BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringlengths
5
45
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringlengths
53
13.9k
https://www.hindawi.org/books/20385706/
أميـرة الأندلـس
أحمد شوقي
تدور أحداث هذه المسرحية في عصر ملوك الطوائف في الأندلس (٤٢٢هـ)، وهو ذلك العصر الذي أعلن فيه الوزير أبو الحزم بن جهور سقوط الدولة الأموية في الأندلس، مما فتت الدولة، ودفع بكل أمير من أمرائها ببناء دويلة منفصلة، وتأسيس أسرة حاكمة من أهله وذويه. وقد اختار أحمد شوقي الفترة التي انتهى فيها عصر ملوك الطوائف في أواخر القرن الخامس الهجري لتكون مسرحًا للأحداث، حيث تجسد الصراع فيها بين عدة أطراف كان منهم، المعتمد بن عباد، وأخيه يوسف بن تاشفين ملك المرابطين في المغرب، وألفونس ملك الفرنجة. وقد اختار شوقي كل من المعتمد بن عباد وأميرة الأندلس بثينة بنت المعتمد بطلين لهذه الرواية. وتبين الرواية المسرحية حال ملوك ذلك الزمان، وكيف عاشوا في بذخ وترف، وكيف استشرى الفساد في ملكهم، وكثرت المكائد والدسائس فيما بينهم، فكان منهم المقتول والمخلوع، والراشي والمرتشي، فتأمل كيف كان حال الرعية في ذلك الزمان!
https://www.hindawi.org/books/20385706/2/
الفصل الثاني
«خان التميمي في إشبيلية حيث صفت الموائد والأرائك وجلس إليها قوم يتحدثون ويحتسون الشراب. ابن حيون منفرد وحده إلى مائدة، وأبو القاسم قادم عليه من باب الخان. حريز يجلس إلى مائدة أخرى وأمام ابن حيون، ورجال هنا وهناك يلعبون النرد والشطرنج أو يطالعون بعض الرسائل …» (ابن حيون مطرقًا) (يطوف قيم الخان على الجالسين حتى يقف به الطواف على المائدة التي جلس إليها حريز وابن لاطون). (يخرج الأمير بطرس من غرفة الخان، فينهض حريز وابن لاطون حفاوة به.) (مناديًا) (يخرج حريز مشيعًا الأمير بطرس إلى باب الخان، ويعود فيجلس على مائدة مع ابن لاطون) (يسمع من خارج الخان مناد ينادي متغنيًا) (حريز متجهًا إلى باب الخان) (البائع يعرض الصينية مكشوفة) (الجميع يأكلون) (يفرغون من الأكل) (يظهر صاحب القطائف ويصفر فيدخل جماعة من اللصوص) (ثم لنفسه همسًا) (ويتناوم على مقعده). (يأخذ اللصوص في السلب والنهب وينسلون واحدًا إثر واحد بما حوت أيديهم، ويبقى رجل منهم فينحني على سرج عاطل يتأمله، ويظن ابن حيون المكان قد خلا فيستوي في مجلسه، ويقع نظر اللصوص عليه فيرمي السرج العاطل عليه قائلًا). (ويخرج اللص) (يدنو منه ويمسك به ثم يتأمله ويدس فيه يده) (ثم يستخرج عددًا من الأحجار البارقة ويقلبها بين يديه مذهولًا قائلًا:) (ثم لنفسه) (يجمع اللآلئ بين الدهشة والاضطراب ويقول:)
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/20385706/
أميـرة الأندلـس
أحمد شوقي
تدور أحداث هذه المسرحية في عصر ملوك الطوائف في الأندلس (٤٢٢هـ)، وهو ذلك العصر الذي أعلن فيه الوزير أبو الحزم بن جهور سقوط الدولة الأموية في الأندلس، مما فتت الدولة، ودفع بكل أمير من أمرائها ببناء دويلة منفصلة، وتأسيس أسرة حاكمة من أهله وذويه. وقد اختار أحمد شوقي الفترة التي انتهى فيها عصر ملوك الطوائف في أواخر القرن الخامس الهجري لتكون مسرحًا للأحداث، حيث تجسد الصراع فيها بين عدة أطراف كان منهم، المعتمد بن عباد، وأخيه يوسف بن تاشفين ملك المرابطين في المغرب، وألفونس ملك الفرنجة. وقد اختار شوقي كل من المعتمد بن عباد وأميرة الأندلس بثينة بنت المعتمد بطلين لهذه الرواية. وتبين الرواية المسرحية حال ملوك ذلك الزمان، وكيف عاشوا في بذخ وترف، وكيف استشرى الفساد في ملكهم، وكثرت المكائد والدسائس فيما بينهم، فكان منهم المقتول والمخلوع، والراشي والمرتشي، فتأمل كيف كان حال الرعية في ذلك الزمان!
https://www.hindawi.org/books/20385706/3/
الفصل الثالث
«بستان أمام دار أبي الحسن. إلى يمينه باب الدار ومن ورائه شاطئ الوادي الكبير، أبو الحسن جالس في هذه الساحة وبين يديه تابع له هو «سعيد» وجماعة بالقرب منه من السماسرة يتهامسون.» (ثم إلى الرجال) (يقترب شيخ غريب الثياب ملتفتًا إلى الرجال الثلاثة قائلًا:) (ينصرف السماسرة) (ثم يشعر براحة ويقبل على الشيخ المغربي قائلًا:) (يسيران قليلًا ثم يجلسان) (أبو الحسن يأخذ العقد ويتأمله ويقلبه، وفي هذه اللحظة يرسو شراع فتنزل منه بثينة متنكرة في ثياب شاب ومعها جوهر ولؤلؤ.) (يتجه أبو الحسن نحو القادمين من الشراع. المغربي يزيل تنكره فإذا هو بابن حيون. حسون يلمح ابن حيون من داخل الكشك فيناديه من وراء مجلسه.) (ويدخل ابن حيون إلى حسون. عند اقتراب أبي الحسن من القادمين يسارع إليه ابن غصين ولؤلؤ وجوهر). (ثم إلى أبي الحسن) (أبو الحسن مع ابن غصين ورفاقه يقفون أمام كشك حسون. ابن غصين يلحظ لعبة الشطرنج.) (أبو الحسن ينادي ابنه) (أبو الحسن يرجع يفتش على المغربي فلا يجده.) (مناديًا) (حسون مع ابن غصين ورفاقه وابن حيون.) (ثم إلى حسون) (يتأبط ابن غصين ذراع حسون ويبتعدان ناحية.) (يجلسان) (وكان ابن غصين ينظر إلى رباط بذراع حسون، فوثب في الحديث وقال:) (ابن غصين يدخل في الإغماء) (وعندما يميل ابن غصين في الإغماءة تقع القلنسوة) (يحضر ابن حيون)
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/20385706/
أميـرة الأندلـس
أحمد شوقي
تدور أحداث هذه المسرحية في عصر ملوك الطوائف في الأندلس (٤٢٢هـ)، وهو ذلك العصر الذي أعلن فيه الوزير أبو الحزم بن جهور سقوط الدولة الأموية في الأندلس، مما فتت الدولة، ودفع بكل أمير من أمرائها ببناء دويلة منفصلة، وتأسيس أسرة حاكمة من أهله وذويه. وقد اختار أحمد شوقي الفترة التي انتهى فيها عصر ملوك الطوائف في أواخر القرن الخامس الهجري لتكون مسرحًا للأحداث، حيث تجسد الصراع فيها بين عدة أطراف كان منهم، المعتمد بن عباد، وأخيه يوسف بن تاشفين ملك المرابطين في المغرب، وألفونس ملك الفرنجة. وقد اختار شوقي كل من المعتمد بن عباد وأميرة الأندلس بثينة بنت المعتمد بطلين لهذه الرواية. وتبين الرواية المسرحية حال ملوك ذلك الزمان، وكيف عاشوا في بذخ وترف، وكيف استشرى الفساد في ملكهم، وكثرت المكائد والدسائس فيما بينهم، فكان منهم المقتول والمخلوع، والراشي والمرتشي، فتأمل كيف كان حال الرعية في ذلك الزمان!
https://www.hindawi.org/books/20385706/4/
الفصل الرابع
«بإحدى مقاصير قصر الزاهي. العبادية والدة الملك ابن عباد مع بثينة.» (فأجفلت الفتاة ولاحظت الجدة ذلك) (يدخل عليهما الملك) (الملك يضع جبينه على كتف بثينة باكيًا) (يخرج الحاجب من الباب) (يدخل ابن حيون فتسدل العبادية وبثينة كلتاهما على وجهها القناع) (يدخل مقلاص) (مقلاص يريد أن ينقذ الملك من تأثره) (وفي هذه الأثناء يدخل جوهر) (يدخل لؤلؤ) (ملتفتًا إلى جوهر) (المعتمد وهو منطلق والسيف مسلول في يده ولا درع عليه)
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/20385706/
أميـرة الأندلـس
أحمد شوقي
تدور أحداث هذه المسرحية في عصر ملوك الطوائف في الأندلس (٤٢٢هـ)، وهو ذلك العصر الذي أعلن فيه الوزير أبو الحزم بن جهور سقوط الدولة الأموية في الأندلس، مما فتت الدولة، ودفع بكل أمير من أمرائها ببناء دويلة منفصلة، وتأسيس أسرة حاكمة من أهله وذويه. وقد اختار أحمد شوقي الفترة التي انتهى فيها عصر ملوك الطوائف في أواخر القرن الخامس الهجري لتكون مسرحًا للأحداث، حيث تجسد الصراع فيها بين عدة أطراف كان منهم، المعتمد بن عباد، وأخيه يوسف بن تاشفين ملك المرابطين في المغرب، وألفونس ملك الفرنجة. وقد اختار شوقي كل من المعتمد بن عباد وأميرة الأندلس بثينة بنت المعتمد بطلين لهذه الرواية. وتبين الرواية المسرحية حال ملوك ذلك الزمان، وكيف عاشوا في بذخ وترف، وكيف استشرى الفساد في ملكهم، وكثرت المكائد والدسائس فيما بينهم، فكان منهم المقتول والمخلوع، والراشي والمرتشي، فتأمل كيف كان حال الرعية في ذلك الزمان!
https://www.hindawi.org/books/20385706/5/
الفصل الخامس
«في دار الحسن في غرفة حسون، حسون راقد على سريره مريضًا وأبوه أبو الحسن داخل عليه.» (ينتفض حسون من رقدته جالسًا) (يفتح باب غرفة مجاورة فإذا بثينة من وراء الباب، فيندفع إليها حسون صائحًا) (ويخرج أبو الحسن.) (يدخل أبو الحسن) (ويحاول تقبيل يد الأميرة فتمنعها منه) (يدخل الغلمان الخدم صائحين) (وبعد إطراق يستأنف ويقول) (ثم ملتفتًا إلى الأميرة) (يدخل الأربعة الحجرة ثم يخرجون في الزي المغربي ويكون الجنود قد دخلوا وهم يقولون). (ويكررون ذلك ثم ينسلون من المكان) «تحت أسوار السجن في أغمات حيث ترى بثينة وحسون وأبو الحسن وابن حيون على مقربة من حارس السجن». (ويلقي للحارس صرة ويقول:) «في سجن أغمات حيث يرى ابن عباد بين أمه وزوجه وسائر أولاده وحاشيته، وقد شاعت آية البؤس والتعاسة وجوه الجميع، واليوم يوم عيد، وقد جلس ابن عباد يتلقى تحية العيد وكلهم صامت خاشع». (الأميرات يتنصتن) (وفي هذه الأثناء يثب مقلاص إلى الباب ويرجع مع القادمين يقبل ثوب الأميرة بحرارة قائلًا:) (وملتفتة إلى الملك) (تنطرح بثينة على صدر والدها) (ثم ترتمي في أحضان العبادية جدتها، وهي محاطة بأخواتها الأميرات تقبلهن ويقبلنها حتى أطردت اللوعة وأخذها أبواها بينهما، وانتظمت من الأسرة الملكية حلقة. وهناك أقبل الملك على ابنته بالحديث فقال:) (وتشير إلى أبي الحسن) (الأميرة تغضي حياء وتسكت) (يخرج ابن حيون جرابًا كان قد شده على وسطه ثم يفتحه وينثره عند قدمي الملك فتنتثر اللآلئ واليواقيت). (مشيرًا إلى أبي الحسن) (ويشير إلى الجواهر)
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/86040835/
لَوْلَبَةُ أَمِيرةُ الْغِزْلانِ
كامل كيلاني
تحكي هذه القصة عن لولبة أميرة الغزلان وحيلتها الذكية للحفاظ على حياة حيوانات الغابة من الأسد المفترس. ويتبين من خلال هذه القصة أن الذكاء يغلب القوة، وأن العقل يغلب العضلات.
https://www.hindawi.org/books/86040835/1/
لَوْلَبَةُ أَمِيرةُ الْغِزْلانِ
وَزَّةٌ تَجْرِي. وَزٌّ يَجْرِي. الْوَزُّ يَجْرِي، يَجْرِي، يَجْرِي. لِماذَا يَجْرِي؟ دِيـكٌ خائِفٌ، خائِفٌ يَجْرِي. دَجَاجَةٌ خائِفَةٌ، خَائِفَةٌ تَجْرِي. دُيُوكٌ تَجْرِي وَدَجاجٌ يَجْرِي. لِماذا خافَتْ؟ إِلَى أَيْنَ تَجْرِي؟ أَرْنَبٌ يَجْرِي، أَرانِبُ تَجْرِي. الْأَرانِبُ خائِفَةٌ تَجْرِي. مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خافَتْ؟ إِلَى أَيِّ مَكانٍ تَجْرِي؟ بَجَعَةٌ خائِفَةٌ، تَجْرِي خائِفَةً. بَجَعٌ خائِفٌ، يَجْرِي حَيْرَانَ. مِنْ أَيْنَ هَرَبَ؟ إِلَى أَيْنَ ذَهَبَ؟ مِنَ الْغابَةِ هَرَبَ، إِلَى «لَولَبةَ» ذَهَبَ. الْخَرُوفُ يَجْرِي، وَالْخَرُوفَةُ تَجْرِي. الْخَرُوفُ أَخُو الْخَرُوفَةِ هَرَبَ. الْخَرُوفَةُ أُخْتُ الْخَرُوفِ هَرَبَتْ. لِماذا هَرَبَتِ الْخِرْفَانُ مِنَ الْغابَةِ؟ غَزالٌ يَجْرِي، غِزْلَانٌ تَجْرِي. الْغِزْلانُ تَجْرِي خائِفَةً حَيارَى. إِلَى أَيْنَ؟ إِلَى قَصْرِ الْأَمِيرَةِ «لَوْلَبَةَ». حِمارٌ وَحْشِيٌّ، أَتانٌ وَحْشِيَّةٌ. الْحِمارُ أَخُو الْأَتانِ هَرَبَ. الْأَتانُ أُخْتُ الْحِمارِ هَرَبَتْ. إِلَىَ أَيْنَ؟ إِلَىَ قَصْرِ «لَوْلَبَةَ». زَرافَةٌ هَرَبَتْ، زَرافٌ هَرَبَ. الَزَّرافُ هَرَبَ، هَرَبَ، هَرَبَ. لِماذا هَرَبَ؟ أَيْنَ كانَ؟ أَيْنَ ذَهَبَ؟ النَّعَامُ وَالمَعِيزُ وَالجِدْيانُ، وَالنَّعْجَةُ: أُخْتُ الْخَرُوفِ، وَالْجَدْيُ وَأُخْتُهُ الْمَاعِزَةُ، كُلُّهُمْ هَرَبُوا. صَوْتٌ كَالرَّعْدِ. أَسَدٌ حَضَرَ. أَسَدٌ زَأَرَ. سُكَّانُ الْغابَةِ خافُوا، خافُوا، خافُوا. سُكَّانُ الْغابَةِ هَرَبُوا، هَرَبُوا، هَرَبُوا. إِلَى قَصْرِ «لَوْلَبَةَ» ذَهَبُوا، ذَهَبُوا، ذَهَبُوا. الْقِرْدانِ الْحَارِسانِ يَسْتَقْبِلانِ سُكَّانَ الْغابَةِ. الْأَمِيرَةُ «لَوْلَبَةُ» تُرَحِّبُ بِسُكَّانِ الْغابَةِ. إِنْذَارٌ مِنَ الْأَسَدِ الْفَرَّاسِ. يَقْرَؤُهُ وَزِيرُهُ الثَّعْلَبُ الْعَوَّاءُ. الْفَرَّاسُ يَأْمُرُ أَنْ تُرْسِلَ لَهُ «لَوْلَبَةُ» كُلَّ يَوْمٍ فُطُورَهُ وَغَداءَهُ وَعَشاءَهُ. «لَوْلَبَةُ» قالَتْ: «نَبْدَأُ بِقَتْلِ الثَّعْلَبِ». الْحِمارُ الْوَحْشِيُّ رَفَسَ الْثَّعْلَبَ. الْحِمارُ الْوَحْشِيُّ قَتَلَ الْثَّعْلَبَ. «لَوْلَبَةُ» شَكَرَتِ الْحِمارَ الْوَحْشِيَّ. «لَوْلَبَةُ» قَالَتْ: «الْأَسَدُ مَغْرُورٌ بِقُوَّتِهِ. الْحِيلَةُ تَغْلِبُ الْأَسَدَ الْفَرَّاسَ. اكْتُبْ يا مَيْمُونُ.» ماذا كَتَبَ «مَيْمُونُ» يَا تُرَى؟ «مَيْمُونٌ» يَذْهَبُ إِلَى الْأَسَدِ الْفَرَّاسِ. الْأَسَدُ الْفَرَّاسُ يَسْأَلُهُ: «أَيْنَ لَوْلَبَةُ؟» «مَيْمُونٌ» يُعْطِيهِ رِسالَةَ لَوْلَبَةَ. «لَوْلَبَةُ» قالَتْ فِي جَوابِها: «وَزِيرُكَ هَلَكَ. حَياتُكَ فِي خَطَرٍ. الْهَرَّاسُ يَبْحَثُ عَنْكَ لِيَقْتُلَكَ. هَلْ تُحَارِبُهُ؟ أَنَا حاضِرَةٌ إِلَيْكَ». الْفَرَّاسُ يَسْأَلُ: «أَيْنَ الْهَرَّاسُ لِأَقْتُلَهُ؟» «لَولَبةُ» تَقُوْلُ: «تَعَالَ مَعِيَ لِتَرَاهُ». الْأَسَدُ شافَ صُورَتَهُ فِي الْمَاءِ. الْأَسَدُ ظَنَّ أَنَّهُ رَأَى الْهَرَّاسَ. الْأَسَدُ صَدَّقَ كَلَامَ «لَوْلَبَةَ». الْأَسَدُ نَطَّ فِي الْمَاءِ لِيَقْتُلَ عَدُوَّهُ. الْأَسَدُ غَرِقَ فِي ماءِ الْبُحَيْرَةِ. «لَوْلَبَةُ» فَرْحانَةٌ بِنَجَاحِ حِيلَتِها. عَلَى شَطِّ الْبُحَيْرَةِ سُكَّانُ الْغابَةِ فَرْحانُونَ، يُصَفِّقُونَ وَيُغَنُّونَ، وَيُقِيمُونَ الْأَفْراحَ وَالْأَعْرَاسَ، لِخَلَاصِهِمْ مِنَ الْأَسَدِ الْفَرَّاسِ. رَقْصٌ وَطَبْلٌ وَزَمْرٌ، ابْتِهاجًا بِيَوْمِ النَّصْرِ. فِي كُلِّ مَكانٍ زَفَّةٌ وَمِهْرَجَانٌ، وَهُتافٌ بِحَياةِ أَمِيْرَةِ الْغِزْلَانِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/17468173/
القَصرُ الهِندِي
كامل كيلاني
يحكي الكتاب قصة ملك أراد أن يصنع قصًرا لم يسبقه أحد فى إنشائه.
https://www.hindawi.org/books/17468173/1/
ساكِنُ الدَّوحَة
كانَ لِمَلِكِ «بَنَارِسَ» أُمْنِيَّةٌ واحِدَةٌ، يَسْعَى إِلَى تَحْقِيقِها جاهِدًا (مُجْتَهِدًا)، وَلا يَهْنَأُ لَهُ بَالٌ أَوْ يَظْفَرَ بِإِدْراكِها، ولا يَرْتاحُ قُلْبُهُ حَتَّى يَفُوزَ بِها. وَقَدْ شَغَلَتْهُ هذِهِ الْأُمْنِيَّةُ الْجَمِيلَةُ زَمَنًا طَوِيلًا؛ فَأَصْبَحَتْ تُؤَرِّقُهُ (تُسْهِرُهُ، وَتَقْطَعُ عَلَيْهِ نَوْمَهُ فِي اللَّيْلِ)، وَتَشْغَلُهُ وَتُهِمُّ خاطِرَهُ (تَمْلأُ قَلْبَهُ غَمًّا وَهَمًّا فِي النَّهارِ). أَمَّا هذِهِ الْأُمْنِيَّةُ الْعَزِيزَةُ الْمَنالِ، الَّتِي فَكَّرَ فِيها مَلكُ «بَنَارِسَ» وَقَدَّرَ، ثُمَّ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَهِيَ أَنْ يُشَيِّدَ (يَبْنِيَ) لِنَفْسِهِ قَصْرًا مُبْتَدَعًا، لَمْ يَسبِقْهُ — إِلَى بِنَاء مِثْلِهِ — أَحَدٌ مِن مُلُوكِ الهِنْدِ قَاطِبَةً. وَكانَتْ هذِهِ الْأُمْنِيَّةُ — فِي الْحَقِيقَةِ — صَعْبَةَ الْإِدْراكِ، بَعِيدَةَ التَّحقِيقِ؛ لِأَنَّ مُلُوكَ الْهِندِ قَد تَفَنَّنُوا فِي بِناء الْقُصُورِ، وَبَذلُوا وَأَنْفَقُوا — فِي تَشْيِيدِها — أمْوالًا كَثِيرَةً لا تُحصَى، وَتَأَنَّقُوا (استَعمَلوا الْإِتْقَانَ) فِي هَنْدَسَتِها، وَتَفَنَّنُوا فِي زَخْرَفَتِها، ما شاءَ لَهُمُ الْإِبدَاعُ وَالْفَنُّ، وَلَم يَدَعُوا لِأَحَدٍ — مِن بَعدِهِم — مَجالًا لِلتَّأنُّقِ وَالافْتِنانِ. وَقَد رَأَى مَلِكُ «بَنَارِسَ» أَنَّ كُلَّ جُهْدٍ يَبْذُلُه فِي رِفْعَةِ الْبِنَاء وَاتِّساعِهِ وَتَنْسِيقِهِ، لَنْ يُثْمِرَ، وَلَنْ يُغْنِيَ أَقَلَّ غَنَاء (لَن يَأْتِيَ بِأَيِّ فَائِدَةٍ). وَأَيْقَنَ أَنَّهُ مَهْما يُبْذَلْ مِنْ جُهْدٍ وَمَالٍ، فَلَنْ يَبْلُغَ شَيْئًا مِمَّا يَرُومُ وَيَطْلُبُ، وَلَنْ يُحَقِّقَ بَعْضَ ما تَصْبُو وَتَمِيلُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ. ثُمَّ اهْتَدَى — بَعْدَ تَفْكِيرٍ طَوِيلٍ — إِلَى طَرِيقَةٍ فَذَّةٍ (وَحيدَةٍ مُنْفَرِدَةٍ) تُظْفِرُهُ بِأُمْنِيَّتِهِ، وَتُنِيلُهُ رَغْبَتَهُ، بِأَيسَرِ نَفَقَةٍ، وَأَقَلِّ مَالٍ. فَمَثَّلَ (صَوَّرَ) — لِهذا الْقَصْرِ — نَمُوذَجًا مُبْتَدَعًا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ مُلُوكِ الْهِنْدِ قاطِبَةً، وَرَأَى أَن يُشَيِّدَهُ عَلَى عَمُودٍ وَاحِدٍ. وَهذا — كَما تَرَى — مِثَالٌ لَمْ يُفَكِّرْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ. وَلستُ أَعْرِفُ: ما الَّذِي أَوحَى إِلَيهِ فِكْرَةَ هذا الْقَصرِ الْعَجِيبِ الَّذِي يُشْبِهُ — فِي شَكْلِهِ وَهَيْئَتِهِ — بُرْجَ الْحَمامِ؟ وَلَكِنَّنِي أَعْرِفُ أَنَّهُ قَدْ وُفِّقَ — عَلَى أَيِّ حَالٍ — فِي الاهْتِداء إِلَى مِثالٍ جَدِيدٍ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ كَائِنٌ كَانَ. ثمَّ نادَى مَلِكُ «بَنَارِسَ» كَبِيرَ وُزَرائِهِ، وَقالَ لَهُ: «أَحْضِرْ إِلَيَّ أَقْدَرَ الْحَطَّابِينَ وَأَبْرَعَهُمْ، مِنْ كُلِّ قاصٍ وَدانٍ، وَاجْمَعْهُمْ مِنْ بَعِيدٍ وَقَرِيبٍ. وَمُرْهُمْ أَنْ يُحْضِرُوا إِلَى مَدِينَتِي أَضْخَمَ شَجَرَةٍ أَنْبَتَتْها الْغابَةُ، عَلَى أَنْ يَتِمَّ ذَلِكَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ.» فَلَمْ يُضِعِ الْوَزِيرُ وَقْتَهَ سُدًى، وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَمَعَ لَهُ ثَلاثِينَ حَطَّابًا مَعْرُوفينَ بِالْقُوَّةِ وَالْحِذْقِ، مَوْصُوفينَ بِالْإِتْقانِ وَالْبَرَاعَةِ. وَلَمَّا مَثَلُوا بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ أَفْضَى إِلَيْهِمْ بِرَغْبَتِهِ؛ أَعْنِي: كَشَفَ لَهُمْ عَمَّا يَحْرِصُ عَلَيْهِ، وَأَطْلَعَهُمْ عَلَى ما يَتَمَنَّاهُ وَيَسْعَى إِلَيْهِ. فَقَالَ الْحَطَّابُونَ لِلْمَلِكِ: «إِنَّ فِي غابَةِ جَلَالَتِكُمْ أَشْجَارًا كَثِيرَةً، مُتَماثِلَةً (مُتَشابِهَةً) فِي الضَّخَامَةِ وَالارْتِفاعِ، وَالصَّلابَةِ وَالْقُوَّةِ، وَكُلُّها صالِحَةٌ لِتَحْقِيقِ هذِهِ الْفِكْرةِ. وَلَكِنَّ إِحْضارَها إِلَى مَدِينَةِ «بَنَارِسَ» أَمْرٌ مُحالٌ، لَا سَبِيِلَ إِلَى تَذْلِيلِهِ (تَسْهِيلِهِ)، وَمُطْلَبٌ عَزِيزُ الْمَنَالِ (لَا أَمَلَ فِي إِدْراكِهِ وَتَحْصِيلِهِ).» فَقال لَهُمُ الْمَلِكُ: «أَتَعْجَزُونَ — عَلَى وَفْرَةِ عَدَدِكُمْ، وَقُوَّةِ بَأْسِكُمْ وَشَجاعَتِكُمْ — أَنَّ تَقْتَلِعُوا مِثْلَ هذِهِ الْأَشْجارِ، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ مِنَ الضَّخامةِ وَالطُّولِ؟» فَقالُوا لَهُ: «إِنَّ اقْتِلاعَ هذِهِ الْأَشْجارِ الْعَظِيمَةِ أَمْرٌ مَيْسُورٌ، لَا يُرْهِقُنا وَلا يُتْعِبُنا، وَلا يَسْتَحِيلُ عَلَيْنا تَحْقِيقُهُ، وَلَكِنَّ الصُّعُوبَةَ — الَّتِي لا سَبِيِلَ إِلَى تَذْلِيلِها — إِنَّما هِيَ فِي جَرِّ مِثْلِ هذِهِ الأَشْجارِ وَإِحْضارِها إِلَى الْمَدِينَةِ؛ فَإِنَّ الْطَّرِيقَ وَعْرَةٌ (صَعْبةٌ) طَوِيلَةٌ، وَالْأَشْجار هائِلَةٌ، وَيَصْعُبُ جَرُّها عَلَى أَقْوَى الْأَقْوِياء.» فقالَ لَهُمْ مُتَعجِّبًا: «عَلَيْكُمْ بِالْجِيادِ (الْخَيْلِ)؛ فَهِيَ قادِرَةٌ عَلَى جَرِّ هذِهِ الْأَشْجارِ.» فَقالُوا لَهُ: «ما أَعْجَزَ الْجِيادَ — يا مَلِيكَنا الْعظِيمَ — عَنْ تَحْرِيكِ مِثلِ هذا الشجَرِ، وَزَحْزَحَتِهِ عَن مَوْضِعهِ قِيراطًا واحدًا، مَهْما تَبلُغ الْجِيادُ مِنَ الْقُوةِ وَالْبَأْسِ.» فَقالَ لَهُمْ: «عَلَيكُم بِالثِّيران؛ فَهِيَ أَقدَرُ مِنَ الْخَيلِ عَلَى جَرِّها، وَأَصبَرُ مِنها عَلَى مَشَقَّةِ السَّيرِ، وَوُعُورَةِ الطَّرِيقِ.» فَأَجابُوهُ حائِرِينَ: «لَيسَ فِي قُدرَةِ الثِّيرانِ — أَيُّها الْمَلِكُ الْجَلِيلُ — أَن تَقْطَعَ فِي هذِهِ الْغابَةِ الْمُقْفِرَةِ (الْخَالِيَةِ) الْوَاسِعَةِ، أَميالًا كثِيرَةً (وَالْأَمْيالُ جَمْعُ مِيلٍ، وَالْمِيلُ طُولُهُ: أَرْبَعَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ).» فَقَالَ لَهُمُ الْمَلِكُ: «لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْأَفْيالُ، وَما أَظُنُّها تَعْجِزُ عَنْ تَحْقِيقِ هذِهِ الْغايَةِ، وَلا أَحْسَبُها تَنُوءُ قُوَّتُها بِالاضْطِلاعِ بِهذا الْمُهِمِّ؛ فَهِيَ — فِيما أَعْلَمُ — قادِرَةٌ عَلَى الْقِيامِ بِهذا الْأَمْرِ، بالِغًا ما بَلَغَ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْعناء!» فَقالُوا لَهُ يَائِسِينَ: «لا سَبيلَ إِلَى ذَلِكَ يَا صاحِبَ الْجَلالَةِ. فَإِنَّ الْأَرْضَ — كَما تَعْلَمُون — لَيْسَتْ صَخْرِيَّةً صُلْبَةً؛ بَلْ هِيَ طِينِيَّةٌ رخْوَةٌ مَمْلوءَةٌ بِالْوَحَلِ. وَلَنْ تَسْتَطِيعَ الْأَفْيالُ أَنْ تَسِيرَ خُطْوَةً وَاحِدَةً، دُونَ أَنْ تَسُوخَ أَقْدامُها، (تُغْرَزَ أَرْجُلُها).» فاشْتَدَّ غَضَبُ الْمَلِكِ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْغَيْظُ، وَقالَ لَهُمْ مُتَوَعِّدًا: «لَقَدْ أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي، وَلا سَبِيِلَ إِلَى مُخَالَفَتِي فِيما أَمَرْتُكُمْ بِهِ؛ فافْعَلُوا ما شِئْتُمْ، وَذَلِّلُوا الْعَقَباتِ، وَسَهِّلُوا الصُّعُوباتِ وَتَغَلَّبُوا عَلَى الْمُحالِ، وَلا تَرْجِعُوا إِلَيَّ قَبْلَ أَنْ تُحْضِرُوا إِلَى مَدِينَتي — مِنْ أَيِّ مَكانٍ شِئْتُمْ — إِحْدَى هذِهِ الْأَشْجار الضَّخْمَةِ الَّتِي حَدَّثْتُمُونِي بِها. وَقَدْ حَتَمْتُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُنْجِزُوا هذا الْعَمَلَ فِي مَدَى أُسْبوعٍ واحِدٍ.» فَرَحَلَ الْحَطَّابُونَ — مِنْ فَوْرِهِمْ — حَتَّى وَصَلُوا إِلَى دَوْحَةٍ (شَجَرَةٍ) كَبِيرَةٍ ضَخْمَةٍ، فِي قَرْيَةٍ لَا تَبْعُدُ عَنِ الْمَدِينَةِ إِلَّا مَسَافةً يَسِيرَةً. وَكَانَتْ هذِهِ الدَّوْحَةُ هائِلَةَ الحَجْمِ، صُلْبَةَ الْعُودِ، أَنِيقَةَ الشَّكْلِ، بَدِيعَةَ الْمَنْظَرِ. وَكانَ أَهْلُ الْقُرَى يُحِبُّونَها، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَلَكًا — مِنَ الْمَلائِكِ — يَسْكُنُها، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذلِكَ الْمَلَكَ هُوَ الَّذِي أَكْسَبَ الدَّوْحَةَ ذلِكَ الْجَمالَ النَّادِرَ، وَأَفْرَدَها — مِنْ بَيْنِ الْأَشْجارِ الْأُخْرَى — بِالْقُوَّةِ وَالْصَّلابَةِ وَحُسْنِ التَّنْسِيقِ. وَوَقَفَ الْحَطَّابُونَ أَمامَ الدَّوْحَةِ مُفَكِّرِينَ، مُطْرِقِي رُءُوسِهِم صَامِتِينَ، وَطالَ تَرَدُّدُهُم فِي اقْتِلاعِها، وَحَزَنَهُم ذلِكَ، وَمَلَأَ نُفُوسَهُم رَهْبَةً وَفَزَعًا. وَلكِنَّ الْمُضْطَرَّ يَركَبُ الصَّعبَ مِنَ الْأُمُورِ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ إِطاعَةِ الْمَلِكِ وَتَلْبِيَةِ أَمْرِهِ، وَلَيْسَ فِي إِمْكانِهِمْ أَنْ يَحْمِلُوا إِلَيْهِ شَجَرَةً أُخْرَى مِنَ الْغابةِ الْبَعِيدَةِ! وَهكَذا قَرَّ قَرَارُ الْحَطَّابِينَ — بَعْدَ إِحْجامٍ (تَراجُعٍ وَتَرَدُّدٍ) — عَلَى أَنْ يَقْتَلِعُوا هذِهِ الدَّوْحَةَ الْعَظِيمَةَ، وَرَأَوْا — بَعْدَ التَّفْكِيرِ وَالرَّوِيَّةِ — أَنْ يَتَرَضُّوا ذلِكَ الْمَلَكَ الْكَرِيمَ (الرُّوحَ السَّماوِيَّ) الَّذِي يَحُلُّ بِها. فَجاءُوا بِطاقاتِ الْأَزْهارِ، وَنَسَّقُوا مِنْها أَكالِيلَ بَدَيعَةَ الْمَنْظَرِ، ثُمَّ نَثَرُوا الْمَصَابِيحَ في أَثْنائِها. وَلَمْ يَأْلُوا جُهْدًا (لَمْ يَتْرُكُوا وَسِيلَةً) في إِدْخالِ السُّرُورِ عَلَى «مَلَكِ الدَّوْحَةِ»؛ فَصَدَحَتِ الْمُوسِيقَى، وَعَزَفَ الْعازِفُونَ، وَغَنَّى الشَّادُونَ (الْمُغَنُّونَ)؛ لِيُشْعِرُوا «مَلَكَ الدَّوْحَةِ» بِما قَرَّرَهُ مَلِيكُهُمْ، وَيَحْتِمُوا عَلَيْهِ (يُلْزِمُوهُ) أَنْ يَهْجُرَ الدَّوْحَةَ قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ الْأُسْبُوعُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدِ اعْتَزَمُوا أَنْ يَقْتَلِعُوها، تَلْبِيَةً لِأَمْرِ: مَلِكِ « بَنَارِسَ». فَجاءُوا بِطاقاتِ الْأَزْهارِ، وَنَسَّقُوا مِنْها أَكالِيلَ بَدَيعَةَ الْمَنْظَرِ، ثُمَّ نَثَرُوا الْمَصَابِيحَ في أَثْنائِها. وَلَمْ يَأْلُوا جُهْدًا (لَمْ يَتْرُكُوا وَسِيلَةً) في إِدْخالِ السُّرُورِ عَلَى «مَلَكِ الدَّوْحَةِ»؛ فَصَدَحَتِ الْمُوسِيقَى، وَعَزَفَ الْعازِفُونَ، وَغَنَّى الشَّادُونَ (الْمُغَنُّونَ)؛ لِيُشْعِرُوا «مَلَكَ الدَّوْحَةِ» بِما قَرَّرَهُ مَلِيكُهُمْ، وَيَحْتِمُوا عَلَيْهِ (يُلْزِمُوهُ) أَنْ يَهْجُرَ الدَّوْحَةَ قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ الْأُسْبُوعُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدِ اعْتَزَمُوا أَنْ يَقْتَلِعُوها، تَلْبِيَةً لِأَمْرِ: مَلِكِ «بَنَارِسَ». وَقَدِ افْتَنَّ الْحَطَّابُونَ في تَنْسِيقِ الْأَزْهارِ، وَوَضَعُوا مَصَابِيحَهُمْ حَوْلَ الْدَّوْحَةِ — عَلَى شَكْلِ دَائِرَةٍ — وَعَلَّقُوا أَكالِيلَ الياسَمِينِ عَلَى أَغْصانِها، وَرَبَطوا — فِي أَوْراقِ الدَّوْحَةِ — طاقاتِ الْوَرْدِ وَالرَّياحينِ، وَجَعَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَصابِعَ يَدَيْهِ بَعْضَها في بَعْضٍ، رَهْبَةً وَخُشُوعًا، وَتَفَنَّنَ جَماعةٌ مِنْهُمْ في تَوْقيعِ الْأَلْحانِ عَلَى طَنَابِيرِهِمْ وَعَلَى قِيثارَتِهِمْ، وَهيَ: آلاتٌ لِلطَّرَبِ ذَواتُ أَوْتارٍ، وَغَنَّى آخَرُونَ طائِفةً مِنَ الْأَغانِي الْمُعْجِبَةِ. وَقَدْ فَعَلُوا ذلِكَ لِيَبْهَجُوا «مَلَكَ الدَّوْحَةِ» (يُفْرِحُوهُ)، ثُمَّ يُنْذِرُوهُ بِقَرارِ مَلِيكِهِمْ فِي أَرَقِّ عِبارَةٍ وَأَجْمَلِ أُسْلُوبٍ. وَأَخَذَ الْحَطَّابُونَ يُحَيُّونَ ذلِكَ الْمَلَكَ الْكَرِيمَ بِما هُوَ أَهْلُهُ مِنَ التَّحِيَّةِ، وَيُمَجِّدُونَهُ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ أَحْسَنَ الثَّناءِ، وَيَقُولونَ لَهُ: «يَا سَيِّدَ الرَّابِيَةِ (الأرضِ الْمُرْتَفِعَةِ)، ويا رُوحَ الْأَزْهارِ النَّامِيَةِ النَّاضِرَةِ (الْمُتَفَتِّحَةِ الشَّدِيدةِ الْخُضْرَةِ): حُقَّ لَنا أَنْ نُبَصِّرَكَ وَنُعَرِّفَكَ بما انْتَوَيْناهُ (نُخْبِرَكَ بما فِي نِيَّتِنا أَنْ نَقُومَ بِهِ): هذِهِ فُئُوسُنا الْماضِيَةُ (الْحادَّةُ)، جِئْنا بِها لِنَقْتَلِعَ دَوْحَتَكَ؛ لِكَيْ تَكُونَ قَاعِدَةً رَاسِخَةً، يَرْسُو (يَسْتَقِرُّ) عَلَيْها قَصْرُ الْمَلِيكِ الْبَاذِخُ الشَّامِخُ (الْمُرْتَفِعُ)، الَّذِي يَسْمُو فِي الْجَوِّ كَأَنَّهُ يَحْرُسُ السَّماءَ؛ فاتْرُكِ الدَّوْحَةَ، وانْجُ بِنَفْسِكَ.» ثُمَّ خَتَمَ الْحَطَّابُونَ أَغَانِيَهُمْ، وَأَنَاشِيدَهُمُ الْمُعْجِبَةَ الشَّائِقَةَ (الْجَمِيلَةَ الْجَذَّابَةَ) بِالنَّشِيدِ التَّالِي: ••• ••• ••• ••• ••• ••• ••• ••• فَلَمَّا سَمِعَ «مَلَكُ الدَّوْحَةِ» ذلِكَ النَّشِيدَ أَدْرَكَ غَايَتَهُمْ، وَعَرَفَ مَقْصِدَهُمْ، وَتَأَكَّدَ لَهُ أَنَّ الْحَطَّابِينَ جادُّونَ فِي إنْفاذِ وَعِيدِهِمْ. فَلَبِثَ هادِئًا ساكِنًا — لَحَظاتٍ قَلِيلَةً — ثُمَّ اضْطَرَبَتِ الْأَوْراقُ، وَتَمَايَلَتِ الْأَغْصَانُ، وَانْحَنَتِ الْفُرُوعُ، كأَنَّما تُشِيرُ إِلَيْهِمْ أَنَّها قَدْ أَدْرَكَتْ ما يَرْمُونَ إِلَيْهِ، وَلَبَّتْ رَجاءَهُمْ، وَلَمْ تَعْصِ لَهُمْ أَمْرًا. ثُمَّ عادَ الْحَطَّابُون — مِنْ حَيْثُ أتَوْا — وَقَدِ اقْتَنَعُوا بِنَجاحِ مَسْعاهُمْ، وَعَرَفُوا أَنَّ «ساكِنَ الدَّوْحَةِ» قَدْ أَذْعَنَ لِمَشِيئَةِ مَلِكِ «بَنَارِسَ» وَخَضَعَ لَإِرادَتِهِ. وَلَقَدْ مالَتْ بَعْضُ أَوْراقِ الدَّوْحَةِ إِلَىَ بَعْضٍ، وَهيَ تَقُولُ: «لَقَدِ اعْتَزَمَ مَلِيكُ «بَنَارِسَ» أَنْ يُنَفِّذَ قَرَارَهُ، وَلا مَرَدَّ لِحُكْمِهِ، ولا شَيْءَ يدْفعُ أَمْرَهُ وَيُرْجِعُهُ. وَلَسْنا نَخْشَى الْفَناءَ، وَلا نَرْهَبُ الرَّدَى (لا نَخافُ الْمَوْتَ)، وَلَكِنَّنَا نَجْزَعُ وَنَحْزَنُ لِما يَلْقَاهُ ذلِكَ «الْمَلَكُ» الَّذِي يَسْكُنُ هذِهِ الدَّوْحَةَ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى تَرْكِها، وَلا مَأْوَى لَهُ فِي غيْرِها. وَسَيَكُونُ هَلاكُنا — بِلا شَكٍّ — سَبَبًا فِي شَقَاءِ جَمِيعِ الْأَشْجارِ الْمُحِيطَةِ بِنا، وتَهشِيمِها وَتَكْسِيرِها. وَقَدِ احْتَمَتْ — مُنْذُ نَشَأَتْ — بحِمايَتِنا، وَعَاشَتْ — طُولَ عُمْرِها — فِي كَنَفِنا (بَقِيَتْ فِي جانِبِنا وَحِمايَتِنا). وَما هَمَّنا أَنْ نَلْقَى حَتْفَنا وَمَصْرَعَنا، وَنَسْتَقْبِلَ مَوْتَنَا وَهَلاكَنا، وَإِنَّما هَمَّنا وَآلَمَنا مَصَارِعُ هذِهِ الْأَطْفالِ الشَّجَرِيَّةِ الصَّغِيرَةِ، الَّتِي تَمُوتُ — عَلَى الْفَوْرِ — مَتَى وَقَعَتِ الدَّوْحَةُ الْعَظِيمَةُ عَلَيها. فَمَنْ لَنَا بِمَنْ يُبْلِغُ مَلِكَ «بنارِسَ» أَنَّهُ جائِرٌ (ظالِمٌ) فِي حُكْمِهِ، وَأَنَّهُ سَيُهْلِكُ الْكَثِيرَ مِنْ أَطْفالِنا الْأَعِزَّاءِ فِي سَبِيلِ بِناءِ قَصْرِهِ؟» أَمَّا «ساكِنُ الدَّوْحَةِ»، فَقَدْ قالَ فِي نَفْسِهِ: «لا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِ مَلِك «بنارِسَ» وَشَأْنَهُ، لِيُنَفِّذَ هذا الْقَرارَ الْجائِرَ. وَلا بُدَّ لِي مِنْ زِيَارَتِهِ — فِي عالَمِ الْأَحْلامِ — لَعَلِّي أَسْتَميلُهُ وَأَسْتَعْطِفُهُ، وَأُلَيِّنُ مِنْ قَلْبِهِ الْقاسِي، فَيَعْدِلُ عَنْ تَحْقِيقِ وَعِيدِهِ.» وَلَمَّا أَقْبَلَ اللَّيْلُ، وَاسْتَسْلَمَ مَلِكُ «بَنارِسَ» لِلنَّوْمِ، ظَهَرَ أَمامَهُ «مَلَكُ الدَّوْحَةِ» — فِي عَاَلَمِ الرُّؤْيا — فِي صُورَةِ شَبَحٍ لامِعٍ، بَهِيِّ الطَّلْعَةِ جَمِيلِ الْمَنْظَرِ، مُؤْتَلِقِ الْمُحَيَّا (مُنِيرِ الْوَجْهِ)، يَلُوحُ عَلَيْهِ النُّورُ الشَعْشَعانِيُّ (الْمُنْتَشِرُ الْمُتَوَهِّجُ)، وَقالَ لَهُ — فِي صَوْتٍ أَشْبَهِ شَيْءٍ بِحَفِيفِ الشَّجَرِ: «هِيهِ يَا مَلِكَ «بَنارِسَ» الْعَظِيمَ! أَلَا تَعْرِفُنِي أَيُّها العزِيزُ الْكَرِيمُ؟ أَنَا مَلَكُ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَمَرْتَ رِجالَكَ بَاقْتِلاعِها. وَقَدْ عَلِمْتُ — الْيَوْمَ — نَبَأَ هذا الْقَرارِ الْخَطِيرِ، وَلَمْ أَكَدْ أَعْلَمُهُ حَتَّى اعْتَزَمْتُ زِيَارَتَكَ لأَثْنِيَكَ (لِأَرُدَّكَ) عَنْ عَزْمِكَ، شَفَقَةً بِنا، وَرَحْمَةً بِأَطْفالِ الدَّوْحَةِ الصِّغارِ.» فَقال لَهُ مَلِكُ «بَنارسَ»: «لا سَبِيلَ إِلَى الْعُدُولِ عَنْ هذا الْقَرَارِ؛ فَإِنَّ دَوْحَتَك وَحْدَها طِلْبَتِي وَقَصْدِي وَغَايَتِي. وَلَسْتُ أَرَى — فِي كُلِّ أَنْحاءِ بِلادِي — شَجَرَةً غَيْرَها تُحَقِّقُ لي أُمْنِيَّتِي الْعَزِيزَةَ الَّتِي تَصْبُو إِلَيْها نَفْسِي؛ فَهِيَ — فِيما أَعْلَمُ — طَوِيلَةٌ بَاسِقَةٌ، صُلْبَةُ الْعُودِ، كافِيَةٌ لِتَشْيِيدِ الْقَصْرِ فَوْقَها، وَقَدْ أَبَنْتُ لكَ عُذْرِي، وَشَرَحْتُ لَكَ مَقْصِدِي، فِي وُضُوحٍ وَصَرَاحَةٍ وَجَلَاءٍ.» فَقالَ لَهُ «مَلَكُ الدَّوْحَةِ»: «تَرَوَّ أَيُّها الْمَلِيكُ الْعَظِيمُ (فَكِّرَ عَلَى مَهَلٍ)، وَتَدَبَّرْ ما تقُولُ، وَأَمْعِنِ الْفِكْرَ، وَدَقِّقِ الْنَّظَرَ فِيما أَنْتَ قادِمٌ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ جَلَلٍ (خَطِيرٍ عَظِيمٍ). وَاذْكُرْ: أَنَّنِي قَدِ اتَّخَذْتُ هذِهِ الدَّوْحَةَ لِي مَوْطِنًا مُنْذُ سِتِّينَ أَلْفِ عَامٍ، وَأَنَّ سُكَّانَ الْقُرَى جَمِيعًا يُكْرِمُونَ الدَّوْحَةَ مِنْ أَجْلِي، وَأَنَّنِي قَدْ كافَأْتُهُم — عَلَى ذلِكَ — أَحْسَنَ مُكَافَأَةٍ؛ فَأَسْدَيْتُ إِلَيْهِمُ الْجَمِيلَ، وَقَدَّمْتُ لَهُمُ الْخَيْرَ، وَتَعَهَّدْتُ الشَّجَرَ مُوَالِيًا إِيَّاهُ بِعِنايَتِي، وَشَمَلْتُ الْأَطْيارَ بِرِعايَتِي، وَبَعَثْتُ ظِلالَ الدَّوْحَةِ عَلَى مَسافَةٍ كَبيرَةٍ مِن الْحَشائِشِ الَّتِي تَكْتنِفُها (تُحِيطُ بِها). وَقَدْ أَنِسَ النَّاسُ بِظِلالِها الوَارِفَةِ (الْمُنْبَسِطَةِ)، وَارْتاحُوا لِلْجُلُوسِ إِلَى جانِبِها، ليَنْسِمُوا الْهَواءَ الْعلِيلَ (يَسْتَنْشِقُوهُ). وَلَسْتُ جَديرًا مِنْكَ — بَعْد ما أَسْدَيْتُهُ إِلَى شَعْبِكَ مِن حَسَناتٍ وَخَيْرَاتٍ — أَنْ تُنْزِلَ بِدَوحَتِي مِثْلَ هذا الْعِقابِ الظَّالِمِ، وَتُقَابِلَ صَنِيعِي هذا بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكارِ، وَتَجْزِيَنِي عَلَى الْإِحسانِ، بِالعُقُوقِ وَالكُفْرانِ.» فَقالَ لَهُ مَلِكُ «بَنارِسَ»: «لَقَدْ أَعْجَبَنِي حُسْنُ حَدِيثِكَ، وأَقْنَعَتْنِي حُجَجُكَ وَأَدِلَّتُكَ الصَّحِيحَةُ. وَلَكِنَّنِي لا أَسْتَطِيعُ تَلْبِيَةَ مُلْتَمَسِك، وَإِجَابَةَ مَطْلَبِكَ؛ فَقَدْ أَسْلَفْتُ قَضائِي، وَقَدَّمْتُ حُكْمِي فِي ذلِكَ، وَأَمَرْتُ رِجالِيِ بِاقْتِلَاعِ هذِهِ الدَّوْحَةِ، وَلَيْسَ إِلَى تَبْدِيلِ أَمْرِي مِنْ سَبِيلٍ.» فَحَنَى «مَلَكُ الدَّوْحَةِ» رَأْسَهُ إِلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ قال فِي هَمْسٍ وَخُفُوتٍ: «لَمْ يَبْقَ لِي — بعْدَ أَنْ رَفَضْتَ رَجائِي، وَأَبَيْتَ تَحْقِيقَ رَغْبَتِي إِلَّا مُلْتَمَسٌ وَاحِدٌ، آمُلُ أَنْ تَعِدَنِي بِإِجَابَتِهِ، وَأَرْجُو أَنْ تُعْطِيَنِي وَعْدًا بِقَبُولِهِ.» فَقالَ مَلِكُ «بَنارِسَ»: «قُلْ، فَأَنَا أَسْمَعُ.» فَقالَ «مَلَكُ الدَّوْحَةِ»: «أَرْجُو أَنْ تَأْمُرَ رِجالَكَ بِقَطْعِ الدَّوْحَةِ ثَلَاثَ قِطَعٍ: الرَّأْسَ — أَوَّلًا — بِما يُكَلِّلُهُ مِنْ فُرُوعٍ وَأَوْراقٍ خُضْرٍ مُتَمَوِّجَةٍ، وَالْوَسَطَ — ثَانِيًا — بِما عَلَيْهِ مِنْ فُرُوعٍ وَأَغْصانٍ هِيَ أَذْرُعُ الدَّوْحَةِ، وَعَدَدُها مِائَةُ ذِراعٍ، فَإِذَا انْتَهَوْا مِنْ ذلِكَ قَطَعُوا الْجِذْعَ الَّذِي يَحْمِلُ ذلِكَ الطَّوْدَ الشَّامِخَ (الْجَبَلَ العَالِيَ) الْعَظِيمَ.» فَقالَ مَلِكُ «بَنارِسَ»: «هَذَا الْتِماسٌ عَجِيبٌ، وَمَطْلَبٌ يَدْعُو إِلَى الدَّهْشَةِ، وَلَمْ أَسْمَعْ بِمِثْلِهِ طُولَ عُمْرِي. وَإِنِّي لَيُدْهِشُني أَنْ تَلْتَمِسَ مِنِّي أَنْ أُعَذِّبَكَ، وَأُذِيقَكَ الْمَوْتَ، مَرَّاتٍ ثَلَاثًا! أَلَيْسَ مِنَ الْبِرِّ وَالرَّحْمَةِ بِكَ أَنْ تَحْتَمِلَ آلامَ الْمَوْتِ مَرَّةً وَاحِدَةً؟» فَقالَ «مَلَكُ الدَّوْحَةِ»: «كَلَّا — أَيُّها الْمَلِيكُ الْعَظِيمُ — فَلَيْسَ يُزْعِجُنِي أَنْ أَمُوتَ وَأَلْقَى مَصْرَعِي؛ فَإِنَّ الْمَوْتَ حَقٌّ عَلَى كلِّ كَائِنٍ فِي الوُجُودِ. وَلكِنَّ مَا يَهُمُّني وَيُقْلِقُ بالِي أَنَّ جَمْهَرَةً (جَمَاعَةً) مِنَ الْأَطْفَالِ الشَّجَرِيَّةِ النَامِيَةِ مِنْ أُسْرَتِي بِجِوَارِ الدَّوْحَةِ خَرَجَتْ مِنْ ثِمَارِي، وَعَاشَتْ فِي كَنَفِي (تَحْتَ ظِلِّي). فَإِذا سَقَطَتْ دَوْحَتِي عَلَيْها مَرَّةً وَاحِدَةً أَهْلَكتْ — بِثِقَلِها الْعَظِيم — أَكْثرَ أَطْفالِي الصِّغَارِ، وَأَسْلَمتْها إِلَى الْمَوْتِ. وَإِنَّ حُبِّي وَشَفَقَتِي وَبِرِّي بِهَذِهِ الْأَبْناءِ الصَّغِيرَةِ لَتَدْفَعُنِي إِلَى تَقْطِيعِ أَوْصالِي (تَمْزِيقِ أَعْضائِي)، وَتَحمُّل آلامِ الْمَوْتِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ؛ حَتَّى تَنْجُوَ أَكْثَرُ الْأَشْجارِ مِنَ الْهَلاكِ، وَتَسْلَمَ مِنَ الْأَذَى، فَهَلْ أَنْتَ مُجِيِبي إِلَى هذا الرَّجاء، وَمُحَقِّقٌ لِي هذا الْمُلْتَمَسَ الْعادِلَ؟» فَاستَوْلَى الْعَجَبُ عَلَى مَلِكِ «بَنارِسَ» مِمَّا سَمِعَ، وَتَعَاظَمَتْهُ الدَّهْشَةُ (اشْتَدَّ تَعَجُّبُهُ) مِمَّا نَطَقَ بِهِ «مَلَكُ الدَّوْحَةِ.» فَقالَ لَهُ: «عَلَيَّ أَنْ أُجِيبَكَ إِلَى هذا الالْتِماس!» وَما أَتَمَّ مَلِكُ «بَنارِسَ» كلِمَتَهُ، حَتَّى تَلَاشَى ذلِكَ الطَّيْفُ: طَيْفُ «مَلَكِ الدَّوْحَةِ»، وَاسْتَخْفَى عَنْهُ. وَلَمَّا جاءَ الْيَوْمُ التَّالِي نَادَى مَلِكُ «بَنارِسَ» وَزَيرَهُ الْحَكيمَ «نارادا»، وَأَمَرَهُ بِاسْتِدْعاءِ الْحَطَّابِينَ إِلَيْهِ. وَلمَّا مَثَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ لَهُمْ: «لَقَدْ عَدَلْتُ عَنْ رَأْيِي، وَلا حاجَة بِي إِلَى اقْتِلَاعِ الدَّوْحَةِ الَّتِي أَمَرْتُكُمْ بِإِحْضارِها إِلَى مَدِينَتِي. وَقَدْ عَنَّ لِي (خَطَرَ بِبَالِي) أَنْ أُقِيمَ عَمُودًا — مِنَ الصَّخْرِ الصُّلْبِ — فِي مِثْلِ ارْتِفَاعِ هذِهِ الدَّوْحَةِ؛ لِأُشَيِّدَ عَلَيْهِ قَصْرِيَ الْجَدِيدَ.» ثُمَّ اسْتَأْنَفَ حَدِيثَهُ (عاوَدَ كلامَهُ) قَائِلًا: «لَقَدْ بَهَرَنِي (أَدْهَشَنِي) ما رَأَيْتُهُ مِنْ جَلِيلِ الصِّفاتِ، وَنَبيلِ الْمَزايا، فِي مَلَكِ هذِهِ الدَّوْحَةِ، وَهَالَني وَمَلَأَ نَفْسِي إِعْجابًا بِهِ، وَإِكْبارًا لَهُ: ما أَبْصَرْتُهُ فِيهِ مِنَ الْوَفاءِ وَالْحُبِّ وَإِنْكَارِ الذَّاتِ، وَالْجُودِ بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ إِنْقاذِ غَيْرِهِ.» ثُمَّ قَصَّ مَلِكُ «بَنارِسَ» عَلَيْهِمْ قِصَّةَ «مَلَكِ الدَّوْحَةِ» وَذَكَرَ لَهُمْ حَدِيثَهُ — مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ — فَدَهِشُوا لِهذا الرُّوحِ الْكَرِيمِ، وَأُعْجِبُوا بِما أَبْداهُ مِنْ خُلُقٍ رائِعٍ قَوِيمٍ، وَوَفاءٍ نَادِرٍ عَظِيمٍ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/17468173/
القَصرُ الهِندِي
كامل كيلاني
يحكي الكتاب قصة ملك أراد أن يصنع قصًرا لم يسبقه أحد فى إنشائه.
https://www.hindawi.org/books/17468173/2/
ساكِن الصَّخْرَة
فَقالَ وزِيرُهُ الْحَكِيمُ «نارادا»: «لَقَدْ ذَكَّرَتْنِي هذِهِ الْقِصَّةُ الْعَجِيبَةُ، بِقِصَّةِ التِّمْثالِ الصَّخْرِيِّ الَّذِي تَرَوْنَهُ فِي الْمَعْبَدِ الكَبِيرِ. فَهِيَ — فِيما أَرَى — جَدِيرَةٌ بِأَنْ تُخَلَّدَ فِي بُطُونِ الْأَسْفارِ (الْكُتُبِ)، لِما فيها مِنَ الْعِظَةِ وَالاعْتِبَارِ.» فقالَ لَهُ الْمَلِكُ: «أَتَعْنِي تِمْثالَ الرَّاجا (الْأَمِيرِ الْهِنْدِيِّ)، وَالتَّماثِيلَ الَّتِي تُحِيطُ بِهِ مِنْ أَفْرَادِ أُسْرَتِهِ وَعَشِيرَتِهِ؟» فَقالَ الْوَزِيرُ: «نَعَمْ. وَما هِيَ بِتَماثِيلَ مَنْحُوتَةٍ — كما يَظُنُّ الْكَثِيرُونَ — بَلْ هِيَ أَنَاسِيُّ (ناسٌ) عاشُوا فِي مَدِينَتِنَا «بَنارِسَ» رَدحًا مِنَ الدَّهْرِ (أَقَامُوا فِيها زَمَنًا طَوِيلًا)، ثُمَّ مُسِخُوا — بَعْدَ حَياتِهِمْ — صُخُورًا.» فَقالَ المَلِكُ مَدْهُوشًا: «لَقَدْ طالَما وَقَفْتُ أَمامَ تِلْكَ التَّماثِيلِ الصَّخْرِيَّةِ الْبارِعَةِ، وَعَجِبْتُ مِنْ إِبْداعِها، وَتَأَنُّقِ صانِعِيها فِي تَصْوِيرِها وَنَحْتِها، وَكَيْفَ سَمَا بِهِمُ الْفَنُّ الْأَصِيلُ حَتَّى كادَ يُنْطِقُهُمْ، وَيُشْعِرُ النَّاظِرَ إِلَيهِمْ أَنَّ الْحَياةَ سَارِيَةٌ فِيهمْ، لا سِيَّما تِمْثالُ الرَّاجا؛ فما أَذْكُرُ أَنَّني وَقَفْتُ أَمامَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً حَتَّى خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّهُ لَا يَزالُ يُفَكِّرُ وَيَسْمَعُ ما أَقُولُ وَيَفْهَمُهُ، وَحَسِبْتُ أَنَّ فِي جَسَدِهِ الصَّخْريِّ نَفْسًا مُسْتَقِرَّةً فِي صَمِيمِهِ؛ فَما اسْمُ ذلِكَ الرَّاجا؟ وَما قِصَّتُهُ؟ وَكَيْفَ عَاشَ؟ وَكَيْفَ مُسِخَ — بَعْدَ حَيَاتِهِ — صَخْرًا؟» فَقالَ «نارادا»: «كانَ هذا الرَّاجا — أَوَّلَ أَمْرِهِ — نَاسِكًا مَعْرُوفًا بِالزُّهْدِ وَالْوَرَعِ، وكانَ يُدْعَى «سامِيتي»، وَقَدْ عاشَ في إِحْدَى القُرَى الصَّغِيرَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى نَهْرِ «الكَنْجِ». وَقَدْ رَفَعَتْهُ فَضائِلُهُ وَزُهْدُهُ إلى مَرْتَبَةِ الْأَطْهارِ الْأَخْيارِ؛ فَكانَ مَثَلًا مِنْ أَعْلَى أَمْثِلَةِ التَّقْوَى: لا هَمَّ لَهُ إِلَّا الصَّلاةَ وَالنُّسُكَ وَعِبَادَةَ الْخالِقِ، لا يَشْغَلُهُ عَنْ ذلِكَ شَاغِلٌ مِنْ طَيِّباتِ الدُّنْيا وَلَذائِذِ الْحَياةِ وَمُتَعِ الْغُرورِ. وَقَدْ ذاعَتْ فَضائِلُهُ وَمَزَاياهُ في بِلادِ الْهِندِ — قَاصِيَةً وَدَانِيَةً — فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الْوُفُودُ مِنْ كُلٍّ صَوْبٍ وَحَدَبٍ (مِنْ كُلِّ جِهَةٍ)، تَمْلَأُ أَبْصارَها مِنْهُ، وَتَلْتَمِسُ دَعَوَاتِهِ وَبَرَكاتِه، وَتَرْجُو الشِّفاءَ وَالْبُرءَ عَلَى يَدَيهِ، بَعدَ أَنْ عَرَفُوا أَنَّهُ مُجابُ الدَّعْوَةِ، وَرَأَوا «برَهْما» لا يَرُدُّ لَهُ رَجاءً، وَلا يَرْفُضُ لَهُ شَفَاعَةً.» وَذا صَباحٍ فَكَّرَ النَّاسِكُ مَلِيًّا (طَويلًا) فِيما يَسمَعُهُ مَن ثَناء النَّاسِ عَلَيْهِ، وَتَمْجِيدِهِم فَضَائِلَهُ وَمَزَايَاهُ، فَسَاوَرَهُ الرَّيْبُ، وَمَلَأَ نَفْسَهُ الشَّكُّ فِي أَمرِهِ، وَقالَ فِي نَفْسِهِ مُتَعَجِّبًا: «تُرَى: أَيُّ فَضْلٍ اسْتَحْقَقْتُهُ فَأَظْفَرَنِي بِهذِهِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي رفَعُونِي إِلَيها؟ أَتُرَانِي جَدِيرًا بِهذِهِ الْمَدائِحِ الَّتِي يُثْنُونَ بِها عَلَيَّ؟ وَكَيفَ أَسْتَحِقُّها وَأَنا لَم أَبْلُ نَفْسِي (لَم أَخْتَبِرْها) مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَم أُعَرِّضْها لِامْتِحانِ إِرادتِها يَومًا مِنَ الْأَيَّامِ أَمامَ بَعضِ الْمُغْرِيَاتِ الَّتِي تَفْتِنُ الْعَالَمَ؟ فَكَيفَ أحكمُ عَلَى قُوَّةِ عَزِيمَتِها؟ وَأَنَّى لِي أَنْ أَتَعَرَّفَ صِدْقَ مَعْدِنِها وَأَصَالَةَ عُنْصُرِها، قَبْلَ أَنْ أُلْقِيَ بِها في بَوْتَقَةِ الاختِبَارِ؛ حَيْثُ تَصهرُها نارُ التَّجرِبَةِ؟ وَأَيُّ فَضْلٍ لِي فِي هذا الصَّلاحِ ما دُمْتُ لا أَرَى حَوْلِي إِلَّا طَائِفَةً مِنْ خِيارِ النَّاسِكِينَ الصَّالِحِينَ؟ لا مَعدَى لي — إِذَن — عَنِ اختِبارِ نَفْسِي وَامتِحَانِها، وَتَعرِيضِها لِمَفَاتِنِ الْحَياةِ وَمَبَاهِجِها. وَلا بُدَّ منَ الرِّحلَةِ إِلَى بَعضِ حَوَاضِرِ «الْهِنْدِ» الْكَبِيرَةِ، حَيْثُ أَقْضِي زَمَنَ التَّجْرِبَةِ، وَأَختَلِطُ بِالْبِيئاتِ الْمُخْتَلفَةِ الْأُخرَى، وَأَرَى الْحَياةَ الْمَرِحَةَ الْفَاتِنَةَ مِن قَرِيبٍ، وَأَندَمِجُ في بَعْضِ مَا تَحوِيهِ مِنْ أَسْبابِ التَّرَفِ وَأَفَانِينِ النَّعِيمِ. أُرِيدُ أَن أَلْتَقِيَ الشَّرَّ وَجْهًا لِوَجهٍ، وَأُحارِبَهُ غَيْرَ هَيَّابٍ! أُرِيدُ أَنْ أَقْهَرَهُ بِما أُوتِيتُهُ (مَلَكْتُهُ) مِنْ عَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ، وَصَوْمٍ دَائِمٍ، وَحِرْمَانٍ قَاطِعٍ لِجَمِيعِ الطَّيِّباتِ. وَلَنْ يَتَسَنَّى (لَنْ يَتَيَسَّرَ) لِي ذلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَتَذَوَّقَها، وَتَشْتَهِيهَا نَفْسِي، ثمَّ أَكُفَّ عَنْها، وَيَعْصِمَنِي مِنْ غِشْيَانِها زُهْدِي وَنُسُكِي وَتَقْوَايَ، فَتُجَنِّبَنِي إِرَادَتِي الغَلَّابَةُ الْحازِمَةُ اقْتِرَافَ الْإِثْمِ، وَالانْغِمَاسَ فِي النَّعِيمِ وَالتَّرَفِ. وَمَتَى نَجَحْتُ فِي هذا الامْتحانِ اسْتَحْقَقْتُ أَنْ أَظْفَرَ بِلَقَبِ: «صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ»، عَنْ جَدَارَةٍ وَصِدْقٍ.» وما لاحَتْ تِلْكَ الرَّغْبَةُ الْعارِضَةُ لَهُ، حتَّى أَصْبَحَتْ عزِيمَةً ثَابِتَةً، لا يَتَطَرَّقُ إِلَيْها وهَنٌ، ولا يَلْحَقُ بِها ضَعْفٌ ولا تَرَدُّدٌ. وَما لَبِثَ أَنْ أَعَدَّ لها عُدَّتَهُ؛ فَوَدَّعَ أُسْرَتَهُ، وَأَهْلَهُ وَعَشِيرَتَهُ وسافَرَ — مِنْ فَوْرِهِ (للْحالِ) — إِلى مَدِينَةِ «بَنارِسَ»، وَقَدْ سَبَقَتْهُ شُهْرَتُهُ إِلَيْها قَبْلَ أَنْ يَحُلَّ بِها، وَذاعَ نَبَأُ مَقْدِمِهِ بَيْنَ أَهْلِهَا. فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الْوُفُودُ — عَلَى أَثَرِ وُصُولِهِ — وَجَلَبُوا لَهُ الْكَثِيرَ مِنَ النَّفائِسِ وَالطُّرَفِ وَالْهَدايا عَلى اخْتِلافِها. وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْأَهْلُونَ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِتَشرِيفِ دُورِهِمْ. وَحاوَل كُلُّ وَاحِدٍ مِنهمْ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهِ وَيُسْكِنَهُ دارَهُ. وَأَحْضَرُوا لَه أَكْداسًا مِنْ طَيِّباتِ الْفَاكِهَةِ، وَلذائِذِ الْأَطْعِمَةِ الشَّهِيَّةِ. فَرَفَضَ كلَّ ما عَرَضُوهُ عَلَيْهِ قَائِلًا: «لا حاجَةَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ هذا كُلِّهِ. حَسْبي — مِنَ الْمَسْكَنِ — رُكْنٌ صَغِيرٌ قَرِيبٌ مِنْ مَعْبَدٍ أَنْزَوِي فِيهِ، وَحَسْبي — مِنَ الطَّعامِ — بَلِيلَةٌ منَ الذُّرَةِ.» وَلكِنَّ الْهَدَايَا لَمْ تَنْقَطِعْ؛ فَلَمْ تَلْبَثْ دَارُهُ أنِ ازْدَحَمَتْ بِلَذائِذِ الْفاكِهةِ وَالْأَطْعِمةِ الشَّهِيَّةِ. فَرَأَىَ أمامَهُ أكْداسًا مِنْ فاكِهةِ الْأَناناسِ، ذاتِ الرَّائِحَةِ الْحُلْوَةِ الطَّيِّبةِ، وَأكْوامًا كَثِيرَةً مِنْ فاكِهَةِ الْمَنْجُو ذاتِ الطَّعْمِ الْمَرِيء الْمُسَتساغِ، وَما إِلَى ذلِكَ مِنَ الْمَآكِلِ الْمُنْعِشَةِ، جَاثِمَةً أَمامَهُ. فَقالَ فِي نَفْسِهِ: «أَيُّ مَزِيَّةٍ أَسْتَحِقُّ بِها الْفَضْلَ وَالتَّكْرِيمَ حِينَ أَحْرِمُ نَفْسِي هذِهِ الْمُتَعَ، مَا دُمْتُ لَمْ أَذُقْ لها طَعْمًا؟ إِنَّ الْفَضِيلَةَ الْحَقَّ لا يَنالُها صاحِبُها إِلَّا إِذا حَرَمَ نَفْسَهُ مِنَ الطيِّباتِ الَّتي تَشْتَهِيها. فلَا بُدَّ — إِذَنْ — مِنْ أَنْ أَتَذَوَّقَ أَوَّلًا واحِدَةً مِنْ هذِهِ الْفاكِهةِ، وَمَتَى اسْتَمْرَأْتُها، وَاسْتَحْسَنْتُ طَعْمَها، كَفَفْتُ نَفْسِي عنها عَلَى حُبِّها (تركْتُها بِرغْم مَحَبَّتِي إيَّاها)، وَتَفَتُّحِ نَفْسي لِمَرْآها. وَحِينَئِذٍ يُصْبِحُ زُهْدِي فيها، وحِرْمانُ نَفْسي تَذَوُّقَها، صَنِيعًا مَشْكُورًا، وجِهادًا عِنْدَ رَبِّي مَأْجُورًا (يُكَافِئُنِي عَلَيْهِ).» وَثَمَّةَ (حينئِذٍ) أَمْسَكَ بِثَمَرَةٍ مِن طَيِّباتِ الْفاكهةِ، فَوَجَدَها سَائِغَةً شَهِيَّةً، فَأَكَلَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ، فَأُعْجِبَ بِلَذَائِذِ هذا الثَّمَرِ. وما لَبِثَ أن نَزَلَ عَلَى حُكْمِ الشَّرَهِ، وَأَذْعَنَ للنَّهَمِ (خَضَعَ لِلْبِطْنَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى الطَّعامِ)، فَلَمْ يُبْقِ مِنْ سِلالِ الْفاكِهةِ — عَلَى كثْرَتِها — شَيْئًا. وَلَمْ يَكُنْ هذا الاخْتِبارُ الْأَوَّلُ آخِرَ امْتِحانٍ أَخْفَقَ فِيهِ. وَلا غَرْوَ في ذلِكَ (لا عَجَبَ)؛ فَإِنَّ مَنْ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ طَائِعًا مُختارًا لِمَفاتِنِ الْحَياةِ وَمُغْرِياتِها، وَيَجْرُؤُ عَلَى أَنْ يَزُجَّ بِنَفْسِهِ فِي مُوَاجَهَةِ الشَّرِّ — بلا داعٍ — إِنَّما يُغَرِّرُ بِها أَشَدَّ تَغْرِيرٍ، وَيُعَرِّضُها لِلهَلاكِ الْمُحَقَّقِ. وَهكَذا كانَ، وَابْتَدَأَ الطَّمَعُ يُغْرَسُ فِي قَلْبِ هذا النَّاسِكِ الْوَرِعِ التَّقِيِّ. ومَرَّتِ الْأَيَّامُ، وَزادَ طُمُوحُهُ، وَاشْتَدَّتْ رَغْبَتُهُ فِي لَذائِذِ الْحَياةِ، وَارْتَقَى مِنْ رَغْبَةٍ إِلَى رَغْبَةٍ، حَتى تَوَشَّجَ طَمَعُهُ، وَاشْتَبَكَتْ أُصُولُهُ فِي قَلْبِهِ؛ فَقالَ فِي نَفْسِهِ ذاتَ يَوْمٍ: «أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ «راجا»؛ لِتَكُونَ لِي قُصُورٌ فَاخِرَةٌ، وَحَاشِيَةٌ وَخَدَمٌ، فَاسْتَجِبْ لِدُعَائِي — يا رَبِّ — جَزَاءَ ما عَبَدْتُكَ لَيْلَ نَهارَ، بِدُونِ انْقِطَاعٍ، فَلَقَدْ طالَما تَفَانَيْتُ فِي الْإِخْلاصِ وَالْخُضُوعِ لَكَ، فِي صَلَوَاتِي الَّتِي أَقَمْتُهَا آناءَ اللَّيْلِ وَأَطْرافَ النَّهارِ. فَامْنَحْنِي خاتَمَ الْمُلْكِ الَّذِي يُظْفِرُ صاحِبَهُ بِكُلِّ مَا تَصْبُو إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَتَرْغَبُ فِيهِ مِنْ لَذائِذِ الْحَياةِ وَطَيِّباتِها.» فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ — حِينَئِذٍ — «برهْما:» رَسُولُ الْخَيْرِ، وَمَلَكُ الْرَّحْمَةِ؛ بَلْ ظَهَرَ لَهُ بَدَلًا مِنْهُ «رفَانا» رَسُولُ الشَّرِّ، وَشَيْطانُ الْأَذى، فَقالَ لَهُ: «أتُرِيدُ أَنْ تُصْبِحَ «راجا»؟ فَلْيَكُنْ لَكَ ما تُرِيِدُ، فَقَدْ أَجَبْتُ دُعاءَك، وَإِنِّي مُبَلِّغُكَ مُرَادَكَ، وَمُحَقِّقٌ لَكَ رَغْبَتَكَ، ولكِنْ عَلَى شَرِيطَةٍ وَاحِدَةٍ: فَلَنْ أَمْنَحَكَ مَا تَطْلُبُ مِنْ مُلْكٍ وَاسِعِ الْغِنَى، عَرِيضِ الْجاهِ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ تُفَوِّضَ لِيَ الْأَمْرَ فيما تَمْلِكُ مِنْ حَيَوَانٍ لأُهْلِكَهُ وَأُزْهِقَ رُوحَهُ بِنَفْسِي؛ لأَنِّي أُحِبُّ الشَّرَّ وَالْأَذَى.» فَتَرَدَّدَ النَّاسِكُ في قَبُولِ هذا الشَّرْطِ لَحْظَةً، وَلكِنَّ «رَفانا» لَوَّحَ لَهُ بِبَرِيقِ الذَّهَبِ الْخاطِفِ، وَقالَ لَهُ: «كُلُّ هذا مِلْكٌ لَكَ، مَتَى أَظْفَرْتَنِي بِما طَلَبْتُهُ.» فَصاحَ «سامِيتِي» قائلًا، وَالْأَلَمُ يَحِزُّ فِي نَفْسِهِ: «لَكَ ما أَمْلِكُ مِنْ حَيَوَانٍ، فَاصْنَعْ بِهِ ما شِئْتَ.» وَمَرَّتِ الْأَيَّامُ، وَتَجَدَّدَتْ مَطامِعُهُ، وَزادَتْ رَغَبَاتُهُ؛ فَاتَّجَهَ لِرَسُولِ الشَّرِّ «رَفانا» قائلًا: «أُرِيدُ أَنْ أُصْبِحَ إِمْبِراطُورًا. أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ لِي أَكبَرُ جَيْشٍ فِي الدُّنْيا. أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ لِيَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ. أُرِيدُ أَنْ أُصْبِحَ مَلِكَ مُلُوكِ «الْهِنْدِ» جَمِيعًا، لا يُنَازِعُنِي فِي سُلْطَانِي كائِنٌ كانَ.» فَأَجابَهُ «رَفانا»: «فِي قُدْرَتِي أَنْ أَمْنَحَكَ جَمِيعَ ما تَطْلُبُ، وَلكِنْ عَلَى أَنْ تُفَوِّضَ لِيَ الْأَمْرَ فِي رَعِيَّتِكَ، وَتَهَبَ لِيَ حَيَاةَ شَعْبِكَ وَخَدَمِكَ؛ لِأَعِيَثَ فِي الْبِلادِ فَسادًا، وَأُشِيعَ فِي جُمْهُورِهِمُ الطَّاعُونَ.» فَقالَ «سامِيتي» مُتَنَهِّدًا مَحْزُونًا: «أَلَيْسَ لِي مَعْدى وَلَا مَفَرٌّ عَنْ بَذْلِ هذِهِ التَّضْحِياتِ، لِأَفُوزَ بِما أُرِيدُ؟» فَأَجابَهُ «رَفانا»: «لا شَيْءَ يَضْطَرُّكَ إِلَى بَذْلِ الْفِداء؛ فَابْقَ — كما أَنْتَ — أَمِيرًا، وَانْظُرْ إِلَى الْإِمْبِراطُورِ (مَلِكِ الْمُلُوكِ) وَما يَكْتَنِفُهُ (ما يُحِيطُ بِهِ) مِنْ أُبَّهَةٍ وَعَظَمَةٍ وَبَهْجَةٍ، وَلْتَمْتَلِئْ نَفْسُكَ حَسْرَةً حِينَ تَرَى جِيَادَهُ الْمُسَوَّمَةَ (خَيْلَهُ الرَّشِيقَةَ الْفَاخِرَةَ)، وَتَشْهَدُ مَوْكِبَهُ الْحاشِدَ، وَأَفْيَالَهُ الضَّخْمَةَ، وَقَدْ وَطِئَتْكَ وَداسَتْكَ بِأَقْدامِها، أَوْ أثارَتْ فِي وَجْهِكَ ذَرَّاتٍ مِنَ الْغُبَارِ وَرَذاذًا مَنَ الطِّيْنِ.» فَصاحَ «سامِيتِي»: «كَلَّا، كَلَّا، لَا أُرِيدُ أَنْ أُقْهَرَ، وَلا أُحِبُّ أن أُغْلَبَ أَبَدًا؛ بَلْ أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ أَقْوَى إنْسانٍ فِي عَصْرِي أَنْ أُصْبِحَ إِمْبِرَاطُورَ «الْهِنْدِ» (مَلِكَ مُلُوكِها). مَا دُمْتَ مُصِرًّا عَلَى رَأْيِكَ فَاصْنَعْ بِشَعْبِي مَا بَدا لَكَ.» فابْتَهَجَ «رَفانا»: رَسُولُ الشَّرِّ، وَشَيْطانُ الْأَذَى، وَقَهْقَهَ ضاحِكًا مَسْرُورًا بِما ظَفِرَ بِهِ مِنْ نجاحٍ وَتَوْفِيقٍ. وَما ارْتَقَى «سامِيتِي» عَرشَه الْإِمْبِراطُورِيَّ، حَتَّى أَشاعَ «رَفانا» فِي شَعْبِهِ الْوَبَأُ، وَنَشَرَ الطَّاعُونَ بَيْنَهُمْ؛ فَأَهْلَكَ النَّاسَ، وَحَصَدَهُمْ وُحْدانَا وَزَرافاتٍ (أَفْناهُمْ أَفْرادًا وَجَماعاتٍ)، دُونَ أَنْ يُبَالِيَ «سامِيتِي» آلامَهُم وَمَصارِعَهُمْ. وَهكذا اعْتَصَمَ «سامِيتِي» (احْتَمَى) بِقَصْرِه الْإِمْبِراطُورِيِّ الْفَاخِرِ المَنيف (الْعالي)، الَّذِي يَتَلَأْلَأُ بِالذَّهَبِ الْخالِصِ وَالْأَحْجارِ الْكَرِيمَةِ، وَأَصْبَحَ إِمْبِراطورًا مُسَيْطِرًا عَلَى الْعِبادِ، يَهَابُهُ النَّاسُ، وَيُمَجِّدُ قُوَّتَهُ الْجُنُودُ، وَيَهْتِفُونَ لَهُ مِلْءَ حَناجِرِهِمْ. وَاشْتَدَّ عُجْبُهُ وَخُيلاؤُهُ، وَتَضاعَفَ زَهْوُهُ وَكِبْرِياؤُهُ، وَشَغَلَتْهُ لِذَائِذُ الدُّنْيا، وَأَنْساهُ مَتَاعُ الْغُرُورِ آلَامَ النَّاسِ وَمَصائِبَهُمْ، وَأَغْرَاهُ ضَعْفُهُمْ؛ فَطَغَى وَتَجَبَّرَ، وَتَمادَى فِي ظُلْمِهِ، بَعْدَ أَنْ خُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ أَصْبَحَ إِلَهًا وَالنَّاسُ لَهُ عَبِيدٌ. وَذا صَباحٍ فَكَّرَ فِي نَفْسِهِ مَلِيًّا (تَأَمَّلَ طَوَيلًا)، وَقَدْ أَنْساهُ حُبُّ الْحَياةِ كُلَّ شَيْءٍ؛ فَقالَ مُتَحَسِّرًا: «وَا أَسَفا عَلَيْكَ يا «سامِيتِي»! إِنَّ الْمَوْتَ سَيَخْطَفُكَ كما خَطَفَ غَيْرَكَ مِنْ قَبْلُ، وَلَنْ يُنْقِذَكَ مِنْ غائِلَتِهِ شَيْءٌ، وَسَتَكُونُ نِهايتُكَ الْفَناء، وَتَرِدُ حَوْضَ الْمَنِيَّةِ (الْمَوْتِ)، الَّذِي وَرَدَهُ الْأَنَاسِيُّ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ. فَكَيْفَ تُطِيقُ هذا الْمَصِيرَ؟ كَيْفَ تَرْضَى لنَفْسِكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْفَانِينَ الْهالِكِينَ؟ كَلَّا، لا يُطِيقُ هذِه الْخاتِمَةَ الْمُحْزِنَةَ الْفَاجِعَةَ عاقِلٌ، وَلا يَرْضاها لِنَفْسِهِ راشِدٌ.» ثُمَّ صَرَخَ «سامِيتِي» يَدْعُو «رَفانا» راجِيًا ضارِعًا أَنْ يَهَبَ لَهُ بَقَاءَ التَّأْبِيدِ (يَمْنَحَهُ عَيْشَ الْخُلُودِ). فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ «رَفانا»، وَقَالَ لَهُ وَهُوَ يُقَطِّبُ حَاجِبَهُ: «ماذا تُرِيدُ؟ أَلَمْ تَظْفَرْ مِنَ الْأَمَانِيِّ بِما لَمْ يَظْفَرْ بِهِ أَحَدٌ؟ هَلْ بَقِيَتْ لَكَ رَغْبَةٌ لَمْ تُقْضَ بَعْدُ؟» فَقالَ «سامِيتِي»: «نَعمْ، أُرِيدُ أَنْ تَهَبَ لِيَ الْخُلُودَ!» فَأَجابَهُ: «إِذَنْ تُرِيدُ أَنْ تَشْرَكَ إِلَهَكَ فِي صِفَةِ الْبَقاءِ الَّتِي تَفَرَّدَ بِها؟ هذا أَمْرٌ عَزِيزُ الْمَنَالِ، بَعِيدُ الْإِدْراك. وَلكِنِّي أُحَقِّقُهُ لَكَ، إذا قَبِلْتَ شَيْئًا وَاحِدًا، وَهُوَ أَنْ تَرْضَى — فِي هذِهِ الْمَرَّةِ — بِهَلاكِ أَهْلِكَ وَعَشِيرَتِكَ، وَأَنْ تَكُونَ مَصَارِعُهُمْ علَى يَدَيْكَ.» فَقالَ «سامِيتِي»: «أَمَّا هذا فَلا سَبِيِلَ إِلَيْهِ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنِّي أَبَدًا.» فَأَجابَهُ «رَفانا» ساخِرًا: «دَعْنِي — إِذَنْ — هادِئًا، وَلا تُزْعِجْنِي بِنِدائِكَ إِيَّايَ مَرَّةً أُخْرَى.» وَمَرّتِ السُّنُونَ، وَانْقَضَتِ الْأَعْوَامُ مُتَعَاقِبَةً، وَظَلَّ بَطَلُ قِصَّتِنا «سامِيتِي» يُقاوِمُ ذلِكَ الْإِغْرَاءَ؛ وَلكِنَّ الشَّيْخُوخَةَ لَمْ تَلْبَثْ أَنْ أَدْرَكَتْهُ، تَسْعَى إِلَيْهِ بِخُطُواتٍ مُسْرِعَةٍ حَثِيثَةٍ. فَلَمَّا شَعَرَ بِدُنُوِّ أَجَلِهِ (قُرْبِ مَوْتِهِ)، وَأَحَسَّ أَنَّ شَبَحَ الْمَوْتِ يَقْتَرِبُ منْهُ، وَيَجِدُّ فِي الْبَحْثِ عَنْهُ، أَنْسَتْهُ أَنَانِيَّتُهُ (حُبُّهُ ذاتَهُ) كُلَّ شَيْءٍ؛ فَصاحَ يَدْعُو «رَفانا»، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَمَّا يُرِيدُ. فَقالَ لَهُ: «أَهْلِكْ مَنْ شِئْتَ منْ عَشِيرَتِي، وَهَيِّئْ لِيَ الْخُلُودَ بَعْدَ ذَلِكَ.» وَهُنا سَمِعَ «سامِيتِي» هاتِفًا يَهْتِفُ بِهِ مِنَ السَّمَاءِ: «لَقَدْ كَثُرَتْ ذُنُوبُكَ وَآثَامُكَ، وَامْتَلَأَ الْكَيْلُ بِخَطاياكَ، وَاسْتَحْقَقْتَ اللَّعْنَةَ جَزَاءَ ما أَسْرَفْتَ فِي ضَلالِكَ وَبَغْيِك. لَقَدْ كانَ فِي قُدْرَتِكَ أَنْ تَعِيشَ أَسْعَدَ مَخْلُوقٍ: تَحُفُّكَ الْمَهابَةُ وَالْجَلالُ. وَلكِنَّكَ — وَقَدِ انْزَلَقْتَ مَرَّةً فِي طَرِيقِ الشَّرِّ — لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُقَاوِمَ تَيَّارَهُ الْجَارِفَ؛ فَدَفَعَتْكَ الْخُطْوَةُ الْأُولَى إِلَى ما بَعْدَها مِنْ خُطُوَاتٍ، انْتَهَتْ بِكَ إِلَى هذِهِ الْخاتِمَةِ الْمُحْزِنَةِ، فَلَمْ تَسْتَطِعِ الْوُقُوفَ في ذلِكَ الْمُنْحَدَرِ الْهاوِي السَّحِيق. وَأَسْلَمَتْكَ غَيَّتُكَ وَضَلالُكَ إِلَى مَا تَرَاهُ، فَسَوَّلَتْ لَكَ أَنْ تَقْتَرِفَ إِثْمًا بَعْدَ إِثْمٍ؛ فَلَمْ تَتَوَرَّعْ عَنِ ارْتِكابِ كَبِيرَةٍ مَهْما عَظُمَتْ. أَتَصْبُو إِلى الْخُلُودِ نَفْسُكَ؟ حَسَنًا. سَتَظْفَرُ بِطِلْبَتِكَ هذِهِ، وَسَتَبْقَى لَكَ وَلِأُسُرَتِكَ الْحَياةُ أَبَدًا. ما دامَ قَلْبُكَ فِي مِثْلِ صَلابَةِ الصَّخْرَةِ، فَلْيَكُنْ جِسْمُكَ الْآدَمِيُّ صَخْرَةً أَيْضًا، مِثْلَ قَلْبِكَ. أَلَا وَلْتُمْسَخْ مَع جَمِيعِ مَنْ ضَحَّيْتَ بِهِمْ مِنْ أَهْلِكَ تَمَاثِيل مِنَ الْحِجارَةِ، وَلِيَنامُوا جَمِيعًا فِي سَلامٍ وَادِعِينَ، أَمَّا أَنْتَ فَلْتَبْقَ رُوحُكَ خَالِدَةً فِي تِمْثالِكَ الصَّخْرِيِّ؛ لِتكُونَ مَثَلًا نافِعًا، وَعِظَةً نَاطِقَةً لِمَنْ يَقْتَفِي آثارَكَ مِنَ الْباغينَ الظَّالِمِينَ، وَيَرتَضِي سُنَّتَكَ (يختارُ طَرِيقَتَكَ) مِنَ الْعادِينَ (الْمُعْتَدِين).» فَقالَ مَلِكُ «بنارِسَ»: «ما أَعْجَبَ ما رَوَيْتَ — أَيُّها الْحَكِيمُ الْعَظِيمُ — فَإِنَّ ما قَصَصْتَهُ عَلَيْنا مِنْ شَرَهِ «سامِيتِي» وأَنَانِيَّتِهِ، وَتَفَانِيهِ في الْإِقْبالِ عَلَى لَذائِذِ الدُّنْيا الْخادِعَةِ، وَما إِلَى ذلِكَ مِنَ النَّقائِصِ الْمَرْذُولَةِ: لا يَقِلُّ غَرَابَةً عَمَّا حَدَّثْتُكُمْ بِهِ مِنْ وَفَاء «مَلَكِ الدَّوْحَةِ»، وَإِنْكَارِهِ ذَاتَه، وُجُودِهِ بِنَفْسِهِ، وَما إِلَى هذا منَ الْمَزَايا النَّبِيلَةِ.» لَقَدْ رَأَيْنَا مِنْ شَنَاعَةِ «سَاكِنِ الصَّخْرَةِ» وَفَعَالِه الذَّميمِ، بِقَدْرِ ما عَرَفْنا مِنْ نَبالَةِ «ساكِنِ الدَّوْحَةِ» وَخُلُقِهِ الْكَرِيمِ. وَإِنَّ فِي هاتَيْنِ الْقِصَّتَيْنِ — عَلَى وَجازَتِهِما (بِرَغْمِ اخْتِصارِهما)، وَاخْتِلَافِ قَصْدَيْهما، وَتَبَايُنِ غَايَتَيْهِما — لدَرْسًا بَلِيغًا نَافِعًا لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَحِكمةً سَامِيَةً لِمَنْ وَعَى، وَآيَةً نَاطِقَةً لِمَنِ اعْتَبَرَ.»
