «القضايا» المنطقية؛ فلا يكفي أن نجدها متسقة بعضها مع بعض اتساقًا صوريًّا بحيث لا يَنقُض بعضها بعضًا، لكي نقول إنها «صادقة» منطقيًّا؛ بل لا بد أن ننظر إليها من حيث هي أدوات تقدم أو تَعوق السير بعملية البحث على نحو ينتهي بنا إلى حل نراه ناجعًا في فض الموقف المشكل المطروح للبحث؛ فالقياس الذي نقول فيه إن «كل توابع، الشمس مصنوعة من جبن أخضر، والقمر هو أحد تلك التوابع؛ إذن فهو مصنوع من جبن أخضر» قياس صحيح من الوجهة الصورية، غير أن القضايا الداخلة في تركيبه ليست مما يَقبله المنطق، لا لمجرد كونها «كاذبة من الناحية المادية»، بل لأنها بدل أن تدفع عملية البحث إلى الأمام نحو حل إشكال معين، تَعوقها وتُضللها. إنك لترى من المذاهب المنطقية ما يكفيه الصدق الصوري للفكرة العقلية، حتى لَيَقنَعُ بأن تكون الفكرة «واضحة بذاتها» — كما يقولون — بغض النظر عن الجانب الأدائي لهذه الفكرة: أهي أم ليست هي وسيلة عملية نحو حل إشكال معين؟ على حين أن نظرية «البحث» التي يَعرضها ديوي لا تجعل الفكرة فكرة على الإطلاق إلا إذا كان من شأنها أن تَهدي صاحبها إلى إحداث تغيير وتحويل في مادة الوجود الخارجي، تغييرًا وتحويلًا يحققان هدفًا مقصودًا. أما أن تنحصر العمليات الفكرية في الشخص العارف فلا تتناول إلا حالاته الداخلية، فذلك يُزيل عن تلك العمليات قوتها المنطقية، أو بعبارة أخرى فإنه يجعلها عمليات يُعوِزها المعنى؛ ولا عجب أن نرى النظرية التقليدية في المنطق — بصورتَيْها التجريبية والعقلية — تذهب إلى أن القضايا تُقرر أو تَصف أشياء كانت قائمة قبل صياغة تلك القضايا؛ وكل الاختلاف بين التجريبيين والعقليين في ذلك هو أن الأولين يجعلون تلك الأشياء السابقة على صياغة القضايا أشياء مادية في العالم الخارجي، على حين يجعلها الآخرون أشياء عقلية في العالم الذهني. ثم يتفق الفريقان بعد ذلك على أن القضية من القضايا تَصدق إذا جاءت مصورة تصويرًا صحيحًا لتلك الأشياء التي سبقت صياغتها؛ وبناءً على هذه الوجهة من النظر لا يكون للقضايا أي شأن بتغيير ما هو كائن، بل هي تقرر ما هنالك وكفى. لكن نظرية «البحث» التي يَعرضها ديوي في هذا الكتاب، تُصر على أن تكون القضايا — سواء قررت لنا عن وقائع الخارج أم عن تصورات الذهن — مراحل وسطى في سبيل السير من مشكلة قائمة إلى حلها، أي إنها أدوات وسليَّة من شأنها أن تُحقق لنا ما نستهدفه من تحول مقصود نريد له أن يَطرأ على مادة الموضوع الذي نبحثه، بحيث يُصيب هذه المادة من التحول ما يجعلها في صورة جديدة غير الصورة التي كانت لها أول الأمر، وهذه الصورة الجديدة للمادة تكون بمثابة الإجابة عن السؤال الذي طُرح في بداية البحث، أي بمثابة الحل للمشكلة التي أُثيرت بادئ ذي بدء. إنه لَيَجوز عند مذاهب المنطق الأخرى أن تَعزل جملة وحدها، كأن تقول — مثلًا — «هذه نار» ثم تزعم أنها قضية منطقية لأنها مما يصح أن يوصف بالصدق أو الكذب، وأما «ديوي» فلا يَفهم كيف يُمكن أن ننزع هذه الشريحة الواحدة عن جسمها، ثم ندَّعي أنها مكتفية بذاتها وقائمة وحدها، إنها — عنده — لا تكون «قضية» إلا بمقدار ما تؤدي إلى غيرها ثم إلى غيرها وهكذا حتى أنتهي آخر الأمر إلى «حكم» أخير يكون فيه حل للمشكلة التي أكون عندئذٍ بصدد معالجتها وحلها؛ فالقضية دائمًا خطوة وسطى، أو هي دائمًا «وسيلة» إلى ما بعدها، وما لا يَصلح أن يكون كذلك ليس هو من المنطق في شيء، بناءً على نظرية «البحث» التي يَعرضها. وهو لا يُحتِّم أن تكون القضية دائمًا ذات صلة مباشرة بالوجود الخارجي، ولا يعارض في أن ينشئ الإنسان في ذهنه ما شاء من تصورات عقلية مجردة؛ بل إنه لَيَشترط أن يكون هنالك الجانبان معًا؛ فقضايا تعبر عن التصورات الذهنية المجردة، وأخرى تصف الوقائع الخارجية؛ وفي الحالة الأولى تكون الصلة بين مجموعة القضايا المتصلة بالموضوع الواحد هي صلة الاستنباط الذي يجعل إحداها نتيجة تَلزم بالضرورة عن الأخرى؛ وفي الحالة الثانية تكون الصلة بين مجموعة القضايا المتصلة بالموضوع الواحد هي صلة التعاون معًا على تكوين حكم واحد؛ وهو يُسمِّي القضايا في الحالة الأولى «سلسلة» لأنها تتسلسل واحدة من أخرى، ويُسمِّي القضايا في الحالة الثانية «مجموعة» لأنه لا يتحتم بحكم طبيعتها أن تجيء هذه قبل تلك؛ أقول إنه لا يُعارض في قيام الجانبين معًا: جانب التصورات الذهنية المجردة وجانب العبارات الوصفية التي تصف وقائع الوجود الخارجي، إلا أنه يُلح في أن نضع الفرق بين النوعين نُصْبَ أعيننا؛ فالقضايا العقلية المجردة المرتبط بعضها ببعض برابطة الاستنباط الصوري، هي دائمًا بمثابة الفروض التي لا تدل بذاتها على حقيقة الواقع الخارجي، وكل مهمتها هي في أن تُوجهنا وتَهدينا عندما نأخذ في مشاهدة العالم الخارجي، وإما أن تجيء هذه المشاهدة مؤيِّدة لها، وعندئذٍ يُضاف إلى طبيعتها المجردة انطباقها العملي؛ وإما أن تَدلنا المشاهدة على غير ما نتصوره بالفكر المجرد، وعندئذٍ تظل القضايا العقلية المجردة في تسلسلها الصوري كما كانت، لكنها لا تصدق على الواقع التجريبي؛ فموقفنا من النوع الأول المجرد هو موقف من يَصوغ الأمر صياغة فرضية شرطية قائلًا: إذا كان هذا، كان ذلك؛ وأما موقفنا من النوع الثاني الوجودي فهو موقف من يَصوغ الأمر صياغة وصفية للواقع، قائلًا: الحالة الواقعة هي كذا وكذا؛ وهكذا ترى أنه حتى في حالة القضايا العقلية المجردة لا يَتوافر الجانب المنطقي فيها إلا إذا كانت أدائية في طبيعتها، أعني إلا إذا كان من طبيعتها أن تَهدي الباحث إلى ما يمكن أن يلتمسه في مشاهدته. لوقائع الوجود الخارجي أثناء قيامه بعملية البحث؛ ولو خلت القضايا العقلية المجردة من هذه الصفة الأدائية، كانت عبثًا لا طائل وراءه ولا شأن للمنطق به. إن إصرار رجال المنطق على أن يجعلوا للتفكير العقلي المجرد كيانًا منطقيًّا بغضِّ النظر عمَّا يؤديه فعلًا من توجيه عملي للباحث أثناء قيامه ببحثه، قد انتهى بالناس إلى التفرقة الحادة بين ما هو نظري في ناحية وما هو عملي في ناحية أخرى حتى لَيَظنون أن الطرفين نقيضان لا يلتقيان، فالنظري لا يكون عمليًّا، والعملي لا يحتاج إلى جانب نظري يسبقه، على حين أن الجانبين في حقيقة الأمر مرتبطان ارتباطًا وثيقًا؛ فكل نظري لا بد أن يكون له جانب أدائي يوجه الباحث في طريق بحثه، وكل عملي لا بد أن يهتدي في سيره بخطة نظرية افتراضية؛ فنظرية «البحث» عند ديوي من شأنها أن توحد الجانبين بمنطق واحد، بحيث يصبح المنطق الصالح للجانب الصوري النظري هو نفسه المنطق الصالح للبحث المُنصبِّ على الوجود الفعلي. اختلف أساس العلم في العصر الحديث عنه في عصر اليونان، فوجب أن يختلف منطق العلم اليوم عن المنطق الأرسطي الذي كان صورة أمينة لعلم عصره. وأوضح جوانب الاختلاف هو اختلاف العصرَيْن في تصور العلاقة بين الكيف والكم؛ فقد كان العلم القديم قائمًا على أساس الصفات الكيفية لا على أساس المقادير الكمية؛ مثال ذلك أن يُقال عن العالم إنه مكوَّن من العناصر الكيفية الأربعة: التراب والهواء والنار والماء، وهذه بدورها تتألف من تركيبات من الأضداد الآتية: رطب ويابس، بارد وحار، ثقيل وخفيف؛ فلم يكن يَعنيهم، بل لم يكن يَطوف ببالهم أن هذه الأضداد إنما هي أضداد من حيث الكيف فقط، وأما إذا أردنا أن نحددها بدرجاتها الكمية فعندئذٍ لا يكون البارد مضادًّا للحار، بل يصبح هذان درجات متفاوتة من ظاهرة واحدة؛ فليس عند العلم الحديث شيء اسمه «حار» ولا شيء اسمه «بارد»، والذي يُعنَى به هذا العلم هو درجة حرارية مقدارها كذا؛ فالمهم هو التفاوت الدرجي، مع أن هذا التفاوت في الدرجة الكمية لظاهرة ما — وهو من العلم الحديث في القلب والصميم — كان يُعد عند اليونان أحداثًا عارضة لا تَمَسُّ العلم في قليل ولا كثير؛ لأن العلم عندهم هو العلم بالجوهر أو بالماهية الثابتة التي لا تعرف تفاوتًا في الدرجة ولا تغيرًا في المقدار؛ فللحرارة — مثلًا — ماهية خاصة، وللبرودة ماهية أخرى، وتعريف هذه غير تعريف تلك، ولا تكون ذا علم بالطبيعة في رأيهم إلا إذا أدركت بالعقل ماهيات الأشياء الحقيقية. فماذا يُجديك أن تعرف درجة حرارة الجو اليوم ودرجة حرارة هذا الماء وهكذا؟ إن هذه كلها أعراض تجيء وتذهب، وما تنفك تتغير لحظة بعد لحظة، وإنما الجدوى كل الجدوى هي أن تعرف ما «الحرارة» على إطلاقها باعتبارها حقيقة قائمة بذاتها في الكون ذي الطبائع الثابتة؛ وليس من ماهية الحرارة أو جوهرها — والماهية كما قلنا هي موضوع المعرفة بمعناها الصحيح — أن تقيس درجاتها التي تقل هنا وتكثر هناك؛ فاختلاف الدرجة هذا إنما يدرك بالحس لا بالعقل، فإذا وقفنا عنده كنا بمثابة من يقف عند مدخل المعرفة الخارجي؛ مع أنه لا معرفة إلا إذا جاوزنا مرحلة الحس إلى مرحلة الإدراك العقلي. ومؤدَّى هذا كله أن قياس الظواهر قياسًا كميًّا لم يكن عند العلم اليوناني — ولم يكن كذلك عند المنطق الأرسطي — شيئًا ذا بال، اللهم إلا أن يكون ذلك من أجل غايات عملية دنيا يَترفَّع عنها العلم النظري؛ فحسبك — إذن — أن تقارن العلم اليوناني الذي لم يجعل ضبط المقادير الكمية جزءًا منه، بالعلم الحديث الذي ينصرف بكل اهتمامه، وفي كل خطوة من خطواته، إلى القياس الكمِّي للظواهر وتصويرها تصويرًا رقميًّا رياضيًّا، لتعلم أن الشُّقة بين العلمين بعيدة، وأن منطق الأول يستحيل أن يَصلح منطقًا للثاني. وتفرع عن الاختلاف السابق اختلاف آخر بين العلم اليوناني والعلم الحديث؛ فإذا كانت «الطبيعة» عند اليونان مؤلَّفة من كيفيات مختلف بعضها عن بعض، فليس الحار هو البارد، وليس الثقيل هو الخفيف، وليس الرطب هو اليابس، وهكذا؛ إذن فالطبيعة قوامها «أنواع» متباينة لا يمتزج بعضها ببعض، كأنما أُقيمت بينها الحواجز التي لا تدع نوعًا منها ينساب في نوع آخر؛ وصميم المعرفة بناءً على ذلك هو أن نُلِمَّ بهذه الأنواع عن طريق تعريفاتها التي تحددها تحديدًا فاصلًا حاسمًا، وأما العلم الحديث فأساسه على النقيض من ذلك؛ إذ إنه يُحطِّم هذه الحواجز بين الأنواع المزعومة، ليجد ما بينها من تجانس يَردُّها جميعًا إلى أساس واحد، هو المادة والحركة مثلًا، أو هو ما شئت غير ذلك من أسس تتألف من مدرَكات كمية، وبهذا يرتد العالم إلى تجانس في الكيف واختلاف في الكم وحده، بعد أن كان عند اليونان منوعًا في كثرة كيفية يقف بعضها من بعض موقف الأضداد، وهو اختلاف يتضح من الموازنة بين النظرية القائمة اليوم عن العناصر الكيموية التي نحلل الطبيعة إليها، وبين العناصر الكيفية الأربعة التي كان يقول بها العلم اليوناني عن الطبيعة؛ وهاك مثلًا رائعًا يوضح لك اختلاف وجهة النظر العلمية من حيث التكاثر أو التجانس بين العصرين، وهو مثل «الحركة» كيف تَصورها اليونان وكيف يَتصورها العلم الحديث؛ فبدل أن تُعَدَّ الحركة ضربًا من التغير يطرأ على الوضع المكاني، وهو تغير يُقاس مقداره ويَشغل فترة من الزمن يُقاس مقدارها كذلك، ولا فرق عندئذٍ بين أن تكون الحركة لجسم ساقط أو لجسم صاعد أو لجسم يتحرك في دائرة كما هي الحال في الأجرام السماوية، أقول بدل أن تتجانس الحركة كلها فتصبح ضربًا من التغير يُقاس مقداره قياسًا كميًّا دقيقًا، كان اليونان يَعدون الحركة الدائرية نوعًا قائمًا بذاته، والحركة إلى أمام أو إلى وراء نوعًا آخر، والحركة إلى أعلى أو إلى أسفل نوعًا ثالثًا وهلم جرًّا؛ كلها ضروب من الحركة تختلف كيفًا، بحيث لا يدخل نوع منها في نوع آخر؛ بل زادوا على ذلك أن نسبوا هذه الأنواع المختلفة من الحركة إلى أنواع الكائنات التي تتفاوت منازلها في سلم الأنواع علوًّا وسفلًا؛ فمن الأشياء ما هو بحكم طبيعته الأصيلة دَنيٌّ — كالتراب — تكون حركته دائمًا إلى أسفل، ومنها ما هو بحكم طبيعته الأصيلة سَنيٌّ — كالنار — تكون حركته دائمًا إلى أعلى، ومنها ما يدنو من المرتبة الإلهية فيتحرك أكمل ضروب الحركة، وهي الحركة الدائرية، وتلك هي أجرام السماء؛ فأين هذا كله من تصور العلم الحديث للحركة على أنها بشتى صورها ظاهرة متجانسة إذا تميزت أجزاؤها فهي تتميز باتجاهات الزوايا وبقوة الدفع والسرعة، وهي كلها جوانب يمكن قياسها قياسًا كميًّا دقيقًا. واختلاف ثالث وثيق الصلة بالاختلافين السابقين بين العلم اليوناني والعلم الحديث، نراه في عناية العلم الحديث ﺑ «العلاقات» القائمة بين الظواهر المختلفة؛ مع أن المنطق القديم كان قائمًا على نظرية في الطبيعة تجعل العلاقات كلها أمورًا عرضية لا تمس جواهر الأشياء وحقائقها (فيما عدا علاقتَيْ دخول الأنواع بعضها في بعض وخروجها بعضها من بعض، ومع ذلك فلم يكن ينظر إليهما على أنهما «علاقتان» بالمعنى الذي يقصده العلم اليوم حين يهتم برصد «العلاقات» التي ترتبط بها الظواهر)؛ فتعلق شيء بشيء سواه، معناه — من وجهة النظر الأرسطية — أن يكون الشيء معتمدًا على شيء خارج عنه، وما دام خارجًا عنه فليس هو جزءًا من طبيعته، بل هو من أضداده؛ فجوهر الشيء المعين مستقل بذاته مكتفٍ بكيانه؛ والجوهر وحده هو الذي يَصلح أن يكون موضوعًا للعلم بمعناه الصحيح؛ أما العلاقات الظاهرة بين الأشياء، فهي — شأنها شأن الاختلاف الكمي فيها — أعراض تجيء وتذهب؛ ولا شأن للعلم بما يتغير ولا يثبت على حال؛ فكون الشيء هنا الآن وفي موضع آخر في لحظة أخرى ضرب من التغير إن وَجد مكانه عند الحواس فهو لا يجد عند العقل مكانًا، وهو إن لُوحظ في المادة الدنية فهو لا يَطرأ على المعاني العقلية المجردة؛ وإذن فليس هو من العلم، وإذن فليس هو مما يُعنى به المنطق؛ فأين هذا كله من العلم الحديث الذي يجعل التغير وما فيه من علاقات تربط المتغيرات موضوعَ البحث العلمي؟ فهذا الذي اطَّرحه العلم اليوناني والمنطق اليوناني؛ القياس الكمي والعلاقات بين المتغيرات، هو نفسه حجر الزاوية من بناء العلم الحديث؛ أفلا يكون من المؤسف أن يَكُفَّ العلماء اليوم عن الأخذ بمفاهيم القدماء إلى هذا الحد البعيد، ثم يظل رجال المنطق متشبثين بالمنطق الذي إن يكن قد أدى مهمته بالقياس إلى علم عصره أداءً أمينًا، فهو بالبداهة لا يُصور العلم كما هو قائم اليوم؛ ونحن بالطبع نستثني من رجال المنطق المحدثين نفرًا يحاول جهده أن يَسد النقص وأن يُساير العلم الحديث بمنطق حديث يأخذ في اعتباره مسائل العلاقات واختلافات الكم وما إليها، إلا أنها محاولات يراها «ديوي» ناقصة، ممَّا يحتم علينا أن نراجع الأمر كله مراجعة جادة شاملة. الفرق بعيد بُعدَ ما بين الأرض والسماء بين فكرتين عن الطبيعة؛ فكرة اليونان من جهة وفكرة العصر الحديث من جهة أخرى، وبين تصورين للبحث العلمي: تصور اليونان وتصور العصر الحديث؛ فيجب إذن أن يكون هنالك مثل هذا الفرق البعيد بين منطقين: منطق يُساير الفكرة والتصور الأولين، وآخر ينبغي أن يجيء ليساير الفكرة والتصور الحديثين؛ يقول «جوزف» في كتابه «مدخل إلى المنطق» (ص٣٨٧–٣٨٨) — وجوزف مؤلف حديث يُدافع عن المنطق الأرسطي بقوة وحرارة — يقول: «يحاول العلم اليوم أن ينصرف بأكثر جهده إلى إقامة ما يُسمَّى ﺑ «قوانين الطبيعة» وهذه القوانين هي — بصفة عامة — إجابات عن السؤال القائل: «في أي الظروف يحدث التغير الفلاني؟» أو «ما هو أعم المبادئ المتمثلة في التغير الفلاني؟» أكثر مما هي إجابات عن السؤال القائل: «ما تعريف الموضوع الفلاني؟» أو «ما هي صفاته الجوهرية؟» فإذا كانت آراء أرسطو قد عَفى عليها الزمن، فذلك في الأسئلة المطروحة ابتغاء الإجابة عنها، أكثر منه في المنطق الذي يحاول به أن يُبرهن على صحة تلك الإجابة»، وهذا وصف موجز دقيق للفرق بين العصرين القديم والحديث: فقد كان السؤال قديمًا هو: ما تعريف الشيء الفلاني، أو ما جوهره الثابت؟ ومِن ثَم كان المنطق قديمًا هو تحديد الأنواع وتعريفها وربطها في قضايا وهكذا، على حين أن السؤال الرئيسي اليوم هو: في أي الظروف يحدث التغير الفلاني؛ وإذن فلا أنواع هناك ثابتة يجيء تعريفها من العقل النظري، وإذن يتغير الوضع بالنسبة إلى المنطق تغيرًا جوهريًّا. إننا لا ننكر أن الثقافة اليونانية قد امتازت بمشاهداتها الكثيرة الدقيقة للظواهر الطبيعية، وبتعميماتها الشاملة التي صاغت فيها تلك المشاهدات؛ فقد درس اليونان الطب والموسيقى والفلك والأرصاد الجوية واللغة والنظم السياسية، دراسة متحررة من كل سلطان خارجي؛ ثم دمجت النتائج الخاصة التي انتهى إليها الدارسون في هذه الميادين المختلفة، دمجًا كَوَّن منها نظرة واحدة شاملة هي التي أصبحت منذ ذلك الحين — جريًا على سنة اليونان — تحمل اسم «الفلسفة»، وأصبحت تلك الفكرة العامة الشاملة عن «الطبيعة» باعتبارها كلًّا واحدًا هي المرجع الأخير للمعرفة الصحيحة؛ وللتفرقة بين الجانبين: جانب الطبيعة المتغيرة التي تتناولها المشاهدة في العلوم الخاصة، وجانب «الطبيعة» الثابتة التي هي كلٌّ واحد، استعمل اليونان كلمتين: فكلمة منهما هي «الفيزيقا» تدل على الجانب الأول، وكلمة أخرى هي «الطبيعة» تدل على الجانب الثاني؛ وهذه الأخيرة — على خلاف الأولى — مؤلَّفة من ماهيات غير متغيرة، قوامها «طبائع» الأشياء الثابتة؛ ولهذا كانت مشكلة المشكلات عند العلم اليوناني والفلسفة اليونانية، هي التمييز بين ما هو دائم ثابت مما هو متحول متغير، ثم إيجاد العلاقة التي تصل هذا بذاك، وعلى ذلك جاءت فلسفة أرسطو عرضًا محكمًا وحلًّا منظمًا لهذه المشكلة التي رآها ماثلة في شتى الموضوعات التي كانت موضع بحث الباحثين. وترتبط هذه الحقيقة الأساسية ارتباطًا وثيقًا بالمنطق الأرسطي؛ فلم يكن هذا المنطق «صوريًّا» بالمعنى الذي يجعل الصور مستقلة عن مادة الوجود الحقيقي من وجهة نظرهم؛ لكنه كان منطقًا «صوريًّا» بالمعنى الذي يجعل صوره هي نفسها صور الوجود القائم كما تَصوره اليونان؛ فالوجود الحقيقي عندهم هو ما ليس يطرأ عليه التحول؛ ولهذا كان التغير عندهم برهانًا على نقص في «الوجود» بالنسبة إلى الشيء المتغير، أو هو برهان على ما أَطلق عليه اليونان أحيانًا «اللاوجود». أما الكائنات ذوات الوجود الحقيقي فهي ماهيات أو هي جواهر معلومة الحدود، ولذلك فالعلم اليقيني بها ممكن، لأنها ثابتة أبدًا على حال واحدة، على حين أن الشيء المتغير يُفلت من الإدراك العقلي اليقيني، بحكم كونه غير ثابت على حال واحدة؛ وإذن فالعلم بالمتغيرات مستحيل إلا بمقدار ما يمكن إدخالها تحت أنواعها الثابتة؛ كأنما هذه الأنواع الثابتة هي بمثابة الإطار ذي السور الثابت، وفي نطاق هذا السور يتغير المتغير زيادة ونقصًا؛ وهذا المتغير في تفاوت درجاته يُدرَك بالحس، وأما إطاره — أي نوعه الثابت — فيُدرَك بالعقل. والمنطق الأرسطي في صميمه معنيٌّ قبل كل شيء ﺑ «الطبيعة» الثابتة لا ﺑ «الفيزيقا» المتغيرة؛ هو معنيٌّ ﺑ «الأنواع» من حيث ماهياتها الأزلية التي لا تتغير تعريفاتها بتغير الظروف وتغير الأفراد؛ فالإنسان — من حيث هو ماهية ثابتة — هو موضوع العلم، وأما الأفراد الذين يجيئون ويذهبون فلا يتعلق بهم علم يقيني، وإذن فليسوا مما يُعنى به المنطق؛ وحتى إن ذُكر فرد من الأفراد، فلا يُذكر من حيث هو فرد قائم بذاته، بل يُذكر من حيث هو حقيقة جزئية تتمثل فيها حقيقة النوع؛ ولذلك لا يجوز في المنطق الأرسطي أن تعرِّف فردًا، لأن التعريف ينصرف إلى النوع وحده، والتعريف هو الصورة التي يتمثلها الجوهر باعتباره موضوعًا للمعرفة؛ ولو كَمُلت لك تعريفات الأنواع؛ كَمُلت لك المعرفة بالوجود كله. ومن هذا يتضح لنا بعض الجوانب الرئيسية في المنطق الأرسطي؛ فأولًا ليست صور ذلك المنطق صورية، لأنها ليست بمعزل عن الكائنات الحقيقية التي منها تتألف المعرفة العلمية؛ وثانيًا تتألف المعرفة — في صورها المنطقية — من التصنيف والتعريف، فإذا صنَّفنا الكائنات القائمة في «الطبيعة» أنواعًا أنواعًا، ثم عرفنا كل نوع بماهيته، كَمُلت المعرفة بالكون؛ وثالثًا ليس هنالك مجال لمنطق يُعنى باختراع الجديد؛ إذ إن حقائق الأنواع كلها قائمة في نسق كامل مغلق، وكل ما نستطيعه هو أن «نكشف» عمَّا هنالك، وهذه هي مهمة التعلم، فما التعلم إلا أن يظفر المتعلم بما هو معلوم من قبل، كالتلميذ حين يتعلم ما قد كان من قبل معلومًا للمعلم، أو ما قد كان من قبل معروضًا في كتاب؛ فمهمة الباحث هي أن يَطوي الأفراد الجزئية تحت النوع الذي يتمثل فيها بماهيته، ثم يحاول أن يحدد تلك الماهية تحديدًا عقليًّا؛ وهكذا لم يكن الاختراع الجديد ممكنًا، ما دام الأمر كله مقصورًا على وقوع الإنسان على شيء كان موجودًا بالفعل. هكذا كانت الصلة وثيقة بين المنطق الأرسطي وبين مذهب اليونان في حقيقة الكون؛ فماذا يحدث لو تغير الأساس الكوني وبقي المنطق الأرسطي على حاله؛ يحدث ما قد حدث بالفعل، وهو أن يُصبح المنطق طرفًا مبتورًا مقطوع الصلة بالمضمون العلمي، ويستحق أن يُوصف بأنه «صوري» بالمعنى الذي تكون به هذه «الصورية» دالَّة على انقطاع الوشيجة التي تَربطه بمادة المعرفة. فلسنا نطالب رجال الفلسفة بصفة عامة، ورجال المنطق بصفة خاصة، بأكثر من أن يؤدوا لثقافة عصرهم ما أداه أرسطو بمنطقه لثقافة عصره. قانون الذاتية الذي يَحكم الفكر بمقتضاه أن الشيء المعين هو هو بذاته مهما اختلف سياقه، ويُعبرون عن هذا القانون تعبيرًا رمزيًّا فيقولون «أ هي أ»؛ فالكلمة الواحدة — مثلًا — تحتفظ بذاتيتها وبمعناها بغض النظر عن السياق الذي تَرِد فيه؛ وذلك لأن الكلمة تسمى نوعًا من أنواع الكائنات. ككلمة «إنسان»، وللنوع ماهية ثابتة وتعريف ثابت، لأن له حقيقة أزلية أبدية لا تتغير بتغير الأفراد الذين يندرجون تحته ظهورًا وزوالًا. وقانون التناقض — أو على الأصح: قانون عدم التناقض، وهو الذي يَحكم الفكر بمقتضاه أن الشيء لا يتصف بصفة ما ونقيضها في آنٍ واحد، وصورته الرمزية هي: «أ لا تكون «ب» و«لا–ب» في آنٍ واحد»؛ لأنه ما دامت أنواع الكائنات الحقيقية ثابتة الماهيات، لا يطرأ عليها تغير ولا تطور، فيستحيل أن نقول عن أي نوع منها إنه يتميز بالصفة الفلانية ولا يتميز بها. قانون الثالث المرفوع، وهو الذي يَحكم الفكر بمقتضاه بوجوب أن يتصف الشيء إما بصفة معينة أو بنقيضها؛ فالشيء الملوَّن مثلًا إما أن يكون أبيض أو لا أبيض، ولا ثالث لهذين الاحتمالين؛ وصورته الرمزية هي: «أ» إما أن تكون «ب» أو «لا–ب». فهذه القوانين الثلاثة — كما ترى — منطوية على فرض سابق، وهو أن الكون بما فيه من أنواع حقائق ثابتة، بحيث تظل كل حقيقة منها محتفظة بكيانها دائمًا وفي كل الظروف؛ ﻓ «الإنسان» — مثلًا — هو الإنسان دائمًا، وإذا وصفناه بالتفكير فلا يجوز في الوقت نفسه أن نصفه بعدم التفكير، لأنه إما أن يكون مفكرًا أو ألا يكون مفكرًا ولا ثالث لهذين الفرضين. لكن غيِّر من وجهة النظر، واجعل موضوع البحث العلمي هو الوجود الفعلي المتغير المتطور، وليس هو بالكشف عن ماهيات ثابتة لأنواع أزلية أبدية، تجد هذه القوانين نفسها قد تغيرت طبيعتها؛ فقانون الذاتية هو الشرط المنطقي الذي يقتضي أن تثبت المعاني على حالة واحدة طوال متصل البحث الواحد، دون أن يشترط ثباتها في أكثر من بحث واحد؛ وذلك لأن البحث الجديد قد ينتهي بنا إلى ما يستوجب التغيير في المعاني السابقة؛ فلو اشترطنا أن يحتفظ الرمز المعين بمعنًى واحد لا يتغير في كل البحوث، مع أن البحوث المختلفة التي تتناول مشكلات مختلفة، يعدل جديدها من قديمها، أقول إننا لو اشترطنا ذلك لاستحال على المعرفة أن تتقدم؛ إن قانون الذاتية بالمعنى الأرسطي لا يكون إلا إذا فرضنا أن الإنسان يعرف الحقائق الكونية معرفة كاملة منذ اللحظة الأولى، أما إذا سلَّمنا بأن استمرار البحث من شأنه أن يغير من دلالات الأشياء والمواقف، فالشيء المعين قد يكون ذا دلالة معينة في ثقافة معينة، وإذا بالأسس الثقافية تتغير وتتقدم، فتتغير إذن دلالة ذلك الشيء على ضوء المعرفة الجديدة والظروف الجديدة؛ فإن قانون الذاتية يتغير معناه كما ذكرنا؛ نعم إنه لا ضَيْرَ — بل إنه لشرط واجب في منطق البحث — أن يضع الباحث نصب عينيه حقيقة ثابتة، لا على أنها هي «الحقيقة» العلمية — كما يريد أرسطو بقانون الذاتية — بل على أنها الحد الأعلى الذي تصبو إليه البحوث العلمية في تلاحقها؛ وفي هذا تكون القوة الإجرائية للذاتية الثابتة؛ إذ تكون بمثابة الهدف الذي نسعى إلى تحقيقه بدرجات متزايدة على مر الزمن؛ وإنك لترى من النقاد من يتخذ من المنزلة النسبية التي تنزلها النتائج العلمية ذريعة للحط من شأن «الحقائق» العلمية. إذا قِيست إلى الحقائق التي يزعمون لها الأزلية والثبات؛ والواقع أن هذه النسبية شرط ضروري للتقدم المستمر في فهمنا للحقائق وإدراكها؛ وهذا هو ما أراده «بيرس» حين عرَّف «الحقيقة» بأنها هي ما يتفق عليه الباحثون إزاء مسألة معينة في زمن معين. وأما قانون التناقض عند أرسطو فهو كقانون الذاتية عنده قائم على أساس ثبات الحقائق الكونية ثباتًا يُمَكِّن الإنسان من رؤيتها رؤية مباشرة بحيث لو رآها وعرفها لما كان هنالك من سبيل بعد ذلك إلى تغييرها؛ فلو أدركت بالعيان العقلي المباشر أن «أ» هي «ب» تحتم ألا أقول بعد ذلك إن «أ» ليست «ب»، فهاتان القضيتان: «أ هي ب» و«أ ليست ب» متناقضتان، ولا بد أن نحكم بكذب الواحدة منهما إذا حكمنا بصدق الأخرى، حكمًا ينبني — في رأي أرسطو — على طبيعة الفكر وعلى طبائع الأشياء ذاتها؛ وموقف «ديوي» إزاء مبدأ التناقض هو أن الأمر لا يدل بذاته على أن بين قضيتين معينتين تناقضًا؛ إذ لا بد أن تَسبق ذلك عمليات من البحث تؤدي بنا إلى القول عن شيء إنه إما كذا أو كيت؛ لأننا لا نستطيع قبل البحث أن نعلم عن «أ» إن كانت داخلة في النوع «ب» أو ليست داخلة فيه؛ إذ يجوز لها أن تكون كلها أو يكون جزء منها داخلًا في «ب» كما يجوز أن تكون كلها أو جزء منها خارجًا عن «ب»؛ فالعلاقة بين «أ» و«ب» لا تدل على نفسها بنفسها، بل لا بد من إجراءات عملية تجريبية لمعرفتها. وكذلك قل في مبدأ الثالث المرفوع الذي نقول بمقتضاه عن شيء ما إنه إما «س» أو «ليس س» ولا ثالث لهما؛ فقد انبنى عند أرسطو على أساس أن الفواصل حادة بين الأنواع؛ متجاهلًا ما قد يكون بينها من درجات كمية متدرجة، فالشيء إما أن يكون حارًّا أو ليس بحارٍّ، مع أن قولًا كهذا لا يفيد شيئًا من وجهة النظر العلمية الحديثة. هذا إلى أن تحديد الحالات التي منها تتألف شتى الاحتمالات، بحيث نقول عن شيء ما إنه إما كذا أو كذا أو كذا … لكي نمضي على أساس ذلك في البحث لنُثبت إحدى هذه الحالات وننفي سواها، هو أشق عملية في البحث العلمي، ولا يمكن الفراغ منها إلا بعد مشاهدات وتجارب على كثير من الدقة والتنوع؛ فالأمر — إذن — أبعد ما يكون عمَّا يقوله أرسطو من أن في طبيعة الفكر ما يهديه إلى أن الشيء الفلاني، هو إما كذا أو ليس كذا؛ ولسنا نسرف في القول إذا نحن زعمنا أن الأخذ بمبدأ الثالث المرفوع بمعناه الأرسطي، هو الذي أدى بالإنسان في مجال الأخلاق والسياسة بصفة خاصة، إلى التعصب وضيق النظر وخطأ الحكم؛ إذ كثيرًا ما يقول الإنسان إن الفعل الفلاني إما فضيلة أو ليس فضيلة، كأنما الأمر دالٌّ بذاته على مثل هذا التقسيم؛ ولو أردت أن تعلم إلى أي حد يخلو مبدأ الثالث المرفوع من قوة الدلالة، فحسبك أن تنظر إلى ظواهر الطبيعة وهي في حالة انتقال من طرف إلى طرف، أو من وضع إلى وضع؛ فعندئذٍ لا يَصدق عليها القول بأنها إما كذا أو ليس كذا؛ ولما كانت شتى كائنات الوجود الخارجي في حالة من صيرورة التغير والانتقال دائمًا، كان مبدأ الثالث المرفوع بمعناه الأرسطي مستحيل التطبيق؛ فيستحيل علينا — مثلًا — أن نقول عن الماء وهو في طريقه إلى التجمد، وعن الثلج وهو في طريقه إلى الذوبان، إن الماء إما أن يكون صلبًا أو غير صلب. وخلاصة القول في قوانين الفكر الثلاثة، هي أنها أمور غير متحققة بذاتها في الوجود الخارجي، كلا، ولا هي خصائص علاقية بين القضايا نابعة من طبيعة القضايا نفسها بغير حاجة إلى بحث وتجربة يسبقان تقريرها، بل هي — عند ديوي — مبادئ إجرائية توجه سير البحث، دون أن يكون لها دلالة موضوعية في طبائع الأشياء. ••• وننتقل الآن إلى «المعنى الكلي» لنعرض اختلاف الرأي فيه بين المنطق الأرسطي الذي يمثل ثقافة عصره، وبين المنطق البراجماتي الذي يمثل ثقافة عصرنا؛ فماذا يعني اللفظ الكلي مثل «إنسان»؟ كان يُقال إن مفهوم هذا اللفظ هو الصفات الجوهرية المشتركة بين أفراد الناس، ومن هذه الصفات يتكون جوهر الإنسان أو ماهيته أو تعريفه أو معناه؛ وأقل ما نعترض به على مثل هذا القول هو أنه يُصادر على المطلوب، أي إنه يفترض مقدمًا ما يُراد في النهاية إثباته؛ إذ كيف يُتاح لي أن أستخرج الصفات المشتركة بين أفراد النوع الواحد، إلا إذا كنت قد عرفت النوع قبل ذلك لأختار الأفراد التي أقارن بينها على ضوء تلك المعرفة؟ أريد مثلًا أن أقارن بين أفراد الجياد لأستخرج الصفات المشتركة التي تكوِّن معنى «جواد»، لكني لكي أبدأ هذه المقارنة، لا بد أن يكون لي قبل ذلك معيار يهديني إلى اختيار هذا الشيء وهذا وهذا وذلك من بين ألوف الأشياء التي تُحيط بي، على أن كلًّا منها جواد مفرد، وإذن فأنا بذلك أفترض أنني أعرف معنى «جواد» قبل أن أحدد معناه! إنه لو كان في مستطاعنا أن نكوِّن المعنى العام بأن نضع — في الذهن — عددًا من الأفراد في صف واحد، ثم نأخذ في اطراح الصفات المتباينة، لكي نُبقي على الصفات «المشتركة» وحدها، فتكون هذه هي مفهوم اللفظ الكلي، لكان تكويننا للأنواع والمفاهيم العامة عملية سهلة وآلية؛ لكن انظر إلى البحث العلمي وما يعانيه في سبيل جمعه لمختلف الظواهر على أنها من نوع واحد، وهو في ذلك لا يسير على النحو الذي وصفناه؛ فالأنواع في المجال العلمي كنوع «معدِن» مثلًا، إنما تتكون بإجراءات تكشف عن الخصائص التي لا تكون حاضرة أمام المشاهدة في صورتها المألوفة، بل هي خصائص يخلقها الباحث خلقًا بما يُجريه من تجارب، فهذه التجارب لا تدله على صفات ثابتة ساكنة مشهودة، بل تدله على «ضروب من التفاعل»، بحيث يمكننا بعد ذلك أن نقول إن الصفة الفلانية المشاهدة علامة تدل على ما عساه أن يقع من تفاعلات معينة. إن الذي يجمع طائفة من الأفراد في نوع واحد يُشار إليه بلفظ كليٍّ واحد، ليس هو أن تلك الأفراد قد لُوحظ فيها تشابه الصفات، بل هو — في رأي ديوي — التشابه في الاستجابة السلوكية إزاءها؛ فلو علمتنا الخبرة الماضية أن نستجيب بصورة واحدة لشيئين مختلفين في ظاهر صفاتهما، لأدرجنا هذين الشيئين تحت نوع واحد برغم اختلافهما في الصفات الظاهرة؛ فلمعة البرق تختلف أشد اختلاف من حيث الصفات المحسة عن الشرارة الكهربية اختلافها عن الجاذبية التي يكتسبها حجر الكهرمان إذا حككته، واختلافها كذلك عن إحساس الإنسان بالخدر «التنميل» حين يمسه إنسان آخر دعك الأرض بقدميه في ظروف جوية معينة؛ لكن هذه الظواهر كلها — على ما بين ظاهرها الحسي من اختلاف شديد — تقع كلها في نوع واحد، وتشير إليها كلها لفظة كلية واحدة، هي «الكهرومغناطيسية»؛ وإنما طويناها كلها معًا على أساس النتائج العملية التي تترتب عليها؛ فالجانب المشترك ليس هو اشتراكًا في الصفات بل اشتراك في ضروب العمل، وعلى هذا الأساس يكون اللفظان مترادفين، لا لأنهما يَدلان على صفات مشتركة واحدة؛ بل لأنهما يَدلان على تفاعلات سلوكية ونتائج عملية واحدة. بعبارة أخرى، ليس المهم أن نسأل عن الشيء «ما هو؟» بل المهم هو أن نسأل: كيف يتفاعل مع سواه من بقية الأشياء التي تكوِّن الموقف الذي نحن إزاء بحثه؛ فماهية المعنى الكلي «معدِن» — بناءً على وجهة النظر القديمة — كانت هي الصفات التي تميز هذا النوع ممَّا عداه، مثل كونه ذا درجة خاصة من البريق والإعتام، والمرونة، والكثافة، والصلابة، وهي كلها صفات من قبيل ما يمكن مشاهدته أو لمسه … إلخ، أو هي من قبيل ما يمكن تصوره بالعقل. لكن أمثال هذه الصفات التي تصف «المعدِن» أو تحدد ماهيته بالنسبة إلى سائر الأشياء، لم تكن هي التي تدفع البحث في سيره إلى الأمام، لأنها لم تكن لتساعد الباحث على التنقيب عن معادن أخرى غير التي كانت مألوفة معروفة (وقد كانت المعادن المعروفة سبعة أو ما يَقرب من ذلك)؛ وكذلك لم تكن أمثال هذه الصفات التي تحدد ماهية «المعدِن» لتساعد قط على ربط المعادن بغيرها؛ بل لم تكن لتضمن للباحث دقة التحديد في تمييز المعدِن الخالص من المعدِن المخلوط؛ فكانت نتيجة هذا كله أن انحصر فن التعدين في نطاق ضيق محدود. ثم حدث الانتقال إلى الفكرة العلمية الحديثة من المعادن حين تغيرت وجهة النظر، فأصبح المهم هو كيف يتفاعل هذا الذي نسميه معدِنًا بغيره، لا ماذا عسى أن تكون ماهيته في ذاتها؛ فتعريف المعدِن اليوم قائم على تفاعله مع طائفة معينة من العناصر غير المعدنية، وبخاصة الأوكسجين والكبريت والكلورين؛ مضافًا إليها قدرة الأوكسيدات التي تتولد من ذلك التفاعل على أن تتفاعل بدورها مع الحمضيات فتكوِّن الأملاح؛ كما يقوم تعريفه أيضًا على قدرة الكهربية الإيجابية؛ ومن أهم ما يترتب على تعريف الشيء بتفاعلاته لا بماهيته الساكنة الثابتة، إمكان ربط التغيرات التي تحدث في مجال معين بالتغيرات التي تحدث في مجال آخر، ربطًا يكشف عمَّا بين مختلف الظواهر من صلات. وقد كان من النتائج التي تفرعت عن الفكرة القديمة عن ماهيات الأنواع — وهي مفاهيم الألفاظ الكلية — بأنها سكونية ثابتة وقائمة في طبائع الأشياء ذاتها، أن صُنفت الأنواع تصنيفًا جامدًا، ينفصل بعضها عن بعض في الطبيعة الخارجية، على حين أن هذه الأصناف المتباينة قد تكون في حقيقتها ذات صلة نشوئية بعضها ببعض، كما دلت على ذلك نظرية التطور الحديثة؛ فعلى أساس هذه النظرية الجديدة نجد الزواحف أقرب نسبًا إلى الطيور منها إلى التماسيح التي كانت توضع معها في صنف واحد أول الأمر. لقد كانت «المعاني الكلية» — وما زالت — من أعوص المشكلات التي تعرَّض لها المنطق الفلسفي، وتاريخ النظرية الميتافيزيقية على السواء؛ وانشعب الرأي حيالها شعبًا ثلاثًا، فجاءت النظرية البراجماتية وأضافت شعبة رابعة: (١) فالمدرسة الشيئية — أو الواقعية بالمعنى الأفلاطوني — تجعل المعنى الكلي حقيقة كائنة في العالم الخارجي كالأفراد الجزئية سواءً بسواء، وكل الفرق بينهما هو أن المعاني الكلية — أو الأفكار المجردة أو المثل — قائمة في عالم عقلي غير هذا العالم الفيزيقي الذي هو عالم الجزئيات المتغيرة؛ (٢) والمدرسة التصورية — وهي مدرسة أرسطو — تجعل المعنى الكلي تصوُّرًا ذهنيًّا لا يُجاوز العقل الذي يتمثلها؛ ففكرة «إنسان» — مثلًا — وجودها يكون في ذهن الإنسان، منفصلًا عن وجود المفردات الجزئية؛ وإنما يُصبح الفرد من أفراد الناس إنسانًا بمقدار ما تتمثل فيه تلك الفكرة المجردة؛ فقِوام التصور الذهني المجرد هو الصفات الجوهرية المشتركة التي تجعل من الفرد المعين عضوًا في نوعه؛ (٣) والمدرسة الاسمية تجعل المعنى الكلي كائنًا في دلالة اللفظ الكلي على مسمياته الجزئية، دون أن يكون لذلك المعنى وجود خارجي أو وجود في التصور الذهني. (٤) وأما المدرسة البراجماتية فتجعل المعنى الكلي هو طريقة السلوك إزاء طائفة معينة من مفردات، فإذا تشابه رد الفعل السلوكي إزاء شيئين، كان هذان الشيئان ينتميان إلى نوع واحد؛ فالتجريد هنا ليس لصفات الأشياء، ولكنه لطريقة السلوك. فوجه الشبه بين المدرسة البراجماتية والمدرسة الشيئية الأفلاطونية هو في أن كلتيهما تجعلان للجانب المجرد وجودًا موضوعيًّا لا يقل عن الوجود الموضوعي الذي للمفردات. وأما وجه الاختلاف بينهما فهو أن الجانب المجرد عند المدرسة الأفلاطونية كافٍ بذاته من الوجهة المنطقية، ولا يتحتم أن يُكمله وجود المفردات الجزئية في عالم الحس. وأما المدرسة البراجماتية فتعتقد أن الكيان المنطقي لهذا الجانب المجرد لا يَكمل إلا إذا كان وسيلة أدائية تهدي الإنسان في حياته السلوكية العملية؛ إذ لا جدوى في أن تظل طريقة السلوك المجردة قائمة بغير أن تتمثل في مواقف سلوكية بعينها. ووجه الشبه بين المدرسة البراجماتية والمدرسة التصورية الأرسطية هو أن كلتيهما تُقرر أن المعنى العام تصوري فكري في طبيعته؛ لكنها تعود فتختلف عنها في أن المدرسة الأرسطية تجعل قوام المعنى الكلي الصفات الجوهرية المشتركة، على حين تجعله المدرسة البراجماتية في المهمة الأدائية أو في النشاط السلوكي المتشابه إزاء الأفراد التي نضمها معًا في نوع واحد. ووجه الشبه بين المدرسة البراجماتية والمدرسة الاسمية هو أن كلتيهما تُصران على أن يكون المعنى الكلي مشيرًا إلى الكائنات الخارجية، أي أن يكون بمثابة الرمز الذي يُشير إلى أفراد النوع القائمة في عالم الأشياء؛ لكنهما تختلفان في أن المدرسة الاسمية تكتفي بأن يكون هنالك رمز من جهة ومفرد مرموز إليه من جهة أخرى، وبهذا لا يكون هنالك تعميم بالمعنى الصحيح، وأما المدرسة البراجماتية فتجعل للمعنى العام — الذي هو طريقة السلوك — وجودًا موضوعيًّا خارجيًّا غير مجموعة الأفراد التي نسلك إزاءها سلوكًا متشابهًا، وبهذا نجعلها أعضاءً من نوع واحد. ••• مِن وَصْلِ المعاني الكلية بعضها ببعض أو فَصْلِها بعضها عن بعض تتكون القضايا، وفي الحديث عن طبيعة القضية وتحديدها يقع الخلاف الرئيسي بين مذهب ديوي ومعظم المذاهب المنطقية الأخرى قديمها وحديثها على السواء؛ وقد أسلفت القول في تلخيص المعالم الرئيسية للقضية من وجهة نظر ديوي (فقرة ١ من هذا التصدير) فلا داعيَ لتكرار ما ذكرناه؛ لكننا نُذكِّر القارئ في هذا السياق بأنه بينما ترى مذاهب المنطق الأخرى أن الطابع المميز للعبارة التي تُعد في المنطق «قضية» هو إمكان وصفها بالصدق أو بالكذب، على اختلاف هذه المذاهب في معنى الصدق والكذب؛ يذهب ديوي إلى أن القضية وسيلة وأداة، والأداة لا تُوصف بهاتين الصفتين؛ فأنت لا تقول عن القلم مثلًا — وهو أداة الكتابة — إنه قلم صادق أو كاذب، بل تقول عن الأداة إنها فعالة من شأنها أن تُحدث من الأثر المطلوب؛ وكذلك الحال في «القضية» فهي وسيلة تؤدي إلى ما بعدها ثم إلى ما بعدها وهكذا حتى ينتهي التفكير إلى «حكم» يُوصف بالصدق أو الكذب، فالحكم الصادق، هو الذي على أساسه تنحل المشكلة المطروحة للبحث. وننتقل الآن إلى استدلال قضية من قضية أخرى استدلالًا مباشرًا؛ والاستدلال المباشر عند أرسطو معروف مألوف لطلاب المنطق؛ سنذكر منه بعض حالاته لنبين اختلاف وجهة النظر إزاءه بين أرسطو وديوي. فبين القضية الكلية الموجبة والقضية الكلية السالبة تضادٌّ؛ وعلاقة التضادِّ معناها أن إحدى القضيتين المتضادتين فقط تكون صادقة؛ فإذا صدقت إحداهما حكمنا على الأخرى بالبطلان، مع جواز أن تَكذب القضيتان معًا؛ مثال ذلك قولنا: (أ) «كل الفقريات المائية ذوات دم بارد» و(ب) «لا واحدة من الفقريات المائية من ذوات الدم البارد» فهاتان قضيتان متضادتان، لا تَصدقان معًا لكنهما قد تكذبان معًا. ووجه الاختلاف الرئيسي هنا بين أرسطو وديوي، هو أنه بينما يَعد أرسطو هاتين الحالتين بديلين إذا وقع أحدهما امتنع الآخر، كأنهما حالتان متعينتان مما يمكن وقوعه فعلًا في الوجود الخارجي، يرى ديوي أنهما طرفان نظريان يضعهما الباحث افتراضًا عند بداية البحث، لكي يحدد بهما الشوط الذي له أن يتحرك فيه من نهاية سُفلى إلى نهاية عُليا؛ فالنهاية السفلى لإطار البحث هي ألا تكون الفقريات المائية من ذوات الدم البارد، والنهاية العليا هي أن تكون كل الفقريات المائية من ذوات الدم البارد؛ وهو إنما يضع لنفسه هاتين النهايتين النظريتين الإجرائيتين، لا ليختار إحداهما ويرفض الأخرى، بل ليسير بينهما سيرًا يحدد له شتى الحالات القائمة في الوجود الفعلي، وهي حالات تقع كلها بين النهايتين المذكورتين؛ فالتضاد بين القضايا يُقيم الحدود التي لا بد للتغيرات المعينة أن تَحدث في إطارها، وأما القضيتان المتضادتان ذاتهما فهما غير متعينتين، فلا يجوز اعتبارهما حالتين يقف البحث عندهما كأنما قد وصل بهما إلى ختامه المنشود؛ إذ هما بدايتان نفترضهما لتكونا بمثابة إحدى المراحل التي لا بد من اجتيازها واحدة بعد واحدة حتى تنتهي إلى ختام البحث بمعناه الصحيح، وهو الختام الذي نجد عنده ما هو واقع بالفعل، لا ما هو مفترَض افتراضًا نظريًّا ليكون وسيلة إجرائية تهدي الباحث في طريق سيره؛ القضيتان المتضادتان لا تَدلان بذاتهما على شتى الحالات الممكنة، ففي المثل السابق قد تكون حقيقة الواقع هي أن «بعض الفقريات المائية من ذوات الدم البارد وبعضها الآخر ليس كذلك»، بل هما بمثابة النهايتين الختاميتين اللتين تتفاوت بين طرفيهما البدائل الوسطى؛ أي إنهما بمثابة السور الخارجي الذي يسور رقعة البحث، وليستا هما بذاتهما ما يصح الوقوف عنده على أنه الحالتان اللتان علينا أن نختار إحداهما وندع الأخرى، أو أن نرفضهما معًا؛ ولو أخذنا طرفَي التضاد على أنهما الحالتان اللتان نختار إحداهما — كما يُستفاد من الموقف الأرسطي — لوقعنا في هذا الخطأ الذي يقع فيه كثيرون حين يضعون الموضوع الذي يتناولونه في صورة «إما هذا أو ذاك» ناسين أن الحالات الحقيقية أوضاع متدرجة بين هذا وذاك، وحسبك أن ترى الباحثين في مسائل الاجتماع والأخلاق يقولون: «إما الفرد أو المجتمع»؛ «إما الحرية أو الاستبداد»؛ «إما الطبقة البورجوازية أو طبقة الأجراء»؛ «إما تغير أو جمود» وهكذا وهكذا من ضروب الاختلاف التي تقع بين الناس ولا يُرجى لها أن تزول، لأن خطأ التفكير عندئذٍ ضارب إلى الأعماق، وهو أن يؤخذ الطرفان المتضادان على أنهما الحالتان اللتان نختار إحداهما. الدخول تحت التضاد، ويكون بين قضيتين جزئيتين، إحداهما موجبة والأخرى سالبة. والحكم فيهما هو أنه إذا كذبت إحداهما صدقت الأخرى، على أنهما قد تصدقان معًا، مثل قولنا: (أ) بعض الفقريات المائية من ذوات الدم البارد. و(ب) بعض الفقريات المائية ليس من ذوات الدم البارد. فها هنا أيضًا — على الرغم من أن هاتين الحالتين أكثر تحديدًا وتعيُّنًا من الحالتين المذكورتين في التضاد، حين يكون الطرفان قضيتين كليتين — إلا أن وجه الخطأ هناك ما زال موجودًا هنا؛ وهو أن نتوهم بتأثير هذه الصورة المنطقية أن هاتين الحالتين هما البديلتان اللتان لا بد أن تَصدق إحداهما؛ والذي يُوقعنا في هذا الخطأ هو أننا نخلط بين ما هو «منطقي» وما هو نتيجة المشاهدة الفعلية؛ فمنطقيًّا يجوز ألا تكون الفقريات المائية من ذوات الدم إطلاقًا؛ هذا فضلًا عن أنه حتى مع قبولنا هاتين الحالتين على أنهما الحالتان الممكنتان، فإننا نخطئ إذا ظننا أنهما الختام الذي نقف عنده لنختار أيهما؛ لأنهما مرحلة وسطى من مراحل البحث، لا بد أن ننتقل منهما إلى ما بعدهما، كأن نحدد الظروف التي يكون فيها بعض الفقريات المائية من ذوات الدم البارد، والظروف التي لا يكون فيها بعضها الآخر من ذوات الدم البارد؛ ومن قبيل ذلك أن البحث في موضوع الضوء في وقتنا الحاضر ما يزال عند هذه المرحلة؛ فهنالك من الشواهد ما يُسوِّغ القول بأن الضوء في «بعض» نواحيه ظاهرة إشعاعية وفي «بعض» نواحيه الأخرى ليس كذلك؛ إذ هو في هذه الحالة الأخيرة جسيمات. فهل يمكن للبحث العلمي الصحيح أن يقف عند هاتين الحالتين على أنهما الخاتمة التي يَقنع بها؟ كلا، بل إن البحث العلمي لَيَمضي بعد ذلك متخذًا من هاتين الحالتين الداخلتين تحت التضاد مشكلة ينبغي حلها، وهي في أي الظروف يكون الضوء موجيًّا وفي أيها يكون متقطعًا في جسيمات؟ التداخل، ويكون بين القضية الكلية والقضية الجزئية المتفقة معها في الكيف؛ والحكم فيهما — بناءً على أرسطو — هو أنه إذا صدقت القضية الكلية صدقت معها القضية الجزئية؛ فإذا قلنا: كل الفقريات المائية من ذوات الدم البارد، لزم عن ذلك أن يكون قولنا: «بعض الفقريات المائية من ذوات الدم البارد» صادقًا؛ لكن أرسطو قد أخطأ هنا حين ظن أن القضية الكلية يمكن أن يستدل منها شيء على الوجود الفعلي؛ فالقضية الكلية قضية لا وجودية، هي بمثابة قضية شرطية مجردة تقول: إذا كان الحيوان من الفقريات المائية فهو من ذوات الدم البارد؛ دون أن تورط نفسها في الاعتراف بأن هنالك مثل هذا الكائن؛ وإذن فلا نستطيع من هذا الشرط المجرد أن نستدل وجودًا فعليًّا — والقضية الجزئية دالة على وجود فعلي — فنقول: هنالك بالفعل بعض الفقريات متصفة بكذا. ••• على أن أهم ما في المنطق الأرسطي هو الاستدلال القياسي؛ وقد بناه أرسطو بناءً صحيحًا على أساس فلسفته الوجودية التي كانت تجمد الأنواع في ماهيات ثابتة؛ وإذا كان أمرها كذلك، كنا إذا وصفنا ماهية نوع ما في المقدمة الكبرى، ثم ذكرنا في المقدمة الصغرى نوعًا يندرج تحت النوع الأول، جاءت النتيجة بأن النوع المشمول يشترك مع النوع الشامل في جوهره، لكن مثل هذا الموقف لا يصدق على حالة العلم في صورته الراهنة؛ وأقرب شيء الآن إلى الاستدلال القياسي في صورته المذكورة: مقدمة كبرى ومقدمة صغرى ونتيجة، هو أن يكون لدينا تعريف (مقدمة كبرى) نطبقه على حالة من حالات الوجود الخارجي (مقدمة صغرى) لننتهي إلى نتيجة تطوي هذه الحالة المعينة تحت ذلك التعريف؛ وعندئذٍ يكون الفرق الجوهري بين هذا الاستدلال القياسي وبين القياس الأرسطي، هو أن المقدمة الكبرى والمقدمة الصغرى ليستا من نوع منطقي واحد؛ فالكبرى قضية شرطية مجردة كأنها تقول: «إذا كان هذا لزم أن يكون ذاك» — والقضية الشرطية المجردة لا تقتضي تحققًا في الوجود الفعلي — وأما الصغرى فقضية وجودية لأنها تصف حالة واقعة مشاهَدة؛ فالنتيجة — إذن — هي انطباق الشرط المجرد على حالة خاصة قائمة بالفعل؛ ولما كانت القضايا الوجودية احتمالية دائمًا، كانت نتيجة الاستدلال القياسي — على هذا الوجه المذكور — احتمالية؛ وبهذا يصبح للقياس أهمية في البحث العلمي، لأن قوامه عندئذٍ هو أن ينشأ في الذهن تفكير نظري يوحي بإجراءات معينة، ثم نعقب عليه بإجراءات فعلية بما نقوم به من عمليات المشاهدة لما هو واقع، لكي ننتهي إلى حل يفض لنا إشكالًا كان مطروحًا للبحث. ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد أن «مل» حين وجه النقد للاستدلال القياسي في صورته التقليدية، وأراد إصلاح ما فيه من خطأ، وقع في نفس الغلطة القديمة، وإن يكن قد سار بها في اتجاه معكوس؛ فالنظرية التقليدية تجعل المقدمتين الكبرى والصغرى من صورة منطقية واحدة، وفاتها أن ترى أن الكبرى غير وجودية بينما الصغرى وجودية، وأن العمليات المطلوبة لتكوين كلٍّ من المقدمتين تختلف في إحدى الحالتين عنها في الأخرى، فبينما العملية في تكوين المقدمة الكبرى فكرية نظرية شرطية مجردة، فالعملية في تكوين الصغرى هي مشاهدات للواقع الخارجي؛ فجاء «مل» وارتكب الغلطة نفسها؛ إذ جعل المقدمتين من نوع منطقي واحد، وكل اختلافه عن النظرية التقليدية هو أنه جعلهما قضيتين وجوديتين بعد أن كانت كلتاهما عقليتين؛ فبدل أن يشبه صورة المقدمة الصغرى بصورة المقدمة الكبرى كما تفعل النظرية التقليدية، شبَّه صورة الكبرى بصورة الصغرى؛ أعني أن «مل» يجعل المقدمة الكبرى — كالمقدمة الصغرى — حصيلة عدد كبير من القضايا الجزئية الوجودية. إن الاستنباط الصِّرف لا يكون إلا في عالم الفكر؛ إذ نستنبط فكرة من فكرة، والاستدلال الواقعي الصرف لا يكون إلا في عالم الأشياء المشاهدة، إذ نستدل واقعة من واقعة، والخطأ هو أن نوحد بين العمليتين أو أن نخلط بينهما، بحيث نجعل استنباط الأفكار بعضها من بعض هو نفسه الاستدلال على حالة الواقع؛ والأصح أن نميز بين العمليتين تمييزًا واضحًا، ثم نستفيد بهما معًا في القياس، فنضع من عالم الفكر النظري مقدمة كبرى، ونضع من عالم المشاهدة مقدمة صغرى، ثم تجيء النتيجة بمثابة التطبيق: تطبيق القضية الشرطية المجردة على القضية الوجودية المعينة الموضوع، تطبيقًا لو أدى إلى حل الإشكال المعروض للبحث كان برهانًا على صدق الفكرة النظرية التي جعلناها مقدمة كبرى في القياس. وعلى أساس فكرة الاتصال هذه، لا يُقر «ديوي» مذاهب المنطق الأخرى على تفتيت عملية الفكر إلى وحدات هي القضايا، بحيث نستطيع أن نقول عن القضية الواحدة وهي بمعزل عن سواها إنها صادقة أو كاذبة؛ إذ القضية في رأيه لا تكون إلا خيطًا من نسيج، وحلقة في سلسلة، ومرحلة من مراحل السير نحو حل مشكلة بعينها أولًا، ثم الاستفادة بنتيجة البحث في تلك المشكلة المعينة في حل مشكلة أخرى وهكذا؛ فإذا كانت المذاهب المنطقية الأخرى تنظر إلى الحقيقة الواحدة على أنها حالة مستقلة ذات بنية خاصة، فالمذهب البراجماتي ينظر إليها على أنها امتداد زمني يؤلف جزءًا من تاريخ، فلها سابق متصل بها ولا حتى يستأنف امتدادها. ولا شك في أن فكرة الاتصال عند «ديوي» فكرة هيجلية؛ فمن المعروف عن «ديوي» أنه درس الفلسفة الهيجلية وتأثر بها أعمق التأثر — شأنه في ذلك شأن رجال الفلسفة كافة في أمريكا وفي إنجلترا على السواء إبَّان النصف الثاني من القرن التاسع عشر — حتى لَتستطيع القول في غير مبالغة ولا إسراف إن الفلسفة المعاصرة كلها بدأت بهيجل ثم ثارت عليه؛ أقول إن فكرة الاتصال عند «ديوي» هيجلية، والفرق بين الفلسفتين في هذا الصدد هو أن «ديوي» يكفيه في المشكلة الواحدة أن يجعل الاتصال شاملًا لموقف واحد، على حين أن هيجل يَمد من أطرافه حتى يجعل الاتصال شاملًا للعالم كله. إن المحور الذي يدور حوله المذهب المثالي هو أن أمور الواقع لا يمكن الحكم عليها بأي حكم إلا إذا تحولت أولًا إلى معانٍ عقلية، فعندئذٍ نستطيع أن ننسب هذه المعاني العقلية بعضها إلى بعض فتتكون الأحكام؛ والمحور الذي يدور حوله المذهب الواقعي هو أن أمور الواقع لا بد أن تكون لها واقعية خارجية وبنية محددة المعالم في حد ذاتها لكي يكون لأحكامنا عليها بعد ذلك سند يؤيدها. وأما المذهب البراجماتي فلا هو يريد أن يَفصل الأفكار العقلية في عالم وحدها، ولا هو يَرضى بأن يُقيم العالم الواقع على أساس يستقل به بادئ ذي بدء، بحيث لا يتأثر كيانه بفكر الإنسان؛ إذ الإنسان إنما يعيش في هذا العالم وهو جزء منه، فلا وجه للقول بأنه يتلقى أمور الواقع ليخضع لها كما جاءت إليه؛ لأن حقيقة الأمر هي أنه يتأثر بها