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/51617146/
العَرندسُ
كامل كيلاني
يحكي لنا الكيلاني في هذه القصة عن «العرندس» الرجل الأحدب الذي يحب الغناء والسمر والذي مرّ في أحد الأيام بدكان الخياط فاصطحبه الخياط إلى بيته، وعندما كان العرندس يتكلم أثناء الأكل وقف الطعام في حلقه فاختنق ومات، فقرر الخياط التخلص منه بوضعه عند بيت الطبيب، الذي خاف فحمله ووضعه على سطح بيت التاجر الذي أيقن أنه السبب في هلاكه، فحمله ووضعه أمام مسجد، ليظن الشرطي أن مؤذن المسجد هو القاتل.
https://www.hindawi.org/books/51617146/1/
العَرَنْدَسُ
كانَ — فِي قَدِيمِ الزَّمانِ — خَيَّاطٌ ذَكِيٌّ اسْمُهُ: زَقْزُوقٌ. وَكانَ يَعِيشُ مَعَ زَوْجِهِ عِيشَةً راضِيَةً (أَيْ: حَياةً طَيّبَةً سَعِيدَةً)، وَلا يَدَّخِرُ وُسْعًا (أَيْ: كانَ يَعْمَلُ كُلَّ ما يَسْتَطِيعُ) فِي سَبِيلِ إِرْضائِها، لِأَنَّها كانَتْ لا تَدَّخِرُ وُسْعًا فِي سَبِيلِ إِرْضائِهِ. وَقَدْ عاشا مَعًا فِي صَفاءٍ (أَيْ: خُلُوٍّ مِنَ الْهُمُومِ) وَابْتِهاجٍ (أَيْ: فَرَحٍ وَسُرُورٍ). وَفِي ذاتِ يَوْمٍ كانَ زَقْزُوقٌ الْخَيَّاطُ جالِسًا فِي دُكَّانِهِ يَخِيطُ بَعْضَ الثِّيابِ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ أَحْدَبُ أَيْ: فِي ظَهْرِهِ جُزْءٌ خارِجٌ كَسَنامِ الْجَمَلِ، وَاسْمُهُ: الْعَرَنْدَسُ. وَكانَ ذَلِكَ الْأَحْدَبُ (أَيِ: الرَّجُلُ الَّذِي ارْتَفَعَ عَظْمُ ظَهْرِهِ) مُبْتَهِجًا راضِيًا بِعِيشَتِهِ عَلَى فَقْرِهِ. فَجَلَسَ قَرِيبًا مِنْ دُكَّانِ زَقْزُوقٍ الْخَيَّاطِ، وَظَلَّ يُغَنِّي. فَابْتَهَجَ الْخَيَّاطُ بِغِنائِهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَصْحَبَهُ إِلَىِ بَيْتِهِ، لِيُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَيْهِ وَعَلَى زَوْجِهِ العَزِيزَةِ. فَفَرِحَ الْعَرَنْدَسُ بِذَلِكَ، وَاسْتَجابَ لِدَعْوَتِهِ مَسْرُورًا. وَلَمَّا جاءَ الْمَساءُ أَغْلَقَ الْخَيَّاطُ دُكَّانَهُ، وَذَهَبَ إِلَى بَيْتِهِ مَعَ الْعَرَنْدَسِ. وَظَلَّ الْعَرَنْدَسُ يُطْرِبُهُمْ بِغِنائِهِ حَتَّى جاءَ وَقْتُ الْعَشاءِ، فَجَلَسَ زَقْزُوقٌ وَزَوْجُهُ وَالْعَرَنْدَسُ عَلَى الْمائِدَةِ يَتَعَشَّونَ. وَكانَ الْعَرَنْدَسُ يَقُصُّ عَلَيْهِما — فِي أَثْناءِ الْأَكْلِ — قِصَصًا فُكاهِيَّةً مُشَوِّقَةً (أَيْ: يَشْتاقُ إلَيْها مَنْ يَسْمَعُها)، وَيَأْكُلُ فِي شَرَهٍ عَجِيبٍ؛ أَعْنِي: يُقْبِلُ عَلَى الطَّعامِ وَيَلْتَهِمُهُ بِكَثْرَةٍ يَتَعَجَّبُ مِنْها مَنْ يَراها. وَكانَ يَقْذِفُ بِالسَّمَكِ فِي جَوْفِهِ، وَهُوَ يَتَحَدَّثُ إِلَيْهِما. وَقَدْ أَنْساهُ الشَّرَهُ (أَيِ: الْحِرْصُ الشَّدِيدُ عَلَى الْأَكْلِ) وَاجِبَ الْحَذَرِ؛ فَوَقَفَتْ سَمَكَةٌ صَغِيرَةٌ فِي حَلْقِهِ فَخَنَقَتْهُ، وَماتَ مِنْ فَوْرِهِ. وَرَأَى الْخَيَّاطُ وَزَوْجُهُ ما حَلَّ بِالْعَرَنْدَسِ، فَخافا سُوْءَ الْعاقِبَةِ. وَفَكَّرا طَوِيلًا فِي وَسِيلَةٍ (أَيْ: حِيلَةٍ) يَتَخَلَّصانِ بِها مِنْ هَذا الْمَأْزِقِ (أَيْ: الْمَضِيقِ). ثُمَّ قَرَّ رَأْيُهُما عَلَى أَنْ يَحْمِلا جُثَّتَهُ إِلَى طَبِيبٍ قَرِيبٍ مِنْ بَيْتِهِما. فَلَمَّا بَلَغا بَيْتَ الطَّبِيبِ قَرَعا بابَهُ (أَيْ: نَقَرَهُ كِلاهُما)، فَنَزَلَتْ إِلَيْهِمَا خادِمٌ عَجُوزٌ، وَسَأَلَتْهُما عَمَّا يُرِيدانِهِ. فَقالَ زَقْزُوقٌ: «اصْعَدِي إِلَى سَيِّدِكِ الطَّبِيبِ، وَخَبِّرِيهِ أَنَّ مَعَنا مَرِيضًا مُشْرِفًا عَلَى الْمَوْتِ، لِيُسْعِفَهُ بِالْعِلاجِ». فَصَعِدَتِ الْخادِمُ إِلَى سَيِّدِها، وَأَيْقَظَتْهُ مِنْ نَوْمِهِ، وَقَصَّتْ عَلَيْهِ ما سَمِعَتْ. وَلَمْ يَشَأْ زَقْزُوقٌ وَزَوْجُهُ أَنْ يُضِيعا هَذِهِ الْفُرْصَةَ، فَحَمَلا جُثَّةَ الْعَرَنْدَسِ، وَصَعِدا السُّلَّمَ، وَوَضَعاها قَرِيبًا مِنْ بابِ الْغُرْفَةِ، وَعادا مُسْرِعَيْنِ إِلَى بَيْتِهِما. وَخَرَجَ الطَّبِيبُ مِنْ غُرْفَتِهِ مُسْرِعًا، ثُمَّ طَلَبَ مِنْ خادِمِهِ أَنْ تُحْضِرَ الْمِصْباحَ، وَكانَ الظَّلامُ حالِكًا (أَيْ: شَدِيدَ السَّوادِ)، فَلَمْ يَرَ جُثَّةَ الْعَرَنْدَسِ. فَصَدَمَها صَدْمَةً عَنِيفَةً، فَهَوَتْ إِلَى أَسْفَلِ السُّلَّمِ. وَأَدْرَكَ الطَّبِيبُ خَطَأَهُ، فَنَادَى خادِمَهُ أَنْ تُسْرِعَ فِي إِحْضارِ الْمِصْباحِ. وَما كادَ الطَّبِيبُ يَرَى أَمامَهُ جُثَّةً هامِدَةً لا حَراكَ بِها (أَيْ: ساكِنَةً لا تَتَحَرَّكُ)، حَتَّى امْتَلَأَ قَلْبُهُ رُعْبًا وَهَلَعًا (أَيْ: خَوْفًا عَظِيمًا وَفَزَعًا)، وَأَيْقَنَ أَنَّ تَسَرُّعَهُ كانَ سَبَبًا فِي هَلاكِ ذَلِكَ الْمَرِيضِ. وَحارَ فِي أَمْرِهِ: ماذا يَصْنَعُ؟ وَكَيْفَ يَتَخَلَّصُ مِنْ هَذا الْمَأْزِقِ الْحَرِجِ (أَيْ: الضَّيِّقِ)، حَتَّى لا يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلْهَلاكِ؟ جَزِعَ الطَّبِيبُ (أَيْ: اشْتَدَّ حُزْنُهُ) وَارْتَبَكَ (أَيِ: اضْطَرَبَ)، فَذَهَبَ إِلَى زَوْجِهِ، وَقَصَّ عَلَيْها ما حَدَثَ لَهُ. فَاضْطَرَبَتْ وَقالَتْ لَهُ: «لا بُدَّ مِنْ إِخْراجِ هَذِهِ الْجُثَّةِ الْمَشْئُومَةِ مِنْ بَيْتِنا، وَإِلَّا اتُّهِمْنا بِقَتْلِ صاحِبِها، وَكانَ الْمَوْتُ جَزاءَنا عَلَى هَذِهِ التُّهْمَةِ الشَّنْعاءِ (أَيِ: الْقَبِيحَةِ)». وَبَعْدَ تَفْكِيرٍ طَوِيلٍ اهْتَدَتِ الزَّوْجُ الذَّكِيَّةُ إِلَى حِيلَةٍ بارِعَةٍ (أَيْ: مُمْتازَةٍ) لِلْخُرُوجِ مِنْ هَذا الْمَأْزِقِ الْحَرِجِ. فَتَعاوَنَتْ هِيَ وَالطَّبِيبُ وَالْخادِمُ عَلَى حَمْلِ جُثَّةِ الرَّجُلِ إِلَى سَطْحِ جارِهِمُ التَّاجِرِ، حَيْثُ أَسْنَدُوا الْجُثَّةَ إِلَى الْحائِطِ وَعادُوا إِلَى بَيْتِهِمْ آمِنِينَ. وَبَعْدَ قَلِيلٍ عادَ التَّاجِرُ إِلَى بَيْتِهِ — وَكانَ قَدْ دُعِيَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ إِلَى حَفْلَةِ عُرْسٍ — فَلَمَحَ رَجُلًا واقِفًا عَلَى سَطْحِ مَنْزِلِهِ. فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ، وَأَهْوَى (أَيْ: نَزَلَ وَانْقَضَّ) عَلَيْهِ بِعَصاهُ الْغَلِيظَةِ. وَقَدْ حَسِبَهُ لِصًّا جاءَ لِيَسْرِقَ مِنْ مَخْزَنِهِ، فَقالَ لَهُ غاضِبًا، وَهُوَ يَضْرِبُهُ بِعَصاهُ: «لَقَدْ كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ الْفِيرانَ وَبَناتِ عِرْسٍ هِيَ الَّتِي تَسْرِقُ مِنْ مَخْزَنِي، فَإِذا بِكَ أَنْتَ الَّذِي يَتَسَلَّلُ إِلَيْهِ فِي خُفْيَةٍ (أَيْ: يَحْضُرُ دُونَ أَنْ يَراهُ أَحَدٌ) كُلَّ لَيْلَةٍ!» ما كادَتِ الْجُثَّةُ تَهْوِي (أَيْ: تَسْقُطُ) عَلَى الْأَرْضِ، حَتَّى أَسْرَعَ إِلَيْها التَّاجِرُ، فَرَآها بِلا حَراكٍ. فَامْتَلَأَ قَلْبُهُ ذُعْرًا (أَيْ: خَوْفًا)، وَحَسِبَ أَنَّ عَصاهُ هِيَ السَّبَبُ فِي قَتْلِ هَذا الرَّجُلِ. فارْتَبَكَ وَأَيْقَنَ بِالْهَلاكِ جَزاءَ ما صَنَعَ. فَفَكَّرَ التَّاجِرُ فِي حِيلَةٍ يَتَخَلَّصُ بِها مِنْ هَذا الْمَأْزِقِ، فَلَمْ يَجِدْ أَمامَهُ إِلَّا أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَيَتَخَلَّصَ مِنْ جُثَّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ. فَأَسْرَعَ فِي تَنْفِيذِ خُطَّتِهِ (أَيْ: تَدْبِيرِها وَتَرْتِيبِها)، وَحَمَلَهُ إِلَى دُكَّانٍ قَرِيبٍ مِنْ بَيْتِهِ. ثُمَّ أَسْنَدَهُ إِلَى حائِطِ الدُّكَّانِ، وَعادَ إِلَى بَيْتِهِ، وَهُوَ لا يَكادُ يُصَدِّقُ بِنَجاتِهِ. وَكانَ هَذا الدُّكَّانُ قَرِيبًا مِنْ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ الْكَبِيرِ. وَبَعْدَ قَلِيلٍ خَرَجَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ بَيْتِهِ — وَهُوَ عَلَى بُعْدِ خُطَواتٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ — لِيُؤَذِّنَ أَذانَ الْفَجْرِ كَعادَتِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ. وَكانَ ضَعِيفَ الْبَصَرِ، فَلَمْ يَرَ الْعَرَنْدَسَ. وَداسَ قَدَمَهُ، فَارْتَمَى جِسْمُ الْعَرَنْدَسِ عَلَيْهِ. فَخُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّ لِصًّا يُرِيدُ أَنْ يَفْتِكَ بِهِ، فَانْهالَ عَلَيْهِ ضَرْبًا وَلَكْمًا، وَصاحَ يَسْتَغِيثُ بِالنَّاسِ وَالشُّرْطَةِ (أَيْ: عَساكِرِ الطَّرِيقِ). فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ الشُّرْطِيُّ، وَأَمْسَكَ بِالْعَرَنْدَسِ، فَرَآهُ جُثَّةً هامِدَةً؛ فَقَبَضَ عَلَى الْمُؤَذِّنِ، وَساقَهُ إِلَى الْمَخْفَرِ (أَيْ: دارِ الشُّرْطَةِ وَمَرْكَزِ عَساكِرِ الطَّرِيقِ وَضُبَّاطِ الْأَمْنِ). وَلَمَّا جاءَ الصَّباحُ عُرِضَ أَمْرُهُ عَلَى الْقاضِي، فَأَمَرَ بِصَلْبِهِ جَزاءً لَهُ عَلَى قَتْلِهِ الْعَرَنْدَسَ. وَذاعَ الْخَبَرُ فِي أَنْحاءِ الْمَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ لِيُشاهِدُوا صَلْبَ الْمُؤَذِّنِ الْمِسْكِينِ. وَوَقَفَ الْقاضِي وَرِجالُ الشُّرْطَةِ أَمامَ الْمِشْنَقَةِ، وَأَمَرَ الْقاضِي بِإِحْضارِ الْمُؤَذِّنِ مِنَ السِّجْنِ، فَأَحْضَرُوهُ — فِي الْحالِ — وَوَضَعُوا الْحَبْلَ فِي عُنُقِهِ، فَأَسْرَعَ التَّاجِرُ إِلَى الْجَلَّادِ، وَصاحَ فِيهِ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «تَمَهَّلْ أَيُّها الرَّجُلُ؛ فَإِنَّ هَذا الْمُؤَذِّنَ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا، بَلْ أَنا وَحْدِي الْقاتِلُ. فَلا تَأْخُذُوا الْبَرِيءَ بِذَنْبِ الْمُسِيءِ!» فَسَأَلَهُ الْقاضِي عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، فَأَخْبَرَهُ بِقِصَّتِهِ مَعَ الْعَرَنْدَسِ مِنْ أَوَّلِها إِلَى آخِرِها، وَكَيْفَ قَتَلَهُ بِعَصاهُ، ثُمَّ حَمَلَ جُثَّتَهُ وَوَضَعَها قَرِيبًا مِنَ الْمَسْجِدِ. فَاقْتَنَعَ الْقاضِي بِصِحَّةِ ما قالَ التَّاجِرُ، وَأَصْدَرَ أَمْرَهُ بِصَلْبِهِ وَتَبْرِئَةِ الْمُؤَذِّنِ (أَيْ: حَكَمَ بِبَراءَتِهِ وَتَخْلِيصِهِ مِنَ الذَّنْبِ). وَما كادَ الْجَلَّادُ يَضَعُ الْحَبْلَ فِي عُنُقِ التَّاجِرِ وَيَهُمُّ بِصَلْبِهِ، حَتَّى أَسْرَعَ إِلَيْهِ الطَّبِيبُ. وَقَدْ أَبَى عَلَيْهِ ضَمِيرُهُ أَنْ يُؤْخَذَ التَّاجِرُ بِذَنْبِهِ، فَصاحَ فِي الْجَلَّادِ: «حَذارِ (أَيْ: احْذَرْ) أَنْ تَقْتُلَ التَّاجِرَ، فَهُوَ بَرِيءٌ، وَلَمْ يَقْتُلْ هَذا الرَّجُلَ أَحَدٌ غَيْرِي». ثُمَّ قَصَّ عَلَى الْقاضِي قِصَّتَهُ، فَأَمَرَ بِصَلْبِهِ. وَما كادَ الْجَلَّادُ يَضَعُ الْحَبْلَ فِي عُنُقِ الطَّبِيبِ، وَيَهُمُّ بِصَلْبِهِ، حَتَّى أَسْرَعَ إِلَيْهِ الْخَيَّاطُ، وَصاحَ قائِلًا: «هَذا الرَّجُلُ بَرِيءٌ، وَإِنَّما أَنا وَحْدِيَ الْقاتِلُ». ثُمَّ قَصَّ عَلَى الْقاضِي قِصَّتَهَ، فَرَأَى مِنَ الْحَزْمِ (أَيْ: مِنَ الْحِكْمَةِ وَحُسْنِ التَّصَرُّفِ) أَنْ يُرْجِئَ (أَيْ: يُؤَخِّرَ) حُكْمَهُ قَلِيلًا. وَعَجِبَ الْقاضِي مِنْ شَجاعَةِ التَّاجِرِ وَالطَّبِيبِ وَالْخَيَّاطِ، وَدَهِشَ مِنْ غَرابَةِ ما رَأَى. وَرَفَعَ قِصَّتَهُمْ إِلَى السُّلْطانِ، فَاشْتَدَّتْ دَهْشَتُهُ مِنْها، وَحَضَرَ بِنَفْسِهِ — وَمَعَهُ وَزِيرُهُ — وَطَلَبَ إِلَى الْمُتَّهَمِينَ أَنْ يَقُصُّوا عَلَيْهِ قِصَّتَهُمْ الْعَجِيبَةَ، فَأَخْبَرُوهُ بِكُلِّ ما حَدَثَ لَهُمْ. فَالْتَفَتَ الْوَزِيرُ إِلَى السُّلْطانِ، وَقالَ لَهُ: «أَيَأْذَنُ لِي مَوْلايَ أَنْ أَرَى هَذا الْأَحْدَبَ؟» فَلَمَّا أَحْضَرُوا الْعَرَنْدَسَ أَمامَهُ، أَنْعَمَ (أَيْ: دَقَّقَ) النَّظَرَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قالَ لِلسُّلْطانِ مُبْتَسِمًا: «مِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ هَذا الرَّجُلَ لا يَزالُ حَيًّا إِلَى الْآنَ!» ثُمَّ لَكَمَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بِجُمْعِ كَفِّهِ (أَيْ: بِقَبْضَةِ يَدِهِ) لَكْمَةً قَوِيَّةً، فَقَفَزَتِ السَّمَكَةُ مِنْ حَلْقِهِ، وَأَفاقَ مِنْ فَوْرِهِ. فَابْتَهَجَ السُّلْطانُ بِهَذِهِ الْخاتِمَةِ السَّارَّةِ، وَأُعْجِبَ بِشَجاعَةِ الْمُتَّهَمِينَ وَوَفائِهِمْ، فَأَمَرَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ بِمُكافَأَةٍ كَبِيرَةٍ عَلَى صِدْقِهِ وَمُرُوءَتِهِ (أَيْ: طِيبِ نَفْسِهِ وَكَرَمِ صِفاتِهِ)، وَاتَّخَذَ الْعَرَنْدَسَ نَدِيمًا (أَيْ: مُحَدِّثًا وَمُسامِرًا) لَهُ مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/91708090/
أحمد بن طولون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «أحمد بن طولون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. ويجمع هذا العمل بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية الهامة التي وقعت في عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة في أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، في العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان في هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التي اعتمد في ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
https://www.hindawi.org/books/91708090/0.1/
أبطال الرواية
null
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/91708090/
أحمد بن طولون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «أحمد بن طولون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. ويجمع هذا العمل بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية الهامة التي وقعت في عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة في أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، في العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان في هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التي اعتمد في ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
https://www.hindawi.org/books/91708090/0.2/
مراجع رواية أحمد بن طولون
تاريخ المقريزي. الخريدة النفيسة. تاريخ التمدُّن الإسلامي.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/91708090/
أحمد بن طولون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «أحمد بن طولون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. ويجمع هذا العمل بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية الهامة التي وقعت في عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة في أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، في العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان في هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التي اعتمد في ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
https://www.hindawi.org/books/91708090/1/
دميانة
خرجتْ دميانة من منزل أبيها بقرية «طاء النمل» بمديرية الدقهلية — في أصيل يومٍ من أيام سنة ٢٦٤ للهجرة، ومشتْ تسترقُ الخُطى في البساتين، تلتمس كنيسةً هناك بُنيت لصلاة أهل تلك الناحية والقُرى المجاورة. وكانت دميانة تذهب للصلاة فيها كل صباح — وخاصة أيام الآحاد والأعياد — لكنها أرادت الذهاب في ذلك الأصيل لتخلو بقسيسها وتسر إليه أمرًا خالج ضميرها وأقلق راحتها، وهي ترى في الاعتراف راحةً أو مشورة أو مؤاساة، ولو كانت أمها على قيد الحياة لاستغنت بالشكوى إليها عن مُكاشفة القسيس. وأما أبوها مرقس فلم تكن ترتاح لمصارحته بما يَجُول في خاطرها؛ لاختلاف ما بين ميولهما وطباعهما؛ إذ كانت هي تقيةً ورعة تصلي كل صباح وكان لا يعبأُ بالصلاة ولا يدخل الكنيسة إلا نادرًا وكانت تكره الخمر في حين يتعاطاها هو مسرفًا في المجون لا يهمه إلا متاع دُنياه والتأنق في الطعام والشراب. وكانت دميانة طفلةً حين تُوفيت أُمها. فلم يتزوج أبوها بعدها لا احتفاظًا بعهد الزوجة الوفية ولا مراعاة لوحيدته؛ ولكنه رأى الزواج قيدًا شاغلًا فعمد إلى التسري واقتناء الجواري اقتداءً بسراة المسلمين في ذلك العهد — عهد البذخ والترف والقصف شأن بعض الأقباط من أهل الثروة في ذلك الحين. كان مرقس من مُلَّاك الضياع وأهل الثروة، لا يشغله طلب الرزق عن شيء من ملاذ الحياة. فيقضى نهارَه في الأكل والشرب بين الأصدقاء والخلان الذين هم على شاكلته، وكان العقلاءُ ينتقدونه ويقبحون عمله، ولا سيما الذين عاشروه منذ الصبا وعرفوا حداثة عهده بالثروة؛ لأنه نشأ متوسط الحال لا يزيد دخلُهُ على الكفاف، ثم جاءته الثروةُ فجأة فصادفتْ قلبًا شرهًا ونفسًا ضعيفة فاتجه وجهة المتاع الجسدي. أما دميانة فربيت في حجر أُمها حتى الثامنة من عمرها وأخذت عنها كثيرًا من الفضائل؛ كالتقوى والصراحة في القول وصدق اللهجة والاتكال على الله والمحافظة على الصلاة اليومية، وماتت أمها فجأة وهي غائبةٌ ولو شهدت نزعها لسمعت منها حديثًا يهمها ذا شأن في مستقبل حياتها، فأصبحت وحيدة لا أنيس لها في تلك القرية؛ لأن أكثر سكانها من الفلاحين العاملين في أرض أبيها وهم تابعون للأرض ينتقلون معها من مالك إلى مالك، أو من متقبل إلى متقبل؛ على نحو ما كانت عليه الحالُ يومئذ في أكثر البلاد. ففي المملكة الرومانية بأُوروبا كانت الأرض تنتقل من بارونٍ إلى بارون وينتقل فلاحوها معها، ويسمونهم سيرف. وهو ما يعبر عنه بالعربية بالقن؛ أي العبد المملوكُ بالوراثة، وجَمْعُهُ أقنان. فلم تكن ترتاح إلى معاشرة بنات الفلاحين، ولم تخرج في علاقتها بهن إلى أكثر من الإحسان والبشاشة، وكُنَّ يتقربن إليها بالهدايا والخدمة، غير أن ذلك لم يكن ليشبع ما في نفسها من الميل الغريزي إلى المصادفة والمكاشفة على عادة بنات المدن مع الصواحب أو الجارات أو ذوات القُربى فكانت إذا طرأ عليها أمرٌ يقتضي الترويح عن النفس انصرفت إلى الصلاة فتتعزى إلى حين. أما في ذلك اليوم فشعرت بانقباض. وضاقت ذرعًا بكتمان ما في نفسها وهي تحسبه مخالفًا لشروط التقوى والتدين فقضت معظم النهار في التفكير منفردة في غرفتها، حتى إذا مالت الشمس إلى الأَصيل لاح لها أن تبوح بسرها إلى الأب منقريوس قسيس القرية؛ وكانت تأنس به لطول عهده بخدمة الكنيسة ولكبر سنه. هذا إلى أن الاعتراف للقسيس قاعدة متبعة عندهم. وخرجت دميانة تمشي في البساتين كأنها تتمتع بمناظر الطبيعة، وتنظر في الأغراس وصبيان الفلاحين وبناتهم يقفون احترامًا لها أو يفرون خجلًا منها. وبعضهم في شاغل عنها بثور يسوقه على مربطه أو حمار يحمل عليه قضبانًا أو فاكهة إلى بيت مولاه. ••• مشت دميانة متظاهرة بأنها مهتمة بتلك المناظر، وهي في الحقيقة في شاغل عنها بما يتردد في ذهنها من الأمر الذي تهم بكشفه للأب منقريوس، فلم تكن تسمع غناء الغلمان وهم يحصدون الزرع ولا صياح الأدياك ولا رفرفة الأطيار التي تلتقط الحب. ولما دنت من الساقية الكُبرى على ضفة النيل لم تنتبه لأنينها أو طقطقة أخشابها أو خوار ثورها والغلام يستحثه على الدوران. وكانت دميانة في نحو العشرين من عمرها ربعة القامة سمراء اللون مع صفاء ونضرة، كبيرة العينين سوداء الحدقتين مع ذكاء ووداعة، صغيرة الأنف والفم، ممتلئة الشفتين، لها ميسم ينم عن صدق طويتها ورقة إحساسها وفي أذنيها قرطان من ذهب يمثلان أبا الهول وقد ضفرت شعرها الأسود ضفيرة واحدة أرسلتْها على ظهرها وغطت رأسها بنقاب من الحرير — نسج دمشق — أهدتْه إليها أمها في طفولتها، وقد طرزت لها حواشيه ببعض الدعوات والآيات باللغة القبطية وارتدت ثوبًا رقيقًا من القاطي واسع الأردان التفت فوقه بمطرف من الخز مما كان يحمله تجار فارس إلى الفسطاط واحتذتْ نعلًا من الجلد والخوص وفي عُنُقها قلادةٌ من الذهب في وسطها صليب. ••• كانت المسافةُ بين المنزل والكنيسة نحو ميل، قطعت دميانةُ معظمه على ضفة النيل وعيناها تنتقلان بين الماء واليبس، فمرت بها قواربُ تحمل تبنًا أو حبوبًا أو غير ذلك من الغلال — وهي لا تعيرها انتباهًا ولا تكاد تسمع صراخ ملَّاحيها أو نقر الريح على أشرعتها — ولكنها انتبهت فجأة على سفينة لم تشاهد في النيل مثلها ضخامة وإتقانًا، بناء وزخرفة وكبر شراع. وكانت لِما احتوت عليه من غرف ونوافذ كأنها بيت سابح فوق الماء يشبه ما يعرف اليوم (بالذهبيات)، فعلمت أن مثل هذه السفينة لا تخلو من أن تنقل بعض السراة، وربما كان فيها بعض أصدقاء أبيها وهي لا تحب أن يراها أحد منهم. وكانت قد أشرفت على الكنيسة فأسرعت إليها تتوارى بين جذوع الشجر وأغصانها، حتى دنت من باب الكنيسة فاستترت وراء نخلة ضخمة عند الباب القديمة العهد والتفتت إلى النيل لتعيد نظرها في تلك (الذهبية) لعلها تعرف أصحابها، فتفرست في الراية المنصوبة في مقدمها فرأتْ عليها كتابةً بالعربية وهي لا تقرأها؛ لأن أهل القُرى كانوا إلى ذلك العهد لا يعرفون العربية؛ لقلة اختلاطهم بالعرب، ولأن المسلمين كانوا منذ الفتح يقيمون بمعزل عن أهل البلاد. إما بالفسطاط مقر رجال الدولة ومن يلحق بهم من الحاشية والأعوان وإما في أطراف البلاد بالمضارب والخيام ولم ينزلوا القرى إلا بعد قُدُوم المأمون إلى مصر في أوائل القرن الثالث للهجرة لإخماد ثورة نشبت بها، فأمر المسلمين بنزول القرى فابتنَوا فيها القُصُور وحوَّلوا بعض الكنائس إلى مساجد. فلما رأت دميانة الراية علمت أنها لبعض رجال الدولة، أو بعض الخاصة، أو الجباة من القبط؛ قد خرجوا لجمع الخراج والجزية، ولولا علمها بمنزلة أبيها من صاحب الخراج لخافت أن يمسه ضر من أصحاب تلك السفينة. ولو كانت تقرأ العربية لَقرأت على الراية اسم «أحمد المارداني» متولِّي الخراج وأحد ذوي النفوذ الكبير عند ابن طولون صاحب مصر. وانتبهت لِما جاءت من أجله فتوجهتْ نحو الكنيسة ودخلت بابها الغربي. ••• كان لتلك الكنيسة في أول أمرها بابان: أحدُهما غربيٌّ والآخر شمالي. فلما نزل المسلمون القُرى بعد قُدُوم المأمون واحتاجوا إلى أماكن للصلاة ابتنى بعضُهُم المساجد واغتصب آخرون بعض الكنائس وجعلها مساجد. أما قرية دميانة فنزلها رجلٌ من الشيعة العلوية اسمه «أبو الحسن البغدادي» جاء من بغداد في حملة المأمون، ثم أحب المقام بمصر فاستأذنه في البقاء فيها فأذن له. وظل زمنًا يقضي فُرُوض الصلاة في منزله. وكان معتدلًا منصفًا فلم ير أَن يسلب أهل تلك الناحية كنيستهم، فاتفق مع صاحب القرية وهي يومئذٍ مارية القبطية المشهورة على أن يقتطع من الكنيسة جانبًا يتخذه مسجدًا يصلي فيه كما فعل المسلمون بالجامع الأموي لما فتحوا دمشق فأذنت له. وقسم الكنيسة شطرين وأصبح الباب الشمالي خاصًّا بدخول المسلمين وليس منهم هناك إلا أبو الحسن البغدادي وحاشيته، وظل الباب الغربي مدخلًا للنصارى. دخلت دميانة من ذلك الباب ومشتْ في الدهليز باحترامٍ وخُشُوع حتى أقبلتْ على واجهة الهيكل وعليها الأيقونات الملونة والأستار المصورة، فرسمت علامة الصليب وعرجت على أيقونة مريم العذراء في جهة اليمين وهي تمثل العذراء تحمل طفلها في شكل جميل، وقد جلبت هذه الصورة من القسطنطينية، فجثت دميانة أمامها وأخذت تصلي بحرارة وخشوع وتمثل لها الأمر الذي جاءت من أجله، فخفق قلبها تهيبًا من الخوض فيه ولكنها تجلدت وأخذت تتضرع إلى العذراء أن تقويها وتسدد خطواتها ولمست وجه الصورة بأناملها ثم مسحت بها وجهها تبركًا. وفيما هي في ذلك سمعت تمتمة القسيس بالصلاة التي اعتاد إقامتها بالهيكل قبل الغروب في كل يوم — ويندر أن يحضرها أحد — وشمت رائحة البخور ورأت ضوء الشموع فازدادت خشوعًا وتهيبًا وهي وحدية في ذلك المكان المقدس ولم تر القسيس؛ لأن باب الهيكل مغطًّى بستارة من الديباج المزركش من صنع دار الطراز في تنيس. ولما فكرت فيما قدمت من أجله أكبرته، وحدثتْها نَفْسُها بأن تعدل عن مكاشفة القسيس بسرها وهَمَّتْ بالرُّجُوع وإذا بالقسيس قد أزاح الستار ووقف بباب الهيكل وبيده الصليب والإنجيل وهو يتلو الصلاة، فلم تتمالكْ عن التقدُّم نحوه وإحناء رأسها تحت الكتاب، فقرأ فصلًا من الإنجيل بالقبطية — على عادته — فتشددت ورجعت إلى عزمها على الاعتراف. فلما فرغ القسيس من الصلاة مد يده إليها فقبلتها، وأحس القسيس ارتعاش أناملها. وكان الأب منقريوس شيخًا طاعنًا في السن، عرف دميانة منذ طفولتها إذ كان هو الذي عقد إكليل أمها وعَمَّدَها هي وكان عطوفًا عليها طيب السريرة صادق التدين مع سذاجة وصفاء طوية. وقد اطلع على أسرار اعترف له بها أصحابها زادته حنوًّا على دميانة ورعاية لها. وقسيس الشعب الذي يطلع على أسرار رعيته إذا كان صادقَ التديُّن طيب السريرة كان ميمونَ الطالع؛ لأنه يستخدم تلك المعرفة للتوفيق بين بنيه وإزالة ما يكدر صفوهم من سوء التفاهُم أما إذا كان طماعًا منافقًا فإنه يكون شرًّا عظيمًا عليهم؛ لأنه يستخدم تلك الأسرار لسلب الأموال والتمتُّع بالسيادة وغيرها من مطالب العالم. وكان الأب منقريوس شيخًا جليلًا قد ابيضَّ شعره واسترسلت لحيته، لا مطمع له في شيء من حُطام الدنيا، وإنما هَمُّهُ خدمةُ رعيته والتوفيق بينهم، فلما رأى دميانة على تلك الحال في ساعة لم يتعودْ أن يراها بالكنيسة فيها ابتدرها بالكلام ليجرئها فقال: «كيف أنت يا ابنتي؟» فهَمَّتْ بالكلام فسبقتْها العبراتُ فأطرقت حياءً ووجلًا فقال: «ما بالك تبكين؟ إن من كان في مثل حالك مِنَ التقوى والإيمان بالسيد المسيح لا ينبغي له أن يحزن أو يخاف.» فتشددت وقالت: «نعم يا سيدي صدقت وأنا قد جئت الآن لاعترف لك بأمر أتعبني وأقلق ضميري فهل تسمعه؟» قال: «كيف لا؟ تعالَي إلى كرسيِّ الاعتراف.» قال ذلك واتجه إلى كرسيٍّ بجانب الهيكل يقعد عليه لسماع أقوالِ المعترفين، وأشار بأنْ تقعد على كرسيٍّ بين يديه، وبعد أن تلا الصلوات أو الطقوس التي تتلَى في مثل هذا الموقف قال لها: «قصي خبرك يا دميانة ولا تخافي؛ فإنك تخاطبين نفسك، ومهما يكن من خطورة سرك فإنه يبقى مكتومًا لا يعلم به أحدٌ كأنك تناجين الله في ضميرك.» فأطرقت دميانة خجلًا وقد بدا الاصفرارُ في وجهها وسكتتْ، فقال: «قولي يا ابنتي.» فرفعتْ بَصَرَها إليه وتناولتْ يَدَهُ وقَبَّلَتْها وبَلَّلَتْها بدموعها، فاجتذب يده منها وقال: «قولي يا دميانة لا تخافي يا ابنتي، ولا أظنك تقولين شيئًا أجهله؛ لأننا معشر القسيسين لا يخفى علينا شيء من أسرار الرعية؛ وذلك بما وهبنا السيد المسيح من سر الاعتراف، وعلينا أن نستخدم هذه المعرفة في الإصلاح بين الناس وتخفيف متاعبهم، وأنت تعلمين أني بمنزلة أبيك وقد عرفتك طفلة وعرفت أمك من قبلك، ولا تَخفى علي خافية من أحوالك.» فلما سمعت منه ذلك قالت: «تعرف ما في نفسي؟ كيف؟ قل — بحياة قدسك — قل ما تعلمه وخففْ عني مشقة القول». فتنحنح القسيسُ ومسح فمه ولحيته بمنديله وقال: «لا يا ولدي لا يجوز أن أبدأ بالقول ولكنني قلت لك ذلك؛ لأيسر عليك التصريح.» فقالت: «أتعرف جارنا أبا الحسن البغدادي نزيل هذه القرية؟» قال: «كيف لا أعرفه؟ أليس هو صاحب القصر الذي بجانب قصر أبيك؟» قالت: «نعم وإنه — والحق يقال — لَعَلَى خُلُق عظيم وأراه يحب القبط ويلاطفهم ويحاسنهم، خلافًا لسواد أهل الدولة». فلم ير القسيس رابطةً بين ما سمعه وما كان يتوقعُ أن يسمعه، ولكنه ظنها تندرج في الحديث فقال: «أراك تحسبين اضطهاد أهل الإسلام للأقباط قاعدةً من قواعد حكومتهم، والواقع أن ذلك يختلف باختلاف الرجال؛ فقد كان المسلمون في أوائل دولتهم بمصر أكثر الناس رعايةً لنا ورفقا بنا واحترامًا لعاداتنا وطقوسنا، وتخلل ذلك اضطهاداتٌ نأى الحق في بعضها بجانبه عنا لطمع كبارنا في أموال الدولة والإمساك عن دفع الخراج أو الجزية، ومن ذلك ما وقع في العام الذي جاء فيه المأمون إلى مصر وعاقبنا أشد العقاب مما لا محل لتفصيله الآن، أما أبو الحسن فرجل عاقلٌ معتدلٌ، عرفت اعتداله من تساهله في معاشرتنا واقتناعه بجزء من هذه الكنيسة لصلاته، وقد رأينا غيره يحولون الكنائس على جوامع. وهناك سببٌ آخرُ لتقربه منا لا أظنك تعرفينه، وهو أن أبا الحسن هذا ينتمي إلى طائفةٍ من المسلمين يُقال لها الشيعةُ، يضطهدها رجال الدولة؛ لأنها تُخالف مذهب الخليفة وأمرائه. كما كان حالنا قبل الإسلام إذ انقسمت الكنيسة إلى ملكية ويعقوبية، وكانت دولة الروم تَنصر الملكية؛ لأنهم على مذهبها وتضطهد اليعاقبة، حتى تَمَنَّى هؤلاء خُرُوج هذه البلاد من حوزتها، وقد حصل. ألا تذكرين يوم جاء أمر المتوكل خليفة بغداد إلى قبط مصر منذ بضع عشرة سنة؟ أظنك لا تذكرين ذلك؛ إذ كنت طفلة. إنه بعث إلى عامله بمصر أن اهدم الكنائس المستحدَثة بعد الإسلام، ونهى عن الاستعانة بالنصارى في الأعمال أو أن يُظهروا الصُّلبان في شمانينهم. وأمر أن يجعل على أبوابهم صور شياطين من الخشب وأن يلبسوا الطيالسة العسلية ويشدوا الزنار ويركبوا السروج على بكر الخشب بكرتين في مؤخرة السرج، وأن يرقعوا لباس رجالهم برقعتين تخالفان لون الثوب قدر كل واحدة أربع أصابع ولون الواحدة غير لون الأُخرى، وأن تخرج كل من نساؤهم لابسة إزارًا عسليًّا. وحرم عليهم لبس المناطق وغير ذلك مما بَقِيَ معمولًا به حتى تولى ابن طولون فأبطله.» وسكت قليلًا ثم استأنف الكلام فقال: «وقد أصاب الشيعة في ذلك الوقت من الاضطهاد مثل ما أصابنا، فإن ابن الخليفة — الذي نحن بصدده — كتب إلى عامله بمصر ألا يقتني علويٌّ ضيعة ولا يركب فرسًا ولا يسافر من الفُسطاط إلى طرفٍ من أطرافها، وأن يمنعوا من اتخاذ أكثر مِن عبد واحد ومَن كان منهم له خصومة قُبل قول خصمه فيه ولم يطالَب ببينة.» «ومن طبيعة الأشياء يا ابنتي أن الذين يقاسون الذل معًا يتآلفون ويتحابون ولو بعدت أصولهم وتباينت مذاهبهم.» ••• كان القسيس يتكلم ودميانة تنظر كمن يُصغي وذهنها يعمل في تهيئة عبارة تبدأ بها شكواها أو تبث بها غرامها فلما فرغ من كلامه قالت: «وسعيد المهندس ضيف أبي الحسن، أو ابنه أو مولاه هل تعرفه؟» فنظر القسيس إليها خلسة فوجد سحنتها قد تغيرت ولونها امتقع وأبرقت عيناها. فأدرك أَنَّ ظنه لم يكن مخطئًا، فأراد أن يشجعها على التصريح فقال: «وأنت ألا تعرفينه يا دميانة؟» فلما سمعت سؤاله نزلت عن الكرسي وجثت بين يديه وأخذت تبكي وتهم بالكلام فيمنعها البكاء، فصبر حتى هدأ روعها وقال: «أظنك تحبينه. إنه شاب حميد الخصال بارع ماهر.» فتنهدت دميانة ومسحت دموعها وقالت: «نعم يا أبتي إني أحبه. وهذا هو الأمر الذي جئت للاعتراف به وأستغفر لذنبي. لقد أحببته عفوًا ومحض اتفاق يا سيدي وأنا لم أكلمه بعدُ وإنما كنت أراه داخلًا إلى منزله أو خارجًا منه وربما حَيَّانِي بكلمة أو إشارة لا تتجاوز الكلمة وجوابها. ولكنني كنت أسمع بخصاله ومَنَاقبه ومهارته في الهندسة. ولم يتفقْ لي أن اجتمعتُ به في مكانٍ؛ لأن أبي يحجبنا عن أبي الحسن كما يحجب هذا نساءه عن رجالنا وحسنًا فعل؛ فإن في ذلك دفعًا للشر. وكثيرًا ما حاولتُ البعد وغض الطرف لعلي أنسى فلم أقدر.» قالتْ ذلك وعادتْ إلى البكاء. فقال القسيس: «أتبكين لأنك أحببت سعيدًا؟ وهل الحب محرم؟» قالت: «إنما أبكي لأني أحببت رجلًا لا سبيل إليه، فإني وإن كنت لم أسع إلى حبه أحسبني أخطأت خطيئة كبيرة؛ لأني أحببته وهو مسلم.» ففهم القسيسُ سِرَّ اضطرابها، فأَنْهَضَها وأجلسها على الكرسي بجانبه وهو يبتسم. فلما رأته يبتسم خف اضطرابها ولبثت تنتظر ما يقوله. فقال: «وما الذي جعلك تحسبينه مسلمًا؟» قالت: «لأن اسمه سعيد ولم أعرف أحدًا سُمي بهذا من غير المسلمين، وقد سمعت أنه يلقَّب بالفرغاني، وهذا أيضًا من ألقاب المسلمين وزد على ذلك أني لم أره في الكنيسة ورأيته مقيمًا مع أبي الحسن كأحد أولاده.» قال: «أما اسمُهُ فإن أبا الحسن سماه به، وليس ما يمنع تسميته سعيدًا. وكذلك اللقب فإنه لُقب به نسبة إلى أحد أساتذته المسلمين الذين أخذ الهندسة والرياضيات عنهم في بغداد مدينة العلم؛ لأنه سافر إليها مع أبي الحسن وتلقى العلم فيها. وقد يكون نسبة إلى قرية مصرية اسمها فرغانة. وأما الصلاة في ا لكنيسة فإنه لم يتخلف عنها إلا أثناء غيابه عن القرية في عمل أو سفر، ولعله كان يأتي متأخرًا فلا ترينه». قالت والدهشة بادية في محياها: «أليس سعيد مسلمًا؟» قال: «كلا يا ابنتي إنه مسيحي مثلك.» فلما سمعت قوله وثبت من مجلسها وحملقت في القسيس وقالت: «مسيحي؟ نصراني مثلنا؟» قال: «نعم مسيحي يا ابنتي؟» قالت: «هل أنت على يقين من ذلك؟» قال: «لا ريب عندي في ذلك وقد جلس على هذا الكرسي واعترف لي مرارًا.» قالت: «جلس على كرسي الاعتراف؟ واعترف لك؟ أطلعك على مكنونات قلبه؟ آه هل اعترف لك بأنه؟» وهَمَّتْ بأن تسأله إذا كان قد اعترف بحُبه لها، ثم أمسكت خجلًا، وعلمت أن سؤالها يُخالف أُصُول الاعتراف، فأطرقتْ وسكتت. فقال: «يكفي أنك عرفت أنه مسيحي.» فتنهدتْ وقالت: «نعم يكفي.» ثم رفعتْ رأسها إلى السماء وقال: «أشكر الله على ذلك.» وغلب عليها الفرح حتى ضحكتْ والدمع يقطر من عينيها وهي تردد قولها: «مسيحي؟ سعيد مسيحي؟» ثم انتبهتْ إلى أن مسيحيته لا تكفي وحده ليطمئن قلبُها فسكتت وجعلت تتشاغل بمسح عينيها وإصلاح نقابها، ثم قالت: «وهل يعد حبي له خطيئة يا أبانا؟» فأجاب القسيس: «إن الحب الطاهر يا دميانة ليس خطيئة بل هو من الفضائل التي يُثاب الناس عليها، ونظرًا لِما أعلمُهُ مِن تقواك وتعقُّلك لا أخاف تورطك وخروجك عن الحدود التي وضعتها الكنيسة.» فقالت: «معاذ الله أن أفعل ما يخالف تعاليم الكنيسة ولكن هل تظن أبي …» ومنعها الحياء عن تتمة الكلام. فأدرك أنها تسأل هل أبوها يمانع في زواجها منه فقال: «إن أباك صعبُ المراس ولا أدري هل يرضى به بعلًا لك أم لا.» فقالت: «إذا كنت أنت مكان أبي هل ترى سعيدًا كفئًا لي؟» قال: «نعم؛ فإنه من خيار الشبان تعقلًا وذكاء ومهارة، ولاسيما الآن، فإنه قد أحرز ثقةَ صاحب مصر أحمد بن طولون لمهارته في فن الهندسة فآثره على جميع مهندسي مصر. وأظنك تعلمين السبب.» قالت: «كلا ما هو؟» قال: «لما أفضت حكومة مصر إلى ابن طولون هذا وهو تركي الأصل وجنده أتراك كان عرف الفسطاط (قصبة المسلمين بمصر) لا يقبلونه إذ يرون أنهم أصحاب الدولة وفيهم ظَهَرَ النبيُّ صاحب الشريعة الإسلامية، وكانوا في أول الإسلام يعدون الأتراك والفرس ومن إليهم من الأمم أقل منهم ويسمونهم الموالي. فلما تغلب العنصر التركي في بغداد على أيام المعتصم انحطَّ شأنُ العرب وخرجتْ مقاليدُ الدولة مِن أيديهم وتولاها الأتراك والفرس وغيرهم وصار العرب ينظرون إلى هؤلاء بعين البُغض والحسد ولم يعد ابن طولون يأمن القيام بينهم، فعزم على أن يبني لنفسه بلدًا يجعله معقلًا له ولجنده، فابتنى بين الفسطاط والمقطم قطائع أنزل فيها رجاله وبنى بها قصرًا له فأعوزه الماء؛ لأن القطائع بعيدة عن النيل ومرتفعة عنه، فأراد أن يُجري الماء إليها فلم يجد من يستطيع ذلك سوى سعيد فإنه تعهد له بجره وقد وضع له رسمًا هندسيًّا لم يستطعْه سواه، وباشر العمل وأظنه فرغ منه الآن وجرى الماء إلى القطائع، فإذا رأى العمل متقنًا كافأ سعيدًا مكافأة يحسده عليها كثيرون.» فسُرَّتْ سُرُور المحب بما ينالُهُ حبيبه من التقدم، ثم انقبضتْ نفسها مخافة أن يحول ذلك الرقي دون مرادها وهي لم تعلم رأيه فيها بعد وإن كان قلبها يدلها على الحب المتبادل، فأصبحت في شوق إلى مقابلته لترى ما يبدو منه ولا تعرف وسيلة للاجتماع به؛ لأنه كان يقضي معظم أيامه في الفسطاط والقطائع. وانتهت من الاعتراف فوقف القسيس ورفع يده على رأسها وباركها وصلى ودعا لها، فقبلت يده والصليب الذي يحمله وخرجت، وانصرف هو إلى غرفة يقطنها ملاصقة للكنيسة. ولم يعرض عليها أن يوصلها إلى بيت أبيها وقد أمسى المساء؛ لعلمه أنها لا تخرج إلا وخادمها العم زكريا معها، ولم يدر أنها أتت وحدها خلسة في ذلك اليوم.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/91708090/
أحمد بن طولون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «أحمد بن طولون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. ويجمع هذا العمل بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية الهامة التي وقعت في عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة في أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، في العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان في هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التي اعتمد في ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
https://www.hindawi.org/books/91708090/2/
سعيد
خرجت دميانة من الكنيسة وقد غربت الشمس وأخذت الظلال تتكاثف، ولكن القمر كان في ربعه الأول. فظلت بضع دقائق تتردد ثم مضت تخطو بغير انتباه حتى تجاوزت النخلة وأطلت على البساتين. وأشرفت على النيل وقد أكمد لون مائه من غيوم الجو فوقه لكن سطحه ازداد لمعانًا لانكسار ضوء القمر على وجهه المتجعد كأن الزمان أثر فيه فتكمش مثل تكمُّش وجوه الشيوخ، فسارت وحدها وهي تستغيثُ بصاحب الكنيسة وحامية تلك الناحية؛ كي لا يراها أحد حتى تدخل غرفتها. وفيما هي كذلك سمعتْ وَقْعَ حوافر جواد أَلِفَتْ سماع مثله مارًّا بجانب منزل أبيها، وسمعت صهيل الجواد فخفق قلبُها وأدركت أنه جوادُ سعيد، وأنها ستلتقي به وحده في الليل هناك وليس لها عهدٌ بمثل هذه الحرية، ولا سبق لها أن كلمت سعيدًا بغير التحية أمام والدها، وكانت منفعلة مما قالته وسمعته على كرسي الاعتراف، فوقعت في حيرة؛ لا تدري: أتتوارى من الطريق حتى لا يراها أم تقف له وتتحين الفرصة لمعرفة ما في قلبه، وكلا الأمرين شاق. وكان هو قد بلغ موضعها، وما كاد يقعُ بصرُهُ عليها حتى عرفها، فتَرَجَّلَ مسرعًا، وتقدم وهو ممسكٌ لجام جواده بيساره، ووقف بين يدَي دميانة وقفةَ الإجلال وعليه لباس السفر، وعلى رأسه الكوفية والعقال بدل القلنسوة أو العمامة، وقد التف بعباءة من الحرير فوق القباء والسراويل، وكان أسمر بيضي الوجه عسلي العينين — مع وداعة وذكاء — قصير الحاجبين صغير الفم، خفيف الشاربين واللحية تلوحُ الصحة في مُحَيَّاه، ويتدفق الذكاء والحدة من عينيه. وكان وقوفُهُ مواجهًا للقمر، فظهرتْ تلك الملامح ظهورًا واضحًا وزادها ضوء القمر هيبة. أما هي فكان الضوءُ واقعًا على جانب رأسها فاكتسب وجهُها رونقًا من تكسُّر الأشعة واختلاف كثافتها على تقاطيعه، وكانت عيناها قد ذبلتا من البكاء بين يدي القسيس، فازدادتا ذبولًا عند رؤية سعيد لما جاش في نفسها وما ينازعها من عوامل الدهشة والرجاء والخوف. فوقفت لا تتحرك، ولكنك لو جسست يديها أو سمعت حركة قلبها لظننتها بطارية كهربائية عليها مرجل يغلي ماؤه، ويتدفق بخارُهُ لما يبدو لك من ارتعاش أناملها وخُفُوق قلبها واصطكاك ركبتيها. فتقدم إليها باحترام، وقال: «هل تأذن سيدتي دميانة في أن أكلمها؟» فلم تُجِبْ بلسانها، وإنما أجابتْ بعينيها ولم تحركهما، فقال: «أراك وحدك هنا ولعل خادمك أَبْطَأَ عليك، فهل تأذنين لي أن أُماشيك إلى المنزل أو إلى أن يأتي الخادم؟» فأطرقت وهي تصلح طرف نقابها، وقالت بصوت تُخامره بحة: «أشكرك يا سيدي، وأخشى أن يكون في ذلك تعبٌ عليك.» قال: «كلا، وإذا خفت التعب لطول الطريق فاركبي هذا الفرس وأنا أقودُهُ، ولا بأس عليك منه.» فقالت وقد استأنست بتلطُّفه واستدلت منه على أنه يضمر مثلما تضمر: «لقد بالغت في التلطف يا سيدي بل يكفيني حظًّا أن أمشي إلى جانبك فأكون في ظلك، لا أخشى بأسًا، ولا أخاف تعبًا.» قالت ذلك وهي تكاد تشرق بريقها من شدة الاضطراب، وسارت تتعثر بثوبها وركبتاها ترتعدان. فماشاها سعيد يقود جواده وقد رأى المقام ذا سعة ليشكو لها ما يكنه فؤادُهُ فقال: «إني أسير معك ولكنني في الواقع في حماك يا سيدتي؛ فإنك صاحبة هذه الأرض ومالكة رقاب أهلها وقلوبهم.» فالتفتتْ إليه وقالت: «لا تقل يا سيدتي.» فقال: «وماذا أقول إذن؟». قالت: «قل يا دميانة وكفى.» فتهلل وجهه فرحًا وقال: «هل تأذنين في ذلك هل تأذنين أن أدعوك باسمك فقط؟» قالت: «علي أن أدعوك أنا سعيدًا فقط.» قال: «أنت صاحبة الإذن والفضل للمتقدم فقط سمحت بأن أكون في خدمتك هذا المساء أثناء الطريق ويا لها من خدمة قصيرة الأمد فهل لي أن أطمع في امتدادها؟» فنظرت إليه وقالت: «لا تقل خدمة فإنما هي أنس المرافقة.» فقال: «وهل تأذنين أن تطول يا دميانة؟» وأدركت من بحة صوته المعني الذي أراده، فأخذ الهيام منها مأخذًا عظيمًا، وسَرَّها أن يسأل هذا السؤال. فنظرت إلى وجهه على ضوء القمر وعيناها شاخصتان إليه، وقالت وصوتها يرتجف: «طول الحياة.» وغلب عليها الحياء وتوردت وجنتاها وأطرقت. فلما أبطأ بالجواب خافتْ أن تكون قد تَسَرَّعَتْ فتباطأت في المسير فطاوعها سعيدٌ وقال: «قد تستغربين سكوتي يا دُميانة بعد أن قلدت عنقي بعقد كلامك الحلو الشهي. وإنما سكت من الدهشة والإكبار فقد شعرت بالانتقال فجأة من مصاف الضائعين إلى مراتب أهل السعادة، إن دميانة كتاب كبير مجلد ضخم، بل هي وحيٌ سماويٌّ نزل على قلبي فأناره فأراني مستقبلًا مجيدًا لم أكن أحلم به؛ لأنه فوق ما كنت أطمع فيه. إن دميانة روح حلتْ في ميت آمالي فبعثته. ولقد طالما مررت بي أحلام الصبا يا دميانة وحدثتْني نفسي بضروب من السعادة مما يخطُرُ في أذهان الأحداث ويندر أن ينالوا عشر معشارها، فلم يخطر ببالي سعادة كالسعادة التي اكتنفتْني عند سماع هذه الكلمة الثمينة، إنها أبلغُ ما نطق به الشعراءُ وأسمى ما خطر على بال بشر. طول الحياة! أطال الله حياتك يا دميانة حتى تطول أسباب سعادتي.» ثم وقف وقد انتبه لتسرُّعه في تفسير قولها، والتفت إليها، وهي تنظر إليه وقد حدقت بصرها في وجهه كأنها تهم بأن تحتضنه بأجفانها، فأحس بسهم أصاب قلبه وأنه غُلب على أمره فقال: «أخشى يا دميانة أن أكون قد تسرعت في فهم مرادك هل تعنين ما فهمته؟ أم غلب عليَّ الوهم ففهمت ما أتمناه؟» فتنهَّدَت تنهدًا عميقًا وقالت: «أبعد ما تراني فيه من دلائل اﻟ … تغالطني وتطلب مني زيادة الإيضاح؟ اكتف بما تراه من اضطرابي؛ فإنك أخذت كلمتي البسيطة وغاليت في قيمتها كأنك تقرأ أفكاري وهي تعبيرٌ عما يجول بخاطري. ولكنك ألبستها ثوبًا قشيبًا من عواطفك. ولا عجب فإنك مقيمٌ في قلبي.» فقال: «يا لَنعيمي ويا لَهنائي. مقيم في قلبك؟ حبذا المقام السماوي فماذا أقول يا دميانة وقد غلبتني على أمري وضيقت علي أبواب الكلام فأنا مقصر عنك في هذا البيان وأكتفي بعبارة بسيطة فأقول: إني أحبك حبًّا يكفي للتوفيق بين الملكية واليعاقبة ونزع ما بينهما من الضغائن أو التأليف بين الأقباط والمسلمين حتى يصيروا أمة واحدة.» وأخذا يتشاكيان ويتكاشفان الهيام وهما يسيران والجواد يسيرُ في أثرهما لا يسمعان لحوافره وقعًا كأنه شعر باتقاد ذينك القلبين تهيبًا من سلطان الحب وإكرامًا لذينك الحبيبين في ذلك المساء المقمر، وأما الحبيبان فكانا ينقلان الخُطى وهما لا يعلمان إلى أين يسيران، ولو مشيا على تلك الحالة أيامًا لحسباها لحظات قليلة، فكانا في شاغل عن حفيف الورق وتَنادي الفلاحين ونباح الكلاب وصهيل الخيل كأنهما في عالم آخر. وفيما هما في هذه الغيبوبة المحببة رأيا شبحًا مقبلًا من جهةِ بيت مرقس، فقال سعيد: «أرى شبحًا مقبلًا أظنه رجلًا هل ترينه؟ وهل تعرفينه؟» فالتفتت وتفرست فيه ثم قالت: «إنه خادمي العم زكريا وأظن أبي استبطأني فبعث به يستعجلني.» فقال: «إن هذا العم سيأخذك مني أو بالحري سيفصل بيننا.» فقطعت كلامه قائلة: «مؤقتًا إن شاء الله.» فردد قولها: «مؤقتًا إن شاء الله» مرارًا، ثم جذب اللجام حتى اقترب الجوادُ منه وقال وهو يحك جبهة الجواد: «أنت ذاهبةٌ الآن إلى بيت أبيك، وستلهين عني بالخدم والجواري وبالأصدقاء، وأما أنا فلا أنيس لي إلا خيالك.» فقالت: «لا يشغلني عنك شاغل بعد ما دار بيننا.» وكأنها أرادت إتمام الحديث فمنعها الحياء فقاطعها قائلًا: «لن يطول الفراق — إن شاء الله.» قالت: «ذلك إليك و…» قال: «أنا ذاهب في الغد إلى الفسطاط؛ لأرى ما يأمر به أميرُنا ابن طولون بعد أن أنهيت بناء العين وجر المياه وسبعين يومًا يحتفل فيه بجرها فأنال المكافأة، وأرجو أن تسرك، وعند ذلك أتقدم إلى الأمر الذي جرأتني عليه بصادق فضلك. فأستودعك الله الآن.» ومد يده إليها فمدت يدها فصافحها وضغط أناملها فأجابته بمثل ذلك وأومأت إلى القمر وهي تنظر في عينيه ولم تقل شيئًا ففهم مرادها وقال: «وأنا أستشهد هذا الكوكب السيار على عهدنا.» والتفت فرأى العم زكريا يتباطأ في مشيته عمدًا كأنه علم بما بينهما فلم يشأْ أن يفصل بينهما، فلما رآهما يتصافحان تقدم إليهما وحَيَّاهُما هادئًا رزينًا. وكان زكريا كهلًا أجرودًا أصلُهُ خصيٌّ أسود، نشأ في صباه عند ملك النوبة، ثم تنقل من يد إلى يد حتى وُهب لدميانة ليلة ولادتها على أن يكون في خدمتها إلى آخر حياته، وقد أخلص لها الخدمة. وهؤلاء الخصيان إذا صدقوا في حبهم كانوا أقرب مودة لأسيادهم من الإخوة أو الوالدين، وكانت دميانة تأنس بزكريا وتكرمه وتناديه: «يا عماه.» وكان يعرف سعيدًا معرفة جيدة ولم يفته ما يكنه لدميانة ولا ما في قلب دميانة له مع أنها لم تذكر له شيئًا من ذلك. وكان يرى بينهما تناسبًا، ويتمنى أن يتم زواجهما. فلما التقى بهما في تلك الخلوة بادرها قائلًا: «لقد شغلنا عليك يا مولاتي لغيابك ولو علمت أنك التقيت بمولانا المهندس لما تحملت مشقة السعي إليك ولكن سيدي والدك استبطأك فأمر بتعجيل مجيئك.» قالت: «نعم أبطأت فقد شعرت بحاجة إلى الصلاة والاعتراف فجئت إلى الكنيسة وطال وقوفي أمام صورة سيدتنا فغابت الشمس قبل خروجي واتفق مرور جارنا الشهم فترجل عن فرسه ومشي معي.» فابتدرها زكريا قائلًا: «فوجب علينا شكرُهُ على هذه الأريحية.» والتفت إلى سعيد وقال: «أشكرك على تَحَمُّلك هذه المشقة، فإذا شئت فاركب فرسك إلى منزلك وأنا أمشي في خدمة مولاتي إلى البيت، فإننا على مقربة منه.» فنظرت دميانة فإذا هي بجانب بيتِ أبيها، ولم تكن تحسب أنها على مثل هذا القرب منه، فبغتت، وجعلت تصلح من شأنها وتهدئ روعها؛ لئلا يبدو حالها لأبيها. أما سعيد فودعها وربك فرسه وتحول إلى منزل أبي الحسن، وما زال يلتفت نحوها ويشير مودعًا حتى توارتْ عن بصره. ••• مشت دميانة خطواتٍ قليلة حتى رأت الأنوار في حديقة بيت أبيها، ووقع نظرها على ضفة النيل التي تليه، فرأت أنوارًا عديدة لم تعهد مثلها هناك، فقالت: «ما هذه الأضواء التي أراها في النيل؟» قال: «هذه سفينة المارداني صاحب الخراج وأهلها أضياف عندكم.» فتذكرت أنها رأتها تجري في الماء أصيل ذلك اليوم فقالت: «ما لنا وللمارداني لا أذكر أنه يزورنا ولا أعرف وجهه، فما الذي أتى به اليوم؟» قال: «إن السفينة للمارداني ولكنه هو لم يأتِ فيها.» قالت: «من أتى بها إذن.» قال: «إسطفانوس ابن المعلم يوحنا كاتب المارداني، وهو صديق سيدي والدك، وقد جاء في هذه السفينة الفخمة مبالغة في الأبهة.» فلما سمعت اسم إسطفانوس امتقع لونها ووقفتْ وقد جمد الدمُ في عروقها. ولم يجهل زكريا سبب المفاجأة، ولكنه تجاهل وقال: «هيا بنا يا سيدتي؛ فقد طال بأبيك انتظار قدومك.» قالت: «طال انتظاره بقدومي؟ وهل يهمه أمري؟ وعنده من السراري والجواري ما يشغله عن هذه اليتيمة المسكينة التي فقدت سعادتها بفقد والدتها — رحمك الله يا أماه.» قال ذلك وحرقت أسنانها ثم قالت: «ما غرض هذا الشاب الجاهل من الزيارة يا ترى؟ أظنه جاء لمعاقرة الخمر مع أبي وليمضيا الوقت في المجون والخلاعة على جاري العادة.» فتأثر زكريا مما شاهده من المها فأراد تشجيعها فقال: «وما الذي يهمك من ذلك يا مولاتي؟» قالت: «كيف لا يهمني أمر والدي يا عماه؟ ألا يهمني أن يكون من مُعاقري الخمر وأهل المجون؟ هل رأيته ذاهبًا إلى الكنيسة يومًا ما؟ أم هل سمعته يصلي؟ وما الذي أبقاه لآخرته وأنت تراه يقضي أوقاته في الخلاعة والمجون وهو الذي لا يصاحب إلا من كان على شاكلته، وما قولك في رجل يتخذ إسطفانوس هذا صديقًا له ينفق أمواله عليه؟» فأجابها على الفور: «ألا تعلمين لماذا يصاحبه ويكرمه؟ وهل يخفى عليك أن سيدي والدك صاحب ضياع وأموال يلحقها من الخراج الكثير، وهذا الشاب ابن كاتب الخراج وله دالة على المارداني، فيخدم أباك في تخفيف وطأة الخراج وقد مضت عدةُ أعوام لم يؤد أبوك من الخراج شيئًا.» قالت: «بئس الاقتصاد هذا، أراه ينفق عليه في المآدب والولائم والهدايا فوق ما يقتصده من الخراج، ثم إن الخراج حق للدولة لا ينبغي إمساكُهُ عنها كأننا نسرقها. إن أهل الذمة والضمير لا يقبلون ذلك.» إن الذي يهمك من هذه الشكوى أمران: الأول أنك تخافين أن يبذر أمواله فيضيع حقك في الإرث و… فقطعت كلامه قائلة: «إن المال لا يهمني كثيرًا ولكن لدي أمرًا آخر أهم منه.» فقال: «لو صبرت لأتمم حديثي لاستغنيت عن هذا البيان. الأمر الثاني أنك تكرهين إسطفانوس وتكرهين عشرته وتخافين أن تئول صداقته لأبيك إلى تمكين عرى القرابة معه، فتعود العائدة عليك، وأنا أعلم أنك تبغضين هذا الشاب كما تبغضين جهنم.» فسَرَّهَا أَنَّ العم زكريا فهم مرادها، وعرف ما يكنه ضميرها وأحسن التعبير عن مقدار بغضها إسطفانوس. وفي الواقع أن أباها كان قد لمح لها مرة بأنه يحب أن يزوجها منه فلم تجبه على أنها لا ترى كل ذلك شيئًا يستحق الذكر بالقياس إلى حرمانها من سعيد، ولاسيما بعد الذي سمعته في تلك الليلة. وهَمَّتْ بأن تبوح بذلك لزكريا فمنعها الحياءُ. وكان زكريا يمشي بجانبها والمصباح بيده، فلما آنس منها الإطراق والسكوت والتفكير رفع المصباح إلى وجهها وتفرس فيه وهو يبتسم وقال: «وقد قرأت في وجهك شيئًا آخر.» وتنحنح وسعل وصبر هنيهة ثم قال: «إن سعيدًا رجلٌ شهمٌ، وهو وحده أهلٌ لك.» فلما سمعت منه هذا التصريح أسرع خفقانُ قلبها وتولاها الخجل ولم تجب فابتدرها هو قائلًا: «وهذا الأمر — على خطورته — لا ينبغي أن يهمك كثيرًا إنك ستنالين كل ما تريدين بإذن الله ونعمة يسوع المسيح (وكان العم زكريا نصرانيًّا مثل سائر أهل النوبة في ذلك العهد). ستنالين سعيدًا، وسيذهب إسطفانوس هذا مخذولًا، وستكونين صاحبة هذه الثروة وحدك متى شئت. إنما يجبُ علينا أن نَتَوَخَّى التؤدة والحكمة والله المستعان.» قال ذلك وأمارات الجد باديةٌ في صوته ولو استطاعتْ دميانة التفرس في وجهه لَرَأَتْ في عينيه معانيَ لا يعبر عنها النطق، على أنها فهمتْ قوةَ عزمه مِنْ لحن صوته، كأنه يتكلم عن ثقة وسلطان، لكنها حملتْ قوله محمل الحماسة لها تخفيفًا عنها؛ لأنه يحبها ويُريد راحتَها. فقالت: «إني لا أفتر عن الصلاة والدعاء مساء وصباحًا، وأتوسل إلى السيد المسيح أن يُبعد عني هذه التجارب، وأرجو أن يصغي لطلبتي.» وقد سَرَّهَا تَصَدِّي العم زكريا للأخذ بناصرها فزادت استئناسًا به وارتكانًا عليه، وهي تعتقدُ صدق ولائه وإخلاصه. ومَشَيَا حتى اقتربا من الدار، ففتح لهما البواب فدخلا، فأَطَلَّا على حديقة أُنيرت بمصابيحَ ملونة معلقة بأغصان الشجر. وقد مدت المائدة تحت شجرة كبيرة تدلت المصابيح من أغصانها كالعناقيد، وعلى المائدة الأقداح والأباريق فيها أصناف الخمر يتخللها أطباق الفاكهة والأطعمة وباقات الرياحين. فتحولتْ دميانة إلى غرفتها وظل زكريا في طريقِه حتى أقبل على سيده وكان جالسًا على وسادة عالية بجانب المائدة وبجانبه صديقه إسطفانوس وقد لعبت الخمر برأسيهما.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/91708090/
أحمد بن طولون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «أحمد بن طولون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. ويجمع هذا العمل بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية الهامة التي وقعت في عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة في أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، في العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان في هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التي اعتمد في ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
https://www.hindawi.org/books/91708090/3/
مرقس وإسطفانوس
كان مرقس كهلًا متصابيًا يؤلمه التفكير في كهولته وإذا بدا له أنه أشرف على الستين غالط نفسه وزَعَمَ أن أباه أخطأ في رصد عام ولادته. فكيف إذا سئل عن سنه إذن لاستشاط غضبًا من قحة السائل! ومثله مثل كثيرين من كهول هذا الزمان الذين يشق عليهم أن يعرف الناس حقيقةَ أعمارهم، فإذا ظهرت سن أحدهم ظهورًا لا سبيل إلى إنكاره ملكت قياده إذا قلت له: «يظهر أنك أصغر سنًّا من ذلك بكثير.» فيعد قولك تقريظًا له فيثني عليك كأنك أطريت مناقبه فذكرت مآثره في المجتمع الإنساني أو تفوقه في العلم على أقرانه أو بلاءه في الدفاع عن وطنه! هكذا كان شأنُ صاحبنا مرقس، وقد زاده تمسكًا بظواهر الشباب انصرافُهُ على إرضاء سراريه الكثيرات واكتساب إعجابهن، فكان لا يدخر وسعًا في إخفاء علامات الكهولة، وأصبح منذ انصراف الشباب عنه، إذا ابيضتْ شعرةٌ في شاربيه أو لحيته أو رأسه نزعها، فلما تكاثر الشيبُ عمد إلى الخضاب يسوِّد به وجهه، فبدلًا من أن يكون الشعر نظيفًا كما خلقه الله يطليه بكلس اسود كما تُطلى الجدران بالكلس الأبيض، أو يصبغه بالعقاقير كما تصبغ الجلود أو الأنسجة. فهو يخدع نفسه لأنه يود أن يظهر من حاله غير ما هو عليه، ولكن خداعه لا يجوز على أكثر الناس. ولو أن واحدًا من هؤلاء توسم فيك مداجاة أو خداعًا لاحتقرك وتجنب عشرتك مع أنه يداجِي الناس بخضابه فيريهم من أحواله غير الواقع ويوهمهم أنه شاب وهو كهل. وأنه أصغرُ سنًّا مما هو، فكأنه سُئل عن عمره فكذب ومع أنهم يكرهون أنواع الرياء والكذب فإنهم يعدون الخضاب من قبيل المبالغة في إصلاح الهندام، ناسين أن النظافة أول شُرُوط جمال الهندام. وكان كل أمل مرقس أن يحتفظ بمظاهر الشباب بين يدَي أهله؛ ولذلك كان إذا أحس بانحطاط في قواه الجسدية عمد إلى المنبهات، فشرب الخمر وأكثر في طعامه من اللحوم الطازجة والأفاويه، وتنشق العطور ولازم الراحة والخمول — وهما مِن بواعث السِّمَن — فانتفخ وجهه وجحظت عيناه وغلظ عنقه وتعالى صدره وبطنه، فأصبح لقصر قامته إذا لبس السراويل والقباء يكاد يكون عرضه كطوله وتراه أكثر ما نراه ضاحكًا طروبًا كأن الطبيعة طوع إرادته لا يخاف مستقبلًا ولا يرهب قدرًا مخبئًا، همه أن يتمتع بالحياة جهد طاقته فلا يروق له إلا مجلس المتهتكين المستهترين وينفر من أحاديث الجد بل هو لا يقوى على إعمال الفكر برهة ولا يلبث حتى يمل ويضيق صدره، فقد اعتاد أن ينأى بجانبه عن التعب بعد أن أَتَتْه الثروة فأغنتْه عن العمل. ولرغبته في الشباب كان لا يُصاحب الكهول؛ إذ يغلب فيهم الرزانة والبُعد عن المجون والتهتك، فكان يعاشر الشبان ويقلدهم في حركاتهم وسكناتهم، فيجالسهم ويشاربهم ويؤاكلهم، وكان حديثُهُ طليًّا فكهًا يتخلله كثيرٌ من النكات والمغامز اللطيفة، فإذا سمع نكتةً ضحك لها وقهقه طويلًا. وكان إسطفانوس من بين عشرائه الشبان، وهو في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وكان مرقس عشيرَ أبيه من قبله. وكان هذا رجلًا عاقلًا وجيهًا اسمه المعلم حنا تَرَقَّى في مناصب الدولة حتى صار كاتبًا للمارداني صاحب الخراج، ونال نُفُوذًا كبيرًا، وجمع ثروة حسنة، وقد أحسن كل عمل إلا تربية ابنه إسطفانوس، فلقد غلب ضعفه على عقله في أمره. أو لعل الذنب ليس ذنبه بل للفطرة؛ لأنك إذا تدبرت أحوال الناس في تربية أبنائهم قَلَّمَا رأيت للتربية تأثيرًا في ذلك، وما هي إلا كالصقل للمعدن تجلو ظاهرَه ولا تغير جوهره. ومهما يكن السبب فقد شب إسطفانوس على الانهماك في اللذات والإخلاد إلى الرخاء ولم يكن مضطرًّا إلى العمل ولا فيه ميلٌ إليه، فنشأ في عيش سهل لا هم له إلا أكله أو شرابه. وكان وحيدًا لأبيه وله دالة عليه لا يطلب أمرًا إلا ناله وعرف مرقس ذلك فازداد رغبة في تقريب إسطفانوس منه فضلًا عن اتحاد الطباع وقد استفاد من عشرته إغضاء جُباة الخراج عن تحصيل خراج أطيانه عدة أعوام. وكان إسطفانوس يتقرَّب من مرقس لثروته، وقد عرف دميانة من صغرها فأحبها، وكان جميل الطلعة معجبًا بشبابه، وعنده أن الإنسان إنما تُقاس منزلته برواء طلعته. وقد يصح هذا الزعم في النظرة الأُولى وربما تعداها إلى ما بعدها؛ فإنك ترى أكثر الناس يأخذون الأُمُور بظواهرها فيبنون أحكام سيرتهم ومعايشهم على وسامة الشكل فيخلف ظنهم الرجل الطرير. واعتبر ذلك في اختيار الأزواج فكم من فتًى غره الطرف الكحيل والخد الأسيل والقد الرشيق، وكم من فتاة خدعها جمال الطلعة وفخامة المظهر وقد يكون وراء ذلك ما يُبكي العيون ويدمي القلوب. ولم يخل عصرٌ من شبان يعوِّلون في الزواج على جمالهم فقط. وكان إسطفانوس من هؤلاء، وقد طمع في دميانة لجمالها ومالها، وخيل إليه أن أمرها بيد أبيها فجعل يتزلف إليه بإسدائه الخدمات أو بإطراء ذكائه وطلاوة حديثه، ويأتيه من مواضع الضعف فيه فينوه بما في وجهه من نضارة الشباب حتى لَتكاد تظنه ابنَ ثلاثين، وكان من الجهة الأُخرى يحسب رضا الفتاة أمرًا مقضيًّا؛ إن لم يكن لِجاه أبيه أو تبعًا لرأي أبيها فلجماله، فكان إذا زارهم أصلح من شأنه وتطيب ولبس أحسن ثيابه وأثمنها، وكانت دميانة تنفر من تأنُّقه ومن تطيبه وتعدهما تخنثًا أو خلاعة؛ ولاسيما بعد أن عرفته من المدمنين للخمر ولكنها لم تكن تظهر شعورها وتكتفي بتجنُّب مجلسه، فتدخل غرفتها تصلي أو تقرأ أو تجالس بعض جواري القصر ممن رَبَّيْنَها منذ صغرها. ••• لَمَّا أَطَلَّ زكريا على مرقس وإسطفانوس وهما على المائدة قال له مرقس: «أين كانت دميانة، وما الذي عاقها؟» فقال: «كانت في الكنيسة تصلي وتعترف وقد عادت.» قال: ادعها لتتناول شيئًا من الفاكهة.» فأشار مطيعًا وذهب إليها فرآها واقفةً أمام المرآة الفضية تُبدل ثيابها وتتأهب للرقاد، فقال: «إن سيدي يدعوك إليه.» قالت: «قل له إني ذهبت إلى الفراش.» قال: «لا يصدقني لأنه رآك داخلة، ولا أرى بأسًا من جلوسك هنيهة معه ثم تعتذرين بالنعاس وتذهبين.» فأطاعت والتفت بمطرفها وخرجت إلى الحديقة فاستقبلها أبوها ضاحكًا مازحًا وقال: «لقد طال غيابك في الكنيسة يا دميانة ألا تشبعين من الصلاة؟» قالت وهي تجلس على وسادة في طرف البساط المفروش هناك: «إن الصلاة لذيذة يا أبي.» قالت ذلك وابتسمت. فقال: «إذن ستفرحين كثيرًا إذا عرفت أننا ذاهبون غدًا إلى شبرا لحضور الاحتفال بعيد الشهيد.» وضحك. فأطرقت وقد علمت من غنة صوته أنه يعبث بها ويعرض بإكثارها من الصلاة، ولما رأت ضحكه قالت: «إن عيد الشهيد عيدٌ مباركٌ، وفيه فضلٌ وبركةٌ؛ لأنه يبشر ببدء الفيضان إذ يلقون فيه التابوت وأصبع الشهيد، فإذا استقر في النيل يأخذ ماؤه في الفيضان، ولكنني أعلم أنهم شوَّهوا الاحتفال، فلا يرضي الله إذ يتخذه بعض الناس فرصة لإراقة الخمور والتمتع بالشهوات.» فقال وقد تناول تفاحة جميلة قدمها إليها: «ما لك وللناس نحن نذهب لحضور الصلاة والاحتفال بإخراج التابوت و…» فتناولت التفاحة من يده وقالت: «أصبح احتفالًا تتزاحم فيه الأقدام وتتحاك المناكب ويختلط الحابل بالنابل فلا يجد المرء موطئًا لقدميه.» فنظر إليها مستخفًا بما تقوله وقال: «كأنك تحسبيننا ذاهبين لنقف مع الرعاع والعامة، إننا ذاهبون مع صديقنا إسطفانوس في سفينة صاحب الخراج الراسية إلى الشاطئ، فنركبها وفيها الغرف للنوم والمطابخ للطعام، ونخترق بها النيل فنقف حيث نشاء ونتفرج على ازدحام الناس ونحن في سعة من المكان، ونشاهد الاحتفال على مهل فلنشكرْ صديقنا إسطفانوس على دعوته.» فلما سمعتْه دميانة وعلمت أنها ذاهبةٌ مع إسطفانوس استعاذتْ بالله وتراجعت حتى بدا التردُّد في عينيها أما إسطفانوس فتذرع بشكر مرقس، فقال: «العفو يا مولاي فإنما عليَّ أنا أن أقدم فرائض الشكر إذا تنازلت الآنسة دميانة ورضيت بالذهاب معنا.» فلم يزدها هذا التلطف إلا نفورًا، ووقعت في حيرة بين أن تقبل الدعوة فتقضي بضعة أيام مع إسطفانوس وهو ثقيل على قلبها وبين أن ترفضها فلا تأمن أن يُلح عليها والدها فتضطر للذهاب مرغمة، فظلت ساكتةً، فقال أبوها: «ما لك لا تتكلمين يا دميانة، ألست مسرورة بهذه السياحة والزيارة؟» فسبقها إسطفانوس إلى الكلام وقد تناول الإبريق بيده وأخذ يصب منه الخمر في قدح من الزجاج المنقوش، وقال: «لا حاجة إلى سؤالِها؛ فقد قالتْ إنها لا تُريد الذهاب.» وفرغ من الصب فأدنى القدح مِن فيه وقد أرسل رأسه إلى الوراء فاسترق نظرة إليها بين القدح وكمه فرآها مطرقة تتشاغل بالتفاحة بين أناملها وقد غلب الحياء عليها حتى توردت وجنتاها. فتَصَدَّى مرقس للجواب عنها وبيده اليمنى القدح يُبعده عن فيه بعد أن شربه ويمسح باليسرى شاربيه وفمه وقال: «كيف فهمت أنها لا تُريد الذهاب وهي أرغبُ الناس في الصلاة والاحتفالات الدينية، وقد كانت تخاف الازدحامَ، فبعد أن علمت بذهابنا بالذهبية لا أظنها تُمانع فهي تذهب مع أبيها حيثما سار.» فأدركت دميانة أنه يذكرها بسلطته الأبوية، وأنه سيأخذها رضيت أم لم ترض، فرأت أن القبول أَلْيَق، فالتفتت إلى إسطفانوس، وقالت: «ظننتني رفضت الذهاب ولا رأي لي في وجود والدي فإذا أمر أطعت.» فبَشَّ لها أبوها، وقال: «بُورك فيك يا ولدي، إني لا أحب أن أحملك إلا على ما لا تريدين، ونحن ذاهبون فاستعدي.» فانبسطت أساريرُ إسطفانوس، وأبرقت عيناه، وأخذ ينتفخُ ويعالج مجلسه ليلفتها إلى جمال عينيه وعظيم هيبته، وهي لا تزداد بذلك إلا نفورًا منه حتى ضاقتْ ذرعًا بتلك الجلسة، وهمت بالنهوض. وإذا بالعم زكريا أقبل مسرعًا يقول: «إن جارنا أبا الحسن بعث يستأذن في السهرة عندنا.» فلما سمع مرقس ذلك بُغت، وقال: «دَعْهُ يدخل من الباب الآخر، ونحن قادمون لملاقاته وأنر القاعة الكبرى بالشموع جيدًا.» فنهض وأخذ يمسح شاربيه ولحيته ويصلح هندامه، ودعا إسطفانوس للدخول معه وتركا دميانة لتذهب على غرفتها من طريق آخر؛ لئلا يراها الضيف أو الجار. ولم يكن الحجاب يومئذٍ شائعًا عند القبط، أو لعله كان في أول شيوعه وسببه في الغالب أن المسلمين كانوا يحجبون نساءهم عن النصارى كما يحجبونهن عن سواهم، فلما كانت إقامتُهُم بالمدن لم يكن لذلك تأثيرٌ على القبط، فلما نزلوا القرى وجاوروا القبط أصبح القبطيُّ إذا زار جاره المسلم يحجب عنه امرأته وسائر نسائه، فأصبح هو يفعل ذلك إذا زاره المسلم فيحجب أهله عنه، وتنوقل ذلك في الأعقاب بتوالي الأجيال حتى صارت عادةً محكمة فرضها تقليد المحكوم للحاكم. ••• أما دميانة فأخذ قلبها يدق عند سماعها اسم أبي الحسن وعزمه على الزيارة في تلك الساعة. وكانت زياراته نادرة قلما يأتي إلا لغرض. وتذكرت مقابلتها سعيدًا في ذلك المساء فحدثتها نفسها بأنه قد يكون قادمًا لشأن يتعلق بها وأصبحت شديدة الشوق لمعرفة ما إذا كان سعيد آتيًا مع أبي الحسن. ووقفت هنيهة تفكر في ذلك بعد ذهاب أبيها وإسطفانوس، ثم اتجهت إلى غرفتها وهي تتوقع أن يأتي زكريا ليطمئن بالها، فتشاغلتْ بتبديل ثيابها حتى أتى فسألتْه، فقال: «أتى أبو الحسن وحده يا سيدتي، وهذه الزيارة لإسطفانوس وليست لوالدك؛ فقد سمعت أبا الحسن يذكر أنه لَمَّا علم بوُجُود إسطفانوس ابن المعلم حنا في القرية اغتنم الفرصة للسلام عليه.» فأجابتْ دميانة بقلب شفتها السفلى — وهي تعجب تهكمًا واستخفافًا — ولسان حالها يقول: «ما شاء الله، ابن المعلم حنا شيء عظيم وزيارته فخر كبير!» فلحظ زكريا ذلك منها فقال: «لا تستخفي به يا مولاتي؛ فإن أباه يكاد يكون صاحبَ النفوذ الأول وليس أكثر نُفُوذًا منه إلا المارداني صاحب الخراج …» فقطعت حديثه قائلة: «هل جاء أبو الحسن وحده؟» فابتسم وقال: «نعم وحده.» فقالت: «أراني أهم بأن أنام.» قال: «ألا تتناولين العشاء؟» قالت: «لا أشعر بالجوع.» فتركها وخرج. أما أبو الحسن فقد كان كهلًا جليلَ القدر مع أُنس ولُطف جاء في ذلك المساء بلباس البيت وهو جلبابٌ من الحرير المخطط فوقه عباءة رقيقة، وعلى رأسه طاقية حولها عمامة صغيرة. وكان مرقس وإسطفانوس قد سبقاه إلى القاعة وهي غرفة واسعة مفروشة بالبسط والسجاد الجميل وعلى نوافذها ستائرُ من الديباج المطرز صنع (تنيس) مما يندر اقتناؤه في القرى، وعلى جدران القاعة صور دينية وفي الوسط مشمعة كبيرة قد أُنيرت شموعُها وحول الأبسطة وسائدُ مطرزة بقرب الجدران. فلما أقبل أبو الحسن خَفَّ مرقس لاستقباله والترحيب به، فسَلَّمَ أبو الحسن عليه، ثم سلم على إسطفانوس، وقال له: «لقد آنست قريتنا يا معلم إسطفانوس.» فقال: «إن الأنس بجوارك يا سيدي.» ودعاه مرقس إلى الجلوس على وسادة قدمها له فقعد عليها، وبعد أن تبادلوا التحية والسلام مرارًا قال أبو الحسن: «لماذا لا يأتي المعلم حنا والدكم لقضاء بضعة أيام عندنا؛ يستريح فيها من عناء الأعمال ويبعد عن ضوضاء الفسطاط؟» قال وهو يشمخ بأنفه افتخارًا بوالده: «إن الشواغل عنده كثيرةٌ يا سيدي؛ إذ لا يخفى عليكم أهمية مركزه. وقد أَلِفَ العمل حتى غدا لا يرى راحة إلا به، وكثيرًا ما أتوسل إليه أن يخرج للتنزُّه فلا يرضى.» قال أبو الحسن: «أظنه الآن منهمكًا في حسابات الخراج والعشور، فهذا الفصل.» قال: «نعم ولا أدري متى يفرَغ من العمل؛ فإن كُلَّ أيام السنة عملٌ عنده حتى إننا لا نراه في منزله إلا نادرًا وإذا جاء المنزلُ تهافت عليه الوجهاءُ بين زائر يستشيره أو صاحب حاجة يتوسل إليه أو متخاصمين يحكمونه.» قال ذلك تفاخرًا وبدا الإعجاب في وجهه؛ فهو يفاخر الناس بحكمة أبيه ووجاهته، ونسي أنه غر خامل قد يكون سببًا في ذهاب تلك الوجاهة — وذلك دأب كثيرين من أبناء الوجهاء لا يُضيع أحدهم فرصة يُدخل فيها اسم والده في الحديث، وإذا سنحت له تلك الفرصة استأثر بالجلسة وأخذ يعدِّد مناقب الوالد ووجاهته فيقص على سامعيه من نوادره ومعجزاته ما يُثقل سمعه ويعسر تصديقه وقد يتلطف في الاستطراق إلى التحدث عن والده بأُسلوب يوهمُ السامعين أن ذِكْر الوالد جاء عرضًا ثم عمد إلى القص والإطراء، ذلك هو شأن صغار الأحلام ضعاف الرأي وإسطفانوس واحد منهم. ••• وكان أبو الحسن من ذوي العقول الراجحة، واسع الصدر، يغضي عن الصغائر وينظر إلى الجوهر فقال: «أظنكم تقيمون بالفسطاط الآن؟» قال: «كنا نقيم هناك ثم انتقلنا إلى بابلون بجانب الفسطاط لأن الفسطاط كثيرة الزحام وأبي يحب السكينة في ساعة الرقاد.» قال: «لا أظنه ترك الفسطاط لازدحامها فقط، ولكنكم تُفضلون الإقامة ببابلون؛ لأن سكانها من القبط، فتكون أماكن العبادة قريبةً منكم.» وتبسم. فأدرك إسطفانوس إشارتَه فقال: «يستطيعُ الإنسانُ أن يعبد ربه حيثما يكون، والقبط الآن — كما لا يخفى عليك — في راحة وطمأنينة بفضل أميرنا الحالي.» فتنهَّد أبو الحسن وأطرق، فابتدره مرقس قائلًا: «أحمد الله أَنَّ الأحوال تبدلت وأدرك حكامُنا المسلمون أن محاسنة القبط أولى.» قال: «أتحسب ما ارتكبه بعض الأمراء المسلمين من ظلم القبط كان بأمر الخلفاء أو أنه من قواعد الدين الإسلامي؟ كلا، إن الإسلام يأمر بالحُسنى، يدلك على ذلك ما كان من رفق المسلمين في صدر الإسلام على أيام الخلفاء الراشدين، وإن النبي — عليه الصلاة والسلام — قد أوصى بالقبط خيرًا، وإنما هي مطامع بعض الولاة لا يريدون لها التعصب على دين بل يرمون من ورائها إلى ابتزاز الأموال. ولو أرادوا بها غير ذلك لَمَا أصابنا نحن الشيعة ما تعلمونه من الاضطهاد حتى منعونا ركوب الأفراس والخروج من الفسطاط، وحظروا علينا اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد، وإذا كان بيننا وبين أحد الناس خصومة قُبل قول خصمنا فينا بلا بينة.» وسكت أبو الحسن هنيهة ثم استأنف الكلام قائلًا: «حتى هذا الوالي أحمد بن طولون فإنه إنما يحاسن ويجامل لغرض في نفسه …» فاعترضه إسطفانوس قائلًا: «وكيف ذلك يا سيدي؟ وقد أحسن جوار القبط ورفع عنهم كثيرًا من المظالم وهل في الرفق بهم وسيلة إلى تحقيق مطمع لحاكم؟» قال: «إن ابن طولون داهيةٌ كبيرُ النفس، ذو تَعَقُّل ودهاء، ألا ترى أنه لم ينزل في الفسطاط؟ فلماذا؟ لماذا ترك قصر الإمارة والمسجد فيها وابتنى لنفسه وجنده قطائعَ خارج الفسطاط بجوار المقطم أنفق فيها الأموال الطائلة؟» فأطرق إسطفانوس ولم يحر جوابًا. فاستأنف أبو الحسن كلامه، وقال: «اعلمْ يا بني أن ابن طولون هذا تركيُّ الأصل وهذا العصرُ عصر الأتراك. فبعد أن كانت الدولة للعرب وكان أمراؤها وقوادُها من العرب أخذت السيادةُ تتحول عنهم إلى الأتراك حتى أصبحوا أهلَ النفوذ والسطوة في بغداد، وسامرا ومنهم أكابرُ الولاة والأمراء والأشراف، وأظنكم لحظتم انحطاطَ شَأْنِ العرب في مرافق الدولة في الفسطاط نفسها، حتى صار الولاة الأتراك يعدون العرب منافسيهم، ويخافون من انتقامهم فلا يأمنون القيام بهم، فأخذوا يبنون المنازل الحصينة لأنفسهم خارج المدن التي يُقيم بها العرب، وقد بدأ بذلك الخليفة المعتصم، فخرج بأتراكه من بغداد وابتنى لهم مدينة سامرا. والفسطاط — كما تعلمون — بلدةٌ عربيةٌ، فلما استتب الحكم لابن طولون ابتنى القطائعَ بين الفسطاط والمقطم — على بُعد الماء عنها — واضطر إلى إنفاق الأموال الطائلة في جر المياه، وأظنكم تعلمون أَنَّ حبيبنا سعيدًا قد أخذ على نفسه جَرَّ الماء إلى القطائع، وأخبرني أن الأمير أنفق في ذلك مالًا كثيرًا.» فقال مرقس: «صدقت يا جارنا العزيز وقد لحظت أنا أيضًا أن أميرنا المشار إليه يطمع فيما لم يطمع فيه سواه من الأمراء السابقين. يطمع في أن يستقل بحكم مصر.» فقطع أبو الحسن كلامه قائلًا: «لقد استقل بها وقُضي الأمر وفاز على ابن المدير صاحب الخراج الذي كان يسومُ الناس الخسف والذل، ويبتز الأموال بغير حساب — سبحان من أنقذكم منه …» قال مرقس: «شكرًا لله على ذلك، ونشكرُهُ على شيء آخرَ أيضًا كان له أثرُهُ في تحسين أحوالنا وتخفيف الضرائب عَنَّا.» قال: «أظنك تعني الكنز الذي عثر عليه ابن طولون في الجبل، إن عثوره على الكنز سَدَّ كثيرًا من حاجاته، فخفف المظالم عن الناس.» قال أبو الحسن: «إن المال المذكور خَفَّفَ الضرائب. أما مُحاسنته القبط وتقريبهم إليه فسببها رغبتُهُ في اكتساب الأحزاب لما قدمته من سوء ظنه بالعرب، فاتخذ القبط حزبًا له وكذلك قُلْ عن الشيعة؛ فإنه يرى في محاسنتهم سياسة ودهاء.» قال مرقص: «فهو يبني القطائع إذن خوفًا من مُساكنة العرب بالفسطاط — ما شاء الله شيء جميل!» فضحك أبو الحسن وقال: «والقبطُ يسكنون بابلون خوفًا من العرب أيضًا حتى أصبحت لهذه الديار الآن ثلاث عواصم: الفسطاط للعرب المسلمين والقطائع للأتراك المسلمين وبابلون للقبط.» ••• سكتوا جميعًا هنيهة، ثم أراد مرقس أن يجامل ضيفه، ويسايره فلا يقطع الحديث، فقال لأبي الحسن: «أظن سعيدًا ما زال في القطائع يعمل في جَرِّ المياه، ولو كان هنا لزارنا معك.» فاستبشرَ أبو الحسن لفتح الحديث، فقال: «بل هو هنا، وقد جاء اليوم وأخبرني أنه فرغ من بناء العين وسيعود قريبًا للاحتفال بِجَرِّ الماء إليها وهو يتوقع من نجاحه تقدمًا كثيرًا.» فقال: «ولما لم يزرنا معك؟» فسعل أبو الحسن ومسح لحيته بكمه استعدادًا للحديث، وقال: «لم يأت؛ لأنه وصل الساعة وهو تعب على أن هناك أمرًا آخر اغتنم وجود حبيبنا إسطفانوس هنا لأعرضه عليك.» فتطاول الرجُلان نحوه لسماع ما يقوله فوجه خطابه لمرقص وقال: «ولا تخفى عليك منزلةُ سعيد عندي فهو على كونه نصرانيًّا قد اتخذته صفيًّا لي، وأحببته كما يحب الوالد ولده وهو ماهرٌ في الهندسة ولم يوجد في مصر كلها من استطاع الإقدام على بناء تلك العين سواه.» فصادق مرقس وإسطفانوس على قوله بالرأس والعينين، فقال أبو الحسن يخاطب مرقص: «أظنك تعرف سعيدًا كيف تراه؟» قال: «أراه شابًّا جميلًا ماهرًا في الهندسة ويحبه كل من عرفه.» قال: «هل تحبه أنت؟» فقال: «كيف لا أُحبه؟» قال: «بناء على ذلك وقد قلت لك إني بمنزل أبيه، جئت بالنيابة عنه؛ لألتمسَ منك أمرًا أرجو من الحبيب إسطفانوس أن يُساعدني في الحصول عليه.» فخفق قلب إسطفانوس لأنه أدرك الغرض المطلوب ولكنه تظاهر بالقبول وقال: «إني طوع أمرك يا سيدي.» فقال أبو الحسن: «جئت أخطب إليك ابنتك دميانة إلى حبيبي سعيد، فهل تخذلني وترفض طلبي؟» فوقع الطلب وقع الماء الحار على بدنيهما، وأجفلا، وسكت إسطفانوس، وأما مرقص فأجاب جوابًا مضطربًا مجاملة، فأدرك أبو الحسن اضطرابه وتردُّده ولم يأبه بالمجاملة؛ لأنه قرأ الإنكار في عينيه، واكتفى بما لحظه وأهل الإحساس يقرءون الفكر خلال الإنكار، وبعضهم يدرك مرادك قبل أن تتكلم. وكان أبو الحسن من هؤلاء، فأيقن بفشل مهمته لكنه تجاهل وقال: «أنا أعلم أن إجابة طلبي تقتضي ترويًا ونظرًا، فأمهلك ريثما تتبصر فيه.» فأحس مرقص عند هذا الاعتذار كأنه كان في سجن وأُفرج عنه، ولو كانت له شجاعة أدبية لقال له: «إنها مخطوبة.» إذ قد سبق ووعد إسطفانوس بها، ولكنه خشي الصراحة وحسبها خشونةً، فلما سمع كلام أبي الحسن ابتسم وقال: «طبعًا سأنظر في الأمر والذي يقدره الله يكون.» وأسرع أبو الحسن حالًا إلى تغيير الحديث، فطرق موضوعات مختلفة، ثم وَجَّهَ خطابه إلى مرقص قائلًا: «أرجو من فضلك يا جارنا العزيز أن تساعدني على الحبيب إسطفانوس؛ فإني أحب أن يؤانسني بزيارة، وأن تتفضل أنت معه.» فتصدى إسطفانوس للجواب قائلًا: «أشكرُك يا سيدي. كنت أودُّ ذلك من صميم قلبي، لولا أني عزمت على العودة غدًا.» قال: «وإلى أين؟ لقد تعجلت الرجوع وأنت لم تأتنا إلا الساعة.» قال: «نعم جئت لآخذ المعلم مرقص معي.» قال: «تأخذه؟ إلى أين؟» فضحك مرقص وقال: «لا تخف. ليس إلى السجن ولا إلى الصلاة.» فقطع إسطفانوس كلامه قائلًا: «بل إلى الصلاة ألست ذاهبًا لحضور عيد الشهيد؟» قال: «إننا ذاهبون لحضور الاحتفال، ولا بأس من حضور الصلاة.» فقال أبو الحسن: «أظنكم ستذهبون على هذه الدهبية لمشاهدة الاحتفال في النيل.» فرأى إسطفانوس من اللياقة أن يدعوه لمرافقتهم، فقال: «إن منظر الاحتفال في النيل بهيجٌ جدًّا، فهل تتفضل وترافقنا في هذا السفر؟ وهذا الاحتفالُ مع كونه نصرانيًّا فإن المصريين على اختلاف أديانهم يشتركون فيه؛ لأنه في الحقيقة احتفالٌ وطني.» فاستغرب أبو الحسن قوله وقال: «هل هو عيد شم النسيم أو النيروز أو فتح الخليج حتى يعد قوميًا؟» قال: «اعتبروه وطنيًّا؛ لأنه حَلَّ محل احتفالٍ كان شائعًا في مصر قبل دخول العرب، فلا شك أنك تسمع بضحية النيل الفتاة الجميلة التي كان أسلافنا يزفونها إلى النيل ويلقونها فيه كل سنة استدرارًا لمائه.» فقاطعه أبو الحسن قائلًا: «نعم سمعت حديثها ولكن المسلمين أبطلوا هذه العادة — على ما أعلم.» قال: «نعم أبطلوها، ولكن القبط ما زالوا يخافون غضب النيل إذا لم يزفُّوا إليه شيئًا، فأبدلوا بالضحية المشار إليها إصبعًا من أصابع شهدائنا الأولين، تلقى في النيل كل سنة قبيل فيضانه، فيحتفلون بذلك في الثامن من بشنس، ويضعون الإصبع في تابوت يُلقونه في النيل فيأخذ في الزيادة من ذلك اليوم.» ••• وكان أبو الحسن مصغيًا يسمع، فلما فرغ إسطفانوس من كلامه أظهر سروره بما استفاده، وقال أنه كان يود أن يُجيب دعوته ويرافقه، ولكنه يؤثر البقاء في المنزل إكرامًا لسعيد؛ لأنه قادمٌ من سفر، وربما لحق بهم بعد حين إلى أنْ قال: «وإذا لَحِقْنَا بكم نعرف دهبيتكم من رايتها، أليست هي راية المارداني؟» فخشي إسطفانوس إذا ألح في الدعوة أن يرافقه في الدهبية، وربما جاء سعيد معه وقد أصبح لا يطيق رؤيته غيرة منه على دميانة، فاكتفى بقوله: «نعم هي للمارداني وأرجوا أن تلحقوا بنا فيكون حظنا كبيرًا.» وسكت وانتبه أبو الحسن على أنه أطال الجلوس قبل العشاء فاعتذر وانصرف. ولَمَّا خلا إسطفانوس بمرقس نظر إليه نظرة استعطاف واستفهام. فضحك مرقس واتخذها ذريعةً لإظهار فضله على إسطفانوس وقال: «لا تخف يا عزيزي لو طلب دميانة ابن طولون وكان نصرانيًّا لَما سمحت بها لسواك.» فأثنى إسطفانوس على تفضله وحسن رأيه فيه ووضع يده على كتفه تحببًا كأنه يحاول ضمه وقال: «بارك الله فيك يا أخا الرجال. لقد طالما أثنى أبي على لطفك وفضلك وذكر العلاقات الودية القديمة بين أسرتينا.» فاغتنم مرقس ذِكْر أبيه فقال: «إن أباك المعلم حنا ينسى القديم ولا يذكر غير الجديد، فقد فرحنا بتقدمه في ديوان الخراج حتى أصبح كاتب المارداني ولكن هذا قَلَّمَا أفاده أو أفادنا.» فأدرك إسطفانوس أنه يلمح إلى أمر يُريده من أبيه، فقال: «لا تظن أبي ينسى أصحابَه، ولا أظنك نسيت تَخَلِّيهِ عن الضريبة المتأخرة على ضيعتك من أيام الظلم.» فقال: «إنه فعل ذلك بأمر ابن طولون — كما تعلم — على أني لا أشك في أن أباك لا يدخر وسيلة في التخفيف عنا ولي عنده ملتمس لا يكلفه عناء. سأذكره لك بعد حين.» وكانا يتكلمان وهما خارجان من القاعة بعد أن وَدَّعَا أبا الحسن، وكان الخدمُ قد أَعَدُّوا الطعامَ، فوضعوه على المائدة حَالَمَا علموا بخُرُوج أبي الحسن، فقعد الصديقان ساعة أخرى للطعام والشراب، ثم آوى كلٌّ إلى فراشه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/91708090/
أحمد بن طولون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «أحمد بن طولون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. ويجمع هذا العمل بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية الهامة التي وقعت في عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة في أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، في العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان في هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التي اعتمد في ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
https://www.hindawi.org/books/91708090/4/
الصعود في النيل
ويزداد منظر الشاطئين جلالًا وجمالًا في الليل، ولاسيما إذا كانت الليلة مقمرةً، وقد هدأت الطبيعة وسكنت الرياح وأوت الطيور إلى أوكارها وتكسرت أشعة القمر على سطح الماء، كما وصفها ذلك الشاعر بقوله: وقد يتكاثر النخيل في بعض الأماكن حتى تتألف منه غاباتٌ غضة تتغنى فوقها الطيور وتتخللها أكواخُ الفلاحين. ناهيك بما يقع عليه بصرك من الأبنية الفخمة من آثار الفراعنة — وأكثرها في الصعيد — أما الصاعد في السفينة إلى الفسطاط فلا يقع بصرُهُ من تلك الآثار إلا على أهرام الجيزة وقد يرى أبا الهول. هذا والسفينة تسير نهارًا وترسو ليلًا ولا سيما في الربيع؛ إذ يكون النيل في معظم انخفاضه وفي قاعه صخور يعرف الربان موضعها في النهار، ويخشى أن يخدعه بصره أو تخونه ذاكرتُهُ في الليل، فلا يسيرون في النيل فيه. قضى ركاب دهبية المارداني أيامًا في طريقهم من قرية طاء النمل إلى شبرا وقد تباطئوا عمدًا؛ لكي يصلوا إلى الاحتفال في إبانه، وكانوا يتمتعون بمناظر الضفتين على نحو ما ذكرنا إلا دميانة؛ فقد كانت تقضي معظم نهارها منفردةً تصلي أو تتذمر وزكريا يؤانسها ويعزيها، وقد ندمت على مجيئها وآثرتْ أن تُغضب أبوها يومًا أو يومين ولا تحمل نفسها ما لا طاقةَ لها به من تكلُّف اللطف والمسايرة على الطعام أو عند الكلام. وكانوا قد نصبوا في الدهبية مظلة جميلة فرشوا أرضها بالطنافس وزيَّنوا جوانبها بأغراس الرياحين والأزهار، يجلسون فيها للحديث أو الشرب أو التفكه. ولم تجلس دميانة هناك قط ولم يظهر ذلك غريبًا لأبيها؛ لأنه تَعَوَّدَ أن يراها منفردةً في البيت تقضي أوقاتها في الصلاة أو القراءة أو تشغل نفسها بأُمُور بيتية لا تهمه. أما إسطفانوس فلم يكن يدخر وسعًا في التحبُّب إليها تارة بتقديم الفاكهة أو الزهور وآونة بلفتها إلى منظر جميل أو موقف غريب لعله يسمع منها كلمةَ استحسان أو تلطف أو ما يدل على وُقُوعها في شرك جماله أو الافتتان بحديثه أو ذكائه أو الإعجاب بمنصب أبيه ونفوذه. وكان يحسب ركوبه في دهبية المارداني كافيًا لرفع منزلته في عيون الناس. ولو كان من أهل الشعور الرقيق لَأدرك مِن أول مقابلة أنها لا تُطيق رؤيته ولا تُريد عشرته — ولو أظهرت اللطف أحيانًا عملًا بأدب السلوك واحترامًا لرأي أبيها. وأَطَلَّ ركاب الدهبية على شبرا في ظُهر يومٍ صفا جَوُّهُ، فلم تقع أبصارُهُم إلا على خيام مضروبة وأعلام منصوبة، وبين ذلك شجر النخيل يناطح السحاب على ضفتي النيل وفي الجزر بينهما. فانتهر إسطفانوس تلك الفرصة، وتقدم إلى دميانة، وكانت واقفة قرب السارية تتلهَّى بما يقع عليه بصرها في الضفتين محاذرة أن تلتقي به أو يقابل وجهُها وجهه، فرارًا مِن سماع حديثه، فلما رأته يمشي إليها استعاذت بالله وعلا وجهَها الاحمرار، فتلهت بصليب معلق في عنقها كانت شديدة الحرص عليه إذ أهدته إليها راهبةٌ من دير المعلقة كانت قد زارت طاء النمل لجمع النذور وهي تعتقد فيه القداسةَ والكرامة. فلم يبال إسطفانوس ارتباكها. أو لعله حسبها استحيتْ من مقابلته كما يستحي الحبيبُ من مُحبه. واغتنم انفرادها عن سائر أهل السفينة ليطارحها الغرام وأحب أن يتدرج إلى ذلك بأسلوب لطيف فقال: «لا أدري أأهنئك بهذا الصليب يا دميانة أو أهنئه بك؟» فأدركت قصده وأحبت أن تؤنبه فقالت: «أبمثل هذا الكلام يتحدثون عن صليب السيد المسيح؟» فظنها تداعبه فقال: «لا أعني صليب المسيح وإنما أعني هذا الصليب فإنه نال مقامًا يتحسر عليه كثيرون.» وتنهد وأبرقت عيناه ووقف ينتظرُ جوابها. أما هي فتوردتْ وجنتاها وشَقَّ عليها ما يجولُ في ذهنه، فأرادت أن تغير الموضوع فقالت: «حقًّا لم أشاهد احتفالًا مثل هذا.» ووجهت نظرها إلى تلك المضارب. فلم يشعر بما ينطوي عليه نقل الحديث من الاحتقار، وسر؛ لأنها فتحت بابًا للكلام فقال: «إنه احتفالٌ باهرٌ؛ ولذلك أحببت أن تحضريه فجئت في خدمتك بدهبية صاحب الخراج، وسننزل بعد قليل في فُسطاط نصبوه لنا خاصة أمام تلك الجميزة الكبيرة.» وأشار بيده إلى شجرة كبيرة، أمامها سرادق ثمين نُصب ببابه علم يشبه العلم المنصوب على السفينة. فعلمتْ دميانة أنه سرادق المارداني، وشق عليها النزولُ به مع إسطفانوس وهي تكره رفقتَه وتعلم فوق ذلك أنها ستُلاقي هناك ما تكرهه من موائد المدام وأبارح الراح، فقالت — وقد بدا في وجهها الاشمئزاز: «لا … اسمحْ لي ألا أذهب.» فقال معاتبًا: «لا تخافي يا دميانة لست بنازلة فيه وحدك؛ فإن أباك ذاهبٌ معنا.» فرفعت كتفيها وهزت رأسها — إشارة الرفض — ولم تتكلم. فلم يكتف الشاب بذلك فقال: «وإن كنت في ريب مما أقول فصديق والدك آت الآن، ويقول لك ما قلت.» فتراجعتْ والتفتت لفتة من سمع صوت قادم، فرأت العم زكريا آتيًا نحوها، وهو يهم بأن يكلمها، فتوجهت إليه بكُلِّيتها، فقال لها: «ألا تزالين عازمة على زيارة هذه الكنيسة يا مولاتي؟» وأشار إلى كنيسة شبرا التي يختلفون بإخراج التابوت منها كل عام. ففهمتْ أنه ينتحل وسيلةً لتخليصها من إسطفانوس، فقالت: «كثيرًا ما اشتهيتُ زيارتها والتبرك بها، ولا سيما في مثل هذا الاحتفال.» فقال: «إن السفينة لا تلبث أن ترسو عند الشاطئ، وقد استأذنت أباك في الأمر.» فقالت: «لقد أحسنت يا عماه.» ومشت معه لتبديل ثيابها وتركت إسطفانوس على مثل الجمر وقد أحس أنها تتعمد احتقاره فكظم ما في نفسه وذهب إلى مرقص فقص عليه ما قالته له، فقال: «وهل ساءك ذلك؟ إن بُعدها في مثل هذا اليوم نعمة؛ لأن وُجُودها معنا في الفسطاط لا يوافِق هوانا. أم جئنا لحُضُور الصلاة؟ إنها لا يلذ لها أن تحضر موائد الشراب، فَدَعْهَا تذهب لصلاتها ونحن نذهب إلى مجلس أُنسنا وسماع الغناء والضرب على العود والنفخ بالمزمار، إنها فرصةٌ نادرةُ المثال، فلا ينبغي إضاعتها.» فلم يحر إسطفانوس جوابًا، ولكن قلبه اتقد غيظًا. أما مرقس فتظاهر بأنه كان يود دميانة أن ترافقه، فتَحَوَّلَ إليها وقد تزملت بمطرفها ولَفَّتْ رأسها بخمارها، ووقفت تنتظر رسو السفينة، فلما رأته توجهت إليه فابتدرها قائلًا: «بَلَغَني أنك ذاهبة إلى الكنيسة على أن صاحبنا إسطفانوس قد أَعَدَّ لنا فسطاطًا لجلوسنا.» قالت: «إني أُوثر الذهاب إلى الصلاة. وربما وافيتُك إلى المكان الذي تعنيه.» قال: «لا أُحب أن أُلجئك إلى أمر لا تُحبينه. افعلي ما بدا لك. ومتى تفرغين من الزيارة؟» قالت: «لست أدري الآن ولعلي آتيكم نحو الغروب.» فقال: «حسنًا. وأنا مطمئن لوجود العم زكريا معك. سيري بسلام.» قال ذلك ومشى إلى صديقه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/91708090/
أحمد بن طولون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «أحمد بن طولون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. ويجمع هذا العمل بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية الهامة التي وقعت في عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة في أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، في العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان في هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التي اعتمد في ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
https://www.hindawi.org/books/91708090/5/
بين سعيد وإسطفانوس
وقفت دميانة تنظر إلى القوارب والحراقات الماخرات في النيل على عرضه وفيها الناس زرافات ووحدانًا وقد مدت عليها الموائد للطعام والشراب. وما من حراقة إلا وفيها أوعية الخمر وأطباق الفاكهة. وقد تزاحم الناس رجالًا ونساءً من أصحاب اللهو وأرباب الملاعب والمخنثين. وعلت ضوضاء المغنيين والمغنيات والراقصين والراقصات وقد خلع بعضهم العذار وفتكوا برقع الحياء. وكانوا يرتكبون في ذلك الاحتفال أنواع القصف ويجاهرون بالمنكرات حتى لَتثور الفتن ويقتل الناس ويباع من الخمر خاصة في ذلك اليوم بما ينيف عن مائة ألف درهم أو خمسة آلاف دينار. وقد ذكروا أن واحدًا باع في يوم واحد باثني عشر ألف درهم فضة من الخمر. وكان اعتماد فلاحي شبرا دائمًا في وفاء الخراج على ما يبيعونه من الخمر في عيد الشهيد إذ يجتمع في ذلك الاحتفال عالم عظيم يملأ البر والبحر لا يحصيهم إلا خالقهم، بعضهم في القوارب والحراقات والبعض الآخر في الخيام. وأخذ ربان الدهبية يُزاحم القوارب والحراقات والناس يوسعون لها؛ لأنها لصاحب الخراج حتى دنتْ من الشاطئ وقد مالت الشمس نحو الأصيل فتسارع البحارة إلى إنزال الركاب. وتأهبت دميانة للنزول وإذا هي تسمع بعضهم يقول: «هذه سفينةُ الوالي انظروا انظروا. إنها سفينة ابن طولون؟» فلما سمعت ذلك أجفلت، والتفتت فرأت بقرب الضفة الأخرى من النيل سفينة فخمة عرفت أنا هي التي يعنونها، لكنها لم تُشاهد عليها الراية، وتذكرت علاقة حبيبها سعيد بابن طولون، فقالت في نفسها: «لعله على ظهر هذه السفينة.» وأطالت النظر إليها؛ ترجو أن ترى ما يدلها على ذلك فلم تستطع تمييز شيء، ولكنها سمعت الناس يستغربون مجيء هذه السفينة وهم بين مصوب ومخطئ، ولم تنتبه دميانة إلا والعم زكريا يناديها لتنزل، فنزلت ووقفت تنظر إلى تلك السفينة فرأتها تقترب من الشاطئ ودهبية المارداني تتقهقر إلى الوراء لتخلي لها مكانًا لترسو — فرجح عندها أنها سفينة الوالي، ولكنها لم تشاهد علَمه عليها، واستطالت الوقوف فاستحيت ومشت نحو الكنيسة فمشى زكريا أمامها وهو يوسع لها الطريق بين الباعة وأهل الشعوذة والغوغاء، فقطعت مسافة طويلة بين الخيام وقد تصاعد الغبار وعلا الضجيج وهي مطرقة لا تلتفت يمينًا ولا شمالًا حتى وصلت إلى الكنيسة — وقد تزاحم الناس في صحنها وقل بينهم من جاء للزيارة أو للصلاة — فدخلت الكنيسة وما تنسمت رائحة البخور الممزوج بدخان الشموع حتى انتعشت وخشعت فاستفهمت عن الصلاة متى تكون، فقيل لها إنهم يبدءون بها نحو الغروب، ويتولى رياسة القداس أسقف الفسطاط — وكان من كبار الأساقفة — وقد عهد إليه أن يرأس القداس هناك لقُربه من شبرا ففرحت دميانة؛ لأن القداس سيكون فخمًا. وأحبت أن تغتنم فرصة الانتظار لمشاهدة التابوت الذي فيه أصبع الشهيد فقيل لها إنه موضوع في حجرة مقفلة بجانب الكنيسة، لا يخرجونه إلا في حينه. فاكتفت بالصلاة تشغل بها نفسها حتى يبدأ الأسقف قداسه. فتحولت إلى أيقونة ولادة السيد المسيح، وأخذت تصلي بحرارة تطلب ما تشعر بأنها في حاجة إليه، وهي لا تحتاج إلى شيء مثل حاجتها إلى التخلُّص من الشراك التي نصبت لها، فتوسلت إلى الله أن يُنقذها من إسطفانوس، فقد كان قلبها دليلها على أنه ليس النصيب الذي تريده. ••• كانت دميانة تصلي وتتضرع، ولا يلتفت أحدٌ إليها لاشتغال كل بنفسه، والعم زكريا منتح مكانًا في الكنيسة يرى منه دميانة ويشاركها إحساسها، وفيما هي غارقة في تضرعاتها سمعت سعالًا أجفلها؛ لأنه وقع في أذنها وقوعًا نبه عواطفها ولفت قلبها، فالتفتت بغير قصد إلى جهة السعال فرأت سعيدًا مقبلًا نحوها فتسارعت دقات قلبها وتولتها الدهشة وتوهمت أنها في حلم؛ لأنها لم تكن تتوقع قدوم سعيد في تلك الساعة. فلما وقع نظرها عليه ابتسمت ووقفت لا تدري ماذا تفعل. أما هو فمشى نحوها يبتسم ويقول: «أظنني أزعجتك يا دميانة سامحيني.» قالت: «لم تزعجني يا سعيد، ولكنك أدهشتني بهذا اللقاء على غير انتظار لعلك أتيت لتحضر قداس الأسقف؟» قال: «أي أسقف؟ كلا إنما جئت لأراك.» قالت: «جئت لتراني؟ ومَن أنبأك أني هنا؟» فتنهد وقال: «علمته من وقوف سفينة المارداني بقريتكم، ومن دعوة ذلك الشاب إياك لتحضروا الاحتفال بعيد الشهيد.» فأدركت أن أبا الحسن أخبره بما حدث وعلمتْ أن سعيدًا لم يوافها إلى شبرا إلا غيرة عليها فانبسطت أسرَّة وجهها، وازداد ميلها إليه فقالت: «وكيف أنت؟ هل تنوي البقاء هنا إلى صباح الغد؟ وأين تقيم وكيف؟» وتلعثم لسانها من شدة الفرح. فقال: «أتيت في سفينة الوالي أحمد بن طولون.» قالت: «إن قلبي كان دليلي منذ رأيت تلك السفينة. وهل ابن طولون فيها؟» فأطرق سعيد وسكت لحظة ثم قال لها همسًا: «هو فيها، لكنه لا يُريد الظهور للناس وقد أوصاني بأن أكتم مجيئه؛ لأنه جاء بناءً على ترغيبي؛ فقد كان دعاني في هذا الصباح ليكلمني بشأن العين والاحتفال بجر الماء إليها، فانتهزت هذه الفرصة المواتية وذكرت له الاحتفال بعيد الشهيد وما يجري فيه من الغرائب ورغبته في مشاهدته ليلًا، فرضي وأركبني معه على أن يشاهد ذلك سرًّا، فلما رست بنا السفينة استأذنتُهُ في زيارة الكنيسة ريثما يخيم الظلام ويبدأ الاحتفال، فجئت ومررت بالفسطاط الذي كنت أحسبك فيه، فرأيت أباك وصاحبه في زمرة من الشاربين والمغنيين وعلمت أنك أتيت الكنيسة فجئت.» فقالت: «إنها منة لا أستحقها. فأنت باق هنا إلى الصباح؟» قال: «سأبقى في السفينة عن بعد. كيف أنت الآن؟» فهاج سؤاله أشجانها فأطرقت وتنهدت، وأرسلت دمعتين رآهما سعيد تنحدران على خديها، فأحس بهما كأنهما جذوتان وقعتا على قلبه فقال: «ماذا أرى؟ ما بالك؟ ما الذي يخيفك يا دميانة؟» وأدرك سبب بكائها فاستأنف الكلام قائلًا: «لا تخشي أحدًا إذا كنت شجاعة كما أعهدك، إن ذلك الغلام سيرجع القهقرى كما رجعت سفينته أمام سفينتي الليلة، إنه لا يستطيع أن يلثم موضعًا وطأته قدمي.» قال ذلك وبانت عليه أمارات الأريحية والأنفة. فأعجبت به ولكنها كانت تخاف أباها، فانقبضت نفسها وتجلدت، فقالت: «أَراجع أنت إلى السفينة الآن؟» قال: «لا بد من ذهابي قبل الغروب إلا إذا أمرتني بالبقاء لأمر تخافينه، فلا أبالي رضي الوالي أم غضب.» قالت: «أما بقاؤك معي فغاية مرادي.» وتوردتْ وجنتاها وأتمت الحديث قائلة: «ولكنني لا أريد أن تغضب ابن طولون وهو الذي قدمك ورفع منزلتك ولكنني …» وسكتت. قال: «لن يطول افتراقُنا؛ فإننا عما قليل نحتفل بجر مياه العين، وبعد ذلك نجتمع ويكون اجتماعُنا دائمًا — إن شاء الله — هذا إذا كنت تريدين.» فتنهدت وقالت وهي تخفض صوتها لئلا يسمعها أحد: «تسألني إذا كنت أريد؟ هذا أمر لا أجيب عنه سل قلبك يدلك عليه ولكن ماذا أفعل؟» وشرقت بدموعها. فأدرك غرضها، فقال «فهمت. أما هذا المغرور الذي يتطاول إليك فإنه لن يحصل منك على قلامة ظفر، ومهما يكن من طُول باعه عند صاحب الخراج فإن صاحب مصر أطول باعًا وأرفع مقامًا.» وحانت منها التفاتةٌ فرأت العم زكريا مسرعًا نحوها يقول: «إن الرجل آتٍ.» قالت: «أي رجل؟» قال همسًا: «إسطفانوس.» فلما سمعت اسمه تراجعت وامتقع لونُها، ونظرت فرأت إسطفانوس داخلًا يتمايل ويزيح الناس بيده ويمشي مختالًا، فبغتت حتى كاد الدم يجمد في عروقها. ولحظ سعيد اضطرابها فهبت فيه الحمية وعزم على التفاني في الدفاع عنها. فتقدم حتى وقف بحيث يعترض إسطفانوس إذا اتجه نحو دميانة، وقد كاد الشرر يتطاير من عينيه. ووصل إسطفانوس يترنح من السكر، فلما وقع نظره على سعيد ثاب إلى رشده وتبخر سكره وثارت الغيرة فيه وأخذته العزة بمنصب أبيه بعد أن رأى الناس يوسعون له ويحترمونه، فأشار إلى سعيد أن يفسح له طريقه فلم يجبه فمد يده وهَمَّ بأن يزيحه من الطريق وهو يخاطب العم زكريا وينهره ويقول: «ما هذا الوقوف هنا إلى هذه الساعة؟ إن مولاك ينتظركما وقد غربت الشمس.» فلما رأى سعيدٌ يد إسطفانوس ممدودةً إليه دفعها عنه بعنف فتقهقر إسطفانوس حتى كاد يقع على الأرض وكبر ذلك عليه في مشهد من الناس، فعاد إليه وقد شرع يده كأنه يهدده وقال: «ما هذه القحة؟ أنا لا أخاطبك. امش في سبيلك.» فدفع سعيد يد إسطفانوس عنه وقال: «امش أنت. عد إلى مكانك حتى تنتهي من سكرك.» فأكبر إسطفانوس هذه الإهانة، ومد يده إلى جانبه كأنه يحاول أن يستلَّ خنجرًا، فابتدره سعيد بلطمة على خده، فدار على نفسه وقلب على ظهره، وكان لوقوعه صوتٌ لفت أنظار الجمهور. فارتبكتْ دميانة وخافت الفتنة، وأمسكت سعيدًا بيده وتوسلت إليه أن يتركه ويمضي لسبيله خوفًا من الفضيحة، فقال: «لا خوف عليك ليس للأمر علاقة بك.» وتقدم إسطفانوس وهو يتحفز للقيام وهَمَّ بأنْ يركل بقدمه فتهافت الناس ومنهم من يُريد الدفاع عن إسطفانوس لوجاهته عندهم وهم لا يعرفون سعيدًا، وأراد بعضهم أن يرده فصاح سعيد: «ارجعوا، والله لولا حرمة هذا المعبد لأَرَقْتُ دماءكم على بلاطه.» فتراجعوا وعمدوا إلى اللين وكان إسطفانوس قد نهض ورجع إلى رشده وأدرك عجزه عن مناوأة سعيد، فلجأ إلى الحيلة، فتحول من غضب إلى عتاب، وقال لسعيد: «إني لم أكلمك فلماذا تعتدي عليَّ. إن أبا هذه الفتاة استبطأ غيابها، فكلفني أن أدعوها فكأنك ظننتني أريد بها سوءًا، فأخذتك الغيرة عليها لأنك جار أبيها — على ما أذكر — فتعرضت لي؟». فلما رأى سعيد جُبنه واحتياله ازداد احتقارًا له، فقال: «مهما يكن السبب فمثلك لا يليق أن يأتي لهذه المهمة وهو يترنح من السكر، فإذا كان أبو الفتاة يطلبها فليأت هو ليأخذها وأنا واقف هنا في خدمتها حتى يصل.» فضحك إسطفانوس جبنًا ورياءً وقال: «كأنك لم تصدق قولي. اسأل العم زكريا؛ فإنه يعرفني. ثم إني لم أخاطب السيدة نفسها وإنما خاطبت خادمها.» فتقدم العم زكريا لفض المشكلة بالحُسنى، فخاطب سعيدًا قائلًا: «أشكرك يا مولاي. والمعلم إسطفانوس يشكرك أيضًا على غيرتك وتفضلك، ولعلك تعرف علاقته بسيدي، فإننا جميعًا في ضيافته اليوم.» ثم وجه خطابه إلى إسطفانوس قائلًا: «وأظنك يا مولاي تعلم أن المهندس سعيدًا من أبناء طائفتنا وهو جارنا في المنزل وعزيز على سيدي ولم يتصد لك إلا لأمر أنت …» فقطع إسطفانوس كلامه وعمد إلى المداجاة والملاينة قائلًا: «قد علمت أنه من طائفتنا وإن كان مقيمًا مع أبي الحسن. ولكنه لم يمهلني حتى أُفهمه مرادي، فنحن إذن أصدقاء.» وضحك. فأتم العم زكريا كلامه: «وأما سيدتي دميانة فإنها ستبقى هنا لحضور قداس الأسقف الليلة، وأنا معها ولا خوف عليها.» فقال: «إذا كان الأمر كذلك فقد انقضت مهمتي، وها أنا ذا راجع لأخبر صديقي المعلم مرقس بذلك.» والتفت إلى سعيد، وقال: «أنا ذاهبٌ يا صاحبي، فهل باق أنت هنا؟» فاستغرب سعيد ما رآه من جبنه وذُله وصغر نفسه، وأجابه بلا اكتراث: «نعم أنا باق.» فخرج إسطفانوس ولسانه يقول: «أستودعك الله.» وقلبه يضمر الحقد وتدبير الأذى لسعيد. وظل هذا واقفًا حتى خرج إسطفانوس ثم هز رأسه والتفت إلى دميانة وقال: «إنه لخلق غريب هذا هو منافسي فيك، وكنت أود البقاء في خدمتك إلى آخر الليل لولا اضطراري إلى العودة للسفينة، وقد غابت الشمس وأخاف أن يغضب الوالي وأنت لا ترضين أن يغضب.» فوقعت دميانة في حيرة وقد زاد احتقارها إسطفانوس واحترامها سعيدًا، وقالت: «لا أريد أن يغضب الوالي، سرْ في حراسة الله.» فأدرك مِن لحن صوتها أنها لم تقل كل ما في خاطرها، فنظر إليها وعيناه تتكلمان وهي تجيبه بعينيها، وكلاهما يحاذر أن يلحظ الناس حاله. ولولا اشتغال الجميع بشئونهم لم تُتح لهما فرصة للكلام. فلما رأته دميانة ينظر في عينيها أدركت أنه يستفهمها عن مرادها، فقالت ثانية: «سرْ في حراسة المولى ورعاية السيد المسيح.» قال: «فهمت ذلك من قبل ولكنني أحسبك تضمرين شيئًا آخر.» قالت: «لا أضمر شيئًا سوى أني …» ففهم مرادها، وقال: «ولا تبالي شيئًا، فما هي إلا بضعة أيام حتى يخلو لنا الجو، فإني عندما انتهي من جر الماء أفوز برضاء الوالي، فلا يبقى لصاحبنا هذا جسارةٌ للكلام معك، ويظهر أنه لم يعد يجسر على ذلك منذ الآن ألم تري جبنه وخوفه؟ اطمئني لا تخافي. أستودعك الله.» ومد يده وودعها وخرج. أما دميانة فوقفت بعد خُرُوج سعيد جامدة، وقد ندمت على مجيئها إلى الكنيسة؛ لعلمها بأخلاق إسطفانوس. وأدرك العم زكريا قلقَها فأخذ يخفف عنها ويحقر أمر إسطفانوس في عينيها ويهون عليها غضبه وأنه لا يستطيع أمرًا. ثم علت الضوضاء في الكنيسة وتصاعدت رائحةُ البخور وتعالت أصوات الترتيل وصلصلة المباخر، فتوجهت الأنظارُ نحو الأسقف داخلًا بأثوابه الكهنوتية تتلألأ وبين يديه الشماسة بالشموع والمباخر، فاشتغلت بسماع القداس عن هواجسها إذ كانت تجد في سماعه لذةً عظيمة. قضت في الصلاة وسماع القداس برهة وهي تفهم كل ما يقال لأن الصلاة كانت لا تزال كلها بالقبطية وهي تفهمها جيدًا. وكان الظلام قد أسدل نقابه، فازدادتْ أنوار الشموع ظهورًا وكثر الزحام حتى تضايقتْ دميانة في موقفها. ولحظ العم زكريا ذلك فاستمهلها وذهب إلى شماس يعرفه، واستأذنه في كرسي ترتاح عليه بحيث تسمع الصلاة بعيدًا عن الضوضاء. فأجاب الشماس طلبه ودعاها إلى كرسي بجانب الهيكل بعيد عن الناس. فجلست عليه ووقف العم زكريا بين الحضور وهو يراعيها وينتظر إشارتها. فلما جلست هناك أشرفت على الجماهير وأكثرهم من أهل القرى والعمال بين مصغ للقداس ومشتغل بالحديث. وفيهم النساء والأطفال والضوضاء غالبة لشدة الزحام. ومع تلذُّذها بما تسمعه من التراتيل الروحية فإن صورة سعيد لا تزال تعترض تصوراتها فإذا تذكرت ما دار بينهما اختلجَ قلبها وإذا تذكرت إسطفانوس انقبضتْ نفسها، وفيما هي في ذلك رأت الجماهير يتفرقون وقد فتحوا في وسطهم طريقًا دخله جماعةٌ يحملون تابوتًا عليه رسوم كنائسية. حتى إذا توسطوا الكنيسة وضعوه على منضدة قائمة هناك، وخشع الناس لرؤيته ودنا الأسقفُ منه بالمباخر، وأخذ يتلو الصلوات والأدعية ويتضرع إلى الله أن يقبل احتفالهم ويبارك النيل إذا ألقوا التابوت فيه والناس على دعائه. ••• فرغ الأسقف من الصلاة، وأخذ الناس ينفضون ويخرجون فنظرت دميانة إلى العم زكريا في المكان الذي عهدته فيه، فلم تجده فارتبكت في أمرها، وأجالت نظرها في الجمع لعلها تجده بينهم، فلم يقع بصرُها عليه، فازدادت قلقًا إذ خافت أن يخرجَ الناس كلهم ولا تراه. لكنها ما عتمت أن رأتْه داخلًا مسرعًا، فسري عنها ولما دنا منها سألته عن سبب غيابه فقال: «فكرت فيما نعملُهُ بعد انقضاء القداس، وأنا أعلم أنك لا تحبين الذهاب إلى فسطاط إسطفانوس، فذهبت إلى أبيك واستأذنته في أن نعود للمبيت في الدهبية.» ففرحت لهذه الفكرة وقالت: «وهل أذن لك في ذلك؟» قال: «نعم هيا بنا إذا شئت.» فنهضت ومشت في أثره حتى خرجت من الكنيسة، فرأت ما أدهشها من الأنوار الكثيرة في الخيام على الضفتين وفي الجزر وفيها المصابيح والمشاعل وقد تزاحم الناس وعلت ضوضاؤهم بين غناء ونداء وعربدة وقهقهة. ولفت نظرها ما شاهدته هناك من الأنوار السابحة في النيل على الحراقات، فإنها كانت كثيرةً وفي كل حراقة جماعة يشربون ويعربدون ويصيحون، وقد اختلط حابلُهُم بنابلهم رجالًا ونساءً. فأضاء العم زكريا مصباحه ومشى بين يدي دميانة في طريق قليل الزحام بعيد عن الشاطئ حتى إذا قابل الدهبية تحول نحوها ودميانة تقتفي أثره وعيناها شائعتان في عرض النيل تتفرس السفن لعلها تميز سفينة ابن طولون فلم تجدها وما زال العم زكريا حتى صعد بها إلى دهبيتهم وما دخلت غرفتها وبدلت ثيابها وجلست للاستراحة حتى جاءها العم زكريا بطعام تناولت بعضه وهي لا تشعر بالنعاس فصعت إلى مجلسها في أعلى السفينة وأعادت نظرها إلى الحراقات والسفن وهي تبحث عن سفينة ابن طولون وتظهر أنها تتفرج على الحراقات، فتحققت غياب السفينة. وكانت قد ضاقت بما تسمعه من ألوان العربدة في السفن حولها فأوت إلى فراشها. وأفاقت في فجر اليوم التالي على صُراخ الناس عند خروج الأسقف والكهنة بالتابوت. وكانوا قد حملوه على قارب وعليه الأزهار والرياحين وقد أخذ الكهنة في الترتيل والأدعية، والقارب يخترق النيل حتى إذا وقف في مكان يعرفونه أنزلوا التابوت في الماء ثم أعادوه، وأخذت جماهيرُ الناس تتفرق برًّا وبحرًا. ولم تشرق الشمسُ حتى رأتْ أباها عائدًا مع إسطفانوس في حالةٍ تشمئزُّ منها النفس من السكر، وهما يحاولان إخفاء حالهما حياءً من دميانة، وهي تتجاهل ما تراه وتتشاغل بشئونها. وذهب إسطفانوس توًّا إلى غرفته وبَدَّلَ ثيابه، ولبس ثوبًا نظيفًا وبالغ في التطيب والتعطر، ولكن رائحة الخمر بقيت تتصاعد من فيه. واغتنم اشتغال مرقس عنه وأتى إلى دميانة وكانت وحدها جالسة على وسادتها، فلما رأته قادمًا استعاذت بالله وأقبل إسطفانوس عليها وألقى التحية وهو يتضاحك واللؤم باد في وجهه وقال: «حقًّا إن جاركم رجلٌ شريفٌ غيور.» فلم تجبه ولكنها تشاغلتْ بإصلاح خمارها؛ لعلمها أنه يتذرع بما قاله إلى الإيقاع بسعيد، وهي لا تطيق ذلك. فلما رآها ساكتة قال: «لماذا لا تجيبين يا دميانة؟ لعله أوصاك بألا تكلميني!» فنظرت إليه شزرًا وأنكرت هذا التلميح. وبان الإنكار في عينيها. وعمدت إلى تغيير الحديث فقالت: «هل جاء أبي؟ أين هو؟» قال: «نعم جاء وهل تريدين أن أقص عليه ما جرى بالأمس في الكنيسة؟» قالت وقد غلبت عليها الأنفة: «كما تشاء افعل ما بدا لك.» فضحك، وقال: «لا. لا أقول شيئًا؛ لأني لا أحتاج إلى نصرته في هذا الأمر. إن إسطفانوس ابن المعلم حنا كاتب المارداني لا يصبر على ما سمعه من ذلك الجار العزيز.» فلم تستطعْ صبرًا على كذبه وريائه فقالت: «ولماذا صبرت على ذلك بالأمس؟» قال: «أتُريدين أن أبارزه في الكنيسة؟» وكأنه أدرك أنه لا ينبغي له أن يبوح بما عزم عليه فقال: «ذلك حديث مضى. وقد أعجبتني غيرته على جارته. ولكنه أظهر طيشًا وحمقًا في دفاعه عنها. لا بأس. سامحه الله!» ثم تظاهر بالتلطف والتودد إليها وقال وهو يجلس على الطنفسة بجانبها: «إننا الآن على أهبة الرحيل وقد قابلت الأسقف في هذه الكنيسة قبل مجيئي الآن.» قال ذلك وابتسم. فلم تفهم مراده، ولم تشأْ أن تستوضحه، فسكتت فقال وهو يدنو منها: «ألا تزالين مستسلمةً إلى الحياء مني؟ ألم تفهمي حقيقةَ أمري؟» فلما كلمها عن قرب فاحت رائحةُ الخمر من فيه، فتباعدت عنه وأظهرت النفور فحسبها تداعبه فقال: «ما بالك تهربين مني وأنا لم أزد على التكلم معك، فكيف إذا فعلت غير ذلك؟» فقالت: «إنما هربت من رائحة الخمر؛ فإني لا أطيقها.» قال: «يا للعجب! هكذا تنفرين من رائحتها. ينبغي لك أن تعتادينها وإلا فيكون عيشنا منغصًا.» فلم تزد عن هز كتفيها وهي تنظر إلى النوتية وهم يشتغلون برفع المرساة وحل الشراع وإدارة الدهبية للإقلاع وسمع إسطفانوس خطوات مرقس فنهض لاستقباله وهو يقول: «أحس بالدهبية تدول بنا هل أقلع الربان؟» قال: «نعم إننا ذاهبون إلى الفسطاط.» ثم وجه خطابه إلى دميانة فقال: «أرجو أن تكوني سررت بهذا الاحتفال والفضل في ذلك لصديقي إسطفانوس فإنه — والحق يقال — لم يدخر وسعًا في سبيل راحتنا. فأَقْدَرَنَا الله على مكافأته.» فسكتت هنيهة، ثم قالت: «إلى أين نحن مقلعون يا أبتاه؟» قال: «إننا ذاهبون إلى مدينة الفسطاط نقضي فيها أيامًا، أظنك لا تعرفينها.» قالت: «كنت أحسبك راجعًا بنا إلى بيتنا.» قال: «أراك شديدة الحرص على غرفتك وكنبك وأيقوناتك. وأنت إلى هذا اليوم لم تخرجي من طاء النمل ولا شاهدت شيئًا من مدائن مصر. إن الفسطاط مقر الوالي وأجناده المسلمين وفيها من الأُبهة والزخارف ما لا تجدين مثله في القرى.» قالت: «ما لي وللأبهة والزخارف. إن هذا لا يهمني كثيرًا.» قال: «أنا أعلم أنه لا يهمك ولكني أحببت أن أريك شيئًا جديدًا.» قالت: «أوثر الرجوع إلى البيت.» قال: «سترجعين قريبًا. ولكن صديقي إسطفانوس دعانا إلى قضاء بضعة أيام في منزل أبيه بمحلة بابلون قرب الفسطاط، فإذا كنت لا تحبين المرور بالفسطاط سرنا توًّا إلى بابلون.» ولما سمعت قوله استعاذتْ بالله وقالت: «أين نحن من دير المعلقة الآن؟» قال: «هو في طريقنا بين الفسطاط وبابلون.» قالت: «إذا لم يكن بُدٌّ من الذهاب إلى غير بيتنا فإني أحب زيارة هذا الدير؛ لأني نذرت أن أزوره متى سنحت لي الفرصة وفي عنقي صليب من صلبانه.» فسُرَّ مرقس لرغبتها في تلك الزيارة فقال: «ننزل في الدير إذا شئت.» ••• وكانت السفينة قد أقلعت ونشرت أشرعتَها وأخذت تخترق عباب الماء، ولم تمض بضع ساعات حتى أطلُّوا على قصر الشمع — ودير المعلقة جزء منه — فمرت السفينة بين الروضة وقصر الشمع حتى رست بباب القصر وهو يومئذ قريب من النيل، فأخذت تنظر إليه وهو أشبه بالحصون منه بالقصور، ووقفت السفينة بجانب بابه الغربي وهو باب عظيم الارتفاع قائم بين برجين عظيمين مستديرَي الشكل وفوق الباب نقش عليه صورةُ النسر الروماني. فأراد إسطفانوس مخاطبتَها فقال: «إن دير المعلقة يا دميانة في أحد هذه البرجين.» فسكتت ولم تُجِبْه فلما رست السفينةُ هناك اشتغل البحارةُ بوضع السلم للنزول. فنزل مرقس ونزلت دميانة في أثره ودخل بها الباب، ثم صعد إلى الدير وفيه بعض الراهبات، فلما علمن بقدوم الضيوف خرجن للقائهم. ودعا إسطفانوس الرئيسة كي ترحب بدميانة، فخرجت لاستقبالها ورحبت بها وسارت معها إلى الكنيسة وأرتها ما فيها من الأعمدة على اختلاف أشكالها والأيقونات الثمينة، فخشعت دميانة من تلك المشاهد وظهر السرور في وجهها على عكس أبيها. ولكنه أراد مسايرتها ليسهل عليه بقاؤها حتى ينتقل بها إلى بابلون. ولما استقر بها المقام قال لها: «إني ذاهبٌ لقضاء بعض المهام في الفسطاط وربما بت الليلة وأعود إليك في الصباح.» فسَرَّهَا ذلك، وقالت: «افعل ما بدا لك إنني في خير وطمأنينة، ولو مكثت في هذا الدير أشهرًا لا أبالي.» فودعها وخرج إسطفانوس معه وظلت دميانة وزكريا في الدير. وقضت ردحًا من الليل وهي تسمع ما يقصه عليها الراهبات من أحاديث القديسين وعجائبهم، واستأنست كثيرًا بالراهبة التي كانت أهدتها الصليب وباتت على الرحب والسعة. ولما أصبحت في اليوم التالي أسرعت إلى الكنيسة للصلاة، وبعد أن تعبدت أخذتها رئيسة الدير إلى غرفتها وقد أحبتها وعلقت بها. وفيما هما تتحدثان دخلت عليهما راهبة وعلى وجهها أماراتُ الدهشة والسرور معًا فابتدرتها الرئيسة بالسؤال قائلة: «ما وراءك؟ خيرًا — إن شاء الله؟» قالت: «للأسقف … الأسقف آت لزيارتنا.» قالت: «وأي أسقف تعنين؟» قالت: «أسقف الفسطاط.» فبان البِشْر على وجه الرئيسة، ونهضت للحال، وأمرت بأن يتأهب الراهبات لاستقبال الأسقف، وقامت دميانة معهن وسألت راهبة كانت بجانبها: «أرى أن الأسقف لا يزور الدير كثيرًا.» قالت: «يندر أن يزورنا إلا لأمر ذي بال فعسى أن يكون قدومُهُ بشير خير.» وما لبث الأسقف أن دخل والراهبات يرحبن به. فعرج أولًا على الكنيسة حيث صلى فيها صلاة مختصرة، ثم توجه إلى غرفة الرئيسة، فدخلها وفيها الرئيسة ودميانة. وأكبت دميانة على يده فقبلتها والتمست بركته ودعاءه فباركها وجلس على وسادة وأشار إلى دميانة أن تجلس، وقال للرئيسة: «أليست ضيفتُكم دميانة بنت المعلم مرقس؟» قالت الرئيسة: «نعم يا سيدي، هل تعرفها؟» فسمعت دميانة اسمها وتعجبت وأطرقت حياءً وإجلالًا، فقال الأسقف «عرفتها بالأمس عندما كانت في كنيسة شبرا بدعوةٍ من ولدنا إسطفانوس بن المعلم حنا كاتب صاحب الخراج، وقد أوصاني بها خيرًا، وبالغ في الثناء على أبيها.» فلما سمعت ذكر إسطفانوس انقلب سرورها كدرًا وسكتت لا تبدي. فقال لها الأسقف: «ألم تكوني مساء الأمس في كنيسة شبرا يا ابنتي؟» قالت — وقد صبغ الحياء وجهها: «نعم يا أبتِ، كنت هناك وحضرت القداس وتبركت بدعائك.» قال: «ببركة القديسين والأبرار يا ابنتي. إني مسرور برؤيتك لفرط ما سمعته من الثناء على تعقُّلك وتقواك. هل تمكثين طويلًا هنا؟» قالت: «لا أدري ولو خيرت لقضيت عمري هنا.» فتبسم الأسقف تبسمًا ذا معنًى، وقال: «إن الأديار أفضل المنازل للمسيحيين؛ إذ يتفرغ فيها الإنسان لعبادة الخالق والقيام بفروض الدين، ولكنني لا أدري إذا كانوا يأذنون في بقائك هنا طويلًا.» فأشكل عليها مرادُه، واستغربت تصديه لهذا البحث عند أول مقابلة، ولكنها تجاهلت وقالت: «إذا كان أهل الدير يخرجونني منه فلا حيلة لي.» قال: «لا أعني ذلك؛ فإن رئيسة الدير وراهباته يرحبن بك كثيرًا، ولكنني أعني أباك المعلم مرقس. ما لنا ولهذا الآن دعينا من هذا الحديث حتى يأتي أبوك.» فأدركت أنه يُشير إلى الأمر الذي ترتعد فرائصها من ذِكره، ولكنها تجلدتْ وسكتت فحول الأسقف كلامه إلى الرئيسة وقال: «كيف حال الدير وراهباته. أرجو أن يكن في راحة.» قالت: «هُنَّ في خير ببركة السيد المسيح ودعائكم.» قال: «يظهر أن هذا الوالي التركي أرفق بالأقباط من أسلافه العرب.» قالت: «نعم يا سيدي، فإنه منذ تولى أمر مصر في شاغل عنا بشئون دولته، فلا ندري أخَيرًا يريد بنا؟ أم يريد بنا شرًّا؟» قال: «أظنه يفعل ذلك عن رفق وحُسن رأي — أدام الله هذه النعمة علينا.» فقالت الرئيسة: «آمين.» وفيما هم في ذلك أتت إحدى الراهبات تقول: «إن المعلم مرقس يلتمس الدخول.» فقالت الرئيسة: «يدخل.» ولم تمض هنيهة حتى أقبل المعلم مرقس، فأكب أولًا على يد الأسقف فقَبَّلَها وسلم على الرئيسة، وأقبل إلى دميانة يسألها عن حالها، فقالت: «غمرتني الرئيسة بفضلها ولطفها، فأنا شاكرة فرحة.» فجلس مرقس وأخذ يكرر تحية الأسقف ويطلب دعاءه. ودارت الأحاديثُ بينهم عن الأحوال الجارية، وذكروا الاحتفال بعيد الشهيد بالأمس، فأطرى مرقس روعته وما يرجونه من البركة في ماء النيل على أثر إلقاء إصبع الشهيد فيه. ثم نهض الأسقف وخلا إلى مرقس في غرفة وأقفلا بابها، فأوجست دميانة في نفسها خيفة وتشاءمتْ من هذا الاجتماع. أما الأسقف فلما خلا إلى مرقس كَلَّمَه في شأن دميانة، وأن إسطفانوس راغبٌ في خطبتها وأثنى على الخطيب فأجابه مرقس بأنه يعلم منزلةَ المعلم حنا كاتب المارداني وقد صادق ابنه إسطفانوس وعاشره ولا يرى مانعًا من عقد الخطبة وقال: «إن أمرًا سعى فيه سيادة الأسقف نافذٌ لا محالة وما دميانة إلا ابنتكم المطيعة.» فأثنى الأسقف عليه وقال: «على أن ولدنا إسطفانوس قد شكا إلي جفاء الفتاة ونفورها، فإذا كنت تعلم أنها تكره الزواج فقل لي؛ تفاديًا لمشكلات ما بعد الزواج.» قال مرقس: «تكره؟ كيف تكره مثل هذا النصيب؟ أحسبها تتردد حياء على عادة البنات في مثل هذه الحال. وهَبْهَا ترددت في أول الأمر، فلا بد من قبولها.» قال الأسقف: «أَلَا يجوز أن تكون اختارت شابًّا آخر وقع من نفسها موقعًا جميلًا، فنفرت من إسطفانوس؟» فهَزَّ مرقس رأسه استخفافًا ودفعًا لهذه التهمة، وقال: ما أنا ممن يخيرون بناتهم، ليس عندنا بنات تختار، إن البنت العاقلة هي التي تعمل برأي أبيها وأحر بها أن تعمل برأي سيدنا الأسقف، ونحن كلنا طوع إرادته. فتبسم الأسقف وأثنى على لُطف مرقس ونهض يقول: «متى تضع عربون الخطبة؟» قال: «في الوقت الذي تعينه سيادتكم.» فشكر له ومشى فخَفَّ مرقس إلى الباب ففتحه له وكان أحد الشماسة ينتظر خُرُوجه، فتقدم إليه بالصولجان، فتناوله وتلفت كأنه يبحث عن الرئيسة ليودعها، فتقدمت وقَبَّلَتْ يده فباركها، وقال لها: «أوصيك خيرًا بدميانة سمية القديسة الشهيرة أين هي؟» قالت: «في الصلاة فإنها لا تفتر عن العبادة حقًا إنها من أهل التقوى.» قال: «صحيح ولكن لا أظنها تنوي الترهب.» وضحك. قالت: «إلا إذا اختارها السيد المسيح لخدمته.» وَلَمَّا رأت الأسقف يضحك أدركتْ أنه يمازحها ويشير إلى قُرب خطبتها، فسكتت، فأعاد الوداع وودع مرقس ومضى. أما دميانة فلم تعتزل في غرفتها للصلاة فقط، ولكنها خافتْ خلوةَ الأسقف بأبيها، وتوقعت أن يستقدمها للأمر الذي تخافُهُ وتنفر منه، فتشاغلت بالصلاة وهي لا تفهم ما تقرأه لقلقها وتبلبُل بالها. وكانت ترقب حركات أهل الدير لتعلم ساعة خروج الأسقف فلما علمت أنه مضى لسبيله شكرتْ الله على زوال الخطر وانتظرت أن تجد زكريا بين يديها عساه يطمئنها. وبعد قليل عاد زكريا ففرحت بقدومه وسألته عن سبب غيابه فقال: «ذهبت في أمر سترين ثمرته الآن.» فلم تفهم مراده فقالت: «وأي أمر تعني؟ ألم تر الأسقف؟ ألم تعلم بخلوته مع أبي؟» قال: «كيف لا؟ ولولا علمي بذلك ما ذهبت في هذه المهمة.» فازدادت قلقًا، وبان ذلك في عينيها، فابتدرها زكريا قائلًا: «لا تقلقي يا سيدتي اسمعي قرع الباب، ألا تسمعينه؟» قالت: «أسمعه، وما ذلك؟» قال: «إن القادم هو أبو صاحبنا إسطفانوس.» قالت: «أبوه؟ المعلم حنا؟» قال: «نعم.» قالت: «وما الذي جاء به؟ قال: «أنا دعوته.» قالت: «أنت ذهبت إليه واستقدمته وكيف ذلك؟ قل.» قال: «لما علمت بمقابلة الأسقف لسيدي وأبيك أيقنتُ أنه سيكلمه في الأمر الذي يطلبه إسطفانوس، وأنا أعلم أن أباه رجلٌ عاقلٌ يعرف حقيقة ابنه وأنه ليس كفئًا لما يطلبه فذهبت وأسررت إليه الأمر فرأيته كما كنت أظن، ووعدني أن يأتي ليرى أباك.» قالت — والاستغراب باد في أسرَّتها: «آت لماذا؟» قال: «ليرجع أباك عن قبول ابنه.» فتبسمت والدهشة تمتزج بابتسامتها وقالت: «يرجعه؟ أتظنه يستطيع ذلك؟» وقطع كلامَها وقعُ أقدام المعلم حنا في صحن الدير، فذهبت إلى نافذةٍ تراه منها ولا يراها فرأته رجلًا جليل الطلعة وقورًا يبدو التعقل في نظراته، ورأت رئيسة الدير كثيرةَ الاحتفاء به وهو يقول لها: «بلغني أن المعلم مرقس صاحب طاء النمل هنا.» قالت رئيسة الدير: «نعم يا سيدي وقد كان مع أسقف الفسطاط وخرج الأسقف وأظن المعلم مرقس لا يزال حيث كانا.» قالت ذلك وهي تمشي بين يديه حتى أدخلته الغرفة فتركته مع مرقس وعادت أدراجها. أما دميانة فكان اضطرابُها عظيمًا، وتقاذفتها الشجون فلا تدري أتستسلم لليأس أم تتمسك بحبل الرجاء؟ وقد طالت الخلوة وهي تتساءل عما عسى أن تكون عاقبتها. وكلما سمعت وقع خطوات أو فتح باب يخفُق قلبها وإذا بصوت المعلم حنا يودع أباها بلحن لم يعجبها، فالتفتت فرأت وجه الرجل متغيرًا وأبوها يتواضع له ويتقرب إليه عند الوداع بصوتٍ خافتٍ كأنه يعتذر عن خطأ ارتكبه، فمكثتْ هنيهةً كالضائعة، فجاء زكريا ووجهُهُ يُنذر بما وقع فابتدرتْه قائلة: «لم يفلح الرجل على ما أظن.» قال: «هكذا يظهر. أخبرني من سمع حديثهما أن المعلم حنا نصح لأبيك برفض خطبة إسطفانوس، وأنه ليس أهلًا لك. فجاراه أبوك في الكلام، ثم اعتذر له بوعدٍ مسبق منه للأسقف، وزعم الرجوع متعبًا. وأنه سيبذل جهده.» فلما سمعت دميانة قوله وكانت في مكان لا يراها فيه أحد لم تستطعْ أن تُمسك نفسها عن أن تلطم خديها لطمة خفيفة، وتقول: «ويلاه ما هذه التجربة أبوه نفسه يقول إنه ليس أهلًا لي.» وأخذت تبكي، ثم اتجهت نحو أيقونة للسيد المسيح معلقة هناك وقرعت صدرها وتنهدت من أعماق قلبها وقالت: «إلهي اصرف عني هذه الكأس. وإذا رأيت أني مخطئة في نفوري من هذا الشاب فحببه إلي واجعلني أرى خطئي.» وأطلقت لنفسها عنان البكاء. فقال لها زكريا: «كفكفي دمعَك يا مولاتي. سيأتي أبوك كفي عن البكاء واصبري ولا تُبالي؛ فقد قلت لك إن ذلك الغر لن ينال قلامة ظفرك سايري أباك ولا تُبدي له جفاء واتكلي على السيد المسيح وعليَّ.» فاطمأن خاطرُها وتراجعت ومسحت عينيها، ثم مشت إلى غرفتها فلقيها أبوها، ولعله رأى أثر الدمع في عينيها، لكنه تجاهل فقال لها: «أنا ذاهب وقد أبيت الليلة خارجًا أظن هذا يسرك يا دميانة إذ تفرغين للعبادة.» وضحك فسايرتْه في الابتسام، فخرج وعادتْ هي إلى همومها وزكريا يؤكد لها النجاة ويستمهلها حتى يمكن لسعيد عند ابن طولون بعد مَدِّ الماء في العين، وما هذا ببعيد. أما مرقس فبعد اجتماعه بالمعلم حنا وعلمه بإنكاره الزواج بدميانة على ابنه. ذهب الكثير في آماله في المصاهرة؛ إذ كان يرجو أن يستفيد من نُفُوذ كاتب الخراج فضلًا عن صداقته لإسطفانوس، ولكنه خامره الأملُ في رُجُوع المعلم حنا عن رأيه حبًّا لابنه. ولعل هذا الابن يغير مظهره لدى أبيه عندما يتزوج فيبقى عزيزًا عليه ثم إنه — من جهة أخرى — تَمَسَّكَ بقوله تنفيذًا لكلمته وعملًا بسُلطته المطلقة على أهل منزله. وفي اليوم التالي رأتْ دميانة أهل الدير في حركة ينظفون ويدبرون كأنهم يتأهبون لاستقبال زائر كبير، ورأت بعض الراهبات ينظرن إليها نظرة ذات مغزًى، ولا سيما الرئيسة؛ فقد كانت تجاملها وتبتسم لها فتجاهلت، وسألت الرئيسة عن سبب هذا الاستعداد فقالت: إن سيدنا الأسقف قادم لزيارتنا في أصيل هذا اليوم وبما أننا استقبلناه بالأمس على غرة فرأينا أن نستعد لاستقباله اليوم استقبالًا يليق بمقامه لأنه أسقف مدينة الفسطاط وله وجاهةٌ وكلمةٌ نافذة، فضلًا عن مركزه الديني.» فلم يعجبها هذا الخبر وأرادت أن تُعيد الاستفهام عن سبب مجيئه، فخافت أن تسمع جوابًا ينفر منه قلبُها، فسكتت ومضت، فلقيها زكريا وقد علم أن الأسقف آتٍ ليضع عربون الخطبة مع أبيها، فأخذ يُشجعها ويؤكد لها مساعدتَه وأن تَمَنُّعَها لا يُجديها نفعًا في ذلك الحال إلى أن قال لها: «إن الخطبة عقدٌ يمكن حَلُّهُ وسواء حل هذا العقد أم لا فلا تخافي يا سيدتي. ومع ذلك فقد يكون أبوك قد اقتنع بكلام المعلم حنا فيؤجل الخطبة إلى وقت آخر.» فقطعت كلامه قائلة: «لا تَدْعُ نفسك خادمًا؛ فإنك أحنى علي مِن أبي فإذا شئت فادعني ابنتك. وأما ما تقوله فلا يدعو إلى الطمأنينة، ولو كان أبي رجع عن عزمه لَمَا كان ثمة داعٍ إلى قُدُوم الأسقف.» قال: «اتركي الأمر لي حتى أقول كلمتي.» فقالت: «ومتى تقول كلمتك؟ هل تظنها تنفع؟» قال: «أقولها عند اليأس وإذا لم تنفع فغيرها ينفع.» قال ذلك ومشى خوفًا من أن تستزيده إيضاحًا وهو حريص على الكتمان.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/91708090/
أحمد بن طولون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «أحمد بن طولون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. ويجمع هذا العمل بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية الهامة التي وقعت في عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة في أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، في العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان في هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التي اعتمد في ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
https://www.hindawi.org/books/91708090/6/
خطبة دميانة
في أصيل ذلك اليوم جاء مرقس إلى الكنيسة مرتديًا أزهى ملابسه ليقابل الأسقف، ودنا من دميانة وهش لها وبش، وأمسك بيدها وأخذها إلى غرفتها، ومد يده وأخرج من جيبه عقدًا من الجوهر يتلألأ كالشمس وقدمه إليها وهو يقول: «ما أجمل هذا العقد يا دميانة؟» وتوقع أن تمد يدها لتتناوُله. فلما امتنعت استغرب وقال: «لماذا لا تأخذينه؟ إنه لك!» وتقدم نحوها ووضعه في عنقها وهي ساكتة، وحدثتها نفسها بأن تقطعه وتطرحه أرضًا ولكنها أمسكت عملًا بإشارة زكريا. فظَنَّهَا أبوها رضيت فأكب على رأسها وقال: «اعلمي يا حبيبتي أن هذا العقد هدية من إسطفانوس، وهو آت مع الأسقف وأنت تعلمين كم يحبه ويجله؛ لأنه ابن المعلم حنا وهو لطيف العشرة. أتعلمين فيما هو آتٍ مع الأسقف؟» فلما سمعت ذكر إسطفانوس لم تعد تسلك قياد نفسها فقالت: «لا أريد أن أعرف.» قال وهو يمازحها: «وكيف ذلك وأنت صاحبة الشأن اليوم؟» قالت وهي تغص الكلام: «لا شأن لي في الأمر ولو كان لي رأي لما ألبستني هذا العقد ولا أتيت إلى هذا الدير.» وشرقت بدموعها. فقال: «ألا تزالين تؤثرين الإقامة بطاء النمل على الفسطاط قصبة الديار المصرية ومقر رجال الدولة ومحط رحال أعيان القوم؟» فتنهدت وسكتت مخافة أن يبدو منها شيء تندم عليه. أما هو فجعل يغالطها ويفسر نفورها على غير الواقع فينسبه إلى الحياء أو إلى الخوف — على عادة البنات في مثل هذه الحال. ثم وصل الأسقف واهتم أهل الدير لمجيئه فاستقبلوه بالترتيل والصلاة والبخور فدخل الكنيسة أولًا وصلى صلاة حضرتها دميانة مع بقية الحضور خاشعة كعادتها أثناء الصلاة وجعلت تتوسل إلى الله أن يلهمها ما فيه الخير وإذا كان قد جعل إسطفانوس نصيبها فليحببه إليها وتضرعت كثيرًا وهي تحاذر أن يراها أحد، وفيما هي في ذلك انتبهت فرأت إسطفانوس داخلًا الكنيسة وقد لبس أحسن ثيابه وأصلح هندامه ووقف بجانب أبيها فأجفلت عند رؤيته وكاد الدم يجمد في عروقها، وجعلت تناجي نفسها وتسأل قلبها فلا تراه يزداد إلا نفورًا، وكلما قارنت إسطفانوس بسعيد جذبتْها عواطفُها إلى سعيد ونفرت من إسطفانوس فقام في ذهنها أن الله لا يريده لها. ثم عادت فتذكرت أن الله يوصيها بطاعة الوالدين وإكرامهما فوقعت في حيرة. قضت في حيرتها أكثر وقت الصلاة والأسقف يروح ويجيء داخل الهيكل بثيابه المزركشة والبخور يتصاعد في فضاء الكنيسة مع أصوات الترتيل، وإذا بها تسمعه ينادي: «يا معلم مرقس.» فالتفتت فرأت أباها يمشي متجهًا إلى الأسقف، فأسر إليه هذا شيئًا فعاد مرقس إلى دميانة وطلب إليها أن ترافقه إلى ما بين يدي الأسقف، فمشت منقادة كما ينقاد الحمل إلى الذبح. ونادى الأسقف إسطفانوس فجاء ووقف هناك فرفع الأسقف يده وبارك وصلى، ثم مدها إلى إسطفانوس وتناول منه خاتمًا صلى عليه وألبسه لدميانة وهو يتلو ما جرت به العادة، وأعلن أنه قد عقدت خطبة دميانة على إسطفانوس. كل ذلك ودميانة ساكتة والدمع يتساقطُ على خديها وخافت أن تخونها قُواها فتسقط على الأرض فتجلدت. فلما وضع الخاتم بيدها لم تعدْ تملك قواها، فوقعت على الأرض، فتراكضت الراهبات إليها ونضحتها بالماء المقدس، ونسبن ذلك إلى تعبها أو حيائها، وأتينها بزيت من مصباح أمام صورة العذراء مسحوا به جبينها، فأفاقت وحملنها إلى غرفتها، ولما أتم الأسقف الصلاة ذهب مع أبيها إلى متوسدها، وأخذ يخفف عنها تارة ويمازحها أخرى وإسطفانوس يعلم أن ما هي فيه سبب فرط تأثرها، وأنها قد غلبت على أمرها رغم حبها لسعيد. واختتم الاحتفال بالخطبة للتوعك الذي أصابها وتفرقوا. وكان زكريا أشد الحضور تألمًا مما حدث، وهَمَّ بأن يكلم مرقس في الأمر قبل عقد الخطبة، ولكن الأسقف لم يترك له مجالًا وبادر إلى إتمامها. فلما رأى ما أصاب دميانة صبر حتى ذهب القوم وطلب مقابلة مرقس، وكان هذا قد هم بالخروج مع إسطفانوس فودعه على أن يلتقيا بعدئذٍ، ورجع إلى زكريا وقال: «ماذا تريد؟» قال: «إذا أذن مولاي بخلوة قلت له ما أُريد.» فأظهر تململًا من هذا الطلب، ولكنه مشى أمامه إلى غرفة دخلها وجلس على وسادة وقال: «ماذا تريد؟» فقال زكريا: «لا بد أن ما أصاب سيدتي دميانة قد أثر في نفسك كثيرًا.» فضحك متهكمًا وقال: «لا لم يؤثر فيَّ، وأراه أثر فيك أنت فقط.» فشق هذا التهكم على زكريا ولكنه تجلد، وقال: «لم أكن أنتظر هذا الجواب يا سيدي، وليس هذا ما أريد أن أقوله.» قال: «قُلْ ما تُريد، إن دميانة لم تركب رأسها إلا بسببك ولولاك لَكانت مطيعةً راضية.» فأطرق زكريا وهو يُعمل فكرته، ويستشير نفسه: هل يجيب مرقس بما يستحقه أم يصبر عليه. واستبطأ مرقس جوابَه فقال: «هل لديك شيءٌ آخر تقوله؟» فقال: «عندي أشياء كثيرة، ولكنني لا أقولها ما دمت تخاطبني بهذه اللهجة، ولا أرى مسوغًا لها كأن سيدي نسي حقيقةَ مركزي في منزله، فأنكر اختصاصي بخدمة دميانة وإخلاصي لها.» فأجابه: «لم أنس ذلك، ولكنك بالغت في إغرائها بأبيها حتى كادت تعصي كلمته.» قال: «بماذا أغريتها يا سيدي؟ أظنك تعني نُفُورها من خطيب اليوم. أقسم لك بالسيد المسيح أني لم أؤثر في رأيها ولا غيرت شيئًا من عزمه، ولكني رأيتها نافرةً منه، ولو استعانتني في التخلُّص منه فإن ضميري وذمتي لا يساعدانني على ردها.» فابتدره مرقس قائلًا: «وتجرؤ على ادعائك أنك لم تغير عزمها؟ ألم تكن راضية به يوم كنا في طاء النمل، فما الذي جرى الآن؟ ولكنها لن تتزوج إلا به رضيت أم لم ترض.» قال ذلك والغضب بادٍ في عينيه. فأجابه زكريا بصوت منخفض يرتجف غضبًا: «إذا أصررت على ذلك ماتت كمدًا.» قال: «لا. لا تموت كمدًا إلا إذا ظللت على إغرائها؛ فإنك تقتلها، دعها وشأنها، دعها لأبيها فإنه ولي أمرها.» فأدرك زكريا تلميحه فقال: «أنت تعلم يا سيدي أني لا أقدر أن أتخلى عنها عملًا بالوصية التي أوصيت بها يوم ولادتها، وقد مضى هذا الزمن ولم تر مني ما ساءك، أما الآن فأنا على يقين أنها تكره هذا الشاب، ولو دققت لحمها ولحمه في وعاء لَمَا امتزجا وأنا إنما أُريد الخير لها ولك؛ لأنك إذا أصررت على إكراهها تقتلها أو تكرهها على أُمُور لا ترضيك.» فقال: «لا تجسر على شيء؛ فهي ابنتي ولا تخرج عن طاعتي ولم تجر العادة بأن يترك البنات وشأنهن في الزواج يقبلن هذا ويرفضن ذلك. أم هي أعلم مني بما ينفعها ويضرها؟» فقال زكريا بهدوء ورزانة: «ولكن تعلم أيضًا أن لدميانة مع أبيها شأنًا يختلف عن شئون سائر البنات مع آبائهن.» فوقع هذا القول على مرقس كالصاعقة رغم أن زكريا خفض من صوته ورغم تلطُّفه في التعبير وقال: «لا أعرف لها شأنًا آخر.» قال: «إذا كنت لا تعرفه أنت فأنا أعرفه.» فوقف عند ذلك مرقس كأنه يهم بالخروج، وقال: «لا يهمني ما تعرفه ولكنني أنصح لك أن تخلي بيني وبين ابنتي ولا تغريها بمعصيتي.» قال: «لو كان ذلك في طاقتي لخليتها ولكنني مؤتمن على أمر يقتضيني أن أحافظ عليها إلى آخر نسمة في حياتي.» فقال مرقس: «طيب، افعل ما تشاء.» وخرج وقد ازداد عنادًا. ••• سار مرقس توًّا إلى صديقه إسطفانوس، فرآه جالسًا إلى المائدة وبين يديه آنيةُ الشراب وقد تناول شيئًا منه. وآنس في وجهه عبوسًا كأنه يشرب ليذهب غضبه فلم يفته السبب فبعد أن حَيَّاه وجلس إليه سأله عن سبب غضبه فأنكر الغضب في بادئ الرأي فقال مرقس: «لا تنكر على ذلك؛ فإني أعرف السبب.» قال: «لو كان ذلك في طاقتي لخليتها، ولكنني مؤتمن على أمر.» فقال: «أسألك؛ لأني أحب أن أعرف هل أصاب ظني.» فقال إسطفانوس: «أنت مُصيب إذا كنت تظنني غضبت لِما صدر من دميانة، فهل تعرف سبب هذا العمل؟» فقال: «أظنني أعرفُهُ إن زكريا خادمها هذا النوبي يغريها بالعناد، ولولاه لَكانت أطوعَ لي من بناني، وقد وبخته اليوم وأسمعته ما لا يرضيه.» فابتسم إسطفانوس على رغم ما كان فيه من الغضب، وقال: «إنك ظلمت زكريا بهذا الحكم ليس هو سببَ العناد، أنا أعرف السبب.» قال: «وما هو؟» قال: «أتذكر ليلة جاءنا أبو الحسن وطلب دميانة لذلك الشاب المهندس؟» قال: «أذكر ذلك، ولكننا رددناه وليس له عندنا أرب.» قال: «هذا ما تقوله أنت، ولكن سعيدًا ما زال يتطاول إلى تلك الأُمنية.» وهَزَّ رأسه حقدًا. فقال مرقس: «بماذا يرجو أن ينالها؟ لا، لا تصدق ذلك.» قال: «كيف لا أصدق؟ وقد رأيته يكلمها ويدافع عنها وهي تلجأ إليه وتتكل عليه؟ شاهدت ذلك بعيني.» قال: «ليتك قضيت عليه في تلك الساعة.» قال: «لم أشأْ أن أُلوث يدي بدمه ولكنني سأنصب له فخًّا يكفينا شره ولا يحملنا وزره، لست أنا ممن يفاجئون الأعداء بقوة البدن؛ فإن المقاومة وجهًا لوجه لا تخلو من خطر. والعاقلُ مَنْ نال من عدوه بالحيلة والمكر، فيرديه وينتقم منه بدون أن يسأله سائلٌ، فالنزال بالأيدي أو الأرجل من طباع البهائم، وإنما يحارب الرجال بالعقل. وسوف يرى هذا الرجل الذي لا يَعرف أباه أن إسطفانوس لا يستهان به.» قال ذلك وهو يشمخ بأنفه ويصعر خده ويعد أقواله حججًا دامغة. ولعل صديقه مرقس يوافقه عليها وقد يوافقه عليها آخرون فإن القول بأن «الناس تتحارب بالعقول» وجيهٌ لو أنه لا يخفي عزمه على الإيقاع بسعيد غدرًا فهو يعد الخيانة والجبن حرب عقول. فاستخف بأمر سعيد وقال إسطفانوس: «ما لنا وله؟ دعه وشأنه فإنه أعجز من أن يصل إلى دميانة ما دمت حيًّا، ولا أظنه إلا سيقلع عن غيه متى صليت صلاة الإكليل وصارت دميانة زوجة لك.» ففكر إسطفانوس قليلًا، فرأى أن صلاة عقد زواجه قد تسكت دميانة، لكنه بقي خائفًا على نفسه من غضبِ سعيدٍ، وقد رأى أنموذجًا من شدته يوم الاحتفال، فعزم على التخلص منه وأسرها في نفسه ولم يبدها لمرقس، فقال: «لا ريب أن المبادرة إلى الإكليل خير وسيلة لقطع ألسنة الحاسدين وكبت أنفاس المبغضين، ولكنني أحب أن يكون ذلك برضا خطيبتي وبما أن سبب جفائها إنما هو اعتزازُها بهذا الشاب لمنزلته من صاحب مصر، فأحب أن تدرك خطأها قبل يوم زفافها. إن ما يرجوه هذا الشاب من وراء ما صنعه لابن طولون إنما هو أضغاثُ أحلام ستظهر عند الاحتفال بفتح العين وسترى ذلك عيانًا.» قال: «متى يكون الاحتفال؟» قال: «بعد بضعة أيام، وسأدعوكم لمشاهدة موكبه فأجلسكم في مكان مرتفع تشاهدون منه الاحتفال عن بعد كأنه بين أيديكم، وستكون دميانة معكم، وترى مصير ذلك المغرور فترجع إلى صوابها وتذعن ويرتاح بالها.» فاطمأن قلب مرقس، وإن كان لم يفهم نية إسطفانوس، وتواعدا على الذهاب لمشاهدة موكب ابن طولون يوم الاحتفال فقال مرقس: «أين الاجتماع؟» قال: «سأستأذن صديقًا لي بالديوان في أن يدخلنا قبة الهواء القائمة على سفح المقطم، ويختصنا بمكان يشرف على كل ما هنالك من السهول، فنرى الحفل بين أيدينا.» فاتفقا على الموعد وافترقا. ••• كانت قبة الهواء بناءً أقامه أمراء مصر على سفح المقطم مكان القلعة اليوم، وأول مَنْ بناها حاتم بن هرتمة في أواخر القرن الثاني للهجرة، وجعل الأمراء بعده يتخذونها مصيفًا أو متنزهًا. ولَمَّا جاء المأمونُ إلى مصر سنة ٢١٧ﻫ جلس فيها حتى إذا أفضت إمارةُ مصر إلى ابن طولون ابتنى قصرَه تحتها، وبنى القطائع وراء ذلك بينها وبين الفسطاط. وكان كثيرًا ما يُقيم بالقبة المذكورة؛ لأنها كانت تُشرف على قصره. وهذه القبةُ بضع غرف مفروشة بأحسن الرياش، عليها الستورُ الجليلةُ، ولها فرش لكل فصل. ولَمَّا ذهبت دولةُ بني طولون وخربت قصورُهُم كانت قبة الهواء في جملة ما خرب. أما يومُ احتفال ابن طولون بجر الماء في العين فقد كانت القبة في إبان عزها. وفي صباح يوم الاحتفال ذهب إسطفانوس إلى دير المعلقة ودعا مرقس ودميانة لمشاهدة موكب ابن طولون منها، فقبلت دميانة؛ لأن ذلك بغيتها. فسارت راكبة على حمار من حمر الدير، ومشى زكريا في ركابها، وأخذ يحدثها عن الاحتفال، ويمنيها بقرب الفرج حتى نسيت متاعبها وهواجسها وامتلأ صدرها رجاء، وأوشكت أن تقبض على السعادة بيدها. التقى الكُلُّ عند سفح المقطم نحو الضحى، فأسرع إسطفانوس ومشى بين أيديهم صاعدًا حتى أتى قبة الهواء، وكان قيمها واقفًا في انتظاره، ففتح له بابًا دخل فيه ورفاقه إلى شرفة بها أعمدة عليها الستور المزركشة أو المطرزة، تشرف على ما تحت المقطم من الميادين أو الأبنية أو غيرها. وأخذ إسطفانوس يساعد الفراش في تهيئة القاعة اللازمة لمرقس وابنته وله. على أن حديثه كان موجزًا ولم يقرب من دميانة كعادته فظنته قد تأدب. ولم تخفه أو تنفر من رؤيته ليس لأنها تعودته أو أخذت تميل إليه، وإنما نظرًا لقرب نجاتها منه بعد فوز سعيد. ناهيك بما كان يجول في خاطرها من الآمال الكبيرة بعد حصولها على حبيبها. على أن لهفتها لمشاهدة سعيد في ذلك الموكب بعد بجانب ابن طولون صاحب مصر؛ شغلها عن الاهتمام بشيء آخر. فبعد أن استقر المقام بهم اعتذر إسطفانوس بأمرٍ يدعو إلى انصرافه على أن يعود بعد قليل فقال له مرقس: «وأنا أيضًا ذاهبٌ في مهمة بمكان قريب، فهل تبقى دميانة وحدها؟» فقالت: «اذهب يا أبي، وهذا زكريا يمكث معي ولا خوف علي. ولا تجعلني عثرة في طريق راحتك.» فأظهر مرقس أنه لا يُضمر حقدًا على زكريا، وقال: «حسنًا. ها أنا ذا ذاهب.» والتفت إلى زكريا وكان واقفًا بقُرب الباب وقال له: «لا حاجة بي لأنْ أوصيك بدميانة.» فأشار زكريا مطيعًا، وظل واقفًا حتى خرج مرقس، ثم مشى نحو دميانة فرآها مشرقة الوجه على غير ما تعوده منها في المدة الأخيرة؛ فإنها كانت لا تبرح منقبضةَ الصدر لا يحلو لها طعامٌ ولا كلام. فوقف بين يديها وهي جالسة على مقعد ثمين يطل الجالس عليه على القطائع والفسطاط فأشارت إليه أن يجلس، وألحت على البساط بين يديها وهو يقول: «قد آن الوقتُ للتخلُّص من هذا الغلام.» قالت: «أتظن هذا اليوم آخر أيام الانتظار ولكن كيف نجتمع بسعيد، ومتى، آه، آه.» قال: «إني غير غافل عن شيء، فقد لقيت سيدي سعيدًا بالأمس، وتواعدنا على أمور سأقصها عليك.» قالت: «متى يبدأُ الاحتفال؟ إني لا أرى أحدًا.» قالت: «لا يلبث أن يبدأ. ستشاهدين عظمة ابن طولون وفخامة ملكه. سترينه في موكبه. انظري إلى هذا البناء الذي هو أقرب سائر الأبنية إلينا في سفح هذا الجبل. إنه قصر ابن طولون، وهو قصر فخم لم يُر مثله في هذه الديار إلا ما خلفه الفراعنة من الهياكل. انظري إلى هذا الميدان أمام القصر وتأملي الجماهير المتزاحمة فيه بين راكب وماش رجالًا ونساءً، إنه الميدان الذي يلعب فيه ورجاله على خيولهم بالصوالجة (الكرة والصولجان). وترين للميدان والقصر سورًا فخمًا له عدة أبواب منها باب الجيش الذي ترين الجند ببابه عليهم الأسلحة، وباب آخر يقال له باب الجبل عدا باب الخاصة وباب الحرم الخاص بدخول نساء القصر أو الخدم. وهذا الباب الذي تُشاهدين عليه تمثالَي سبعَين هو باب السباع، ومنه يخرج ابن طولون ويدخل وأظن الموكب سيخرج منه الآن وهو ذو ثلاث فتحات: يخرج الوالي من الفتحة الوسطى ويخرج رجاله من فتحتي الجانبين. وإن أمر هذا الوالي عجيب لعلو همته. انظري فوق هذا الباب تري مجلسًا يشرف على سائر القطائع، وهي الأبنية التي ترينها وراء القصر في جهة الفسطاط. فيجلس ابن طولون في هذا المجلس كل يومِ عرضٍ أو احتفال، يراقب حركات رجاله وما يحتاجون إليه.» فقالت دميانة: «وأين يقيم المهندسون؟» فضحك زكريا وقال: «لا أعرف مكانًا خاصًّا بهم. ولكني أعرف واحدًا منهم فقط، وأعرف أين يقيم … هل أقول؟» فقالت: «لا» وبان الخجل في وجهها وغيرت الحديث فقالت: «سمعتك تذكر القطائع، فما المراد بها؟» قال: «هي يا سيدتي أبنيةٌ بناها ابن طولون لسُكنى جنده ورجال خاصته، ومتى تم لمولاي سعيد ما يريد وأصبح من خاصته أعطاه قصرًا في القطيعة اللائقة بمقامه. وقد سُميت هذه الأبنية بالقطائع؛ لأنها مؤلفةٌ من أحياء يُعرف كل منها باسم قطيعة. ويسكن كلًا منها طائفةٌ من الجند أو الرجال فللنوبة أبناء بلدي قطيعة مفردة تُعرف بهم وللروم قطيعة وللفراشين قطيعة تعرف بهم، ولكل صنف من الغلمان قطيعة. أما رجال الدولة كالقواد والخاصة فقد بنى لهم أبنيةً أرجو أن يكون لسيدي قصر منها. وترين بين هذه القطائع الأسواق والأزقة والطرق بنيتْ فيها المساجد والطواحين والحمامات والأفران وسميت الأسواق بها فيُقال سوق الجزارين وسوق البقالين. ولا أُطيل الكلام عليك.» فقطعت دميانة كلامه وقالت: «إن بناء هذه القطائع يستغرق أموالًا طائلة وفي الفسطاط قصور وأسواق كثيرة، فلماذا لم يُقم بها؟» قال: «لأنه يخاف على نفسه من أهلها بعد أن غلبهم على مدينتهم وفيها أحزاب خضعت له كرهًا، فخطط هذا البلد وبناه أشبه بالحصون منه بالقصور. أما الأموال وإنفاقها فلا تسلي عنها. ألا ترين هذا البناء الشاهق القائم في أطراف هذه القطائع؟ تأمليه.» قالت: «إني أرى قصرًا فخمًا هل هو من بناء ابن طولون أيضًا.» قال: «نعم ولكنه ليس قصرًا، وإنما هو مارستان. أتعرفين ما معنى هذه اللفظة؟» قالت: «كلا، إني لم أسمعها قبل الآن.» قال: «صدقت؛ لأن هذا البناء لم يسبق له مثيل في هذه الديار. هو يا مولاتي بيت المرضى يستشفون فيه من أدوائهم.» قالت: «وهل بناهُ لهذه الغاية؟» قال: «نعم، وهو من حسناته في إعانة الفقراء.» فاستغربتْ دميانة قوله، وقالت: «إن تشييدَ هذا البناء يستغرق أموالًا طائلة، وقد كنا نرى حكامنا يشكون الفقر ويشقون على الرعية بالضرائب لسد حاجتهم.» فقال: «إن هذا المارستان لم يُبن من مال الرعية؛ فإن ابن طولون ظفر بكنز في هذه الصحراء فيه ألف ألف دينار بنى منها هذا المارستان شكرًا لله. وقد عني بتنظيمه وحرص على توفير العلاج به، وخصص له الأطباء وشرط أن إذا جيء بالعليل تنزع ثيابه وتحفظ عند أمين المارستان ثم يلبس ثيابًا ويفرش له وتقدم له الأدوية والأغذية حتى يبرأ. وكان ابن طولون يذهب بنفسه في كل يوم جمعة يتفقد خزائن المارستان ومن بها من الأطباء، وينظر إلى المرضى وذوي العلل والمحبوسين من المجانين، ويعرض نفسه لخطر جنونهم وكثيرًا ما تعرضوا بالأذى.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/91708090/
أحمد بن طولون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «أحمد بن طولون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. ويجمع هذا العمل بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية الهامة التي وقعت في عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة في أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، في العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان في هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التي اعتمد في ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
https://www.hindawi.org/books/91708090/7/
موكب ابن طولون
كانت دميانة تسمع ولا تعي ما يقوله زكريا؛ فإن ذهنها كان مشغولًا ولم تحول عينيها عن ميدان القصر عساها ترى الموكب يتأهب للخروج، أو عساها ترى سعيدًا واقفًا أو ماشيًا ثم رأت الأعلام تخفق والرجال يجتمعون فصاح زكريا: «هذا الموكب يتأهب.» وأشار إليها أن تنظر إلى باب السباع فرأت الناس يتزاحمون عنده والحرس يطردونهم لتخلو الأبواب لخروج ابن طولون وموكبه، فتطلعت إلى ما حولها فرأت الناس في الطرق وعلى أسطح المنازل يتدافعون لمشاهدة الموكب. أما هي فلم يكن يهمها من ذلك كله إلا أن ترى حبيبها راكبًا بجانب ابن طولون ليفرح قلبها، فثبتت نظرها بالباب وبعد برهة سمعت أصوات الطبول والأبواق تقترب حتى خرج أصحابها من باب السباع مشاة والناس يوسعون لهم الطريق. ثم أطلت أعلامُ ابن طولون وخرجت من البابين الجانبين يحملها رجال بألبسة خاصة. وظلت هي تحدق ببصرها في الباب الوسط الذي تنتظر أن يخرج ابن طولون منه. ثم رأت طائفةً من الغلمان يخرجون من البابين الجانبيين صفوفًا وعليهم أفخر ما يكون من اللباس والعدة، وفيهم جمال باهر وقامات طويلة وبأس شديد وعليهم أقبية ومناطق ثقال وبأيديهم مقارعُ غلاظ على طرف كل مقرعة مقمعة من فضة ولهم هيبةٌ عظيمة. وكان زكريا يراقب ما يبدو من دميانة عند مشاهدة هؤلاء، فلما رأى دهشتها قال لها: «أتعرفين هؤلاء؟» قالت: «هممت بأن أسألك. ولكنني خفت أن ألهو بسماع جوابك عن مرور الوالي.» قال: «لا تخافي لم تأت ساعته بعد. وإذا خرج فإنه أمامنا. إن هؤلاء الغلمان كانوا لابن المدبر صاحب خراج مصر قبل مجيء ابن طولون، ولهم حكاية لطيفة تدل على علوِّ همة هذا الرجل. ذلك أن ابن طولون لَمَّا تولى إمارة مصر كان ابن المدبر صاحب الخراج عليها كما هو المارداني الآن. وكان ابن المدبر هذا شديدًا على الناس وفيه دهاءٌ، فأحب أن يكتسب ثقة ابن طولون أو يبتاع سكوته عن أعماله. فلما علم بقُدُومه خرج للقائه ثم بعث إليه هديةً قيمتها عشرة آلاف دينار فردها، وكان قد شاهد هؤلاء الغلمان في خدمة ابن المدبر، فطلب إليه أن يعوضه من الدنانير بهؤلاء الغلمان فلم يسعه إلا الامتثال فأرسلهم إليه، وأصبح من ذلك اليوم يخافه.» وكانت دميانة تسمع لحديث زكريا وعيناها شاخصتان نحو الباب الأوسط، وإذا بالغلمان يتنافرون منه ثم أَطَلَّ ابن طولون على فرسه وعليه لباس الإمارة وقد تجلت الهيبة في محياه وبان التعقُّل في حركاته، وهو مع ذلك يلتفت إلى الناس ويبتسم وهم يتراكضون للتبرُّك بطلعته ولا سيما العامة وأهل الأسواق الذين يندر أن يُشاهدوه. خرج ابن طولون من الباب وحده، فاختلج قلب دميانة تطلُّعًا إلى مَنْ يكون بعده. وإذا بفارس فتيٍّ عليه لباسٌ فاخرٌ وفي وجهه جمالٌ باهرٌ، تتجلى فيه دلائلُ الصحة والقوة، تحته فرسٌ من جياد الخيل وفي ركابه غلامان عليهما ألبسةٌ حمراء مزركشة قد شمرا سراويلهما عن ساقيهما، وكانت دميانة تتوقع أن ترى سعيدًا وراء ابن طولون فرأت هذا الفارس ولم تعرفه فسألت زكريا عنه فقال: «هذا خمارويه ابن الأمير وهو خير أبنائه وأعزهم ولا يغرنك صغرُهُ؛ فإنه شديد البأس ولُوعٌ بالصيد ولا سيما صيد السباع فلا يسمع بسبع إلا خرج إليه ومعه رجالٌ عليهم لبود، فيدخلون إلى الأسد ويتناولونه بأيديهم من غابة عنوة وهو سليمٌ، ثم يضعونه في أقفاص من خشب مُحكمة الصنع يسع الواحدُ منها السبع وهو قائمٌ، فإذا قدم خمارويه من الصيد سار إلى القفص وفيه السبع بين يديه وقد جمع في قصره كثيرًا من السباع.» ولما بلغ زكريا إلى هنا لاحظ دميانة لا تعيره التفاتها؛ لأن عينيها شائعتان نحو الباب. ولا تسل عن لهفتها لَمَّا رأت سعيدًا مقبلًا على جوادٍ تعودتْ أن تراه مقبلًا عليه في طاء النمل وقد جاء بعد خمارويه بنحو مائتَي ذراع فلم تتمالك أن قالت: «سعيد؟ هذا هو سعيد!» ثم انتبهت لنفسها والتفتت إلى ما حولها فلم تجد أحدًا غير زكريا فاطمأن خاطرُها فقال لها زكريا: «هذا هو سيدي البطل.» فقالتْ وعيناها تلمعان والفرح يطفح من قلبها: «زكريا هل تجد بين هؤلاء الفرسان أجمل من سعيد أو أقرب منه إلى القلب؟» ثم ندمتْ على هذه الخفة وتشاغلتْ بالمشاهدة وتتبعتْ مسيرَ الموكب نحو المغافر حيث بنيت العين ولحظت بعد أن خرج الموكب من الميدان وسار في الصحراء أن ابن طولون أشار إلى سعيدٍ، فأسرع إليه حتى حاذاه، وأخذا يتحدثان، فكاد قلبها يطير من الفرح، وأحست كأنها قبضتْ على السعادة بيدها. وكان زكريا يُراقب ما يبدو منها ويفرح لفرحها وقلبه ينعطف إليها ويتمنى لها السعادة ولو بذل نفسه في سبيل ذلك. فلما رأى فرحها شاركها فيه لكنه لم يكن ممن يستسلمون لظواهر الأمور وقد علمته الأيامُ ألا يفرح بالآمال إلا بعد تحقيقها، ولكنه ساير دميانة ووجه التفاته إلى مسير الموكب نحو العين. ولم تكن دميانة ترى من ذلك الجمع غير سعيد، تراعي حركاته وسكناته، وتحسب الذين حوله أشباحًا لا أجسام لها. ولَمَّا تباعد الموكبُ عنها وقفت ووقف زكريا، وأخذا يتطاولان لمشاهدة مسير القوم، فقالت دميانة: «إلى أين هم سائرون؟ إني أراهم بَعُدُوا كثيرًا.» قال: «إلى العين يا سيدتي.» قالت: «أين هي؟ إني لا أراها ولا أعرف محلها.» قال: «ألا ترين المغافر هناك؟» قالت: «أراها، لكنني لا أثبتها لبهرجة أشعة الشمس على صخورها.» فتطاول بعُنُقه وتَفَرَّسَ في المكان، وقال: «ألا ترين تلك البقعة المرصفة بشكل مربع؟ إن الأشعةَ تتلاعبُ عليها، وتنعكس عنها.» قالت: «نعم أرى البقعة وحولها الجماهيرُ من الناس.» قال: «هؤلاء جماهير العامة ينتظرون وصول الموكب لِيَرَوُا الماء يجري ويفرحوا به، أو يشاهدوا الموكب وما معه من الأعلام أو لسماع الطبول والأبواق.» وكان الموكب قد اقترب من المغافر حتى إذا دنا من المصطبة حول العين تراجع الناس وتقدم ابن طولون وحده وترجل عند ذلك سعيد ومشى بين يديه يريه هندسة البناء وكيف يجري فيه الماء فشاعت عينا دميانة لرؤيته وتعب بصرها من التحديق في أشعة الشمس ولكنها كانت ترى ابن طولون يجول بفرسه على المصطبة وسعيد يَظهر ويختفي وراء فرس ابن طولون. وفيما هي في ذلك رأت ابن طولون هوى بجواده وسقط على الأرض، فسقط قلبها معه وصاحت بأعلى صوتها: «باسم المسيح باسم العذراء.» وخافتْ أن يقع الجوادُ على سعيد فيؤذيه على أنها ما لبثت أن رأت ابن طولون نهض وقد وقعت قلنسوته ثم أومأ إلى الجند فتسارعوا إلى سعيد وقبضوا عليه وشقوا ثيابه وتناول أحدهم سوطًا وأخذ يضربه ضربًا متواليًا. فأحست دميانة كأن الضرب واقع على رأسها، فلم تتمالك أن وقفت فجأة ولطمت وجهها بكفيها وهي تقول: «ويلاه ماذا يفعلون أيضربون سعيدًا آه. آه، ويلاه.» وأخذت فرائصُها ترتعد ونسيت موقفها. وتحقق زكريا أنهم يضربون سعيدًا ولا فائدة من التكذيب، فأخذ يخفف عنها ويغالطها وهي تقول: «إني أراهم يضربونه وأشعر كأن ذلك الضرب واقعٌ على قلبي. ويلٌ لهم لماذا يضربونه؟ أهذا جزاء من أحسن عملًا؟» فأمسك زكريا بيدها وأجلسها وقال: «تمهلي يا سيدتي ريثما نرى الحقيقة، ولا بد لذلك من سبب، كوني عاقلة صبورة مثل عهدي بك.» ورأتهم بعد أن فرغوا من ضرب سعيد يشدون وثاقه ثم يسوقونه إلى المطبق، فكاد الدم يجمد في عروقها. على أنها لَمَّا رأته حيًّا يمشي هدأ روعها وكانت تخاف أن يموت من الضرب وتقدم زكريا إليها وطلب إليها أن تصبر حتى يبحث عن سببِ ما حدث. وأكد لها أن الأمل كبيرٌ في إنقاذ سعيد. ثم استأذنها في الذهاب فأذنت له ولكنها عادت فتراجعت وقالت: «لا. لا أبقى هنا وحدي فيأتي ذلك النذل. لا. لا. خذني معك. أرجعني إلى الدير. إنه أبقى لي من سائر المساكن.» قالت ذلك وشرقت بدموعها. فأحس زكريا كأن سهمًا اخترق أحشائه، ولكنه أراد تهدئة روعها فقال لها: «لا ينبغي أن يغلب عليك اليأس إلى هذا الحد.» وفيما هو يهم بفتح الباب للخروج بدميانة سمعا وقع خطوات تقترب فاضطربت دميانة عند سماعها لعلمها أنها خطوات إسطفانوس، وأجفلت وتحولت وهي تود أن تلقي نفسها من نافذة الغرفة حتى لا تراه. ولكنها تجلدتْ ووقفت جامدة كالصنم وهي تُظهر أنها تنظر إلى السماء. وكان زكريا قد فتح الباب فدخل إسطفانوس وعلى وجهه دلائلُ السرعة والبغتة والبشر يتجلى فوقهما رغم ما حاول إظهاره من الأسف أو الاستغراب. وأحست دميانة عند رؤيته كأنها طُعنت في صدرها وقرأت الشماتة والانتقام بوضوح في عينيه وحول شفتيه فحولت وجهها نحو النافذة وأسندت رأسها إلى أحد الأساطين وجعلت تتلقى دموعها بمنديلها وتكتم البكاء. استقبل زكريا إسطفانوس بالتحية وهو يريد أن يعلم منه شيئًا. فتقدم إسطفانوس إلى دميانة متلطفًا ودار حتى قابلها وجهًا لوجه، فلما رآها تبكي استغرب وقال: «ما بال دميانة تبكي؟ خيرًا إن شاء الله؟ هل تشعرين بألم؟ هل تشكين من شيء؟ قولي؛ فإني طوع أمرك.» فلم تزدد إلا بكاء وحرقة؛ لأنها عدَّت تلطفه نكاية وتشفيًا، وظلت ساكتة فتحول إسطفانوس نحو زكريا وقال: «ما بالها؟ قل لي يا زكريا لأن أمرها يهمني — كما تعلم — أين المعلم مرقس؟ ما سبب بكائها؟» فقال زكريا: «لا أعلم السبب وإنما أعلم أننا ونحن نشاهد الموكب وجماهير الناس رأيتها أطلقت دموعها وسألتها عن السبب فلم تُجبني. وكنا عازمين على الذهاب إلى الدير عسانا أن نرتاح من التعب.» فالتفت إليها وهو يحك عثنونه وقال: «أخشى أن تكوني شاهدت ما أصاب جارك المسكين فتكدرت مراعاة لحق الجوار.» فلما سمعت كلامه المملوء بالشماتة واللؤم همت بانتهاره وتوبيخه، ولكن رغبتها في الاطلاع على السبب حملها على السكوت فتظاهرت بأنها لم تسمع شيئًا. وقال زكريا: «أي مسكين تعني يا سيدي؟» قال: «أعني جاركم سعيدًا المهندس، ألم تشاهدوا ما فعلوه به؟» قال: «ماذا فعلوا؟» فضحك وهو يختلس النظر إلى دميانة يراعي ما يبدو منها وهي تتشاغل بمسح دموعها وإصلاح ثوبها، فقال: «بعد أن كان الوالي عازمًا على مكافأته بالجوائز والهبات أمر بجلده خمسمائة سوط، وساقوه إلى المطبق مقيدًا بالأغلال.» فأظهر زكريا أنه لم ير شيئًا من ذلك وقال: «ولماذا؟ ما سبب هذا الغضب.» قال: «إنهم كشفوا مكيدة دبرها لقتل ابن طولون!» قال زكريا: «مكيدة؟ وأي مكيدة؟» قال: «بينما كان ابن طولون راكبًا لمشاهدة بناء العين وصل جوادُهُ إلى مكان يوهم الناظر إليه مرصوف، فأقبل إليه ووقف عليه فإذا هو قصرية جير فغاصت رِجْل الجواد فيه لرطوبة الجير، فكبا وسقط ابن طولون في الجير. فعلم أن سعيدًا تعمد ذلك لقتله. فأمر به فشقوا ثيابه وضربوه خمسمائة سوط، ثم ساقوه معلولًا إلى المطبق. ولا ندري ما يكون أمره في الغد.» فلما سمعت قوله وعرفتْ شماتته نظرت إليه، وقالت: «إن سعيدًا لا يرتكب مثل هذه الخيانة ولا بد في الأمر من خطأ.» فرفع إسطفانوس كتفيه وقال: «لا أدري أخطأٌ أم صواب، وإنما أعلم أن ذلك المسكين السيئ الحظ قد ضرب خمسمائة سوط وسيق إلى المطبق. أصبح الأمل في حياته ضعيفًا. حقًّا إن حالته تدمي القلب! وإذا كنت تبكين لحاله فلا ألومك. مسكين!» قال ذلك وهو يهز رأسه ويُظهر الأسف. فرأت دميانة أنه يتعمد الحطَّ من قدر سعيد بوصفه بالبائس المسكين، فتحول حزنها عليه إلى تحمس له، وقالت: «لا أراه في حاجة إلى هذا التأسف؛ فإن براءته لا تلبث أن تظهر فيعود إلى الحظوة عند صاحب مصر. ولم يفعل ابن طولون ما فعله إلا في سورة غضب طارئ.» قالت ذلك وهي ترتعد ولم تستطعْ صبرًا على الوقوف، فتحولت نحو الباب وتحول زكريا معها. فقال إسطفانوس: «هل أذهب معك إلى الدير؟ ألا ترين أن الأجدر أن تأتي معي إلى منزلي، وهو أقرب من الدير؟» فلم تجبْه وظلت ماشية، ومشى زكريا في أثرها وإسطفانوس يتبعها قائلًا: «أظن دميانة تستطيل الطريق إلى بيتنا وإن كان قصيرًا. ولكني أرجو أن يقصر في عينيها وذلك خير لها من أن يكون طويلًا فتتعب في سلوكه؛ إذ لا بُدَّ لها من الذهاب إليه.» قال ذلك وضحك استخفافًا بغضبها ونفورها. فأدركت أنه يشير إلى قرب زواجه بها. فظلت ساكتة وهي تمشي وزكريا معها حتى خرجت من قبة الهواء فلقيت أباها عائدًا. فلما رآها تبكي علم سبب بكائها فاستوقفها فوقفت وسلمت عليه وهي تتظاهر بالصداع في رأسها وبأنها تحتاج إلى الراحة فقال: «لا بأس عليك. تعالي ننزل في بيت المعلم حنا إنه أقرب من دير المعلقة.» فقال زكريا: «إنها ترتاح في الدير لاستئناسها بالراهبات.» فوافقهما مرقص فانصرفا ودخل هو لملاقاة إسطفانوس فقص هذا عليه ما دبره ودسه وأن قصرية الجير إنما وضعت هناك بمساعيه حتى قبض على مناظره وزَجَّ به في السجن. فهَنَّأَه مرقس بالفوز وأخذا يفكران في الإكليل على أمل أن دميانة لا بُدَّ لها من الإذعان لرأي أبيها بعد أن يئست من سعيد. وحينما وصلت دميانة إلى الدير سارت إلى غرفتها لتبديل ثيابها. ومكث زكريا ينتظرُ خروجها ليخفف عنها ويفكر معها في وسيلة للنجاة من الفخ، فما إن خرجت حتى سارت توًّا إلى الكنيسة للصلاة ملجأ الحزانى وتعزية المنكوبين وإذا لم يكن في الصلاة غير التعزية لَكَفَى بها متسعًا لآمال المؤمن في ساعة ضِيقِهِ وحزنه. وقد صدق جمال الدين الأفغاني إذ قال: «إن الذين يسلبون العامة إيمانهم إنما يحرمونهم من أكبر أسباب سعادتهم.» ودخلت دميانة الكنيسة وجثت أما أيقونة العذراء وقلبها يذوب أسًى مما حل بها من النوائب، وأخذت تصلي بإيمان وثيق وتتضرع إلى صاحبة الأيقونة أن تأخذ بيدها وتنجيها من الحبائل التي تصبو لها. وكانت تصلي ودموعها تتساقط من مكائد الدساسين، وطلبت أن يلهم أباها الصواب؛ لعله يرجع عن إكراهها على الزواج بإسطفانوس إلى أن قالت: «اللهم إني ضعيفةٌ وهم أقوياء اللهمَّ ألهمني ما فيه مرضاتك، إني لا أُحب إسطفانوس فهل في ذلك معصية؟ إذا كنت تراني على خطأ فأرني خطئي. إن سعيدًا رجلٌ صالحٌ فإن كنت مخطئة فأرنيه كما هو وأبعده عن قلبي.» وكانت تقول ذلك بحرارة وهي تشرق بدموعها وليس في الكنيسة أحد يسمعها. وسكتت هنيهة ثم قالت: «ربي وإلهي إني ما أزال أرى سعيدًا هو النصيب الذي أعددته لي فإن كان الأمر كذلك فأنقذه مما وقع فيه اللهم كما أنقذت مختاريك غَيِّرْ قلب ابن طولون حتى ينصفه، أتوسل إليك بدم السيد الفادي الذي تجسد من أجلنا، إني فتاةٌ مسكينةٌ مظلومةٌ مقصوصة الجناحين، خذ بيدي ألهمني ما أعمل وكيف أصرف أمري أَنِرْ طريقي إني لا أُريد معصيتك ولا أبتغي إلا رضاك.» وسكتتْ تمسح دموعها. فشعرتْ بارتياحٍ عظيمٍ كأن هاتفًا قال لها: «لا تخافي يا دميانة إن الله لا يتركك.» فنهضتْ ومسحتْ دموعها وتحولتْ إلى باب الكنيسة، فرأت زكريا واقفًا وقد أطرق وبان الحزن في وجهه فلما وقع نظرها عليه ابتسمت وأشرق محياها وقد اطمأن بالها وذهبت أحزانها. فأدرك زكريا أن ذلك كله من أثر الصلاة، فاقترب منها مبتسمًا وقال لها: «اتكلي على الله يا سيدتي؛ فإنه نصير المظلومين.» فمشت وهي تقول: «ليس لي غيره فهو نعم الوكيل. إنه لا يتركني ولا يتخلى عني.» فماشاها زكريا خطوتين وقال لها: «لي ما أسره إليك على انفراد.» فمشت إلى غرفتها وأدخلت زكريا وقالت: «قل ما تريد.» قال: «أريد منك أن تثقي بي وأن تعملي ما أقول.» قالت: «أنت تعلم منزلتك عندي، فليس لي أحدٌ سواك يا زكريا. أنت في مقام الوالد والوالدة والأخ والأخت. إن ما أُشاهده من حنوك ومحبتك لي في ضعفي لَشاهدٌ صريحٌ على أن الله لم يَتَخَلَّ عني. قل ما تشاء.» قال: «إن أباك لا يلبث أن يأتي. وأظنه سيستعجل الزواج، فإذا أظهرتِ له النفور والمقاومة …» فقطعت كلامَه قائلة: «وهل تريد أن أُطيعه؟» قال: «كلا. ليس هذا ما أريده، ولكنني أريد ألا تصديه بعنف وإنما حديثه باللين. وإذا أصر على موقفه منك فلا تخشي شيئًا. وثقي من النجاة بواسطة ما سأُشير به عليك.» وهَمَّ بأنْ يتكلم، ثم أمسك نفسه كأنه تذكر شيئًا يمنعه بأن يبوح بضميره، فأدركت تردده وأحبت أن تعرف ما خطر له فقالت: «ما بالك توقفت عن الكلام؟» قال: «لم أتوقفْ، ولكن لكل أمر وقتًا.» قالت: «لا صبر لي على الانتظار أخبرني عما خطر لك لعله يخفف عني.» قال: «نعم إني لم أطلب إليك الصبر إلا ريثما يصل إلينا النصير.» قالت: «وأي نصير؟ من ينصرنا على هؤلاء؟» قال: «ينصرنا عليهم أبونا البطريرك. أليس كذلك؟» ففرحت بهذه الفكرة وقالت: «وأنى لنا الوصول إليه وهو بعيد؟» قال: «لا نعدم رسولًا إليه وقد فعلت ولم أتلق الجواب بعد ولا بد من وصوله عما قريب. فلا ينبغي لك أن تيأسي.» فأشرق وجهُها واطمأن بالها، وقالت: «سأفعل كل ما تشير علي به.» قال: «هل تطيعيني، وتذهبين معي إلى حيث أريد؟» قالت: «نعم.» وفيما هما في ذلك سمعا وقع أقدام عرفت دميانة أنها خطواتُ أبيها ثم سمعا سعاله فتركها زكريا في الغرفة وحدها وانصرف. جلست دميانة تنتظر أباها، فطال انتظارها ولم تعد تسمع صوته فهَمَّت بالنهوض وإذا بالرئيسة قادمة نحوها، فوقفت لها وحَيَّتْها فقالت الرئيسة: «إن المعلم مرقس وسيدنا الأسقف أتيا وسألاني عنك. هنيئًا لك ما أكبر حظك من سيدنا فإنه يحبك ويرعاك.» فظهر الامتعاضُ في وجهها، وحدثتها نفسها بأن تتجنب المقابلة. ثم تذكرتْ نصيحة زكريا فسكتت ولم تجب. فعادت الرئيسة إلى الكلام قائلة: «أراك لم تسري بالبشرى كأن لا تريدين أن تكلمي أحدًا منهما، فهل تأذنين لي في كلمة أقولها؟» قالت: «قولي.» قالت: «لاحظت أمرًا فيك لم أكن أتوقعه من فتاة عاقلة تقية قد فهمت كتاب الله وعرفت واجبات المسيحيين.» فاستغربت دميانة ما تسمعه منها ولم تفهم مرادها فقالت: «أرشديني يا أُمَّاه إلى الصواب.» قالت: «الصوابُ يا دميانة في ألا تُغضبي أباك؛ لأن الله يوصينا بإكرام الوالدين.» فكان لكلام الرئيسة وقعٌ شديدٌ في نفسها لعِظَم تقواها، فقالت: «إني لم أُغضب أبي، وبماذا أغضبه؟» قالت: «علمت شيئًا من قرائن الأحوال. علمت أن أباك يريد زواجك بأحد أبناء الخاصة وأنت ترفضين.» قالت: «أتحسبين الفتاة التي ترفض الزواج عاصية؟» فقالت الرئيسة: «نعم، تكون عاصية إلا إذا كانت تريد أن تنذر العفة وتنقطع عن العالم.» قالت: «وما أدراك أني لا أنوي ذلك؟ لا يبعد أن أنويه عن قريب.» ثم تذكرتْ قول زكريا فاستدركت وقالت: «ومع ذلك فإن هذه الأُمُور لا تكون إلا بإلهام من الله والسيد المسيح، فإذا أراد الله أمرًا فلا مفر من إرادته.» فتوسمت الرئيسة من كلامها ميلًا إلى الخضوع، فأكبت عليها وقبلتها، وقالت: «بارك الله فيك هذا عهدي بتقواك وطيب عنصرك والآن قد أتى أبوك ومعه سيدنا الأسقف، وهما في انتظارك بغرفتي، فقومي معي لتقبلي يد الأسقف ويد أبيك.» قالت ذلك وأمسكتها بيدها، فأطاعتها ومشت والرئيسة تحسب نفسها أقنعتها. فلما دخلتْ عليهما تقدمت توًّا إلى يد الأسقف فقبلتها، ثم قبلت يد أبيها فقبلها مرقس ورحب بها وبالغ في إكرامها ودعاها إلى جانبه وقد اطمأن خاطره، وقال: «اقعدي هنا يا دميانة يا ولدي.» فقعدت على الطنفسة بجانبه مطرقة وقد صبغ الحياء وجهها فضلًا عن احمرار عينيها من البكاء، ولذلك كانت تحجبهما بالإطراق. ولما جلست خاطبها الأسقف قائلًا: «لقد سرني يا ولدي ما عقدتم النية عليه، وفي صباح الغد نأتي — إن شاء الله — لعقد الإكليل.» فأجفلت دميانة لهذه المفاجأة ولم تكن تتوقع أن تسمع هذه العبارة فبالغت في الإطراق وبان فيها الحياء ولم تجب، فاستأنف الكلام قائلًا: «إني تعودت هذا السكوت من العرائس فإنهم لا يُجبن عن كلامنا إلا بالصمت. على أني لا أنتظر منك غير القبول ولو بالسكوت؛ فإن من كانت في مثل ما أنت عليه من التقوى وحُسن التربية لا تُمانع في أمر يريده أبوها ويتوسط فيه رئيس كنيستها ولكني أُجِلُّ قدرك وأحب أن تكوني مسرورة بالنصيب الذي اخترناه لك ويكفي أن تُظهري رضاك بالسكوت.» وكانت دميانة تسمع كلامه وهي تكاد تتميز من الغيظ، وأرادت أن تستمهل الإكليل كما أشار عليها زكريا، فلم تجرؤْ على الكلام حياءً وخوفًا، وحدثتها نفسها بأن ترفض بتاتًا وتكاشف أباها بذلك صراحةً، فغلب عليها الخوفُ والحياء؛ لأنه لم يكن يشجعها على أن تفضي إليه برأي أو رغبة، وشعرت بأن كلامها لا يُفيد شيئًا، فأمسكت وظلت ساكتة فاتخذ أبوها سكوتها دليلًا على القبول، وظن أن مصير سعيد وقطعها الأمل منه جعلاها ترضى بإسطفانوس، فقال مخاطبًا الأسقف: «لم أكن أشك في طاعة دميانة لأبيها ولحضرة الأسقف، ولكن بعض الناس كان يزين لها الباطل وهذه هي قد رجعت إلى الصواب، وكل ذلك بتدبير العناية.» فقال الأسقف: «قد تفضل دميانة أن تُقام الأفراح في بيت أبيها، وستُقام لها هناك أيضًا وإنما أردنا عقد الإكليل في الكنيسة الآن؛ لما لها من الكرامة وأحب أن أتولى عقد ذلك بنفسي؛ تقديرًا لمقام العريس وأرجو أن يكون عملنا مباركًا.» قال ذلك ووقف فوقف مرقس احتفاءً به ووقفت دميانة فقال لها أبوها: «قبلي يد الأسقف واشكريه على عنايته.» فقبلت يده فقبل رأسها وخرج وخرجت الرئيسة لوداعه مع مرقس ثم عادت وهي تضحك ضحك الفوز بما كانت تتمناه وضمت دميانة إلى صدرها وقالت: «ويظهر أن كلامي أثمر فيك.» وكان مرقس قد عاد من وداع الأسقف فقال لدميانة: «بورك فيك يا بنية ذلك عهدي بك من أول الأمر، وسأذهب لتجهيز معدات الاحتفال وفي صباح الغد أعود إليك ونفرح معًا.» قال ذلك وخرج.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/91708090/
أحمد بن طولون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «أحمد بن طولون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. ويجمع هذا العمل بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية الهامة التي وقعت في عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة في أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، في العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان في هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التي اعتمد في ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
https://www.hindawi.org/books/91708090/8/
فرار دميانة