ليُغير فيها ويُشكلها على النحو الذي يرضاه لنفسه؛ وإذن فمعطيات الواقع إلينا لا تكون أجزاءً من المعرفة الإنسانية إلا إذا أجريناها في الطريق المؤدية إلى تحقيق أغراضنا، وإلا لما كان هنالك ما يسوغ أن نختار من أمور الواقع شيئًا وندع منها شيئًا، ولكان كل شيء في العالم الخارجي عندنا ككل شيء آخر، نتلقاها كلها ونحن صاغرون ولا ندري ماذا نصنع بها فيما يكتنف حياتنا من مشكلات؛ كلا بل الفكر عند «ديوي» هو أداة لإعادة تكوين الوجود الخارجي، وقوام المعرفة عنده هو التنسيق بين ما نصادفه من عوامل متنافرة في موقف معين، تنسيقًا يُزيل التنافر والتوتر بحيث يصبح الموقف موحدًا مستقرًّا نستطيع العيش به وفيه عيشًا موفقًا. لهذا ترى «ديوي» شديد النقد لأصول المذهب التجريبي في صورته التقليدية — تجريبية هيوم مثلًا — التي كانت تجعل الفكرة صورة طبق الأصل للانطباع الحسي، كأنما المعرفة عنده هي نسخة من الواقع المحسوس؛ لكن تحصيل النسخة أو أصلها — عند ديوي — ليس من المعرفة في شيء ما دامت المعرفة هي تحويل العالم الخارجي لا تصويره؛ فحلقات القصة هي كما يلي: هنالك بيئة خارجية معينة، لا نحتاج إلى عناصرها كلها في الموقف الذي نكون بصدده؛ بل يَهمنا منها ظروف دون أخرى، فنختار ما يهمنا لحل المشكلة القائمة؛ حتى إذا ما جمعناها بالمشاهدة وحددناها تحديدًا يُبلور لنا جسم المشكلة المراد حلها، عرض لنا حل «ممكن» لها، وهكذا يَمثل الحل الممكن أمام الذهن فكرة؛ فما الفكرة إلا نتائج نتصور حدوثها قبل وقوعها، أعني نتائج لما عساه أن يحدث إذا نحن قمنا بأداء إجراءات معينة في ظل الظروف المشاهدة وعلى هذا فيستحيل الفصل بين الوقائع المشاهدة من جهة والمعاني التي تعرض لنا عنها — أي الأفكار التي توحيها إلينا تلك الوقائع — من جهة أخرى. بل ينشأ الجانبان معًا وينموان معًا في تقابل يتوازيان به، فكلما ازدادت الوقائع لنا ظهورًا، ازدادت كذلك تصوراتنا وضوحًا للطريقة التي ينبغي أن نعالج بها تلك الوقائع؛ والعكس صحيح أيضًا؛ فكلما ازدادت فكرتنا عما سنُجريه على الوقائع وضوحًا، ازداد أيضًا وضوح الإجراءات الفعلية التي نجريها وفق فكرتنا التي تصورناها. لقد اضطر «هيوم» حين فتت الخبرة تفتيتًا يردها إلى انطباعات حسية كل منها وحدة قائمة بذاتها، اضطر إلى الأخذ بمبدأ «العادة» ليضمن به دوام الشيء الواحد على ذاتية واحدة ولو إلى فترة قصيرة من الزمن؛ إذ بغير ارتباط المعطيات الحسية المفككة التي ترد إلينا من شيء بعينه، ارتباطًا يجعلها في خبرة الإنسان شيئًا واحدًا، لاستحال قيام الذاكرة كما استحال علينا أيضًا أن نتوقع ما يحدث لشيء ما في زمن مقبل؛ لأن كل انطباع جديد سيكون — في رأي «هيوم» — ذرة منعزلة قائمة بذاتها. نعم كان «هيوم» يَعد «العادة» حقيقة غامضة، لكنه مع ذلك اضطر إلى جعلها رباطًا يربط المواد المفككة لكي يلتمس طريقًا إلى احتفاظ الأشياء بذاتياتها؛ وها هو ذا تقدم البيولوجيا اليوم قد أغنانا — كما يقول «ديوي» — عن جانب الغموض في ذلك الرباط الملغز؛ إذ وجد أن طبيعة الخبرة فيها ما يربط أجزاءها ربطًا يحقق لها الاتصال على امتداد فترة زمنية، كما وجد أيضًا أن من طبيعة الخبرة ذاتها أن تكون مؤلَّفة من نبضات متميزة إحداها من الأخرى، لكنها على تميزها مرتبطة بعضها ببعض في تيار واحد. وسيرنا في عملية البحث يصوِّر ويجسِّد هذا التيار الخبري المتصل الذي أقامته العوامل البيولوجية والثقافية معًا؛ فكل بحث خاص هو سير نتقدم فيه خطوة بعد خطوة، ونراكم حصيلة الخطوة السابقة على الخطوة اللاحقة. ومعنى ذلك أن البحث الذي يتم في لحظة زمنية واحدة أمر مُحال؛ فمحال كذلك أن يكون هنالك حكم — والحكم هو خاتمة البحث — بمعزل وحده عن سوابقه ولواحقه. الفرق الواضح — إذن — بين «ديوي» و«هيوم» هو أنه بينما يَعد «هيوم» أفكارنا نسخًا عقلية للأشياء التي في الواقع، وبذلك فهو يتجاهل الوظيفة التي تؤديها الأفكار في توجيه المشاهدة، يرى «ديوي» أنها «إيحاءات» لما يمكن أن نؤديه في عالم الواقع من عمليات إجرائية تحول الموقف المشكل إلى موقف محلول الإشكال؛ ولذلك فقد أصاب «كانت» حين لاحظ ملاحظته الدالة على نظرة منطقية عميقة ونافذة، وهي قوله: «إن الإدراكات الحسية بغير مدركات عقلية تكون عمياء، والمدركات العقلية بغير إدراكات حسية تكون فارغة»؛ لولا أن هذه النظرة النافذة قد انهدمت من أساسها حين ظن أن مضمونات الإدراك الحسي ومضمونات الإدراك العقلي قد جاءتنا أصلًا من مصدرين مختلفين؛ ولذلك فقد احتاجتا إلى فعل ثالث — هو فعل الفهم التركيبي — ليضمهما معًا؛ وحقيقة الأمر هي أن المواد الحسية والمواد العقلية قد نشأتا مرتبطتين معًا ارتباطًا أدائيًّا، على نحو يجعل الأولى تُحدد المشكلة وتَصفها، على حين تُقدم الثانية طريقة ممكنة لحلها. ولئن كانت النظرية البراجماتية تُعارض المذهب التجريبي كما عرفه «هيوم»، والمذهب العقلي كما عرفه «كانت»، فإنها كذلك تُعارض الواقعية الذرية التي يأخذ بها «برتراند رسل» فأخذتها عنه جماعة الوضعية المنطقية؛ فهذه الواقعية الذرية تَعد المعطيات الحسية من البساطة بحيث لا يمكن الارتداد وراءها إلى ما هو أبسط منها؛ ومنها تتألف القضايا الذرية؛ فالقضية التي نقول بها «هذا أحمر» قضية ذرية ينتهي عندها التحليل؛ ونظرية الواقعية الذرية قائمة على أساس أن كلمة الإشارة «هذا» — في القضية الذرية — خالية من كل مضمون وصفي، لأنه لو كانت «هذا» أكثر من مجرد أداة إشارية عارية لأصبحت مركبة، وإذن لكانت شيئًا لا نُعطاه عطاءً مباشرًا؛ لكن «ديوي» يعتقد استحالة أن يكون هنالك أداة إشارية محض، خالية من أي مضمون وصفي؛ ولو كانت كلمة «هذا» من المضمون الوصفي كما يذهب أنصار الواقعية الذرية، لما كان هنالك فرق بين الحالات المختلفة التي نستخدمها فيها؛ فما الذي يُبرر لنا أن نقول في موقف ما، مشيرين بإصبعنا مثلًا، «هذا أحمر» على حين أن ما يمكن أن تَنصَبَّ عليه الإشارة أشياء أخرى كثيرة؟ ولا يُزيل الإشكال أن نقول إن المعطى الأول ليس «هذا» وحدها، بل «هذا الأحمر» مأخوذة جملة واحدة؛ لأنه حتى لو استطعنا أن نحدد الانطباع اللوني للبقعة الحمراء المعينة، لما كان لنا بذلك قضية ذرية كما يقولون، بل لكان الذي لدينا هو «موضوع» عارٍ ينتظر أن يُحمل عليه بمحمول ما، بل لكان في هذه الحالة موضوعًا لا يَصلح لأن يُحمل عليه بشيء على الإطلاق. ومع ذلك كله فالقضية الذرية «هذا أحمر» — حتى إذا سلمت من الاعتراض السابق — فهي ليست كاملة بذاتها وفي ذاتها، بل هي «وسيلة» نستخدمها لحل مشكلة قائمة؛ إذ نستخدمها شاهدًا نستشهد به على أمر سواه. فحقيقة الواقعية الذرية إذن هي أنها تَعزل ما ليس في سياق البحث معزولًا، وتجرد الوسيلة الأدائية من جانبها الأدائي لتجعل منها هيكلًا ثابتًا قائمًا بذاته مستقلًّا عن أية مهمة عملية يؤديها في مجال البحث؛ فهذا المذهب في رأي «ديوي» يغض نظره عن السياق الذي ترد فيه القضايا الذرية، وعن الهدف المنطقي الذي ما جاءت تلك القضايا إلا من أجله وعلى أساسه. على أن أهم ما يميز منطق «ديوي» هو إصراره على جانب «البحث» معارضًا به ما يسميه غيره من رجال المنطق ﺑ «الصدق»؛ فليس هدفه كهدف هؤلاء تحديدًا للشروط التي يكون بها القول الصادق صادقًا — بالمعنى المنطقي للصدق — بل هدفه هو تحديد للشروط التي تجعل القول «المنتج» أدائيًّا وفعَّالًا؛ فكلمة «بحث» عنده لا تعني ما تعنيه عند سائر الفلاسفة، وهو أن يكون البحث بحثًا عن «الحقيقة» كما هي قائمة في الفكر — على مذهب المثاليين — أو كما هي قائمة في الواقع الخارجي — على مذهب الواقعيين — بل البحث عنده «تحويل» لموقف مشكل إلى موقف محلول الإشكال؛ أو بعبارة أخرى ليست غاية «البحث» أن «يصف» ما هنالك، بل أن «يُغيِّر» ما هو قائم إلى صورة جديدة تخدم أغراض الإنسان إزاء مشكلاته التي تعترضه. ولا يفوتنا هنا بطبيعة الحال أن نُلاحظ الصلة في هذه النقطة بينه وبين رجل آخر كان مثله هيجليًّا أول أمره، ثم ثار مثله على الفلسفة الهيجلية، ألا وهو «كارل ماركس». إن كاتب هذا التصدير نصير للواقعية الذرية كما استخدمتها الوضعية المنطقية، مع تعديل يجعلها هي والمذهب البراجماتي خطوتين متكاملتين لا متعارضتين؛ فالأساس عند كلتيهما هو الخبرة الحسية؛ لكن البراجماتية إذ تجعل نقطة ابتدائها «موقفًا» بأكمله، والواقعية الذرية إذ تحلل الموقف إلى أولياته البسيطة، وهي المعطيات الحسية التي منها تتألف القضايا الذرية الأولى، فهما في الحقيقة — من وجهة نظر هذا الكاتب على الأقل — متكاتفتان متآزرتان في نهاية الأمر؛ فسواء بدأنا من «موقف» أو رددنا هذا الموقف إلى بسائطه، فلا اختلاف في أن مدارنا هو الواقع. وتحليل الواقعية الذرية من شأنه أن يوضح عناصر «الموقف» لا أن يتنكر له وينفيه. وكذلك الأمر عندما تجعل البراجماتية «القضية» وسيلة أدائية، وتجعلها الواقعية الذرية «حقيقة» تستند في صدقها إلى إمدادات الخبرة الحسية؛ فكلتاهما متعاونتان لا متعارضتان. وما أشبه ذلك بمن يجعل مهمته أن يتثبت من أن شيئًا معينًا هو لون أحمر، ومن يأتي بعد ذلك ليقول إن اللون الأحمر علامة لوقوف السير في حركة المرور؛ فالواقعية الذرية تكتفي بالتحقق من صدق الوحدات الفكرية، والبراجماتية تُصِرُّ على أن تكون الغاية هي كيفية الانتفاع بتلك الوحدات، والجانبان كما قلنا يتكاملان ويتعاونان ولا يتعارضان.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/0.2/
مقدِّمة
إن كلمة «البراجماتية» لم تَرد فيما أظن في هذا الكتاب؛ إذ ربما تكون هذه الكلمة مدارًا لسوء الفهم؛ فأقل ما يُقال هو أنه قد تَجمَّع حول هذه الكلمة من سوء الفهم ومن المجالات العقيمة نسبيًّا ما جعلني أُوثر أن أجتنب استعمالها؛ غير أن هذا الكتاب براجماتي من أوله إلى آخره إذا نظرنا إلى «البراجماتية» نظرة تؤوِّلها تأويلًا سليمًا، وأعني به أن تُستخدم النتائج على أنها اختبارات لا بد منها للدلالة على صدق القضايا، على شرط أن نتناول هذه النتائج من حيث هي عمليات يمكن إجراؤها، ومن حيث هي وسائل تؤدي إلى حل المشكلة الخاصة التي قد استدعت تلك الإجراءات. أما والمنطق على ما هو عليه اليوم فلست أشك في أن خلوَّ هذا الكتاب من أي محاولة نحو الصياغة الرمزية سيثير في عقول قرَّاء كثيرين اعتراضًا خطيرًا؛ غير أن خلوَّه من هذه الصياغة الرمزية لم يَصدر عن كراهية مني لمثل هذه الصياغة؛ بل الأمر على خلاف ذلك؛ إذ إنني على اعتقاد بأن قبول المبادئ العامة التي بسطتها سيمكن من قيام بناء رمزي له من الكمال، وفيه من الاتساق ما ليس يتوافر في البناءات الرمزية القائمة بيننا اليوم. إن إغفالي للرمز مرجعه أولًا إلى نقطة ذكرتها في موضع ما من الكتاب وهي الحاجة إلى تهذيب نظرية عامة في اللغة لا تفصل بين الصورة والمادة؛ وثانيًا إلى أن قيام مجموعة وافية من الرموز يتوقف على ما يسبق ذلك من إقامة أفكار سليمة عن المدرَكات العقلية والعلاقات التي نرمز إليها بتلك الرموز؛ فبغير تحقيق هذا الشرط لن تؤدي عملية الرمز الصورية إلا إلى الاستمرار في الأخطاء القائمة (كما يحدث الآن غالبًا)، بل إنها لَتؤدي إلى تقوية تلك الأخطاء لما نخلعه عليها مما قد يُكسبها في الظاهر صورة العلم الصحيح. وقد يجد القراء — الذين هم ليسوا على علم خاصٍّ بالبحوث المنطقية المعاصرة — بعض أجزاء هذا الكتاب أمعن في الاصطلاح العلمي مما يحتملونه، وبخاصة في الجزء الثالث. ونصيحتي لهؤلاء القراء هي أن يفسروا ما يقرءُونه بأن يعيدوا إلى أذهانهم ما يعملونه هم أنفسهم والطريقة التي يصطنعونها في أداء ما يعملونه إذا ما واجهتهم مشكلة أو صعوبة يحاولون تذليلها على نحو عقلي؛ فلو اتبعوا هذا المنهج فأظن أن المبادئ العامة ستصبح عندئذٍ قريبة إلى أذهانهم قربًا يُزيل إشكالهم إزاء التفصيلات الاصطلاحية بزوال ما يسوغه؛ وربما أفادت هذه النصيحة بعينها أولئك الذين أَلِفوا الكتابات المنطقية الجارية إلفًا يَحول بينهم وبين فهمهم لموقف جديد يختلف في مواضع كثيرة مع معظم الآراء السائدة. وختامًا أود أن أقرر بأن هذه الرسالة الآتية إن هي إلا تمهيد، فهي عرض لوجهة من النظر ولمنهج في تناول المشكلات. وعلى الرغم من أن عرضي لهما قد لبث يزداد نضجًا مدى فترة تزيد على أربعين عامًا، غير أنني على وعيٍ تام بأن عرضي هذا لا يتسم — ولم يكن في الإمكان أن يتسم — بالصقل وإحكام التمام اللذَيْن هما في مقدور الإنسان من الوجهة النظرية؛ ولكني كذلك مقتنع بأن وجهة النظر المعروضة قد بلغت من السداد الكامل حدًّا يُمَكِّن أولئك الذين يرحبون باعتناقها من تهذيب نظرية في المنطق — في الأعوام التالية — تجيء على أتم اتفاق مع أكثر المناهج المؤدية إلى المعرفة تأييدًا من رجال البحث. وإني لأقدم أطيب الأماني والآمال لأولئك الذين قد شغلوا أنفسهم بالعمل البالغ الخطر، وأعني به التوفيق بين النظرية المنطقية من جهة والعمل العلمي من جهة أخرى، مهما يكن هنالك من بُعد الشُّقة في الأمور التفصيلية بين نتائجهم والنتائج التي أعرضها في هذا الكتاب.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/1/
موضوع المنطق ومشكلته
تتسم النظرية المنطقية المعاصرة بمفارقة ظاهرة، فلئن كان ثمة اتفاق إجماعي على الموضوع المباشر الذي يتناوله المنطق بالبحث، بحيث لم يُصب فيه أي عهد مضى ما قد أصابه هذا العهد من تقدم ثابت الخطى، إلا أن الأصول العميقة التي يرتد إليها هذا الموضوع يثور حولها من الجدل ما لا يبشر بالوصول إلى اتفاق إلا بمقدار ضئيل؛ وأما الموضوع المباشر فمجاله العلاقات الكائنة بين القضايا؛ كعلاقتَي الإثبات والنفي، والتداخل والتخارج، والجزئي والكلي … إلخ، فليس عند أحد الباحثين من شك في أن العلاقة الوجودية (التي ندل بها على أن الشيء الفلاني «هو» كذا وكيت) وأن نفي هذه العلاقة الوجودية (حين نقول عن شيء معين إنه ليس كذا وكيت)، وأن علاقة «إذا – إذن» وعلاقة «فقط» (أي «لا أحد سوى كذا») وعلاقة «و» وعلاقة «أو» وعلاقة «بعض – كل» كلها تنتمي إلى مادة المنطق على نحو يميز تلك المادة تمييزًا يجعل منها مجالًا مستقلًّا للبحث. هذه أسئلة مما أسميته الأصول العميقة التي يرتد إليها موضوع البحث في المنطق، وعلى هذا الموضوع يثور الجدل، لكن عدم اليقين حول هذا الأمر لا يمنع المشتغلين في المجال المباشر للبحث المنطقي من القيام بعمل له قيمته، غير أن المضي في هذا المجال المباشر كلما أمعن في التقدم، ازدادت المشكلة الأولى إلحاحًا علينا، وهي: فيمَ هذا البحث من أساسه؟ أضِف إلى ذلك أننا لا نكون على حق إذا زعمنا أنه حتى في مجال البحث المحدود هناك اتفاق «تام»، بل الأمر على خلاف ذلك؛ إذ يقوم الخلاف حول بعض المسائل الهامة حتى في هذا المجال، ويُحتمل أن يكون عدم اليقين واختلاف الرأي في نطاق المجال المحدود انعكاسًا لاضطراب الرأي فيما يختص بالأصول العميقة لمادة البحث (وسيظهر فيما يلي من هذا الكتاب أن هذا الاحتمال هو الصواب). فوجهة النظر تقول إنها تكون عالمًا قوامه الإمكانات الخالصة، ومعنى «الخالصة» هنا أن تلك الإمكانات لا تعتمد في وجودها على الوجود بالفعل. وأخرى تقول إنها الثوابت الأولية التي تُقيم «نظام» الطبيعة. وأخيرًا ظهر على المسرح رأي آخر في موضوع دراسة المنطق، وهو رأي يذهب إلى أن المنطق معنيٌّ بالبناء الصوري للغة باعتبارها نسقًا من رموز؛ وحتى ها هنا تجد في الرأي انقسامًا: فشعبة تقول إن المنطق هو نظرية تحويل العبارات اللغوية، وعندئذٍ يكون أساس التحويل هو التطابق الذاتي بين صور البناء اللفظي (بحيث يمكن لبناءين مختلفين أن يكونا ذوَي دلالة واحدة)، وشعبة أخرى تقول إن النسق الرمزي الذي هو موضوع دراسة المنطق هو بمثابة جبر كوني للوجود الفعلي. على أن قائمة الاتجاهات المختلفة التي أسلفنا ذكرها، إنما سقناها على سبيل التوضيح، لا على سبيل الحصر، وهي كافية لتسويغ القيام بمحاولة واحدة أخرى نتناول بها المجال المباشر في دراسة المنطق تناولًا ينطوي على نظرية معينة خاصة بالأصول الأولية التي يرتد إليها المنطق؛ وإنه لمن الحمق أن يقول قائل — وموقف الأمور كما هو عليه الآن — إن المنطق «لا بد» له أن يختص بهذا الأمر أو ذاك؛ لأن أمثال هذه التوكيدات إن هي إلا التزامات بالواقع اللفظي، تفترض أن الكلمة من الكلمات لها من القوة السحرية ما يمكنها من تمييز واختيار موضوعها الذي يكون مجال انطباقها، أضف إلى ذلك قول القائل بأن المنطق «هو» في واقع الأمر كذا وكيت، لا يمكن قبوله — والنظرية المنطقية على ما هي عليه اليوم — إلا على أنه مجرد افتراض وإشارة إلى وجهة نظر معينة تُعرض لتهذيبها. ليست مهمة هذا الفصل أن يحاول تبرير هذا الفرض، ولا أن يبين أنه فرض يحقق الشروط الثلاثة التي اشترطناها، لأن هذه هي مهمة الكتاب بأسره؛ لكني أريد أن أُبرز نقطتين على سبيل التمهيد لشرح «معنى» الفكرة التي أعرضها (لا تبريرها). وهذا الشرح هو المهمة الرئيسية لهذا الفصل؛ أما إحدى هاتين النقطتين فهي أنه مما يَحد من نفور النافر من وجهة النظر التي ذكرتها لتوي، أن يضع ذلك النافر في اعتباره هذه الحقيقة، وهي: أن جميع الأفكار عن طبيعة موضوع البحث المنطقي مما نراه اليوم سائدًا، وهي كفكرتي مجرد فروض؛ فإذا لم تَبدُ عليها هذه الصفة الافتراضية، فذلك لإلفنا إياها؛ ولو اجتنبنا التعصب لآراء بعينها، لوجب علينا أن نُفسح المجال لأي فرض مهما يكن غير مألوف لنا، لنحكم عليه بعدئذٍ بنتائجه؛ وأما النقطة الثانية فهي أن هنالك بحوثًا — متعددة في تنوعها شاملة في مداها — قائمة بيننا بالفعل ولكل من شاء أن يضعها موضع الفحص؛ فالبحث في علم من العلوم هو منه بمثابة دم الحياة، وما ينفك كل فن وكل صناعة وكل مهنة يخضع لما يقتضيه البحث، واختصارًا فإن الفرض الذي أتقدم به إنما يمثل ما هو قائم بالفعل (في شتى العلوم)، فلا عبرة بعد ذلك للريبة التي قد يُحاط بها عند تطبيقه على مجال المنطق. وفي سبيل توضيح معنى وجهة النظر التي أصطنعها، سأمضي قدمًا، معتمدًا هذه المرة إلى حد كبير على الاعتراضات التي يُرجَّح أن يُثيرها المعترضون؛ وأعمق هذه الاعتراضات من حيث الأساس، هو أن المجال الذي أشرت إليه ليكون هو مجال البحث في المنطق — وأعني به مجال البحوث — قد استنفد بالفعل؛ إذ هنالك علم آخر منظم يتناوله بالدراسة، وهو علم مناهج البحث، وكلنا يعرف كيف يميز بين علم مناهج البحث من جهة والمنطق من جهة أخرى، فالأول هو تطبيق للثاني. ولا شك أنني لا أستطيع أن أُبين أن هذا الاعتراض غير قائم على أساس صحيح قبل أن أفرغ فراغًا تامًّا من بيان وجهة نظري بيانًا مفصلًا لكنني أُلاحظ هنا أن القول «مقدمًا» بأن هنالك فاصلًا حادًّا بين المنطق من جهة وعلم المناهج في البحث العلمي والعملي من جهة أخرى، هو مصادرة على المشكلة الأساسية التي نطرحها على بساط النظر؛ فكون الكثرة الغالبة من المؤلفات القائمة عن علم المناهج قد كتبها أصحابها على زعم منهم بوجود فرق محدد بين المجالين، لا يقوم برهانًا على أن ذلك الفرق موجود فعلًا؛ أضف إلى ذلك أن الإخفاق النسبي الذي مُنِيَت به المؤلفات عن المنطق، التي وَحَّدت بين المنطق وعلم المناهج (ولي أن أذكر على سبيل المثال منطق مل) لا يُبرهن على أن التوحيد بينهما مقضيٌّ عليه بالإخفاق المحتوم؛ لأن ذلك الإخفاق «قد» لا يكون نابتًا من طبيعة الموضوع ذاتها؛ وعلى كل حال، فالزعم ابتداءً بثنائية تفصل ما بين المنطق وعلم المناهج لا بد أن يكون — عند النظر المنزه عن الهوى — مؤديًا إلى تأثير مغرض في طرائق البحث من جهة، وفي مادة المنطق من جهة أخرى. إن وجاهة الرأي الذي يقيم التفرقة بين المنطق وعلم مناهج البحث — أي بين المنطق والمنهج العلمي — مرجعها حقيقة غير منكورة، فلكي ينتهي البحث إلى نتائج سليمة لا بد له من مسايرة ما يقتضيه المنطق؛ ومن هذه الحقيقة يَسهل استدلال الفكرة القائلة بأن مقتضيات المنطق مفروضة على مناهج البحث من خارج؛ ولما كانت البحوث والمناهج تتفاوت جودة ورداءة، كان المنطق هو معيار نقدها وتقويمها؛ وهنا يسأل السائل: كيف يمكن للبحث الذي يُراد تقويمه «تقديره» على أساس معيار ما، أن يكون هو نفسه مصدر ذلك المعيار؟ كيف يمكن للبحث أن يخلق الصور المنطقية (كما سبق لنا أن قررنا) ومع ذلك يكون خاضعًا لما تقتضيه تلك الصور؟ هذا سؤال لا محيص لنا عن إجابته، ولن تكون هذه الإجابة وافية إلا بكل ما يحتويه هذا الكتاب من دراسة، بيد أنه في مستطاعنا أن نوضح معنى وجهة النظر التي اصطنعناها، ببيان الاتجاه الذي سنتجه إليه في بحثنا عن الجواب. والمشكلة في أبسط صورها هي: هل يمكن للبحث — خلال قيامه بما يتطلبه من إجراء — أن يُخرج المعايير والصور المنطقية التي تعود بدورها فتستلزم من خطوات البحث التالية أن تخضع لها؟ وهنا قد يُجيب مجيب بقوله إن ذلك «ممكن» لأن ذلك هو نفسه ما قد حدث؛ بل قد نتحدى المعترض مطالبين إياه أن يبين لنا مثلًا واحدًا من أمثلة ما قد طرأ على المناهج العلمية من إصلاح، دون أن يكون هذا الإصلاح المعين قد نتج خلال عملية البحث نفسها التي ما تنفك تصلح نفسها بنفسها أثناء سيرها، نعم نتحداه أن يبين لنا مثلًا واحدًا لإصلاح جاء إلى المنهج نتيجة لتطبيق معايير دخلت عليه من خارجه؛ لكن مثل هذا التحدي يتطلب سندًا يسوغه فربما يكون البحث قد بدأ على نحو ما منذ ظهر على وجه الأرض إنسان؛ وإن يكن علمنا بمناهج البحث فيما قبل التاريخ غامضًا ومعتمدًا على التخمين؛ ولكننا نعلم الشيء الكثير من مختلف المناهج التي استخدمها الباحثون خلال العصور التاريخية؛ فنعلم أن المناهج التي تضبط العلم في عصرنا، قد نشأت في زمن حديث نسبيًّا، سواء في ذلك مناهج العلم الطبيعي والعلم الرياضي. هذا إلى أن الباحثين لم يقفوا بتلك المناهج المختلفة عند مجرد محاولة تطبيقها، بل قد دفعوا هذه المحاولة إلى ختامها، وأعني بذلك أنهم قد خبروا نجاحها؛ وعلى ذلك فقد هيَّأ لنا العلم في سيره المطرد وسائل نقد المناهج التي تناولتها المحاولة فيما مضى، وهو نقد نبع من طبيعة المناهج نفسها؛ فهذه مناهج قد بدأ الإنسان بتجربتها فأخفقت في ناحية هامة من نواحيها، فكان لا بد له — نتيجة هذا الإخفاق — أن يعمد إلى تعديلها بحيث تؤدي به إلى نتائج يمكن الركون إليها أكثر مما أمكن الركون إلى سابقتها؛ وهذه مناهج بدأ بها الإنسان فأنتجت له نتائج لم تستطع فيما بعد أن تقاوم ما قد جاء به البحث التالي مما يتعارض وإياها؛ فليس الأمر هنا مقصورًا على أن «نتائج» معينة قد وُجدت غير وافية أو باطلة، بل إنها قد وُجدت على نقصها هذا أو ذلك بسبب المناهج التي استُخدمت في إنتاجها، فكان لا بد لمناهج أخرى للبحث أن تنشأ بحيث يكون لها من صلابة الكيان ما يمكنها من إنتاج نتائج تواجه ما قد يجيء به كل بحث جديد، بل يمكنها كذلك من أن تصحح أخطاءها بنفسها؛ فهي إذن مناهج تزداد صلاحية خلال استخدامها وبفعل ذلك الاستخدام نفسه. ولربما تُفيدنا مقارنة نُجريها بين ما قد أصابته المناهج العلمية من تحسين خلال إجراءات البحث، والتحسين الذي قد طرأ على فنون الصناعة خلال تقدمها؛ فهل هنالك قط ما يسوغ لنا أن نفترض بأن التقدم في فن التعدين قد جاء نتيجة لتطبيق معيار خارجي (لا يمت إلى طبيعة ذات الفن نفسه)؟ إن ما يتخذونه اليوم من «معايير» في فن التعدين قد تفرعت عن العمليات التي كانت تؤدي فيما مضى لاستخراج المعادن من مناجمها؛ كانت هنالك حاجات لا بد من سدها، ونتائج لا بد من بلوغها، فلما أن تحققت تلك النتائج، انفسحت أمام النظر حاجات جديدة وإمكانات جديدة، فكان لا بد لعمليات البحث القديمة أن يُعاد تشكيلها لتقابل هذه الحاجات والإمكانات. واختصارًا فقد أثبتت التجربة نجاح طائفة من مسالك البحث؛ إذ نجحت في بلوغ الغاية المنشودة، كما أخفقت أخرى، فأُهملت الوسائل المخفقة، واحتُفظ بالناجحة ثم زِيد من آفاقها؛ نعم إنه حق لا شبهة فيه أن التحسينات الحديثة في الوسائل الفنية قد نتجت من تقدم الرياضة والعلم الطبيعي؛ لكن هذا التقدم نفسه في المعرفة العلمية ليس كالنواميس التي تُفرَض من الخارج، وما على الفنون الصناعية إلا أن تَخضع لها خضوعًا لا محيص لها عنه؛ بل إن التقدم العلمي قد أمد الباحثين بوسائل جديدة لم تكن لتستخدم نفسها بنفسها، بل كانت وسائل ليستخدمها سواها، فنتج عن استخدامها ذاك. خيبتها أو نجاحها في تحقيق الغايات واستحداث النتائج، فأصبحت تلك الخيبة نفسها وذلك النجاح نفسه معيارًا أخيرًا تُقاس به قيمة المبادئ العلمية في المضيِّ في اتخاذ إجراءات فنية بعينها؛ ولسنا نقول ما نقوله هنا بغية أن يكون «برهانًا» على أن المبادئ المنطقية المتضمنة في المنهج العلمي قد نشأت إبَّان سير البحث في تقدمه، بل نقول ما نقوله لنبين به أن افتراضنا بأن تلك المبادئ المنطقية قد نشأت على هذا النحو، له أحقية واضحة في أن نضعه موضع النظر، دون أن نقضي في الأمر برأي حاسم. وأعود الآن إلى وجهة نظري فأُبيِّنُ معناها؛ فأحسب أن لا مناص من التسليم بأن البحث والشك موصول أحدهما بالآخر، ويقتضينا هذا التسليم قبول نتيجة خاصة بالغاية من البحث: وأعني «الغاية» بمعنييها، بالمعنى الذي يجعلها غاية ما يمتد إليه نظر الباحث، والغاية باعتبارها حد النهاية أو الختام؛ وتلك النتيجة التي لا بد من قبولها هي أنه إذا كان البحث يبدأ بالشك، فهو ينتهي بإقامة الظروف التي من شأنها أن تُزيل ما يستدعي ذلك الشك؛ وهذه الحالة الأخيرة يمكن تسميتها بكلمتَيْ «الاعتقاد» و«المعرفة»، غير أني — لأسباب سأُبديها فيما بعد — أفضل تسميتها ﺑ «جواز التقرير المقبول». فقد يُظَن أن لفظ «الاعتقاد» مناسب للدلالة على ما يتمخض عنه البحث من نتائج؛ فبينما الشك حالة قلقة، أي حالة من التوتر تلتمس لها مخرجًا ومتنفسًا في عمليات البحث، ترى البحث ينتهي ببلوغه حالة مستقرة على رأي، وهذه الحالة المستقرة إن هي إلا علامة مميزة للاعتقاد بمعناه الصحيح؛ وبهذا يكون لفظ الاعتقاد لفظًا مناسبًا لتسمية النهاية التي ينتهي إليها البحث. غير أن لفظ الاعتقاد لفظ ذو معنيين؛ فهو من الناحية الموضوعية يُستعمل ليُشير إلى «الشيء» الذي هو موضوع الاعتقاد، وبهذا المعنى تكون النهاية التي ينتهي إليها البحث حالة خارجية موضوعية مستقرة؛ يبلغ بها الاستقرار حدًّا يجعلنا على استعداد للتصرف بمقتضاها، سواء كان ذلك التصرف سلوكًا ظاهرًا أم في دنيا الخيال؛ فكلمة «الاعتقاد» هنا تُسمَّى ظروفًا مستتبة لمادة بحث موضوعية، مضافًا إليها استعداد الإنسان للعمل على نحو معين إذا ما وجد تلك المادة ماثلة أمامه، ثم هو يشكل عمله ذاك ليتناسب مع ما هو ماثل أمامه، أما في الاستعمال الشائع، فكلمة «الاعتقاد» تعني كذلك أمرًا ذاتيًّا، أمرًا يعتنقه ويؤمن به واحد من بني الإنسان، ومثل هذا الموقف هو الذي يتحول بتأثير علم النفس فيصبح الاعتقاد عندئذٍ مجرد حالة عقلية أو نفسية. ولا يَبعد أن تتسلل بعض الأفكار المترابطة مع هذا المعنى الثاني للكلمة، إلى معناها حين نقول إن خاتمة البحث اعتقاد مستقر؛ وعندئذٍ ترى المعنى الموضوعي لقولنا إن مادة موضوع البحث هي تلك التي يؤدي البحث بها إلى حالة مستقرة، أقول إن هذا المعنى عندئذٍ يكتنفه غموض بل يضيع ضياعًا تامًّا؛ ومِن ثَم كان ازدواج المعنى في هذه الكلمة (كلمة «اعتقاد») مما يجعل استخدامها — للغرض الذي نحن الآن بصدده — غير مرغوب فيه. وكذلك كلمة «المعرفة» صالحة للإشارة إلى هدف البحث ونهايته، ولكنها هي الأخرى تعاني من غموض المعنى؛ فإذا ما قيل إن بلوغ المعرفة، أو بلوغ الحقيقة، هو نهاية البحث، كان القول — بناءً على وجهة النظر التي نصطنعها في هذا الكتاب — قولًا ينطوي على بديهية أولية؛ فالخطوة التي تختم البحث ختامًا مُرضيًا هي — بحكم التعريف — ما نُطلق عليه اسم المعرفة، وهي معرفة لأنها بالفعل هي النهاية التي ينتهي بها البحث على صورة ملائمة؛ لكن يجوز أن يُفهم هذا القول نفسه — كما قد فُهم فعلًا — على أن يتضمن معنى جديدًا، وليس هو بالقول الذي يُحصِّل حاصلًا وكفى؛ فإذا عددناه تحصيل حاصل، كان تعريف المعرفة — بناءً عليه — هو أنها الناتج الذي يتمخض عنه البحث حين يتصف بالكفاية والإحكام. لكن إذا فُسِّر القول على أنه متضمِّن لشيء ذي معنًى جديد فعندئذٍ ينعكس الوضع، فيُظن أن للمعرفة معنًى خاصًّا بها غير ارتباطها بالبحث وإشارتها إليه، وعندئذٍ كذلك تصبح نظرية البحث خاضعة بالضرورة لهذا المعنى، باعتبارها خاصة بغاية خارجية محددة؛ والتعارض بين هاتين الوجهتين من النظر هو اختلاف في الأساس؛ فالفكرة القائلة بأن أية معرفة جزئية معينة يمكن إقامتها بغض النظر عن كونها نهاية ما ينتهي إليه البحث، وبأن المعرفة بصفة عامة يمكن تعريفها بغض النظر عن هذه الصلة (التي تصلها بالبحث وما ينتهي إليه) هي فكرة — بالإضافة إلى ما قلناه عنها — قد صدر عنها خلط في النظرية المنطقية؛ ذلك لأن المدارس المختلفة من الواقعية، ومن المثالية ومن الثنائية، قد اختلف بعضها عن بعض في تصوره لماذا عسى المعرفة «في حقيقتها» أن تكون؛ ومِن ثَم كانت النظرية المنطقية فرعًا تابعًا لما قد سبق تصوره من مذاهب الميتافيزيقا ومذاهب المعرفة، حتى لقد أصبح تفسير الصور المنطقية يختلف باختلاف الفروض الميتافيزيقية التي تنطوي عليها تلك الصور. ووجهة نظرنا في هذا الكتاب تذهب إلى أنه ما دامت كل حالة خاصة من حالات المعرفة قوامها النتيجة التي أنتجها بحث معين، إذن فلن يكون تصورنا للمعرفة بصفة عامة إلا تعميمًا للخصائص التي وُجد أنها تصف النتائج التي نتجت عن عمليات البحث المختلفة؛ أي إن المعرفة باعتبارها كلمة مجردة، إن هي إلا اسم يُطلَق على عمليات البحث الفردية حين تتصف كلها بالكفاية. ولو أننا غضضنا النظر عن هذه الصلة — بين المعرفة وعمليات البحث التي أنتجتها — أصبح معنى الكلمة فارغًا بحيث يستطيع من شاء أن يملأه بما شاء من مضمون أو فحوى يصبه فيه جزافًا؛ أما إذا حددنا المعنى العام للمعرفة على أساس الناتج الذي يتمخض عنه البحث (في شتى ميادينه) كان لهذا المعنى العام في هذه الحالة أثر هام بالنسبة إلى معنى البحث نفسه؛ لأنه يدلنا على أن البحث عملية «متصلة» مهما يكن نوع المجال الذي يدور فيه؛ إذ إن وصولنا إلى «قرار» بالنسبة إلى موقف جزئي معين عن طريق بحث جزئي معين، ليس ضمانًا في ذاته، على أن تلك النتيجة المستقرة ستظل دائمًا على قرارها، فبلوغ الإنسان اعتقادات مستقرة هو أمر مطرد السير، وليس هنالك اعتقاد واحد قد بلغ من استقراره حدًّا ينجيه من التعرض لبحث جديد؛ وهذه الأبحاث المتصلة — إذا ما تجمعت نتائجها وتراكمت — هي التي تحدد المعرفة بمعناها العام، وفي البحث العلمي يكون المعيار فيما نَعُده مستقرًّا — أي فيما نَعُده معرفة — هو أن يكون معنى ذلك الاستقرار استعداده لأن يكون مصدرًا لخطورة جديدة في البحث، لا أن يكون معناه أنه قد استقر بحيث لا يتعرض للمراجعة في بحث جديد. إلى هنا وقد يبدو كما لو كانت المعايير التي تنبثق من عمليات البحث المتصل تقتصر على الجانب الوصفي، وأنها بهذا المعنى معتمدة على التجربة؛ ولسنا نُنكر أنها تجريبية بمعنى واحد من معاني هذه الكلمة المتعددة المعاني؛ لأن تلك المعايير قد نشأت من خبرات الإنسان التي لقيها أثناء البحث الفعلي، لكنها ليست تجريبية بالمعنى الذي تكون به كلمة «تجريبي» دالة على امتناع الأساس العقلي؛ لأننا أثناء فحصنا ﻟ «العلاقات» القائمة بين الوسائل (أي المناهج) المستخدمة والنتائج التي ننتهي إليها عن طريق تلك الوسائل، سنكشف عن العلل التي تفسر لنا لماذا ينجح بعض تلك المناهج ويُخفق بعضها الآخر؛ وإن ما قد أسلفنا ذكره ليتضمن (على أنه نتيجة تَلزم عن النظرية العامة) أن المعقولية أمر مرهون بالعلاقة بين «الوسائل وغاياتها» وليست هي أمرًا يتصل بمبادئ أولى محددة باعتبار تلك المبادئ مقدمات أولية، أو باعتبارها مضامين لما يسميه المدرسيون المحدثون «مبحث الإسناد». المعقولية أو الخاصة العقلية — بناءً على وجهة النظر التي اتخذتها في هذا الكتاب، وبناءً كذلك على الاستعمال الدارج المألوف — هي أمر يتصل بالعلاقة بين الوسائل والنتائج المترتبة عليها؛ فإذا ما رسمت لنفسك غايات قريبة كان من غير المعقول أن ترسم من الغايات ما ليس يرتبط فقط بالوسائل الممكنة، وبغض النظر عن العقبات التي تعترض طريق بلوغها؛ والمعقول هو أن تبحث عن، وأن تختار الوسائل التي من شأنها — على أكثر ترجيح ممكن — أن تُنتج النتائج المراد بلوغها؛ وإنك لَتَبلغ من اللامعقولية حدًّا بعيدًا إذا ما استخدمت في وسائلك مواد وعمليات يتبين — لو اختبرتها — أنها تُنتج نتائج مختلفة عن الغاية المرجوَّة، وأن يكون اختلافها ذاك من شأنه أن يجب بلوغك تلك الغاية؛ فالخاصة العقلية — باعتبارها تصورًا مجردًا — هي على وجه الدقة تلك الفكرة العامة التي نستخلصها من علاقة الوسائل بنتائجها استخلاصًا يجردها (عن المواقف الفردية الجزئية)؛ ومِن ثَم كانت عبارتنا التي نصف بها المناهج التي تنتهي بنا إلى اعتقادات ثابتة ثبوتًا يَطَّرد مع اطِّراد البحث، أي تنتهي بنا إلى تقريرات يجوز قبولها، هي أيضًا — من وجهة نظرنا هذه — عبارة تُساير «أحكام العقل» إذا كانت العلاقة بينها باعتبارها وسائل، وبين جواز تقريرها باعتباره نتيجة، قد ثبت قيامها. فلسنا — إذن — نُنكر المبادئ المنطقية الأولى لا وجودًا ولا ضرورة؛ إنما السؤال هو: كيف نشأت وعلى أي نحو نستخدمها؛ وإني لأقتفي — فيما أقوله عن هذا الموضوع — من حيث الأساس رأي «بيرس» في المبادئ «الهادية» أو «الآخذة بالزمام»؛ وهو رأي يرى أن كل نتيجة نستدلها من مقدماتها إنما تنطوي على عادة (إما في حالة التعبير عنها أو في حالة استحداثها)، ونعني بالعادة هنا معناها «العضوي»؛ إذ الحياة مستحيلة بغير طرائق من السلوك تبلغ من التعميم حدًّا يكفي لتسويغ تسميتها بكلمة «عادات»؛ والعادة التي نجري في استدلالاتنا على مقتضاها — بادئ ذي بدء — هي عادة بيولوجية خالصة، فهي التي تُمسك بزمامنا عندئذٍ دون أن نكون على وعي بها، فأقصى ما نكون على وعي به (في تلك المرحلة) هو أفعالنا في موقف بعينه، والنتائج المعينة التي حققناها في ذلك الموقف؛ ثم لا نقتصر بعدئذٍ على مجرد وعينا بالذي قد فعلناه آنًا بعد آن، بل نُضيف إليه وعيًا ﺑ «الكيفية» التي فعلناه بها؛ وهذه اليقظة منا لطريقة أدائنا لأفعالنا سرعان ما تصبح شرطًا لازمًا لسيطرتنا على ما نحن بصدد فعله؛ فالصانع — مثلًا — يعلم أنه لو عمل ﺑ «طريقة» معينة، نتجت عن عمله ذاك نتيجته من تلقاء نفسها، ما دامت قد توافرت له العناصر المطلوبة لأداء عمله؛ وهكذا نعلم أننا إذا ما أجرينا استدلالاتنا على نحو معين فسننتهي — ما دامت كل الظروف المحيطة قائمة على صورة معلومة — إلى نتائج يمكن الركون إلى صوابها؛ وما «فكرتنا» عن منهج للبحث إلا تعبير نُفصح به عن العادة التي رأيناها داخلة في طائفة من العمليات الاستدلالية. فسلامة المبادئ مدارها اتساق النتائج المتولدة عن العادات التي ما جاءت تلك المبادئ إلا لتُفصح عنها؛ فإذا كانت العادة الموضوعة تحت البحث من شأنها أن تؤدي — عادة — إلى نتائج ما تنفك قائمة، تتناولها البحوث المقبلة فتنميها، كانت بالتالي عادة سليمة حتى إذا حدث لها آنًا بعد آن أن أنتجت نتيجة تبين بطلانها؛ ففي أمثال هذه الحالات يكون النقص — على الأرجح — في المادة التي نتناولها لا في العادة والمبدأ العام. وواضح أن هذه التفرقة مقابلة للتفرقة المألوفة التي نُقيمها بين الصورة والمادة، لكننا لا نريد بها فصلًا تامًّا بين الجانبين على نحو ما تفعل غالبًا نظريات المنطق. إنني فيما أسلفت من عرض، قد سُقت عبارات لن يتبين مداها كاملًا إلا بعد أن أتناول موضوعات المنطق في الفصول التالية تناولًا أكثر تفصيلًا؛ فلم أقصد بهذا العرض — كما ذكرت في مستهل هذا الفصل — إلى تسويغ وجهة نظري، بل قصدت إلى توضيح معناها بصفة عامة؛ وسأذكر فيما بقي من صفحات هذه المقدمة نتائج معينة بالنسبة إلى نظرية المنطق، تستتبعها وجهة نظري. وليست هذه الدعوى سوى ما قد أسلفناه بعد صياغته في عبارة جديدة؛ فمناهج البحث هي إجراءات تُؤدَّى أو تنتظر الأداء، والصور المنطقية هي الشروط التي لا بد للبحث — من حيث هو بحث — أن يَستوفيها. وهذه الإجراءات تنقسم قسمين عامَّيْن كما سيأتي ذكره فيما بعد؛ فهنالك الإجراءات التي تُجرَى على مادة ذات وجود فعلي وتُجرَى بوساطتها في آنٍ واحد، كما هي الحال في الملاحظة التجريبية؛ وهنالك إجراءات تُجرَى على رموز وبوساطة تلك الرموز نفسها؛ ولكن حتى في هذه الحالة الثانية، ينبغي أن نفهم «الإجراء» بمعناه الحرفي ما وسعنا ذلك؛ فمن أمثلة النوع الأول أن تبحث عن قطعة نقد مفقودة أو أن تقيس رقعة من الأرض؛ ومن أمثلة النوع الثاني أن تُعِدَّ قائمة حساب مصرفي؛ فالنوع الأول يُؤدَّى على حالات من الوجود الفعلي، على حين يُؤدَّى النوع الثاني على رموز؛ غير أن الرموز في هذه الحالة الثانية تمثل ظروفًا «يمكن» أن تنتهي آخر الأمر إلى وجود فعلي، حتى إذا ما بلغنا النتيجة ووضعناهما في رموز، كانت بمثابة تهيئة لأداة تُؤدَّى بها إجراءات أخرى على الموجودات الفعلية ذاتها؛ أضف إلى ذلك أن الإجراءات التي تدخل في إعداد قائمة حساب لمصرف أو غيره من الأعمال تتضمن ضروبًا من النشاط الجثماني؛ وعلى ذلك فما يسمونه بالجانب «العقلي» في إجراءات هذين النوعين كليهما، لا بد من تعريفه بلغة ما هو قائم في الوجود الفعلي من حالات ونتائج، والعكس غير صحيح. وتشتمل الإجراءات على جانبين: مادة تتناولها، وأدوات تتوسل بها في ذلك التناول، ويدخل في هذه الأخيرة العُدَد وطرائق العمل الفنية؛ وكلما ازداد الإنسان قدرة على إعداد مادته وأدواته الوسلية مقدمًا، بحيث يضع في اعتباره كيفية اشتراكهما معًا في الإجراء الفعلي على نحو يمكنهما من أن يكونا وسائل مؤدية إلى النتائج، ازداد سيطرةً على أداء ما هو بصدد إجرائه؛ فالصلب النقي الذي نتخذ منه مادة إجراءاتنا التي نصوغ بها زنبرك الساعة، كان هو نفسه نتيجة سلسلة من إجراءات تمهيدية أُجريت بغية أن تنتهي بالمادة إلى الحالة التي تَصلح معها أن تكون مادة لإجرائنا الأخير؛ وإذن فالمادة نفسها — من وجهة نظر الإجراء — هي وسيلة بين سائر الوسائل، شأنها في ذلك شأن العُدَد وطرائق الصناعة الفنية التي استُخدمت في تحويل تلك المادة إلى الحالة التي أردناها لها؛ ومن جهة أخرى، ترانا نعدل من عُدَدِنا العتيقة وطرائقنا القديمة في الصناعة، بحيث تصبح أكثر صلاحية لتناول المواد الجديدة؛ فظهور معادن أخف — مثلًا — قد اقتضى طرائق في الصناعة مختلفة عن الطرائق التي كانت تُتبع في تناول المعادن الأثقل أيام استعمالها فيما مضى؛ أو إن شئت أن تعبر عن هذه الحقيقة نفسها من الناحية الأخرى، فقل إن إجراءات التحليل بالكهرباء حين هُذِّبَت مَكنت من استخدام مواد جديدة في أن تكون وسائل لغايات جديدة. إنه لكي يكون البحث بحثًا بالمعنى الكامل، لا بد له أن يحقق شروطًا معينة يمكن صياغتها في عبارة صورية؛ وإن وجهة النظر التي تفرق تفرقة أساسية بين المنطق من جهة ومناهج البحث من جهة أخرى، لتجعل تلك الشروط المذكورة ذات وجود عقلي سابق على البحث ومستقل عنه؛ وهي في الوقت نفسه تعدها حقائق أولية قائمة بذاتها، وليست هي في جوهرها بالمصادرات التي يصدر بها البحث على سبيل الفروض؛ ومثل هذا التصور لها هو الأساس العميق للفكرة القائلة بأن تلك الشروط الأولية «قبلية» بحكم طبيعتها نفسها، وبأنه ليس فيها أي أثر لخبرة مكتسبة، وأنها تكشف عن نفسها لملكة عند الإنسان يسمونها ﺑ «العقل الخالص»؛ أما من وجهة النظر التي يأخذ بها هذا الكتاب، فهي عبارة عن مصادرات (أي فروض يتقدم بها البحث) بحكم طبيعتها، وهي إذا كانت تصدر البحث فما ذلك إلا لصالح السير في البحث نفسه، لأنها ما هي إلا صياغات نعبر بها عن الشروط التي كشفنا عن قيامها أثناء عملية البحث ذاتها، شروط يتحتم على البحوث المقبلة أن تُسايرها إذا أُريدَ لها أن تُنتِج نتائج مما يمكن اعتباره تقريرات جائزًا قبولها. ولو وصفناها بلغة دالة على علاقة الوسيلة بغايتها، قلنا إنها تعميم للصفة التي لا بد أن تتحقق في الوسيلة التي لا مناص من استخدامها إذا أردنا أن نبلغ بها قرارًا يجوز لنا قبوله؛ وإنك لترى في الفنون الصناعية نفسها أنها بما يدخل فيها من إجراءات لا بد أن تستوفي شروطًا معينة؛ فقد نقصد إلى إقامة جسر ليصل ضفتي نهر في ظروف معينة، بحيث يجيء ذلك الجسر — باعتباره النتيجة التي تنتمي إليها إجراءات صنعه — وفي قدرته أن يحمل ثقلًا معينًا؛ فها هنا تجد حالة الضفتين وما إليها تقتضي شروطًا معينة في هذه الحالة المعينة؛ لكن إلى جانب هذه الظروف المحلية هنالك ظروف عامة من حيث المسافة والأثقال وضواغط الاستعمال وتغيرات درجة الحرارة … إلخ؛ فعندئذٍ تكون هذه كلها بمثابة الظروف الصورية، وهي بصفتها هذه تكون هي الشروط وهي المقتضيات، وهي المصادرات المفروضة التي ينبغي مراعاتها. إن المصادرة هي أيضًا اشتراط؛ فدخولك في بحث شبيه بدخولك في تعاقد؛ لأن البحث يقتضي القائم به مراعاة شروط معينة، وكذلك الاشتراط هو عبارة تنص على شروط متفق عليها في القيام بأمر من الأمور، وهذه الاشتراطات التي ينطوي عليها القيام ببحث ما، تكون في بداية الأمر متضمنة في التصدي للبحث، أما إذا أُعلنت صراحة (أي صِيغت في عبارات دالة عليها) فعندئذٍ تصبح صورًا منطقية متفاوتة في درجة التعميم؛ فكأنما هي تضع في صورة محددة ما كان كامنًا في الشروط المفروضة. ولئن كان كل شرط مفروض ضربًا من الرجاء، فما كل رجاء يكون شرطًا مفروضًا (أي مصادرة)؛ إذ المصادرة تتضمن التصدي لحمل التبعات، أعني التبعات التي وردت في نصوص الشروط؛ وبعبارة أخرى فالمصادرات في البحث هي بمثابة قبول الباحث أن يعمل بطريقة معينة؛ وعلى هذا الاعتبار، لا يكون اختيار المصادرات أمرًا جزافًا، لأنها تُطالب بمطالب يُراد استيفاؤها، بالمعنى الذي يجعل المطالبة قائمة على أساس مشروع، أي يجعلها ذات إلزام للباحث بوضعها موضع الاعتبار. إن أفراد الناس إذ يشغلون أنفسهم بأوجه النشاط الاجتماعي، لا يكونون بادئ ذي بدء على وعي بالتبعات التي يتضمنها ذلك النشاط؛ ومِن ثَم جاءت القوانين — بالمعنى القضائي للكلمة — لتضع في نصوص صريحة ما قد كان قبل ذلك مندسًا في ثنايا العادات: وأعني به الواجبات والحقوق، التي كانت «من الناحية العملية» متضمنة في قبول الناس لعاداتهم الاجتماعية، ومهمة القوانين إبرازها في صورة نظرية. وشيء كهذا يُقال في شرط هو من أوسع الشروط تعميمًا، وهو شرط لا مناصَ للبحث من استيفائه، وفيما يلي صورته: «إذا اتصف شيء ما بخاصة معينة، وإذا كان كل شيء يتصف بتلك الخاصة من شأنه كذلك أن يتصف بخاصة أخرى معينة، كان ذلك الشيء المذكور متصفًا بهذه الخاصة الأخرى»؛ هذا «قانون» منطقي، وما هو إلا اشتراط؛ فإذا أردت القيام ببحث على نحو يستوفي ما يقتضيه البحث، كان لزامًا عليك أن تسير في طريق تراعي فيها هذه القاعدة، شأنك في ذلك شأن من يعتقد تعاقدًا في دنيا العمل، عليه أن يلتزم الوفاء بشروط معينة. وعلى ذلك فالمصادرة (أي الفرض الذي يصدر به البحث) لا هي أمر جزاف، ولا هي حقيقة «قبلية» نشأت خارج نطاق البحث؛ فهي ليست جزافًا لأنها تنبثق من علاقة الوسيلة بغايتها المنشودة؛ وهي ليست قبلية نشأت خارج نطاق البحث لأنها لا تُفرض على البحث من خارجه فرضًا، بل هي مجرد اعتراف صريح بما نحن ملزَمون به ما دمنا قد تصدَّينا للبحث؛ فهي إن كانت «قبلية» فقبليتها تلك خاضعة لمحاولات التجارب ومرهونة بالظروف المؤقتة؛ وهو نفس المعنى الذي يكون به قانون التعاقد قاعدة تنظم مقدمًا قيام ضروب معينة من صلات الناس في دنيا الأعمال؛ فبينا هي مستخلَصة مما هو متضمَّن في البحوث التي تبين نجاحها فيما مضى، تراها تفرض شرطًا لا بد من استيفائه في البحوث المقبلة، إلى أن نتبين من نتائج تلك البحوث ما يُسوِّغ لنا أن نقوم بتعديلها. فإذا كنا نُطلق على الصور المنطقية اسم مصادرات، فما ذلك — من الجانب السلبي — إلا تنبيه للأذهان إلى حقيقة هي أن تلك الصور المنطقية لم تُعَيَّن لنا، كلا ولا فُرضت علينا من خارج؛ تمامًا كما هي الحال في مصادرات الهندسة — مثلًا — من حيث إنها ليست حقائق أولية واضحة بذاتها فُرضت من الخارج فرضًا لتكون هي المقدمات، بل هي صياغات للشروط التي لا مندوحة من استيفائها أثناء الإجراءات التي نتناول بها موضوع بحث معين؛ فهكذا قل في الصور المنطقية التي تصدق على «كل» بحث؛ فإذا كان الاتفاق المتضمن في التعاقد قائمًا بين مجموعتين من النتائج التي تترتب على مناشط طرفين أو أكثر بالنسبة إلى أمر معلوم، فكذلك الأمر في البحث، يكون الاتفاق قائمًا بين مجموعات النتائج التي تترتب على حلقات من البحث متتابعات؛ غير أن البحث — من حيث هو بحث مجرد — لا يتعين أن يقوم به شخص معين دون سواه؛ فإذا ما أقبل شخص معين على بحث، فقد التزم — ما دام بحثه جادًّا وليس هو بخدعة تصدر منه عن غير إخلاص — أن يُساند النتائج التي أدت إليها البحوث الشبيهة ببحثه، مهما يكن الأشخاص الذين قاموا بها؛ ونعني بكلمة «شبيهة» في هذا السياق تلك البحوث التي تخضع لنفس الشروط والمصادرات. وهكذا يتفق قولنا عن النظرية المنطقية إنها بطبيعتها شروط افتراضية، مع ما قد أسلفناه من أن المنطق يتقدم مع الزمن وأنه إجرائي؛ فالمصادرات تتغير كلما ازدادت مناهج البحث إرهافًا، والصور المنطقية التي نعبر بها عن البحث العلمي الحديث مختلفة من وجوه كثيرة عن الصور المنطقية التي صِيغت على نحو يتمشى مع إجراءات العلم اليوناني؛ فترى القائم بالتجارب العلمية في معمله حين ينشر نتائج تجاربه، يبين المواد التي استخدمها، والأجهزة والإجراءات التي استعملها؛ وليست هذه البيانات الوصفية إلا مصادرات وشروطًا وتوصيات في حدود مرسومة لأي باحث يريد أن يختبر صدق النتيجة التي انتهى إليها صاحب تلك التجارب؛ فعمم هذا البيان بحيث يشمل إجراءات البحث كائنًا ما كان ذلك البحث، أي عممه بحيث ترسم الصورة التي يجري عليها كل بحث، تكن لك الصور المنطقية بالمعنى الذي يجعلها اشتراطات مفروضة. لكلمة «طبيعي» معانٍ عدة؛ ولقد استخدمناها في هذا السياق لتعني — من جهة — أنه لا ثغرة هناك تفصم الاتصال الكائن بين إجراءات البحث والإجراءات البيولوجية والفيزيائية؛ و«الاتصال» — من جهة أخرى — معناه أن الإجراءات القائمة على أساس من العقل إنما «تنبثق» من أوجه النشاط العضوي، دون أن تكون هي نفسها المصدر الذي انبثقت منه؛ ففي مناشط الكائنات الحية مواءمة بين الوسائل والغايات، حتى وإن لم تكن تلك المناشط موجهة نحو غاياتها توجيهًا مقصودًا؛ أما بنو الإنسان في عملياتهم المعاشية المألوفة أو «الطبيعية» فيجعلون تلك المواءمة قصدًا مدبرًا، ويكون هذا القصد بادئ الأمر مقصورًا على المواقف المحلية الطارئة كلما طرأت، ثم يعمم مضمون تلك المواءمات على مر الزمن (ونحن هنا نُعيد مبدأ أسلفنا ذكره) تعميمًا يتجرد من قيود الظروف الخاصة (التي أحاطت بحالات المواءمة الجزئية)؛ مثل هذا المنطق نصفه بأنه طبيعي بمعنى أنه معروض للمشاهدة لمن يريد أن يشاهد أوجه النشاط التي منها يتألف البحث — فكلمة المشاهدة هنا مستعملة بمعناها المألوف — مُبعِدين من حسابنا كل فكرة مستمَدَّة من تلك الملكة الملغزة التي يسمونها «حدسًا» أو غير ذلك مما يتسم بالخفاء اتسامًا لا يعرضه في العلن لكل من أراد من الناس أن يفحص أو يحقق (كما هي الحال — مثلًا — فيما هو نفساني صِرف). إن النظرة التي أنظر بها إلى الموضوع في كتابي هذا، لَتتضمن أن ليس وراء البحث نفسه من عامل آخر، في تحديده للشروط الصورية التي يلتزمها البحث؛ فالمنطق باعتباره بحثًا في البحث — إذا راقك هذا التعبير — هو عملية تدور على نفسها، ولا تعتمد قط على أي شيء خارج نطاق البحث ذاته؛ ولعل قوة هذه الدعوى تكون أسرع إلى الإفهام إذا ما نبهنا إلى ما تحذفه هذه النظرة من مجال المنطق؛ فهي تحذف الإدراك الحدسي القبلي الذي يُقال إنه يحدد ويختار للمنطق مبادئه الأولى، تحذف هذا الإدراك الحدسي حتى إذا قيل عنه إنه إدراك العقل الخالص؛ وكذلك تحذف إقامة المنطق على دعاوى وفروض سابقة مما يدخل في مجال الميتافيزيقا ونظرية المعرفة (الإبستمولوجيا)؛ فالدعاوى والفروض السابقة إنما يحددها — إذا كان لا بد منها — ما يكشف عنه البحث نفسه من نتائج؛ وإذن فلا ينبغي أن تُدس دسًّا تحت البحث لكي تقوم فيه مقام «الأساس»، وتُحذف أيضًا — من الناحية الإبستمولوجية — كما ذكرنا في موضع سابق بمناسبة أخرى — تلك الدعوى التي تزعم للمعرفة تعريفًا معدًّا أوليًّا، من شأنه أن يحدد للبحث طابعه؛ فالمعرفة هي التي ينبغي لها أن تُعرف على أساس البحث — لا العكس — سواء في المعرفة بمعناها الجزئي أو بمعناها الكلي. وكون المنطق كيانًا مستقلًّا بذاته يُبعد كذلك الفكرة القائلة بأن «أسس» المنطق نفسية؛ فليس يتحتم علينا أن نحصل معارف عن الإحساسات ومعطيات الحس والأفكار والفكر، أو الملكات العقلية بصفة عامة، لتكون لنا هذه المعارف بمثابة المادة التي تضع للمنطق شروطه الملزمة له. بل الأمر على خلاف ذلك، فكما أن المعنى الخاص لكل من هذه الموضوعات السالف ذكرها يتحدد عن طريق بحوث خاصة بكل واحد منها، فكذلك علاقتها بمنطق البحث — بصفة عامة — تتحدد بكشفنا عن العلاقة التي تصل الموضوعات التي نطلق عليها هذه الأسماء المذكورة، بالمنهج الناجح مهما يكن الموضوع الذي يُطبق عليه؛ ونستطيع أن نوضح هذه النقطة بالإشارة إلى «التفكير»؛ فقد كان في مقدورنا خلال الصفحات السابقة أن نستخدم مصطلح «التفكير النظري»، حيث استخدمنا كلمة «بحث»؛ لكني لو كنت استعملت ذلك المصطلح، لكان يقينًا أن يظن بعض القراء أن المقصود بعبارة «الفكر النظري» شيء معروف لهم بالفعل معرفة تكفي لجعل كلمة «بحث» مساوية لتعريف للفكر موجود بين أيديهم فعلًا؛ لكن موقفي من الأمر يتضمن رأيًا معارضًا لهذا الرأي فلسنا نعرف ماذا عسى أن يكون معنى عبارة «الفكر النظري» إلا على أساس ما ينكشف لنا خلال بحثنا في طبيعة البحث؛ أو قل إننا على الأقل لا نعرف ماذا تعني تلك العبارة مما يخدم أغراض المنطق؛ وإني شخصيًّا لفي شك إن كان هنالك شيء ذو وجود فعليٍّ يمكن أن نسميه «فكرًا»؛ باعتبار هذا الشيء كائنًا نفسيًّا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة؛ وحتى لو كان هنالك شيء كهذا، فلن يكون هو الذي يحدد معنى «الفكر» بالنسبة إلى المنطق. فإما ألا يكون لكلمة «فكر» شأن إطلاقًا بالمنطق، أو أن تكون هذه الكلمة مرادفة لكلمة «بحث»، وعندئذٍ يحدد معناها ما نعلمه عن حقيقة البحث؛ ويبدو أن ثاني هذين البديلين هو الرأي المعقول، ولست أعني بما قلته أن علم النفس القائم على أساس سليم لا يمكن أن يكون ذا نفع مقطوع به للنظرية المنطقية؛ فلئن كان التاريخ قد دل على أن علم النفس الفاسد قد أحدث تلفًا كبيرًا، إلا أن علاقته العامة بالمنطق كائنة في الضوء الذي يلقيه — باعتباره فرعًا من البحث — على ما ينطوي عليه البحث من مبادئ؛ وبهذا تكون علاقة «النسب» بينه وبين المنطق شبيهة بعلاقة النسب بين علم الطبيعة أو علم الحياة بالبحث؛ وإن يكن ما يكشف عنه علم النفس من حقائق أقرب إلى النظرية المنطقية من الحقائق التي تكشف عنها العلوم الأخرى، وذلك لأسباب سنبينها في الفصول التالية. ومهما يكن من أمر فلا مفر من الإشارة آنًا بعد آنٍ إلى موضوع علم النفس؛ فحتى المدارس المنطقية — كما سنبين فيما بعد — التي تزدهى بكونها لا تَمُتُّ إطلاقًا إلى النواحي النفسية، هي في حقيقة أمرها مرتكزة على أفكار نفسية بلغت من الشيوع ومن التغلغل في ثنايا التقليد في الحياة العقلية، حدًّا جعلها موضع القبول بغير نقد كما لو كانت حقائق واضحة بذاتها. النظرية المنطقية هي وضع البحث المضبوط في صياغة متسقة. الصور المنطقية تنبت من ضوابط البحث وبسببها، لما تُنتجه من نتائج هي بمثابة القرارات الجائزة القبول؛ ولو كانت وجهة النظر السائدة اليوم قد وَجدت في نظرية المنطق السائدة ما يمثلها ولو تمثيلًا متواضعًا، لَما كان بنا حاجة إلى هذه الفصول؛ أما واتجاه المنطق في حالته الراهنة كما هو، فهذه الفصول ضرورية فيما أرى؛ وسيكون موضوع الفصلين الثاني والثالث هو الأساس الطبيعي للنظرية المعروضة، أما أولهما فخاصٌّ بالجانب البيولوجي، وأما الآخر فخاص بالجانب الثقافي، وسنحاول في الفصلين الرابع والخامس أن نبين الحاجة إلى مراجعة النظرية المنطقية وضرورة تلك المراجعة في الاتجاه الذي ذكرناه.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/2/