أخذت دميانة تفكر فيما سمعته، وكانت تتوقع أن ترى زكريا لتقص عليه ما جرى، فلم تجده فقضت بقية يومها في انتظاره. أما مرقس فسار توًّا إلى إسطفانوس وأخبره بقبول دميانة فقام في ذهنه أنها لم تقبله إلا بعد يأسها من سعيد فعَزَمَ على الانتقام منها لاستخفافها به، وهذا هينٌ عليه بعد أن تُصبح في عصمته وليس ما يثنيه عن إتيانه مروءة أو أريحية، فإن هذه السجايا لا معنى لها عنده. واشترك مع مرقس في إعداد معدات الفرح من الشموع والزهور وغيرها، وأرسلاها إلى الدير. وأخذت رئيسة الدير في تهيئة ما يلزم لتزيين العروس في الصباح، وبات أهل الدير على أن يصبحوا في اليوم التالي فيحضروا الإكليل ويسمعوا الترانيم. وكانت الرئيسة أكثر رغبة في ذلك؛ لأنها كانت تُحب دميانة خصوصًا بعد أن أسدت إليها نصحها، وظنت أنها أصغتْ لقولها فعدت ذلك احترامًا لها. فلما طلع النهار مشتْ إلى غرفة دميانة لتدعوها إلى الاستعداد وتريها ما حملوه إليها من مواد الزينة، فرأت باب الغرفة مغلقًا فقرعتْه فلم يجب أحد فظنتها نائمة، فرجعت مؤثرة تركها حتى تستيقظ، ثم رأت أن الوقت لا يسمح بذلك فعادت وقرعت الباب ثانية فلم يجبها أحد فوقفت تفكر وإذا بالمعلم مرقس قد جاء فسألها عن دميانة فقالت: «ما تزال نائمة.» فتقدم إلى الباب وفتحه ودخل والرئيسة معه فلم يجدا في الغرفة أحدًا ولم يجدا في الفراش ما يدل على أن دميانة نامت فيه ليلتها. فقال مرقس: «يظهر أنها لم تنم هنا فلعلها نامت في غرفة أخرى.» فقالت الرئيسة: «هذه غرفتها تنام فيها منذ آنستنا. فهل غيرتها الليلة؟» قالت ذلك ومشت إلى غرفة أُخرى كانت تجلس فيها في بعض النهار فلم تجدها. فأخذت تسأل عنها الراهبات وهن يفتشن معها حتى أعياهن البحث دون الوقوف على أي أثر لها. وسألوا الخدم عن زكريا فذكروا أنهم لم يروه منذ مساء الأمس، فاستقدموا البواب وسألوه فقال: «إن السيدة دميانة خرجت مساء أمس إلى كنيسة أبي سرجة؛ لأن عليها نذرًا لها قد آن وفاؤُهُ وقد خرج معها خادمها.» فصدقت الرئيسة ذلك لسلامة نيتها، وظنت النذر يتعلق بزواجها ولم تبق فرصة لتأجيل وفائه. أما مرقس فلما سمع ذلك رجع إلى الغرفة وفتش في ثياب ابنته وأشيائها، فرآها قد أخذت ما خف حمله وتركت ما تستغني عنه فقال: «لقد هربت مع النوبي اللعين. ولا شك في أنه عاد فأغراها بالفرار. ولكن إلى أين يَفِرَّان؟ إن الفسطاط وبابلون والقطائع في قبضة إسطفانوس وأبيه.» فقالت الرئيسة: «لا تتعجلْ يا سيدي لعلها ذهبت إلى كنيسة أبي سرجة حقيقة. وهي على مسافة قصيرة من هنا.» قال: «اسألي إذا شئت. ولكنني على يقين من فِرارها. فلو أنها ذهبت لزيارة أو نذر لَمَا أخذت معها ثيابها وحليها، وهل تبيت هناك وتبقى حتى الآن وقد دخلنا في الضحى؟ إن ذلك النوبي اللعين أغراها بالفرار. ولكن …» قال ذلك وهو يهز رأسه ويتوعد وخرج لساعته يقصد إسطفانوس. فألقاه لدى الباب وكان قادمًا للاشتراك في معدات العرس فقص عليه ما جرى وختم قوله متوعدًا زكريا؛ لأنه أغراها. فأجاب إسطفانوس: «لا تحمل الذنب ذلك النوبي. إنها كما أعهدها. وسأريها من هو إسطفانوس وخادمها الأسود معها أيضًا — دعني أذهب لأتدبر ذلك.» وخرج مرقس معه فسارا توًا إلى القطائع واشتكيا إلى صاحب الشرطة من أن خادمًا سرق ابنة المعلم مرقس وفر بها وطلبا منه أن يرسل من يبحث عنها في الأديرة والكنائس وغيرها. وخف صاحب الشرطة إلى إجابة الطلب مراعاة لمنزلة المعلم حنا، فبث الرجال في أنحاء الفسطاط ولا سيما في أحياء النصارى؛ لاعتقادهم أن دميانة وزكريا لا يجدان ملجأً في غير الأديرة أو الكنائس أو بعض مساكن القبط من الأهل أو الأصدقاء. فأصبح الأقباطُ في ذلك اليوم وهم يرون الجند وغير الجند يدخلون منازلهم للتفتيش، وأكثرهم يتخذون تلك الحجة ذريعةً لدخول المنازل أو الكنائس أو الأديرة لينهبوا ما تصل إليه أيديهم من المال أو الأثاث، فضج الناس وعلا الصياح وأخذ القوم يتساءلون: «هل عاد زمن الظلم والاضطهاد والنهب والقتل.» وكانوا يحسبون أن ابن طولون قد كفاهم مئونة ذلك ونشر الراحة والطمأنينة في ربوعهم وأَمَّنَهم على أرواحهم وأموالهم ولم يقنعهم ما كان يقوله الشرطة من أنهم يفتشون عن سارق هرب واختبأ، فإنهم كثيرًا ما كانوا يُقاسون الاضطهاد والنهب بهذه الحجة. وكان مرقس وإسطفانوس يرافقان الشرطة إلى بعض الأماكن القريبة التي يظنان أن دميانة لجأتْ إليها ويحرضان الجند على التفتيش وهؤلاء لا يبالون إلا النهب فقاسَى الأقباط في الفسطاط وبابلون وضواحيها من العذاب والاضطهاد والخوف ما لم يقاسوه من عهد بعيد. فوقع الرعب في قلوب الناس وركب بعض وجوههم إلى ابن طولون يشكون إليه ما أصابهم فغضب وبعث إلى صاحب الشرطة أن يرجع رجاله عن التعدي ففعل ولم يقفوا على أثر لدميانة وخادمها. ••• كانت دميانة قد فرت مع زكريا إلى مكان أعده لها أثناء غيابه عنها في أصيل اليوم السابق؛ وذلك أنه لما رأى أباها والأسقف قد أخذا في مخاطبتها علم أنهما أتيا لإتمام الإكليل، فذهب إلى صديقٍ حميمٍ له من أهل بلدته كان قد اعتنق الإسلام وأقام بجوار المسجد الذي بناه ابن طولون على المقطم قبل بناء مسجده المشهور. وإنما اختار هذا المكان؛ لبُعده ولعلمه أن الشرطة لا تبحث عنهما في المسجد وعاد إلى دميانة في المساء وأخبرها أن لا بُدَّ من الفرار، فأخذت أعز ما لديها وخرجا في العشاء من الدير بحجة زيارة كنيسة أبي سرجة — كما تقدم — وكان زكريا قد أعد جوادًا لدميانة وركب هو حمارًا حتى إذا خرجا من المحلة ألبسها عباءة وجعل على رأسها غطاء يشبه العمامة مما جعلها تظهر بمظهر الرجال. وساق حماره أمامها حتى نزلا المكان المعهود، فتلقاهما صاحبه بالترحاب. وباتا ليلتهما وفي الصباح لبثا ينتظران ما يكون فما لبثا أن سمعا بمجيء الجُند ودخولهم منازل النصارى لنهبها بحجة التفتيش عن ضائع أو هارب. وأطل زكريا على الطُّرُق فرأى الجند يدخلون البيوت بالقوة فخاف أن يصل أحدٌ إلى مقره، فرأى من الحكمة الانتقال إلى مكان آخر. وكان له صديقٌ عربيٌّ في حلوان اسمه «قعدان» أصله من أهل البادية ويقيم بمنزل وهبه عبد العزيز بن مروان لأجداده منذ وجه عنايته إلى تعمير تلك البلدة في أثناء إمارته على مصر. وانتقل ذلك المنزل في أعقابه إلى رجل عرفه زكريا من سنين عديدة وله معه صداقة وثيقة العرى، فرأى أن يلجأ إليه؛ ولا سيما لأنه يقيم مع عائلة فيها أمه وامرأته فتستأنس دميانة بهما، فإذا غاب عنها في مهمة كان مطمئنًّا عليها، فودع صاحبه وركب مع دميانة إلى حلوان عبر الصحراء، وقالت له دميانة: «تراني يا زكريا قد سلمت قيادي إليك أذهب معك حيث تريد لا أسألك عن السبب.» قال: «كوني على يقين يا سيدتي أني أتفانى في سبيل راحتك، ولا تجزعي؛ فأنا ساعٍ في كل ما يرضيك.» قالت: «إلى أين نحن ذاهبون الآن؟» قال: «إلى حلوان، وهو بلد طيبُ الهواء بعيدٌ عن مظان الباحثين، وسترين هناك عائلةً تستأنسين بها وترتاحين إليها؛ فإنها عربية بدوية.» قالت: «وبعد ذلك؟» قال: «بعد ذلك؟» وأطرق ثم قال: «إن الفرج سيأتينا ولا بد من انتظاره ولا بد لي — على كل حال — من الغياب عنك يومًا أو يومين لأمر لا بُدَّ لي من قضائه، ثم أعود إليك، وعسى أن أبشرك بالفرج بعد قليل.» قالت: «تتركني وتغيب عني يومين؟» قال: «لا مندوحة لي عن ذلك؛ لأني ذاهبٌ في مهمة يتوقف عليها نجاحُنا وبها نتغلب على أعدائنا، ولا بأس عليك عند أصحابنا في حلوان.» فسكتتْ، وبعد قليل أطلوا على حلوان ولم يكن فيها إلا بيوتٌ قليلةٌ فيما مضربًا على أكمة وله حديقة، فترجل زكريا ومشى إلى الخيمة وقبل وصوله شعر صاحبُهُ بقدومه من نباح الكلاب، فخرج إليه ولما تبينه بَالَغَ في الترحيب به، فقال له: «نحن مسافرون إلى الصعيد وأحببنا التعريج عليكم؛ لشوقي إليك ومعي سيدة أنا ذاهب في خدمتها، فنبيت عندكم الليلة ثم ننصرف.» فصاح الرجل بأولاده أن يُنزلوا الضيفين، وقال: «بل تقيمان عندنا أيامًا.» ونزلت دميانة فرحبت بها امرأةُ الرجل وحَيَّتْها واستأنست بها، ولا تسل عن ضيافة العرب وحسن وفادتهم، وكانوا يكلمونها بالعربية وتكلمهم بها عن ضعف، وفي اليوم التالي قال زكريا لمضيفهما: «إني عازم على الذهاب في مهمة عاجلة.» وأوصاه بدميانة فأجابه: «نفديها بأرواحنا فهي الآن ربة المنزل ونحن أضيافها.» وقبل ذهابه خلا بدميانة وأخبرها أنه ذاهبٌ في مهمة لا بُدَّ منها ويعود بعد يومين وسألها: «هل استأنست بأهل المنزل؟» فقالت: «لم أكن أظن العرب على هذه الأخلاق؛ إذ لم أكن أسمع إلا انتقادًا لأعمالهم فإذا بهم أهل كرم ولطف.» فقال: «إن العربي يا مولاتي إذا نزلت بداره حق عليه — بحكم العادة المتبعة — أن يدافع عنك بنفسه وأهله ويفديك بروحه وهو ما يسمونه في اصطلاحهم حق الجوار. فإذا أتى جند ابن طولون كلهم لا يقدرون أن يأخذوك أو يأخذوني من عنده وهو حي؟ إنه يقاتل دوننا حتى يموت أو ينقذنا، أقول ذلك لأزيدك طمأنينة، فأنت في هذا الخباء آمن منك في حصن حصين، فاسمحي لي بالذهاب وسأعود قريبًا.» وبرغم ما سمعته من بواعث الطمأنينة انقبضتْ نفسها عندما تحققت عزمه على الذهاب، فأخذ يشجعها ويعتذر من اضطراره إلى الذهاب إلى أن قال: «وعلى غيابي هذا تتوقف سعادتك في المستقبل وبه نغلب أعدائنا.» فقالت: «إذا لم يكن بد من ذلك فافعل اطلب من الله أن يكون معك والسيد المسيح يحرسك ويوفقك.» فوَدَّعَها وخرج. وأحست بعد خروجه بوحشة الوحدة وتذكرت أباها وبيتها وكيف أصبحت طريدة شريدة بعد أن كانت ربة منزلها في طاء النمل وحولها الخدم والحشم ولم تكن تعلم هل تعود إلى الدار أم لا؟ على أن «قعدان» وأهل بيته لم يتركوا لها فرصة للاستيحاش، فكانوا يبذلون وسعهم في سبيل راحتها — صغيرهم وكبيرهم. أما زكريا فتنكر وركب حمارًا حتى إذا بعُد عن الفسطاط ركب زورقًا قصد به إلى «طاء النمل»، وإنما اختار الزورق لسُرعة جريه مع تيار النيل. فلما أشرف على القرية لبس ثيابه واتجه إلى بيت المعلم مرقس كأنه قادمٌ من قبله في مهمة خاصة. وكان إذا دخل المنزل لا يجسر أحد من أهله أن يسأله عما يريد لانطلاق يده في شئون البيت. فلقيه الخدم والنساء، فسألوه عن المعلم مرقس فأخبرهم بأنه مقيم بالفسطاط يقضي مع دميانة أيامًا، ثم دخل غرفةً يعرفها وأغلق بابها وفتح صندوقًا أخرج منه أنبوبًا من الفضة مختومًا هَزَّهُ حتى تحقق مما في داخله ثم خبأه في جيبه وخرج. ومر بيت أبي الحسن، فوجده خارجًا من منزله ليتمشى في الحديقة على جاري عادته. وآنس في وجهه انقباضًا فعلم سبب انقباضه، ولم يكن يشك أنه كان في جملة الذين شهدوا الاحتفال بالأمس، وأنه شاهد ما أصاب سعيد وهو يعلم أنه بمنزلة ولده، فتقدم نحوه فلما رآه أبو الحسن تحول إليه، فتقدم زكريا وهَمَّ بتقبيل يده فمنعه ورحب به وسأله إذا كان مولاه قد أتى معه، فقال: «كلا يا سيدي إنه لا يزال في الفسطاط أظنك كنت هناك.» فهز أبو الحسن رأسه بمرارة، وقال: «نعم كنت هناك وقد رجعت أمس.» قال: «هل شاهدت ما أصاب سعيدًا؟» قال: «نعم شاهدت ذلك المنظر المؤلم. ولكنهم سوف يندمون.» ففرح زكريا بتلك البشرى؛ لعلمه أن أبا الحسن لا يلقي القول جزافًا فقال: «صحيح؟ بشرك الله بالخير.» قال: «نعم إنهم سيندمون؛ لأنهم لا يجدون من يغنيهم عن سعيد؛ إذ ليس في هذه البلاد من يضارعه معرفة بالهندسة.» قال: «ولكنهم ساقُوه إلى السجن.» قال: «ليس السجن عارًا على الرجال إنهم لا يلبثون أن يخرجوه معززًا مكرمًا.» قال: «وكيف ذلك، ومتى؟» فتقدم نحوه وقال: «إن ابن طولون عازمٌ على بناء جامعٍ كبيرٍ في القطائع، ولن يجد من يحسن هندسته غير سعيد.» فقال: «وهل يعرف ابن طولون ذلك؟» قال: «لا يلبث أن يعرفه متى احتاج إليه.» فأطرق زكريا كأنما فتح عليه باب الفرج، ثم ودع أبو الحسن وانصرف، فركب جوادًا من جياد مرقس وطلب الفسطاط. فلما أَطَلَّ عليها ترك الجواد في خان وحدثتْه نفسه بأن يسير توًّا إلى حلوان؛ لمشاهدة دميانة، لكنه أحب أن يتمم ما جال في خاطره أولًا، ثم يعود إليها بالبشارة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/91708090/
أحمد بن طولون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «أحمد بن طولون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. ويجمع هذا العمل بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية الهامة التي وقعت في عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة في أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، في العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان في هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التي اعتمد في ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
https://www.hindawi.org/books/91708090/9/
صدقات ابن طولون
تنكر زكريا بلباس الفقراء المتسولين، ومشى إلى القطائع، واتفق وصولُهُ إلى قصر ابن طولون في ساعة تفريقِ الصدقات. وكان لابن طولون في الإحسان يومٌ مشهورٌ، يعرف بيوم الصدقة تفتح فيه أبواب القصر كلها لا يمنع داخل ولا يرد سائل. وكانت صدقاتُهُ على أهل الستر والفقراء وأهل التجمُّل متواترة. وكان راتبه لذلك في كل شهر ألفَي دينار سوى ما يطرأ عليه من النذور وصدقات الشكر على تجديد النعم، وسوى مطابخه التي أُقيمت في كل يوم للصدقات في داره وغيرها، يذبح فيها البقر والكباش ويغرف للناس في القدور من الفخار والقصاع على كل قدر أو قصعة لكل مسكين أربعة أرغفة، في اثنين منها فالوذج والاثنان الآخران على القدر. وكانت تعمل في داره وينادى: «من أحب أن يحضر طعام الأمير فليحضر.» وتُفتح الأبواب فيدخل الناس الميدان وابن طولون في مجلسه الذي يشرف منه عليهم، فينظر إلى المساكين ويتأمل فرحهم بما يأكلون أو يحملون فيسره ذلك، ويحمد الله على نعمته. ولقد قال له مرة إبراهيم بن قراطغان — وكان على صدقاته: «أيد الله الأمير إنا نقف في المواضع التي تفرق فيها الصدقة فتخرج لنا الكف الناعمة المخضوبة نقشًا والمعصم الرائع فيه الحديدة والكف فيها الخاتم.» فقال: «يا هذا كل من مد يده إليك فأعطه؛ فهذه هي الطبقة المستورة التي ذكرها الله — سبحانه وتعالى — في كتابه، فقال: «يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف.» فاحذر أن ترد يدًا امتدت إليك، وأعط كل من يطلب منك.» فلما وصل زكريا إلى القصر رأى ابن طولون جالسًا في مقعده وعليه قلنسوته وقباؤه وقد تهلل وجهه سرورًا بما يشاهد من آثار نعمته على الناس. وكان زكريا قد عزم أن يطلب مقابلته ليخاطبه رأسًا، فعلم ألا سبيل إلى ذلك في تلك الساعة، فأجل الأمر إلى الغد. وخوفًا من وقوع الشبهة عليه تقدم في جملة طلاب الصدقة، فمد يده فنال حَظَّهُ فأكل وهو كيفما تحرك يفتقد الأنبوبة، وكان قد عَلَّقَها بحبلٍ في عنقه ودَسَّهَا داخل أثوابه تحت ذراعه. وفيما هو في ذلك رأى الناس يومئون إلى مجلس الوالي، ويشيرون إلى رجل دخل عليه، فعرف من لباسه وقيافته أنه المعلم حنا كاتب المارداني. ورأى بيده درجًا ملفوفًا بمنديل من الحرير. ورأى ابن طولون قد انصرف بكليته إليه، وأمره أن يقعد على وسادة بجانبه فقعد متأدبًا واستأذن في اطلاعه على ما في الدرج ثم حله وبسطه وأخذا يتحادثان ويتنافسان فيما يحويه الدرج. ولحظ زكريا أن المعلم يحاول إقناعَ ابن طولون بشيء محطوط في الدرج وهو لا يقتنع. وما لبث حتى حَوَّلَ وجهه عنه، وأخذ في مشاهدة الجماهير ولسان حاله يقول: «هذا لا يعجبني والسلام.» ولم يعلم زكريا شيئًا عما في ذلك الدرج، ثم رأى الناس يوسعون لخارج من القصر فتَنَحَّى والتفت، فرأى المعلم حنا خارجًا وبجانبه ابنه إسطفانوس متأبطًا اللفافة، فسار خلفهما من حيث لا يشعران. لعله سمع شيئًا حتى إذا أتيا مفترَقًا من الطريق قال المعلم حنا لابنه: «ماذا تعمل له؟ ما أظن في الدنيا أحدًا يستطيع إجابة طلبه. جامعٌ بلا أعمدة؟ هذا أمر غريب؟» فسأله إسطفانوس: «أتريد أن يبني جامعًا بلا أساطين؟» قال: «نعم. قد استشرت أمهر المهندسين في الفسطاط، ومنهم من تعلم في القسطنطينية أو تخرج في بغداد. وقد شهد الناس لهم بالمهارة، وهذه الخريطة عليها رسمُ جامع من أجمل ما بلغ إليه إمكانهم. فلم يعجبه؛ لأنه يريد بلا أساطين.» فقال إسطفانوس: «ولماذا لا يفعل كما فعل عمرو بن العاص في بناء جامعه؟» فقطع حنا كلامه قائلًا: «إن أميرَنا عمد إلى هذا الطراز حتى يتجنب ما وقع فيه عمرو.» فهز إسطفانوس رأسه وظل ماشيًا في طريقه. أما زكريا فبعد أن سمع ما سمعه من الرجلين عاد إلى موقفه وقد فُتح له باب الفرج ورأى الطريقَ الذي يمكنه من الوصول إلى إنقاذ سعيد وعاد إلى الأمر الذي جاء له. وتذكر دميانة ولهفتها على رجوعه فافتقد الأنبوب فوجده في مكانه فاطمأن؛ لعلمه أنه مهما يبلغ من قلق دميانة واضطرابها ففي هذا الأنبوب ما يخفف عنها. حتى إذا انقضى وقتُ الصدقة وقد آذنت الشمس بالمغيب أغلقت الأبواب ونهض ابن طولون عن مجلسه فانصرف الناسُ وذهب زكريا إلى خانٍ بات فيه. وفي الصباح التالي تنكر بلباسِ نوبي قادم من سفر يشكو من فكه الأسفل فربطه رباطًا كالخمار يحجب معظم رأسه والتف بشملة من نسيج القطن الأبيض المعروف بالدمور ومشى حافيًا مشيةً غريبة يدهشه كل شيء مبالغة في التنكر حتى لا يعرفه إسطفانوس لو رآه، فلما أتى باب القصر سأل الحراس الواقفين به عن الوالي أين يكون فقال له أحدهم: «إنه ينظر اليوم في المظالم.» ولم يكن زكريا يعرف تلك العادة؛ لأن ابن طولون أولُ من نظر في المظالم من أمراء مصر، ولم يكن يفهم المراد من المظالم والنظر فيها، فاستفهم الحرسي قائلًا: «وما معنى هذا عندكم؟» فقال الحارسُ: «يظهر من لباسك وقيافتك أنك غريب عن الديار فاعلم يا صاحبي أن مولانا الأمير، لرغبته في راحة رعيته وخوفًا من أن يعتدي أحد من عماله أو كتابه أو رجال حكومته على أحد الناس فيظلمه أو يؤذيه، قد خصص — حفظه الله — يومين في الأسبوع لسماع شكوى المتظلمين بنفسه وإنصافهم.» فدهش زكريا لسماع ذلك ولم يكن سمع بمثله في مصر ولا غيرها، وكان الحارس يخاطبه وينظر إليه فلما رأى دهشته استطرد الكلام قائلًا: «أراك تستغرب هذه المنقبة في أميرنا ولا عجب؛ لأنكم لا تعرفون مثلها في بلادكم، فهذه من حسنات الإسلام حتى لا يُظلم أحد استظل به.» ففطن زكريا لأن إسطفانوس وما أوقعه من الأذى بدميانة فقال في نفسه: «هل أشكوه لابن طولون؟». لكنه خاف وتردد ورجع إلى ما جاء له. فعزم على أن يدخل على الأمير في جملة المتظلمين ثم يحتال في مخاطبته في شأن سعيد وبناء الجامع. فسأل الحرسي عن المكان الذي يجلس فيه الوالي للنظر في المظالم، فأومأ إلى باب عليه الحجاب، وقد تكأكأ الناس حولهم وهم يدخلونهم الواحد بعد الآخر، فتقدم زكريا ووقف في جملة الواقفين وصبر حتى انصرف أكثر الناس، فدخل وعليه قيافة أهل البادية فأطل على مجلس ابن طولون في قاعة مفروشة بالطنافس، وفي صدرها كرسي كبير جلس عليه ابن طولون وبجانبه قاضيه بكار بن قتيبة وبين يديه قصص المتظلمين (العرائض) وقد تصفحها ابن طولون ودفعها إلى قاضيه ليحكم فيها أو ينفذها. فلما دخل زكريا سأله الحاجبُ عن قصته ليدفعها إلى الوالي لينظر فيها فقال: «لم أكتب شيئًا وإنما أُريد أن أرفع ظلامتي شفاهًا للوالي رأسًا بعد أن ينظر في قصص المتظلمين.» فرفع الحاجب ذلك إلى ابن طولون فقال: «أجلسْه حتى نفرغ له.» فقعد زكريا وهو ينظر ويعجب من إجراء العدل والإنصاف حتى إذا فرغ ابن طولون من تصفح القصص صاح بزكريا: «ما هي ظلامتك يا أخا النوبة؟» فوقف زكريا وقال: «لا أقولها إلا في خلوة مع مولاي.» وكان زكريا يتكلم كمن لا يعرف العربية إلا قليلًا ولو تكلمها جيدًا لما صدقوا أنه آتٍ من النوبة؛ لأن المسلمين لم يكونوا قد انتشروا في النوبة ولا دخلها الإسلامُ فكان يحشر في كلامه بعض الألفاظ من لُغة النوبة، ولكنه كان يحسن التعبير بحيث يفهم ابن طولون مراده. فلما سمعه ابن طولون أشار إلى القاضي فخرج ولبث وحده، فتقدم زكريا ووقف بين يديه متأدبًا، فأشار إليه أن يقعد، فقعد وأزاح الخمار عن رأسه فلم يظهر فيها عاهة كما يظن من يراه مخمرًا، وابن طولون ينظر إليه وينتظر ما يقوله، واستبطأه، فقال: «ممن تتظلم يا رجل؟» فقال: «أقول ولا بأس علي؟» قال: «قل، إنك على بساط الوالي ولي أمير المؤمنين، ومهما يكن من ظلامتك فإنك تُنصف. قل ممن تتظلم؟» قال: «من أحمد ابن طولون ولي أمير المؤمنين ونائبه على مصر!» فدهش ابن طولون وقال: «مني أنا؟» قال: «نعم يا مولاي، فإذا كنت قد تجاوزت حدي بالتظلم منك فأنا بين يديك افعل بي ما تشاء.» قال: «لك أن تتظلم ممن شئت فما هو ذنبي لديك؟» قال: «رب ذنب لا يعرفه صاحبه.» قال: «قل وأفصح، ما هي ظلامتك؛ فإني لا أعرفك ولا أذكر أني رأيتك قبل الآن.» قال: «ولا أنا أتظلم لنفسي وإنما جئت لمولاي الأمير أرفع إليه ظلامة رجل لم يعهد إلي في أن أتظلم عنه، وإنما أقدمت رغبةً في خدمة صاحب هذا البلد.» قال: «لا أفهم مرادك، فأفصح، من تعني؟» قال: «أعني: الرجل الذي حكمت عليه بالجلد والحبس بعد أن بنى لك العين، وأجرى فيها الماء.» قال: «الفرغاني؟ الذي أوشك أن يقتلني بجهالته؟» قال: «وهل تعني أنه يجهل هندسة البناء؟» قال: «لا ريب فإن سقوطي عن جوادي إنما كان من الخلل الذي سبَّبه جهله بالهندسة.» قال: «ليس في هذا البلد من يقاربه في هذا الفن يا مولاي. وأما قصرية الجير التي وقع فيها جوادك فإنما تركت هناك لسوء حظه أو لعل لها سببًا آخر، فقد يكون بعضُ أعدائه وَشَوْا به إليك، فأغروك به وإنما أنا أتكلم الآن عن مهارته الهندسية، ليس في هذا البلد من يقاربه فيها حتى الروم الآتون من القسطنطينية والفرس وغيرهم.» فاستغرب ابن طولون دفاع هذا النوبي عن ذلك القبطي ولم يعتد به. فقال: «وما الذي حملك على التبرع برفع هذه الظلامة إلينا؟» قال: «حملني على ذلك رغبتي في إنقاذ مولانا من مشكلة وقع فيها ولم يستطيع أحد أن ينقذه منها.» فانتبه ابن طولون إلى أنه يعني الجامع الذي يريد بناءه، ولكنه تجاهل وقال: «وأي مشكلة تعني؟» قال: «أعني البناء الذي أنت عازمٌ على إقامته ولم تجد من يستطيعه على الشكل الذي تريده.» قال: «وهل يستطيع صاحبُك أن يفعل ذلك؟ إنه لا يستطيعه.» قال: «لا أظنه يعجز عنه فما هو طلبك يا مولاي؟» قال: «إني أُريد أن أبني جامعًا بلا أساطين. هل يستطيع ذلك؟» قال: «لم أسألْه، ولكني أحسبه يستطيع.» واستدرك زكريا قوله مخافة ألا يكون سعيدٌ قادرًا فيعود الغضب على كليهما، فأراد أن يثني ابن طولون عن عزمه فاستأنف الكلام قائلًا: «وهل خلوه من الأساطين شرطٌ لازم. كأن مولاي لا يرى في الأساطين جمالًا، قياسًا على التي وضعوها في جامع عمرو. فإذا كان هذا فأنا أضمن أن سعيدًا يضعُها على شكل بديع.» ليس هذا هو السبب في رغبتي عن الأساطين. وقد رأيت فيك فطنة وغيرة فأقول لك أن ما دفعني إلى ذلك هو رفقي بأهل الذمة من سكان هذا البلد؛ لأني لما عزمت على بنائه سألت المهندسين عما يحتاج إليه من الأعمدة، فقدروا له ثلاثمائة عمود، ولا سبيل إليها إلا بأخذها من الكنائس فأستنفد أعمدتها في الأرياف والضياع، وهذا ظلم لا أرضاه وأحسبه لا يرضي الله. وأنا أحب أن أبني مسجدًا لا يشوب بناءه ظلم، ولا وسيلة لذلك إلا بأن يكون الجامع بلا أعمدة فلم أجدْ في مصر من يستطيع هذا. فتبسم زكريا وقال: «هل سألت سعيدًا السجين في المطبق؟» قال: «كلا، إنه ذهب من فكري، هل تظنه يقدر على هذا الأمر؟» قال: «أظنه يقدر. وما على مولاي إلا أن يأمر بإحضاره ويرى ما يقول.» فصَفَّقَ ابن طولون، فدخل غلام فقال له: «قل لصاحب المطبق أن يأتيني بالمهندس النصراني من السجن وأدخلوه علي لساعته.» ••• وقع زكريا في حيرة وقال في نفسه: «إذا أخلف سعيد ظني فلم أستطع إنقاذه من هذا السبيل أعود فأتهم إسطفانوس بأنه هو الذي وضع قصرية الجير وأن سجن سعيد ظلم.» وكان ابن طولون أثناء الانتظار مطرقًا، يفكر فيما سمعه ويتمنى أن يصح قول النوبي في سعيد؛ لأنه كان شديدَ الحرص على تنفيذ مشروعه، وإذا بالحاجب يقول: «إن السجين النصراني بالباب.» فقال الأمير: «أدخلوه.» فدخل سعيد وقد تغيرت سحنته فطال شعره وتبعثر على وجهه وقد أضنتْه فرقة الشمس وملازمة السجن، فتأثر زكريا من حاله وصار يرتعش لشدة قلقه وخوفه أن يعجز عما يُندب إليه. أما سعيد فدخل ولم ينتبه لزكريا، وإنما كان هَمُّهُ أن يجيب الدعوة، فوقف متأدبًا فقال له ابن طولون: «كيف ترى نفسك؟» قال: «أراني كما كنت.» قال: «لا يسلم أحد من الخطأ.» فقال: «ولكنني لم أسأل عن خطأي لأتحققه أو أتبرأ منه، وإنما تعجل سيدي في عقابي بلا سؤال.» قال: «ألا تعد قصرية الجير ووقوعي عن جوادي بسببها ذنبًا؟ على أني لم أدعك لهذا، وإنما أردت أن أسألك في أمر، فإذا كنت مهندسًا ماهرًا وأخرجته لي اغتفرت لك ما سلف.» قال: «ما هو يا سيدي؟» قال: «عزمت على بناء جامعٍ كبير على جبل يشكر في أطراف القطائع، وأشترط ألا يكون فيه أعمدةٌ، فهل تستطيع بناءه على هذا الشرط؟» فأطرق سعيد وأخذ يفكر وتناول خيزرانة كانت ملقاة بجانب الحائط، وأخذ يمررها على البساط كأنه يرسم بها خطوطًا ومربعات وابن طولون يراعيه وقلب زكريا يخفق خوفًا من الفشل. وأخيرًا رفع سعيد رأسه وقال: «إني أفعل ما أمر به مولاي، ولكنني أستأذنه في أن يكون للجامع عمودان فقط هما عمودا القبلة.» قال: «عمودان فقط؟» قال: «نعم اثنان.» فقال ابن طولون وقد بان البشرُ في محياه: وهل تقدر أن تبني الجامع على أن لا يكون فيه غير عمودَي القبلة؟ قال: «نعم.» قال: «أخاف أن يكون شكلُهُ مشوهًا أو منظره قبيحًا.» قال: «كلا، سيكون من أجمل الجوامع ليس مثله إلا المسجد الذي بناه أمير المؤمنين المعتصم في سامرا.» قال: «قبل ذلك أرني صورتَه.» قال: «ائتوني بالجلود، فأصوره لكم كما يكون بعد الفراغ من بنائه.» فكاد قلبُ زكريا يطير من الفرح، ولكنه ظل ساكتًا ليتحقق الأمر بعد الرسم. وأمر ابن طولون بالجلود فأتوه بها، فأخذ سعيد يصور عليها رسم الجامع بجدرانه وقبلته وصحنه ومئذنته وكل مرافقه. فلما فرغ من الرسم دفعه إلى ابن طولون ففرح به كثيرًا وأمر أن يطلق سراحه وأن يخلع عليه وقال له: «سأطلق يدك في النفقة على البناء ومتى انتهيت منه كافأتك أحسن مكافأة.» فحنى سعيدٌ رأسه شاكرًا. أما زكريا فلم يستطع كتمان فرحه، فتقدم حتى وقف إلى جانب سعيد، فلفت انتباه ابن طولون وظنه يتصدر لينال الجائزة، فقال: «والفضل فيما نلت من توفيق لهذا النوبي الشيخ — بارك الله فيه.» فالتفت سعيدٌ إلى زكريا، فرآه ينظر إليه ويضحك، فعرفه وخفق قلبه لذكرى دميانة وبانت البغتة في محياه، وخاف أن يلحظها ابن طولون فاستأذنه في الخروج فقال له: «تخرج إلى دار الأضياف وسنأمر لك بقصر تُقيم به ولا يؤذن في خروجك من القطائع؛ لأن وُجُودك بها يهمنا كثيرًا وإذا شئت أن تأتي بأهلك فيقيمون معك فافعل.» والتفت إلى زكريا وقال: «إنك صاحبُ فضل يا عم. بُورك فيك. سل ما تشاء.» قال: «لا أسأل إلا أن يكون مولاي موفقًا. وقد انشرح صدري لظهور الحق ويكفيني ذلك.» فقال: «ولكنه لا يكفينا نحن.» وصفق، فجاء الغلام فأمر له بجائزة، فدعا له وخرج وهو يعلم أن سعيدًا يَوَدُّ مقابلته قبل الانصراف، فانتظره حتى خرج. فلما رآه سعيد أسرع إليه وسأله عن حال دميانة، فقص عليه ما جرى لها وما قاستْه مِنْ عِنَاد أبيها وما كان من أمر إسطفانوس وأنها الآن في حلوان تنتظر رجوعه. وكان سعيد يسمع حديثه وهو يكاد يتميز من الغيظ، فقال: «تبًا لذلك الخائن النذل كأنه يثأر لنفسه بعد اللطمة التي نالها ليلة عيد الشهيد، وكان يحسُنُ به أن يُظهر نفسه ولكنه لئيمٌ جبان، وقد واطأه مرقس على ابنته وهو جاهل لا يعرف ما ينفعه ولا ما يضره، فالحمد لله على رد كيدهم إلى نحورهم فاذهب إلى دميانة وبشرها بالفرج. وقل لها: إن ذلك الغر سينال جزاء فعلته قريبًا، وكم أود أن أذهب معك لأراها. ولكن ابن طولون لا يأذن في خُرُوجي مِنْ قصره كما سمعت على أنني سأسعى لزيارتها في وقت آخر وآتي بها تقيم معي بالقصر الذي وهبه لي الوالي بعد أن أعده لاستقبالها ونقيم فروض الإكليل.» فودعه زكريا وهَمَّ بالذهاب فرأى غلام ابن طولون واقفًا ينتظره ليأخذه إلى الكاتب ليعطيه رفده، ولم يخطُ خطوتين نحو باب القصر حتى رأى إسطفانوس قد برز له من وراء الباب ووقف وجعل ينظر إلى زكريا ويتفرس فيه ولسان حاله يقول «قد عرفتك.» ولم يره مع سعيد بعد أن علم برضا ابن طولون عنه وإكرامه إياه لأسرع إلى القبض عليه يتهمه بالسرقة لكنه خاف سعيدًا وتذكر ليلة عيد الشهيد فكظم غيظه. ونظر إليه زكريا نظرة المعتز بالفوز ومشى لا يُبالي، ولولا رغبته في الإسراع إلى دميانة لشكاه إلى ابن طولون رغم نفوذ أبيه. فاكتفى بأن نظر إليه شزرًا وتحول يقصد حلوان وقد مالت الشمس عن خط الهاجرة وهو يسرع تلهفًا لرؤية دميانة وتبشيرها بما ناله من الفوز والفرح. ولم يكد يتوسط الطريق إلى «طره» حتى رأى الناس يهرعون ركضًا إلى القطائع وفيهم النساء والأطفال كأنهم فارُّون من قتال. فسأل بعضهم عن هذا الفرار فقالوا: «إن البجة سطَوا على حلوان ونهبوها.» فقال: «ومتى كان ذلك؟» قالوا: «نزلوا عليها في هذا الصباح، وفتكوا بأهلها ونهبوا بيوتها.» فأجفل زكريا، وخفق قلبه ووقف لحظة وقد جمد الدم في عروقه خوفًا على دميانة، فرآه الراكضون واقفًا فقالوا له: «ارجع يا عماه وإلا فإنك تذهب فريسة البجة لعنهم الله، فهم كالأبالسة ووجههم كوجوه الشياطين.» فلم يبال ما سمع، ولم يزده ذلك التحذيرُ إلا رغبة في المسير إلى حلوان ليرى ما جرى لدميانة، وتمنى لو ذهب إلى الفسطاط قبل مجيئه وركب جوادًا يسرع به، ولكنه وجد نفسه أقرب إلى حلوان منه إلى الفسطاط فظل مسرعًا يعدو والناس يركضون فرارًا من القتل والنهب وقد استقر في ذهنه أن دميانة في أمان؛ لأنها في جوار صديقه قعدان العربي. فلما أطل على حلوان اتجه إلى منزل الرجل وما أشرف عليه من بعيد حتى رأى الخباء منصوبًا فاطمأن ولكنه لم ير أحدًا حوله، فلما دنا منه رأى الخراب مخيمًا عليه ولفت نظره وجودُ جثة ملقاة على الأرض بباب الحديقة عرف أنها جثة غلام صاحبه، فتقدم نحوها فرأى الدم ما زال يسيل منها، فاضطربت جوارحُهُ ولكن لهفته على دميانة أنستْه الخوف ومشى في الحديقة فرأى آثار حوافر الخيل بين الأغراس وقد تَكَسَّرَتْ وتهشمت، فأسرع حتى أقبل على الخباء فسمع أنينًا وتقدم فرأى رجلًا مطروحًا أرضًا فلما وقع نظره عليه عرف أنه صاحبه قعدان فأجفل وصاح: «قعدان! قعدان!» وأكب عليه وأمسك بيده ليجلسه ويفحصه. فأدار قعدان وجهه إليه والدم يسيل مِن جرح عميق في كتفه ولم يستطع أن يتكلم. فقال له زكريا: «لا بأس عليك يا أخي ما الذي أصابك.» فقال بصوت مرتعش متقطع من شدة الضعف: «عفوًا يا زكريا، إني لم أستطع الاحتفاظَ بدميانة؛ فقد أخذوها مني أخذها لصوصُ البجة. ويعلم الله أني بذلت جهدي في حمايتها حتى قُتل ولدي ورجالي وها أنا ذا كما ترى. فعفوُك يا أخي. إني لم أقم بحق الجوار.» وكان ينطقُ بصعوبة وزكريا ينظر إليه ويكادُ قلبُهُ ينفطر لما رأى من آلامه ولما سمع اعتذاره وكيف أنه ضحى بأهله وبنفسه دفاعًا عن جاره أكبر أنفة العرب ونخوتهم وحزن لذهابه قتيلًا وفهم من خلال كلامه أنه لم يستطعْ حمايةَ دميانة فأحب أن يعرف ما جرى لها فقال: «لا بأس عليك يا أخا العرب إنك — والله — قد وفيت حق الجوار وأحييت سنة العرب وهل للإنسان من شيء يبذلُهُ في سبيل جارِهِ أعز من أهله ونفسه — شفاك الله وعافاك.» وكان لا يزال قابضًا على يده، فهَمَّ بإنهاضه وقال: «انهضْ، اجلسْ، هل آتيك بما تشربه؟ قُمْ لأغسل جراحك.» فقال: «لا فائدة من هذا ولا ذاك؛ فإني ميتٌ لا محالة، واعلمْ يا أخا النوبة أن دميانة حية قد سباها البجة، وأظنهم أخذوا أيضًا ابنتي وسائر أهلي.» قال ذلك وتململ وبان التألمُ في وجهه وصرخ «آه لو كنت أستطيع القيام للحقت به.» واختلج وشهق وأسلم الروح. فلم يتمالك زكريا عن البكاء رغم اشتغال خاطره بدميانة، وأسف لموت هذا الصديق الذي يندر مثاله، ولكنه لم يجد حيلةً ينفعه بها وقد قضى نحبه سوى أن يواريه التراب ولم يجد أحدًا يستعين به؛ لأن أهل حلوان كانوا قد هجروها كما هجرها البجة أيضًا بعد أن نهبوها خوفًا من رجال الحكومة. فاحتفر حفرة دفن قعدان فيها ورجع إلى نفسه وأخذ يفكر فيما يجب عمله للاهتداء إلى دميانة، واسترجع في ذهنه ما سمعه من قعدان، ففهم من مُجمله أن البجة سَطَوْا على حلوان، فنهبوها وسَبَوْا نساءها، وكان زكريا قد عرف البجة وعاشر بعضهم، وهم يقيمون بالصحراء الشرقية، يعيشون على الغزو والنهب، وكلهم أشداء أهل بادية وخشونة. فلما تصور دميانة معهم اقشعرَّ بدنُهُ؛ لعلمه أنهم لا يعرفون حرامًا ولا رادع لهم مِنْ دين؛ فقد كانوا لا يزالون في الوثنية. ••• كان زكريا يفكر فيما حدث وهو يمشي على غير هُدًى نحو الجهة التي حسب البجة نزلوا منها أو عادوا إليها لعله يقف لهم على أثر يرى مَنْ يرشده إليهم. وصعد في طريقه أكمةً أشرف منها على الصحراء من بعيد، ونظر فلم ير أحدًا، ولكنه عرف من آثار الحوافر أن القوم كانوا هناك وذهبوا، فحدثتْه نفسُهُ أن يقصهم وحده متشوقًا للعثور على دميانة، ثم عاد إلى رشده فرأى أنه يجهل مقرهم وأنه يعجزُ عن إنقاذ دميانة منهم لو عرفه. فوقف محتارًا، ثم انتبه إلى الأُنبوب، فافتقده فإذا هو لا يزال تحت ذراعه، فتذكر دميانة وما قاستْه من البلاء والعذاب حتى إذا دنتْ منها ساعةُ الهناء ساقها سوءُ الطالع إلى السبي. فقال في نفسه: «ليكن اسم الله مباركًا كأن هذه الفتاة على تقواها وطيب عنصرها وما توافر لها من أسباب السعادة خلقت لتشقى! أين أنت الآن يا دميانة؟ ماذا أقول لخطيبك إذا سألني عنك؟ أأقول له سباها البجة؟ وهم قومٌ لا يرعون زمامًا ولا يوفرون عرضًا؟» وغلب عليه الحزن واليأس فبكى وأغرب في البكاء وهو وحده لا سميع له ولا مجيب. وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فلما رأى الظلال تستطيل انتبه واستوحش وعاد إلى صوابه فقال في نفسه: «لا يفيد البكاء في مثل هذه الحال. وعلي أن أعمل عملًا وأن أسعى في إنقاذ دميانة. ولكن كيف أنقذها؟ أأذهب إلى سعيد أخبره بما أصابها وأستنجده؟ وماذا ينفع استنجاده؟ إنه لا يستطيع شيئًا حتى ابن طولون نفسه لو أراد أن ينجدني وجرد جيشًا على البجة لَمَا جاءني بنفعٍ فإن هؤلاء الأفاقين خارجون على الحكومة من عهد بعيد ولم تَقْوَ دولةٌ على إخضاعهم؛ إذ اتخذوا من الصحراء مأوًى لا يستطيع أحد الوصول إليهم فيه!» ومر في ذهنه ماضي أيامه إبان شبابه في بلدة النوبة، وتذكر ما لملك النوبة من السطوة المهابة في قلوب البجة فقال: «لا ينجدني في هذا الأمر إلا ملك النوبة، ولكن أين هو وأين أنا منه؟ إن بيننا مراحل عديدة، ثم هو يعرفني ولا ينجدني!» وكان يناجي نفسه وهو راجع عن تلك الأكمة نحو حلوان، فلم يجد خيرًا من أن يعود إلى الفسطاط إلى الخان وفيه ثيابه وفرسه، ثم يرى ماذا يعمل. فمشى وهو لا يبالي التعب وقد أظلمت الدنيا، فجعل طريقه على ضفة النيل ولا شيء يلهيه عن التفكير في إنقاذ دميانة من مخالب أولئك اللصوص. خرج من حلوان وهو في لباس بدو النوبة كما كان عند خُرُوجه من القطائع، ومشى مشتت الأفكار، فوقع بصرُهُ على أنوارٍ عند سفح المقطم على أنها في قبة الهواء. فتذكر موقفه مع دميانة وتذكر — للحال — صديقه في المسجد القائم هناك وكان قد مر به قبل ذهابه إلى حلوان وهو يعرف فيه الاطلاع على أحوال البجة وسائر أهل الصحراء، فخطر له أن يذهب إليه ويستشيره في الأمر لعل له وسيلة قريبة تنيله مراده. فعرج على المقطم. وما صعد حتى أتى المسجد، فلاقاه صديقه وأنكره لأول وهلة، ثم تعارفا فدعاه إلى الجلوس، فجلسا لدى باب المسجد، فسأله صاحبه عن حاله فأخبره أنه ترك دميانة عند صديقه العربي في حلوان، وجاء الفسطاط في مهمة ولما رجع رأى البجة قد سَطَوْا على البلد وقتلوا من قتلوه وفر الباقون، وأنهم أخذوا دميانة سبية إلى أن قال: «هل تعرف شيئًا عن هؤلاء البجة وأين يقيمون ومن هو زعيمهم؟» قال: «إن زعيمهم اليوم رجل يُقال له أبو حرملة.» فصرخ زكريا: «أبو حرملة؟ فرج النوبي ابن بلدنا؟» قال: «كلا. ليس هو الرجل الذي تعنيه، ولكنه تسمى باسمه تشبهًا بالشجعان ولف حوله عصابة من قومه وجعل ديدنه السطو على أطراف مصر ينهب ويقتل، ولم يسبق له أن سطا على حلوان قبل الآن.» فتنهد زكريا وقال: «لعله فعل ذلك لسوء طالع تلك الفتاة التقية. وأين تظنهم يقيمون الآن؟» قال: «يقيمون؟ لا أعرف لهم مقامًا؛ لأنهم قومٌ رحلٌ يعيشون على الغزو والسطو.» قال: «وما رأيك الآن. كيف العمل يا صاحبي؟ إني أراني في حيرة. كيف يمكنني إنقاذ هذه الفتاة، فقد اؤتمنت عليها وعاهدت نفسي أن أقوم بخدمتها ورعايتها. وقد أخذت أثناء غيابي ويا ليتني كنت حاضرًا ساعة السطو؛ فكنت أنقذها أو أُقتل في سبيل ذلك فأذهب مرتاح الضمير.» قال ذلك وغص بريقه وأجهش في البكاء. فلما رآه صاحبُهُ يبكي وهو شيخ عطف عليه ودفعتْه الأريحية فقال «خفف عنك يا زكريا واشكر الله على أنك كنت غائبًا في تلك الساعة وإلا لكنت مقتولًا لا محالة ولا تبقِ حيلة لإنقاذ الفتاة أما وأنت حي فلا تعدم وسيلة لإنقاذها.» قال: «ما هي الوسيلة؟ هل تعلم مقر هؤلاء فأذهب إليهم بنفسي وأكلم أبا حرملة وأستعطفه لعله يُشفق على الفتاة وأفتديها بما يريد من المال.» قال: «أما مقر هؤلاء فلا سبيل إلى معرفته ولا فائدة تُرجى من الاستعطاف، وأما الفداء فلو كان الأسيرُ رجلًا أو غلامًا أو امرأة طاعنة في السن؛ فربما أفاد أما وهي فتاة جميلة فلا أظنهم يقبلون افتداءها، وأرجح أن أبا حرملة يجعلها في جملة نسائه فقد سمعت أنه رغاب في النساء!» فقطع زكريا كلامه قائلًا: «تعني أنه يتزوجها؟» قال: «يتزوجها أو يتسرَّاها لا أدري.» فصاح زكريا: «أعوذ بالله.» وأطرق هنيهة ثم قال: «لا أخاف عليها منه ما دامت حية وإن كان جبارًا ولكن …» وبلع ريقه وأخذ ينكت بالأرض بإصبعه ويفكر. فابتدره صاحبه قائلًا: «لا فائدة من التفكير إننا لا نعرف مقرهم وإذا عرفنا لا قدرة لنا على مناوأتهم.» فعاد إلى ذكر سعيد ومنزلته عند ابن طولون فقال: «وما قولُك إذا استنجدنا أميرُ مصر؟» فابتدره قائلًا: «لا تُرجى نجدة من الأمير؛ فإنه لا يعرض رجاله للموت في الصحراء ولو كان يستطيع إخضاعهم لَفعل ذلك من قبل. فإن البجاويين لم ينفكُّوا عن السطو على حُدُود البلاد من أزمان متطاولة والدولة عاجزةٌ عن ردهم، فكيف يتعقبهم إلى منازلهم ومنازلُهُم على ظهورهم؟» فأيقن زكريا أَلَّا خير يُرجى من استنصاره سعيدًا، فعزم على كتمان هذا الأمر عنه، وقال له صاحبه: «ما بالك لا تفكرْ في مولانا ملك النوبة وأنت تعلم نفوذه على البجة؛ فإنهم لا يخافون أحدًا سواه؟» قال: «أعلم ذلك وقد خطر لي أن أستنجده، ولكنه لا يعرفني، وبلده بعيد، وأخاف أن أضيع الوقت بالسفر إليه في أطراف النوبة ثم أفشل ويذهب سعيي عبثًا.» فقال: «ألست نصرانيًّا؟» قال: «بلى.» قال: «ألا تعلم مقدار تمسك ملكنا بالنصرانية وغيرته عليها؟» قال: «أعلم.» وتنبه لرأي أشرق له وجهه وقال: «فطنت لوسيلة تضمن النجاح. فطنت لما تريد أن تقوله. سأستنجد أحد أساقفتنا ليتوسط لي لدى ملك النوبة وإنني أقدر أن أوسط البطريرك نفسه.» فصاح الرجل عند ذلك قائلًا: «بُورك فيك، هذا هو الرأيُ الصواب وإذا اتبعته نلت ما تريد. إذا استطعت أن تأخذ كتابًا، مر البطريرك إلى ملك النوبة يوصيه بك خيرًا؛ فإنه لا شك يقضي لك أمرك.» فقام زكريا لساعته ومَدَّ يده، فودع صديقه، وقال: «لقد استصوبت رأيك وسأعمل به. والوقت ثمين.» قال: «ألا تنام هنا وتسافر في الصباح؟» قال: «دعني أذهب لإعداد ما يلزم.» قال ذلك وتوجه قاصدًا إلى الفسطاط من جهة الشاطئ. ولَمَّا أطل على حصن بابل ووقع بصره على دير المعلقة عرفه من نور معلق بباب الحصن، فتذكر دميانة والأسقف ومرقس كما تذكر البطريرك ميخائيل يقيم بدير أبي مقار بالصحراء الغربية في وادي النطرون والطريق إليه شاق، ولا بد من التأهُّب للمسير فيه. ووصل إلى الفسطاط وقد أُغلقت أبوابها، فباتَ في مكان خارجها، ولما فتحت الأبواب دخلها متنكرًا حتى أتى الخان، وأخذ يتأهب للسفر إلى دير أبي مقار عبر النيل والصحراء الغربية. ورأى — لتمام الحيلة — أن يتنكر بلباس الرهبان وحدثته نفسه أن يركب جواد مرقس الذي أتى به من طاء النمل، ولكنه خاف أن ينم عليه فيذهب تنكره عبثًا، فباعه لصاحب الخان واشترى هجينًا خفيفًا وضع عليه رحلًا ونزل السوق فاشترى ثياب الرهبنة وأهمها الرداء الأسود الخاص بالرهبان والقبعة الخاصة برهبان دير أبي مقار، وقضى في ذلك يومًا كاملًا وفي المساء أعد كل شيء على أن يسافر في صباح الغد. ولما عزم على السفر تذكر سعيدًا وقال في نفسه: «كيف أتركه وأسافر بدون أن يعلم مصيري وما حدث لدميانة، فقد يذهب إلى حلوان فلا يقف على خبرها، فيظنني خدعته، أو ربما تولاه اليأسُ أو غير ذلك.» قضى ليلته يفكر في سعيد ولم ينم إلا قليلًا، وتعاظم الأمر عليه أثناء رقاده؛ لأن المرء إذا فكر في أمر يهمه وكان تفكيره في الظلام وهو راقد مغمض الأجفان تعاظم عليه الوهمُ، فرأى أن يطلع سعيدًا على ما جرى فلما أصبح تنكر بغير لباس البادية الذي جاء يوم مقابلة سعيد وخرج إلى القطائع، وأخذ يسأل عن المهندس النصراني؛ إذ كان معروفًا بهذا الاسم فلم يهتد إليه. ولكنه اهتدى إلى القصر الذي أعدوه له، وسأل حاجبه فقال له: «خرج مساء الأمس ولم يعد بعد.» فأخذ يفكر فيما عسى أن يكون حاله، وكيف يخرج وإلى أين وابن طولون قد منعه من الخروج وخاف أن يُكثر من السؤال فيشتبه الحاجب فيه فرجع. وخطر له أثناء رجوعه أن سعيدًا قد يكون ذهب إلى حُلوان بعد أن بلغه سطوُ البجة عليها؛ لأن خبر تلك الغزوة ذاع في أنحاء المدينة. فتَرَجَّحَ لديه أنه ذهب إلى هناك، فاتجه إلى ذلك الطريق؛ لعله يلاقي سعيدًا، وما مشى طويلًا حتى شاهد فارسًا قادمًا من طريق حلوان، وعرف من قيافته أنه سعيد، وما عتم أن وصل الفارس فإذا به هو بعينه فناداه زكريا فوقف، ولما عرفه أسرع إليه وترجل وسأله: «أين دميانة؟ لقد ذهبت إلى حلوان فلم أجدها ولا وقفت لها على خبر، هل كنت تقول الصدق؟» قال: «نعم يا سيدي قلت لك الصدق. ألم تسمع بما أصاب حلوان؟» قال: «سمعت أن بعض البجة سَطَوْا عليها ونهبوها، فهل أخذوا دميانة في جملة السبي؟» قال ذلك وهو يتلعثم وقد جَفَّ حلقُهُ. قال: «يظهر أنهم أخذوها وكنت ذاهبًا للتفتيش عنها دون أن أخبرك؛ لئلا أكدرك عبثًا فأنت مقيدٌ في منصبك، ولا سيما الآن، ولكني رجعت أمس، فرأيت الأفضل أن أراك قبل سفري.» قال: «وماذا جرى؟» فقص عليه حديثه منذ فارقه وسار إلى حلوان، ثم قال: «ولم أجدْ وسيلةً لإنقاذ دميانة غير توسيط البطريرك لدى ملك النوبة، وسأذهب في الغد إلى دير أبي مقار.» وكان سعيد يسمع كلامه ويكاد يتميز من الغيظ، فقال له: «لماذا لا نذهب إلى البجة رأسًا ونحمل عليهم برجالنا ونأخذ دميانة قهرًا، إني لا أرجع عنهم حتى آخذها.» قال ذلك والغضب يقيمُهُ ويُقعده. فقال زكريا: «لا يعلم أحد مقرًّا لهم بهذه الصحراء، ثم إنك إذا طلبت من ابن طولون أن ينجدك بالرجال لم يجب طلبك؛ خشية على رجاله.» قال: «مالي ولابن طولون؟ سأذهب بنفسي.» قال ذلك مدفوعًا بالحماسة والغيرة. فقال له زكريا: «إذا كنت ترى وسيلة لاسترداد دميانة بالقوة كما تقول؛ فافعل وأما أنا فلا أمل لي إلا في الطريق الذي ذكرته لك، دعني أذهب في هذه المهمة ولا أضيع الوقت سُدًى، هل تأذن في ذهابي؟» فَتَنَهَّدَ سعيدٌ والدموع تكاد تترقرق في عينيه لتصوره حال دميانة في قبضة أُناس وثنيين لا آداب تردعهم ولا دين يردهم ولا شفقة في قلوبهم، وقال: «اذهب أنت وسأبحث أنا عن وسيلة قريبة، فإذا وُفقت إليها فبها ونعمت وإلا فأنا سائر في عملك. وإذا جد شيء فأخبرْني به وأنا مقيم بالقطائع، هل عرفت منزلي؟» قال: «نعم عرفته، أستودعك الله؛ فأنا ذاهب لساعتي والاتكال على السيد المسيح وأرجو ببركة سيدتنا مريم العذراء أن تتوصل إلى الهدف المطلوب.» فدعا له سعيد بالتوفيق وافترقا.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/91708090/
أحمد بن طولون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «أحمد بن طولون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. ويجمع هذا العمل بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية الهامة التي وقعت في عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة في أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، في العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان في هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التي اعتمد في ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
https://www.hindawi.org/books/91708090/10/
في دير أبي مقار
سار زكريا توًّا إلى الخان، فأعد كل معدات سفره، ثم ركب هجينه وخرج من الفسطاط فقطع النيل على جسر جزيرة الروضة، وقطع جسرًا آخر إلى بَر الجيزة، فلما صار في البر الغربي من النيل انتهز فرصةً بَدَّلَ فيها ثيابه ولبس ثياب الرهبنة وهو نوبي اللون والملامح، فأصبح كأنه راهبٌ من رهبان النوبة، ثم اتجه انتباهُهُ إلى الأسطوانة التي وضع فيها آماله وآمال دميانة، فجعلها في كيسٍ في عنقه تحت إبطه، بحيث لا تظهر ولا ينتبه لها أحدٌ، وبات ليلته وأصبح فركب هجينه وسار شمالًا يطلب بعض المحطات التي يسار منها إلى وادي النطرون وفيه دير أبي مقار. ويقع وادي النطرون في صحراء ليبيا غربي الدلتا، على مسافة ثلاثة أيام منها يقطعُها المسافر في رمال وصخور لا أثر للعمارة فيها، ولا يلقى أنيسًا إلا القوافل الذاهبة إلى ذلك الوادي لتحمل الملك أو النطرون إلى الدلتا أو الراجعة بالمؤن والأطعمة للرهبان بالأديار القائمة في تلك البادية الموحشة. وقد ذكر بعضُ المؤرخين أن هذا الوادي كان فيه نحو خمسين ديرًا وقال آخرون: إنها أقل من ذلك. والموجود منها الآن لا يتجاوز عدد أصابع اليد أهمها: دير أبي مقار ودير الأنبا بشاي ودير البراموس. وأولها أقربها إلى الدلتا، ثم تتباعد حسب ترتيب ذكرها. وهي قديمةُ البناء ربما اتصل تأسيسها بالقرن الرابع للميلاد؛ أي عند شيوع الرهبنة في النصرانية مما لا محل لتفصيله هنا. والذاهبُ إلى وادي النطرون لا يأمن الذهاب وحده في تلك البادية؛ خوف الضلال في الطريق وحذرًا من أهل السطو، ولذلك لم يكن الناس يسافرون إلا مع القوافل جماعات، ولم يكن زكريا يجهل ما يعترضُهُ من الخطر في السفر، فلما وصل إلى المحطة التي يبدأ منها الدخول في الصحراء غربًا إلى وادي النطرون أخذ يبحث عن قافلة يسيرُ برفقتها، فعلم أن ركبًا يتأهب للمسير في الغد يحمل المئونة من الزيت والحنطة وغيرها إلى دير أبي مقار، ففرح لهذه الفرصة المواتية، وانخرط في سلكهم وكان معهم راهبان من رُهبان الدير، فسألاه عن أمره فاضطر إلى أن يجعل قوله مطابقًا لملابسه فقال: «إنني راهب من رهبان النوبة.» فقال الراهب: «أظنك قادمًا في مهمة إلى البطريرك ميخائيل؟» وتنحنح. فقال: «أطلب تقبيل يديه.» فلما قال ذلك التفت أحد الراهبين إلى زميله وتبسم كأنه يلفته إلى شيء لحظه. فلما رأى زكريا تبسمه وإيماءه خاف أن يكون قد كشف أمره — ويكاد المريب يقول خذوني — لكنه تجلد والتفت إلى الراهب الذي ضحك وقال: «ما بالك تضحك أيها الأخ ألم تصدق قولي؟» قال: «العفو يا أخي. ليس هذا غرضي معاذ الله أن أشك في قولك ولكنني ضحكت لأمر تذكرتُهُ وقع من عهد غير بعيد، وإذا كنت قادمًا من النوبة الآن فأنت جدير بمعرفته.» وخشي زكريا أن ينكشفَ أمرُ تنكره فابتسم وأغضى كأنه يعرف السر ويود السكوت عنه، واكتفى بأن تحقق وجود البطريرك ميخائيل هناك. وسكت الراهبان وقضوا ذلك اليوم في الاستعداد، وأقلعوا في صباح اليوم التالي ومعهم الخدم لسوق الجمال أو البغال وكلها للدير وهي تحمل جرارًا من الزيت وأكياسًا من الحنطة والعدس والفول وبعض الأقمشة وغير ما عليها من الأقوات والماء للطريق. وما تبطنوا الصحراء حتى أصبحوا في قفر يكتنفهم الرمل والصخور من كل ناحية كما يكتنف الماء المسافرين في البحار من كل الجهات. والمسافر في البادية إذا أوغل فيها لا يرى حولَه إلا رمالًا ومن أجمل مناظرِ الصحراء في النهار منظرُ السراب أو الآل الذي يتراءى للناظر عن بعد كأنه ماء يجري في نهر أو بحر ويرى ظلال الشجر أو الصخور في أسفل الماء كما تنعكس عن شواطئ البحور فيراها المقبل عليها من بعد. ولم تكن هذه المناظرُ غريبةً على زكريا؛ فقد طوى البادية مرارًا، ورأى السراب وقاسَى العذاب في شبابه، ولكنه لم يكن قد زار دير أبي مقار قبل ذلك الحين ولا عرف الطريق إليه فكان معوله على رفاقه، ورآهم في قلة من الرجال فقال لهم وهم يسوقون هجنهم ضحى ذلك اليوم لا يسمع لها خطو على الرمال: «أراكم في قلة وعهدي بالقافلة إذا لم تكن قوية أن يُخشى عليها من قاطعِي الطريق.» فقال أحدُ الراهبين: «كان ذلك قبل إمارة ابن طولون؛ فإنه أحسن الظن بالأقباط ومنع التعدي عنهم، فأصبح الواحدُ — أو الاثنان — يسافران منفردين ولا خوف عليهم.» فقال زكريا: «صدقت، إن حال مصر في ظل هذا الأمير لم يسبق لها مثيل منذ أول الفتح.» استراح أهل القافلة عند الأصيل قليلًا، ثم استأنفوا المسير حتى أقبل المساء، فنصبوا خيمة خفيفة للمبيت فيها وجلسوا للطعام وقد دنت الشمس من الأُفُق وأخذت تستطيلُ حتى صارت كمثرية الشكل واحمرَّ لونُها وأحاطت بها هالاتٌ من الشفق باهرةُ الألوان مما يَسحر العقول. ولو كان أهل القافلة من الشعراء لوقفوا مبهوتين لهيبة الطبيعة ولَخُيِّلَ إليهم أنهم يسمعون خطيبًا يعظم أمر الخليقة ويستعظم سرها. ولا يخطر للإنسان عظمةُ هذا الكون وكبر شأنه إلا إذا خلا في موقف طبيعي مثل هذا. أما في المدن فتشغله الجواذب والدوافع ويلهو بملذاته ومطامعه. ولكن أصحابنا الرهبان لم يكونوا من الشعراء ولا لفت ذلك المنظر انتباهَهم وإنما شغلهم تعبُهُم عن كل شاغل فلجئوا إلى الرقاد على أن يُقلعوا في الغد فيَصِلوا إلى دير أبي مقار قبل غروب الشمس. وكان زكريا أكثرهم رغبة في الوصول؛ فقد كانت الصحراء تُذَكِّرُهُ بدميانة وأنها أخذت إلى مثلها وألحت عليه هواجسه لكي يحث هجينه للوصول إلى الدير، لكنه لم يشأْ أن يترك رفاقَه؛ لأن جمال الحمل تبطئ بخلاف الهجن، فخطر له أن يستأذن رفاقه صباح اليوم التالي ليسبقهم، فأنكروا عليه انفراده فوافقهم، ثم شدوا رحالهم في الصباح وساروا يقطعون منخفضات ومرتفعات ليست بالأودية وبالجبال وإنما هي تعاريجُ لا يبرح المسافر كيفما توجه يجد نفسه محاطًا بالتلال الصخرية أو بروابي الرمل. وعند الأصيل أطلوا من حافة السهل على وادٍ عظيم فيه آثارٌ من الأبنية المتفرقة وبعض الأشجار المبعثرة، وأول بناء كبير وقع نظرُهُم عليه من بعيد دير أبي مقار بقُرب فتحة الوادي. وحَالَمَا أطلُّوا عليه أشرقتْ وجوهُهُم، وقال أحدهم: «هذا هو الدير.» فقال زكريا: «لا بد من الوصول إليه الليلة.» وكانت رغبتُهُ في الوصول تجعلُهُ يردد ما يجول في ذهنه خوف تباطؤ القافلة، فقال له أحد الراهبين: «أظننا نصل الليلة أو صباح الغد، وإذا كانت الليلة مقمرة نواصل السير ليلًا حتى نصل؛ إذ يظهر أنك مستعجل في مهمتك يا أخ.» وضحك فعلم زكريا أنه يمزح؛ لأن الليلة مظلمة والقمر في أواخر أيامه، فلم يجبهم، وتشاغل بإصلاح رحلِ جمله تحته. وبينما هم سائرون وعينا زكريا نحو الدير وقع نظرُهُ عند أول الوادي على أشباح راكبين على هجن، ولم يستطع تمييزَهم لبُعد المسافة، فقال لأقرب الراهبين إليه: «كأني أرى أناسًا ودواب؟» فنظر الراهبُ إلى الوادي وتفرَّس قليلًا، ثم قال: «ألا تراهم خارجين من الوادي؟ إنهم من التجار يحملون أحمال الملح والنطرون، أو ربما حملوا القش الذي يصنعون منه الحصر؛ فإنه كثير هنا.» فقال: «لا أرى معهم أحمالًا مما ذكرت. وإذا كانت معهم أحمال فينبغي أن تكون أقل من ذلك كثيرًا.» وكان الراهب الآخر يتفرس في الأشباح فلما سمع جواب زكريا قال: «صدقت أحسبهم من تجار الزجاج لأن في هذا الوادي معملًا يصنعون فيه الزجاج بنفقة أقل من نفقته في الفسطاط فيبتاع التجار من هنا كميات كبيرة يحملونها إلى الأسواق.» فقال زكريا: «لم أكن أعلم أن الزجاج يصنع في هذه الأرض المنقطعة.» فقال الراهب: «كان يُصنع هنا من عهد دولة الروم، ولا يزال.» فسكت زكريا وبعد هُنيهة توارتْ تلك الأشباحُ وراء التلال ولم يعودوا يرونها، وطفقوا سائرين في طريقهم وعيونُهُم نحو الدير، ولا سيما زكريا فإنه كان أكثرهم رغبة في الوصول وزاد قلقه لَمَّا شاهد الشمس تقترب من الأُفُق خوفًا من تخييم الظلام قبل الوصول. وفيما هم في ذلك رأوا هجانًا من وراء رابية وعليه العباءة والكوفية، ثم وقف هجينه لحظة وأشار إشارة وتقدم فظهر وراءه بضعة جمال على كل منها راكب وكلهم مسلحون بالرماح، ورآهم زكريا يتقدمون فخاف غدرهم إذ لم ير معهم أحمالًا. فالتفت إلى رفيقيه الراهبين فرآهما قد تغير وجهاهما فقال: «يظهر أن هؤلاء ليسوا تجارًا، وأظنهم من الأعداء؛ فإن ألبستهم عربية.» ولم يُتم كلامه حتى رأى القوم يسوقون هجنهم نحوهم وقد أشرعوا الأسنة، فتحقق أنهم من الأعداء، فأخذ يتأهب للفرار وإذا بهجان منهم ملثم تقدمهم وأشار بيده كأنه يقول لهم: «قفوا عندكم.» فقال زكريا: «ماذا تريدون؟ من أنتم؟» وكان الهجان قد وصل إليهم، فتفرس في زكريا ولما تبينه قال له باللغة القبطية: «ألست قادمًا من النوبة؟ قف ولا تتحرك.» فرآه زكريا يتكلمُ القبطية كأنه مِن أهلها مع أن لباسه عربيٌّ فأشكل أمره عليه وقال في نفسه: «لا يمكن أن يكون هذا عربيًّا، فلعله جاسوس من الأقباط يعين العرب عليهم.» وزاده تلثُّم الرجل شكًّا فيه. لكنه شغل بالخوف منه عن البحث في شأنه. فتحقق الركبُ عند ذلك أنهم مأخوذون، وعلم زكريا أن رفاقه لا يستطيعون الفرار لثقل أحمالهم، أما هو فحمله خفيف وليس عليه ما يمنعه من الإسراع فتهيأ للفرار. بينما تقدم الراهبان وأرادا الاستفهام من الهجان عما يُريده، فقال أحدهما له: «ما الذي تبغونه منا؟» قال: «اتركوا الأحمالَ وانجوا بأنفسكم.» قال: «إننا نحملُ طعامًا للدير، ولم نعهد أَنْ يتعرض لنا أحدٌ؛ لأننا أصدقاءُ الأمير صاحب مصر.» قال: «لم نتعرضْ لكم قبلًا، أما الآن فأنتم أعداؤنا. وإذا لم تتخلَّوا عن الأحمال قتلناكم فانجوا بأنفسكم.» فتحقق الراهبان وزكريا أنهم مغلوبون على أمرهم، فقد كان المغيرون أكثر من عشرة بالسلاح الكامل وهُمْ لا سلاح معهم، فضلًا عن قلة عددهم، فأخذوا يتوسلون إليهم أن يَتَخَلَّوْا عنهم مستغربين هذه المعاملة التي لم يسبق لها مثيلٌ منذ عدة أعوام، فقال كبيرُ القوم: «لا تسألونا عن السبب بل اسألوا بطريركم، وهو يخبركم.» قالوا ذلك وهم يهددونهم بالقتل إذا لم يتخلوا عن الأحمال وينصرفوا. فتقدم زكريا يريد أن يستعطفهم، وقال: «إن هذه الأحمال طعامٌ لرهبانٍ يُقيمون بهذا الدير، وقد أوصى نبيكم بهم خيرًا.» فانتهره الهجانُ وقال له: «كانوا كذلك، ولكن أفسدتموهم يا معشر النوبة وسترون عاقبة بغيكم قريبًا وإذا فُهت بكلمة أخرى أخرجنا ما تخفيه بين أثوابك من الرسائل.» فخاف زكريا إن هو أصر على الإنكار أن يبحثوا بين أثوابه فيفقد الأسطوانة التي يخفيها تحت إبطه وتذهب آماله عبثًا. ولم يعد يعلم ماذا يعمل لينجو قبل أن يقبضوا عليه، وهم إذا أرادوا قتله لا يمنعهم مانع، فتغابى وقال: «فتشوا. إني لا أحمل شيئًا وإنما جئت لأفي نذرًا لهذا الدير، وأنا أُشير على رفاقي أن يتخلوا لكم عما معهم ويتبعوني قبل أن يشتد الظلام فيضلوا طريقهم.» قال ذلك وأشار إلى الراهبين أن يتبعاه ووخز جمله فطار به وكانت الشمس قد غابت وتكاثفت الظلال، فزاد القوم رغبة في القبض على زكريا لما آنسوه من رغبته في الفرار، فصاحوا به: «قف عندك.» ولكنه كان قد أطلق لهجينه العنان، فاقتفى أثره اثنان منهم وكان قد تمرس بركوب الجمال في شبابه وكاد ينساه، لكن رغبته في النجاة وخوفه من وقوع ذلك الأنبوب بأيدي القوم جَدَّدَ نشاطه وشبابه، فثبت على الرحل ثبات الطود. ولكن مُطارديه كانوا من أهل البادية الذين شبوا على ظهور الجمال، فلم يطارداه إلا قليلًا حتى كادا يدركانه، وكان الليل قد أسدل نقابه وأصبح على مقربة من دير أبي مقار، وعرف ذلك من مصباح موقد هناك لهداية القادمين، فلما أيقن بالهلاك ضاع رشده وارتبك في أمره وعثر الهجين برابية من الرمال فاختل توازنه فهوى عن ظهره، وأراد أن يتمسك برقبته فخانته يداه فسقط إلى الأرض فوق الرمال والهجين يجمح في عرض الصحراء. ولما وجد زكريا نفسه على الرمال سليمًا استرجع رشده وركض منحرفًا عن الطريق وأخذ يبحث عن مكان يختبئ فيه حتى يمر الهجانان فوجد حفرة نزل فيها وهو يتلمس جوانبها. أما الهجانان فكان أحدهما قد تعب وتباطأ وظل الآخر يستحث هجينه في أثر زكريا وقد أشرع الرمح، وزكريا تارة يتوارى عنه وراء التلال وطورًا يظهر له وربما اقترب منه حتى كاد يدركه فيعيقه عنه عائق من وعورة الطريق أو غيرها فيسبقه. ولما سقط زكريا عن الجمل كان قد بَعُدَ عن مطارده وتوارى في ظل أكمته ولم يقف هجينه بل زاد عدوًا؛ لأنه أجفل من سقوط راكبه وأحس بخفة محمله ولم ير الهجان المطارد سقوط زكريا فظل في أثر الهجين الهارب يعدو وحده. وبعد أن تجاوز مكان السقوط بمسافة طويلة أيقن أن زكريا سقط وقُتل وأصبح همه منصرفًا إلى تعقب الهجين لأخذه. أما زكريا فتربص في الحفرة وعيناه تتعقبان الشبح الذي كان يطارده، فرآه تجاوزه جريًا في أثر الهجين، فاطمأنَّ على حياته، وأخذ يتحسس أعضاءه؛ لئلا يكون قد تعطل شيء منها، فوجدها سليمة فشكر الله وعَدَّ ذلك من كرامات مار مقاريوس صاحب الدير. وافتقد الأسطوانة فوجدها في مكانها تحت إبطه، فأخرج طرفها وقبله سرورًا ببقائها وأعادها إلى مخبئها، ولبث ينتظر ما يكون من أمر رفاقه هل ينجون بأنفسهم أم لا، ولما مضت مدة لم يعد يسمع فيها صوتًا خرج من الحفرة والظلام شديدٌ، وتسلق رابيةً وأخذ يتلمس ويتفرس فيما حوله؛ لعله يرى شبحًا أو يسمع صوتًا، فلم ير غير نور الدير وقد أصبح قريبًا، فمشى نحوه وقد أحس بالألم في ساقيه لكن فَرَحَه بالنجاة من القتل أنساه كل شيء. وما كاد يمشى قليلًا حتى سمع صوتًا وقف له شعرُهُ وارتعدت فرائصه، إذ كان صوت حفيف ثعبان ينساب على مقربة منه. ثم سمع فحيحه فجمد الدم في عروقه ووقف وقوف الصنم؛ لأنه كان يسمع عن الثعابين السامة في تلك البادية. وكان الظلامُ قد حال بينه وبين ما حوله، فلم يعرف كيف يتقي الأذى فأخذ يرسم علامة الصليب على وجهه ويستغيث بمريم العذراء ومار مقاريوس صاحب الدير وبسائر القديسين متمتمًا، ولو أراد رفع صوته لم يستطعه لجفاف حلقه من الخوف. ظل واقفًا بضع دقائق حَسِبها ساعات حتى بعُد الحفيف عنه، فتحقق أنه نجا لكنه ما زال يخاف من طارق آخر فاستعان بالله واستجار بقديسيه ومشى نحو النور الذي يراه في دير أبي مقار. مشى زكريا على الرمال يتحسس طريقه. فتارة تغوص قدمه في الرمل فيخاف أن تلدغها عقرب وطورًا تصدم بصخر أو تعثر بحصًى فيُجفله صوتها. وكان محتذيًا نعالًا من القش كانت شائعة في وادي النيل ينسجها بعض أهل الريف من ألياف البردي أو القنب أو الغار. وكان يخطو وهو يتعثر بثوبه وافتقد قبعته، فلم يجدها، وكانت قد سقطت في أثناء الفِرار ولم يشعر فلم يهمه أمرها وإنما أهمه الوصول إلى الدير. أقبل على الدير فوجده مربع الشكل يكتنفُهُ سورٌ عالٍ أشبه بأسوار قلاع الحصار طول كل ضلع من أضلاعه ١٤٠ مترًا. ولم يكن زكريا جاء ذلك المكان من قبل، ولكنه سمع أن القادم إلى الدير يقرع جرسًا فوق الباب فيفتح له، فأخذ يفتش عن الباب فدار حول السور فلم يجده فاتهم عينيه بالخطأ؛ لاعتقاده أن الأديار لا يُمكن أن تكون بلا أبواب، فأعاد التفتيش بدقة، فوصل إلى مكانٍ من السور وجد عنده حجرَي رحًى كبيرين قُطر الواحد منهما ثلاثة أذرع، فتفرس فيها فرأى وراءهما بابًا لا يزيد علوه على ذراعين وإذا فُتح لا يدخله الإنسان إلا ساجدًا، فمد يده إلى الباب وجسه بأنامله فرآه مصفحًا بالحديد الضخم بحيث يستحيل كسرُهُ وهو لم يكن يريد كسره وإنما يريد أن يعلن أهل الدير بوصوله ليفتحوا له فقال في نفسه: «إذا كان هذا هو الباب فلا بد من الجرس عليه أو وراءه.» فتسلق أحد الحجرين وتلمس الحائط فوجد عليه حبلًا جذبه فسمع صوت الجرس وكان له دوي في ذلك الليل الموحش، وعلا نباح الكلاب من الداخل ووقف ينتظر ما يكون. وبعد هنيهة رأى أشعة نور مرسلة في الفضاء داخل السور تقترب نحوه، وأخيرًا رأى النور فوق السور يحمله راهبٌ أَطَلَّ مِن أعلى السور يتطاول بعنقه والمصباح في يده وقد مد عينيه نحو زكريا كأنه يستكشف حاله ووقت أشعة المصباح على وجه الراهب، فأبان عن شيخ هرم قد تجعد وجهه وشاب شعره، وحالما وقع بصره على زكريا قال بالقبطية: «من أنت؟» قال: «غريبٌ قاصد زيارتكم لتقبيل أنامل البطريرك والتبرك بصاحب هذا الدير.» قال: «هل أنت وحدك؟» قال: «نعم يا أخي، ألا تفتح لي؟» قال: «إن فتح الباب يقتضينا مشقة كبيرة لإزاحة الحجرين من الخارج والأحجار التي وراءه من الداخل، فالأوفق — على ما أرى — أن ندلي لك حبلًا ونرفعك بالبكرة.» قال: «كما تشاء.» فمضى الراهب ثم عاد وأدلى له حبلًا تشبث به، فأدار الراهب بكرة كبكرة البئر، فصعد زكريا حتى بلغ أعلى السور، فسلم على الراهب ونزلا من وراء الباب وقد تَغَطَّى معظمه بالحجار الضخمة التي دعموا الباب بها، وربما زاد وزنُها على عشرات القناطير. فاستغرب زكريا ذلك الحذر؛ لأن ثقل هذه الأثقال يقتضي وقتًا ومشقة، فقال: «أراكم قد أكثرتُم من الدعائم للباب كأنكم في حصار.» قال: «لم نفعل ذلك إلا في هذين اليومين لأسباب ستعلمها. تعال الآن إلى غرفة الأضياف وغدًا نعرض أمرك على الرئيس.» ومشى الراهب أمامه بالمصباح بين نخلات تُناطح السحاب حتى أدخله غرفة معدةً للأضياف وقد أخذ التعبُ منه مأخذًا عظيمًا فصلى فرضه ونام. ودير أبي مقار مُكَوَّنٌ من السور الذي ذكرناه، ومن خمسة أبنية: ثلاث كنائس وبناء لسكن الرهبان وقضاء حوائجهم؛ من إعداد الطعام وتناوله، وبرج عال يُقال له القصر وفيه ذخائرُ الدير من الكتب أو الآنية القديمة، ويتخلل هذه الأبنية نخيلٌ وبعض المغروسات التي يحتاجون إليها في إصلاح الطعام. والكنائس المشار إليها هي: كنيسة أبي مقار على اسم صاحب الدير وكنيسة الشيوخ وكنيسة أبسخرون. أما البناء الذي فيه مساكن الرهبان ففيه دارٌ واسعةٌ، تحيط بها غرفٌ بعضها للنوم وفيها غرفة مستطيلة للطعام وحجرة كبيرة للطحن وأخرى للخبز وأخرى للطبخ. أما القصر فإنه مؤلف من طبقتين: السفلى أقبية معقودة فيها خزائن الكتب أو غيرها من الذخائر الثمينة كالألبسة أو التيجان أو الصلبان ونحوها ومخازن المئونة للزيت والحنطة، وفيها منافذ سرية يلجأ إليها الرهبان عند الخطر العظيم إذا أخذ ديرهم. وفي الطبقة العُليا من هذا القصر ثلاثةُ معابد، أحدها على اسم مار سواح والآخر لمار أنطونيوس والثالث باسم مار ميخائيل، وفي هذا المعبد الأخير نجد البطاركة الذين ماتوا هناك محنَّطين في توابيت والقصر حصين قد احتاطوا لمنع الأذى عنه بأن جعلوا بابه في الطبقة العُليا لا يمكن الصعودُ إليه إلا على سلم أو جسر مدرج واصطنعوا له سلمًا مستقلًّا ضخم الشكل ثقيل الحمل ينصب عليه عند الحاجة فإذا أنزل عنه لا يمكن رفعه إلا بالآلات الرافعة، أو يتعاون في نصبه عدة رجال. وأفاق زكريا في صباح اليوم التالي على صوت الناقوس للصلاة باكرًا، فنهض وأسرع مع سائر الرهبان لحضور القُداس في كنيسة أبي مقار، وهي أفخمُ تلك الكنائس وأجملها، وفيها ثلاثةُ هياكل: أكبرها الهيكل الأوسطُ ومساحته ٢٥ قدمًا في ٢٠، وعليه قبةٌ مبنيةٌ من القرميد على طراز جميل وعلى جدرانها صور بعض القديسين وفي وسطها مذبح من الحجر وراءه مقاعدُ كالمنبر. فاصطفَّ الرهبانُ لِسَمَاع الصلاة وعددهم بضع عشرات بينهم عدة قسوس يتقدمهم البطريرك بلباس الصلاة ورئيس الدير. وكان زكريا يعرف البطريرك من قبل، وقد شاهده مرارًا في كنائس مصر لكنه رآه الآن قد تغيرت ملامحُهُ وبانت الشيخوخةُ في جبينه ولحظ عليه انقباضًا لم يعهد فيه مثله، فقال في نفسه: «لأمر ما تغير في البطريرك؟» وازدادت رغبتُهُ في مُلاقاته، فأقيمت الصلاة بالقبطية على جاري العادة وليس في الجمع غريب غير زكريا فلفت وجوده انتباههم، وأصبحوا ينتظرون الفراغ من القداس لسماع حديثه. أما هو فحالَما انقضت الصلاة وخرج البطريرك والرهبان ذهب إلى الراهب الذي استقبله بالأمس، وطلب إليه أن يقدمه إلى البطريرك، فاستمهله إلى ما بعد الفطور ودعاه إلى الطعام في غرفة مستطيلة في وسطها مائدةٌ طويلةٌ من الحجر، إلى جانبها مقاعد يجلس عليها الرهبان في صفين فأجلسوه معهم وجيء بالطعام، وهو غاية في البساطة لا لحم فيه ولا فاكهة، فأخذوا يأكلون بعد صلاة مختصرة إلا راهبًا منهم تولى قراءة فصول من الكتاب المقدس في أثناء الطعام. وكان زكريا يأكل وذهنه مشتغل بما سيدور بينه وبين البطريرك من الشئون التي جاء من أجلها أو اتفقت له في طريقه وتثبت من ضياع المئونة المحمولة إلى الدير مع الذين حملوها إذ لم ير واحدًا رجع منهم حتى تلك الساعة. وكان الرعيان يتحادثون ويشركون زكريا في حديثهم وهم يحسبونه راهبًا مثلهم. فلما فرغوا من الطعام نهض الراهب الشيخ ومضى بزكريا إلى غرفة رئيس الدير، فقدمه إليه فأسرع زكريا إلى تقبيل يده، فرحب به وسأله عن حاله وغرضه فقال: «جئت لمقابلة أبينا البطريرك.» قال: «لعلك من رهبان النوبة؟» فوجم هنيهة ولم يجب فرارًا من الكذب، ثم قال: «كلا يا سيدي وإنما لبست هذا الثوب لسبب سأعرضه على أبينا البطريرك.» قال: «حسنًا، ولكن صاحب الغبطة مشغولٌ الآن، وقد لا يرضى بأن يرى أحدًا.» فأطرق زكريا وهو لا يستطيع صبرًا، ثم قال: «أَوَدُّ مقابلته الساعة، وأرجو منك أن تستأذنه لعله يسمح بمقابلتي؛ فإني قادمٌ لأمر ذي بال.» قال: «أحسبك قادمًا من بلاد النوبة.» قال: «كلا.» ففهم الرئيس أنه يكتم شيئًا لا يريد التصريح به فاستمهله ريثما يبعث إلى البطريرك. فمكث زكريا حتى عاد الرسول وقال: «إن غبطة البطريرك ليس في غرفته.» فقال الرئيس: «كيف ذلك؟ ألم يتناول الفطور؟» قال: «لم يأكل اليوم.» فهز الرئيس رأسه أسفًا وقال: «لم أر غبطته في قلق مثل هذا القلق منذ عرفته، سامح الله من سببه له.» قال ذلك وندم على ما قال. ثم ابتدر الرسول قائلًا: «ابحث عن غبطته في القصر لعله هناك؛ فقد رأيته يُكثر التردد على كنيسة مار ميخائيل هذين اليومين.» فذهب الراهب الرسول وعاد يقول: «نعم إنه في القصر، وقد سألت الشماس كاتم أسراره، فأخبرني أنه في شاغلٍ عن مقابلة الناس.» فرأى زكريا أنْ يتولى أمره بيده، فوقف وقال للرئيس: «أنا ذاهبٌ بنفسي أطلبُ المقابلة، فدع الشماس يهدني إلى الطريق.» فأشار الرئيس إلى الراهب أن يمشي مع زكريا، ففعل، وخرجا من الدار، وأَطَلَّا على القصر الذي ذكرناه وهو أشبه بالأبراج منه بالقصور، وكان السلم منصوبًا عليه فصعد الراهب وزكريا في أثره حتى وصلا إلى الطبقة العُليا، فاستقبلهما الشماس وتصدى لهما ولسان حاله يقول: «ألم أقل إن غبطته مشغول؟» فلما رآه زكريا عرفه وتذكر أنه التقى به مرارًا في الفسطاط من قبل فتقدم إليه وحياه فلما سمع صوته عرفه فقال: «زكريا؟» قال: «نعم يا سيدي.» قال: «ما الذي جاء بك إلى هنا؟» قال: «جئتُ لألثم أناملَ البطريرك.» فتَنَهَّدَ وقال: «إنه يصلي في معبد مار ميخائيل، لا يدخل عليه أحد.» قال: «ولا أنا؟ فقد قطعت السهل والجبل، وتحملت المشقة من طاء النمل إلى هنا ألا يؤذن لي في مشاهدته؟» لَمَّا سمع ذكر طاء النمل تذكر اجتماعه بصاحبها مرقس هناك، فقال: «وأين المعلم مرقس؟» قال: «في الفسطاط استأذن لي البطريرك في الدخول.» قال: «ماذا أقول له؟» قال: «قل له ولدك زكريا خادم دميانة يطلب لثم يديك.» قال: «وهل يكفي هذا لتعريفك.» قال: «يكفي.» فدخل الشماس وعاد مشرق الوجه وقال: «ادخل.» ومشى بين يديه حتى أقبل على معبد مار ميخائيل وأشار إليه أن يتقدم وقفل هو راجعًا. أطل زكريا على الكنيسة الصغيرة وهي غرفةٌ واحدةٌ قسمت إلى هيكل. وخورس بحاجز من خشب لا يبلغ السقف، قائم على خمسة أعمدة، عليها بعض النقوش والصور، وكان يتوقع أن يرى البطريرك واقفًا أمام المذبح للصلاة في وسط الهيكل فلم ير غير قلنسوته هناك، فوقف لعله يراه قادمًا أو يسمع صوته يناديه فإذا به أطل من وراء الحاجز، فأجفل زكريا عند رؤيته؛ لِما في وجهه من التغيُّر، وهو حاسر الرأس وقد تدلى شعرُهُ على قفاه وخديه وتجمدت لحيته واحمرتْ عيناه كأنه آتٍ من وراء موقد تَكَاثَفَ دخانه. ولما وقع بصرُهُ على زكريا دار من وراء الحاجز حتى خرج إليه وهو يقول: «من أين أنت آتٍ؟» فتهيب عند سماع صوت البطريرك مع ما شاهده في وجهه من آثار الانفعال، وأكب على يده ليقبلها، فمنعه فوقف مطرقًا وقد أحنى رأسه وقال: «إني آتٍ من الفسطاط يا سيدي.» قال: «كيف فارقت أسقفها؟» وتشاغل بإصلاح شعره وفي إلقائه السؤال ما يُشعر بأنه يضمر شيئًا. فأدرك أنه يشير إلى كتاب كان قد كتبه إليه يستنجده على الأسقف فأنجده ولم تنفع نجدته، فخاف زكريا أن يكون قد ساءه ذلك، فقال: «فارقته في خير.» فأمسك البطريرك بيد زكريا ودعاه إلى الجُلُوس بين يديه، وجلس على كرسي، فتباطأ زكريا في الجُلُوس إجلالًا لمقام البطريرك، فأَلَحَّ عليه، فقعد على الأرض مطرقًا متأدبًا، فقال البطريرك: «فارقت أسقف الفسطاط في خير وكيف فارقت تلك الفتاة المظلومة؟» قال: «إنما جئت في شأنها يا سيدي.» وتنهد وقال: «إن هذه المسكينة قد توالتْ عليها النوائبُ والمحن. وإذا سألتني عنها قصصت حديثها عليك. غير أنى ألتمس من مولاي البطريرك قبل ذلك أن يأذنَ في سؤال أرجو ألا يضن بالجواب عليه.» فتنهد البطريرك تنهدًا ختَمه بزفير طويل، ثم قال: «ستسألني عن أُمُور استغربتها فِيَّ، ستسألني عن حالي أليس كذلك؟» قال: «بلى يا سيدي كنت قادمًا إليك في مهمة أستنجدك فيها. فشغلت عنها بما أراه فيك من الانقباض والقلق، وعهدي أننا في زمن صاحب مصر الحالي ابن طولون في أمانٍ وسكينة، فهل طرأ تغيير لا أعلمه؟» قال: «طرأتْ أشياء كثيرة، أساء ابن طولون بها إلينا وبالغ في اضطهادنا بما لم يسبق إلى مثله سلفاؤُهُ الذين كُنا نسمع بظلمهم ونشكو جورهم، ولكنه لم يفعل ذلك مِن تلقاء نفسه، إن الشر جاء من عندنا، جاء من أبنائنا، هم الذين ساقوا هذا البلاء علينا.» قال ذلك ولحيتُهُ ترقص غضبًا وحنقًا. فتَهَيَّبَ زكريا ولم يجسر على الاستيضاح، فاستأنف البطريرك الكلام قائلًا كأنه يريد تغيير الموضوع: «كيف أتيت إلى هذا المكان؟ هل أتيت وحدك؟» قال: «نعم يا سيدي.» وتذكر ما جرى له وما أصاب الراهبين وأحمالهما، فتحقق أن لحادثتهما علاقةٌ بما يشير البطريرك إليه، فقال: «اصطحبت ركبًا كانوا قادمين بأحمال المئونة إلى الدير.» فقطع البطريرك كلامه قائلًا: «وماذا جرى لهم؟ أين هم؟» فقَصَّ عليه حديثَهم، ولما ذكر كلام الهجان عن تغير ابن طولون على الأقباط قطع البطريرك كلامه قائلًا: «ويلاه، آه، يا ربي ومخلصي، لماذا غيرت قلوب حكامنا علينا؟» فازداد زكريا رغبة في معرفة الحقيقة، فقال: «وما الذي جرى يا سيدي، لقد بلبلت بالي.» قال: «ماذا أقول لك وقد بعث إلي ابن طولون بالأمس يطلب مالًا، ذكر أنه في حاجة إليه ليرسله إلى الخليفة في بغداد.» ومد البطريرك يده إلى جيبه وأخرج درجًا فتحه وقال: «هل تقرأ القبطية؟» قال: «نعم يا سيدي أقرأها.» فدفع الدرج إليه وقال: «اقرأ.» فتناوله زكريا، وقرأ فيه ما ترجمته: «إنك تعلم أَنَّ علينا تأدية أموال الجزية إلى خزانة الخليفة ببغداد صاحب هذه الديار، وقد اشتدت حاجتُهُ الآن إلى المال ليقوم بنفقات الحرب التي هو فيها، فمن كان في مركزك أيها البطريرك لا يحتاج إلى أكثرَ من نفقات الطعام واللباس. وقد علمت أنك ذو ثروة طائلة موفورة، من نقود وآنية وأنواع الأقمشة الحريرية، فكتبت هذا إليك لتبعث إلينا بما نرسله إلى الخليفة فتحظى مني ومنه بسنة جزيلة.» فلما فرغ زكريا من القراءة دفع الدرج إلى البطريرك وقال له: «مِن أين تأتي بهذه المطالب؟» قال: «لا أدري وقد كتبت إليه أشكو عذري وفقر الأديرة، فلم يصغ، وفي عزمي أن أوسط كاتب المارداني في ذلك.» فلما سمع زكريا اسم كاتب المارداني تذكر إسطفانوس، فأطرق وتغيرت سحنته، فقال له البطريرك: «ما بالك يا بني؟ ما الذي غَيَّرَك؟» قال: «تذكرت أمرًا جرى لنا في الفسطاط، فقرنتُهُ إلى الحديث الذي سمعته منك، فَلَاحَ لي أن سبب التعدي ليس من ابن طولون.» قال: «ألم أقل لك ذلك؟ إنه من أبنائنا.» وتَنَهَّدَ وقال: «لقد أطلت الكلام وأطلقت لنفسي العنان معك ولم أخاطبْ أحدًا سواك في هذا الأمر، لا أدري كيف وجدت راحة في الحديث معك هل تعرف سبب هذا الغضب؟» فتململ زكريا وبالغ في التأدُّب، وقال: «لا أجهل ضعتي وتنازل غبطة البطريرك في محادثتي؛ فإن مثلي لا يحلم بهذا الإكرام.» فقطع البطريرك كلامه قائلًا: «كَلَّا ليس هذا مرادي، وليس في النصرانية تفاضلٌ بين أبنائها وما البطريرك إلا والد والرعايا أولاده، لا فرق بين خادمهم ومخدومهم، وإني أستلذ الحديث معك وأرتاح لمباسطتك، وأحب أن أطلع على ما عندك، هل تعرف سبب هذا الغضب؟» قال: «إذا سمحت لي قلت ما يخطر ببالي.» قال: «قل.» قال: «أَتَذْكُر يا سيدي يوم كتبت إليك أستنجدك على أسقف الفسطاط؟» قال: «نعم أذكر وقد كتبت إليه أوصيه بالفتاة خيرًا.» قال: «أظن كتابك ساءه، ولا يبعد أن يكون حمله على الوشاية.» فقال البطريرك: «ربما ساقه ذلك إلى النكاية بي، ولكنني أعرف سببًا آخر كان له تأثيرٌ أعظمُ، ومنه يتبين لك أننا — نحن معشر المسيحيين — نحمل حكامنا المسلمين على ظلمنا، وما ذلك إلا من فسادِ نياتنا وكثرة خطايانا.» فتطاول زكريا لسماع ما سيقوله البطريرك. فقال هذا: «السبب الآخر الذي أعرفه أني دعيت مع رهط من الأساقفة لتكريس كنيسة جديدة في جهة دنشور من أبرشية سخا. فتأخر أسقف هذه الأبرشية عن الحضور. فبدأت بالصلاة قبل حضوره فلما جاء غضب وهجم علي وأنا أقدم القربان المقدس وخطفه من يدي وألقاه على الأرض وخرج فقعدت مجمعًا حكم بفصله فأضمر لي السوء ودس لي عند ابن طولون زاعمًا أن عندي أموالًا كثيرة. فبعث ابن طولون إلي بهذا الكتاب. إن الله لا ينصر الظالمين والسيد المسيح لا يتخلى عن رعيته.» ووقف البطريرك فجأة، فوقف زكريا وتحفز للخروج، فوضع البطريرك يده على كتفه وقال: «تعال معي.» ومشى به نحو الحاجز الذي كان البطريرك وراءه، فأدخله الهيكل، ولم يقع بصر زكريا على ما هناك حتى أجفل وتراجع والتفت إلى البطريرك مأخوذًا وعيناه شاخصتان من الرعب، فقال له البطريرك: «لا تخف يا بني، إن هذه الجثث التي تراها أمامك هي جثثُ آبائنا الأبرار، أسلافنا البطاركة الذين تقدموني في الإشراف على هذه الأديار، وقد حفظت محنطة هنا. ولما اشتد بي القلق في الليل الغابر بكرت في هذا الصباح، ففتحت هذه التوابيت وجعلت أتفرس في وجوههم؛ لأقترب بتصوراتي من العالم الثاني وأعملت الفكرة عسى أن يفتح علي برأي ينقذني وينقذ أولادي الأقباط من هذه الورطة، وشعرت وأنا منفردٌ بهذه الرمم كأني في مجلس شورى مجرد عن العالم، وكم تمنيت لو نطقت الجثث ولكني استرشدت بأرواحها.» وكان زكريا واقفًا مأخوذًا يرتجف من رهبة ما رأى؛ فإنه يعلم أنهم يحفظون جثث البطاركة هناك على هذه الصورة، وتَفَرَّسَ، فرآها لا تزال محفوظة كما تحفظ محنطات الفراعنة، ثم رأى البطريرك قد تنازل قلنسوته، وكان قد وضعها على المذبح، فلبسها وأشرق وجهه وذهب انقباضه. فلما رآه زكريا منبسط الأسارير سري عنه. أما البطريرك فتحول للخروج من المعبد، وقال: «لقد آن لك أن تقص علينا خبرك يا زكريا.» فاستبشر وقال: «هل أقول الآن؟» قال: «قل، ولكنني لم أسألْك عن هذا الثوب الذي تلبسه، ومتى دخلت الرهبنة؟» قال ذلك ومشى فتبعه زكريا متأخرًا متأدبًا وقال: «لم أترهب يا سيدي، ولكنني تنكرت بهذا اللباس أثناء الطريق، وقد أخذ اللصوص كل ثيابي فلم أستطع تبديله.» قال: «أتعلم أن هذا التنكُّر بعث على زيادة النقمة عليك.» فانتبه زكريا لِما سمعه من الهجان فقال: «علمت ذلك من كلمةٍ قالها أحدُ اللصوص ولكنني لم أفهم السبب.» فقال: «أتحب أن تعرف السبب؟» وصفق فجاء شماسه مهرولًا فقال له: «انزل بنا إلى الطبقة السفلى لنرى الكتاب الذي جاءنا بالأمس من ملك النوبة.» فمشى الشماسُ أمامهما ونزل بهما في سلم سري داخل القصر حتى بلغ إلى حجرة رَأَيَا فيها كُتُبًا متراكمة وفي جملتها صندوق فيه أدراجٌ كثيرةٌ تناول الشماس كتابًا منها دفعه إلى البطريرك، ففتحه وقال: «هذا كتاب ملك النوبة أرسله إلينا يدعو فيه إلى خَلْع طاعة المسلمين والاتحاد معهم عليهم باسم دولة الروم. وقد علمت مِن فحواه أنه أرسل كتابًا قبله لم يصل إلينا. ولعله قد وقع في أيدي المسلمين واطلعوا عليه. وقد فهمت من رسول ابن طولون أنهم عارفون بهذه المراسلات، فظنوني موافقًا هذا الملك على غرضه وأنا بريء من هذا؛ لأني لا أرى خيرًا يُرجى منه. فلما رأوك بهذا اللباس وأنت نوبيٌّ ظَنُّوك رسولًا إليَّ من ملك النوبة.» فتنبه زكريا لهذا السبب وقال: «صدقت يا سيدي إن محاولتنا التخلص من سلطة المسلمين لا فائدة منها، ولا سيما بعد أن تولى ابن طولون فإنه …» فقطع البطريرك كلامَه قائلًا: «إنه لا بأس به، ورغم ما ذكرته لك مِنْ أمره معي؛ فإني لا أحمله تبعةَ عمله، وإنما التبعةُ علينا نحن، فإننا نحرض حكامنا على ظلمنا بسوء عملنا وفساد نياتنا.» قال ذلك وهو يكاد يغص بريقه. وكأنه أكبر أن يظهر هذا الضعف فعمد إلى تغيير الحديث فقال لزكريا: «لقد شغلناك عما جئتنا من أجله، وامتد بنا الحديث فقل. ماذا تريد منا؟» وكانا قد خرجا من القصر واقتربا من غرفة البطريرك، فدخل البطريرك وجلس وأشار إلى زكريا أن يجلس ويقول ما يريده، فجلس وأخذ يقص حديث دميانة وما قاستْه من معاملة أبيها وخطيبها حتى يوم فرارها إلى حلوان، وكيف سطا البجة على هذا البلد ونهبوه وسَبَوْا أهله وهي معهم وأنه جاء ليوسطه لدى ملك النوبة لإنقاذها. وكان البطريرك يسمع الحديث وهو مطرق يهز رأسه حينًا بعد حين استنكافًا من تصرف مرقس وإسطفانوس، فلما سمع خبر أسر دميانة قال: «دميانة أسرت؟ إنها لا تستحق ذلك؛ لأنها تقيةٌ ورعةٌ كأن فيها بركة من تسميتها القديسة دميانة — عليها السلام — ولكن الله يجرب خائفيه. وقد سمعتك تطلب وساطتي لدى ملك النوبة؟» قال: «نعم يا سيدي إن حسن في عينيك هذا.» قال: «هذا فرض علي لعدة أسباب: أولها أني إنما قبلت هذا المنصب حتى أقوم على خدمة شعبي وأبذل ما في وسعي لراحتهم وسعادتهم، وكذلك لأني أحن إلى هذه الفتاة وأُحبها لتقواها وورعها. فضلًا عن أني أُحب أن أُجيب ملك النوبة على كتابه، ولا أثق بمن يوصل كتابي إليه وربما أنك ولدنا وتعرف البلاد، فسأكتب له أُجيبه على ما دعاني إليه من القيام على الدولة، فأقبح رأيه وأدعوه إلى الطاعة، وأذيل الكتاب بالتوصية اللازمة حتى يساعدك فيما تريده.» فطأطأ زكريا رأسه إذعانًا وارتياحًا وسكت، فصفق البطريرك، فجاء الشماس قال له: «اكتب إلى ملك النوبة كتابًا فحواه كذا وكذا (وذكر الفحوى) وذَيَّلَه بالوصاية بولدنا زكريا ليساعده في إنقاذ بنتنا التقية دميانة.» فأشار مطيعًا وخرج، ثم عاد وبيده صحيفةٌ من القباطي وقد كتب عليها بالقبطية شرحًا طويلًا، فتناولها البطريرك وقرأها ووَقَّعَ عليها وأعادها إلى الشماس، فطواها ولفها بمنديل وختم المنديل ودفعه إلى زكريا، فتناوله هذا وقبله وأَكَبَّ على يد البطريرك فقال له: «يظهر لي أنك تستعجل الذهاب؟» قال: «ألا ترى يا مولاي أن أعجل بالوصول إلى بلاد النوبة لإنقاذ دميانة؟ فإني لا أعلم حالها.» قال: «صدقت، وليكن الله معك والسيد المسيح ينصرك ويأخذ بيدك.» وباركه ثم التفت إلى الشماس وقال له: «قل للرئيس أن يزود ولدنا زكريا بما يحتاج إليه في طريقه.» والتفت إلى زكريا وقال: «ما هو طريقك؟» قال: «أرى أن أسير في الطريق الذي أتيت منه في الصحراء إلى النيل، ثم أُلازم ضفة النيل الغربية إلى الجيزة، ومنها في طريق الصحراء مع بعض القوافل إلى دنقلة.» قال: «رافقتْك السلامة ببركة سيدتنا البتول وسائر القديسين.» أكب زكريا على يد البطريرك فقبلها ثانية وودعه وخرج. وأعمد الشماس له عدة السفر وكانت الشمس قد مالت عن خط الهاجرة فقال له وهو يودعه: «ليس عندنا ركائب نعطيك منها، ولكنك عندما تخرج من الدير تجد قوافل مارة من وادي النطرون إلى النيل، فرافق واحدة منها.» فشكر له نصيحته وظل واقفًا وعلى كتفه كيس فيه الزاد للطريق، فاستغرب الشماس وقوفه وقال له: «لعلك تحتاج إلى شيء آخر؟» قال: «كلا، ولكنني تذكرت ما أصابني في مجيئي، فينبغي لي أن أحتاط في رجوعي وأبدل بثوب الرهبنة الذي أرتديه ثوبًا آخرَ حتى لا يعرفني أحدٌ ممن اعتدَوا على القافلة التي أقبلتُ فيها.» فقال الشماس: «لقد أصبت، فتمهل ريثما أعود إليك.» ومضى ثم عاد ومعه صرة فتحها فإذا فيها قفطان وعباءة وقلنسوة وعمامة أعطاه إياها وقال: «هذه أثوابُ بعض الجنود وقعت لنا صدفة وعسى أن تنفعك.» ففرح بها زكريا ولبسها وطلب مرآة يرى فيها وجهه فأعطاه فنظر فيها فإذا هو قد تغيرت قيافته وإن بقي وجهه ينم عليه — عند التفرس — على أنه قنع لما كان وودع الشماس فرافقه هذا إلى باب الدير وفتحه له فخرج ومضى في سبيله. ولما رأى نفسه في الصحراء أكبر أمره وتخيل وحدته بها في الظلام لا يدري أين يبيت ولا أين يلتجئ، فوقف حائرًا وكاد يُقلع عن السفر وحده، ثم تذكر نصيحة الشماس فاتجه في طريق وادي النطرون وهو على مقربة منه. وقبل أن يُشرف عليه سمع أنينًا فوقف وتلفت ثم مشى إلى جهة الصوت فلما اقترب منه رأى رجلًا ملقًى على الأرض ويداه ورجلاه مشدودة بحبال وهو يستغيث وما كاد يرى زكريا حتى قال له بالقبطية: «انجدني أيها الجندي بحُرمة الذي تعبده.» فعلم زكريا أنه ظنه جنديًّا لَمَّا رأى لباس الجُند عليه، فأسرع إليه فإذا هو شابٌّ قمحيُّ اللون، عليه ثياب التجار فأخذ في حَلِّ الحبال فلما أفلت الرجل هم بيدي زكريا يقبلهما وهو يقول: «جزاك الله خيرًا يا سيدي.» فقال زكريا: «من أنت وما خطبك؟» قال: «أنا تاجرٌ أحمل الملح والنطرون من هذا الوادي ولي قافلةٌ تعودت أن أسيرها بأمان، فجئت هذه المرة مع القافلة وحملنا الأحمال وخرجنا من الوادي في الصباح وإذا بجماعة سَطَوْا علينا، فساقوا القافلة برمتها وتركوني مقيدًا كما ترى.» وكان يتكلم وهو يكاد يبكي من الحُزن والجزع. فَرَقَّ زكريا لحاله وازداد خوفًا على نفسه من الخطر، فقال: «لا بأس عليك يا صاحبي والحمد لله إذا سلمت. والآن ماذا تريد أن تفعل؟» قال: «لا أُريد شيئًا؛ فإن أموالي وأحمالي ضاعتْ وأظن اللصوص سيقتلون رجالي ولا آسفُ على شيء ما دمت حيًّا. وإني أشكر الله على أن لقيت جنديًّا نبيلًا مثلك. فهل تتمم جميلك وتعدني أن ترفع أمري إلى صاحب مصر؟» فاعتقد زكريا أن تَنَكُّرَه غَرَّ الرجل، فوعده أن يبلغ أمره إلى أمير مصر متى وصل إلى الفسطاط ثم أحب أن يستعينه على أمر الرجوع فقال: «وكيف السبيلُ إلى الرجوع الآن؛ فقد كان معي جمل ضل مني وأصبحت راجلًا — كما ترى.» فأطرق الرجل هنيهة ثم قال: «أظنني أقدر أن أدُلك على جمل في مكان قريب وراء هذه الأكمة كنت قد ربطته هناك قبل هجوم اللصوص ولعلهم لم يعرفوا مكانه، فتركبه إذا وجدناه.» ففرح زكريا وقال: «امكثْ هنا، وأنا أذهب للتفتيش عن الجمل.» قال ذلك وأسرع وقلبُهُ يخفق فرحًا بهذه الصدفة. فلما دنا من الأكمة سمع جعجعة الجمل فضحك فرحًا، ووثب حتى قبض على زمامه وحَلَّ عقاله وساقه إلى الرجل، فوجده في انتظاره، فقال له: «إن الله أرسلك لإنقاذي من العذاب في هذه الصحراء.» فقاطعه الرجل وقال: «بل أنت الذي أرسلك الله لإنقاذي؛ إذ لولاك لَمُتُّ في قيودي، فأنا مدين لك بحياتي ولا أقدر أن أُكافئك إلا بأن تركب الجمل وأنا أقوده.» فقال زكريا: «حاش لله أن أقبل ذلك. بل أردفك والجمل يحمل ثلاثة أو أربعة كما تعلم.» قال: «كما تشاء.» وأخذا في معالجة الجمل حتى يتسع لهما، وغلق زكريا كيس زاده عليه. وركبا وسارا على حذر إلى المساء، فباتا ليلتهما وزكريا لا يرى من الرجل إلا الأُنس والمجاملة، فشكر الله على أن هَيَّأَ له معرفته وشعر بتأنيب ضميره لكتمانه أمره عنه وَهَمَّ بأنْ يبوح له بحقيقةِ أمره لكنه توقف خجلًا من الاعتراف بالكذب وأجل ذلك حتى آخر الطريق وكانا يخافان أن يدهمها اللصوصُ، ولكنهما لم يلتقيا بأحد. ويعد يومين وصلا إلى ضفة النيل، فقال التاجر: «هل لك أن تسافر إلى الفسطاط على النيل.» قال: «ما لنا وركوب الماء؟ دعنا نواصل السير على هذا الجمل؛ فقد استحسنتُ خطواته.» قال: «كما تشاء، وما دام جملي قد وقع عندك موقع الاستحسان فهو لك عندما نصل إلى الفسطاط.» فَسُرَّ زكريا لهذه الهدية؛ لشدة احتياجه إليها، وتوهم أن الرجل يُبالغ في إكرامه طمعًا في مساعدته عند ابن طولون، وكان يتألم من ذلك، فقد كان طيب السريرة حَيَّ الضمير يأنف أن يرى الناس فيه ما ليس على حقيقته. وما زالا راكبين يسير بهما الجمل على ضفة النيل الغربية يقتربان من النيل ساعة ويبتعدان أُخرى وزكريا يزداد استئناسًا بالرجل وامتنانًا له حتى أَطَلَّا على الأهرام فلم يبق لزكريا عذرٌ في السكوت وقد بلغ الجمل محاذاة الهرم الكبير ولم يبق إلا أن يَتَحَوَّلَا نحو الجيزة ويعبرا الجسر إلى جزيرة الروضة ومنها بجسر آخرَ إلى الفسطاط. وصلا إلى الهرم عند الأصيل والرجل يحث الجمل حتى يدرك الفسطاط قبل الظلام فقال زكريا: «ما أفخم هذه الأهرام، وما أجمل الجلوس عندها والإشراف على البساتين تتخللها المياه.» ففهم رفيقه أنه يريد النزول فقال: «ننزل هنا.» وأناخ الجمل وزكريا يُعمل فكرَه ويكد قريحته؛ ليستنبط حيلة يستبقي بها الجمل معه هناك وفيما هو في ذلك قال رفيقه: «حقًّا إن المبيت هنا جميل فإذا وافقتني قضينا هذا المساء هنا وفي الصباح نمضي إلى الفسطاط.» فاستحسن رأيه وقال: «لا أُخفي عليك أني لا أستطيع الذهاب معك إلى الفسطاط فإن علي أن أقضي أمرًا فيما وراء الجيزة.» فابتدره قائلًا: «حدثتْني نفسي بأنك تريد شيئًا وتكتمه عني، فنحن أخوان، لا ينبغي أن تكتمني أمرًا تطلبه وقد قلت لك إن حياتي منة منك، وأنا إنما أرغبك في الذهاب معي إلى الفسطاط لأكافئك على صنيعتك؛ فالمال متوافرٌ عندي فإذا كنت تُؤْثر البقاء هنا فامكث وأْذن لي أن أغيب عنك ساعة ثم أعود إليك بهذا الجمل وأزودك بما يدل على اعترافي بجميلك.» فازداد زكريا فرحًا بالرجل وبصداقته ولم يعد يعرف كيف يشكرُهُ فقال: «لا فضل لي في شيء فعلته والفضل فضلك إذ أتيت بي من تلك الصحراء على جملك.» فقال الرجل: «بل هو جملُك، أستأذنك في ركوبه إلى الفسطاط وأعود به فهل أجدك هنا؟» قال: «تجدني عند قاعدة الهرم الكبير.» فودعه ومضى. ••• افتقد زكريا بعد أن بقي وحده الأسطوانة والكتاب تحت أثوابه، فلما وجدهما في موضعهما بالكيس المعلق إلى عنقه. اطمأن وأخذ يَتَمَشَّى حول الهرم حتى تجاوزه إلى تمثال أبي الهول، فوقف يتأملُهُ حينًا ثم عاد أدراجه ورأى الشمس تنحدرُ وتكاد تغيب، فاستوحش لانفراده بين تلك الرمال. ثم غربت الشمسُ وأخذ الظلام يتكاثف، فاستبطأ صاحبه وندم لأنه لم يسأله عن اسمه ومسكنه. على أن أكثر اهتمامه كان موجهًا إلى الجمل لشدة حاجته إليه بعد أن فقد ما كان يملكه من المال في بادية النطرون قبل دخوله الدير وأصبح لا يملك ما يستأجر به دابة تحمله إلى بلاد النوبة. ومل زكريا الانتظار وتعب بصرُهُ من التشوُّف عن بعد لعله يرى صاحبه قادمًا، ثم صعد بعض درجات الهرم الكبير حتى وصل إلى مدخله، فوقف ببابه وعيناه شائعتان نحو الجيزة لعله يرى شبحًا أو يؤانس نورًا ويده لا تكاد تفارق إبطه يتحسس الكيس الذي به الأسطوانة والكتاب. وسرحت أفكاره في عالم الخيال فخيل إليه أن إسطفانوس علم بأمره فأرسل من يقبض عليه فلما تصور ذلك اختلج قلبه في صدره؛ لأنه أعزل ولا طاقة له بالدفاع، وجُل همه ألا تذهب الأسطوانة منه، فمد يده وأخرج الكيس من تحت إبطه وتَفَقَّدَ ما فيه جيدًا مخافة أن يكون قد خدع باللمس، فرأى الأسطوانة والكتاب. وبينما هو يَهِمُّ بأنْ يُعيد الكيس إلى عنقه سمع خربشة، فاقشعرَّ بدنُهُ خوفًا من وحشة المكان وكثرة الأفاعي والحشرات في تلك الخرائب، فأصاخ بسمعه والكيس لا يزال في يده وقد جمد الدم في عروقه، فسمع وقع أقدام وهمسًا فانزوى في مدخل الهرم يحاول الاختباء ووجد المدخل ضيقًا وعميقًا كأنه قناةٌ مربعةٌ لا يتسع لدخوله إلا جالسًا أو ممدًّا. فتربع هناك وانتظر منصتًا وهو يحدق ببصره في جهة الصوت، فرأى بضعةَ رجال متزملين بعباءاتهم يتقدمهم رجل يخاطبهم همسًا ويقول: «تركته هنا ولا نلبث أن نجده فلعله نائم.» ولم يكد زكريا يسمع الصوت حتى عرف أنه صوت صاحبه التاجر. فخالجه الشك في ذلك الرفيق وبالغ في الانزواء فانبطح في المدخل مستقبلًا أرضه بصدره بحيث يطل رأسه إلى الخارج والمدخل مائلٌ إلى الداخل بانحدار، فخاف إذا تراخى أن ينزلق إلى جوف الهرم وهو لا يعرف قراره والناس يتحدثون بأن الجن تسكنُهُ. ولامست ساقُهُ أرض المدخل فاقشعرَّ بدنه من برده، وخُيل إليه أنه لمس حشرة ولولا قلقه مما سمعه مِن تهامُس القادمين ما استطاع المكث هناك لحظة. كل ذلك وهو قابض على الكيس بيده. وكان القوم قد اقتربوا منه وهم يجيلون نظرهم فيما حولهم، ولم يخطر لأحد منهم أن الرجل الذي يبحثون عنه في واجهة الهرم وأنه مختف في مدخله ولا هم يعرفون له مدخلًا يختفي فيه الرجل والرجلان. فلما رآهم على مقربة منه أمسك نَفَسَه وأصاخ بسمعه فسمع أحدهم يقول: «أين هو؟ إننا لا نرى بشرًا … كأنك خدعت المعلم، وقد لا يكون هو الرجل أو أنه خدعك.» فقال: «لا ريب أنه هو بعينه وقد رأيت الأسطوانة في عنقه، سترونه وترنها.» ثم رفع بصره إلى أعلى كأنه ينظر إلى المدخل، فاستولى الخوفُ علي زكريا؛ لعلمه أنه لا يقوى على الدفاع ولا الفرار خصوصًا بعد أن تبين القومَ وتحقق أنهم مدججون بالسلاح ولم يبق عنده شك في أن رفيقه بالأمس جاسوسٌ استمهله وذهب ليشي به إلى المعلم مرقس، فبعث من يقبض عليه. وعلم أن المعلم مرقس لا يهمه من أمره إلا الحصول على الأسطوانة التي أخذها من منزله؛ لأن كل آماله فيها فأخذ يفكر فيما يصنعه بها. وإذا ببعضهم يتسلق الأحجار كأنه يَهِمُّ بالصعود إلى باب الهرم، فازداد قلقُ زكريا وضاق نفسه حتى كاد يُغمى عليه وعلم أنه غيرُ ناجٍ من ذلك الشَّرَك فأخذ على نفسه إذا ظفروا به أن لا يظفروا بالأسطوانة؛ وذلك لعلمه بأن مرقس إن ظفر بها معه فسيقتلُهُ لا محالة، وأما إذا قبض عليه ولم يجدها معه فإنه يستبقيه ليساعده في البحث عنها. فتلمس الحائط بجانبه فوجد حفرة متسعة بين الأحجار فأدخل الكيس فيها وغَطَّاها بحجر، فلم تعد تظهر لأحد. ثم تجمع حتى جلس القرفصاء بباب الهرم كأنه يتحفز للوثوب. وكان الرجل الصاعد قد تسلق درجتين أو ثلاثًا، ثم وقف على حجر مرتفع ونظر إلى ما حوله ثم خاطب دليلهم قائلًا: «إن اليهود لم يصدقوا عمرهم حتى يصدقوا اليوم. ها أنا ذا عند الهرم، فأين الرجل المطلوب؟ ووالله إن لم نجده لتذوقنَّ العذاب.» فعلم زكريا أن صاحبه يهودي احتال عليه. فارتعد فرقًا وأمسك أنفاسه مخافة أن يدهمه عطاس أو سعال فينكشف أمره وإذا بالقوم قد تَحَوَّلُوا من هناك وهم يقولون: «إنه ليس هنا، فلنبحث عنه في مكان آخر.» ومَشَوْا نحو الهرم الثاني فما صدق زكريا أن رآهم انصرفوا حتى خرج من المدخل وتَنَفَّسَ الصعداء وهبط متلصصًا حتى صار على الأرض أمام الهرم الكبير فتربص حينًا وهو قاعد حتى ظن القوم بعدوا فنهض ومشى يطلب الفرار مُيمِّمًا وجهه شطر البساتين ليختبئ فيها. وفي الصباح يعود لأخذ الكيس. ولم يكد يمشي خطوات قليلة حتى سمع مناديًا يقول له: «قف عندك وإلا قُتلت.» فلم يجبه وظل ماشيًا كأنه يتجاهل وركبتاه ترتعدان وإذا بالرجال أسرعوا إليه وحدثته نفسه بالفرار ولكنه يعلم عجزه عن ذلك لتعبه وضعفه، فرأى أن يقف وقوف المتجلد فالتفت إلى جهة الصوت وقال: «من تعني؟» فتقدم إليه أربعة رجال علم من قيافتهم لَمَّا اقتربوا أنهم من الجند المصري ومعهم ذلك اليهودي وهو يقول: «هذا هو، أمسكوه.» فنظر زكريا إليه وقال: «تبًّا لك من خائن!» ثم التفت إلى الرجال وقال: «لا حاجة بكم إلى القبض علي؛ فإني أسير بين أيديكم وأنا أعزل.» فتقدم أحدُهُم وبيده حبلٌ وبجانبه رجلٌ آخرُ وأخذا يشدان وثاقه ويقولان: «قد أمرنا أن نأتي بك موثقًا.» فلما شَدُّوا وثاقه ساقوه بين أيديهم إلى مكانٍ آخرَ وراء الهرم كانوا قد خبئوا فيه جيادهم فأركبوه أحدها وهم حوله يخفرونه وساروا يطلبون الفسطاط. ووصلوا إلى الفسطاط في الهزيع الأخير من الليل، فأدخلوا زكريا غرفة منفردة وقاموا بحراسته إلى الصباح. أما هو فمع خوفه على حياته كان يجد تعزيةً في إنقاذ الأسطوانة من يدي مرقس، فبات بقية تلك الليلة وهو يفكر فيما مَرَّ به وكيف وقع في هذه الشراك بعد أن أوشك أن ينجو. وعلم أن المكيدة كلها من ذلك اليهودي وأدرك أنه مرسَل من قبل مرقس أو إسطفانوس ليتعقبه واستغرب كيف انطلت عليه حيلتُهُ حتى وقع في الأسر، ولكنه شكر الله على نجاة الأسطوانة. وفي الصباح سمع الباب يفتح ودخل عليه رجلٌ لم يقع بصره عليه حتى أجفل؛ لأنه المعلم مرقس. ولكنه تجلد ولم يُبْد حراكًا، فقال له مرقس: «أهذا جزاء التربية والخبز والملح؟ تفسد علي ابنتي وتفر بها حتى أضاعت مستقبلها وأصبحت شريدةً طريدة؟» فظل زكريا صامتًا مطرقًا، فحسبه مرقس ندم على عمله، فازداد جرأة عليه فقال: «بماذا أجازيك على هذا العمل إن القتل قليلٌ لجانب ذنبك.» فرفع زكريا بصره إليه وقال: «إن القتل لا يُخيفني ولا أنت تستطيعه، ومن كان مثلك لا يخشى بأْسه.» فغضب مرقس وقال: «أتخاطبني بهذه القحة وأنت خادمي؟» قال: «حاش لله أن أكون كذلك. إنما أنا خادم تلك الفتاة الطاهرة أو الملاك الأرضي. أنا خادم دميانة وعبدها إكرامًا لوالدتها المسكينة وطوعًا لصاحبة الأمر. ولولا العهد الذي قطعتُهُ بالثبات في خدمتها لتركتها فرارًا من عشرة أبيها الظالم.» فحمي غضب مرقس وقال: «أنا ظالم؟» قال: «ألا تعرف نفسك؟ هل تجهل ما صنعتَه بابنتك التي تزعم أنك نقمت علي في سبيل الدفاع عن نفعها؟ ألا تعلم من الذي أضاع حقها؟» فاستاء مرقس من هذا التعريض، وفهم مراد زكريا لكنه تجاهل توصلًا إلى مرغوبه، فقال: «أراك تهذي بكلام لا معنى له. أتعلم لماذا ساقُوك إلى هذا المكان وبعد قليل يحملونك إلى السجن المظلم وتسلم لابن طولون؟ أتعلم لماذا؟» فسكت زكريا ولم يُجب، فعاد مرقس يقول: «أنا أعلم. لقد ساقوك إلى هنا؛ لأنك سرقت منزل سيدك وأخذت منه التحف والجواهر وفررت بها. ولأنك أيضًا تساعد البطريرك ميخائيل على تواطئه مع النوبة للقيام على المسلمين.» فلما سمع زكريا قوله هَزَّ كتفيه، وظَلَّ مطرقًا لا يُظهر اهتمامًا، فاستغرب مرقس ذلك منه، وقال: «يظهر أنك لم تدرك مقدار ما يُهددك من الخطر لهذه التهم. وأنا — مع عظم إساءتك لي — لا أزال أَميل إلى الرفق بك إكرامًا للخبز والملح. وعلى هذا أوصيت الجند بأن يأتوا بك إلى هنا قبل حملك إلى ابن طولون لعلي أستطيع إنقاذك. واعلمْ أن نجاتك في يدي، إذا شئت سلمتك إلى الشرطة. وأنا مَيَّالٌ إلى إطلاق سراحك إذا ندمت على ما فرط منك وسلمت إلي ما أخذته من منزلي. ليس كل ما أخذته. فأنا أكتفي منك بالأسطوانة؛ فإن فيها أوراقًا تهمني ولا فائدة لك منها فإذا أطعتني وسمعت نصيحتي نجوت لساعتك وإلا فإني أسلمك إلى قضاء ابن طولون وأنت تعلم عاقبة ذلك.» فقال: «أنا لم أعمل عملًا أندم عليه، وأما الأسطوانة فلا علم لي بها، كما أني لم أسرق شيئًا ولا أنا ممن يطمعون في الأموال؛ إذ ليس لها قيمة عندي، فليس لي ولد أورثه وأيامي أصبحت قصيرة لا تستحق حشد الأموال، ولا مطمع لي في ملاذ الدنيا وشهواتها مثل غيري.» فقطع مرقس كلامه قائلًا: «ما لنا وللأموال؟ إني أكتفي بالأسطوانة التي فيها الأوراق. هاتها ولك الأمان.» قال: «من أين آتي بها؟ ليس عندي أسطوانات ولا أوراق.» قال: «أتُنكر وهي في جيبك؟» قال: «في جيبي. ليس معي شيء.» فصفق مرقس فدخل جندي كان واقفًا بالباب، فأومأ مرقس إلى زكريا وقال: «فتشْه؛ فإنك تجد معه أسطوانة، هاتها.» فتقدم الجنديُّ وأخذ يفتش أثواب زكريا قطعة قطعة، ومرقس يقول له: «فتش تحت أثوابه وبين ذراعيه وجنبه.» ومضى الجنديُّ يفتش زكريا وهذا باسطٌ ذراعيه ومرقس يراعي حركاتهما ويتفرس ويدقق حتى إذا تعب الجنديُّ من التفتيش ولم يجد شيئًا أشار إليه مرقس أن يخرج فخرج. وعاد هو إلى زكريا وقد امتقع لونُهُ من الغضب والفشل؛ لأنه كان على ثقةٍ من وُجُود الأسطوانة معه، فقال: «أين ذهبت بالأسطوانة يا زكريا؟» قال: «ليس عندي أسطوانات، ولا أفهم ما تقول.» فأطرق مرقس وخَطَرَ له أنه أعطى الأسطوانة إلى دميانة؛ إذ ليس ثَمَّ من يثق به سواها، فقال: «أين دميانة؟» فضحك زكريا ضحكة استخفاف وقال: «تأخرت في السؤال عن ابنتك أيها الوالد الشفيق. وأنت تسألني عنها الآن لا غيرة عليها ولكنك تظن الأسطوانة عندها. فكن على يقين أنها لا تعرف شيئًا من أمرها.» فأعاد مرقس السؤال: «أين دميانة؟» قال: «لا أعرف مقرها.» قال: «وكيف ذلك … وأنت فررت بها، ماذا جرى لها؟» فحدثتْه نفسه بأن يخبره عن مكانها. لكنه خاف أن يستعين مرقس بذلك على الفتك بها فيذهب سعيه هدرًا فقال: «لا اعرف أين هي الآن.» قال: «يظهر أنك تبحث عن حتفك بظلفك، سترى عاقبة أمرك.» قال ذلك وخرج وأغلق الباب وراءه بشده فعلم زكريا أنه صائر إلى السجن بعد قليل. ولم تمض هنيهة حتى جاء الجُند فحملوه إلى القطائع، وزَجُّوه في غياهب السجن.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/91708090/
أحمد بن طولون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «أحمد بن طولون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. ويجمع هذا العمل بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية الهامة التي وقعت في عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة في أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، في العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان في هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التي اعتمد في ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
https://www.hindawi.org/books/91708090/11/
بين قبائل البجة
البجة جيلٌ من الناس كانوا يقيمون بالصحراء بين النيل والبحر الأحمر، تبدأ بلادهم من الشمال بقريةٍ يُقال لها «معدن الزمرد» في صحراء قوص وبينها وبين قوص نحو ثلاث مراحل. وكان لذلك المعدن شأنٌ في التاريخ القديم؛ إذ كانوا يستخرجونه من مغاورَ بعيدة مظلمة يدخل إليها بالمصابيح وبحبال يستدل بها على الرجوع خوف الضلال ويحفر عليه بالمعاول. وآخر بلاد البجة أول بلاد الحبشة، وأبعد بلادهم قريةٌ يقال لها «هجر». وهم أول أهل بادية يتبعون الكلأ للرعي حيثما يكون، ويقيمون بأخبية من الجلد. وكانت أنسابُهُم من جهة النساء؛ أي أَنَّ الرجل منهم ينتسب إلى والدته على عادة الأجناس المتوحشة. وهم قبائلُ كثيرةٌ لكل منها رئيس. وكانوا من عهد الفراعنة يهاجمون ضفاف النيل في الصعيد، فينهبوها ويعودون إلى البادية فلا تقوى الدولة على اللحاق بهم، بل كانت تجاريهم؛ لأنها تحتاج إليهم في استخراج المعادن وحراسة المناجم أو ليكفوا أذاهم عنها. وكذلك الروم لما ملكوا مصر. ولما فتح المسلمون مصر لم يحاربوهم حتى كانت أيام «ابن الحبحاب» في أوائل القرن الثاني للهجرة، فهادنهم على مال يؤدونه إلى بيت المال، وتوالت المراسلات والمكاتبات والغزوات بينه وبينهم ولَمَّا اختل شأن مصر في أوائل الدولة العباسية تمادى البجة في تعديهم حتى صاروا يسطون على ضواحي الفسطاط. فلما تولى ابن طولون صار يتقي غزواتهم بحاميةٍ يُقيمها وراء المقطم. فاتفق أثناء قيام دميانة في حلوان أن شرذمة منهم سطت عليها ونهبتها وقتلت كثيرين من أهلها ومنهم «قعدان العربي» وحملوا ابنته ودميانة سبيتين ونقلوهما على جمالهم السريعة الجري الصبورة على العطش. وكانوا يسابقون بها الخيل ويقاتلون عليها وتدور بهم كما يشتهون ويقطعون علها الفيافي والقفار ويتطاردون عليها في الحرب فيرمي الواحد منهم الحربة فإن وقعت في الرمية طار إليها الجمل فأخذها صاحبها وإن وقعت على الأرض ضرب الجمل بجرانه الأرض فأخذها صاحبها. فلما رأت دميانة نفسها على ظهر الجمل وقد أدير رأسها نحو البادية انتبهت لهول المصاب، وأخذت تبكي وتستغيث وتتضرع إلى الله أن ينقذها من شر هؤلاء القوم؛ فقد دهشت لخشونتهم إذ رأت وجوهًا صفرًا وأجسامًا رقاقًا وبطونًا خماصًا وأكثرهم عراة الصدور يدهنون جلودهم بالشحم وشعورهم متلبدة متكاثفة بما عليها من آثاره ويحمل كل منهم رمحًا طوله سبعة أذرع: عُودُهُ أربعة وحديدُهُ ثلاثة، كما يحمل درقًا من جلود البقر المشعرة أو جلود الجواميس المقلوبة، وبعضهم يحملون قسيًّا عربية غلاظًا من السدر والشواحط وإذا عدا أحدهم تحسبه من الجن لدقة ساقيه وسرعة جَرْيِهِ. فكان خوفها عظيمًا، ولم تعلم بأمر رفيقتها إذ كانت على جمل آخر. ولم يمسها أحد بسوء وإنما حملوها في جملة السبي وتبطنوا الصحراء وهم يتراطنون بلغة ليست بالقبطية ولا النوبية ولا العربية فلم تفهما ما يقولون. ولما أقبل المساء حطوا الرحال ونصبوا خيمةً نزل فيها رئيسُهُم وهو يمتاز عنهم بلباسه الملوَّن المزركش وقد تقلد سيفه مغمضًا. وكان راكبًا جوادًا أَصْهَبَ. وأنزلوا السبايا في خيمة أُخرى. فلما اجتمعتْ دميانةُ بابنة قعدان واسمها علية استأنست بها وجلستا تتباكيان وكلٌّ منهما تعزي الأخرى. ولا يعزي دميانة غير الأمل في النجاة بأعجوبة من الله. ولما غربت الشمس وساد الظلام أوقدوا نارًا بين الخيام للاستضاءة، وأتى رجلٌ يتكلم القبطيةَ وتَقَدَّمَ إلى دميانة ورفيقتها وأخذ يطمئنهما، وحَبَّبَ إليهما الصحراء. ثم أتاهما بالطعام، وهو اللحمُ واللبن فعافت نفس دميانة الطعام، ولكنها اضطرت من العطش إلى شرب اللبن. ولما سمعت كلام الرجل سكن روعها؛ لأنها آنستْ منه تشجيعًا ورأت فيه أريحية، فقالت له: «إلى أين سائرون بنا؟» قال: «إننا سائرون إلى مولانا الأمير أبي حرملة كبير أمراء البجة.» قالت: «أين هو؟» قال: «على مسافة بضعة أيام من هذا المكان، لا تخافي؛ فلا يستطيع أحد منا أن يمسك بسوء ومثلك يا جميلة لا ينالها إلا الأمير.» لما سمعت قوله ذعرت واضطربت، ولكنها تجلدت والتفتت إلى علية فرأتْها مطرقة ولم تكن في مثل ذعرها؛ لأنها تعودت عيشة البادية وعرفت بعض طبائع البدو. أما الرجل فلما رآها تلتفت إلى رفيقتها ضحك فبانت أسنانه بلا قواطع مع صغر سنه فكان له منظرٌ غريبٌ، ثم قال: «أما هذه العربية فربما اختار الأمير أن تكون عنده، أو لعله يهبها إلى أحد أمرائه، أو يستخير الآلهة في شأنها.» ثم تفرس في فم دميانة وقال: «ما أجمل فاك لولا القواطع فيه؛ فإن الأسنان الأمامية تشوه منظر الفم، فليست بلازمة إلا للبهائم.» وأشار إلى فمه وقال لها: «انظري إلى أسناني، فإني من قبيلة تقلع هذه القواطع؛ لئلا تتشبه بالحمير، وليس كل البجة يفعلون ذلك أما أميرنا فإنه يحب الأسنان البيضاء ولولا هذا لَقلع أسنان نسائه.» فاستغربت دميانة حديثه واستخفت روحه، ولكنها بقيت في اضطراب وقلق وأَحَسَّ الرجل بخطواتٍ خارج الخيمة فتوقف عن الكلام وتململ وتَحَفَّزَ للخروج وإذا برجلٍ آخرَ دخل وظهر من لباسه أنه رئيسُ تلك العصابة وله عينان بَرَّاقَتان ووجه نحيف ودلائل الصحة والقوة باديةٌ فيه. ولَمَّا رأى ذلك الرجل هناك نظر إليه مؤنبًا وقال بلسانهم كلامًا لم تفهمْه دميانة ولا علية، ولكنهما أدركتا أنه يوبخه. ثم قال له قولًا وأومأ إليه أن يقوله لهما، فقال: «إن مولانا القائد يلومني؛ لأني أُحدثكما، وهذا محظورٌ علينا، وهو يطلب أن تَطْمَئِنَّا ولا تخافا.» فأومأت دميانة برأسها شاكرة وقد احمرت عيناها من أثر البكاء أثناء الطريق. فأوعز إليهما ان ترتاحا وتناما على جلد فرشوه لهما وخرج. فنامت دميانة بعد أن صلت وتضرعت إلى السيد المسيح أن يرعاها ويحرسها. وفي صباح اليوم التالي جاءهم الخادم باللحم واللبن فأكلت علية حتى شبعت أما دميانة فلم تأكل إلا قليلًا، ونظرت إلى ما حولها فرأت أنها في صحراء رملية قاحلة وأن العصابة مؤلفة من بضعة وعشرون رجلًا معهم الجمال والخيول. ولما أشرقت الشمس ركبوا يطوون البيداء. وبالغ البجة في إكرامهما والتخفيف عنهما؛ شأن أهل البادية في المحافظة على العِرض إلا ما يُحلُّونه لأنفسهم من الغنائم. ••• قضى رجال البجة يومين يضربون في الصحراء، وفي اليوم الثالث عند الظهيرة أشرفوا على مناجم الزمرد، فرأوا عمالًا من البجة ومن بعض أهل النوبة يحفرون في الأرض وهم عراة إلا ما يستر العورة. فلم تكترثْ دميانة بالقوم وبحفرياتهم. ولم يقف الركب إلا ريثما ساقوا معهم بعض الماشية مما كانوا قد أعدوه هناك طعامًا لما بقي من الطريق وما زالوا سائرين على هذه الحال حتى وصلوا إلى نجعٍ كبيرٍ عرفت دميانة وعليه أنه نجعُ الأمير وهو مؤلفٌ من خيامٍ كثيرة من الجلد في وسطها خيمةٌ واسعةٌ مزخرفةٌ، وبجانبها خيمةٌ أخرى كالقبة — من الجلد أيضًا. وبجانب النجع مسارحُ للماشية من الضأن والبقر ولحظت دميانة أن «أبقارهم» تمتاز بقرونها الطويلة مما لم تر له مثيلًا في مصر. على أن كل اهتمامها كان منصرفًا إلى ما عساه أن يكون شأنها مع الأمير الذي ذكروا أنها ستكون عنده. وأخذ الركب في النزول، وأتى بعض الخدم وأناخوا جَمَل دميانة وانزلوها عنه، فمشت وفرائصها ترتعد وقلبها يخفق خوفًا، ووقفت مطرقة لا تدري ما تعمل فإذا بالرجل الترجمان أتى وقال لها: «تعالَي معنا إلى المعبد لنتبرك بالكاهن ونستخير الآلهة على يده في قسمة الغنائم.» ثم قال بصوت ضعيف سمعته هي وحدها: «عسى أن تكوني من نصيب الأمير؛ فإنك أهل له.» فوقعت كلماته في أذنيها وقوع الصاعقة، ولكنها أطرقت وجعلت تصلي في قلبها وتطلب إلى الله أن يشجعها ويأخذ بيدها؛ لتستطيع النجاة من هذه التجارب، وأحست بعد الصلاة أنها في حرز حريز لا خوف عليها، كأن جُندًا من الملائكة يحرسها. أما بقية الركب فترجلوا وسار زعيمُهُم أمامهم إلى القبة بجانب الخيمة الكُبرى. ولَمَّا اقتربوا منها فتح بابها وأطل منه كاهنٌ بلباسٍ مزخرف على رأسه شبه تاج من الريش وعلى كتفه شملةٌ مطرزةٌ وحول وسطه حزامٌ من جلد مرصع بالزمرد والياقوت تحته قباء من القباطي الأبيض وبيده صولجان من خشب الأبنوس في أعلاه شبه فرس من الذهب وقد تصاعدت رائحة البخور. ولما أَطَلَّ الكاهنُ على الناس سجدوا جميعًا، وكانت دميانة وراءهم تُجاريهم في سيرهم إلى جهة القبة. فلما رأتهم يسجدون وقفت وأَبَتْ أن تسجد معهم، ولم ينتبه لها الكاهن. ثم دخلوا القبة وفي صدرها تمثالٌ من نحاس — لعله مأخوذ من أصنام قدماء المصريين — أقاموه على دكة من الحجر، وزينوه بالحلي فاتجه الكاهن إليه وسجد له فسجدوا جميعًا مُؤْتَمِّين به، ثم تمتم قليلًا وتمتموا ودميانة واقفةٌ تستغفر لهذه المشاهد. وبعد الفراغ من الصلاة أشار الكاهن إلى الوقوف فخرجوا جميعًا، وخرجت دميانة ورفيقتها وهما مطرقتان حياءً؛ لغرابة موقفهما من هؤلاء البدو. ثم تقدم الترجمان فاستوقفهما فوقفتا ووقف الكاهن بباب القبة ثم دخلها مستديرًا وأقفلها وراءه وأشار القائد إلى دميانة وصاحبتها أن تبقيا واقفتين. وبعد قليل سمعتا جرسًا في القبة ثم رأتا الباب وقد فتح وخرج الكاهن عاريًا، وظهر الوشي على صدره وذراعيه، وقد تغيرت سحنته وجحظت عيناه فيخيل إلى الناظر أنه مجنونٌ أو مصروع. فأجفلت دميانة عند رؤيته وغطت وجهها بكفيها وكادت تصيح من الخجل. ثم سمعته يتكلم بصوت عالٍ مختنق كأن شخصًا آخر يتكلم في جوفه، وكانوا يعتقدون أن إلهًا يتكلم في داخله، ولَمَّا أتم كلامه أجابوه بكلمتين كأنهم يؤمِّنون على أقواله. ثم عاد إلى القبة وأشار القائد إلى الترجمان بأن يقول لدميانة ما يقوله الكاهن، فوجه كلامه إليها قائلًا: «اعلمي يا جميلة أن الكاهن قد استخار الآلهة، فأشارتْ بأن تكوني من نساء أبي حرملة أميرنا الأكبر وهذا قائدنا يهنئك بهذه النعمة.» والتفت إلى علية وقال لها: «وأنت من نصيب هذا القائد الباسل.» وأشار إليه. وكانت دميانة وهم يصلون لآلهتهم تصلي لربها وتتوسل إليه أن يشجعها ويقويها، فلما سمعت ما تلاه عليها الترجمان لم يجفلها وإن كان قد وقع عليها وقعًا شديدًا؛ فإن الإيمان الصحيح يقوِّي القلوبَ. وهو أكبر تعزيةٍ لبني الإنسان في الشدائد. وبعد أن قال الترجمان ما قاله ذهب ثم عاد ومعه رجلٌ نوبيٌّ. فلما وقع نظر دميانة عليه استخفت روحه واستأنست به؛ لأنه يشبه خادمها زكريا فتقدم وأشار إليها أن تتبعه إلى خيمة الأمير. وذهب الترجمان الآخر مع علية إلى خيمة القائد. ولم يكن الأمرُ عظيمًا على عليه ولا غريبًا عنها؛ لأنها اعتادت البادية وأهلها. ••• مشت دميانة في أثر النوبي وهي تقدم رِجْلًا وتؤخر أُخرى وتستعين الله ومريم العذراء والقديسين على ما يصفون، وسمعها النوبيُّ تستغيث بالعذراء فشعر بانعطاف إليها؛ لأنه رُبِّيَ تربيةً نصرانية في بلاده، والنوبيون يومئذٍ كلهم مسيحيون. فتباطأ في مشيه حتى حاذاها وقال لها: «يظهرُ أنك نصرانيةٌ فهل أنت قبطية؟» فلما سمعت استفهامه استبشرتْ وقالت: «نعم إني قبطية ووالدي من وجهاء القبط؟» قال: «يظهر عليك ذلك، فلا تنزعجي، هل أنت متزوجةٌ هناك؟» فظهر الخجلُ في وجهها وسكتتْ ودَلَّ سكوتُها على أنها عذراء، فقال: «إذا كنت متزوجةً فلا أجد سببًا لاضطرابك، فإنك ذاهبة إلى أمير البجة، وهو أكبر أمرائهم وأشجع قوادهم، ومن حسن طالعك أن قسمت له، وسيكون لك مقامٌ رفيعٌ عنده؛ فليس في نسائه واحدةٌ على مثل ما أنت فيه من الجمال والكياسة، وهو يفهم القبطية قليلًا، فسلمي أمرك إلى الله واقنعي بهذا النصيب.» وكانا قد اقتربا من باب الخيمة، فتقدمها النوبي وأشار إلى الحاجب أن ينبئ الأمير بقدومه، فلما أذن له دخل ودميانة في أثره وقد صبغ وجهها الحياء وتولاها الخوف واصطكت ركبتاها ورأت النوبي انحنى كأنه يسجد لأيقونة. ووقع نظرها على الأمير جالسًا في صدر الفسطاط وهو خفيف العضل والشعر أسود اللون حاد العينين ذو مهابة ولباس حسن. وكان جالسًا الأربعاء على بساط من السجاد الثمين فوق مقعد سوداني (عنقريب). وارتدى بكساء من الحرير الملون وعلى رأسه عمامة تُشبه التاج وبين يديه سيفٌ قَبْضَتُهُ من الذهب وحول عنقه عقد من الحجارة الكريمة بينها قطع من الذهب على هيئة تماثيل صغيرة لبعض الآلهة، وفي أصابعه الخواتم. وسلَّم النوبي على أبي حرملة بلسان البجة، فأجابه هذا باللسان نفسه، ولم تفهم دميانة شيئًا ولا هي استطاعت أن تسجد كما فعل الترجمان، لكنها سمعت أبا حرملة ينادي النوبي: «سمعان.» وهو اسمٌ نصرانيٌّ، فاطمأنت لاعتقادها أنه نصرانيٌّ مثلها. ووجه أبو حرملة نظره إلى دميانة، وتَفَرَّسَ فيها فأطرقت، ثم سمعته يخاطب سمعان فالتفت هذا إليها يترجم كلامه فقال: «إن مولانا الأمير أعجب بما شاهده فيك من الجمال والهيبة، ويقول لك: إنه سيبذل جهده فيما يُرضيك، فلا ينبغي أن تعدي نفسك سبية أو غريبة؛ فإنه يعدك من خير نسائه.» فارتجفت اضطرابًا إذ أصبحت داخل العرين، ولا يلبث الأسد أن ينشب أظافره فيها، فاستعاذت بالله وظلت ساكنة. فأشار أبو حرملة إلى سمعان وخاطبه فاتجه هذا إلى دميانة وقال لها: «تعالي معي يا جميلة إلى الخباء؛ فقد أوصاني الأمير بأن أخصك بخيمة تقيمين بها على الرحب والسعة.» وخرج فخرجتْ معه تتعثر بأذيالها، ثم قالت له: «يظهرُ يا سمعان أنك نصرانيٌّ مثلي، فأستحلفك بالسيد المسيح أن تنقذني من هذه المصيبة.» فابتسم سمعان وخاطبها وهو ينظر إلى الأرض؛ لئلا يلحظ أحدٌ أنه يكلمها خوفًا من الأمير، وقال: «إن لم أكن نصرانيًّا كما ظننت فقد وُلدت في بلد النصارى، فسَمَّوْني باسم من أسمائهم وأنا أعرف كثيرين منهم في مصر والصعيد والنوبة. وقد رأيتك شديدةَ الخوف، وثقي بأني سأكون لك أخًا أبذل جهدي في راحتك.» فاستأنست بوعده وقالت: «إذا كنت تعدُّني أختًا لك فأرجو منك أن تساعدني على الخلاص. هذا غاية ما أرجوه منك. فإذا أنقذتني كان لك فضلٌ كبيرٌ لا يضيع أجره عندي ولا عند أهلي.» قال: «يا حبذا، ولكن الخلاص لا يُستطاع، ونحن بين رجال كالنمور يختطفون بسرعتهم الأبصار، فاصبري، ولا ريب أنك ستكونين راضيةً بعد قليل.» وكان كلام سمعان عن الخلاص، فإنه لم يكن يدرك ما في خاطر دميانة وما الذي يثقل على طبعها. فقد كان يجهلُ أنها حريصةٌ على عفافها، تأنف أن تبتذل وأنها عالقةٌ بسعيد، وكِلا الأمرَين ما يضحي لأجله بالحياة. فلما يئستْ من نصرة سمعان وتحققت من وقوعها في الفخ علمت أنها لم يبق لها ملجأٌ إلا الإيمان، وأخذت تُراجع في ذهنِها مواعيدَ الكتاب للمؤمنين في أيامِ الشدة بقوة الله، وهي ماشية ساكتة وسمعان لا يتكلم، فتجاوزا فساطيط الرجال حتى أشرفا على الأخبية وقد دنت الشمس من الغروب، وكانت الأخبية عديدةً، بينها خباء فخمٌ اتجه إليه سمعانُ، وأشار إلى دميانة أَنْ تتبعه، فتبعته حتى أطل على باب الخباء ونادى، فخرجت له عجوز طويلة القامة شديدة العضل ملامحها أقرب إلى الرجال منها إلى النساء وعليها الدمالج والأساور والعقود، وقد فاحت منها رائحةُ الطيب وأبرقت عيناها واحمرَّتا. فأثر منظرها في دميانة أكثر من تأثير منظر أبي حرملة ووقفت مبهوتةً، فابتدرها سمعانُ قائلًا: «نحن الآن عند خباء الأمير، وهذه قهرمانة بيته قامت على تربيته منذ صغره، وتعد نفسها أمه وقد عهد إليها في أمر نسائه، وكأني بك قد أخافك منظرها، فلا تخافي وأنا أوصيها بك خيرًا.» ثم التفت إلى القهرمانة وكلمها بلسان البجة كلامًا بهذا المعنى، فنظرت إلى دميانة وابتسمت ابتسامة تُطمئنُها بها ولكن دميانة لم تجد بدًّا من السكوت، وأشارت إليها القهرمانة أن تدخل، فدخلت وهي تنظر إلى سمعان والدمع ملء عينيها كأنها تستغيث به، وقد أثر منظرها فيه، لكنه كان يعتقد أنها لا تلبث أن تمكث بضعة أيام مع الأمير حتى تعتاده وتألف البقاء معه. ودخلت دميانة الخباء، ومَرَّت بعدة غرف من الجلد، رأت في كل منها امرأة أو نساء وبينهن النوبية والبجاوية والحبشية والقبطية. بين سرية وخادمة وجارية. فوقفن جميعًا احترامًا للقهرمانة حتى وصلت بها إلى غرفة ليس فيها أحد وفي بعض جوانبها بساط ووسادة من جلد محشوة بالقش، وبجانب البساط وعاء كالجراب مفتوح وفيه آنية «التواليت»: السواك والمشط وحق الطيب وقد علقت بجدار الغرفة ركوة من جلد وبجانبها قربة ماء فلما توسطت دميانة الغرفة شعرت بانقباض شديد لم تعد تملك معه نفسها، فجعلت دموعُها تنحدر على خديها ونفسها تطلب البكاء وهي تحاول أن تمسكها. وإذا بالقهرمانة تقول لها بلغة قبطية ركيكة: «اجلسي يا بنية على هذه الوسادة.» وربتت كتفها تحببًا، فلم تعد دميانة تتمالك فألقت نفسها على الوسادة وأخذت في البكاء بصوت عالٍ كالأطفال ونسيت موقفها. فاستغربت القهرمانة بكاءها بغتة، فقالت لها: «هل تحتاجين إلى شيء؟» ولما لم تجبها قالت: «هل أنت خائفة؟ لا تخافي يا بنية؛ إن الأمير يحبك كثيرًا وبعد قليل يأتي إليك. قومي أصلحي شأنك. وهذه هي الأطياب والسواك والمشط وأنا أساعدك.» قالت ذلك ومدت يدها إلى الجراب وهي تنظر إلى دميانة فإذا بها تجهش بالبكاء ولا تعيرها التفاتًا. فعادت إلى تطييب خاطرها وملاطفتها وما زالت بها تارة تُلاعبها وطورًا تمازحها وآونة تهددها أو تمنيها أو تطمئنها حتى سكن روعها، ولم يطمئن بالها ولكنها تجلدت وودت لو بقيت وحدها، فتركتها القهرمانة ومضت وقد خيم الظلام، فازدادت دميانة انقباضًا ووحشة. ثم ركعت على البساط ركعة مؤمن صادق الإيمان، وبسطت يديها إلى السماء ورفعت بصرها وأخذت تصلي كأنها تخاطب شخصًا تراه بعينيها وتثق بأنه يجيب طلبها، وجعلت تتضرع إلى الله وتستجير بالمسيح وبالعذراء وسائر القديسين؛ تطلب الخلاص من هذه التجربة التي أوشكت أن تقع فيها. وكانت تصلي بحرارة ودموعها تتساقط على خديها بصوت خافت تتخلله نبراتُ التوسل والإلحاح في الرجاء. وقد حلت شعرها وكشفت عن صدرها واستغرقت في تضرعاتها ومناجاتها حتى نسيتْ موقفها فصارت تطلب وتتضرع بصوت عالٍ تعترضه غصة أو بحة وتقرع صدرها وتعيد الطلب والدعاء كأنها تجردت عما يُحيط بها. وكانت القهرمانة قد تركتها ولم تبتعد عن غرفتها، فسمعت صلاتها، فاسترقت الخطى إليها حتى وقفت بجانب الباب بحيث ترى موقف دميانة وتسمع تضرعاتها، ومع غلظ قلبها لم تتمالك عند رؤية دموعها تتساقط وسماع صوتها المخنوق من الانعطاف إليها انعطافًا مقرونًا بالاستغراب، وكانت على موعد من قدوم أبي حرملة تلك الساعة وعليها أن تهيئ العروس وتصلح من شأنها قبل قدومه، فهمت أنها تدخل وتوقفها عن الصلاة وإذا بها تسمع وقع خطواتٍ عرفت أنها خطوات الأمير، فتحولت نحوه وأشارت إليه بإصبعها أن يمشي الهوينى ليرى دميانة بعينيه. فمشى حتى أطل على الفتاة بحيث يراها ولا تراه؛ فرآها جاثية وشعرها محلول وقد استرسل حتى غطى كتفيها وأعلى صدرها. ووقع نظره على جانب وجهها فرأى الاحمرار قد جَلَّلَه والدمع بلله. وهي تبسط يديها نحو السماء تارة وترقع بهما صدرها أخرى، فنظر أبو حرملة إلى القهرمانة مستغربًا، فبادلتْه مثل نظره، وحمل ذلك من دميانة محمل الوحشة لبُعدها عن أهلها، وأراد أن يجاملها حتى تستأنس به وقد زاده منظرها رغبة فيها، فتراجع وأوصى القهرمانة بتطييبها وبإعدادها له على أن يعود بعد قليل. وطالت صلاة دميانة دون أن تمل، ثم شعرت بعد حين بتعب يديها فانتبهت وقد سري عنها وذهب ما كان أحدق بها من الهموم والمخاوف، وشعرت بشجاعة واطمئنان، وتحققت ألا خوف عليها من حبائلِ الشيطان. وفيما هي تتحفز للوقوف دخلت القهرمانة ضاحكة وهمت بدميانة فقبلتها، فاشتمت منها رائحة كانت تشتمها في المعسكر على الجمال ولكنها أحست بها قوية في وجه القهرمانة، فأمسكت دميانة بيدها وأجلستها على الوسادة بجانبها وقالت لها: «قد آن لك أن تتطيبي للقاء عريسك، وهذه شمعة قد اختصك بنورها وكان قد حفظها لأعز أوقاته وأمرني أن أضيئها في هذه الغرفة ليرى وجهك الجميل عليها، وهذا إكرامٌ اختصك به؛ فإنه لم يفعل مثله مع سواك من نسائه.» قالت ذلك وأخرجت قضيبًا غليظًا من الشمع مغروسًا في شبه قاعدة، وقدحت بالزناد وأضاءت الشمعة، وأخرجت منه المشط والسواك والأطياب، وأخذت تُصلح لها شعرها وتمشطها وتطيبها، ودميانة ساكتة لا تتكلم ولا تمانع وقلبها مطمئن هادئ. ••• انتهت القهرمانة من تمشيط دميانة وتطييبها، ثم أتتها بثوب من الحرير الملون كان أبو حرملة قد بعث به إليها مبالغة في إكرامها، فلبسته، فظنتها القهرمانة راضيةً مسرورة، فخرجت إلى أبي حرملة وجاءت به وكان قد خَفَّفَ ملابسه واتشح بثوب من الحرير يشبه ثوبها وتطيب. ولما دخل الغرفة أشار إلى القهرمانة فخرجت وعادت وبيدها ركوة من جلد وقدح من خشب وضعتها بين يديه وخرجت، وبقي هو ودميانة ليس في الغرفة سواهما. فاختلج قلبُها في صدرها خوفًا برغم اتكالها على الله بعد الصلاة واستأنفت الاستغاثة بالعذراء في سرها. أما هو فقعد على البساط، وتناول الركوة فصب منها في القدح وقدمه إلى دميانة وهو يقول بلغة قبطية مكسرة: «اشربي يا عروسة، اشربي من هذه المريسة فإنها تنعش القلب وتذهب الحزن!» فظلت ساكتة مطرقة لا تعلم ماذا تقول فقال لها: «أنا أشرب هذه الكأس عنك.» ثم شربها وصب قدحًا آخر وقَدَّمَه لها وقال: «خذي اشربي.» وأدنى القدح من فِيها فنفرت، وظهر الاشمئزازُ في وجهها فقال: «يلوح لي أنك لم تتعودي هذا الشراب.» ووضع القدح من يده وزحف على البساط حتى دنا منها ووضع يده على ركبتها، فاقشعر بدنها ونهضت فجأة ونفرت فأخذ يضاحكها، فقال: «ما بالك؟ لماذا تخافين وأنا أحبك كثيرًا؟» ومد يده ليمسك يدها ويجذبها إليه، فتباعدت، فتطاول حتى أمسك يدها فإذا هي باردة كالثلج، وشعر بجاذبية زادته رغبة فيها. وأما هي فلما لمسها اقشعرت وكاد الدم يجمد في عروقها، ولم تَجِدْ فائدةً من النفور، فأطاعته وقعدت وهي تتجنب أن تلمسه وخاطبته والدمع في عينيها قائلة: «أتوسل إليك يا سيدي أن تتركني وشأني.» قال: «ولماذا؟ ألا ترضين أن تكوني من نسائي؟» فلما سمعتْ سؤالَه خافتْ أن تُجيبه بالرفض فيغضب، فقالت: «إني جاريةٌ حقيرةٌ، لا أستحقُّ هذا الإكرام، وأنت في غنًى عني بمن عندك من النساء الكثيرات، فاتخذْني جارية أخدم في مطبخك، أو أرعى الماشية، أو أي شيء آخر.» قال: «لا، لا، بل أنتِ أحبُّ النساء إلي، وسأجعلك في المقام الأول، فلا تجزعي؛ فما أنا بالوحش الذي تخشين وإن لم أكن من أهل المدن نظيرك.» فقالت: «يظهر لي من كلامك ومِن علو منزلتك أنك طيب السريرة، فلا يبلغ مقام الإمارة والزعامة أسافل الناس، فاسمح لي برجاءٍ أتقدم به إليك.» قال: «قولي.» قالت: «إن الحظوة عندك شرف يتمناه الكثيرون، وأنا أسيرة، استخدمني كيفما تشاء للطبخ أو الغسل أو الحرث وارفع عني حظوة الزواج. أستحلفك بمن تعبد أو بمن تحب أن تتركني وشأني.» قال: «كيف أتركك وشأنك وقد وقعت لي من الغنيمة بعد استخارة الآلهة، ورأيت فيك جمالًا لم أشاهده في سواك؟ إني أنصح لك أن ترجعي عن عنادك وتقبلي مودتي طائعة مختارة، فأبو حرملة زعيم هذه القبيلة لا يعجزه أن يُكرهك على ما يريد.» فشعرت بتهديده وأنه إذا عزم على أمر لا يردعه رادعٌ، فأطرقت ولم تجب، فاستبطأ جوابها فقال: «هل رجعت عن غيك يا قبطية؟ هل علمت بأني أدعوك إلى السعادة؟» فرفعت عينيها إليه — وقد تكسرت أهدابُها من البكاء وذبلتا من الحزن والقنوط — وقالت: «قلت لك إن كثيرات من أمثالي يتمنين الحصول على هذه السعادة، ومع ذلك فإني أستعفيك منها … واطلب مني ما شئت غير ذلك، قلت لك إني أكون خادمةً، جاريةً، راعية، أكون أي شيء تريده غير الزواج.» فقطع كلامها قائلًا: «راعية خادمة؟ إن الخدم كثير عندنا؛ فإننا نبيع الأرقاء بالمئات.» فرفعت بصرها إليه وقد قنطت من الحياة. وكأن إلهامًا هبط عليها فجأة فتغيرت سيماؤها وبان البشر والجد في محياها، فقالت له: «أأنت أميرٌ تقود رجالك إلى القتال كثيرًا؟» قال: «نعم. وأي شيء في هذا؟» قالت: «وأظنك تخسر كثيرًا منهم أثناء الحرب؟» قال: «كثير جدًّا.» قالت: «وأنت أيضًا لست في مأمن من الموت.» قال: «إني لا أخاف الموت.» قالت: «لم أقل إنك تخاف الموت، ولكنك تعرِّض نفسك للقتل.» قال: «طبعًا، ولكن ما معنى هذا الكلام، وما علاقته بما نحن فيه؟» قالت: «تمهلْ أيها الأمير حتى النهاية. ألم يبلغك خبر العلوم السرية التي ورثناها عن أجدادنا الفراعنة علمًا وصناعة.» قال: «اسمع بشيء كثير من هذا. ولكن ماذا يهمني من العلم؟» قالت: «أَلَا يهمك أن تنجو أنت ورجالك من القتل إذا تساقطتْ عليكم الحراب كالأمطار، أو وقعت عليكم السيوفُ كالجنادل؟» فضحك حتى بانت أسنانه البيضاء، وهز رأسه وقال: «يهمني وهل في علم المصريين ما يمنع الموت؟» قالت: «نعم أيها الأمير، وذلك سر لا يعرفه إلا القليلون.» فشخص ببصره استغرابًا وقال: «وهل تعرفينه أنت؟» قالت: «أعرفه.» قال: «إنك تحتالين علي للنجاة.» قالت: «اسمع لي. أنا لا أُلقي كلامي جزافًا، ولا أطلب منك التسليم به إلا بعد تجربة، إن سِرَّ هذا الدواء مودَعٌ في بطن الأديار بمصر، وقد عرفته وتعلمته.» قال: «وما هو؟» قالت: «دهن أصطنعه وأقرأ عليه. فإذا دهن امرؤٌ جلده به أمن القتل، فلا يقطع فيه سيفٌ ولا رمح ولا سكين.» فقال: «دعينا من هذا الكلام الهراء، إن هذه الأكاذيب لا نُخدع بها.» قالت: «ليست أكاذيبَ يا سيدي، هذا سِرٌّ في يدي، لا أبوح به إلا إذا أقسمت لَتَكْتُمَنَّه.» قال والجد يتجلى في جبهته وعينيه: «أتقولين الحق؟» قالت: «نعم.» قال: «إذا صدقت في أمر هذا الدهن فإني أعطيك ما تطلبين.» قالت: «لا أطلب إلا إطلاق سراحي وإيصالي إلى بلدي وأهلي.» قال: «لك ذلك وأقسم بإلهي، لَأَبَرَّنَّ بقولي. وكيف السبيل إلى معرفة صحة هذا الدواء؟» قالت: «تجربه في رجل تدهن به جسمه وتضرب عنقه فإذا قُطع كان الدواء كاذبًا. وإذا نبا السيف ولم يصَب الرجل بسوء كنتُ من الصادقين، فتفي لي بوعدك.» قال: «وهو كذلك، لكن من يقبل أن يجرب هذا فيه ويعرض نفسه للخطر؟» قالت: «إذا لم تجد أحدًا أجربه أنا بنفسي.» فأطرق أبو حرملة عجبًا، ثم قال: «حسنًا، ومتى تصنعين هذا الدهان؟ ومتى نجربه؟» قالت: «غدًا — إن شاء الله.» فنهض وهو لا يصدق ما يسمعه، وقال: «لنصبرن إلى الغد، إني منصرفٌ الساعة، فاصنعي العقار وفي الغد نجربه، فإذا صَحَّ قولك فلك ما تريدين.» قالت: «لا أُريد غيرَ إخلاء سبيلي، وإرجاعي إلى أهلي.» قال: «حسنًا.» وخرج توًّا إلى فُسطاطه. فلَمَّا خرج من عندها تنفست الصعداءَ، وأخذت في إعداد العقار، فجعلته مزيجًا من الأطياب التي بين يديها وأضافت إليها أشياء أخرى حتى صار كالشحم ووضعته في قدح وباتت ليلها مضطربة لهول ما هي مقدمةٌ عليه، ولكن إيمانها كان قويًّا. وفي اليوم التالي جاءتها القهرمانة، فرأتها تصلي، فأتتها بالطعام فأكلت قليلًا. ثم جاء سمعان النوبي الترجمان موفدًا من أبي حرملة في طلب دميانة. فأرسلتها القهرمانة معه، فلما رأتْه ارتاحت إلى رؤيته وابتسمت ابتسامة حزين يائس، فأثر منظرُها في نفسه، وقال لها: «أرجو أن تكوني قد غيرت رأيك في أميرنا.» فتنهدت وأرسلتْ دمعتين انحدرتا على خديها وهي مطرقة تمشي وراءه، حتى بلغت خيمةَ الأمير وقد خبأت قدح الدهان في جيبها، فأمر أبو حرملة بإدخالها عليه وحدها، فدخلت وأراد سمعان أن يدخل معها فأشار إليه الحاجبُ أن يبقى خارجًا، فمكث وهو يتعجبُ من تلك الخلوة مع حاجة الأمير إليه. ••• كان أبو حرملة حينما دخلت عليه دميانة جالسًا على متكأ وقد مَدَّ رجليه، وهما حافيتان، ووضع على رأسه عمامةً صغيرة وبيده خيزرانة يلهى بها، فمشت حتى توسطت الخيمةَ ووقفتْ، فأشار إليها أن تتقدم، فتقدمت حتى اقتربت منه، فأومأ إليها أن تقعد، فقعدت، فقال لها: «ذهبت بالأمس إلى خبائك، فأطمعك ذلك فيَّ وبعث على نفورك، فأردت أن آتي بك إلى فسطاطي، لعلك تثوبين إلى رشدك، ألا تزالين خائفة؟» فقالت: «لست خائفة يا سيدي، ولكننا اتفقنا مساء أمس على أمر أراك نسيته؟» قال متجاهلًا: «وما هو؟» قالت: «ألم تعدني بإطلاق سبيلي إذا أحضرت لك العقار الذي يمنع القتل؟» فضحك وقال لها: «لا أحسبك تجدين، دعينا من الأدهان وارجعي إلى رشدك.» قالت: «بل أجد، ووَعْدُ الأمير دين.» فاعتدل في مجلسه وقال: «أتصنعين دهنًا يمنع القتل؟ ما هو؟» قالت: «نعم يا مولاي.» ومدت يدها وأخرجت القدح من جيبها ودفعته إليه، فتناوله ونظر في ذلك الدواء، فإذا هو خثر كالشحم وله رائحة الطيب، فقال: «أهذا عقار يقي من القتل؟» قالت: «نعم، إذا دهنت به عنق رجل لا يقطعه سيفٌ ولا خنجر.» فهز رأسه وهو يتأمل ما في القدح تارة، وينظر إليها تارة أُخرى وهي مطرقةٌ. فقال: «ينبغي أن نجرب.» قالت: «جَرِّبْهُ.» فقال مهددًا: «سأجربه فيك أنت!» قالت: «جربه يا سيدي فيمن شئت، فأنا على يقين من النجاح.» فرد القدح إليها وقال: «خذي ادهني المكان الذي تريدين، وأنا أضربه بسيفي هذا.» ووضع يده على سيفٍ إلى جانبه. فأخذت القدح من يده وهي تقول: «جرد سيفك.» ورفعت شعرها إلى أعلى رأسها وكشفت عن عنقها وأخذت من الدهن قليلًا بطرف سبابتها وجعلت تمسح عنقها وأعلى صدرها. فلما فرغت جثت بين يديه وقالت: «اضرب بسيفك.» فنهض واستل الحسام وقال: «أأضرب؟» فأجابته وهي مطرقة: «اضرب.» فراعه بياضُ عنقها، ورأى انكسارها وجرأتها، فأبت رجولتُهُ أن يضرب بكف لم يخنها الحسام قط عُنُقَ امرأة عزلاء، فتراجع وقال: «ارجعي إلى رشدك أرى رأسك مقطوعًا لا محالة.» قالت: «لا تخف اضرب. إن السيف سينبو بكفك …» فغضب وقال: «ينبو بكفي؟» ورفع يده وهَمَّ بها وإذا بصوت يناديه من الخارج: «لا تفعلْ يا مولاي.» وسمع وَقْعَ أقدامٍ، فالتفت، فرأى سمعان داخلًا مسرعًا حتى حال بينه وبين دميانة، فقال أبو حرملة: «ما بالك؟» قال: «ماذا تفعل يا مولاي؟» قال: «أجرب عقارًا اصطنعتْه هذه القبطية، تقول إنه يمنع أثر وَقْعِ السيف، وأكدت لي ذلك حتى طلبتْ أن أُجربه في عُنُقها.» قال: «وهل صدقتَ قولها؟» قال: «لم أصدق، فأردت أن أجرب ذلك فيها.» قال: «وتقتلها!» قال: «إنها تدعي أن الدواء مجرَّب، لا ريب في فعله، ولولا ذلك لم تعرضْ نفسها للقتل، فقد ألحت علي على أن أضرب بقوة.» فلما سمع الترجمان قوله ابتسم وأدار وجهه حتى استقبل دميانة وهي لا تزال جاثية مطرقة وتتمتم كمن يصلي، فلما اقترب سمعان منها رفعت بصرها إليه وعيناها تتلألآن بالدمع فقال لها: «هل تعتقدين ما ذكرت عن هذا الدواء؟» قالت: «كيف لا وأنا أطلب تجربتُهُ في نفسي؟ دَعْه يضرب ثم يرى ما يكون.» فضحك سمعان وقال: «هذا لا يجوز علي يا دميانة؛ فقد عرفت قصدك.» وتحول نحو الأمير وقال: «لا تصدقْها يا سيدي، ولا تطلق المهند من يمينك، إلا إذا كنت تُريد قتلها؛ إنها تعلم يقينًا أن العقار لا ينفع، وأن الضربة من يدك تقضي عليها.» فأجاب والدهشة ظاهرةٌ في عينيه: «تعرف ذلك وتعرِّض نفسها للقتل؟ لا، لا، هذا لا يكون. دعني أجرب.» فصاحت دميانة: «دعه يجرب وسترى صِدْق قولي، فأستريح من هذا الأسر ويرجعني إلى أهلي.» قال: «لا تفعل يا سيدي؛ إنها تبغي الموت.» قال: «كيف تسعى بنفسها إلى القتل؟» قال: «تفعل ذلك فرارًا من أمر يحرمه دينُها عليها، وأنت تطلبه منها، فلما لم تجد وسيلةً للنجاة آثرت الموت على العار.» فجعل أبو حرملة ينتقل بنظره من سمعان إلى دميانة ومن دميانة إلى سمعان كأنه يتفحص ما يضمرانه، ثم قال: «وكيف عرفت ذلك؟» قال: «عرفته؛ لأنه حدث قبل هذه المرة بصعيدِ مصر منذ أكثر من مائة سنة، في دير من أديرة الراهبات.» فلما سمعت دميانةُ قوله نظرتْ إليه ولسان حالِها يُعاتبُهُ ويقول: «لقد وقفت في سبيل نجاتي من العار.» فقال أبو حرملة: «وكيف ذلك؟» قال: «لَمَّا قام العباسيون على بني أُمية وأرسلوا جيوشَ خراسان لمحاربتهم هرب كبير بني أُمية إلى مصر، وجعل يهاجم أديار الراهبات والرهبان، فاتفق أن وجد رجالُهُ في بعض الأديرة فتاةً جميلة الصورة، فأحضروها إليه، فأعجبه جمالها، فأرادها لنفسه وهي تأبى؛ لأن بنات النصارى يحرصن كل الحرص على صيانة عرضهن، ولا سيما الراهبات؛ فإن الواحدة تفتدي عفتها بنفسها. فلما أرادها الأمير الأموي وعلمت أنها مغلوبة على أمرها احتالت عليه وزعمت مثل زَعْم صاحبتنا هذه، أن لديها عقارًا إذا دهن به الجسم ارتدَّت عنه السيوف القواطع، وأنه إذا لم يمسها وأطلق سبيلَها كشفتْ له عن سر ذلك الدهن. فرضي واشترط أن يجرب ذلك فيها، فقبلت ودهنت عنقها، وأمر الجلاد فضربها فأطاح رأسها عن بدنها، فعلم أنها أقدمت على الموت إنقاذًا لعفتها. وتحدث أهل مصر بهذا الحادث زمنًا طويلًا.» فلما سمع أبو حرملة هذا الكلام رد سيفه إلى غمده، وأطرق حينًا ثم رمى السيف على البساط، وتقدم إلى دميانة وقال لها: «قومي أخية، قومي، هل تسعين إلى الموت؟» فقالت: «وهي واقفةٌ وقوف المستعطف والدمع يتلألأ في عينيها: نعم أفضل الموت على العار.» فأظهر الغضب وقال: «تؤْثرين الموت على أن تكوني عندي؟» قالت: «كلا يا سيدي، لا أشكو من شخصك؛ فأنت أميرٌ على خَلْقٍ عظيم، ولكنني أتجنب …» وأطرقت حياء. فتصدى سمعان للكلام، وقال: «إنها تبغي صيانةَ عفافها.» فأَحَسَّ أبو حرملة كأن في هذه الفتاة الضعيفة السبية قوةً لم ير مثلها في الرجال غلبته على أمره، ولم يدر أن سر هذه القوة هو ثباتها على مبدأها، وإيثارها الموت على ما تظنه عارًا، فلم يتمالكْ عن النظر إليها نظر الاحترام، وقال: «كيف تفضلين الموت؟» قالت: «أفضله؛ لأنه يُنجيني من ارتكاب ما أعتقده مخالفًا لمشيئة الله وتعاليم السيد المسيح.» فالتفت أبو حرملة إلى سمعان، وقال: «فهي إذن نصرانيةٌ على مذهب سيدك صاحب النوبة؟» قال: «نعم يا مولاي، والنصارى يعدون المحافظة على العفة من أكبر الفضائل.» قال: «فملِك النوبة إذن أولى بها مِنَّا، وإكرامًا لهذا الثبات قد عفوت عنها، لكنني لا أتكلف إرجاعها إلى مصر ونحن قائمون بعد أيام إلى النوبة فنسلمها إلى ملكها.» فلما سمعت دميانة كلامه أشرق وجهها وذهب انقباضها، وتناثرت دموع الفرح من عينيها وهمت بيد الأمير لتقبلها فزاده هذا الشعور شفقة عليها وإعجابًا بها؛ لأنه لم يكن يتصور أنه يوجد في الدنيا امرأة تأبى أن تكون له، فكيف وقد رآها تفضل الموت على ذلك، فقال لها: «أتركك وشأنك ونحن ذاهبون بعد أيام قليلة إلى النوبة، فنكون على مقربة من دنقلة عاصمة ملكها، فأدفعك إليه. هل يرضيك هذا؟» فأشارت برأسها وعينيها شاكرة وهي لا تعرف كم تبعد دنقلة عن ذلك المكان، ولكنها كانت تَوَدُّ التخلُّص من محنتها بأية وسيلة. أما سمعان فكان يعرف المكانين وما بينهما من البُعد، فقال: «وإذا كان الأمير لا يرى بقاءَها في معسكره فأنا نوبيٌّ وقد اشتقت إلى بلادي، فيأذن لي في السفر إليها، وآخذ الفتاة معي وأوصلها إلى النوبة.» فضحك الأمير وقال: «لقد طالما لحظت رغبتك في فراقنا وها قد سنحت لك الفرصة، فامض وأهد سلامي إلى ملك النوبة، وقل له: إننا باقون على العهد، وقل لغلامي أن يهيئ لكما الركائب، وخذ من الخدم من شئتما.» والتفت إلى دميانة وقال لها: «اسبلي ذيلَ المعذرة على ما حملناك من الهم يا جميلة، واذكرينا عند أهلك بالخير متى بلغت بلدك.» فتذكرت رفيقتها علية، فأرادت أن تسأل عنها لعلها تستصحبها، وتكافئها على جميل أبيها فقالت: «أشكرك أيها الأمير، وسأنشر في الملأ ما لقيته من نجدتك وكرم أخلاقك، ولي رفيقةٌ كانت معي منذ أخذنا من حلوان.» فنظر أبو حرملة إلى سمعان كأنه يستفهمه فقال: «أظنك تعني علية، لقد تزوجت من ذاك الأمير وهي راضيةٌ، فقد تحققت موت أبيها وسائر أهلها، وهي من بنات البادية.» قالت: «لعلها تُحب أن ترافقني.» قال: «سافرت هذا الصباح مع زوجها.» فسكتت دميانة وخرجت مع سمعان، واتكلت عليه في إعداد معدات السفر، وحدثتها نفسُها أن تطلب إليه أَنْ يحملها إلى مصر بدل بلاد النوبة، فتصل إلى أهلها، فلما خرجت نظرتْ إليه وهي لا تصدق أنها نجتْ بعد أن كادتْ تُقتل، وشعرت بفضله عليها، أما هو فلعله كان أكثر سرورًا إذ أنقذها من الموت. فلما رآها تنظرُ إليه ضحك، وقال لها: «هل أنت مسرورة يا سيدتي؟» قالت: «الفضلُ إليك يا سمعان في إنقاذِ حياتي.» قال: «لا فضل لي؛ فإني قمت بما يفرضه علي الواجب.» فقالت: «إني حالما وقع نظري عليك شعرت بارتياح لرؤيتك، ثم تحقق ظني بما آنسته من طيب عنصرك، كأنك مسيحي مثلي.» فضحك وقال: «نعم أنا كذلك، فقد رُبِّيت تربية مسيحية.» وكانا يمشيان وأهل المعسكر ينظرون إليهما، وقد بلغهم أن الأمير عفا عن الفتاة وأمر بتسريحها، فظل سمعانُ ماشيًا حتى أتى خيمة وأمر الخادم أن يهيئ الأحمال، ودعا دميانة إلى الجُلُوس، وأمر لها بطعامٍ يعرف أنها تأكله، فاستأنست به وسألته: «إلى أين نحن ذاهبون؟» قال: «إلى دنقلة يا سيدتي.» وضحك. قالت: «وأين هي من هنا؟» قال: «تبعُدُ بضعةَ عشر يومًا على الجمال.» قالت: «هل هي من جهة مصر. فإذا وصلنا إليها نقرب من الفسطاط؟» فضحك وقال: «إن مصر إلى يميننا ودنقلة إلى يسارِنا، فإذا كُنَّا الآن على بُعد عشرين يومًا من مصر فمتى صرنا في دنقلة نصبح على مسافة أربعين يومًا عنها!» فبغتت وانقبضت نفسها وأطرقت، فابتدرها سمعان قائلًا: «لا تجزعي إننا لا نذهب إلى دنقلة، ولكنني سأذهب بك إلى أسوان وهي على يوم وبعض اليوم من هنا.» وخفض صوته وقال: «لأني عرفتُ من بعض المارين بنا أن ملك النوبة قدم إلى جوار أسوان متنكرًا، ومتى بلغناها لا نكون بعيدين من مصر كثيرًا.» فأشرق وجهها وقالت: «بُورك فيك، وهل لي أن أرجو بعد وصولنا إلى أسوان أن ترافقني إلى مصر لأكافئك على صنيعك؟» قال: «سأكون في خدمتك حتى تصلي إلى مأمنك.» فشكرته، وفي نيتها أن تكافئه إذا هو رافقها إلى مصر، ثم ذكرت ما كان من أمرها في الفسطاط واضطهاد أبيها، فكيف يكون مصيرها وهي تجهل ما دار بين زكريا وبين سعيد؟ وكان زكريا قد تركها في حلوان وذهب إلى بيت أبيها ليأتي بالأسطوانة ولقي سعيدًا، ولما رجع ليخبرها بما حدث وجد أنها سبيت، فلم تكن تعرف شيئًا عن حال أهل مصر، ولكنها توسمتْ في سمعانَ الرغبة في خدمتها، فأرادت أن يصحبها إلى مصر لتستخدمه في التفتيش عن زكريا أو سعيد. فأخذت تتأهبُ للرحيل معه إلى أسوان.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/91708090/
أحمد بن طولون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «أحمد بن طولون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. ويجمع هذا العمل بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية الهامة التي وقعت في عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة في أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، في العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان في هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التي اعتمد في ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
https://www.hindawi.org/books/91708090/12/
عند ملك النوبة
كانت أسوان آخر حدود مصر من الجنوب، وتبدأ بعدها بلاد النوبة، وكانت مدينة آهلة، فيها تجارة واسعة؛ لما يتبادله فيها التجار على اختلاف مللهم من البضاعة بين مصر والسودان، وكثيرًا ما كان النوبيون يسطون عليها ليضموها إلى بلادهم، فيحاربهم المسلمون ويردونهم عنها، وفيها مغارسُ النخيل الخصبة، وعندها يبتدئ الشلال الأول في النيل، وهو جنادلُ تعترض مجرى الماء فيسمع لها دوي وخرير ويتعذر فيه السير على السفن، فيجرونها أو يحملونها حملًا حتى تتجاوز تلك المضايق، وعند أسوان كثيرٌ من آثار الفراعنة أهمها هيكل أنس الوجود. وفي عهد روايتنا هذه كان هناك تجاه أسوان في البر الغربي ديرٌ يقيم به بعض الرهبان، لا تزال آثارُهُ باقية إلى اليوم، ناهيك بالجبل المجاور لأسوان من جهة الصحراء، وفيه المناجم الصوانية، يقطعون منها الأحجار، وتراها إلى الآن باقية، وفيها الأحجارُ المقطوعة والحُفر المنقورة. وكان ملك النوبة يومئذٍ يسمى فيرقي، أو «قيرقي»، وكان طامعًا في امتلاك مصر، وإخراجها من يد المسلمين وإعادتها إلى ملك الروم، فكانت الرُّسُل والرسائل تروح وتجيء سرًّا بين الروم والنوبة بوساطة أسقف مقيم بأسوان، وأحب ملك النوبة في ذلك العام أن يأتي بنفسه ليتصل بالأسقف، فتنكر ونزل بلدة «مسلحة» على حدود النوبة وراء أسوان، ولا يعرفه بها غير نفر من خاصته، وبلغ الأمر سمعان من جماعة كانوا مع قافلة الملك عند خروجها من دنقلة، وتركوها قاصدين مناجم الزمرد. وبعد يومين من إذن أبي حرملة لدميانة بالرحيل أعدت الركائب لها ولسمعان واستصحبا خادمًا وجملًا يحمل المئونة، والمسافة إلى أسوان قصيرة، فأشرفوا عليها في الأصيل، فقال سمعان: «إننا على مقرُبة من أسوان، وهذا جبلها المشهورُ يقطعون منه الأحجار لنحت التماثيل فينبغي أن نتجاوز أسوان إلى الجنوب.» قالت: «ولماذا لا ننزلها؟ فقد بلغني أن فيها ديرًا ذا كرامة أحب أن أزوره.» قال: «إن الدير على البر الآخر لا نصل إليه إلا بعد اجتياز النيل، ولا بد من ذهابنا إليه، أما الآن فعلينا أن نُقابل الملك.» قالت: «وأي ملك؟» قال: «ملكنا … ملك النوبة.» قالت: «ألا يُقيم بأسوان؟» قال: «كلا، إنه لا يَنزل أسوان؛ فهي ليست في مملكته، ولكنه ينزل في بلدة مسلحة وراء الشلال، وفيها حاميةٌ من رجاله.» فهمت بأنْ تتكلم، ثم سكتت، وظهر مِن ملامحها أنها تكتم أمرًا لا تُحب إظهاره، فقال: «أظنك تتعجلين السفر إلى مصر.» فضحكتْ وقالت: «هل تلومني على ذلك؟ وقد فارقت أهلي يبكون فراقي، وربما يئسوا من وجودي.» قال: «لا ألومُك يا سيدتي. ولكننا أحوج إلى نجدة الملك منا إلى السفر إلى مصر، ثم إني مكلفٌ برسالةٍ من أبي حرملة إليه لا بُدَّ من تبليغها.» قالت: «افعلْ ما بَدَا لك.» فلَمَّا أشرفا على النيل من بعيد رأيا سطحه يلمع كفرند السيف، والجبال تحدُّه من الضفتين، ويتخلل ذلك أنقاضُ الهياكل الفرعونية فيها الجدران والأساطين. ولما اقتربوا من أسوان سمعوا هدير الماء عند الشلال من تزاحمه في سيره بين الجنادل. وقد مرت على وادي النيل دول شتى وتوالت عليه أحوال مختلفة من عز وذل، ونزل به ملوك وقواد من عهد الفراعنة العظام، إلى اليونان، فالرومان، فالمسلمين وهدير ذلك الماء واحد ومجراه على وتيرة واحدة لا يمل من الجري ولا يمل جاره من السمع. مروا بالقرب من الجبل وقد كادت الشمس أن تغيب فقال سمعان: «لا نزال بعيدين عن مسلحة، فأرى أن نبيت هنا الليلة، فما قولك؟» قالت: «لا رأي لي يا عماه، افعل ما تشاء.» فأشار إلى الخادم أن ينصب خيمةً صغيرة كالمظلة تبيت دميانة تحتها ن ويبيت هو خارجها، وأن يعقل الجمال وينام بينها، فقال الخادم: «أين أنصبها؟» قال: «انصبْها في سفح هذا الجبل في مكان ممهد.» قال ذلك وترجل وأنزل دميانة عن الجمل وقد تعبت، فأخذ يحدثها ليشغلها عن التعب، وألقت هي نظرها على ما هنالك من المشاهد الطبيعية، فلما رأت النيل تنسمت رائحة الفسطاط، وتذكرت حبيبها وتاقت نفسها إلى اللقاء؛ لترى ما يكون من أمرها. وبعد قليلٍ جاء الخادمُ وأنبأها بنصب الخيمة على مصطبة من الصخر في سفح ذلك الجبل فقال له سمعان: «امكث أنت هنا مع الجمال حتى الصباح، وكن متيقظًا؛ لئلا يسطو عليك اللصوص.» قال: «حسنًا.» ومضى. وصعد سمعان ودميانة للمبيت تحت المظلة وهي لا ترى بأسًا من الانفراد بسمعان؛ لأنها كانت تعده مثل خادمها زكريا، وقد آنست فيه إخلاصًا، ولا سيما أنها عرفتْه وهي في أشد الضيق، وتوسمت فيه طِيبَ العنصر وأنه نصراني مثلها، والدين من أهم أسباب التقارُب. حمل سمعان معه بعض الزاد، وجلسا تحت المظلة، فتناولا شيئًا من الطعام، ثم غلب عليهما النعاس، فنامت دميانة على بساط فرشه لها سمعان تحت المظلة، وتوسد هو أرضًا رمليةً — على بضع أذرع منها — وجعل رأسه على ذراعيه، وفيما هو يوشك أن ينام سمع دويًّا، فألصق أذنه بالأرض وأنصت، فسمع وَقْع خطوات، فرفع رأسه وقد خيم الظلام وأصاخ بسمعه فسمع لغطًا بعيدًا فنهض ومشى حافيًا نحو الصوت وهو يتلمس طريقه حتى أطل من وراء الجبل على خيام منصوبة ونار مشبوبة، فحدق نظره فإذا هي خيام نوبية، فلم يشك في أنها مضارب الملك، فحدثته نفسه بأن يسير إليها؛ لعله يلقى فيها إكرامًا وحفاوة ويبلغ رسالته، ولكنه خاف أن يترك دميانة وحدها، فعاد إلى متوسده ولم يكد ينام حتى سمع دويًّا قريبًا، فنهض، فرأى ثلاثة فرسان يسوقون أفراسهم في طريقٍ يؤدي إلى المضرب، وتفرس فيهم فلم يعرفهم؛ لأنهم متنكرون، فعاد إلى منامه. وقبيل الفجر جاءه الخادم فسأله: «هل شاهدت أحدًا مارًّا في الليل؟» فقال: «شاهدت ثلاثة رجال ومَرَّ بي خادمُهُم فسألته هل هم ممن يخشى منهم؟ فقال: كلا لا خوف منهم؛ لأنهم أسقف المدينة واثنان من رجاله، وقد رجعوا في آخر الليل ولم نشعر بهم.» فلما سمع سمعان قوله أطرق هنيهة يفكر، ثم ابتسم وأشار إشارة معناها «عرفت السر.» ثم التفت وقال له: «امكث هنا حتى نعود إليك.» وقال لدميانة: «هل تأتين معي إلى هذه الخيام وراء هذا الجبل؛ فإنها مضاربُ ملك النوبة، لنقابله ونستأذنه في السفر ثم نعود.» قالت: «إذا كنت ترى فائدةً مِن ذهابي أَذهب.» قال: «الأجدر أن تأتي معي وأظنك تُحبين مشاهدة ملك النوبة؛ فإن الناس يتمنون رؤيته.» وأشار أن تتبعه، فمشيا حتى تجاوزا الجبل إلى بقعة منخفضة، فيها بضع خيام إحداها كبيرة، فتقدما حتى اقتربا منها، فتصدى لهم رجلٌ نوبيٌّ غليظُ البدن قويُّ العضل حافي القدمين التحف شملةً لف بعضها حول حقويه وأرسل باقيَها من جهة صدره إلى كتفيه فظهره، وقد علق سكينًا في كُوعه وشك سهامًا في شعره المتلبد وعلق قوسًا في كتفه. ولما رأى القادمين تصدى لهما، فتقدم سمعان إليه وكلمه بلسانه، فبغت الرجل عند رؤيته وتولته الدهشة، وصاح: «سمعان» وهمَّ به فضمه إلى صدره وصافحه مثنى وثلاث — وبين كل مصافحة والتي تليها يقبل الواحدُ منهما يده على عادة النوبة في التسليم — فأخذ سمعان يكلمه بالنوبية وهما متصافحان كلامًا لم تفهمه دميانة، وكلم سمعان الرجل وهو يشير إلى دميانة، فأسرع إليها ودعاها أن تتبعه فأومأ إليها سمعان أن تفعل، فذهب إلى خيمة فيها نساء استقبلنها أحسن استقبال. ••• مضى سمعان إلى الخيمة الكبرى، فاستأذن في الدخول، فأذن له، فوجد هناك «فيرقي» ملك النوبة، وكان بدينًا كبير الهامة، عليه لباس مزخرف، وعند رأسه زنجيان يحملان مراوح من ريش النعام، يروحان له وهو جالس على جلد أسد لا يزال رأسه معلقًا فيها وقد عولج حتى يظهر للرائي كأنه أسد رابض. ولم يكن «فيرقي» في لباس الملك؛ لأنه جاء متنكرًا، ولكنه وضع على رأسه قبعةً على هيئةِ التاج وعَلَّقَ على صدره صليبًا من الذهب المرصَّع، واتشح بمطرف من الخز، عليه صور ملونة أكثرها صور القديسين وأهمها سورة القديس جاورجيوس لابس الظفر، وكان الملك قد جلس الأربعاء ووضع السيف في حجره، وأصلح من شأنه، فاكتحل وتطيب ونزع النعال من رجله. وكان في أواخر الكهولة وقد شاب شعرُهُ وخف ولكنه كان صحيح البدن مشرق الوجه. وقد أحاط خصره بمنطقة من الخز لم يعهد مثلها في تلك البلاد، فلما رأى سمعان داخلًا رَحَّبَ به وقال: «مرحبًا بخادمنا الأمين سمعان.» فَأَكَبَّ سمعان وهو جاثٍ حتى قَبَّلَ ركبة الملك، فأشار هذا إليه أن ينهض، ودعاه للجُلُوس، فجلس بين يديه حتى حصير جميل من سعف النخل، فقال الملك: «من أين أنت قادم؟» قال: «من المهمة التي أنفذني سيدي الملك فيها.» قال: «من بلاد البجة؟ من هو صاحبها الآن؟ وكيف وجدته؟» قال: «هو أبو حرملة.» فقطع الملك كلامه قائلًا: «أبو حرملة النوبي؟» قال: «كلا يا سيدي إن صاحب البجة تسمى بهذا الاسم تقليدًا بذلك القائد العظيم.» قال: «وكيف سياسته؟ هل هو معنا؟» قال: «لم يكن معنا في بادئ الرأي ولكنني جعلته يصير نوبيًا أكثر من النوبة. فإن هؤلاء القوم لا يغريهم إلا الكسب بالنهب فإذا علم أن محاربتنا للمسلمين تبيح له النهب صار معنا.» قال: «هل أفهمته ما نرمي إليه من مناورة المسلمين؟» قال: «إنهم لا يفهمون الانضمام إلى الروم لأنهم لا يدينون بالنصرانية وإنما اتفقنا على أنه إذا قامت حرب بيننا وبين المسلمين كان معنا. ورأيت منه ميلًا وعطفًا.» فقال: «إن البجة من أصدقاء النوبة مِن عهد أسلافنا وأذكر أني ذهبتُ على عهد أبي مع رئيس البجة السابق وكنت غلامًا يافعًا إلى بغداد عاصمة المسلمين؛ ليشكو إلى الخليفة ظلم عماله في اقتضاء الجزية، فنلنا منه كل رعاية، وأهدانا الهدايا والتحف وبالَغ في إكرامنا. وقد شاهدنا من خيرات العراق ما لا مثيل له هنا، ولما رجعنا أهداني فرسًا وسرجًا ولجامًا وسيفًا محلًّى هو هذا الذي معي، وثوبًا ثمينًا وعمامة من الخز لم ألبسها، وهي هذه — وأشار إلى المنطقة حول خصره — عدا ما أعطى حاشيتنا. وأهم من ذلك كله أن الخليفة نظر إلى شكوانا فوجد عامله بمصر يأخذُ مِنَّا فوق ما يجب، فأمره أن يخففه، ولقد كان هذا الخليفة — والحق يقال — على خُلُق عظيم، فاستتب الحالُ في عهده ولكن الأحوال تغيرتْ بانتقال الخلافة إلى سواه. فعاد عاملُ مصر إلى مناوأتنا. وحق العذراء إن ملك الروم خيرٌ لنا من هؤلاء المسلمين؛ فإنهم على دينٍ غير ديننا، ولا يدخرون وُسعًا في سبيل أَخْذِ أموالنا واسترقاق رجالنا. ولا أظنني في حاجة إلى زيادة التفصيل يا سمعان.» فحنى سمعان رأسه مؤمنًا وقال: «فالبجة معنا الآن، وقد آنست من رئيسهم ميلًا إلى حِلفنا، ولم يكن يعلم أني جئتُهُ لأتجسس أحواله، فاتخذني مترجمًا له، وقد اغتنمت فرصةً سنحتْ، والتمست منه الإذن بالسفر إلى دنقلة وأنا أعلم أن مولاي الملك هنا.» فقال الملك: «لقد أتيت متنكرًا؛ لأرى أسقُف أسوان وأكلمه وجهًا لوجه؛ فهو واسطةُ التحالف بيننا وبين ملك الروم — كما تعلم — وقد جاءني بالأمس ليلًا، وتشاورنا مليًّا، فرأيت منه سعيًا حميدًا وبقي البطريرك ميخائيل في مصر.» قال ذلك وتَنَهَّدَ. فقال سمعان: «ألم تتصلوا به بعد؟» قال: «أرسلنا له رسلنا ورسائلنا مرارًا، فلم يأتنا منه جوابٌ.» قال: «طبعًا هو معنا لأنه …» فقطع الملك كلامه وقال: «لا تقل طبعًا؛ فلو كان معنا لرد على كتبنا إليه.» قال: «رُبَّما ضاعت الكُتُب خِلَالَ الطريق أو ضاع الردُّ عليها.» فأطرق الملك حينًا وهو يحك عثنونه الشائب بسبابته ثم رفع بصره إليه، وقال: «صدقت إن الكتب قد تضيع في الطريق، فهل تكون رسولي إلى البطريرك ميخائيل؛ لتبلغه الأمر شفاهًا، وتأتيني بالجواب النهائي، ولك أن تستخدم مهارتك في إقناعه، هل تفعل؟» فأشار سمعانُ برأسه مطيعًا وقال: «أفعل ذلك يا سيدي.» قال: «أتعلم مقر البطريرك ميخائيل؟» قال: «أظنه الآن في دير أبي مقار في بادية النطرون.» قال: «هل تعرف الدير؟ وهل أنت واثقٌ مِن وُجُود البطريرك هناك؟» قال: «أعرفُ الديرَ، وإذا لم يكن البطريرك فيه أذهبُ إليه حيثما يكون، كن مطمئنًّا.» فابتسم الملك وقال: «إنك محب صادق وإذا ظفرنا بما نؤمله أجزلنا لك الجزاء.» فوقف سمعان وانحنى شاكرًا، وقال: «إني لا ألتمس على ما أفعله أجرًا، فإني أقومُ به حُبًّا لمولاي الملك وتأييدًا للدين.» قال: «ومتى تسافر؟» قال: «عندما يأمرُ الملك وأنا أرفعُ إلى مقامه، إن معي فتاة من قبط مصر وقعت سبية عند سيد البجة، وعهد إلي أن أُعيدها إلى أهلها، فأحب أن أصطحبها ونسافر في قافلة بالبر الغربي، فيكون طريقنا توًّا إلى وادي النطرون.» قال: «اصطحبْ مَن شئتَ، وما تريدُهُ من مال وركائبَ من بيت مالِنا.» قال: «لا حاجة بنا لركائب؛ فإن الطريق الذي ذكرته لا يخلو من قوافل التجار مارةً بأحمال الريش والصمغ والعاج إلى مصر، فنرافق واحدة منها على ألا يعرف القومُ غرضنا، وأجعل نفسي خادمًا للفتاة التي ذكرتها.» قال: «أحسنت، ومن هي هذه الفتاة؟» قال: «ذكرت لمولاي أنها سبية غنمها البجة من حلوان بجوار الفسطاط وأَتَوْا بها إلى أميرهم فأرادها لنفسه فأبت.» وقص عليه حديثَها إلى آخره. فأعجب الملك بما سمعه مِن تَمَسُّكِها بالمبادئ النصرانية، وأثنى على عِفَّتِها وتقواها، وقال له: «هل هي معك هنا؟» قال: «نعم هي في الخيمة الأُخرى.» فصَفَّقَ الملك، فدخل غلامُهُ فأمره أن يأتي بالفتاة القبطية، وقال لسمعان: «سأجعل سفرك إلى مصر في خدمتها؛ إكرامًا لكما.» ثم عاد الغلام وقال: «إن الفتاة بالباب.» فنهض سمعانُ فاستقبلها تشجيعًا لها على مُلاقاة الملك. فدخلت وهي مطرقةٌ، فابتدرها قائلًا: «مرحبًا بالفتاة الطاهرة النقية، لقد سمعنا بصدق تدينك وعفة نفسك، فأحببنا أن نراك ونهنئك — حفظك السيد المسيح وجعلك من مختاريه.» فطأطأت رأسها حياءً واحترامًا فقال لها: «قد أوصيت محبنا سمعان أن يذهب معك فيوصلك إلى مأمنك.» قال ذلك باللغة القبطية لأنه كان يعرفها. فاستأنست دميانة وفرح قلبها لاهتمام ملك النوبة بأمرها، وشكرت له تنازله، وخرجت ومعها سمعان إلى مبيتهما، فاستقرا هناك حتى أُتيح لهما تعدية النيل إلى البر الآخر بدير هناك أقاما به أيامًا ينتظرون مرور قافلة ذاهبة إلى مصر يصطحبانها. ••• خشي ملكُ النوبة أن يتأخر سمعان عن أداء المهمة التي كُلف بها فأمر بإعداد قافلة سير فيها جماعة من رجاله يحملون بعض أصناف التجارة إلى الفسطاط، وأمرهم أن يسيروا في طريق البادية على البر الغربي للنيل حتى يأتوا الجيزة تجاه الفسطاط، ومنها يعبرون النيل إليها، فيبيعون بضاعتهم في أسواقها ويذهب سمعانُ بدميانة إلى حيث تريد، ثم يبحث عن مكان البطريرك ميخائيل ويبلغه رسالتَه. فلما أعدت القافلة سار سمعانُ ودميانة معه وكل منهما على جمله مع من يحتاج إليه من أسباب الراحة، وفي الطريق محطاتٌ تقفُ القافلة عندها للطعام أو الراحة أو النوم. ولم تكن دميانة تعرفُ أحدًا في ذلك الركب إلا سمعان، فكانتْ تزداد استئناسًا به وتقديرًا له، وهو لا يفتر عن القيام على خدمتها ومؤانستها بالأحاديث المختلفة، وهي تقصُّ عليه ما تعرفه أو ما مَرَّ بها، وتطرقت إلى سَرْدِ حكايتها وسبب خروجها من بيت أبيها، وبالغت في الثناء على زكريا لِمَا أظهره من الغيرة عليها والتفاني في خدمتها حتى آخر عهدها به في حلوان، ثم ذكرت أنها لا تعلم عنه شيئًا بعد ذاك. فاهتمَّ لأمرها، وسألها: «وإلى أين تقصدين الآن؟» قالت: «لا أدري وإذا اقتربنا من الفسطاط نسأل عن المهندس سعيد بين رجال ابن طولون في القطائع، فإذا عَثَرْنَا عليه عرفتُ منه ما أريد.» قال: «وإذا لم نجده؟» قالت: «نبحث عن زكريا.» وتذكرت مصائبها فانقبضت نفسها وتنهدت. وكان جملاهما سائرين متحاذيَين وراء القافلة لا يسمع لخفافهما وقع، وإذا التفتَ الراكبُ إلى يساره رأى رمالًا وصخورًا، وأما إلى اليمين فيقع البصرُ حينًا بعد حين على المزارع عند ضفة النيل، وقد يرى النيل جارها والعمارة على ضفتيه أكثرها قرى صغيرة. وكَانَا قد اقتربا من الجيزة، ومَرَّا في طريقهما على الهرم المدرج، وأشرفا على أهرام الجيزة، ووقع نظرُهُما إلى اليمين وراء النيل على حلوان، وظهر لها المقطم وعليه قبة الهواء وتحتها قطائعُ ابن طولون، فأذكرها ذلك يوم الاحتفال الذي أخذ فيه سعيد، فهاجت أشجانها وبان الانقباضُ في وجهها، وتلألأ الدمع في عينيها، ولحظ سمعان ذلك فشاركها في إحساسها، وأخذ في التخفيف عنها، وكان قد عرف أنها بنت وجيه غني، وأعجبته أنفتها وعزة نفسها؛ فقال لها: «لا بأس عليك يا سيدتي اشكري السيد المسيح على نجاتك من الأسر والعار.» فقالت: «أشكره كثيرًا، ومِن نعمه أنه سخرك لإنقاذي، ولكني تنقبض نفسي كلما أتذكر شقائي وأني أصبحت طريدةً شريدةً لا أخ لي ولا أخت ولا أم، وقد عاداني أبي، واضطهدني أقربُ الناس إليَّ.» وتَنَهَّدَتْ وسكتت، وظهرت في ملامحها ملامحُ الخجل واليأس معًا؛ لأنها تذكرت سعيدًا وأرادت أن تذكره وترجو لقاءه فغلب عليها الحياء ولحظ سمعان ذلك فأحب أن يخفف عنها وقد تذكر مصائبه وكان قد تناساها مع الزمان فقال: «إن الإنسان يا سيدتي عرضةٌ للمصائب، والمسيحيُّ الحقيقيُّ يتأسى بالسيد المسيح، فقد تألم وصُلب من أجلنا، واحتمل كل ذلك بالصبر فينبغي لنا أن نصبر.» فاقتنعتْ بحجته ولكنها بقيت مكبوتة العواطف، وتود أن تقول شيئًا عن سعيدٍ والحياء يمنعُها، فقال سمعان: «ولا يَخْفَى علي أنك تضمرين أمرًا يمنعك الحياءُ مِنَ التصريح به، لعل سعيدًا مرجعُ آمالك، فإذا لقيته نسيت كل شيء، أليس كذلك؟» فأجابت وقد غُلبت على أَمْرِهَا: «نعم صدقت ولكني لا أدري أين هو: أَفِي السجن أم أُطلق سراحه؟» وأطلقت لنفسها عنان البكاء، فخاف سمعانُ أن يسمع أحدٌ من الركب صوتها، فأخذ يتباطأ في سيره وهي تجاريه حتى سبقتهما القافلةُ مسافةً بعيدةً، وصارت على مقربة من أهرام الجيزة، وكانا قد أشرفا عليها وعلى أبي الهول من بعيد، فاستبشرا بقُرب الوصول. أما دميانة فاستأنست بسمعان، واتخذته عونًا لها — كما كانت تفعل مع زكريا — وزادها تعلقًا به مشابهته له في ملامحه وأخلاقه، فقالت: «وهل تظنني أنسى هذه المتاعب يا سمعان؟» قال: «أرجو ذلك من الله، أَمَّا أنا فلا أتخلى عنك حتى أبلغك أمنك ويطمئن قلبي.» قال ذلك وتنهد وقد تغيرت سحنته وسكت فسألته عما طرأ عليه فقال: «إني لا أمر من هذا الطريق وأنظر إلى الفسطاط إلا وتنقبضُ نفسي وتهيج أشجاني … لحادث أتذكره مع رغبتي في تناسيه … فلا تهتمي بهذا الأمر … عودي إلى حديثنا عن المهندس سعيد.» فضحكت ومالت إلى معرفة كنه أمره، وحسبت إلحاحها عليه بذلك مما يخفف وقع ذكرياته فقالت: «لقد شغلت خاطري بما ظهر عليك من الانقباض فلعل لك قصة غريبة.» قال: «حديثي غريب، ولكنه قديم وقد كدت أنساه.» قالت: «ألا تقصه علي، فيساعد على تقصير الطريق؟» ••• قال سمعان: «سَأَقُصُّ عليك حديثي؛ عسى أن يسليك. لقد نشأت مع أخ أصغر مني في بلاط ملك النوبة جد هذا الذي رأيته بالأمس، وكنا في رغد وهناء لا هَمَّ لنا غير الأكل والشرب واللعب، وجعلنا الملك من خاصة خصيانه. وكنا غلامَين يافعَين عندما أتي إلى هذه البلاد خليفة المسلمين الذي يسمونه عبد الله المأمون لأمر اقتضى ذلك، وتبودلت الرسائل بينه وبين ملكنا؛ فقد كان ملكنا يشكو من جور صاحب مصر في تحصيل الخراج، فاغتنم مجيء الخليفة وتقرب إليه بالهدايا من العاج والريش والرقيق، وأرسلني أنا وأخي في جملة الهدية، فجيء بنا إلى هذه المدينة «الفسطاط» فقبل المأمون الهدية، وفرق بعضها في رجاله وأطلق بعض الأرقاء وأنا منهم، وكنت أحسبه يطلق أخي معي أو يأخذنا جميعًا؛ لأني كنت مولَعًا بأخي، لكنه لم يفعل، فبكيت كثيرًا وبعد قليل علمت أن المأمون ذهب إلى الأرياف، وأنه أخذ أخي معه ثم علمت أنه عاد إلى بغداد، فشق علي ذلك ورجعت إلى الملك وأقمت في خدمته. وما زالت تنقبض نفسي كلما سمعت اسم الفسطاط، فما بالك إذا رأيتها؟» فقالت: «يحق لك أن تحزن على فقد أخيك. ما اسمه يا سمعان؟» قال: «اسمه إبراهيم؟» وهمت بأن تستزيده إيضاحًا فإذا به ينظر إلى الأهرام متفرسًا وقد تغيرت سحنته، فرأت القافلة قد تبعثرت، وأحاط شرذمةٌ من الفرسان علمت مِن ألبستهم أنهم من الجند، فقالت: «ويلاه … سطا الجندُ على القافلة.» فقال سمعان: «قَبَّحَهم الله، سَطَوْا عليها وسلبوها، وهل جُعل الجندُ لحماية الناس أو لِسَلْبهم؟ إني أراهم يسوقون الرجالَ والأحمال جميعًا، والأجدرُ بنا أن نلتجئَ إلى مكانٍ نختبئُ فيه؛ لئلا يمسونا بسوء، ولو كنت وحدي لَمَا تخلفت عن الرفاق، ولكنني أُوثر حمايتك على كل شيء آخر.» قال ذلك وتحول معها إلى أنقاض بناء قديم من آثار الفراعنة، فترجلا وأدخلا الجملين في مخبأ بالقرب منه، وجلسا على بعض الأحجار ودميانة ترتعدُ من الخوف، فأخذ سمعانُ يخفف عنها ويشجعها وقال: «لا تخافي إن الجُند لا يأتون إلى هنا، وهم لم يرونا ولا أظنهم يتعرضون لأي عابر سبيل. وبعد قليل تغرب الشمس ويخيم الظلام، فنخرج خلسة إلى هنا وراء الأهرام، وننزل الجيزة فنَبِيت في خان هناك، ونذهب في الغد إلى الفسطاط.» قالت: «أخافُ أن يلقانا أحدٌ مِن هؤلاء.» قال: «لا تخافي، نتجسس الطريق قبل السير، فإذا رأينا أحدًا اختبأْنا.» قعدا في الخربة وفيها الأساطين والتماثيل مهملة مبعثرة، وكأن الجملين هالهما المنظر فتهيبا فأخذا في الهدير وسمعان يُسكتهما؛ لئلا ينم هديرهما على المكان، فوضع لهما العلف يشغلهما به ولم يمض إلا يسيرٌ من الوقت حتى مالت الشمس نحو الأُفُق، فاستطالت الظلال حتى إذا توارت الشمس اختلطت وصارت ظلامًا، فاستولت الوحشة على تلك الخرائب، فلجأت دميانة إلى الصلاة تستجير بالسيد المسيح وبالعذراء، وأخذ سمعان يهتم بالانتقال من ذلك المكان، وهو لا يخلو من الحشرات السامة فضلًا عما يعتقدونه من وُجُود الجان أو العفاريت فيه. ولولا الإيمان والصلاة لَمَا أطاقا المكوث هناك لحظة، فضلًا عَمَّا قَاسَيَاهُ من العطش؛ فإن قِرَب الماء كانت محمولةً مع القافلة، وأخذت معها. فلما اشتدَّ الظلامُ قال سمعان: «هيا بنا نركب إلى الأهرام؛ إني لا أرى شبحًا ولا أسمع أصواتًا، ولا ريب أن القوم رجعوا إلى الفسطاط.» فنهضتْ دميانة، فأركبها جملها وركب جمله بحيث تبقى هي في أثره. وسارا هكذا وهما لا يتكلمان وقد تهيبا الصمت التام المستولي على تلك الرمال وما يجاروها من المغارس. فإذا التفت الناظر رأى إلى يساره الأفق تعترضه التلال الرملية والصخرية وإلى يمينه البساتين حتى النيل، ووراءه المقطم، وفي سفحه القطائعُ والفسطاط. وعلى ضفتَي النيل شجرُ النخيل يناطح السحاب. ••• كان سمعان يتطاول بعُنُقه من فوق جمله، ويشخص ببصره، ويتفرس فيما أمامه؛ مخافة أن يكون هناك متربصٌ من اللصوص أو الجُند فكان يرى أبا الهول والهرمين الكبيرين، تقترب إليه وتتجلى صورها بالتدريج وهو يصيخ بسمعه فلا يسمع إلا صوت وقْع خفاف الجمل على الرمال وصوت شخيره أو تنفُّسه. حتى إذا اقتربا من أبي الهول أمسك سمعان بزمام جمله ليسير الهوينى، ولم يتجاوز أبا الهول ويشرف على الهرم الكبير حتى رأى شبحًا يتسلق الهرم متلصصًا، وظهر له من قيافته أنه من العامة ولم يَرَ وجهه ليتبين سحنته. فلما رآه يتلصص أوقف الجمل، فوقف الرجل هنيهةً ثم عاد إلى الصعود، فتأكد سمعانُ أنه لا يفعل فِعْل المتلصص الخائف، فساق الجمل نحو الهرم حتى استقبل الجانب الذي رأى الرجل يَتَسَلَّقه، فرآه قد اتجه إليهما ونزل إلى أسفل الهرم ووقف، فخطر لسمعان أن يسأله عن الماء ليتطرق من ذلك إلى أسئلة أُخرى، فقال له باللغة القبطية: «من الرجل؟» فأجاب: «من أهل القرى، ومن أنت؟» قال سمعان: «غرباء نطلب ماء، هل تعرف مكانًا فيه ماء بهذا الجوار؟» فتقدم الشيخ وقال: «إن في هذا الجوار عينًا ذات ماء كثير، تعاليا فأدلكما عليها.» وكانت دميانة تخشى أن يكون الرجل من طلائع الجُند فلما سمعتْ صوته خفق قلبها وأجفلت؛ لأنه يشبه صوت زكريا. فلما رأته مشى وخلفه سمعان صبرت حتى تسمع كلامه ثانية، فعاد سمعان إلى سؤاله عن أقرب الطرق إلى الفسطاط فقال: «تنحدران من هذه الأكمة بين هذه المغارس إلى الضفة، فتجدان هناك جسرًا من السفن المتحاذية، تقطعانه إلى جزيرة الروضة، ومنها تقطعان جسرًا آخر إلى الفسطاط.» وكانت دميانة تسمع كلام الرجل وقلبها يزداد خفقانًا؛ لأنه صوت زكريا بعينه، وتفرست في مشيته عن بعد فتحققت أنه هو فلم تعد تعلم ماذا تعمل من الدهشة والفرح، فتجلدت وقالت: «هل تريد أن ترافقنا في هذا الطريق يا عماه؟» قالت ذلك بصوت مختنق من شدة التأثر. فعجب سمعان لتصديها للكلام ومن اختناق صوتها، أما الرجل فلما سمع الصوت وقف والتفت إلى دميانة والظلام يحول بينهما، وكانت هي قد استعدت لإمعان النظر فيه فلم يبق عندها ريبٌ من أمره، وأما هو فاختناقُ صوتها أخفى عليه أمرها، فقال: «إني في خدمتكم إلى حيث تشاءون، فهل نذهب توًّا؟». وأصغى ليسمع الجواب. فقالت: «نشرب أولًا، ثم نسير إلى المعلقة.» فلما سمع ذكر المعلقة اضطرب، وتراجع حتى أمسك بزمام الجمل — وسمعان يستغرب — وقال: «من أنت. مولاتي دميانة؟ دميانة؟» فصاحت هي: «زكريا! عمي زكريا.» وكادت للهفتها أن تقع عن الجمل، فلما سمعها سمعان تَذْكُر زكريا بهذه اللهفة أدرك أنه خادمها الذي تحدثه عنه، فنزل عن الجمل وأناخ جملها وساعدها على النزول، فأكب زكريا على يدها يقبلها، وكاد — لولا الحياء — أن يضمها إليه لتلهفه لرؤيتها، وظن نفسه في حلم إذ لم يَدُرْ في خلده أن يراها بجوار الأهرام في مثل هذه الساعة، وهو يظنها في أسر البجة، فأكثر من السؤال ومن ترديده وفعلت هي مثله فقال: «سيدتي دميانة! أنت هنا؟ شكرًا لله على سلامتك. كيف جئت؟ من أنقذك؟» قالت: «لا تقل سيدتي؛ فإنك عمي، وهذا عم آخر أنقذني من بلاد البجة وتكلف المشقة حتى وصلنا إلى هنا.» فصافحه زكريا وسلم عليه وأثنى على فضله، لكنه لم يتبينه لشدة الظلام. ولم يكن سمعان أقل منهما دهشة لهذه الصدفة، فقال: «الحمد لله إذ سر أمري فأهنئكما بهذا اللقاء.» فقال زكريا: «امكثا عند قاعدة الهرم حتى آتيكما بالماء تشربان، ثم نسير إلى الفسطاط معًا.» قال ذلك ومضى، ثم عاد إليهما بالماء، فشربا ودميانة تود أن تعرف ماذا جرى لسعيد والحياء يمنعها، فقالت: «أين كنت هذه المدة، وكيف حالك؟» فأدرك غرضها، فقال: «إن حديثي طويلٌ سأقصُّه عليك. أما حالي فإنها على ما يُرام والحمد لله وسيدي سعيد ينتظرُ لقاءك على مثل الجمر. وهنيئًا لك ما ناله من الحظوة عند أميرِ مصر؛ فهو صاحب الكلمة النافذة والمقام الرفيع.» وكان زكريا يتكلم وقلب دميانة يرقص فرحًا ولما فرغ من كلامه بسطت يديها نحو السماء وقالت: «أسكرك اللهم لأنك حرسته وحفظته فحق علي وفاء النذور.» فقال سمعان: «لا أقدر أن أصف لكما فرحي بجمع شملكما، والآن وقد أكملت لكما تعينكما فإني أنطلق قافلًا.» فاعترضته دميانة قائلة: «كلا، إنني لم أقم بحق جميلك، ولم أكافئك على بعض ما فعلت.» قال: «لم أفعل ما يصح أن تكافئيني عليه، وأنا ذاهب الآن في مهمة لا بُدَّ لي من قضائها، وسأعود إليكم بعد ذاك.» قال زكريا: «لم تنقض مهمتك بعدُ يا أخي، فأنا لست حرًّا طليقًا لأكون في خدمته.» فقالت دميانة: «وكيف ذلك؟» قال: «إني سجين يا سيدتي.» قالت: «سجين! إني أراك حرًّا طليقًا.» قال: «ولكني خرجت من السجن على أن أعود إليه.» قالت: «ترجع إليه؟ أتكون حرًّا وتقيد نفسك؟» قال: «خرجت من السجن على أن آتي هذا الهرم لآخذ منه شيئًا ودعته فيه وأعود إلى السجن، ولا بد لي من العودة إليه؛ لأني وعدت الرجل الذي سَهَّلَ خروجي بذلك.» قالت: «صدقت، إن وعد الحر دين، ولكن كيف حبست ولماذا؟ إني لم أفهم ما تقول.» قال: «حديثي طويل، سأقصه عليك أثناء الطريق أما الآن، فإني أصعد إلى باب الهرم، ثم أعود.» وصعد ثم عاد وقال: «هيا بنا إلى أسفل هذه الأكمة؛ فإن لي حمارًا ربطتُهُ هناك فأركبه ونسير معًا.» فنزلوا جميعًا وركب حماره ومشى بين الجملين، وأخذ يروي لهما ما وقع له بعد فراق دميانة في حلوان منذ ذهب إلى بيت أبيها وأخذ منه الأسطوانة، ثم ذهب إلى دير أبي مقار ورأى البطريرك ميخائيل وأخذ منها كتابًا إلى ملك النوبة وضعه في الكيس مع الأسطوانة وكيف خانه ذلك اليهودي وأتى بالجند فقبضوا عليه فخبأ الكيس بباب الهرم، وحمل إلى السجن فأقام حينًا وتوصل إلى سعيد، وأخبره عن الكيس وأنه يريد أن يأتي به فتوسط له عند السجان على أن يخرجه ويعود إلى السجن في تلك الليلة … إلى أن قال: «قابلت خلسة لأخذ الكيس من باب الهرم، فرأيتكما وخفت أن تكونا عينًا علي، ثم حدث ما تعلمانه، وقد ذهبت الآن إلى باب الهرم، وأتيت بالكيس، وهو معلق بعنقي تحت أثوابي.» وقصت عليه حديثَها، ونَوَّهَتْ بمكارم أخلاق العم سمعان، وكان هذا قد سمع حديث زكريا وما يتخلله من كلام البطريرك ميخائيل، وأنه لا يرى ملك النوبة في إخراج مصر من حكم المسلمين إلى حكم الروم، ففترت همته عن الذهاب إليه ولكنه أراد التثبُّت فقال: «حقًّا، لقد قاسيت كثيرًا في ذهابك إلى دير أبي مقار. هل البطريرك هناك الآن؟» قال: «سمعتُ أنه قادمٌ إلى الفسطاط ليجتمع بصاحب مصر.» قال: «ألا يزال كتابُهُ إلى ملك النوبة معك؟» قال: «في الحقيبة (الكيس) معه الأسطوانة.» قالت دميانة: «أراك كثير العناية بهذه الأسطوانة حتى عرضت نفسك للخطر من أجلها! فأي شيء فيها؟» قال: «ستعلمين بعد حين.» وظلوا في الحديث حتى وصلوا إلى جسر الجيزة، فعبروه إلى الروضة ومنها إلى ضاحية الفُسطاط عند بابلون قرب دير المعلقة، فلما صاروا هناك قال زكريا: «لا بد من رُجُوعي إلى السجن الآن، فأين تمكثان لأراكما إذا خرجت؟» قالت دميانة: «أنا أُفضِّل النزول في هذا الدير.» قال: «لا أرى ذلك؛ فإن أهله يعرفونك، فأخاف أن ينقلوا خبرك إلى الأسقف المعهود أو أبيك أو إسطفانوس فيسعون في ضررنا، والأوفق أن تنزلا في كنيسة بابلون إلى أن آتيكما.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/91708090/
أحمد بن طولون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «أحمد بن طولون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. ويجمع هذا العمل بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية الهامة التي وقعت في عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة في أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، في العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان في هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التي اعتمد في ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
https://www.hindawi.org/books/91708090/13/
كشف السر