جذور البحث تنبت في الوجود الفعلي
يختص هذا الفصل والفصل الذي يتلوه بتفصيل ما تنطوي عليه العبارة القائلة بأن المنطق يستمد خصائصه من الطبيعة؛ فسيُعنَى هذا الفصل بأسس البحث الطبيعية البيولوجية؛ فواضح بغير إقامة الحجة أن الناس إذ يبحثون يستخدمون أعينهم وآذانهم وأيديهم ورءوسهم؛ وهي كلها أعضاء بيولوجية؛ الحاسُّ منها والمحرك والمركزي؛ ومِن ثَم كانت العمليات والتكوينات البيولوجية شروطًا ضرورية للبحث إن لم تكن كافية وحدها. وهذه الحقيقة القائلة بأن البحث يتضمن استخدام عوامل بيولوجية، هي حقيقة يُفرض فيها عادة أنها تثير مشكلة خاصة في مجال الميتافيزيقا أو الإبستمولوجيا (نظرية المعرفة) وأعني بها مشكلة العلاقة بين العقل والجسم؛ وحين تُحال المسألة على هذا النحو إلى مجال خاص، بغض النظر عندئذٍ عن أهميتها بالنسبة إلى النظرية المنطقية؛ غير أننا إذ نقول عن الوظائف البيولوجية إنها مقومات لا غنى عنها للبحث، فلسنا بهذا القول نورط المنطق في حبائل النظريات المختلفة عن العلاقات التي تصل العقل بالجسد؛ فحسبنا أن نقبل الحقيقة التي لا سبيل إلى إنكارها، وهي أن الوظائف البيولوجية عوامل لا بد منها في البحث، ثم ننظر بعد ذلك كيف تعمل تلك العوامل في سيره؛ والغاية من الدراسة الآتية هي أن نبين أن الوظائف والتكوينات البيولوجية تمهد الطريق أمام البحث الذي نقوم به عن تدبير، ثم نبين كيف تؤثر سلفًا في نمط ذلك البحث. والمصادرة الأولى لنظرية المنطق القائمة على أساس طبيعي، هي اتصال الأدنى (أي الأقل في درجة التركيب) بالأعلى (أي الأكثر في درجة التركيب) من درجات المناشط والصور؛ وليست فكرة الاتصال هذه موضحة لنفسها بنفسها؛ غير أن معناها يُبعد طرفين: فهو يبعد — من جهة — أن يكون هنالك قطيعة تامة بين الأدنى والأعلى، كما يُبعد أن يكون هنالك مجرد تكرار للواحد في الآخر تكرارًا يجعلهما شيئًا واحدًا بذاته؛ أي إنه يبعد إمكان تصفية «الأعلى» بحيث ينحل في «الأدنى»، كما أنه يبعد أن يكون بين الجانبين ثغرات وفجوات لا سبيل إلى وصلها؛ وإن نمو الكائن العضوي الحي — كائنًا ما كان — وتطوره من البذرة إلى النضج، لَيوضح لنا معنى الاتصال؛ ونستطيع بدراسة ما يحدث فعلًا أن نحدد الطريقة التي يتم بها مثل هذا التصور؛ فليس الذي يحدد لنا هذه الطريقة تصورات عقلية نقيمها في أذهاننا مقدمًا، وإن تكن أمثال هذه التكوينات العقلية مما قد يُعيننا باعتباره فروضًا نهتدي بها في توجيه ما نقوم به من ملاحظة وتجربة. فلسنا نستطيع — مثلًا — أن نقول مقدمًا إن كان التطور يتقدم في سيره بزيادات طفيفة، أو هو يتقدم في ذلك السير بقفزات مباغتة؛ أو أن نقول مقدمًا إن كان سيره من الجزء إلى الكل بأن يُراكم العناصر بعضها فوق بعض، أم هو يبدأ بالكل كاملًا ثم يأخذ في تفريعه إلى أجزاء محددة ومتصل بعضها ببعض؛ فليس في هذه الإمكانات ما يُحذف؛ إذ كلها صالح أن يكون «فروضًا» تُختبر بنتائج البحث الذي نجريه عليها؛ أما الذي تبعده مصادرة الاتصال فهو هذا الذي يبدو على المسرح، آتيًا من الخارج ولا علاقة أبدًا بينه وبين ما هو قائم، ثم نزعم له أنه القوة التي تسبب ما يحدث من تغيرات؛ نعم يجوز أن ينبثق من التغيرات التي تُعزَى إلى ضرب من ضروب النشاط الإشعاعي ضرب جديد جدة تَسترعي النظر، إلا أن النشاط الإشعاعي لم يُختلق جزافًا ولم يُؤتَ به من الخارج لنتخذه وسيلة لتفسير أمثال هذه التغيرات؛ بل إنه لَيُعرف أول ما يُعرف قائمًا في الطبيعة ثم نعلم بعد ذلك — إن كانت تثبت هذه النظرية الخاصة بنشأة التغيرات المذكورة — أنه يحدث فعلًا في الظواهر البيولوجية، وأنه يعمل في تلك الظواهر عملًا يمكن ملاحظته ووصفه، أما إذا دلت نتائج البحث على أن التطور يسير بزيادات طفيفة، فلن تستطيع تلك الزيادات مهما بلغ مقدارها أن تُحدث «تطورًا» اللهم إلا إذا تَوَلَّد عن تراكمها شيء جديد يختلف عنها كيفًا. فتطبيق مصادرة الاتصال على دراستنا لمادة المنطق معناه إذن — من ناحيته السلبية — أننا لكي نفسر الخصائص المتميزة الفريدة التي تميز مادة المنطق، لن نستحدث — فجأة — قوة جديدة أو ملَكة جديدة ﮐ «العقل» أو «الحدس الخالص»؛ بل إن معناه — من ناحيته الإيجابية المشخصة — هو ما نبسطه من شرح معقول للطرائق التي يمكن بها للسمات التي تتميز بها عملية البحث ذي الخطة المدبرة والكيان المستقل، أن تنشأ من مناشط بيولوجية لا تتسم بتلك السمات؛ نعم إنه في مقدورنا بطبيعة الحال أن نتناول الموضوع المباشر لدراسة المنطق دون أن يثار هذا الإشكال؛ لكنه مما يستثير دهشتنا أن نرى الكُتاب الذين لا ينفكون عن رفضهم لكل ما هو خارق للطبيعة أو خارج عنها من التسلل إلى الميادين العلمية الأخرى على اختلافها؛ نراهم في الوقت نفسه لا يترددون إطلاقًا في استحداث «عقل» أو «حدس» قبلي في ميدان النظرية المنطقية؛ مع أن رجال المنطق — فيما أرى — ملزَمون أكثر من سواهم أن يجعلوا موقفهم في المنطق متسقًا مع ما يعتقدونه عن مواد الدراسة الأخرى. إن على المنكِر لما هو خارق للطبيعة تبعة فعلية، وهي أن يبين كيف يرتبط الجانب المنطقي بالجانب البيولوجي ارتباطًا يمتد سيره في خطوات متصل بعضها ببعض، وهذه نقطة جديرة بالاهتمام؛ لأنه إذا لم نوفَّق في الدراسة الآتية في أداء هذه المهمة — مهمة عرضنا لهذا الطريق المتصل المراحل عرضًا مقنعًا — كان إخفاقنا بمثابة التحدي، الذي يتطلب من أولئك الذين يقبلون إقامة المنطق على أساس مصادرة طبيعية، أن يقوموا هم بأداء هذه المهمة بطريقة أفضل. إنه مهما يكن من أمر الصفات التي تتصف بها الحياة العضوية أو لا تتصف فلا مراء في أنها فاعلية تقتضي بيئة لسيرتها؛ فهي إذن عملية تمتد حتى تُجاوز الحدود المكانية التي تحد الكائن العضوي؛ إذ الكائن العضوي لا يحيا «في» بيئة، بل هو يحيا متوسلًا ببيئة؛ فالتنفس وإدخال الطعام وإخراج الفضلات، كلها حالات للاتصال «المباشر» بين الكائن العضوي وبيئته، ودورة الدم وتنشيط الجهاز العصبي حالتان «غير مباشرتين» نسبيًّا من حالات ذلك الاتصال، غير أن كل وظيفة عضوية هي تفاعل بين طاقات بعضها داخل في كيان الكائن العضوي وبعضها الآخر خارج عن ذلك الكيان، وقد يكون ذلك التفاعل مباشرًا أو غير مباشر؛ وذلك لأن الحياة تستتبع إنفاقًا للطاقة، ولا سبيل إلى تعويض الطاقة المفقودة إلا إذا استطاعت أوجه النشاط التي يؤديها الكائن العضوي أن تستمد مددها من البيئة؛ فالبيئة هي المعين الوحيد الذي يستقي منه ما يُعيد إليه الطاقة المفقودة؛ حتى الحيوان الذي تجمد فيه الحياة أثناء سباته الشتوي لا يستطيع أن يحيا على نفسه إلى غير نهاية؛ على أن الطاقة المسحوبة من الخارج لا تندفع مضغوطة من الخارج إلى الداخل، بل إنها لَتجيء نتيجة لطاقة ينفقها الكائن العضوي؛ فإذا زادت الطاقة المجلوبة عن الطاقة المفقودة، حدث النمو؛ ويبدأ الانحلال حين يزيد المفقود على المجلوب؛ نعم إن في العالم أشياء لا صلة لها بفاعلية الحياة في الكائن العضوي، لكن هذه الأشياء عندئذٍ لا تُعد جزءًا من بيئته اللهم إلا على سبيل القوة لا على سبيل الفعل؛ وهكذا تكون عمليات العيش قائمة على ما تقتضيه البيئة، تمامًا كما تقوم على ما يقتضيه الكائن العضوي نفسه، لأن هذه العمليات إن هي إلا تكامل الجانبين معًا. ويتبع ذلك أن يتسع نطاق البيئة كلما حدث في تكوين الكائن العضوي تمايز بين أعضائه؛ لأن العضو الجديد يهيئ له طريقة جديدة يتفاعل بها مع بيئته، فأشياء مما لم يكن من قبل ذا صلة بالكائن العضوي، تدخل في وظائفه الحيوية؛ حتى لتختلف بيئة الحيوان ذي الجهاز الحركي عن بيئة النبات اللاصق بالأرض، وبيئة السمكة الهلامية مختلفة عن بيئة السمكة النهرية الرقطاء؛ وبيئة السمك في مجموعه مختلفة عن بيئة الطائر؛ ونعيد هنا ما قلناه توًّا، وهو أن الفرق في هذه الحالة ليس يقتصر على كون السمكة تحيا «في» الماء، وأن الطائر يحيا في الهواء؛ بل إن الوظائف المميزة لكل منهما قد أصبحت على ما هي عليه بسبب الطريقة الخاصة التي يدخل بها الماء في مناشط السمك، ويدخل بها الهواء في مناشط الطير. وحين تتباين الأعضاء في سبل تفاعلها مع البيئة، تنشأ الحاجة إلى إيجاد توازن بينها؛ أو إن شئت عبارة موضوعية لهذا المعنى، فقل إن الحاجة تنشأ إلى بيئة موحدة. ومثل هذا التوازن تكون وسيلته جهازًا يرد به الكائن العضوي على مختلف الحالات التي قد تحدث داخل كيانه والحالات التي قد تحدث في بيئته الخارجية على السواء؛ مثال ذلك عملية التنفس — وهي وظيفة عضوية قد تبدو مستقلة بذاتها — فهي إذ تظل ثابتة، تكون وسيلتها إلى الثبات ذلك التبادل الحي بين العناصر القلوية وعناصر ثاني أكسيد الكربون الناشئة من الضغوط المتغيرة التي يُحدثها الدم من جهة، وثاني أكسيد الكربون الذي في الرئتين من جهة أخرى؛ والرئتان بدورهما إنما تعتمدان على التفاعلات الناشئة عن الكليتين والكبد، وهذه تُحدث تفاعلات بين الدورة الدموية والمواد التي تصادفها عملية الهضم في طريقها؛ ومجموعة هذه التغيرات المعتمد بعضها على بعض، والتي تسير على توقيت دقيق بعضها مع بعض، إنما تنظمها تغيرات في الجهاز العصبي. ونتيجة هذه المجموعة الدقيقة المركبة من التغيرات الداخلية، هي قيام حالة من التكامل مع البيئة لها من الاطِّراد قسط موفور، أو إن شئت عبارة أخرى تعبر عن نفس المعنى، فقل إن نتيجتها هي قيام بيئة موحدة إلى حد ملحوظ؛ ولا كذلك ما يكون بين الجوامد ومحيطها من تفاعلات، لأن مثل هذه التفاعلات لا يكون من شأنها أن تُقيم علاقة ثابتة بين الأشياء الداخلة في الأمر؛ فضربة المطرقة — مثلًا — تحطم قطعة الحجر قِطَعًا صغيرة؛ أما عند الكائن الحي، فطالما تظل حياته قائمة على صورتها العادية، فلا يكون من شأن التفاعلات التي يدخل فيها الكائن العضوي والبيئة بطاقاتهما، إلا أن تحافظ على قيام الظروف التي يتطلبها كل من الجانبين لتعينه على تفاعلات أخرى مقبلة؛ وبعبارة أخرى فإن هذه العمليات إنما تكون حافظة لقيام نفسها بنفسها على النحو الذي لا يتوافر في حالة التفاعلات التي تحدث بين الأشياء غير الحية. وليست تقتصر هذه القدرة على الكائنات العضوية الفردية، أعني القدرة على الاحتفاظ بصورة مطردة من التفاعل بين الكائن العضوي وبيئته؛ بل إنها لَتتبدى كذلك في إنسال الكائن العضوي لشبيهه؛ أما الحجر فمفروض فيه الحياد فلا يبالي كيف يجيء رد فعله من الناحية الآلية والناحية الكيموية (داخل حدود ما تحتمله طبيعته) بالنسبة إلى الأشياء الأخرى؛ فقد يفقد الحجر فرديته، لكن العمليات الآلية والكيموية الأساسية تمضي في طريقها غير متأثرة بتلك الفردية الضائعة؛ وأما الكائن العضوي فما دامت حياته قائمة، فإنه يؤدي من العمليات ما يكفل له قيام وتجديد أنواع العلاقة المستديمة قيامًا يتصل في غير انقطاع، وذلك هو الطابع الذي يميز مناشط الحياة في الكائن العضوي المعين. ولئن كان كل منشط يمهد الطريق للمنشط الذي يتلوه، إلا أن هذه المناشط المتتابعات لا تكون مجرد حالات يعقب بعضها بعضًا، بل إنها لتكون سلسلة متصلة حلقاتها. وصفة التسلسل هذه التي تميز مناشط الحياة إنما تنشأ عن طريق التوازن الدقيق للعناصر المركبة التي تدخل في تكوين كل منشط على حدة. ولو اضطرب هذا التوازن الكائن في داخل المنشط الواحد المعين — أي لو زاد أحد العناصر زيادة نسبية عما ينبغي له أو نقص — إذن لبرزت الحاجة فالبحث فإشباع تلك الحاجة، وإنني لأستخدم هذه الكلمات بمعناها الموضوعي وكلما ازداد مدى التباين في تكوين الكائن العضوي، وازداد — تبعًا لذلك — مدى المناشط التي تقابل ذلك التباين، ازداد الأمر عسرًا في إقامة التوازن بين عناصر الكائن الحي؛ حتى لَيجوز لنا أن نعد العيش خطوات مستمرة التتابع: فخطوة يختل فيها التوازن، تتبعها خطوة يعود فيها التوازن إلى اعتداله؛ وكلما «علا» الكائن العضوي في سلم الكائنات، ازداد اختلال التوازن في كيانه خطورة، كما ازدادت — وكثيرًا ما طالت أمدًا كذلك — حدة الجهود اللازمة لاستعادة التوازن المفقود؛ فإن كانت حالة التوازن المختل تولد «حاجة»، في الاتجاه نحو استعادة التوازن إلى حالته الأولى هو البحث والاستكشاف حتى إذا ما أُعيد التوازن فعلًا كان ذلك هو استيفاء الحاجة أو إشباعها. فالجوع — مثلًا — هو حالة من حالات التوازن المفقود بين العناصر العضوية من جهة والبيئية من جهة أخرى، أعني توازنها في كيان يُكمل بعضه بعضًا؛ وتلك هي الحياة. مثل هذا الاضطراب إنما يَنتج عن نقص في الاستجابة الكاملة نحو مواءمة الوظائف العضوية المختلفة بعضها لبعض؛ فوظيفة الهضم لا تحقق ما هي مطالَبة بأدائه مباشرة؛ والذي يطالبها به هو الجهاز الدوري الذي يحمل مادة التغذية — لتعويض الجانب المفقود — إلى كافة الأعضاء المختصة بأداء وظائف أخرى؛ وكذلك تعجز وظيفة الهضم عن تحقيق ما هي مطالَبة به مطالبة غير مباشرة توجهها إليها نواحي النشاط الحركي؛ وهكذا تنشأ حالة من التوتر حقيقية (لا مجرد شعور بها) قوامها ململة وقلق عضويان؛ وبعدئذٍ تنتقل حالة التوتر هذه (وهي التي تحدد لنا معنى الحاجة) إلى بحث عن المادة التي تعيد حالة الاتزان من جديد؛ وإنك لترى هذه الحالة في الكائنات العضوية الدنيا متمثلة فيما يحدث على أجزاء سطحها من انتفاخات وتقلصات، تُتيح للمادة المغذية أن تدخل في كيانها العضوي؛ حتى إذا ما دخلت فيه أنشأت في كل أرجاء الحيوان ضروبًا من النشاط من شأنها أن تعيد التوازن الذي هو إشباع نتج عن حالة التوتر السابقة. فلو ضربنا مثلًا لما نقوله حالة البحث عن الطعام كما نراها عند الكائنات العضوية العليا، ظهر لنا في وضوح أن عملية البحث نفسها كثيرًا ما تؤدي بالكائن العضوي إلى بيئة تختلف عن بيئته القديمة، وأن الاغتذاء بالطعام في ظل الظروف الجديدة يقتضي تحويرًا في حالة الكائن العضوي؛ فها هنا يكون الجانب الذي أُعيد إنشاؤه هو «صورة» العلاقة بين الحي وبيئته، أي «صورة» التفاعل بينهما، لا الظروف القديمة بعينها؛ وما لم نتبين هذه الحقيقة، أصبح الانتقال من حالة إلى حالة أمرًا خارقًا للمألوف خارجًا عن المعتاد، بدل أن يكون هو الخاصة الطبيعية التي تتميز بها مناشط الحياة؛ فالحاجة تظل عاملًا ثابتًا، لكنها تغير من مضمونها؛ ومع هذا التغير في مضمون الحاجة ينشأ تغير في مناشط الاستكشاف والبحث؛ ثم هذا التغير الأخير يستتبع بدوره تغيرًا في سد الحاجة أو إشباعها؛ نعم إنه لا شك في قوة الميل نحو الجمود على حالة بعينها، ومعنى ذلك أن ثمة ميلًا نحو «العودة» إلى ما قد كانت عليه الحال؛ غير أنه بالنسبة إلى الكائنات العضوية الأكثر تركيبًا من سواها — إن لم يكن بالنسبة إلى سواها كذلك — نرى نشاط البحث يقتضي تحويرًا في البيئة القديمة، حتى وإن اقتصر ذلك التحوير على تغيير العلاقة التي تصل الكائن العضوي بتلك البيئة. وحين يكون الانتقال من حال إلى حال من السعة بحيث نسميه تطورًا عضويًّا، فعندئذٍ لا يكون مصدره إلا القدرة على خلق طريقة جديدة من المواءمة استجابة لظروف جديدة، ثم الاحتفاظ بتلك الطريقة بعد خلقها؛ وإن ذلك ليصدق بصفة خاصة على الكائنات البشرية؛ فالمناشط التي تنشط بها هذه الكائنات إشباعًا لحاجاتها تغير من البيئة إلى الحد الذي يخلق حاجات جديدة تتطلب بدورها تغيرًا جديدًا في مناشط الكائن العضوي لسد تلك الحاجات، وهكذا دَوَالَيْك في سلسلة لا تنتهي احتمالاتها. وفي حالة الكائنات العضوية الدنيا، يحدث معظم التفاعل بين الطاقات العضوية من ناحية والبيئية من ناحية أخرى عن طريق التماس المباشر؛ أي إن توتر الكائن العضوي يكون تجاذبًا بين سطحه الخارجي وداخله؛ وأما في الكائنات العضوية ذوات القدرة على إدراك المسافة وذوات الأعضاء المحركة، فصفة التسلسل الذي يربط سلوكها في حياتها حلقة سابقة بحلقة لاحقة، تقتضي أن تكون الأفعال السابقة في سلسلة السلوك ممهدة بطبيعتها للأفعال اللاحقة؛ ومعنى ذلك أن الفترة الزمنية التي تقع بين نشوء الحاجة وتحقق إشباعها، تصبح بالضرورة أطول أمدًا حين لا يكون التفاعل عن طريق المس المباشر؛ لأن بلوغ التكامل (بين الحي وبيئته) يتوقف عندئذٍ على إقامة الروابط بين الكائن الحي والأشياء التي تقع منه على مبعدة وتُثير فيه نشاطه الكشفي بإثارتها للعين والأذن؛ وبهذا يوضع نظام معين لترتيب مراحل النشاط: أولها وأوسطها وآخرها؛ وها هنا تكون نهاية المراحل منطوية على حالة من اختلال التوازن في الكائن العضوي. بحيث يستحيل عليه بلوغ درجة التكامل بين أعضائه إذا اكتفى بمادة مما يمس كيانه العضوي مسًّا مباشرًا؛ فعندئذٍ تراه يميل ببعض جوانب نشاطه إلى اتجاه ما، وببعضها الآخر إلى اتجاه آخر: ونزيد في التخصيص فنقول إن نشاطه الذي يلمس به بيئته المباشرة في وضعه الراهن، ونشاطه المثار عن طريق حواسه المدركة للبعد المكاني، يتجاذبان تجاذبًا ينتهي بسيطرة النشاط الثاني على النشاط الأول؛ فالحيوان الشبعان لا يستثيره منظر الفريسة أو رائحتها، مع أنهما كفيلان بتحريكه في حالة الجوع؛ ومناشط البحث عند الحيوان الجائع تكون سلسلة تتوسط حلقاتها بين البداية والنهاية، وعند كل مرحلة وسطى يظل التوتر قائمًا بين أوجه النشاط التي تقتضيها الظروف المباشرة وتلك التي يستجيب بها لمثيرات بعيدة تؤثر فيه عن طريق حواسه التي يدرك بها الأشياء البعيدة؛ ولهذا تستمر الحركة إلى أن يستتب تكامل بين نوعي النشاط: ما يستثيره المثير القريب وما يستثيره المثير البعيد عن طريق النشاط البصري والحركي، وهذا يحدث حين يبلغ الكائن الحي مرحلة التهام الطعام. هذا القول الذي أسلفناه إنما يصف الفرق بين أساليب التفاعلات حين يكون أحد الطرفين المتفاعلين عوامل البيئة، والطرف الآخر عوامل عضوية، وهي التفاعلات التي يصح تسميتها باسم الإثارة ورد الفعل، أو باسم المثير والاستجابة؛ فمثلًا ترى الحيوان الساكن قد استثارته إثارة حسية إلى التشمم؛ فلو عزلنا هذا الموقف الخاص بما فيه من علاقة وجعلناه موقفًا كاملًا بذاته، أو فرضنا فيه هذا التكامل الذاتي، كان لدينا بذلك حالة مجردة من حالات الاستثارة ورد الفعل، وشبيه بذلك أن يقفز إنسان حين يسمع صوتًا مفاجئًا، ثم لا يفعل شيئًا غير مجرد القفز؛ فالاستثارة من نوع خاص وكذلك رد الفعل من نوع خاص؛ وافرض أن الاستثارة قد جاءت من شيء بعيد عن طريق إحدى حواس البعد المكاني كالعين، فها هنا كذلك تنشأ حالة من الاستثارة ورد الفعل؛ أما إذا استُثير الحيوان للقيام بعمل فيه متابعة، فعندئذٍ يكون الموقف من طراز مختلف أشد اختلاف عما ذكرنا؛ فلئن كانت هنا أيضًا حالة خاصة من حالات الاستثارة الحسية، إلا أنها تتشابك تشابك الاتساق مع عمليات عضوية أخرى أكبر عددًا مما في الأمثلة السابقة؛ إذ تتشابك مع أعضاء الهضم والدورة الدموية، ومع الجهاز العصبي العضلي، سواء منها ما هو ذو كيان مستقل وما هو متصل بالحس والحركة وما هو مركزي؛ حتى إذا ما تم هذا التشابك المتسق بين الأعضاء بحيث أصبح بمثابة حالة معينة تسود الكيان العضوي باعتباره كلًّا واحدًا، نشأ عن ذلك ما نسميه «مثيرًا»؛ والفرق بعيد بين هذه الحالة (وسمها بما شئت من أسماء) وبين حالة الاستثارة الحسية الجزئية الخاصة؛ إذ إن تعقب الفريسة هو استجابة لحالة تسود الكائن العضوي كله، وليست هي استجابة لاستثارة خاصة تلقاها عضو معين من أعضاء الحس؛ والحق أن التمييز بين ما أسميناه مثيرًا وما أسميناه استجابة لا يتم إلا بعد تحليل عقلي؛ فما قد أسميناه بالمثير — لكونه هو الحالة الشاملة للكيان العضوي كله — إنما يتحول من تلقاء نفسه — لما هنالك من ضروب التوتر — إلى مناشط التعقب التي نطلق عليها اسم الاستجابة؛ فليس المثير إلا الجزء السابق من المجموع السلوكي المتسق المتصل الحلقات، وليست الاستجابة إلا جزءه اللاحق. إن المبدأ الكامن في هذا التمييز الذي فرغنا لِتوِّنا من بيانه لَأهم جدًّا مما قد يبدو للنظرة الأولى، ولو غضضنا عنه النظر لأفلتت منا صفة التسلسل التي هي طابع يميز السلوك، ولأصبح السلوك عندئذٍ مجرد تتابع لوحدات من الاستثارة والاستجابة معزولة إحداها عن الأخرى. مستقل بعضها عن بعض؛ يمكن مقارنتها بنفضات متتابعة في العضل — مثلًا — نتجت عن جهاز عصبي أصابه شيء من الاضطراب، أما إذا تبينا حقيقة المثير على أنها توتر يشمل النشاط العضوي بأسره (وهو توتر يمكن رده في النهاية إلى التجاذب القائم بين مناشط البيئة المباشرة من جهة والمناشط التي تستحدثها إثارة الحواس المدركة للبعد المكاني) فعندئذٍ ندرك أن المثير في «علاقته» بالمناشط الخاصة يظل ثابتًا على طبيعته خلال التعقب من أوله إلى آخره، ولو أنه يغير من مضمونه الفعلي عند كل مرحلة من مراحل الطراد؛ فحين يعدو الحيوان في طراده، تتغير الاستثارات الحسية الخاصة، كاستثارات حواس اللمس والشم والبصر، مع كل تغير يطرأ على وضعه أو على طبيعة الأرض التي يعدو عليها، أو على الأشياء التي يمر بها (كالشجيرات والصخور) في طريق عدوه؛ وكذلك تتغير الاستثارات الحسية الخاصة من حيث حدتها مع كل تغير يطرأ على المسافة التي تفصله عن طريدته. غير أنه رغم هذه التغيرات كلها في الاستشارات. فسيظل متسقًا بعضها مع بعض بحيث يتكون منها مثير واحد؛ وإنما يوحد بينها على هذا النحو تلك الحالة الشاملة للكيان العضوي كله؛ وإنه لمحال على النظرية التي تجعل المثير هو نفسه يتابع حالات الاستثارة الجزئية، أن تفسر الاستجابات المتصلة الموحدة كالتي نراها في مطاردة الفريسة وصيدها؛ فبناءً على تلك النظرية يتحتم على الحيوان في كل مرحلة أن يتخذ «استجابة» (رد فعل) جديدة معزولة بنفسها يستجيب بها لكل شيء على حدة مما يعترضه في طريقه؛ يتحتم عليه أن يستجيب للصخور والشجيرات وللتغيرات في مستوى الأرض وطبيعتها، استجابات تبلغ من الكثرة ومن التفكك حدًّا لا يدع مكانًا للاتصال في عملية السلوك؛ وقد ينسى الحيوان — كما يقول الناس عن أنفسهم — غايته المنشودة في غمرة ردود أفعاله المستقل بعضها عن بعض، التي يرد بها على استثاراته المنفصل بعضها عن بعض؛ وذلك لأن السلوك في حقيقته عملية تشمل الحالة الشاملة للكيان العضوي كله في علاقته ببيئته؛ فالمثيرات من حيث وظيفتها تظل ثابتة على الرغم من تغير المضمونات الخاصة للمواقف الجزئية؛ ومن أجل هذا كان السلوك سلسلة متصلة الحلقات، ينشأ كل فعل جزئي فيه من فعل سابق، ويؤدي بدوره — بما قد تراكم فيه من سوابقه — إلى فعل يتلوه، إلى أن يقع الفعل الذي يبلغ به الأمر نهايته والذي يتحقق فيه التكامل الأوفى. ولما كان السلوك العضوي هو ما هو، وليس تتابعًا وتراكمًا لوحدات من الأفعال المنعكسة مفككة ومستقل بعضها عن بعض، كان له اتجاه وقوة تتزايد مع امتداده. نعم هنالك من الأفعال الخاصة — مثل غمضة العين وقفزة الركبة — مما يُساق تمثيلًا لأفعال منعكسة مستقلة إحداها عن الأخرى، وقد تجد من يتخذها الوحدات التي بتراكمها يتألف السلوك؛ لكنه ليس ثمة من دليل على أن أمثال هذه الأفعال قد لعبت أي دور في الارتقاء، بل الأمر على خلاف ذلك؛ إذ تدل الشواهد التي بين أيدينا على أنها أطراف نهايات تقف عندها خطوط الارتقاء في نواحٍ خاصة، وإن لم تكن هكذا فهي نتاج عرضي جاء اتفاقًا حين أخذت الأجهزة (العضوية) — التي نشأت خلال السير الارتقائي — تسلك سلوكها. فما هو كائن بالفعل في العملية السلوكية العادية دورة أولها أو جانبها «المفتوح» هو توتر في العناصر المختلفة للطاقة العضوية، أما نهايتها أو جانبها «المغلق» فإقامة حالة متكاملة من تفاعل بين الكائن العضوي من ناحية والبيئة من ناحية أخرى؛ وهو تكامل يمثله في الجانب العضوي توازن الطاقات العضوية، وفي الجانب البيئي قيام الظروف التي تؤدي إلى حالة الإشباع؛ وختام الدورة — في سلوك الكائنات العضوية العليا — لا يكون هو نفسه الحالة الأولى التي أنشأت عدم التوازن والتوتر؛ إذ قد حدث تحوير في البيئة، حتى وإن اقتصر على مجرد التغير في الظروف تغيُّرًا لا بد للسلوك المقبل أن يحسب حسابه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالأجهزة العضوية يحدث فيها كذلك من التغير ما يكون له أثره في السلوك المقبل؛ ومثل هذا التحوير هو قوام ما يُسمَّى بالعادة. إن السلوك الارتقائي لَيدل — من جهة أخرى — على أن الاستثارات في الكائنات العضوية العليا، إنما ترتبط بردود الأفعال بصورة انتشارية إلى الحد الذي يجعل الحالة التالية نتاجًا لحالة الكائن العضوي كله في علاقته بالبيئة؛ وهذا الربط (بين الاستثارة وردِّ الفعل اللذَيْن يكونان على وجه جملي) في حالتَي العادة والتعلم، تشتد أواصره لا بمجرد التكرار، بل بإقامة أسلوب من التفاعل المنتج المتكامل بين فاعليَّتَي الجانبين: جانب الكائن العضوي وجانب البيئة، وأقصد بهذا التفاعل المنتج المتكامل أن ينتهي الاستكشاف والبحث بخاتمة مثمرة تختم مجرى النشاط؛ وعلى ذلك فنمط السلوك المتكرر، الذي يكون قد اتخذ صورة خاصة أكثر تحديدًا، أقول إن هذا النمط السلوكي — في حالة الكائنات العضوية التي تنزل من سلم التطور في درجاته العليا — لا يصبح كامل التحجر، بل هو يدخل عاملًا معاونًا — إلى جانب غيره من أنماط السلوك — لتتكون منها جميعًا استجابة عامة ملائمة للظروف، ومِن ثَم تراه قابلًا — إلى حدٍّ ما — أن يكون من المرونة بحيث يتقبل تحويرات أخرى كلما اقتضتها ضرورات الظروف الجديدة التي تنشأ عند التقاء الكائن العضوي ببيئته. فهناك — مثلًا — إثارة متبادلة بين اليد والعين في نشاطهما، فنشاط بصري يثير حركة يدوية، ثم يتبع حركة اليد تغير في النشاط البصري وهكذا؛ فها هنا ترى نمطًا من الفعل المتكرر ذا طابع محدد، فلو أن اليد لم تؤدِّ إلا شيئًا واحدًا فقط، كأن تمتد لتُمسك مثلًا، لجاز لهذا النمط من سلوك العادة أن يصبح متحجر الصورة؛ لكن اليد تؤدي أفعالًا غير هذا، فهي تلقف وتدفع وتجر وتقلب الأشياء، ولهذا كان لزامًا على السلوك البصري أن يستجيب لما تؤديه المناشط اليدوية في تنوعها الشديد، وكان حتمًا أن تتسم بمرونة وقدرة على إعادة تكييف نفسها، حتى لا تصبح الرابطة بين اليد والعين رباطًا جامدًا. إن الرأي القائل بأن العادات إنما تتكون بمجرد التكرار، لهو رأي يضع العربة أمام الحصان، لأن القدرة على التكرار هي نفسها نتيجة لعادة تكونت خلال عمليات معدلة من التكيف العضوي أحدثها تحقيق الكائن لخاتمة مثمرة. ومثل هذا التعديل هو بمثابة رسم اتجاه معين تتجه فيه الأفعال المستقبلة؛ فطالما ظلت ظروف البيئة على حال تقرب جدًّا من حالها الأولى، فسيبدو الفعل المترتب عليها وكأنما هو تكرار لفعل سبق أداؤه فيما مضى؛ ولكن التكرار — حتى في حالة كهذه — لن يكون دقيقًا ما دامت الظروف متغيرة؛ فمجرد التكرار — في حالة الكائنات البشرية — هو نتيجة الظروف التي اطَّردت على صورة واحدة لأنه قد أُريدَ لها أن تجيء على هذا الاطِّراد بوسائل آلية، كما يحدث في كثير من «عمل» المدرسة والمصنع؛ لكن أمثال هذه العادات الرتيبة لا تظهر إلا في نطاق الظروف المُصطَنَعة التي تُقام لتكون مجالًا لنشاطها؛ ولا يجوز أبدًا أن تُساق أمثال هذه العادات نموذجًا تُبنَى عليه نظرية في كيف تنشأ العادة وكيف تعمل. لقد بدأتُ حديثي السابق بتفرقة مألوفة، يُمليها الإدراك الفطري، بين الكائن العضوي والبيئة، ثم مضيت إلى التحدث عن تفاعلهما؛ غير أنه من المحتمل — لسوء الحظ — أن يتسلل إلى الموقف لا شعوريًّا تفسير فلسفي خاص ينظر إلى هذه التفرقة من الإدراك الفطري على أنها تدل على وجود جانبين مستقل أحدهما عن الآخر، هما الكائن العضوي من ناحية والبيئة من ناحية أخرى «وجدناهما» هكذا، ثم يجيء إليهما التفاعل جانبًا ثالثًا مضافًا إليهما ليتوسط آخر الأمر بينهما؛ مع أن الأمر في الواقع هو أن التفرقة تفرقة عملية تحدث على فترة معينة من الزمن، فتبدأ من حالة التوتر التي تطرأ على الكائن العضوي في لحظة معينة وموقف معين من مجرى نشاطه الحيوي، ثم تواجه هذه الحالة المتوترة بيئتها كما تكون قائمة عندئذٍ في ظروفها تلك؛ نعم إنه لا نزاع في قيام عالم طبيعي مستقلًّا عن الكائن العضوي، لكن هذا العالم لا يكون «بيئة» إلا بالحدِّ الذي يدخل به في الوظائف الحيوية بطريقة مباشرة وغير مباشرة؛ وكذلك الكائن العضوي نفسه جزء من عالم طبيعي أوسع، لكن لا يتم وجوده العضوي إلا لأنه على اتصالات فعالة مع بيئته. فتكامل الجانبين أعمق أساسًا من التفرقة التي نشير إليها حين نتحدث عن التفاعل بين الكائن العضوي والبيئة؛ فالتفرقة دالة على تفكك جزئي بين ما قد كان متكاملًا بادئ ذي بدء، لكنه تفكك له من طبيعته الحركية ما يَميل به (ما دامت الحياة قائمة) نحو إصلاح ما قد فسد. إن مسلك الحياة في تكوينه وفي مجراه لذو نمط محدد يتصف بحلوله في مكان ووقوعه في زمان؛ وإن هذا النمط لَيقطع مقدمًا بالنمط العام للبحث كيف يكون؛ ذلك لأن البحث إنما ينشأ عن حالة سابقة سادها توافق مستقر، ثم طرأ عليها اضطراب جعلها مائعة تبعث على التساؤل (وتلك هي المرحلة الأولى من فاعلية التوتر)؛ ثم ينتقل الأمر إلى مرحلة البحث بمعناه الدقيق (وتلك هي المرحلة التي ينشط فيها الكائن العضوي منقبًا مستكشفًا)؛ فإذا صادف التنقيب نجاحًا، انتهى السير إلى اعتقاد أو إلى قرار هو الذي يقابل — في جانب النشاط التنقيبي — إصلاح الفاسد بالنسبة إلى الكائن العضوي. إنه لا يكون بحثًا ذلك الذي لا يتضمن إحداث تغير ما في الظروف المحيطة؛ وتتضح لنا هذه الحقيقة من أهمية التجربة في البحث أهمية تجعل إهمالها أمرًا محالًا؛ إذ إن إجراء التجارب ما هو إلا تحوير مقصود في ظروف كانت قائمة قبل البحث؛ وحتى في العصر السابق على التفكير العلمي، كان الفرد من الناس يحرك رأسه وعينيه، وكثيرًا ما يحرك جسده كله، لكي يحدد الظروف التي لا بد من وضعها موضع الاعتبار لينتهي إلى حكم معين؛ وأمثال هذه الحركات إنما تُحدث تغيرًا في العلاقات البيئية؛ وأقرب من ذلك دنوًّا من التجارب العلمية أن ترى الإنسان يضغط بأصابعه عامدًا، ويدفع هذا الشيء ويشد ذلك، ويدق ويقلب، ليكشف لنفسه عن طبائع الأشياء. إن النمط السلوكي للحياة يتميز بتتابع متسلسل، أي إنه حلقات يتصل لاحقها بسابقها؛ ولقد أسلفنا القول بأن الطابع الذي يميز السلوك الحيوي يزداد وضوحًا في المرحلة التي تظهر فيها الحواس المدركة للأبعاد المكانية، كما يظهر فيها كذلك الجهاز العصبي اللازم لتنسيق استثارات تلك الحواس المدرِكة للأبعاد مع الحواس المختصة بإدراك المحيط المباشر، ومع أجهزة العضلات والدورة الدموية والتنفس التي تدخل كلها في السلوك؛ وفي الكائن البشري تنشأ الذاكرة عن قدرة كيانه العضوي على الاحتفاظ بما يطرأ عليه (وهذا هو تكوين النمط السلوكي الذي يصبح عادة)؛ فتساعد الذاكرة على إيجاد أهداف أو على النظر إلى نتائج بعيدة من حيث الزمان والمكان معًا، وهي كذلك تزيد من التسلسل بين حلقات السير في البحث، سواء كانت تلك الحلقات لحظات زمنية متتابعة أم حلقات رابطة بين سابق ولاحق، أقول إن الذاكرة تزيد من ذلك عما هي الحال عند الكائنات التي لا تملك أكثر من مجرد المؤثرات التي تجيئها من بعد؛ فالتذكر شرط له أثره في تكوين هدف يضعه الإنسان نصب عينه، أو في تصور نتيجة يعمل على تحقيقها؛ لأن تكوين الهدف أو تصور النتيجة إنما يتطلب إعداد خطط ثم اختيار الوسائل المؤدية وترتيبها، اختيارًا وترتيبًا يؤديان إلى إخراج تلك الخطط إلى حيز الوجود الفعلي. ومسالك السير وطرائق العمل المرتبطة حلقاتها ارتباطًا متسلسلًا، والتي هي الوسائل المؤدية إلى تحقيق خاتمة مثمرة للسلوك تحقيقًا فعليًّا، إنما هي بحكم طبائعها مراحل وسطى ووسائل تنفيذ؛ وهذا الطابع الذي يميزها، هو بمثابة تحديد سابق — على المستوى البيولوجي — لما ينبغي أن يكون عليه تفسيرنا على مستوى البحث العلمي — لعمليات الاستدلال والتفكير، في علاقتها بما تنتهي إليه من أحكام نعدها ثمرة ختامية للبحث. إن لعلاقة التسلسل في المنطق أهمية أساسية، وهذه الأهمية تضرب بجذورها في مقتضيات الحياة نفسها؛ فالفاعلية الحيوية تتضمن إجراء تحوير في مناشط الجانب العضوي والجانب البيئي في آنٍ معًا؛ وهذه الحقيقة في الحياة العضوية تضع الأساس سلفًا لما سيكون عليه التعلم والاستكشاف، بما يصاحب ذلك من زيادة تترتب عليه في حاجات جديدة تنشأ، وفي مواقف معضلة جديدة تقوم؛ إن البحث الذي نجريه فنُقِر به علاقة كانت قد اختلت بين الكائن العضوي والبيئة (وهذا هو نفسه تعريف الشك) لا يقتصر على إزالة الشك بالعودة إلى حالة من التكامل كانت قائمة وملائمة بين الجانبين، بل إنه لَيستحدث ظروفًا بيئية جديدة من شأنها أن تخلق مشكلات جديدة؛ فيما يتعلمه الكائن العضوي خلال سيره هذا، يزوده بقوى جديدة تقتضي من البيئة شروطًا جديدة، واختصارًا، فإن حلَّ مشكلات معينة يعود فيعمل بدوره على خلق مشكلات أخرى، وليس ثمة مرحلة يصح أن نستقر عندها استقرارًا نهائيًّا، لأن كل استقرار نحققه يجلب معه ظروفًا تنطوي على درجة معينة من قلق جديد؛ حتى إذا ما بلغنا من التطور مرحلة تتميز بظهور العلم، أصبحت إثارة المشكلات إثارة متعمدة هدفًا من أهداف البحث؛ وإذا لم تفقد الفلسفة ارتباطها المباشر بالعلم، كان في مستطاعها أن تقوم بدور هام في تحديدها لصياغة هذه المشكلات، وفي تقديم ما تراه من حلول على سبيل الافتراض؛ أما إذا حسبت الفلسفة أن في مقدورها إيجاد حل نهائي وشامل، فإنها لا تعود بحثًا، وتصبح إما بلاغة للدفاع أو وسيلة للدعاية. وإذا سلمنا بما في الطبيعة من اتصال، وما يترتب على ذلك التسليم من نتيجة أولى، هي أن البحث تطور ينشأ عما بين الجانب العضوي والجانب البيئي من تكامل وتفاعل، نتج عن ذلك موقف خاص بالعلاقة بين علم النفس والمنطق. ولقد أشرنا فيما أسلفناه إلى الجانب السلبي من هذه النتيجة، إذ قلنا إنه لا محل في النظرية المنطقية لما ينطوي عليه علم النفس «العقلي» من فروض مزعومة، وإن الفصل التام بين المنطق وعلم مناهج البحث — الذي ناقشناه في الفصل السابق — إنما يرتكز إلى حد كبير على الاعتقاد بأنه ما دام إجراء البحث يتضمن حالات من الشك والافتراض والملاحظة والتخمين والبصيرة السديدة … إلخ، وما دامت هذه الحالات كلها مزعومًا لها أنها «عقلية»، فلا بد أن تكون هنالك فجوة بين البحث (أو التفكير النظري) والمنطق؛ ولو صدق هذا الزعم لصحت النتيجة، لكنه زعم يتبين فساده إذا تبين لنا أن البحث متصل السير اتصالًا طبيعيًّا مع السلوك العضوي — وذلك أن البحث إن هو إلا ضرب من ذلك السلوك وقد تطور — وليس يخفى على دارس التاريخ الفكري كيف استطاعت الوقفة العلمية الجديدة التي وقفها القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، أن تحدث فجوة بين الجانبين العقلي والمادي؛ إذ كان المفروض عندئذٍ أن الجانب العقلي عالم من الوجود قوامه كيانات نفسية تتميز بعمليات مختلفة كل الاختلاف عن عمليات العالم الخارجي الذي يواجه «العقل»؛ وغاب عن الأنظار ما كان الإغريق قد تصوروه قديمًا من أن الفرق بين الجانبين هو فرق في طريقة «البناء العضوي» لمواد وعمليات مشتركة بينهما؛ فرضيت فلسفية المعرفة ورضي علم النفس بثنائية كاملة، وبشطر الطبيعة في شعبتين، ثم صِيغت النظرة إلى الفكر وإلى الأفكار صياغة تطرد مع هذه الثنائية المفروضة. وأما الجانب الإيجابي، فهو أن علم النفس ذاته فرع خاص من فروع البحث: فهو — بصفة عامة — يتصل بنظرية البحث المنطقي بنفس العلاقة التي يتصل بها علم الطبيعة أو الكيمياء. ولكن لما كان علم النفس أوثق اهتمامًا من سائر العلوم الأخرى بالمركز الرئيسي الذي يصدر عند إجراء البحث إنشاءً وتنفيذًا، كان من الجائز أن يُضيف إلى النظرية المنطقية إضافات ليست في مقدور العلوم الأخرى، على شريطة أن يستخدم أداة لخدمة المنطق، لا أن يكون سيدًا له؛ ولو أنني شخصيًّا على شك — كما أسلفت القول توًّا — في وجود أي شيء «عقلي» بالمعنى المذهبي المزعوم، إلا أنه لا حاجة بي إلى التعمق في هذه المسألة؛ لأنه — كما ذكرنا من قبل — لو كان هنالك أي شيء من هذا القبيل فلا شأن له بنظرية البحث؛ أضف إلى ذلك أن كل بحث في أمره لا بد أن يكون هو نفسه بحثًا يفي بالشروط المنطقية لكل بحث آخر؛ ومع ذلك كله فأيًّا ما كان الموضوع الذي يلقي ضوءًا على الحالات والعمليات العضوية الداخلة في إجراء البحث ابتداءً ومسلكًا (وهو ما لا بد أن يؤديه علم نفس بيولوجي سليم) فالأرجح جدًّا أن يضيف ذلك الموضوع إضافات قيمة إلى نتائج البحث في البحث. فقد يمهر الطبيب — بناءً على ذلك — في تبيُّنه لظواهر المرض، وفي معالجته له بسبب ما كان له من ملاحظات تكررت في حياته الماضية، وما اعتاده من ضروب العلاج، دون أن يفقه شيئًا عن المرض كيف ينشأ، ولا عن ضروب العلاج التي يستخدمها لماذا تشفي؛ ويَصدق هذا نفسه على مهارات كثير من مهندسي الآلات والصناع؛ وبهذا المعنى لكلمة «تجريبي» تكون الكلمة وصفًا لما يقع بالفعل، وعندئذٍ يكون ثمة ما يُسوِّغ تمييزها من الفاعلية «العقلية» حين نعني بهذه الأخيرة سلوكًا قائمًا على أساس فهمنا للمبادئ، لكنه من الواضح أننا إذ نقول عن نتيجة علمية إنها قد ثبتت ثبوتًا تجريبيًّا، فلسنا بذلك نريد ولا ننوي حذف الفاعلية العقلية أو التدليل؛ بل الأمر على خلاف ذلك، فكل نتيجة نصل إليها بطريقة علمية عن أمر من أمور الواقع، تتضمن تدليلًا مستنِدًا إلى مبادئ ومستمدًّا منها، والعادة أن نعبر عن تلك المبادئ بلغة الرياضة؛ إذن فقولنا عن شيء إنه قد ثبت بالتجربة، مساوٍ لقول مضادٍّ لما يُقال حين لا يعني القائل بكلمة «تجريبي» إلا المشاهدات الحسية والاستجابة المعتادة لتلك المشاهدات؛ وعلى ذلك فأولئك الذين يُحوِّلون التفرقة التي لها ما يسوغها بين التجريبي، حين نفهم من هذه الكلمة معرفة الصناع وفعلهم، وبين العقلي، حين نقصد بهذه الكلمة فهمًا علميًّا، أقول إن أولئك الذين يُحوِّلون هذه التفرقة إلى تفرقة مطلقة تجعل كل ضروب الخبرة على تَضاد مع العقل ومع ما نصفه بأنه عقلي، إنما يعتمدون في ذلك التحويل على تصور سابق عندهم تصوروه جزافًا عن الخبرة وحدودها ماذا «يجب» أن تكون؛ ولا يزال هذا التحديد الجزاف — لسوء الحظ — قائمًا في تفسيرات كثيرة لما هنالك من تمايز بين ما يقع في مجرى الزمن وما هو أزلي — مثلًا — وبين الإدراك الحسي والإدراك العقلي؛ وبصفة عامة، بين المادة والصورة. ولنا أن نُضيف أن كلمة «خبرة» حين استُعملت عند بدء ظهورها استعمالًا يُضفي عليها الوقار، بُولغ — بغير شك — في جانبها المتصل بالملاحظة، كما نرى مثلًا عند «بيكن» و«لك»؛ ونستطيع أن نلتمس لهذه المبالغة تعليلًا سريعًا في كونها حدثت في الظروف التاريخية التي حدثت فيها؛ ذلك أن الموروث الفلسفي القديم كان قد تدهور حتى بلغ صورة استُبيح معها الظن بأن اعتقاداتنا عن أمور الواقع يمكن بل ينبغي أن نُحصِّلها بالتدليل العقلي وحده، إلا إذا كانت مستندة إلى أقوال الثقات؛ فتولدت عن معارضة هذه النظرة المتطرفة نظرة أخرى تُساويها في قَصْرِ نفسها على جانب واحد، وهي أن الإدراك الحسي وحده يمكن أن يقرر لنا على نحو مرضٍ ما عسانا أن نعتقده عن أمور الواقع، فأدت هذه الفكرة عند «بيكن» — وبعد ذلك عند «مل» — إلى إهمال الدور الذي تؤديه الرياضة في البحث العلمي؛ كما أدت عند «لك» إلى تقسيم يوشك أن يكون فاصلًا، بين معرفتنا لأمور الواقع، ومعرفتنا لما يقوم بين أفكارنا من علاقات. على أن هذه المعرفة الأخيرة — بناءً على مذهبه — تعود فترتكز في نهاية الأمر على الملاحظة الخالصة، سواء كانت تلك الملاحظة «داخلية» أم «خارجية» فنتج عن ذلك كله في النهاية مذهب يرد «الخبرة» إلى «إحساسات» باعتبار أن هذه الإحساسات هي المقومات التي تتألف منها كل ملاحظة، كما يرد «الفكر» إلى روابط خارجية تصل هذه المقومات؛ على أن المفروض في الإحساسات وفي روابطها معًا أن تكون عقلية فقط، أي أن تكون نفسية خالصة. إن مشكلة العلاقة بين المادة التي هي موضع الملاحظة، والموضوع الذي نضعه أمام الفكر أو التصور العقلي، هي مشكلة حقيقية خصوصًا بالنسبة إلى ما يساويها في مجال المنطق؛ لكنه لا يجوز لنا أن نحل المشكلة حلًّا وسطًا منذ البداية بأن نعرضها في صورة التفرقة الفاصلة المطلقة بين ما هو تجريبي من ناحية وما هو عقلي من ناحية أخرى؛ لأن عرضها على هذا النحو يتضمن أن ليس ثمة إشكال منطقي في الأمر، وأن كل ما هنالك هو فصل بين الجانبين نجعله مطلقًا ومباشرًا؛ وليس في مستطاعنا أن نسوق في هذه المرحلة من بحثنا، مسوغاتنا في الاعتقاد بأن من يتصور الخبرة على حقيقتها؛ يجد الاستدلال والتدليل العقلي والتكوينات الذهنية إنما تنتسب إلى الخبرة كما تنتسب المشاهدة سواءً بسواء، ويجد كذلك أن الفصل الحادَّ بين تلك وهذه لا يُسوِّغه قط إلا أسطورة في تاريخ الثقافة؛ على أنه إذا اتخذنا النظرة الطبيعية التي نأخذ بها في هذا الكتاب أساسًا لنا نشأت أمامنا مشكلة نضعها على النحو الآتي: كيف حدث أن تطور السلوك العضوي إلى بحث له ضوابطه، قد أنتج ما هو قائم بين عمليات المشاهدة من ناحية وعمليات التصور العقلي من ناحية أخرى، مِن تباين وتعاون؟ نعم إننا سنجد في مناقشتنا للغة وللرموز اللغوية في الفصل التالي أساسًا نُقيم عليه الإجابة عن هذا السؤال؛ لكنه لا مناصَ لنا من إعادة ما قد أسلفناه، وهو أن التشبث بتقليد كان قد تَكوَّن قبل قيام البحث العلمي الحديث (بما في ذلك البحث البيولوجي) وقبل إخضاع هذا البحث العلمي لتحليل مستقل. أقول إن التشبث بمثل هذا التقليد لا يجوز أن يُسمح له بتحويل مشكلة قائمة أمام المدارس كلها على حد سواء، إلى حل مزعوم تم إعداده من قبل؛ لأن حلًّا كهذا يَحُول دون ظهور موضع الإشكال في المشكلة؛ وأخيرًا، فبينما الموقف الذي نقفه في هذا الكتاب يتضمن أن يكون المنطق موضوعًا تجريبيًّا بمعنى أن مادته تتألف من بحوث في متناول الناس جميعًا، ومكشوفة للمشاهدة، إلا أن ذلك لا يعني أنه تجريبي بالمعنى الذي طَوَّر به «مل» — مثلًا — أفكار «لك» و«هيوم»؛ فهو قائم على الخبرة بنفس الطريقة التي يكون بها أي علم طبيعي تجريبيًّا في مادته ونتائجه: أي إنه قائم على الخبرة بنفس الطريقة التي يكون بها أي علم طبيعي قائمًا على الخبرة، فهو متميز بهذا مما يكون تأمليًّا صِرفًا ومتميز كذلك مما هو «قبلي» وحدسي. وأختم حديثي بإشارة إلى إشكال يُحيط بالسلوك العضوي وبالبحث المتعمد معًا؛ وذلك أن ثمة مفارقة ما تنفك قائمة بين الوسائل المستخدمة والنتائج المترتبة عليها؛ وقد تبلغ هذه المفارقة أحيانًا حدًّا من الخطورة بحيث ينشأ عنها ما نسميه بالخطأ أو بالزلل؛ وإنما تقوم هذه المفارقة لأن الوسائل المستخدمة، التي هي الأعضاء والعادات المستخدمة في السلوك، والأعضاء والتصورات العقلية المستخدمة في البحث المتعمد، لا بد أن تكون راهنة وفعلية، بينما النتائج التي يُرجى بلوغها مرهونة بالمستقبل؛ والوسائل الراهنة الفعلية إن هي إلا نتيجة لظروف ومناشط كانت قائمة فيما مضى؛ وهي وسائل ناجحة الأداء، أو قل إنها تؤدي عملها أداءً «صوابًا»، وذلك (١) إلى الحد الذي تكون عليه الظروف البيئية القائمة قريبة الشبه بالظروف التي ساعدت في الماضي على تكوين العادات، و(٢) إلى الحد الذي تحتفظ به العادات بمرونة تكفيها لمعاودة المواءمة بينها وبين الظروف الجديدة في غير عسر. وهذا الشرط الأخير لا يجد وسيلة استيفائه مُيَسَّرة عند الكائنات العضوية الدنيا؛ فإذا ما تحقق له ما يستوفيه، كان معنى ذلك أن مرحلة في «التطور» قد حدثت؛ ولهذا ترى العوامل التي يُنتظر لها أن تساعد على استيفائه، موجودة في مناشط الكائنات البشرية على نطاق أوسع من غيرها بكثير. لكن جانب القصور الذاتي من العادة قوي، وبمقدار ما تستسلم له الكائنات البشرية، تظل في حياتها على مستوى حيواني إلى حد ما؛ حتى تاريخ العلم نفسه قد تميز بعصور كانت الملاحظة والتفكير النظري فيها لا يعملان عملهما إلا داخل إطار إدراكي رُسِمَت له حدوده من قبل، فهو بهذا مثل يُساق لجانب القصور الذاتي من العادة؛ ولم يتبين الإنسان إلا منذ عهد قريب نسبيًّا أن السبيل الوحيدة لاجتناب الأخطاء المترتبة على هذا الجمود، هي الاعتراف بأن الحقائق الداخلة في بحث ما ذات طبيعة موقوتة بزمن معين ومرهونة بظروف معينة (وذلك مهما يكن نوع البحث وهو في طريق إجرائه)، والاعتراف كذلك بأن التصورات العقلية والنظريات المستخدمة في البحث هي أيضًا ذات طبيعة فرضية؛ غير أن معنى هذه الحقيقة التي تبينت لنا لم يكد بعد يتغلغل في ثنايا بحوثنا التي نُجريها على موضوعات لها أعظم الأهمية للإنسان في حياته العملية، ألا وهي الدين والسياسة والأخلاق. إن إدراكنا لما أسماه «بيرس» ﺑ «التعرض للخطأ» في تميزه مما أسماه ﺑ «العصمة من الخطأ» ليس هو من قبيل الحكمة فحسب، بل إنه لَيَنتج بالضرورة عن إمكان قيام مفارقة — أو ترجيح ذلك — بين ما لدينا من وسائل نستخدمها والنتائج التي تؤدي إليها تلك الوسائل؛ أي بين ظروف الماضي وظروف المستقبل؛ وليس هو بنتيجة لضعف قوانا الخلقية وكفى؛ فلأننا نعيش في عالم دائب السير، لم يكن المستقبل — على الرغم من أنه استمرار للماضي — مجرد تكرار لذلك الماضي؛ وإن هذا المبدأ لَيَنطبق بقوة ملحوظة على البحث في البحث، وليس بي حاجة إلى القول بأن هذا يشمل البحث الذي أقدمه من مؤلَّفي هذا؛ إن الألفاظ نفسها التي لا غنى لنا عن استخدامها، هي ألفاظ كانت قد تحددت لها معانيها في الماضي لتُعبِّر عن أفكار لا تشبه الأفكار التي لا بد لها اليوم أن تنقلها إذا كان لها أن تُعبِّر عما أُريدَ لها أن تُعبِّر عنه؛ فإذا كان هذا الكتاب معيبًا ﺑ «تعرضه للخطأ»، فلن يكون ذلك فيه إلا حافرًا يحفز أولئك الذين هم ذوو ميول نحو المذهب الطبيعي في تفكيرهم، يحفزهم إلى أداء ما يحاول هذا الكتاب أداءه، لكنهم يؤدونه على وجه أفضل. فهذا الكتاب محاولة في تناول الموضوع وليس هو بالرسالة التي بلغت ختامها؛ والهدف الذي يرجو أن يحققه هو أن تكون محاولته من الاتساق والتماسك بحيث تكفي حافزًا لسواي أن يتصدَّوا للعمل الطويل المتعاون (وهو عمل على أي حال لن تكون له نهاية ما دام البحث قائمًا) وإنه لَعَمل لا بد منه لاختبار الإطار الذي أوجزت خطوطه في هذا الكتاب، ثم لِسَدِّ ما فيه من ثغرات. المهم عندي هو أنه لا ينبغي لأولئك الذين يرفضون الرأي القائل بتدخل عامل خارق للطبيعة في الأمر، لا ينبغي لهم أن يطرحوا هذا الفصل على اعتبار أنه خارج عن الموضوع، مسوقين إلى ذلك الحذف بأنه لم يكن مألوفًا للنواحي البيولوجية أن تدخل في مناقشة النظرية المنطقية. ولئن كان أولئك الذين يؤمنون بتدخل العوامل الخارقة للطبيعة، فلديهم ما يسوغ لهم الاعتقاد في «عقل» قبلي ترتكز عليه الصور والمبادئ المنطقية، فهم لذلك مرتبطون بالتزام سابق أن يروا بأن كل الآراء التي هي من قبيل ما قد عرضناه هنا، خارجة عن الموضوع؛ فالمعتنِق للمذهب الطبيعي — إذا كان كامل العقيدة في مذهبه — هو كذلك مرتبط بالتزام لا يقل عن التزام زميله، والذي يُلزمه هو منطق مذهبه نفسه؛ إذ يُلزمه بالعقيدة في استمرار التطور، وما يترتب عليه من مجموعة العوامل التي تتدخل في إقامة الصور الشكلية والإجراءات، ولا فرق في ذلك بين طرائق المنطق وطرائق الحياة البيولوجية.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.
https://www.hindawi.org/books/69590750/
المنطق نظرية البحث
جون ديوي
«تختلف النظرية المنطقية باختلافِ الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعيَّن؛ فكلما غيَّر العلم من أساسه، تغيَّرت معه نظرية المنطق؛ وذلك لأنَّ المنطق إنْ هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليلًا يُبرِز صورَها؛ فقد كان العلم عند اليونان قائمًا على فلسفةٍ بعينها في الوجود، وجاء المنطق الأرسطي صورةً أمينة دقيقة له؛ فإذا كان العلم المعاصر يقوم على أساسٍ مختلفٍ أشدَّ الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تَحتَّم أن تتغير النظرية المنطقية تبعًا لذلك.»كما كان المنطق الأرسطي متوافِقًا مع العلم عند اليونان ومعبِّرًا عنه، كان من الطبيعي أن يجد العلم المعاصر منطقًا متوافِقًا معه ومعبِّرًا عنه، وهو ما نجده في البرجماتية باعتبارها ألصقَ الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم؛ إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا تُوصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل تُوصف بأنها مؤدِّية أو غير مؤدِّية، فكذلك لا تُوصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدِّية إلى الغرض المقصود أو لا؛ فإذا كان الكلام غير عملي، فهو بالبداهة خارجٌ عن مجال المنطق الذي يخرج عنه أيضًا كلُّ كلامٍ في طابعه الصدق الصوري فقط. ويمكننا التعرُّف أكثر على هذه الفلسفة من خلال هذا الكتاب الذي يتضمَّن عرضًا وتحليلًا لها.
https://www.hindawi.org/books/69590750/3/
جذور البحث تنبت في الوجود الفعلي
ليست البيئة التي يحيا فيها بنو الإنسان ويعملون ويبحثون، مادية فحسب، بل هي ثقافية كذلك؛ فالمشكلات التي تَبعث على البحث إنما تنشأ من علاقات الناس بعضهم ببعض؛ وليست تقتصر الأعضاء التي تختص بهذه العلاقات على العين والأذن؛ بل إن من أدواتها كذلك تلك المعاني التي تطورت على مر الحياة، مضافًا إليها طرائق تكوين الثقافة ونقلها، الثقافة بكل مقوماتها من عدد وصناعات ونظم اجتماعية وتقاليد ومعتقدات سائدة. فالأساليب التي يرد بها بنو الإنسان على ظروفهم الطبيعية نفسها، هي إلى حد كبير جدًّا متأثرة ببيئتهم الثقافية؛ فالنور والنار حقائق طبيعية؛ لكن المواقف التي يستجيب فيها الناس للأشياء على أساس كونها طبيعية صرفًا، فيستجيبون لها بأساليب طبيعية خالصة، نادرة الحدوث بالقياس إلى سواها؛ ومن أمثال هذه المواقف أن يقفز الإنسان إذا ما سمع صوتًا مفاجئًا، وأن يسحب يده إذا ما مست جسمًا ساخنًا، وأن يغمض الجفن حين يزداد الضوء زيادة مفاجئة، واصطلاء أشعة الشمس الدافئة بصورة تشبه ما يستلقي بها الحيوان … إلخ؛ وكل هذه ردود أفعال على المستوى البيولوجي، لكن هذه الأمثلة وأشباهها لا تصور حالات السلوك الإنساني بمعناه الدقيق؛ وإنما يمثل النشاط الإنساني المتميز بإنسانيته «استخدام» الصوت في الكلام وفي الإنصات للكلام، وتأليف الموسيقى والاستمتاع بها، وإشعال النار ورعاية لهبها لنطهو أو لنصطلي دفئها، وإحداث الضوء للقيام بأعمالنا ولهونا الاجتماعي، ثم لتنظيم تلك الأعمال وهذا اللهو. ولكي تتبين المدى الكامل الذي تعمل العوامل الثقافية في حدوده لتشق لمسالك الحياة مجراها، فعليك أن تتعقب سلوك فرد واحد خلال يوم واحد على الأقل، سواء كان ذلك اليوم يومًا في حياة عامل أجير أم رجل من أرباب المهن، أم فنان أم عالم، ثم يستوي الأمر كذلك إن كان الفرد المختار وليدًا ناشئًا أو والدًا؛ فالنتيجة في كل هذه الحالات هي أن ترى كيف يجيء السلوك مشبعًا من أوله إلى آخره بظروف وعوامل ثقافية في منشئها وفي مضمونها؛ ولك أن تقول عن السلوك المتميز بإنسانيته إن البيئة الطبيعية بأضيق معانيها إنما تتداخل في البيئة الثقافية تداخلًا يجعل تفاعلنا مع البيئة الطبيعية ومشكلاتنا التي تنشأ متعلقة بها وأساليبنا في تناول تلك المشكلات، متأثرة كلها تأثرًا عميقًا بتداخل هذه البيئة الطبيعية في البيئة الثقافية. إن الإنسان — كما لاحظ أرسطو — حيوان «اجتماعي»، وهذه الحقيقة تُدخله في مواقف وتُحدث له من المشكلات ومن وسائل حلها ما ليس له نظير سابق في الحياة العضوية على مستواها البيولوجي؛ وذلك لأن الإنسان اجتماعي بمعنًى آخر غير الذي نراه في النحل والنمل؛ إذ تُحاط مناشطه ببيئة يمكن نقلها بأدوات ثقافية، حتى لتصبح أفعال الإنسان وكيفية أدائه لها غير متأثرة بتكوينه العضوي وتراثه الجسدي فحسب، بل تتأثر كذلك بمؤثرات تراثه الثقافي المنبث في التقاليد والنظم الاجتماعية والعادات والغايات والمعتقدات التي تحملها هذه الوسائل في طيها أو توحي بها؛ حتى الأجهزة العصبية العضلية عند الأفراد يصيبها التحوير بسبب تأثير البيئة الثقافية على ما تؤديه تلك الأجهزة من أوجه النشاط؛ فتحصيل اللغة وفهمها والمهارة في الفنون الصناعية (التي لا يعرفها غير الإنسان من صنوف الحيوان) يمثلان كيف تتدخل آثار الظروف الثقافية خلال البناء الجثماني للكائنات البشرية، تدخلًا يبلغ من العمق حدًّا يجعل أوجه النشاط المترتبة عليه مباشرة و«طبيعية» في ظاهرها كأنما هي في ذلك شبيهة بردود الأفعال التي يقوم بها طفل رضيع؛ وما القراءة والكلام وممارسة أي فن من الفنون — صناعيًّا كان أو سياسيًّا أو فنيًّا من الفنون الجميلة — إلا أمثلة لصور التحوير التي تتم «داخل» الكائن العضوي في نشاطه البيولوجي، بسبب البيئة الثقافية. وهذا التحوير الذي يطرأ على السلوك العضوي في البيئة الثقافية وبسببها، يفسر لنا، بل قل إنه هو نفسه تحويل السلوك العضوي إلى سلوك متميز بخصائص عقلية هي التي نُعنى بها في هذا البحث؛ فالسلوك الذي هو بيولوجي في نوعه يَرسم سلفًا طريقة إجراءاتنا الفكرية، وهو الذي يمهد لها الطريق؛ لكن رسم الطريقة سلفًا ليس معناه أنه النموذج الذي يُحتذى، وتمهيد الطريق ليس معناه أنه هو الذي يقوم بالأداء؛ فعلى أية نظرية مرتكزة على مصادرة مفروضة من المذهب الطبيعي، أن تواجه المشكلة الناشئة من قيام فروق بعيدة تميز مناشط الكائنات البشرية وروائع أعمالهم من المناشط والأعمال الأخرى التي تتخذ الصورة البيولوجية الخالصة؛ وإن هذه الفروق لهي التي أوحت بفكرة أن الإنسان منفصل انفصالًا تامًّا عن بقية أنواع الحيوان، بما له من خصائص جاءته من مصدر غير مصادر الطبيعة؛ والفكرة التي سنتناولها بالإيضاح المفصل في هذا الفصل هي أن نشأة اللغة (بأوسع معانيها) عن مناشط بيولوجية سابقة — وفي صحبتها عوامل ثقافية أوسع منها مدًى — هي مفتاح هذا التحول في طبيعة الإنسان؛ فإذا نظرنا إلى المسألة من هذه الزاوية، لم تعد مسألة قوامها انتقال السلوك العضوي إلى شيء آخر لا يتصل به بأي وجه من الوجوه كما يفعل — مثلًا — أولئك الذين يلجئُون إلى «عقل» أو إلى «حدس» أو إلى ملكة «قبلية أولية» ليفسروا بها اختلاف الإنسان عن الحيوان؛ بل تُصبح المسألة مسألة فرعية لمشكلة عامة، وهي مشكلة استمرار التغير ونشوء ضروب جديدة من النشاط، أو هي مشكلة التطور في كل درجاته. إذا نظرنا إلى المشكلة من هذه الزاوية، أمكن أن نرد عناصرها إلى رءوس معينة، سنذكر منها ثلاثة، أولها أن السلوك العضوي متمركز في كائنات عضوية «جزئية» (أي فردية)، وهذه حقيقة تَصدق على عمليات الاستدلال والتدليل العقلي باعتبارهما ضربين من النشاط القائم في الوجود الفعلي؛ لكن إذا أُريدَ لهذه الاستدلالات التي يستدلها الأفراد، والنتائج التي ينتهون إليها، أن تكون سليمة، وجب أن تكون مادة الموضوع المبحوث والعمليات المستخدمة في بحثه، من نوع يُنتج نتائج بعينها لا تتغير بتغير الأفراد الذين يستدلون أو يدللون؛ أما إذا كان شاهد معين مؤديًا بشخصين إلى نتيجتين مختلفتين، فإما أن يكون الشاهد ليس واحدًا في كلتا الحالتين إلا بمظهره المضلل، أو أن تكون النتيجة التي انتهى إليها أحدهما (أو كلاهما) باطلة؛ ذلك أن البنية «الخاصة» للكيان العضوي عند فرد معين، إن كان لها خطرها في السلوك البيولوجي، فهي ليست بذات شأن في عملية البحث الخاضعة للضوابط، حتى لينبغي إسقاطها من الحساب والإمساك بزمامها. ووجه ثانٍ من وجوه المشكلة يتبدى بالدور الذي تقوم به الانفعالات والأهواء في أحكام الإنسان؛ فهذه الجوانب «الشخصية» تُلفِّق الشواهد وتَصوغ النتائج التي تُستخلص من تلك الشواهد؛ أعني أن الفرد بما له من مميزات فردية سواء كانت تلك المميزات فطرية أم مكسوبة، هو — حين نكون عند مستوى العوامل العضوية (وهي العوامل التي تؤثر تأثيرًا فعَّالًا في أنواع الحالات التي ذكرناها) — شريك فعَّال في خلق الأفكار والمعتقدات، ومع ذلك فهذه الأفكار والمعتقدات لا يُقال عنها إنها قائمة على أسس منطقية إلا إذا حذفنا — عامدين — تلك الخصائص الفردية حتى نحول دون تأثيرها؛ إننا نُعيد في هذه النقطة ما قلناه عن النقطة السابقة، لكنها مع ذلك تُشير إلى وجه آخر من الموضوع؛ أو بعبارة أخرى نستخدم فيها المصطلحات الشائعة، نقول إنه إذا كان الاختلاف في الحالة الأولى هو اختلاف بين الجزئي والكلي، فهذه النقطة الثانية يجوز أن نعبر عنها بأنها الاختلاف بين الذاتي والموضوعي؛ فلأن تكون «موضوعيًّا» من الناحية الفكرية، معناه أن تُسقط وتَحذف العوامل الشخصية البحتة أثناء الإجراءات التي تُتخذ للوصول إلى نتيجة. إنه إذا كان السلوك العضوي حدثًا يحدث في لحظة معينة من الزمن بالمعنى الدقيق لهذه العبارة، فهو إذ يُصاغ صياغة «عقلية» — سواء بالنسبة إلى الطرائق العامة للسلوك أو إلى الظروف البيئية الخاصة التي تعمل فيها تلك الطرائق العامة — أقول إن السلوك إذ يُصاغ صياغة عقلية فعندئذٍ تتكون القضايا ولا تظل لحدود القضية ما يربطها بعضها ببعض من علاقة زمنية؛ فحين نزل نازل بجزيرة روبنسن كروسو كان ذلك حدثًا متعين الزمن، وحين وَجد كروسو أثر القدم على الرمال كان ذلك كذلك حدثًا متعين الزمن؛ وحين استدل كروسو وجود غريب في الجزيرة قد يكون مصدرًا للخطر، كان ذلك أيضًا حدثًا متعين الزمن؛ لكن بينما كانت هذه القضية التي استدلها قائمة «عن» شيء متعين الزمن، فإن «العلاقة» التي تصل الواقعة المشاهدة التي هي بمثابة الدليل، بالنتيجة المستدلة منها، تخرج عن حدود الزمن، وقل ذلك نفسه عن كل علاقة منطقية تقوم داخل القضية أو تربط قضية بأخرى. وفي مركب العناصر التي يتألف منها المحيط الثقافي، تحتل اللغة مكانًا ذا دلالة خاصة، وهي تؤدي وظيفة ذات دلالة خاصة كذلك؛ فهي في ذاتها نظام ثقافي، على أنها — منظورًا إليها من إحدى وجهات النظر — نظام بين كثير من نظم؛ ولكنها (١) هي الأداة التي «تنتقل» بها سائر النظم والعادات المكتسبة، وهي (٢) «تتغلغل» خلال الصور ومضموناتها في آنٍ معًا، أعني صور المناشط الثقافية الأخرى ومضموناتها، وفضلًا عن ذلك فهي (٣) تتميز بتركيب خاص بها له قابلية التجريد باعتبارها «صورة» من الصور؛ ولهذا التركيب — إذا ما تجرد في صورة — تأثير حاسم، من الوجهة التاريخية، في صياغة النظرية المنطقية؛ إذ لا تزال الرموز التي تُلائم صورة اللغة باعتبارها أداة للبحث (وهذا جانب منها يختلف عن وظيفتها الأصلية، وهي أن تكون وسيلة للتفاهم) لا تزال تلك الرموز متصلة بالنظرية المنطقية اتصالًا يَلفت النظر؛ ولهذا فإننا فيما يلي من البحث سنأخذ البيئة الثقافية بمعناها الواسع مأخذ التسليم، ثم نحصر أنفسنا في الوظيفة الخاصة التي تؤديها اللغة في إحداث التحول من المرحلة البيولوجية إلى المرحلة العقلية التي تحمل في طيها بذور المرحلة المنطقية. على أننا إذ نتناول اللغة — فيما يلي من البحث — فإنما نتناولها بأوسع معانيها، وهو معنًى أشمل من الكلام منطوقًا ومكتوبًا؛ فهي إذ تشمل هذا الكلام، تُضيف إليه كذلك لا مجرد الإشارات الجسدية، بل تُضيف أيضًا الشعائر والطقوس والنصب ومنتجات الفنون الصناعية والفنون الجميلة على السواء؛ فالعدة أو الآلة — مثلًا — ليست مجرد أداة بسيطة أو مركبة، لها خصائصها وآثارها المادية فحسب، بل هي كذلك ضرب من اللغة؛ ذلك لأنها «تقول» شيئًا — لمن يفهم قولها — عن إجراءات استعمالها وما يترتب على تلك الإجراءات من نتائج؛ فالمغزِل المُدار بالبخار أو بالكهرباء لا يقول شيئًا لأعضاء مجتمع بدائي، كأنما هو مؤلف من لغة أجنبية، وهكذا قل في معظم ما في الحضارة الحديثة من حِيَل آلية؛ أما بالنسبة إلى المحيط الثقافي القائم بيننا اليوم، فهذه الأشياء ترتبط بصوالحنا وشواغلنا وأهدافنا ارتباطًا وثيقًا حتى لَكأنها تتحدث إلينا بصوت بليغ. إن أهمية اللغة باعتبارها شرطًا ضروريًّا، ويصبح آخر الأمر شرطًا كافيًا كذلك لا بد من توافره لقيام أوجه النشاط وما يترتب عليها، ثم لانتقال تلك المناشط ونتائجها، وهي المناشط التي لا تقتصر على كونها عضوية خالصة، أقول إن أهمية اللغة باعتبارها ذاك إنما تقع في كونها — من جهة — ضربًا من السلوك بيولوجي الخصائص بأدق المعاني، ناشئًا بتسلسل طبيعي من المناشط العضوية الأولى، وفي كونها في الوقت نفسه — من جهة أخرى — تضطر الفرد الواحد من أفراد الناس أن يلتزم بوجهة نظر سائر الأفراد، وأن ينظر إلى الأمور وأن يُجري عليها البحث من زاوية لا تقتصر على فرديته الذاتية وحدها، بل تكون مشتركة بينهم وبينه باعتبارهم شركاء أو «أطرافًا متعاقدة» في مشروع مشترك؛ نعم قد يكون أحد أجزاء الوجود الفعلي هو الموجه وهو الهدف لقيام اللغة، لكنها تهم أول ما تهم شخصًا آخر أو أشخاصًا آخرين؛ إذ تكون لهم وسيلة «تفاهم»، أي وسيلة تقيم بينهم شيئًا مشتركًا، ومِن ثَم فبمقدار ما يكون لها من هذا الاشتراك تصبح عامة و«موضوعية». إن اللغة مؤلفة من كائنات مادية، هي الأصوات أو العلامات المخطوطة على ورق، أو هي معبد أو تمثال أو مغزل؛ غير أن هذه الأشياء لا «تعمل»، أي إنها لا تؤدي وظيفتها — حين تُتخذ وسائل للتفاهم — باعتبارها أشياء مادية وكفى؛ إنما هي تعمل عملها اللغوي بفضل قدرتها على «التمثيل» أي قدرتها على أن تكون ذات «معنًى»؛ ولئن كان العرف قد جرى على أن تكون الأشياء المادية المعينة التي هي أجزاء الكلام، ذوات معنًى، إلا أن هذا العرف نفسه، أو الاتفاق المشترك على أن يخصص الكلام ليكون وسيلة لتسجيل المعنى ونقله من شخص إلى شخص، إن هو إلا اتفاق على «فعل»، أي على ضروب مشتركة من السلوك الذي يرد به الناس على بيئتهم، ثم المساهمة في نتائج تلك الضروب؛ فالصوت أو الترقيم — وهما من مادة — إنما يكتسب معناه خلال مساهمة أعضاء الجماعة وبفضل تلك المساهمة نفسها في أن يستخدموا هذا الترقيم أو ذلك الصوت استعمالًا مؤديًا لغرض مقصود، وليس الذي يحدد المعنى هو أن يجتمع الأفراد علانية في «جلسة» يعقدونها، أو أن يصدروا القرارات بأن صوتًا معينًا أو ترقيمًا معينًا ينبغي أن يكون له معنًى معين يحددونه؛ فحتى حين تحدد محكمة ما معاني كلمات قضائية معينة، فليس حسم الأمر هنا مرهونًا بما يتفق عليه القضاة لأن هذا الاتفاق بينهم لا يُنهي الأمر، بل هو اتفاق يُقصَد به تحديد الأوضاع في الحالات المستقبلة التي تقتضي اتفاقًا على «سلوك» مشترك؛ وهذا السلوك التالي هو الذي يقرر بصورة حاسمة ماذا تكون المعاني الفعلية للكلمات التي هي موضع التحديد؛ فاتفاقنا على قضية ننتهي إليها لا يكتسب مغزاه إلا فيما تؤديه تلك القضية من تيسير اتفاقنا على سلوكنا الفعلي. وإنما ذكرت هذه الملاحظات لأنها تُقيم البرهان على أن المعنى الذي يكون لرمز اتفاقي، لا يكون هو نفسه اتفاقيًّا؛ إذ يتقرر المعنى باتفاقات تقوم بين مختلف الأشخاص في تيار نشاطهم الفعلي، بحيث يكون لهذا النشاط صلة يشير بها إلى نتائج في الوجود الفعلي كذلك؛ فالصوت أو الترقيم الجزئي القائم في الوجود الفعلي — والذي يرمز إلى «الكلب» أو إلى «العدالة» في ثقافات مختلفة — هو جزاف، أو هو اتفاقي، بمعنى أنه على الرغم من أن له «أسبابًا» أوجدته، إلا أنه بغير «علل» تبرره؛ ولكنه «إلى الحد» الذي يكون به وسيلة للتفاهم، يكون مشترك المعنى، لأن ظروفًا فعلية هي التي عملت على قيامه؛ فإذا اختلف معنى كلمة عند جماعات ثقافية مختلفة أرادت التفاهم بعضها مع بعض، كان التفاهم — بمقدار ذلك الاختلاف — مسدود الطريق، ونتج عن ذلك سوء التفاهم بل إن التفاهم لينتفي وجوده حتى يمكن للأوجه المختلفة من الفهم أن تُترجَم — بوساطة معنى الكلمات — إلى معنًى لا يختلف عند فريق عنه عند فريق آخر. وحيثما ينسد طريق التفاهم — ومع ذلك يظل الافتراض قائمًا على أنه طريق مفتوح — ينشأ سوء التفاهم، ولا أقول إن الذي ينشأ هو مجرد انعدام الفهم. وإنه لمن الخطأ أن نظنَّ بأن سوء التفاهم إنما يكون حول معنى «كلمة» وهي بمعزل، كما أنه من الخطأ أن نظن أنه إذا قبل شخصان المعنى المعجمي لكلمة ما، فقد تم لهما الاتفاق والفهم؛ ذلك لأن الاتفاق وعدم الاتفاق إنما تحددهما النتائج التي تترتب على ما يشتركان فيه من أوجه النشاط؛ فما التوافق أو ضده إلا في الآثار التي تنتج عن المناشط المتعددة التي تقتضيها الكلمات التي نستعملها. إن ما قد أشرنا إليه من أن اتساق النتائج هو الذي يحدد المعنى لأي صوت نستخدمه وسيلة للتفاهم، لَيَدل على أنه لا وجود لما نقول عنه إنه «مجرد» كلمة أو «مجرد» رمز؛ نعم إن الموجود المادي الذي نجعله أداة لنقل المعنى قد يكون وهو على انفراد مما يجوز أن نقول عنه إنه «مجرد» لفظ؛ والنطق بعدد من هذه الأصوات، أو سلك عدد من هذه الترقيمات بخيط واحد مما يجوز أن نقول عنه إنه «مجرد» لغة؛ لكن حقيقة الأمر هي أنه ليس هنالك كلمة في مثل الحالة الأولى ولا هناك لغة في مثل الحالة الثانية؛ فالمناشط التي تحدث والنتائج التي تترتب عليها — ما دامت لم تخضع لمعنًى يحددها — لا تزيد — بحكم وصفها — عن كونها كيانات مادية وكفى؛ إذ الصوت أو الترقيم ذو الوجود المادي لا يصبح جزءًا من «لغة» إلا بفضل قوته في «الأداء»؛ أعني بمقدار ما يقوم به — باعتباره وسيلة — من استثارة مناشط مختلفة ينشط بها أشخاص مختلفون ليستحدثوا بها نتائج يشترك فيها كل من أسهم في المشروع المشترك؛ وإنك لترى هذه الحقيقة واضحة ومباشرة في مجال التفاهم الشفوي، لكنها تكون غير مباشرة ومتخفية في مجال التفاهم عن طريق الكتابة؛ فحيث تَكثر الآثار المكتوبة وتَكثر القدرة على قراءتها، تتشكل الفكرة عن اللغة — في الأرجح — وفق نموذجهما، وعندئذٍ تُنسَى العلاقة الكامنة التي تربط اللغة باشتراك الناس في أوجه النشاط الفعلي؛ وعندئذٍ كذلك يظن أن اللغة مجرد وسيلة للتعبير عن «الأفكار» ووسيلة لنقلها، أي إنها وسيلة لنقل أفكار أو معانٍ كاملة بنفسها، مستغنية عن القوة الأدائية التي تكون لها في فعل يشترك الناس في أدائه. أضف إلى ذلك أن كثيرًا من المادة المكتوبة يُقرأ لمجرد المتعة ولأغراض جمالية؛ وفي مثل هذه الحالة لا تكون اللغة وسيلة فعل إلا بمقدار ما تعين القارئ على تكوين صور ومناظر تكون مصدرًا لمتعته؛ وعندئذٍ لا تبقى للغة طبيعتها المباشرة الكامنة في صلبها، وهي أن تُشير إلى مناشط مشتركة وإلى نتائج يُسهِم الناس فيها جماعة؛ لكن ما هكذا تكون الحال في القراءة التي يحاول بها القارئ أن يصل إلى ما يعنيه الكاتب. أعني في القراءة التي تتميز بجانبها العقلي تميزًا ظاهرًا، وهو جانب يختلف عن جانبها الذي يبتغي النشوة الجمالية؛ نعم إن في قراءة رسالة علمية لا يكون ثمة اشتراك مباشر صريح في فعل يؤديه القارئ مع سواه بغية استحداث نتائج تكون «مشتركة» بالمعنى الذي يجعلها مقتسمة بينهما اقتسامًا مباشرًا وشخصيًّا؛ لكنه لا بد في مثل هذه القراءة أن يستخدم القارئ خياله في بناء المواد والعمليات على النحو الذي أدى بالمؤلف إلى نتائج معينة؛ ولا بد كذلك أن يوافق القارئ أو لا يوافق على تلك النتائج باعتبارها الخاتمة التي انتهى إليها سيره خلال ظروف وعمليات أقامها لنفسه بخياله. وأنتقل الآن إلى الجانب الإيجابي الذي يلزم عن الحقيقة القائلة بأن الصوت أو الترقيم أو النتاج الفني لا يكون كلمة أو جزءًا من اللغة وهو قائم وحده؛ إذ لا يكون لكلمة أو لعبارة من المعنى إلا باعتبارها عضوًا من مجموعة معانٍ متصل بعضها ببعض؛ فالكلمات بوصفها ممثلات لمسمياتها إن هي إلا جزء من نظام رمزي كامل شامل؛ وقد يكون هذا النظام الرمزي عامًّا أو خاصًّا؛ ويتمثل العامُّ في أية لغة سائدة بين مجموعة ثقافية معينة، وأما الخاصُّ فهو نظام يتفق عليه أعضاء المجموعات الخاصة فيما بينهم بحيث لا يستطيع فهمه إلا من ضُم إلى المجموعة عضوًا؛ وبين هذين الضربين تأتى ضروب من اللغات السرية التي تصطنعها جماعات خاصة في المجتمع، وتأتي نظم رمزية فنية يبتكرها أصحابها ابتكارًا لغرض خاصٍّ محدود، كالمصطلحات التي تستخدمها السفن في البحر؛ ولكنه في كل حالة من هذه الحالات، لا يكون للكلمة الواحدة المعينة معنًى إلا بإضافتها إلى النظام الرمزي الذي هي أحد مقوماته؛ ولقد يصلح التمييز الذي أشرنا إليه منذ قليل بين المعاني التي تتحدد بالعلاقة التي توشك أن تكون علاقة مباشرة بالفعل الذي نؤديه في مواقف راهنة أو وشيكة الوقوع، وبين المعاني التي تتحدد لتكون مهيَّأة للاستعمال في مواقف بعيدة وطارئة، أقول إن هذا التمييز بين ذينك النوعين من المعاني، قد يَصلح أن يكون أساسًا للتفرقة بين اللغات باعتبارها نسقات من رموز، تفرقة تقسمها نوعين أساسيين. ونحن إذ نقول عن اللغة بأسرها — أي مجموعة الرموز ومعانيها — إنها نسق مؤلَّف من أجزاء، فلسنا بالضرورة نعني بذلك أن الأجزاء قد اختيرت على أساس صلاحيتها لأن تكون أعضاء في بنائها النسقي؛ وأبعد من ذلك احتمالًا أن يكون ما نعنيه بقولنا ذاك أن الأجزاء قد اختيرت على أساس اشتراكها بالفعل في بناء نسق شامل؛ فقد لا يزيد هذا النسق الرمزي على كونه اللغة الجارية، وعندئذٍ ترتبط معانيها بعضها ببعض، لا على أساس أننا قد اختبرنا تلك الروابط بين معانيها، بل لأن المعاني متداولة في مجموعة واحدة من عادات المجتمع وتوقعاته؛ فمعاني اللغة الواحدة يرتبط بعضها ببعض بسبب ما يشترك فيه الناس من أوجه النشاط ومن الاهتمامات والعادات والنظم؛ تلك هي الحال في لغة الحياة الجارية، أما في اللغة العلمية فالأمر يخضع لاختبار آخر يُضاف إلى ما تخضع له اللغة الجارية، وذلك أن كل معنًى يدخل في لغة العلم إنما يتحدد تحديدًا صريحًا من حيث علاقته بسائر أجزاء البناء اللغوي، وإن هذا المعيار الجديد المضاف لَتكون له الأسبقية على المعيار الذي تُقيمه علاقة اللغة بالعادات الثقافية، وذلك في كل حالة نقوم فيها بتدليل عقلي أو بمناقشة منظمة. والفرق الناتج عن هذه التفرقة بين الضربين المذكورين من اللغة ومعانيها، هو الذي يحدد — من حيث الأساس — الفرق بين ما نسميه ذوقًا فطريًّا وما نسميه علمًا؛ ففي حالات الذوق الفطري تكون العادات ونفسية الجماعة وروحها هما العامل الفاصل في تحديد مجموعة المعاني المتداوَلة؛ فمجموعة المعاني في هذه الحالة إنما تكون ذات بناء نسقي بالمعنى العملي الاجتماعي لهذه الكلمة، لا بالمعنى العقلي لها؛ والمعاني التي تتكون على أساس الذوق الفطري لا مفر لها من احتوائها على كثير مما لا يخضع للضابط العقلي الذي يضبط سير النشاط، كما أنه لا مفر لها من أن تَستبعد كثيرًا مما يتطلبه هذا الضابط العقلي؛ فها هنا تكون المعاني غليظة الأطراف، وكثير منها لا يتسق بعضه مع بعض من وجهة النظر المنطقية؛ فمعنًى منها يلائم الفعل في ظل ظروف اجتماعية معينة يقتضيها ما للجماعة من نظم، ومعنًى آخر يُلائم الفعل في موقف آخر، دون أن تكون هنالك محاولة لوصل المواقف المختلفة بعضها مع بعض في نسق واحد تلتئم أجزاؤه؛ فهنالك — من وجهة النظر العقلية — لغات كثيرة، وأما من وجهة النظر الاجتماعية فهي لغة واحدة. وإنه لمن السمات التي تميز ثقافتنا الراهنة أن نجد هذه الكثرة من مجموعات الرموز اللغوية ومعانيها؛ فكلمة واحدة تعني شيئًا معينًا بالقياس إلى النظام الديني، وتعني شيئًا آخر في دنيا الأعمال، وشيئًا ثالثًا في القانون وهلم جرًّا، وما هذه الحال إلا «بابل» على حقيقتها حيث تختلط وسائل التفاهم؛ وثمة اليوم من يحاولون نشر فكرة بين الناس، وهي أن طريق الخلاص من هذا الخلط هي تربية تصوغ الأفراد في تقليد واحد معين؛ لكن هذه المحاولة إنما تقلب الوضع من الناحية «النظرية»؛ وذلك فضلًا عن أن هنالك عددًا كبيرًا من الاستعمالات التقليدية للغة، فإذا اخترنا استعمالًا واحدًا دون غيره، كان اختيارنا هذا جزافًا، مهما يكن للتقليد المختار من اتساق في أجزائه الداخلية، ومن اتساع المجال الذي يكون فيه هذا التقليد المختار مقبولًا، فاشتراك الناس اشتراكًا حقيقيًّا في لغة واحدة، أو في رموز بعينها، يستحيل أن يتم إلا بمجهودات تُبذَل في سبيل توحيد أوجه نشاطهم في ظل ظروفهم القائمة؛ فاللغة العلمية المثلى هي بناء نسق تتصل فيه المعاني بعضها ببعض في عمليات الاستدلال والنقاش، بحيث تكون الرموز الداخلة في ذلك البناء دالة بذاتها على الصلة القائمة بين المعاني. إنه باتفاق الناس في فعلهم المشترك الذي أسلفنا وصفه، أن أصبحت «كلمة» دخان في اللغة العربية دالَّة على شيء ذي خصائص معلومة؛ ولربما كان هذا الصوت نفسه، وهذا الترقيم نفسه، في لغة أخرى دالًّا على شيء آخر في حين يجعلون صوتًا آخر مختلفًا كل الاختلاف عن هذا الصوت، هو الدالَّ على «الدخان»؛ فعلى أمثال هذه الحالات من إنابة الرمز عن مدلوله نطلق اسم «العلامات الاتفاقية»؛ أما حين نقول عن الدخان باعتباره كائنًا فعليًّا، إنه يشير إلى، أو إنه شاهد على نار موجودة وجودًا فعليًّا كذلك، فعندئذٍ يكون الدخان علامة «طبيعية» للنار؛ وشبيه بهذا أن تكون السحب الكثيفة ذات الخصائص المعينة علامة طبيعية لمطر مُرجَّح النزول، وهكذا؛ فهذه الخاصة التي تجعل شيئًا ينوب عن شيء كما نرى في المثالين السابقين، إنما هي خاصة تصف «الأشياء في علاقتها بعضها ببعض»، وليست هي بالصفة التي تصف ترقيمات يعتمد معناها على ما يقوم بين الناس من اتفاق على طريقة استعمالها. على أنه إذا لم يكن ثمة من شك في وجود هذا الفرق بين ما تدل عليه كلمتا «طبيعي» و«اتفاقي» حين نصف بهما العلامات، وإذا لم يكن ثمة من شك في أهمية هذه التفرقة بين النوعين، إلا أن الفرق الهام من حيث الأساس لا يتضح بهاتين الكلمتين؛ وإني لَأُفضِّل — لأسباب سأُبديها الآن — أن أُبرز الفرق بين الحالتين بأن أقصر استعمال كلمة «علامة» على ما يسمونه «علامات طبيعية» لأستخدم كلمة «رمز» للدلالة على «العلامات الاتفاقية». هذا الفرق الذي ذكرته الآن هو فرق قائم بالفعل، لكنه يقصر عن بيان الخاصة العقلية المميزة لما أسميه رموزًا، فلك أن تقول إن كون أشياء معينة قد أكسبها الاتفاق الاجتماعي وظيفة إنابية، لهو من الأمور العرضية التي تمس الموضوع من ظاهره، إذا نظرنا إليه من زاوية المنطق؛ لكن هذه الحقيقة تصبح ماسَّة بموضوعنا من الناحية المنطقية بسبب ما قد يطرأ من تطور على المعاني خلال الحديث تطورًا حرًّا قائمًا بذاته، ينشأ بمجرد الفراغ من وضع الرموز المتفق على استعمالها؛ فإذا كانت «العلامة الطبيعية» بحكم التعريف شيئًا يقوم بالفعل في محيط فعلي من مكان وزمان، كأن يكون الدخان — باعتباره شيئًا له خصائص موضوعية معينة — علامة على النار؛ لأن الدخان والنار معًا موجودان بالفعل ويمكن رؤيتهما، ومِن ثَم تكون الصفة الإنابية التي للدخان — منظورًا إليها وحدها — مقيدة بنطاق غاية في التحديد، لقيامها في ظروف محدودة معلومة دون غيرها من الظروف؛ أقول إنه إذا كان هذا هو الأمر في العلامة الطبيعية، فإن الأمر ليختلف اختلافًا بعيدًا حين يكون المعنى «دخان» قد جُسِّم في أحد الكائنات ذوات الوجود الفعلي، كأن يُجَسَّم في صوت بعينه، أو في ترقيم معين على الورق؛ فعندئذٍ تكون الصفة الفعلية التي نجدها بين الموجودات القائمة تابعًا للوظيفة الإنابية التي يقوم بها الصوت أو الترقيم، وليس ذلك راجعًا فقط لإمكان إحداث الصوت على أي صورة نشاء، بحيث لا نضطر أن ننتظر حدوث الشيء المسمى قبل إحداث الصوت الذي نسميه به، بل إنه ليرجع كذلك إلى ما هو أهم من ذلك؛ وهو أن المعنى إذا ما تجسد في كائن ما، اخترناه اعتباطًا بحيث لا يكون بين طبيعته وبين المعنى المجسد فيه رابطة ضرورية، فإن المعنى عندئذٍ «يتحرر» من قيود الوظيفة الإنابية التي يؤديها؛ فلا يظل مغلولًا إلى مدلول واحد لا قِبَل له بالفكاك منه، بل يمكن وصله بمعانٍ أخرى في بناء اللغة؛ فبعد أن كان الدخان لا يشير إلا إلى النار (في العلامة الطبيعية) يصبح موصولًا بمعانٍ لا صلة بينها في الظاهر وبين النار، كالاحتكاك وتغير درجات الحرارة، والأكسجين، والتكوين الذري، كما يصبح موصولًا — إذا ما أدخلنا بين الطرفين حلقات وسطى من الرموز والمعاني — بقوانين الديناميكا الحرارية. أما الكلمات — أي الرموز — فلا تقوم «شاهدًا» على أي «وجود فعلي»؛ غير أن ما ينقصها في هذه الناحية تُعوِّضه بخَلق ناحية أخرى لها، وتلك هي أنها تهيِّئ السبيل للبحث المنظم أو التدليل العقلي؛ إذ يمكن السير في التدليل العقلي بغير وجود أي كائن من الكائنات الفعلية التي تُشير إليها الرموز، حين تكون هذه الرموز وحدها قائمة قيامًا فعليًّا راهنًا؛ بل بغير وثوق من أن يكون للأشياء التي تشير إليها الرموز أي وجود فعلي في أي مكان من العالم، وبغير إشارة مباشرة إلى الوجود الفعلي إطلاقًا، كما يحدث في حالة التدليل الرياضي. فالأفكار باعتبارها أفكارًا، والفروض باعتبارها فروضًا، ما كانت لتوجد لو لم يكن ثمة رموز ومعانيها متميزة من العلامات ودلالاتها؛ وإنه لذو أهمية عملية أن يكون للرموز هذا النصيب الأوفر في قابليتها للتناول، ومع ذلك فقابليتها تلك ضئيلة إذا قِيسَت بكونها تُضيف إلى عملية البحث بُعدًا آخر يختلف عن الوجود الفعلي؛ فالسحائب ذوات الأشكال المعينة والحجم المعين واللون المعين، قد تدلنا على احتمال نزول المطر، أي إنها تُنذرنا بالمطر، أما كلمة سحاب حين تقام الروابط بينها وبين كلمات أخرى من المجموعة الرمزية، فهي تمكننا من أن نُورد معنى أن يكون الشيء سحابًا، مصحوبًا بأشياء أخرى كاختلافات درجات الحرارة ودرجات الضغط، ودوران الأرض، وقوانين الحركة، وهلم جرًّا. لقد كنا حتى الآن نستخدم كلمة «علاقة» على نحو هو أقرب إلى عدم التحديد؛ لكننا قد بلغنا من الحديث حدًّا يقتضينا أن نعالج هذه الكلمة في تعدد معانيها، لا أقول في كلام الناس المعتاد فحسب، بل في كتب المنطق نفسها؛ فكلمة «علاقة» تُستعمل لتشمل أمورًا ثلاثة هي غاية في التباين، ولا بد لنا من التمييز بينها خدمة لقيام مذهب منطقي منسق الأجزاء: (١) فالرموز «متعلقة» تعلقًا مباشرًا بعضها مع بعض، (٢) وهي «متعلقة» بالوجود الفعلي عن طريق وسيط يتدخل بين الطرفين، وأعني به الإجراءات العملية التي نمس بها الوجود الفعلي، (٣) والكائنات الفعلية «متعلقة» بعضها ببعض في الصلة التي تربط العلامة بمدلولها ربطًا يجعل العلامة شاهدًا على المدلول؛ وواضح أن هذه الضروب الثلاثة من أنواع «العلاقة» مختلف أحدها عن الآخرين، وأن استعمال كلمة واحدة بعينها من شأنه أن يطمس ما بينها من اختلاف. ولكي نتجنب — من الناحية السلبية — ذلك الخلط المذهبي الفظيع، الذي ينشأ عن تعدد المعاني لكلمة «علاقة»، ثم لكي تكون لدينا — من الناحية الإيجابية — أدوات لغوية تُبرز لنا في وضوح الطبيعة المنطقية لهذه الموضوعات المختلفة التي نحن بصدد بحثها، سأحتفظ بكلمة «علاقة» لأدل بها على نوع «العلاقة» التي تقوم بين الرموز بعضها ببعض، بصفة كونها رموزًا ومعانيَ؛ وسأستعمل كلمة «إشارة» لأدل بها على نوع العلاقة التي تكون بين تلك الرموز والمعاني من جهة والوجود الفعلي من جهة أخرى؛ وسأستعمل كلمة «رابطة» (وكذلك كلمة «تضمن») لأدل بها على نوع العلاقة التي تقوم بين «الأشياء» بعضها ببعض، قيامًا يجعل «الاستدلال» أمرًا مستطاعًا. وما تكاد هذه الفوارق تبسط حتى تصبح واضحة وضوحًا يوشك ألا يحتاج إلى أمثلة تبينه؛ ومع ذلك فانظر إلى قضايا الفيزياء الرياضية: (١) فهي باعتبارها قضايا تكون نسقًا من رموز ومعانٍ «متعلق» بعضها ببعض على نحو يُتيح لنا أن نتناولها وأن نستطرد في استخراج بعضها من بعض دون أن نجاوز حدودها، (٢) لكن باعتبارها قضايا عن «الفيزياء» لا عن الرياضة فحسب، فهي «تشير» إلى الوجود الفعلي إشارة نتبينها حين نُجري إجراءات «تطبيقها». (٣) والمحك الأخير الذي نختبر به «سلامة» هذه الإشارة (إشارة القضايا الفيزيائية إلى الوجود الفعلي) أو هذه القابلية للتطبيق، إنما يكمن في «الروابط» القائمة بين الأشياء، بمعنى أن تضمن الأشياء بعضها لبعض من حيث حدوثها في الواقع الفعلي، هو وحده الذي يُجيز لنا أن نستدل استدلالات عن روابط أخرى بين الأشياء نتوقع أن نكشف عنها الغطاء. وقد يُثار إشكال: هل المعاني وما بينها من علاقات في مجرى التفكير تسبق إلى الوجود أو تلحق الأشياء وما بينها من روابط؟ هل بدأنا أول الأمر باستدلال (حدث من حدث) ثم استخدمنا النتائج بعدئذٍ فيما نشغل أنفسنا بالتفكير فيه؟ أم أن العلاقات القائمة بين معنًى ومعنًى كما نراها في مجرى التفكير هي التي تهدينا إلى رؤية الروابط بين الأشياء على نحو يجعل بعضها شواهد دالة على وقوع بعضها الآخر؟ غير أن هذا الإشكال لفظيٌّ، لاستحالة الجزم برأي في مسألة الأسبقية التاريخية؛ ومع ذلك فللسؤال ما يسوغه، لكي ينبهنا إلى أن قدرتنا — على أي حال — على النظر إلى الأشياء باعتبارها علامات، لم تكن لتبعد بها طريق السير لو لم تكن هنالك رموز نميز بها من خصائص الأشياء تلك الخصائص وحدها التي تصلح أن تكون أساسًا للاستدلال، ثم نحتفظ عن طريقها بتلك الخصائص في ذاكرتنا؛ مثال ذلك أنه بغير الكلمات أو الرموز التي نميز بها أولًا ثم نحتفظ ثانيًا بالصفات البصرية والشمية التي خبرناها حين خبرنا «الدخان» بما يدخل في مقوماته من تلك الصفات دخولًا يُتيح لنا أن نتخذ منه علامة دالة على نار، أقول إنه لولا تلك الكلمات والرموز التي نميز بها خبراتنا ونحتفظ بها، لجاز لنا أن نرد على تلك الصفات البصرية والشمية على نحو ما يرد الحيوان، وأن نؤدي من ضروب العقل ما يتناسب مع ذلك الرد؛ لكننا لا نستطيع عندئذٍ أن نستدل قط دون أن يجيء استدلالنا في عمًى وتخبُّط؛ أضف إلى ذلك أنه ما دام «الشيء» الذي نستدل على وقوعه، وهو النار، ليس قائمًا في مجال المشاهدة، فلا مناص من أن يكون كل تقدير سالف لدينا عنه غامضًا وغير محدد، هذا إذا فرضنا أن مثل هذا التقدير السالف ممكن إطلاقًا؛ ولو قارنَّا ووازنَّا ما للأشياء والحوادث الفعلية من مدى وعمق في قدرتها الدلالية عند جماعة بدائية وعند جماعة متحضرة، ثم قارنَّا ووازنَّا كذلك ما يترتب على ذلك عند الجماعتين من قدرة استدلالية، وجدنا ارتباطًا وثيقًا بين ذلك وبين ما يكون هنالك بين الرموز والمعاني في مجرى التفكير من علاقة وثيقة وما يكون لها من مدًى؛ وإذن فإنها اللغة — على وجه العموم — التي نشأت أول أمرها لتكون وسيلة للتفاهم من شأنها أن تخلق بين الناس تعاونًا مقصودًا ومنافسة مقصودة فيما يقومون به من مناشط مشتركة، أقول إنها هي هذه اللغة التي خلعت على الأشياء الكائنة بالفعل ما لها من قوة الدلالة، أي ما لها من قدرة على أن يكون وقوع بعضها شاهدًا على وقوع بعضها الآخر. وهكذا قد عدنا إلى المشكلة الأصلية، وهي: تحويل المناشط الحيوانية إلى سلوك ينطوي على ذكاء، وله الخصائص التي إذا ما صِيغَت، ألفيناها «منطقية» في طبيعتها؛ فالسلوك الذي يشارك فيه عدة أفراد معًا ليس يقتصر على النبات والحيوان فحسب، بل إنه ليميز الكهارب والذرات والمجموعات الذرية كذلك؛ بل قل إنه طابع يتسم به — فيما نعلم — كل شيء موجود في الطبيعة على الإطلاق؛ وإذن فاللغة لم تكن هي التي خلقت مشاركة الأفراد في أمورهم؛ غير أنها حين ظهرت مرحلة عليا في مجرى التطور، خارجة خروجًا طبيعيًّا من صور سبقتها للنشاط الحيواني، كان رد فعلها هو تحويل تلك الصور والضروب التي كان السلوك الجماعي يجيء على غرارها، تحويلًا يُضيف إلى أبعاد الخبرة بعدًا جديدًا. «فالثقافة» وكل ما تتضمنه، متميزة من «الطبيعة»، هي شرط لقيام اللغة ونتيجة لها في آنٍ واحد؛ فهي نتيجة ما دامت هي الوسيلة الوحيدة للاحتفاظ بالمهارات «المكتسبة» والمعرفة المكتسبة والعادات المكتسبة، ثم هي الوسيلة الوحيدة لنقل هذه الأشياء كلها إلى الأجيال القادمة؛ لكن الثقافة هي كذلك شرط لقيام اللغة، ما دامت المعاني ودلالات الحوادث تختلف باختلاف الجماعات الثقافية. والمناشط الحيوانية، كالأكل والشرب والبحث عن الطعام وعن الجنس الآخر … إلخ، تكتسب صفات جديدة؛ فأكل الطعام يصبح عند الجماعة أعيادًا واحتفالات؛ والحصول على الطعام يصبح فن الزراعة وتبادل السلع؛ ولقاء الجنس الآخر يتحول إلى نظام الأسرة. وإذا غضضنا النظر عن قيام الرموز والمعاني، وجدنا نتائج الخبرة السابقة إنما نستبقيها بوساطة ما قد يحدث في الكيان العضوي من تغيرات فقط دون أن نجاوز هذه الحدود قيد أنملة؛ بل وأكثر من هذا، وهو أن هذه التغيرات ما دامت قد حدثت للكائن العضوي، فهي بعدئذٍ تميل إلى أن تتجمد على صورة تعوق — إن لم تمنع — حدوث تغيرات أخرى؛ أما قيام الرموز فيُمكِّننا من استرجاع الماضي وتسلف المستقبل استرجاعًا وتسلفًا مقصودَيْن؛ ومِن ثَم نستطيع خلق تشكيلات جديدة من العناصر التي نختارها من خبراتنا اختيارًا يُضفي عليها جانبًا عقليًّا. وسنتناول في شيء من التفصيل — في فصول آتية — كيف ظُن بمنطق يُعنَى بانتظام التفكير، منطق جمع في نسق واحد تلك العلاقات التي تمسك بالمعاني إمساكًا ينتظمها في سلك واحد من مجرى الفكر، كيف ظُن بمنطق كهذا أنه نموذج المنطق الذي لا يعلوه نموذج آخر، فأدى ذلك إلى الحيلولة دون تطور الطرائق المنتجة في عمليات البحث في الوجود الفعلي، مانعًا بهذا حدوث ما كان لا بد من حدوثه في تجديد المعاني وتوسيعها، تلك المعاني نفسها التي استُخدمت في مجرى التفكير؛ ذلك لأنه لما ظُن أن هذه المعاني في علاقاتها المنتظمة بعضها ببعض، هي الغاية التي لا غاية بعدها، وتكفي نفسها بنفسها، فُرضت على الطبيعة فرضًا مباشرًا، وبذلك غُض النظر عن ضرورة أدائنا لإجراءات عملية نمس بها الكائنات الفعلية. حين نريد تطبيق المعاني على الوجود الطبيعي، فكان لهذا التقصير أثره الرجعي في مجموعة المعاني باعتبارها معاني، ونتج عن ذلك اعتقاد بأن مقتضيات التفكير العقلي هي التي تضع لنا المعيار الذي نقيس به الوجود الطبيعي، وأنها هي المعيار الذي يحدد صورة «الوجود» في كماله؛ وإن يكن من الحق أن المنطق قد ظهر إلى الوجود — حين أدرك اليونان اللغة على أنها الكلمة المجردة (اللوغوس) — وكان إدراكهم ذاك مصحوبًا بما يلزم عنه، وهو أن اللغة إنما تنطوي على بناء نسقي من معانٍ منظمة. وقد كان إدراكهم هذا بداية لتقدم عظيم، ولكنه كذلك كان معيبًا بعيبين خطيرين؛ فبسبب هذه المكانة العليا التي أُعطيت لصور التفكير العقلي عُزلت تلك الصور عن الإجراءات العملية التي هي الأصل في نشأة المعاني وفي أدائها لوظائفها وفي اختبار صلاحيتها؛ فكان هذا العزل معادلًا لتشخيص «العقل» تشخيصًا يجعل له كيانًا قائمًا بذاته؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المعاني التي عرفها اليونان، قد نظموها في سلم اقتبسوه من البناء الطبقي للمجتمع اليوناني، ثم جعلوا ذلك البناء الطبقي مرجعًا تُقاس إليه تلك المعاني؛ ولهذا تراهم قد وضعوا كل الوسائل وطرائق الإجراء وأنواع التنظيم التي ترتد نشأتها إلى اشتراك الناس اشتراكًا فعالًا عمليًّا في الأعمال الطبيعية، وضعوا كل هذا في منزلة دنية من منازل «الوجود» ومنازل «العرفان»؛ فأصبحت درجات المعرفة ودرجات «الطبيعة» — دون قصد متعمد — مرآة للنظام الاجتماعي الذي جعل للصناع والعمال وكل ذي صناعة يدوية على وجه الإجمال، مكانة دنيا بالقياس إلى مكانة الطبقة التي تحيا حياة الفراغ؛ لقد كان شرط المواطن — لكي يكون مواطنًا — أن يشتغل بأداء شيء ما، مما تستلزمه الحاجة أو يستدعيه النقص؛ وعلى الرغم من أن هؤلاء المواطنين قد كان لهم في الحرية ما أنكروه على طبقة الصناع، فإنهم في الوقت نفسه قد عُدُّوا بعيدين عن الكمال الذي يقتضي أن يكون نشاطهم كاملًا بذاته كمالًا تامًّا ومكتفيًا بذاته اكتفاءً تامًّا، ومثل هذا الكمال الذاتي أو الاكتفاء الذاتي في نوع النشاط لم يكن يتمثل عندهم إلا في تشغيل «العقل الخالص» الذي لا تشوبه قط شائبة من الحاجة إلى أي شيء خارج ذاته، ومِن ثَم فهو مستقلٌّ عن كل عمليات الأداء والصنع؛ فكانت النتيجة التاريخية لكل هذا أن نظر بعين الرضا الفلسفي، بل تحول هذا الرضا الفلسفي إلى توهم للوجود الفعلي لتلك الشروط الثقافية التي حالت دون الانتفاع بالإمكانات الهائلة التي كان يمكن أن تعين على بلوغ المعرفة الكامنة في مناشط الفنون الصناعية؛ وأقول إنها معرفة كامنة في تلك المناشط لأن تلك المناشط إنما تنطوي على عمليات من شأنها أن تغير الظروف القائمة تغيرًا فعالًا؛ وهي تحتوي في صلبها على الإجراءات التي منها يتألف المنهج التجريبي، والتي تتبدى فور استخدام العمليات المذكورة بغية الوصول إلى معرفة؛ بدل أن تخضعها لإطار نظري نخطط به طرائق العمل وطرائق المتعة كما تقتضيها ظروف اجتماعية ثقافية محددة الأوضاع.
جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م. جون ديوي: فيلسوفٌ ومُربٍّ وعالِم نفس أمريكي بارز، من مؤسِّسي الفلسفة البراغماتية الأوائل وأحد المنظِّرين لها. وُلد بمدينة فرمونت في العشرين من أكتوبر عام ١٨٥٩م، والتحق بجامعة فرمونت في الخامسة عشرة من عمره، وحصل منها على أعلى درجات في مادة الفلسفة. وبعد تخرُّجه في عام ١٨٧٩م نشر أول بحث له في الفلسفة في إحدى المجلات العلمية، وقُوبِل هذا البحث بالثناء، وهو ما شجَّعه على احتراف الفلسفة. وفي عام ١٨٨٤م منحته جامعة جونز هوبكنز درجة الدكتوراه في الفلسفة، وأُلحِق بقسم الفلسفة بجامعة ميتشغان. في عام ١٨٤٩م انتقل إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسَّست وقتئذ، وعُيِّن فيها رئيسًا لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية. وفيها قام بثورته التربوية المسمَّاة «التربية التقدُّمية»، وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شئون الجامعة لم يقرُّوا هذه التجارب، فاضطرَّ إلى الاستقالة في عام ١٩٠٤م منتقِلًا إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا حيث ظلَّ بها إلى سنِّ التقاعُد في عام ١٩٣٠م. ظلَّ يُبدي نشاطًا في اتحاد المعلِّمين بنيويورك إلى أن استطاع اليساريون أن يتغلَّبوا على السُّلطة فيه، وبناءً على ذلك انتقل إلى الاتحاد الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين وأسهم في تنظيمه، وكان أيضًا من مؤسِّسي اتحاد الحريات المدنية للأمريكيين وجمعية أساتذة الجامعات الأمريكيين. من أبرز مؤلَّفاته: «الديمقراطية والتعليم»، و«الخبرة والتعليم»، و«كيف نفكِّر»، و«المدرسة والمجتمع»، و«الفن كتجربة»، و«الطبيعة البشرية والسلوك»، و«المنطق: نظرية البحث»، وغير ذلك من الأعمال البارزة. تُوفِّي «جون ديوي» في الأول من يونيو عام ١٩٥٢م.