كان زكريا عقب سجنه قد أرسل إلى سعيد يطلب منه أن يوافيه لأمر ذي بال، فلما جاءه أطلعه على ما وقع له، وأنه وضع الكتاب الذي جاء به من البطريرك إلى ملك النوبة مع الأسطوانة في مدخل باب الهرم الكبير، وأن لهذه الأسطوانة شأنًا مهمًا يختص بدميانة، فأجمعا أمرهما على أن يستأذن له سعيد السجان ليذهب سرًّا إلى الهرم، فيأتي بالأسطوانة ويودعها عند سعيد ويرجع إلى السجن، وتم ذلك بما لسعيد من النفوذ في الدولة، وعاد زكريا بوديعته من الهرم وقصد إلى منزل سعيد رأسًا بعد توديعه دميانة وسمعان، فدخل عليه فوجده في انتظاره وقد استبطأه فأخذ يسأله عن السبب في الإبطاء وزكريا يتلعثم ولا يعرف كيف يبدأ الحديث لفرط لهفته، وكان السرور باديًا في حركاته وسكناته، وقد ذهبت الغمة التي كانت تغلبت عليه، فلم يكد يأخذ مقعدَه حتى ابتدره سعيد وقال: «لقد أبطأت وأنت تعلم أني ضمنت للسجان رجوعك عند العشاء، وها قد انتصف الليل، ولا يخفى عليك أَنَّ الشكوك محيطةٌ بنا من كل ناحية.» وكان زكريا يسمع ويضحك كأنه لا يُبالي ما يحدق به من الخطر، فاستغرب سعيد استخفافه فقال: «ما بالُك تستخفُّ بما أقول؟ هل أسكرك عثورك على الأسطوانة؟» قال: «لا، لا، ليس الأسطوانة بل دميانة …» فأجفل وصاح فيه: «دميانة! دميانة! ماذا تعني؟ ما بالها؟ أين هي؟» قال: «دميانة هنا.» فلم يتمالكْ أن وقف فجأة وصرخ: «دميانة هنا؟ أين؟ أين هي؟» وهَمَّ بالخُرُوج من الغرفة وهو يحسب دميانة في الدار، فاستوقفه زكريا وقال: «ليست في المنزل هنا، وإنما هي في البلد، هي قريبةٌ جدًّا من هذا المكان، دعنا منها الآن.» فنظر إليه، وأخذ يحدق في وجهه — وقد ظنه يمزح — وقال: «قل الصحيح يا زكريا، أين دميانة؟» قال: «قلت لك إنها قريبة من هذا المكان، ولكن لا سبيل إليها الآن، ولا تلبث أن تأتي.» قال: «وأين هي الآن؟» فنظر إليه جادًّا، وقال: «اصبر يا سيدي حتى أخرج من السجن، وعند ذلك أجمعك بدميانة، وهذه هي الأسطوانة.» وأخرج الكيس من تحت إبطه، ثم أخرج منه الأسطوانة والكتاب، وقال: «هذه الأسطوانة التي أخبرتك عنها، وهذا هو كتاب البطريرك ميخائيل إلى الملك النوبة، فاحتفظ بهما.» فتناول سعيد الأسطوانة وأخذ يقلبها بيده، وهي مختومة، وتناول الكتاب، وبينما هو يقلبه سمع دبدبة في صحن منزله وعلا صياح الخدم يستغيثون، فخرج ليعلم السبب، فرأى شرذمة من الجند دخلوا المنزل، وقال رئيسهم: «هذا هو اللص، أمسكوه.» وأشار إلى زكريا وأكب على الأسطوانة وأراد أن يخطفها من يد سعيد، وقال: «وهذه هي الأوراق المسروقة.» فقبض سعيد على الأسطوانة وجذبها إليه. وعرف أن الرجل الذي يكلمه إسطفانوس فانتهره قائلًا: «اذهب في سبيلك يا غلام وقف عند حدك.» فصاح أحد الجنود قائلًا: «أتينا بأمر الوالي للقبض على هذا السجين الهارب وما معه، وهذه الأسطوانة وهذا الكتاب كانا معه، فينبغي أن نأخذهما ونأخذه إلى السجن، وفي صباح الغد ينظر الوالي في أمره.» فقال سعيد: «خذوا الرجل إلى سجنه، وأما هذه الأشياء فتبقى عندي حتى أضعها بين يدي الوالي أو القاضي.» فصاح إسطفانوس: «بل نأخذها الآن وإن أبيتَ وعصيت فإن هذا الجُند يأخذونك أنت أيضًا إلى السجن؛ فقد تواطأت مع السارق على الخروج من السجن، وساعدته على إخفاء السرقة.» وقبل أن يُتم كلامه رفسه سعيد فألقاه في الخارج وصاح برجال قصره أن يخرجوه من المنزل، والتفت إلى عريف الجند وقال: «لا يغرنَّك كلام هذا الغر، وأصغ إلى ما أقوله لك. كنت عازمًا أن أسلم السجين إليكم تأخذونه إلى سجنه، وقد رأيت الآن أن أحتفظ به عندي، فمن كان له عليه طلب فليطلبْه مني.» فتهرب العريف سعيدًا، وخرج ومعه إسطفانوس يصيح ويهدد ويتوعد، ولما صار خارج البيت قال العريف: «اشهدوا أن اللص وما سرق عند صاحب هذا القصر.» وكان مرقس قد أخبر إسطفانوس بسرقة الأسطوانة، وأفهمه أنها إذا وقعت في يد دميانة قضت على ثروته ومستقبله، فأخذ إسطفانوس يراقب حركات زكريا والذين حوله، فعلم بمجيء سعيد إليه وبالإذن في خروجه، لكنه لم يره ساعة الخروج وإنما علم أنه برح السجن على أن يعود إليه بعد أن يمر ببيت سعيد، فاستخدم اسم أبيه بغير علمه، وأعد شرذمة من الجند ترابط قرب بيت سعيد، وقال لهم: «إذا دخل زكريا المنزل فاقبضوا عليه، واتهموا سعيدًا بالاشتراك معه.» وسار هو معهم؛ لعله يتمكن من خطف الأسطوانة. وقد أخرج هذا التدبير إلى حيز الفعل، لكنه لم ينجح في أخذ الأسطوانة والسجين، ورجع مخذولًا يتميز غيظًا، وسار توًّا إلى مرقس، وقص عليه ما جرى واستحثه على الشكوى من سعيد؛ لأنه خالف القوانين بإخراج اللص من السجن، ورفض تسليمه إلى الجُند؛ ولأنه — فوق ذلك — تواطأ مع البطريرك ميخائيل على مساعدة ملك النوبة في إخراج مصر مِن أيدي المسلمين وإرجاعها إلى ملك الروم، وكتاب هذا البطريرك إلى ملك النوبة موجودٌ مع الأسطوانة عند سعيد. فركب مرقس في اليوم التالي إلى القطائع، وطلب الدخول على المعلم حنا كاتب المارداني والد إسطفانوس، فسلم عليه ثم قَصَّ عليه أمره، وطلب إليه أن يساعده في حمل الوالي على الاقتصاص من سعيد؛ لجرأته على إنقاذ السارق وإخفاء السرقة. ولم يكن المعلم حنا يجهل أسبابَ هذه الخصومة، وكان في شاغلٍ عنها بمنصبه وأعماله، ولم يكن ابنُهُ إسطفانوس يجسر على مخاطبته بشأنٍ من الشئون حتى إنه كان أول مَن زهد أبا دميانة في خطبتها إلى ابنه، فلما سمع شكوى مرقس قال له: «هذا القضاء أمامك، ارفع شكواك إلى القاضي، وهو ينظر فيها ولا يضيع حقك.» فقال: «ربما انحازَ القاضي إلى سعيد؛ لأنه حائزٌ على رضى الوالي اليوم، فلا ينصفنا.» قال: «القاضي غيرُ متهم في ذمته، فإذا كانتْ دعواك حقًّا نلت حقك.» قال ذلك وحَوَّلَ وجهه؛ يتظاهرُ بالاهتمام بأُمُورٍ أخرى. فقال مرقس: «قد لا تهمك هذه الشئون ظنًّا منك أنها خاصةٌ بنا. ولكن سعيدًا وزكريا يتآمران بدولة المسلمين يُساعدان البطريرك ميخائيل في إرسال كُتُبه إلى ملك النوبة لقلب الدولة وإعادة البلاد إلى ملك الروم، وقد وقف الجُند على كتاب معهما من البطريرك إلى ملك النوبة، فأبى سعيدٌ تسليم الكتاب وقال إنه عنده مع الأسطوانة، يقدمهما عند الحاجة.» فمل المعلم حنا الحديث، وقد ساءه سَعْيُ مرقس في هذه الوشايات، لكنه استنكف أن يقول له ذلك في وجهه، فتلطف، وقال: «إذا كان لديك مثلُ هذه الأدلة، فقدمها للقاضي.» فخرج مرقس، ولقيه إسطفانوس، فخجل أن يعترف بما ناله من الفشل؛ لاستخفاف المعلم حنا بأقواله فقال: «إن أباك أشار علي بإقامة الدعوى.» فقال: «نعم الرأي، وها أنا ذا ذاهبٌ لأشكوه.» وكان إسطفانوس مسموع الكلمة عند أرباب المناصب إكرامًا لوالده، فرفع الدعوى إلى القاضي باسم مرقس مدعيًا أن الخادم زكريا الذي كان قد سجن لسرقة بيت سيده خرج من السجن خلسة بمساعدة سعيد المهندس الفرغاني، ولما ذهب الجندُ للقبض عليه طردهم سعيدٌ وأهانهم، ولم يسلم السارق. فلما طلب من القاضي النظر في هذه الدعوى دعا هذا المتهمين، فجاء سعيد وقال: «إني أطلب أن تنظر دعوانا أمام الوالي نفسه؛ لأن المسألة ذاتُ شأن» ••• لم يسع القاضي الامتناع، فرفع الأمر إلى ابن طولون، فطلب هذا حُضُور الجميع في غُرفة خاصة من قصره، فحضر مرقس وزكريا وسعيد، فأمرهم بالجلوس وهو يتفرس في وجوههم، فتذكر أنه رأى زكريا مرة قبل هذه، فسألهم: بأي لسان تتداعون؟» فقالوا: «بالعربية فإننا نفهمها جميعًا.» فقال: «من منكم المدعي؟» فوقف مرقس وقال: «أنا يا مولاي.» قال: «وما دعواك؟» قال: «دعواي على هذا النوبي، فقد عرفت عنه انه تآمر على سلامة وليِّ أمير المؤمنين مولانا الأمير مع هذا المهندس الفرغاني.» فالتفت ابن طولون إلى سعيد، وتفرس فيه كأنه يعاتبه فرآه مطمئنَّ البال لم يتغير، فأمر ابن طولون كاتبه أن يدون دعوى المعلم مرقس، ثم قال له: «اشرحْ لنا أولًا دعواك على هذا الرجل.» وأشار إلى زكريا. قال: «إنه كان خادمًا في منزلي، فاختلس أثناء غيابي عن طاء النمل كثيرًا من نقودي وأوراقي، ومن بينها أسطوانةٌ فيها أوراقٌ مختومةٌ لا يجوز فتحُها.» فالتفت ابن طولون إلى زكريا، فرآه مطرقًا متأدبًا، فقال: «ما تقول يا رجل؟» قال: «أنا أعترف يا مولاي أني سرقت من منزله هذه الأسطوانة — وأخرجها من جيبه — ولم أسرق شيئًا آخر، ولا أظنه يستطيع إثبات السرقة علي.» فلما رأى مرقس الأسطوانة في يد زكريا تقدم ومد يده ليأخذها منه، فامتنع زكريا ودفعها إلى ابن طولون، وقال: «إن لهذه الأسطوانة حديثًا سنصل إليه في أثناء الدفاع، فلتبق مع مولانا الأمير.» فرجع مرقس مدحورًا وازداد حنقًا فقال ابن طولون: «وماذا تعلم من دسائس هذا النوبي علينا؟» قال: «لما سرق الأسطوانة وغيرها من منزلي فَرَّ إلى دير أبي مقار فأرسلت في أثره رجلًا تعقبه، فعلم أنه حمل كتابًا من البطريرك ميخائيل إلى ملك النوبة؛ جوابًا على كتاب جاء من ذاك يحرضه فيه على السعي في إخراج مصر من حُكم المسلمين وإرجاعها إلى مُلك الروم.» فلما سمع ابن طولون الشكوى مال إلى تصديقها؛ لأنه كان قد سمع بشيءٍ من هذه الوقائع من قبل، فأراد أن يكون نقاشها بحضور البطريرك نفسه، فقال: «علمت أن البطريرك ميخائيل جاء الفسطاط بالأمس والأوْلى بنا إحضاره؛ ليكون الكلام في وجهه.» وصفَّق فجاء غلام أمره أن يدعو البطريرك ميخائيل إلى الجلسة لتأدية الشهادة. فتقدم زكريا عند ذلك، وقال: «لا يزال بعض المدعى عليهم غائبين، فإذا رأى مولانا أن يستقدم الباقين فعل.» قال: «ومن أيضًا؟» قال: «ابنة المعلم مرقس هذا فإنها شريكةٌ في سرقة الأسطوانة.» فقال: «من يحضرها؟» قال: «أنا أحضرها.» فوقع الكلام وقع السهام في قلب مرقس فأراد أن يعارض في إحضارها فقال: «لا يا سيدي إذا ذهب لا يرجع فإنه سريع الهرب.» قال زكريا: «يرسل مولاي من يشاء من الجند معي حتى أعود؛ فإن الفتاة على مقربة من هذا المكان.» فأمر ابن طولون بعض الحراس أن يذهبوا مع زكريا ويعودوا به، ومكث الأمير وسعيد ومرقس في انتظار مجيء البطريرك ودميانة. وشغل ذهن ابن طولون بما سمعه من اشتراك سعيد في الدسائس على الدولة، فنظر إليه وقال: «سعيد! ألم نرفع قدرك ونجعلك من خاصتنا؟» قال: «ومن ينكر ذلك؟ إني غارق في نِعم مولاي الأمير، وحاش لله أن أسعى في غير خدمته.» قال: «فالمعلم مرقس كاذب فيما يقول؟» قال: «سيظهر ذلك قريبًا يا سيدي. وهذا هو الكتاب الذي يزعم أن زكريا حمله من البطريرك ميخائيل إلى ملك النوبة.» قال ذلك ودفع الكتاب مختومًا إلى ابن طولون، فوضعه بين يديه بجانب الأسطوانة، وأجَّل فضه حتى يحضر البطريرك. وبعد قليل جاء الحاجب يقول: «إن البطريرك بالباب.» فأمر ابن طولون بدخوله، فدخل وعليه لباسه الرسمي وقد بدت الدهشة في وجهه، فوقف له الحضور وابن طولون أيضًا ودعاه إلى الجلوس على كرسيٍّ بجانبه، فجلس وأول ما وقع بصرُهُ عليه كتابه إلى ملك النوبة بين يدي ابن طولون، استغرب ذلك والتفت فوجد المعلم مرقس، وكان يعرفه ويعرف قصة ابنته مع إسطفانوس وكذلك سعيدًا. ولم يكد يستقر به المقام حتى دخل الآذن ينبئ بمجيء زكريا ودميانة، فدخلا وفي أثرهما سمعان النوبي، فوقف في بعض أطراف القاعة. فلما وقع نظر البطريرك على زكريا ودميانة أدرك الغرض من حضوره، فوجه ابن طولون كلامه إلى البطريرك أولًا لعظم شأن تهمته، وقال: «أليس هذا الكتاب منك؟» وأراه الكتاب وقال: «بلى.» قال: «أليس خاتمك عليه؟» قال: «بلى يا سيدي.» قال: «وأرسلته إلى ملك النوبة، وحدثته فيه عن إخراج هذه البلاد من حوزة المسلمين؟» قال: «نعم يا سيدي.» قال: «أبلغ، من أمرك أن تتواطأ مع عدونا علينا؟» فتبسم البطريرك وقال: «إن الأمير يتهمني بما سمعه من الوشاة، وهم — لسوء الحظ — من أبنائي ورعيتي. فقد قالوا إني خائنٌ وإني أتآمر بك وأدس الدسائس، وقد استولَوا على كتابي هذا على غير علمٍ مني فما على الأمير إلا أن يفضَّه ويأمر بتلاوته، فيعرف الحقيقة، فإن كنت خائنًا فقد حق علي ما ضربتموه من الأموال التي أثقلت كاهلي، وإن أكن بريئًا فالأمرُ مفوضٌ للأمير.» قال ذلك وقد بدا التأثرُ في عينيه وفي كل كيانه. فقال ابن طولون: «صدقت. وأشار إلى الكاتب بين يديه، وقال: «أنت تقرأ القبطية؟» فوقف الكاتب، وقال: «نعم يا سيدي.» جاءنا منك كتبٌ غير قليلة تدعونا فيها إلى خلع طاعة حُكامنا المسلمين والرجوع إلى سلطان الروم، ولو كان خيرًا من سواهم لَمَا خرجنا من طاعتهم ورضينا أن يحكمنا غيرهم، وهؤلاء العرب قد تعودناهم وتعودونا، وهم خيرٌ لنا من أولئك، ولا أنكر أَنَّ بعض الولاة المسلمين كانوا أهل ظُلم وقسوة، ساموا أبناءنا الأقباط العذاب، ولكنهم على الإجمال أهل عدل ورفق، وأخص أميرنا الحالي أحمد بن طولون؛ فإنه ما انفك منذ تولى مصر يرفع المظالم ويكف الأذى عن طائفتنا، على أنك لو تدبرت ما لَحِقَنَا من الأذى على عهد هؤلاء العرب؛ لوجدت الحق علينا نحن، لفساد نياتنا وانقسامنا فيما بيننا، إذ يتهم بعضنا بعضًا ويشي بعضنا ببعض الضغائن في الصدور. وأقرب شاهد على ذلك ما وقع لنا، فإن بعض الأساقفة قَصَّرَ في واجبات الكنيسة، فحرمته فحقد علي ووشى بي إلى الوالي زاعمًا أني صاحبُ مالٍ كثير، وأشار عليه أن يطالبني بأموالٍ تلزمني للدولة، فضربوا عليَّ ضرائب يعلم السيد المسيح أني عاجز عن نصفها وربعها، ولكن الوالي لا يصدق قولي. هذا مثلٌ ضربته لك فاعتبرْ به. ورأيي أن نقنع بالرضوخ لحُكَّامنا هؤلاء، فهم خيرٌ لنا مِن سواهم، وإذا وجدنا في بعضهم عيبًا فقد كان في وُلاة الروم قبلهم ما هو شرٌّ وأدهى. وفي الختام أهديك البركة والدعاء ونطلب إلى المولى أن يُصلح نياتنا ويجمع قلوبنا فنحسن معاملة حكامنا لنا، والسلام. كان الكاتب يقرأ ويترجم والحضورُ يسمعون والبطريرك مطرقٌ ينتظر النتيجة. ولم يأت الكاتب على آخر الكتاب حتى انبسط وجهُ ابن طولون بعد أن كان منقبضًا، فالتفت إلى البطريرك وقال: «لقد أسأْنا عشرتك وسمعنا الوشاية فيك. والله لو كان كل أبناء طائفتك على رأيك لكانوا أسعدَ حالًا وأنعم بالًا، فوجب علينا التخفيف عنك، وقد أتت هذه الشكوى لك لا عليك.» قال: «هذه إرادة الرب.» فالتفت ابن طولون إلى مرقس، وقال: «هذه دعواك يا معلم مرقس قد سقطت، فأين هي الأخرى.» فوقع مرقس في حيرة، ثم أراد أن يحتال لإيقاع زكريا، فقال: «إن أبانا البطريرك قد تبرأ بنص كتابه ولكن حامل الكتاب لا يبرأ؛ لأنه حمل الكتاب إلى مَلِكِ النوبة، وهو يظن فيه تآمرًا، وقبل أن يكون وسيطًا فيه. وما كان يسعى له أن يحمله، ولكنه نوبيٌّ يخدم مصلحة ملكه، ولو علم أن الكتاب بالمعنى الذي سمعنا لم يحمله.» فقال ابن طولون: «الواقع أن الكتاب واضحُ المعنى والمبني، وليس في حمله إلا خدمة لحكومة المسلمين، جزاه الله عنا خيرًا. والآن ننتقل إلى دعواك الأخرى، ولا بأس من بيانها بحضور البطريرك.» فقال زكريا: «بل حضور غبطته ضروري.» فتغيرت سحنة مرقس وبدا الاضطرابُ عليه، وتلعثم لسانُهُ والحضور يتسمعون لسماع دعواه، ولما أبطأ تقدم زكريا، فقال: «أستأذن سيدي الأمير في أن أنوب عن المعلم مرقس في الكلام.» فقطع مرقس كلامَه قائلًا: «مَن أنابك عني؟ أنا أتكلم عن نفسي.» فسكت زكريا وتراجع ودميانة واقفةٌ وقلبها يخفق؛ شفقة على أبيها وطال سكوت مرقس فقال زكريا: «للمعلم مرقس شريك في الدعوى فليأمر الأمير بإحضاره.» قال: «من هو؟» قال: «إسطفانوس ابن المعلم حنا كاتب الخراج.» فأمر ابن طولون بإحضاره، فجاءوا به، وأوقفوه بجانب المعلم مرقس، ولم يفتح عليه هو أيضًا بالكلام، واعتذر بألمٍ أصابه يمنعُهُ من التكلُّم، فأمر ابن طولون بإجلاسه والتفت إلى زكريا وقال: «قُلْ يا أسمر ما تعرف من أمر هذه القضية؟» إن مارية القبطية وهبت ابنتها بالروح دميانة بنت المعلم مرقس قريتها طاء النمل كلها وما يلحقها من المغارس، وتدار هذه القرية بإرشاد أبيها، ولا يحق له أن يتصرف فيها، فإذا بلغت ابنتُهُ رشدها وتزوجت؛ آلتْ إدارتها إليها، ورفعت يد أبيها عنها … إلخ. وكان الحضورُ يسمعون ما يتلوه الكاتبُ وعيونهم على مرقس، وهو مطرقٌ والعرقُ يتقطَّر مِنْ وجهه، وصدرُهُ يعلو ويهبط من عبر تنفسه فلما فرغ الكاتب من القراءة قال ابن طولون: «ألا يوجد شهود؟» قال الكاتب: «نعم يا سيدي، إني أقرأ اسمي ميخائيل ومنقريوس.» فقال البطريرك: «إن ميخائيل اسمي وكنت لا أزال أسقفًا، وأشهد أن مارية القبطية وهبت الفتاة تلك القرية. وأما منقريوس، فإنه قسيس طاء النمل وهو مقيمٌ هناك حتى الساعة.» فقال ابن طولون: «نكتفي بشهادتك.» والتفت إلى زكريا، وقال: «هل فرغتَ من حديثك يا أسمر؟» قال: «كلا يا سيدي؟ لا أزالُ في أول الحديث، فهل أتمه؟» وكان ابن طولون قد تَوَسَّمَ الصدق في لهجته فقال له: «أتمه.» قال: «ولرغبة مارية في رعاية هذه الفتاة وهبتني لها، وأمرتني أن أبقى في خدمتها حتى تشب وتتزوج، فأطعتها ولازمت البنت من طفولتها، ولا أزال إلى الآن، وسأبقى ما دمت حيًّا. فنشأت البنت في كنف تربية حسنة غرستْها فيها والدتها — رحمها الله — فإنها كانت تقية طيبة العنصر. فنشأت ابنتها مثلها تحب الصلاة والعبادة، وفيها ميل إلى البر والإحسان، وبلغت هذه السن ولم تعلم بما في هذه الأسطوانة؛ لأن أباها كان يُبالغ في إخفائها عنها وأنا صابرٌ عليه؛ لعله يرعوي. فرأيته بعد أن ماتت زوجتُهُ أم دميانة قد عكف على التسرِّي واقتناء الجواري وتعاطي المسكر والانغماس في القصف واللهو، والبنت تكره ذلك فيه وهو لا يلتفت إليها. وأخيرًا أراد أن يزوجها بشاب على شاكلته هو هذا الواقف أمامكم — وأشار إلى إسطفانوس — تقربًا لأبيه مع أن أباه تبرأ منه، فتواطأ مع إسطفانوس على إخفاء أمر الوصية والتمتُّع بالأموال، وكلاهما سكير فاسق.» فلما وصل إلى ذلك تنفس الصعداء ليستريح، ثم تحول إلى سعيد فأمسكه بيده، وأتم حديثه قائلًا: «وأما الفتاة فعرفت هذا الشهم ولا أزيدكم تعريفًا بمناقبه، وكان مقيمًا عند جارهم أبي الحسن البغدادي وتواعدا على الاقتران، وكان هو يعمل في حفر العين بالمغافر. فعلم إسطفانوس بذلك وخاف إذا نجح سعيد في حفر العين أن يعظم في عينَي الأمير ويأخذ دميانة، فكاد له كيدًا لا يرتكبه أعظمُ الأشرار. أوصى بعض رجاله بأن يضع قصرية الجير في المكان الذي يعلمه الأمير حتى حدث ما حدث من إجفال جواده ووقوعه، وظن يومئذٍ مولاي أن ذلك من تقصير سعيد، فأمر بضربه وسجنه، ثم أطلق سراحه لأجل بناء الجامع. ولعل الأمير يذكر أني ذكرت له اسم سعيد وأنه أقدر من يبني الجامع على ما يريده مولاي.» فهز ابن طولون رأسه موافقًا. فعاد زكريا إلى الكلام قائلًا: «وبعد أن أوقعوا سعيدًا في الفخ أرادوا إكراه الفتاة على الزواج بإسطفانوس، ولم يطعني ضميري على ذلك — وأنا عالم بالحقيقة — ففررت بها فخبأتها في حلوان وذهبت وأخذت هذه الأسطوانة لأطالب بحق الفتاة، ولما رجعت إلى حلوان رأيت الفتاة قد أخذها البجة سبية، فرأيت أن أوسط أبانا البطريرك في استنجاد ملك النوبة على البجة، فسرت إليه في دير أبي مقار، فأعطاني هذا الكتاب وفي ذيله توصية بي لملك البجة. فحملتها وكان يتعقبني جاسوسٌ أرسله هذا المعلم في أثري — كما قال — وأنا لا أدري، ولما وصلت إلى الأهرام جاء برجاله للقبض عليَّ، فلما تحققت وقوعي في قبضتهم أخفيت الأسطوانة والكتب في مدخل الأهرام، وقبضوا علي وسجنوني، ثم احتلت على الخُرُوج بوساطة مولاي سعيد المهندس؛ لآتي بالكيس، فعثرت على مولاتي دميانة ومعها هذا النوبي (وأشار إلى سمعان) وهو الذي جاء بها من بلاد البجة. وعلم هؤلاء بخروجي فاحتالوا ليأخذوا الأسطوانة فلم يفلحوا، وأرادوا الشر فعاد عليهم. وأنا لا أرب لي في كل ما تقدم إلا القيام بالمهمة التي عهدت بها إلى السيدة مارية، فقد تعهدت أن أخدم هذه الفتاة وأرعى مصلحتها، وقد بذلت جهدي في ذلك والأمر لمولانا.» قال ذلك وتراجع ووقف والجميع سكوتٌ كأن على رءوسهم الطير، ينتظرون ما يصدر من الحكم، فإذا ابن طولون يقول: «إن حديثك يا أسمر مع طوله لا يُمل، لقد كشفت عن خفايا كثيرة.» والتفت إلى مرقس وإسطفانوس وقال: «هل لديكما ما تدفعان به عن نفسيكما؟» وكان مرقس مطرقًا يكاد يذوب خجلًا، وقد ارتج عليه أما إسطفانوس فعظم عليه السكوت، فقال: «إن التهمة التي وَجَّهَهَا إليَّ هذا النوبي لا دليل على صحتها، وكيف يتأتى لي أن أدس قصرية الجير؟» فتقدم زكريا وقال: «أنا لا أقول إني نظرتك تفعل ذلك، ولكنني أستدل من قرائنَ كثيرة أنك أنت الفاعل.» فقطع ابن طولون كلامه قائلًا: «أنا أيضًا أؤيد هذا القول بدليل تذكرته الآن، هو أن بعض الناس من أبناء طائفتك — ولعلهم من ذوي قرباك — كانوا يقبحون عمل هذا المهندس لدي ويبغضونه إلي بكل وسيلة، وأنا أسمع لهم معتقدًا إخلاصهم، فلما كنا جوادي في قصرية الجير، وذكروا أن سعيدًا فعل ذلك متعمدًا ليقتلني، فصدقتهم، وإنني أشكر زكريا؛ لأنه كان الوسيلة إلى إخراجه من السجن وإلى إرشادي إلى مقدرته في فن الهندسة — لله درك من خادم أمين نصوح.» وكان البطريرك مصغيًا فلما سمع قول ابن طولون هز رأسه متعجبًا وهو يمشط لحيته بأنامله وقال: «سبحان الله! إن الضرر لا يأتينا إلا منا؛ يسيء بعضنا إلى بعض ويُفسد بعضنا أعمال بعض.» فصاح إسطفانوس: «إن هذا الشاب — وأشار إلى سعيد — لطمني ورماني في صحن الكنيسة ليلة الاحتفال بِعِيدِ الشهيد، فأغضيت عنه، ولم أُرِدْ أذيته، فكيف أسعى ضده؟» فقال زكريا: «أغضيت عن عجز، ولو استطعت قتله ما تأخرت، ولكنك جبان خسيس.» فصرخ إسطفانوس: «أتهينني في حضرة الأمير؟» فأشار ابن طولون فسكتا، وقال: «إن ادعاءك أن سعيدًا ضربك مع ما ظهر منك لنا من أخلاقك؛ يؤكد لنا أنك تعمدت أذاه بوضع قصرية الجير.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/91708090/
أحمد بن طولون
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. تدخل رواية «أحمد بن طولون» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. ويجمع هذا العمل بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية الهامة التي وقعت في عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة في أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، في العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان في هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التي اعتمد في ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
https://www.hindawi.org/books/91708090/14/
زواج الحبيبين
كان مرقس يسمع ما يقولون، ويترقب فرصة تُخَوِّله الكلام؛ ليغطي خجله، فلما رأى التهمة تثبت على إسطفانوس وجه كلامه إليه، وقال: «اسكت يا إسطفانوس؛ فإنك حقًّا لئيمُ الطبع، قد خدعتني كما خدعت سواي، فأنا أشهد أنك تعمدت أذى جارنا وولدنا سعيد. أردت أن تتخلص منه لتبقي دميانة لك. هذا هو الصحيح.» فلما سمع إسطفانوس هذه الشهادة عليه من زميله وصديقه وشريكه في سيئاته حمي غضبُهُ، وقال له: «أتقول هذا وأنت الذي أغريتني به؟ وكم حببت إلي الزواج بابنتك وأنا أجيبك أنها لا تحبني، فأبيت وأصررت على أن أتزوجها لا لسبب غير طمعك في مالها؟» فقال مرقس: «هذا غير صحيح …» وضحك ضحكة استخفاف. وقال: «طمعًا في مالها؟ أليس مالها ومالي سواء؟» قال: «أَوَتضحك أيضًا، وتقول إن مالك ومالها سواء؟ ألم تخبرني بهذه الوصية وتتفق معي على أن نكون شركاء في إرث الفتاة وهي لا تعلم؟ أنت أغريتني وغششتني، فأنت وحدك سبب هذا الشقاء. لتتمتع بالملذات والشهوات.» قال ذلك وقد بُحَّ صوتُهُ وخرج عن طور العقل لشدة الغضب. فانتهره ابنُ طولون قائلًا: «يكفي، قد عرفناكما وعرفنا فَضْلَ مهندسنا الحكيم، وسنرفع منزلتَه ونعوضُهُ عما لحقه من الأذى بسبب تلك الوشاية، وسنزف إليه عروسه على نفقتنا باحتفال ينسيها ما قاسياه ويتولى عقد الإكليل غبطة البطريرك الجليل.» قال ذلك ونظر إلى دميانة وكانت جالسة على مقعد بالقرب من زكريا تسمع ما يدور من الأحاديث ولا تفهم إلا نتفًا قليلة لجهلها اللغة العربية. فكان زكريا يترجم لها باختصار. على أن اشتغال قلبها بسعيد وتتبعها حركاته وسكناته كانا يشغلانها عن سماع كل شيء. إذ مضت عليها مدة وهي لم تره. واتفق أنها رأته للمرة الأولى في تلك الجلسة فاضطرت إلى أن تغالب عواطفها وتصبر على نفسها إلى آخر الجلسة. وقد أهمها من الجهة الأخرى الاطلاع على ما كان محدقًا بها من الأسرار ولا سيما مسألة الأسطوانة وما فيها. فلما اطلعت على فحواها طار قلبها من الفرح ولا سيما حين سمعت ما قاله ابن طولون لخطيبها وأنه سيرفع قدره وينفق على العرس من ماله. فإن ذلك فوق ما كانت تتمناه. إني لا أستطيع التعبير عن أفكاري بالعربية، فأقولها بالقبطية وأتقدم إلى أبينا البطريرك أن ينقلها إليكم بالعربية، لقد غمرتنا أيها الأمير بفضلك وأنا شاهدت العصي تتساقط على سعيد — وأشارت إليه — شاهدتها بعيني ولم يخطر لي أن أضع الحق عليك، وقد علمت من ذلك اليوم أنها دسيسة، إنك أيها الأمير أتيت نعمة لبلادنا كما قال أبونا البطريرك وأحمد الله؛ لأنه أظهر الحق على يد العم زكريا، فإن لهذا العم الطيب القلب فضلًا كبيرًا في كشف هذه الأسرار، وقد فعل ذلك لا لمطمع غير القيام بوعده ونصرة الحق. وظهرت دمعتان في عينيها، وأشارت بيدها إلى أبيها وقالت: «نعم إن أبي قد أساء إلي، ولا أدري أكان ذلك من تلقاء نفسه أو بإغراءٍ مِنْ سواه، فمهما يكن فإني أتقدم إلى مولاي الأمير بأن يعفو عنه؛ فإني لا أكون سعيدة إن لم يكن والدي أيضًا سعيدًا.» فترجم البطريرك كلامها. أما والدُها فلما سمع قولها غلب عليه البكاءُ لفرط ندمه، وقال لها: «لقد جمعت نارًا على رأسي، إني قد أسأت إليك من كل وجه، ولا شك أن عنصرك أطيب من عنصري؛ فقد كنت أريد أن أكون سعيدًا ولو شقيت أنت، أما أنت فتقولين إنك لا تسعدين إن لم يكن أبوك سعيدًا، فاصفحي عن ذنوبي، وها أنا ذا أشهد الأمير وسائر الحاضرين على أني سأرجع عن كل ما يغضبك في سلوكي، وأكون طوع إرادتك؛ لأنك أقرب مني إلى الرشاد وأدنى إلى الصواب.» فلما رأى إسطفانوس ما جرى صاح: «وأنا يا دميانة، وأنا؟» قالت: «إني أترك أمرك إلى سعيد؛ فإنه صاحب الشأن معك.» فتقدم سعيد وقال: «إذا جاز لي يا مولاي أن أتكلم فإني ألتمس من مولاي أن يصفح عن إسطفانوس؛ فإنه فعل ما فعل بدافع الضعف الإنساني، ولا يجديني أن أراه يذوق العذاب ولا سيما وقد ظهر عليه الندم.» فقال إسطفانوس: «نعم ندمت ومن ذا الذي يرى هذه الأخلاق العالية وهذه الصدور الرحبة ولا يندم؟ إني أحب أن أكون من أحقر أصدقائك.» فقال: «دعنا من الصداقة، فقد صفحت عنك والسلام.» فأشار ابن طولون إشارة سكت لها الجميع وأصغوا لما يقول فقال: «يسرني أنكم تصالحتم وسأؤيد هذا الصلح لاحتفال العرس الذي سأُقيمه بعد قليل بحضور الأب البطريرك.» وفهم الحضورُ أنه يُريد الانصرافَ فنهضوا وإذا بصوتٍ خرج من طرف القاعة، فالتفت الجميعُ فرأوا سمعان النوبي، وكان واقفًا يسمع ما يقال، فلما سمع ما قاله زكريا عن أصله وأنه كان من جملة هدية ملك النوبة للمأمون؛ علم أنه أخوه الضائع وأحب أن يتصدى للكرم فلم يسعفه المقام، فظل صابرًا حتى فرغ القوم من المحاكمة، فتقدم وقال: «يأذن لي الأمير في كلمة، إني رسول ملك النوبة إلى البطريرك؛ لأحضه على ما حَضَّهُ عليه سواي من قبل، أما بعد أن شاهدت مِنْ عدلك وعظيم خلقك ما شاهدت؛ فإني أرى غير رأي ملك النوبة، وأنا عائد إليه لِأُثنيه عن عزمه، وأعيد العلاقة بينه وبين المسلمين إلى خير ما تكون.» فقال ابنُ طولون غير مكترث: «لك ذلك.» وتحول، وخرج من بابٍ خاصٍّ في تلك القاعة، وبقي الحضور يتصافحون ويتصالحون والبطريرك يباركهم ويخفف عنهم فقَبَّلَت دميانةُ يد أبيها، فقبلها هو وبكى، ووعدها بأن يخرج من في منزله من السراري والجواري وأن يعيش لله ولها ويكون طوع إرادتها، وتقدم إسطفانوس إلى سعيد يستغفر ذنبه ويصالحه، فقال له: «ليس في نفسي شيءٌ منك، وقد صفحت عما فعلته، لكنني لا أميل إلى مصادقتك؛ لأن من كان لا يغضب لنفسه ولا يحفظ كرامتها لا يليق بالصداقة.» فلما سمع إسطفانوس قوله كاد يذوب من الخجل، وتحول، وخرج وهو يبكي، فأشفق سعيد عليه وقال له: «إذا شئت أن نكون أصدقاء فأصغ لما يقوله أبوك؛ فإنه أطيب الناس قلبًا وأحسنهم خلقًا، فإذا عملت برأيه كنت من أصدقائنا.» وأما سمعان فأكب على زكريا، وجعل يقبله ويقول له: «أخي إبراهيم! إبراهيم» فبغت زكريا والتفت إلى سمعان وتفرس فيه وقال: «أخي سمعان، أخي حقيقة!» وتعانقا. وكان أجمل منظر بين أولئك المجتمعين وأوقعه في النفس هو اجتماع سعيد بدميانة، فقد تخاطبا وتشاكيا طويلًا بلسان لا يفهمه سواهما، أعني: لسان العيون فضلًا عن الكلام، وطال وقوفهما وفرغ الآخرون من أحاديثهم وهما غارقان في حديث المحبين، فتقدم زكريا أخيرًا وقال «هل تريد مولاتي أن تخرج، وإلى أين؟» فانتبهت لنفسها، وسألت سعيدًا فقال: «هل تأتون إلى قصري هنا؟» فخجلت دميانة من هذه الدعوة وأدرك زكريا خجلها فقال: «نذهب الآن إلى دير المعلقة؛ لأن سيدتي تحب الأديار، وأظن أبانا البطريرك نازلًا هناك؟» فأشار البطريرك أن نعم، فقال: «فنذهب إذن إلى هناك للتبرك، وريثما يأمر الأمير بعقد الزواج فنجتمع ونقيم بقصر المهندس الفرغاني.» فصاح أبوها: «بل نُقيم بقريتها طاء النمل حيث تأمر وتنهى.» ففرحت بكلام أبيها، ومشت هي وزكريا والبطريرك إلى دير المعلقة ومعهم سمعان، وذهب سعيدٌ إلى قصره ومضى إسطفانوس كاسف البال إلى أبيه يستغفره ويرجو عفوه، وبقي مرقس، فقال لابنته: «هل أرافقك إلى الدير؟» فضحكت وقالت: «إن لهذا الدير فضلًا عليَّ؛ فقد بدأتْ متاعبي فيه، ولكن قد مضى ما مضى، فتعال معنا؛ فأنت أبي وسيدي.» فمشى معهم واحتفلت رئيسة الدير بقدومهم. وبعد أيام أمر ابن طولون بإعداد معدات العرس لزفاف دميانة إلى سعيد، فبعث سعيد إلى صديقه أبي الحسن البغدادي، فأتى وقد فرح بما جرى، وبعثت دميانة إلى الأب منقريوس قسيس قريتها ليفرح معها فأتى، فزينوا القطائع كُلَّها بالأنوار والرياحين، وكان احتفالًا مثل احتفالات الملوك، وظَلَّ أهل الفسطاط يتحدثون به أعوامًا، وسكنت دميانةُ مع سعيد في قصره أيامًا، ثم انتقلا إلى طاء النمل، وسكنا في قصر أبيها أو قصر مارية القبطية، وكان أبوها قد أخلاه من السراري والجواري وجعله لائقًا بذينك العروسين الطاهرين. وقضى مرقس بقية عمره يبذل وسعه في إرضاء ابنته وزوجها، وكان زكريا من أعظمهم سرورًا بذلك، وعاش بقية عمره معززًا مكرمًا، وأما أخوه سمعان فإنه رجع إلى بلاد النوبة؛ ليثني ملكها عن مناوأة المسلمين، فأفلح وعاد وأقام بطاء النمل، وأما الأب منقريوس — قسيس تلك القرية — فقد فرح بظهور الحق؛ لأنه كان من الذين شهدوا وصية مارية.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/0.1/
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحان من سيَّر أقدام الأنام إلى ما مضى في سابقُ علمه، ويسر للإنسان الأقدام على محتم قضائه حكمُه، فلا محيص لقوي وضعيف، وشريف، عما جرى في أم الكتاب، ولا مفر لغني وفقير، وخطير وحقير، عن الاقتراب إلى مطوي ذلك الحجاب. أحمده — سبحانه وتعالى — حمْد من أبلاه فصبر، وأغناه فشكر، وأشكره شكر من توجه بجنانه للسير إلى مرضاته، فتنزه في رياض القبول وجناته، وأصلي وأسلم على من سارت ركائب شوقه إلى مدبره، وأشارت مواكب حسن خلقه إلى طيب عنصره: سيدنا محمد الذي سافر إلى الشام، وهاجر إلى المدينة، وسار من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وكان جبريل أمينه، وعلى آله وأصحابه، وعترته وأحبابه. أما بعد: فيقول العبد الفقير إلى أمداد سيده ومولاه، السائر حيث وجهه وولاه، المعتمد على الكريم النافع، رفاعة ابن المرحوم السيد بدوي رافع الطهطاوي بلدًا، الحُسيني القاسمي نسبًا، الشافعي مذهبًا: لما منّ الله — سبحانه وتعالى — عليَّ بطلب العلم بالجامع الأزهر والمحل الأنور، الذي هو جنة علم دانية الثمار، وروضة فهم يانعة الأزهار، كما قال أستاذنا العلامة العطار: وقال بعضهم — وأحبِسنَّ — بيتين، معرضًا بعلماء الحرمين: وقد أشهدت الله — سبحانه وتعالى — على ألا أحيد في جميع ما أقوله عن طريق الحق، وأن أفشي ما سمح به خاطري من الحكم باستحسان بعض أمور هذه البلاد وعوائدها، على حسب ما يقتضيه الحال، ومن المعلوم أنني لا أستحسن إلا ما لم يخالف نص الشريعة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأشرف التحية. وقد رتبتها على مقدمة، وفيها عدة أبواب، وعلى مقصد، وفيه عدة مقالات، وكل مقالة فيها عدة فصول، أو كتب مشتملة على فصول، وعلى خاتمة، راجع الفهرست في أول الكتاب. وقد حاولت في تأليف هذا الكتاب سلوك طريق الإيجاز، وارتكاب السهولة في التعبير؛ حتى يمكن لكل الناس الورود على حياضه، والوفود على رياضه، ولو صغر حجمه، وقل جرمه، فهو مشحون بما لا يحصى، من فوائد الفرائد، وبما لا يستقصى، من جزائل الخراد. (شعر): وأسأل الله — سبحانه وتعالى — أن يجعل هذا الكتاب مقبولاً، (لدى الخاص والعام) وأن يوقظ به من نوم الغفلة سائر أمم الإسلام من عرب وعجم. إنه سميع مجيب، قاصده لا يخيب.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/0.2/
المقدمة
في ذكر ما يظهر لي من سبب ارتجالنا إلى هذه البلاد، التي هي ديار كفر وعناد، وبعيدة عنا غاية الابتعاد، وكثيرة المصاريف؛ لشدة غلو الأسعار فيها غاية الاشتداد. أقول: إن هذا يحتاج إلى تمهيد، وهو أن الأصل في الإنسان الساذجية، والخلوص عن الزينة، والوجود على أصل الفطرة، لا يعرف إلا الأمور الوجدانية، ثم طرأ على بعض الناس عدةُ معارف لم يسبق بها، وإنما كشفت له بالصدفة والاتفاق، أو بالإلهام والإيحاء. وحكم الشرع أو العقل بنفعها، فاتبعت وأبقيت. مثلاً: كان في أوائل الزمن، يجهل بعض الناس تنضيج المطعومات بالنيران؛ لجهل النار بالكلية عندهم، ويقتصرون على الغذاء بالفواكه أو بالأشياء المنضجة بالشمس، أو أكل الأشياء النيئة، كما هو باق في بعض البلاد المتوحشة إلى الآن، ثم حصل اتفاقًا أن بعضهم رأى خروج شرارة نار من الصوان، بمصادمة حديدة أو نحوها، ففعل مثل ذلك، وقدم وأخرج النار وعرف خاصيتها، وكان (ص ٧) في الناس من يجهل الصبغ والتلوين للثياب باللون الأرجواني مثلاً، فرأى بعضهم كلبًا أخذ محارة من البحر، وفتحها وأكل ما فيها، فاحمر حنكه، وتلون بما فيها، فأخذوها، وعرفوا منها صناعة الصباغة بهذا اللون، كما يحكى ذلك عن أهالي «صور» ببر الشام. وكانت الناس في أول الأمر تجهل ركوب البحر، ثم بإلهام إلهي، أو باتفاق بشري، عرفوا أن من خواص الخشب السبح على وجه الماء، فصنعوا السفينة، ثم تبحروا في السفن، وعمروها، ونوعوها أنواعًا، فكانت أولاً صغيرة للتجارات، ثم ترفعوا فيها، حتى صلحت للجهاد والحرب، وقس على ذلك ما أشبهه، من المحاربة بالسهام والرماح أولاً، ثم بعد ذلك بالسلاح، ثم بالمدافع والأهوان. مثال المرتبة الأولى: همل بلاد [المتوحشين] الذين هم دائمًا كالبهائم السارحة، لا يعرفون الحلال من الحرام، ولا يقرءون، ولا يكتبون، ولا يعرفون شيئًا عن الأمور المسهلة للمعاش، أو النافعة للمعاد، وإنما تبعثهم الوجدانية على قضاء شهواتهم كالبهائم، فيزرعون بعض شيء، أو يصيدونه، لتحصيل قوتهم، ويخصون بعض أخصاص أو خيام، للتوقي من حر الشمس ونحوه. ومثال المرتبة الثانية: عرب البادية، فإن عندهم نوعًا من الاجتماع الإنساني، والاستئناس، والائتلاف، معرفتهم الحلال من الحرام، والقراءة والكتابة وغيرها، وأمور الدين، ونحو ذلك غير أنهم أيضًا لم تكمل عندهم درجة الترقي في أمور المعاش، والعمران، والصنائع البشرية، والعلوم العقلية والنقلية، وإن عرفوا البناء، والفلاحة، وتربية البهائم، ونحو ذلك. وهذه المرتبة الثالثة تتفاوت في علومها وفنونها، وحسن حالها، وتقليد شريعة من الشرائع، وتقدمها في النجابة والبراعة في الصنائع المعاشية. مثلاً: البلاد الإفرنجية قد بلغت أقصى مراتب البراعة في العلوم الرياضية، والطبيعة، وما وراء الطبيعة أصولها وفروعها، ولبعضهم نوع مشاركة في بعض العلوم العربية، وتوصلوا إلى فهم دقائقها وأسرارها، كما سنذكره، غير أنهم لم يهتدوا إلى الطريق المستقيم، ولم يسلُكوا سبيل النجاة، ولم يرشدوا إلى الدين الحق، ومنهج الصدق. ويعجبني أيضًا قولهم في هذا المعنى عند المكافأة: وكذلك الملك «عبد الرحمن الناصر» صاحب الأندلس، فإنه طلب من ملك «قسطنطينية» المسمى «أرمانيوس» أن يبعث إليه رجلاً يتكلم باللسان اليوناني واللاطيني ليعلم له عبيدًا يكونون مترجمين عنده، فبعث له راهبًا يسمى: «نقولا» على غير ذلك. فمن هنا تفهم أن العلوم لا تنتشر في عصر إلا بإعانة صاحب الدولة لأهله، وفي الأمثال الحكمية: «الناس على دين ملوكهم». وقد تشتت عز الخلفاء، وانهدم ملكهم، فانظر إلى الأندلس، فإنها بأيدي النصارى الأسبانيول، من نحو ثلاثمائة وخمسين سنة. وقد قويت شوكة الإفرنج ببراعتهم، وتدبيرهم، بل وعدلهم ومعرفتهم في الحروب، وتنوعهم واختراعهم فيها، ولولا أن الإسلام منصور بقدرة الله — سبحانه وتعالى — لكان كلاشيء، بالنسبة لقوتهم وسوادِهم، وثروتهم، وبراعتهم وغير ذلك. ومن المثل المشهورة: «إن أعقل الحكام أبصرَهم بعواقب الأمور». ولا يتأتى لإنسان أن ينكر أن الفنون والصنائع الغربية بمصر قد برعت الآن، بل وقد أجدت بعد أن لم تكن، ويرجى بلوغُها درجة كمال وفوقان، فما أنفقه (الوالي) على ذلك كان في محله اتفاقًا، فانظر إلى «الورش» والمعامل والمدارس ونحوها، وانظر إلى ترتيب أمر العساكر الجهادية من «ألايات» ومدارس حربية، فإنه من أحسن ما صنعه، وأحق ما يؤرخ من فعل الخيرات، ولا يمكن إدراك ضرورية هذا النظام إلا لمن رأى بلاد الإفرنج، أو شاهد الوقائع. وبالجملة والتفصيل، [فإن الوالي] آماله دائمًا متعلقة بالعمار، ومن الحكم المعروفة «العمارة كالحياة، والخراب كالموت، وبناء كل [إنسان] على قدر همته. وقد سارع (الوالي) في تحسين بلاده، فأحضر فيها ما أمكنه إحضارُه من علماء الإفرنج، وبعث ما أمكنه بعثه من مصر إلى تلك البلاد، فإن علماءها أعظم من غيرهم في العلوم الحكمية. وفي الحديث: «الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أهل الشرك». قال بطليموس الثاني: «خذوا الدر من البحر، والسمك من الفأرة، والذهب من الحجر، والحكمة ممن قالها». وفي الحديث: «اطلب العلم ولو بالصين» ومن المعلوم أن أهل الصين وثنيون وإن كان المقصود من الحديث السفر إلى طلب العلم، وبالجملة حيثما أمن الإنسان على دينه، فلا ضرر في السفر، خصوصًا لمصلحة مثل هذه المصلحة. فينبغي لأهل العلم حيث جميع الناس على الاشتغال بالعلوم والفنون، الصنائع النافعة، وليس هذا الزمان قابلاً لأن يقال فيه كما قال بهاء الدين أبو حسين العاملي في صرف العمر في جمع كتب العلم وادَّخارها ومطالعتها، في شعره: وقوله: لأن هذا مقال من تجرد عن الدنيا، وانهمك على الآخرة، أو من اشترى العلوم بأغلى ثمن، فبخس صفقتها حادث الزمن. ولنذكر لك هنا الصنائع المطلوبة، لتعرف أهميتها، ولزومها في أي دولة من الدول، وهذه الفنون إما واهية في مصر، أو مفقودة بالكلية. فإذا نظرت بين الحقيقة (ص ١٣، ١٤) رأيت سائر هذه العلوم المعروفة معرفة تامة لهؤلاء الإفرنج ناقصة أو مجهولة بالكلية عندنا، ومن جهل شيئًا فهو مفتقر لمن أتقن ذلك الشيء، وكلما تكبر الإنسان عن تعلمه شيئًا مات بحسرته، فالحمد لله الذي (أنقذنا) من ظلمات جهل هذه الأشياء الموجودة عند غيرنا، وأظن أن من له ذوق سليم، وطبع مستقيم يقول كما أقول، وسأذكر بعضها بالاختصار في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى، وهو المستعان. [في ذكر وضع البلاد الإفرنجية، ونسبتها إلى غيرها من البلاد، ومزية الأمة الفرنساوية على من عداها من الإفرنج، (وبيان وجه الحكمة في) إرسالنا (إليها)، دون ما عداها من ممالك الإفرنج.] فنقول: اعلم أن الجغرافيين من الإفرنج قسموا الدنيا — من الشمال إلى الجنوب، ومن المشرق إلى المغرب — خمسة أقسام، وهي: بلاد أوروبا (بضم الهمزة والراء وتشديد الباء) وبلاد (آسيا «بكسر السين»)، وبلاد «الأفريقة»، وبلاد «الأمريقة «وجزائر البحر المحيط المسماة «الأوقيانوسية». فبلاد «أوروبا» محدودة جهة الشمال بالبحر المتجمد، المسمى: ببحر الثلج الشمالي، وجهة الغرب ببحر الظلمات المسمى: البحر المظلم، والبحر الغربي، وجهة الجنوب ببحر الروم، المسمى: البحر المتوسط والأبيض، وبلاد «آسيا» وجهة الشرق ببحر «الخزر»، (بضم الخاء والزاي، آخره راء)، ويقال له: بحر الحَزَز، (بحاء مهملة مفتوحة، ثم زايين معجمتين، أولاهما مفتوحة)، ويسمى أيضًا: بحر جرجان وبحر طبرستان، وببلاد آسيا. وهي نحو ثلاث عشرة أرضًا، أي ولاية أصلية: أربعة منها في الشمال: وهي بلاد الإنكليز، وبلاد «دانيمرق»، (بكسر النون وفتح الميم، وسكون الراء)، وبلاد «أسوج»، (بفتح الهمزة،، وسكون السين، وكسر الواو)، وبلاد «الموسقو». وستة في الوسط، وهي: «بلاد الفلمنك»، وبلاد الفرنسيس، وبلاد «السويسة» وبلاد «النيمسة»، وبلاد البروسية (بضم الباء)، وبلاد «جرمانية» المتعاهدة. وثلاثة في الجنوب، وهي: بلاد (ص ١٤، ١٥) إسبانيا مع «البورتوغال» وبلاد «إيطاليا»، وبلاد «الدولة العلية العثمانية» في بلاد «أوروبا» التي هي: بلاد الأروام، والأرناؤط والبشتاق، والسرب، (بالباء أو الفاء)، وبالبلغار، والأفلاق، والبغدان (بضم الباء، وسكون الغين). فمن ذلك تعلم أن تفسير بعض المترجمين بلاد أوروبا وبلاد الإفرنج فيه قصور، اللهم إلا أن تكون بلاد الإفرنج تطلق على ما يعم بلاد الدولة العلية، ولكن يناقض ذلك أن (مترجمي) الدولة العثمانية يقصرون بلاد «أفرنجستان» على ما عدا بلادهم من بلاد أوروبا، ويسمون بلادهم ببلاد الروم، وإن كانوا يعممون أيضًا في لفظ الروم، فيريدون به بعض الأحيان ما يعم بلاد الإفرنج، وبعض البلاد الداخلية في حكمهم من بلاد «آسيا». وهي تنقسم أيضًا إلى عشر أراض أصلية: واحدة جهة الشمال، وهي بلاد «سبير». واثنان في الجنوب، وهي: بلاد العرب، وبلاد الهند؛ فبلاد الحجاز، وبلاد الوهابية تحت حكم الدولة العلية، وبلاد اليمن تحت حمايتها، وبلاد عمَّان مستقلة، وكلها أقاليم جزيرة العرب. فهذه هي ولايات آسيا. ثم بلاد «الأفريقية»، وهي محددة جهة الشمال ببحر الروم، وجهة الغرب بالبحر الأطلنتيقي، المسمى: بحر الظلمات ويسمى بحر المغرب، وجهة الجنوب بالبحر المحيط الجنوبي، وجهة الشرق ببحر الهند، «وببغاز باب المندب» وببحر «القلزم»، المسمى: البحر الأحمر، وببلاد العرب. ويمكن تقسم «الأفريقية» إلى ثمان أراض أصلية: اثنتان في الشمال، وهي: بلاد المغاربة، وبلاد مصر. فهذا ما يسمى الآن عند الإفرنج: بلاد أفريقية، وإن كانت «إفريقية» في الأصل بلدة (ص ١٦) معلومة جهة «تونس» وما حواليها، ثم أضيف إلى بلاد أوروبا ما قاربها من الجزائر، وكذلك لبلاد «آسيا» و«أفريقية» وهذه الأقسام الثلاثة يعني «أوروبا» و«آسيا» و«أفريقية» تسمى: الدنيا القديمة. أو الأرض القديمة، يعني المعروفة للقدماء. وأما بلاد «أمريكة» أو «أمريقة»، (بالكاف أو القاف) فتسمى: الدنيا الجديدة، وتسمى أيضًا: الهند الغربي، وتسمى في بعض الكتب العربية (عجائب المخلوقات). وهي إنما عرفت للإفرنج بعد تغلب النصارى على بلاد الأندلس، وإخراج العرب منها، فإن هذا الوقت كان مبدأ للسياحة، وجوب البحر المحيط، واستكشاف البلاد بإعانة الدول لأرباب الأسفار والملاحة. وأما الآن فقد كانت السياحة تكون عند الإفرنج فنًا من الفنون، فليس كل أحد يحسنها، ولا كان دولة تتقنها؛ وذلك أنه لما كثرت الآلات الفلكية والطبيعية، سهلت الاستكشافات البرية والبحرية، وتداولت الأسفار، واستكشفت الأماكن والأقطار، وضم إلى ما يعرف من قديم الزمان، هذه الدنيا الجديدة التي انتظمت في سلك معرفة أولى العرفان. ثم زاد الحال باختراع سفن النار، ومراكب البخار، فتقاربت الأقطار الشاسعة، وتزاورت أهالي الدول، وصارت المعاملات والمخالطات بينها متتابعة. ومما قام مقام آلات السياحة قبل ابتداعها، وناب عن أدوات الملاحة قبل اختراعها، الأنوار المحمدية، والغيرة الإسلامية، بل والمعارف الوافرة في العلوم الرياضية والفلكية والجغرافية، في زمن الخلفاء العباسية، ففتحوا بلاد مصر، والسودان، والمغرب، والعجم، وبلاد قابول، وبخارى، والهند، والسند، وجزائر سيلان، وسومطرة، وبلاد التبت، والصين، وعدة ولايات ببلاد أوروبا، مثل ممالك الأندلس، وصقلية، وبلاد الروم، وغير ذلك. وهي قسمان: الأمريقة الشمالية، والأمريقة الجنوبية. «والأستورالية»، (بضم الهمزة، وسكون السين، وضم التاء، وكسر اللام) «والبولينيزية»، (بضم الباء، وكسر اللام، والنون والزاي). «ثم بلاد» أوروبا فيها أربعة بنادر أصلية مشهورة بالتجارة: «إسلامبول» تخت الدولة العلية، و«لوندرة»، (بضم اللام، وسكون النون، وفتح الدال) تخت بلاد الإنكليز، «وباريس» تخت بلاد الفرنسيس، «ونابُلي»، (بضم الباء) ببلاد «إيطاليا». والبنادر الأصلية ببلاد آسيا أربعة أيضًا: بكين، (بكسر الباء والكاف) قاعدة بلاد الصين، «وقلَقوطة»، (بفتح القاف واللام، وضم القاف)، ويقال «كلكتة»، (بكافين) قاعدة بلاد الهند التي تحت حكم الإنكليز، «وصورة»، ببلاد الهند أيضًا، ويقال: هي التي كانت تسمى: «المنصورة»، «ومياقو»، (ص ١٨) (بكسر الميم، وضم القاف) في بلاد جزيرة «يابونيا». والبنادر الأصلية ببلاد «الأفريقية» أربعة: «القاهرة» قاعدة مصر، «وسنار» قاعدة حاكم بلاد النوبة، والجزائر، وتونس ببلاد المغاربة. وأربعة في «أمريقة الجنوبية»، وهي: «ريوجانير» (بكسر الراء، وضم الياء وكسر النون) في بلاد «أبريزيلة» «وبنو سيرس»، (بكسر الباء والسين والراء) في بلاد «بلاطة»، «وليمة»، (بكسر اللام) في بلاد «برو»، «وقيطو»، (بكسر القاف) في بلاد «غرناطة الجديدة». وفي بلاد البحر المحيط بندران شهيران، وهما: مدينة «بتاويا»، بندر جزيرة «جاوة»، ومدينة «مانيلة»، الواقعة في جزيرة «مانيلة» إحدى جزائر «فيليبينة» فهذه المدينة هي قاعدة جميع هذه الجزائر. ثم إن بلاد «أوروبا» أغلبها نصارى، وبلاد الدولة العلية هي بلاد الإسلام بهذه القطعة. وأما بلاد «آسيا» فإنها منبع بلاد الإسلام، بل وسائر الأديان، وهي أوطان الأنبياء والمرسلين، وبها نزلت سائر الكتب السماوية، وهي تتضمن أشرف الأماكن والأرض المباركة، والمساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها، وفيها منشأ ومضم عظام سيد الأولين والآخرين، والصحابة، وهي منشأ الأئمة الأربعة (رضي الله تعالى عنهم) لأن منشأ الإمام الشافعي (رضي الله عنه) غزة، ومنشأ الإمام مالك (رضي الله عنه) المدينة المشرفة، ومنشأ الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان الكوفة، ومنشأة الإمام أحمد بن حنبل بغداد، التي كانت (كما قيل) في أيام الخلفاء، بالنسبة للبلاد، كالأستاذ في العباد، وكلها من بلاد «آسيا». وبها، يعني ببلاد «آسيا» العرب، وهم أفضل القبائل على الإطلاق، ولسانهم أفصح الألسن باتفاق، وفيهم بنو هاشم، الذين هم مُلَح الأرض، وزُبَدة المجد، ودرع الشرف. ومما يدل على فضلها أن بها الأماكن المفضلة؛ كالقبلة، التي يجب على كل إنسان أن يتوجه إليها خمس مرات في اليوم والليلة، والمدينتين اللتين نزل بهما القرآن العظيم، ففضائلها لا تحصى، وآثار أهلها لا تستقصى، قال بعض أهلها: ••• ومع إن الإسلام قد تولد فيها، وانتشر منها إلى غيرها، ففيها جزء عظيم باق على الاتباع أو الكفر؛ كبلاد الصين، وبعض بلاد الهند، وجزء سالك في إسلامه طريق الضلال، كروافض العجم. وأما بلاد «أفريقية» فإنها تشتمل على أعظم البلاد؛ كبلاد مصر التي هي من أعظم البلاد وأعمرها، وهي أيضًا عش الأولياء والصلحاء والعلماء، وكبلاد المغرب التي أهلها أهل صلاح وتقى وعلم وعمل، وإن شاء الله يمتد بها الإسلام. وأما «أمريقة» فهي بلاد كفر؛ وذلك أنها كانت عامرة في الأصل بهمل عبدة الأصنام، فتغلب عليها الإفرنج لما قويت شوكتهم في الفنون الحربية، ونقلوا إليها جماعة من بلادهم، وأرسلوا إليها قسيسين، فتنصر كثير من أهلها، فالآن بلاد «أمريقة» غالبها نصارى إلا الهمل، فهم وثنيون ولم يوجد بها دين الإسلام، وسببه قوة الإفرنج في علم ركوب البحر، ومعرفتهم العلوم الفلكية والجغرافية، ورغبتهم في المعاملات والتجارات، وحبهم للسفر، قال الشاعر: وقال آخر: وقال الحريري: وقال غيره: وقال: ومن المعلوم أن الدر والمسك لا يشرفان ما لم يفارقا وطنهما ومعدنهما، وكل هذا لا ينافي أن حب الوطن من شعب الإيمان؛ لأن المقصود السياحة، والأخذ في أسباب طلب الرزق، وهذا لا يمنع من تعلق الإنسان بوطنه ومسقط رأسه، فإن هذا أمر جبِلِّي، قال الشاعر: وقال غيره: ولا ينافي أيضًا هذا الأمر مادة التوكل والاعتماد على المولى، كما يفهم من كلام الشاعر في قوله: وقول الآخر: فإن هذا معناه التسلية لمن لا يحب الأسفار، أو النهي عن السفر للطمع. وأما بلاد (ص ٢٢) جزائر البحر المحيط، فإنها قد فتح كثير منها بالإسلام، كجزيرة «جاوة»، فإن أهلها مسلمون، وبالجملة فبلاد «النوتازية» أغلبها إسلام، وندر وجود دين النصرانية فيها. ومن ذلك كله تعلم أنه يمكن أن أقسام الدنيا الخمسة يصح تفضيل بعضها على بعض، ويعني تفضيل جزء بتمامه على الآخر بتمامه، بحسب مزية الإسلام وتعلقاته، فحينئذ تكون «آسيا» أفضل الجميع، ثم تليها «أفريقية» لعمارها بالإسلام والأولياء والصلحاء، خصوصًا باشتمالها على مصر القاهرة، ثم تليها بلاد «أوروبا» لقوة الإسلام، ووجود الإمام الأعظم، إمام الحرمين الشريفين، سلطان الإسلام فيها، ثم بلاد الجزائر البحرية؛ لعمارها بالإسلام أيضًا مع عدم تبحرها في العلوم كما هو الظاهر، فأدنى الأقسام بلاد «أمريكة»؛ حيث لا وجود للإسلام بها أبدًا، هذا ما يظهر لي، والله أعلم بالصواب. وهذا كله بالنظر للإسلام، والأمور الشرعية، والشرف الذاتي، فإن المراد بالشرف ما يعم الشرعي وغيره، فلا يقال: أن أغلب ذلك من باب المزية، وهي وحدها لا تستدعي أفضلية. ولا ينكر منصف أن بلاد الإفرنج الآن في غاية البراعة في العلوم الحكمية وأعلاها في التبحر في ذلك، بلاد الإنكليز، والفرنسيس، والنمسا، فإن حكماءها فاقوا الحكماء المتقدمين، كأرسطاطاليس، وأفلاطون، وبقراط، وأمثالهم، وأتقنوا الرياضيات، والطبيعيات، والإلهيات، وما وراء الطبيعيات أشد إتقان، وفلسفتهم أخلص من فلسفة المتقدمين؛ لما أنهم يقيمون الأدلة على وجود الله تعالى، وبقاء الأرواح، والثواب والعقاب. فأعظم مدائن الإفرنج مدينة «لوندرة»، وهي كرسي الإنكليز، ثم «باريز»، وهي قاعدة ملك فرنسا، و«باريز» تفضل على «لوندرة» بصحة هوائها، كما قيل، وطبيعة القطر والأهل، وبقلة الغلاء التام. وإذا رأيت كيفية سياستها، علمت كمال راحة الغرباء فيها وحظهم وانبساطهم مع أهلها، فالغالب عن أهلها البشاشة في وجوه الغرباء، ومراعاة خواطرهم، ولو اختلف الدين؛ وذلك لأن أكثر أهل هذه المدينة إنما له من دين النصرانية الاسم فقط، حيث لا ينتحل دينه، ولا غيرة له عليه، بل هو من الفرق المحسّنة والمقبّحة بالعقل، أو فرقة من الإباحيين الذين يقولون: إن كل عمل يأذن فيه العقل صواب، فإذا ذكرت له دين الإسلام في مقابلة غيره من الأديان أثنى على سائرها، من حيث (ص ٢٣) إنها كلها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وإذا ذكرته له في مقابلة العلوم الطبيعية قال: إنه لا يصدق بشيء مما في كتب أهل الكتاب؛ لخروجه عن الأمور الطبيعية. وبالجملة ففي بلاد الفرنسيس يباح التعبد بسائر الأديان، فلا يعارض مسلم في بنائه مسجدًا، ولا يهودي في بنائه بيعة، إلى آخره، كما سيأتي في ذكره سياستها، ولعل هذا كله هو علة وسبب إرسال البعوث فيها هذه المرة الأولى أبلغ من أربعين نفسًا، لتعلم هذه العلوم المفقودة، بل سائر النصارى تبعث أيضًا إليها، فيأتي إليها من بلاد «أمريكة» وغيرها، من الممالك البعيدة، وقد بعث أيضًا عدة طلاب للعلوم ببلاد الإنكليز، لكنهم ليسوا عديدين، وكذلك ببلاد النمسا، وبالجملة فسائر الأمم تطلب العز، وتسعى إليه، كما قال الشريف الرضي: «اطلب العز، فما العز بغال». ولا أعز من العلوم والفنون تطلبها الولاة والحكام، فإنهم كلما كانوا أجلَّ خطرًا، وجب أن يكونوا أدق نظرًا. وكان لسائر الثلاثة اجتهاد زائد، وتحصيل بالغ، مع أن الأمرية في الغالب تأنف ذلك، وقد كان حكم هؤلاء الثلاثة بالنوبة (ص ٢٤، ٢٥) فكانت نوبة الواحد يومًا، والآخر يومًا آخر وهكذا، فآل الأمر إلى أن صارت شهرًا شهرًا، ثم صار الأفندي المهردار وحده. الغالب أن هذه الخصلة في سائر علماء الإفرنج، فإن مثل الكاتب كالدولاب إذا تعطل تكسر، وكالمفتاح الحديد، إذا ترك ارتكبه الصدأ، وجناب «مسيو جومار» يشتغل بالعلوم آناء الليل، وأطراف النهار، وسيأتي ذكره عدة مرات، وسنذكر لك عدة من مكاتيبه التي وصلت بيدي، إن شاء الله تعالى. وهنا انتهت المقدمة.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/0.3/
المقصد
[في مدة السفر «من مصر إلى باريس»، وما رأيناه من الغرائب في الطريق، أو مدة الإقامة في هذه المدينة العامرة بسائر العلوم الحكمية، والفنون والعدل العجيب، والإنصاف الغريب، الذي يحق أن يكون من باب أولى في ديار الإسلام، وبلاد شريعة النبي (ﷺ)]. وهذه المقالة: هي الغرض الأصلي من وضعنا هذه الرحلة؛ فلذلك أطنبنا فيها غاية الإطناب، وإن كان جميع هذا لا يفي بحق هذه المدينة، بل هو تقريبي، بالنظر لما اشتملت عليه، وإن استغرب هذا من لم يشاهد غرائب السياحة، قال بعضهم: فمن باب أولى بلاد «أفرنجستان».
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/1/
الفصل الأول
كان خروجنا من مصر يوم الجمعة، الذي هو ثامن يوم من شعبان، سنة إحدى وأربعين ومائتين بعد الألف، من الهجرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فتفاءلت بأن عقب هذا الفراق يحصل الاجتماع، وأن تسلم العودة سيقوم مقام الوادع. فركبنا زوارق صغيرة، وتوجهنا إلى الإسكندرية، وأقمنا على ظهر النيل المبارك أربعة أيام، ولا فائدة لذكر بعض البلاد والقرى التي رسونا عليها.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/2/
الفصل الثاني
فنقول: قال في القاموس: إن «إسكندرية» منسوبة إلى «إسكندر» ابن الفيلسوف (صوابه فيليبش)، وهو الذي قتل «دارا» وملك البلاد. والإسكندرية ستة عشر بلدًا منسوبة إليه، منها بلدة ببلاد الهند، وبلدة بأرض بابل، وبلدة بشاطئ النهر الأعظم، وبلدة بصغد سمرقند، وبلدة بمرو، واسم لمدينة بلخ، والثغر الأعظم ببلاد مصر، وقرية بين حماة وحلب، وقرية على دجلة قرب واسط، منها الأديب أحمد بن المختار بين مبشر، وقرية بين مكة والمدينة وبلدة في مجاري الأنهار بالهند، وخمس مدن أخرى. ومرو: بلدة من خراسان ببلاد الفرس، والنسبة إليها مروي ومروزي، وانظر ما مراده بالنهر الأعظم؟ ثم رأيت في كتاب تقويم البلدان لعماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن ناصر سلطان حماة أن بالأندلس نهرًا يسمى بالنهر الأعظم، وهو نهر «أشبيلية» ونص عباراته: «ومنها نهر «أشبيلية» من بلاد الأندلس، ويسمى عند أهل الأندلس النهر الأعظم» انتهى. ولعله إنما سمي عندهم بالنهر الأعظم لامتيازه بحادثة المد والجزر، كما نبه على ذلك أبو الفداء في قوله: يدخله المد والجزر عند مكان يسمى الأرحا لا تزال فيه المراكب منحدرة مع الجزر، صاعدة مع المد، وقال بعضهم في المد والجزر: فعلى هذا تكون «إسكندرية» اسم بلدة بالأندلس. ولعل «إسكندر» حين اجتيازه بجزيرة الأندلس بنى بها بلدة. وذكر صاحب كتاب «نشق الأزهار في عجائب الأقطار» إن الإسكندر ذا القرنين اجتاز بلاد الأندلس، وفتح بها (بغاز) جبل الطارق، المسمى بحر الزقاق، وإن محل هذا البغاز كان أرضًا بين «طنجة» وبلاد الأندلس، ولم يذكر في هذا الموضع أن «إسكندر» بنى بلدة بهذه الجزيرة، لكن هذا لا يدل على عدم وجود بلدة بها. وظاهر عبارتهم أنه يوجد اثنان، كل منهما يسمى (ص ٢٧) الإسكندر: أحدهما «إسكندر ذو القرنين» والآخر، هو قاتل «دارا». وقال في القاموس في موضع آخر: «ذو القرنين» إسكندر الرومي؛ لأنه لما دعاهم إلى الله تعالى ضربوه على قرنه، فأحياه الله تعالى، ثم دعاهم، فضربوه على قرنه الآخر، فمات، ثم أحياه الله، أو لأنه بلغ قطري الأرض، أو لضفيرتين له. انتهى. فظاهر كلامه أن إسكندر ذا القرنين هو نفس إسكندر الرومي. والذي عليه علماء الشرق أن ذا القرنين المذكور في الآية الشريفة هو غير إسكندر اليوناني، فإن الأول أقدم من الثاني وهو الذي قيل بنبوته، وأنه بنى سد «يأجوج ومأجوج»، وإنه بحث عن ماء الحياة بلا طائل، وفاز به الخضر (عليه السلام) فلذلك كان حيًا إلى الآن، وأما الثاني فإنه يسمى «إسكندر الرومي» أو اليوناني، يعني الإغريقي؛ لأن قدماء الأغارقة تسمى: اليونان، والمتأخرون يشتهرون باسم الأروام. وعلى كل حال، فقد اتفق كلام العلماء وحكماء الإفرنج على أن «إسكندرية» تنسب إلى إسكندر الرومي، وهو ابن «فيلبش». وأنا أقول: الظاهر أن ذا القرنين هو الذي يعبر عنه عند اليونان «بهرقليوس» أو «هرقول»، يدل على ذلك تسمية بوغاز جبل طارق «بوغاز هرقليوس»، مع عبارة كتاب «نشق الأزهار». وكذلك ما ذكر في خرافات اليونان، عند الكلام على عمودي «هرقول»، من أنه أدخل «أوقيانوس» البحر المحيط) في الجزء المسمى الآن «جبل طارق» بين جبلين كانا قبل ذلك متصلين ببعضهما. أحدهما يسمى: «قلبة» في جهة إسبانيا، والآخر يسمى «بيلا» في جهة «أفريقة»، وصارا بعد فتح البوغاز بينهما كأنهما عمودان، وكتب عليهما طهرقول ما معناه «ليس خلف ذلك شيء». ومما يدل على ذلك أيضًا: ما ذكره اليونان في خرافاتهم، من أن هرقول من فحول الرجال الذين يعبرون عنهم بأنصاف الآلهة، ويعتقدون أنهم متولدون بين الباقي والفاني، أي بين إله وبشر، فإن «هرقول» (ص ٢٦، ٢٨) (على زعمهم) متولد من «جوبتير» أي «المشترى» و«اللمينة» زوجة أنفتريون» ملك «طيوة» حيث تشكل بشكل هذا الملك، وواقعها، فحملت به منه. وذلك قريب مما ذكره «الدميري» في كتابه: «حياة الحيوان» نقلاً عن «الجاحظ» حيث قال ما ملخصه: إن عمرو بن يربوع كان متولدًا بين السعلاة والإنسان. قال: وذكروا أن «جُرهمًا» كان نتاج الملائكة والآدميين، فكان إذا عصى الملك ربه في السماء أهبط إلى الأرض في صورة رجل، كما صنع بهاروت وماروت، وأن من هذا القبيل كانت «بلقيس» ملكة «سبأ»، وكذلك كان ذو القرنين، وكانت أمه آدمية، وأبوه من الملائكة؛ ولذلك لما سمع عمر ابن الخطاب (رضي الله عنه) رجلاً ينادي رجلاً: يا ذا القرنين: قال أفرغتم من أسماء الأنبياء، فارتفعتم إلى أسماء الملائكة؟ وقال: وزعموا أن التناكح والتلاقح قد يقع بين الجن والإنس، فقال تعالى: وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ، وذلك أن الجنيات إنما تعرض لصرع رجال الإنس على جهة العشق، في طلب السفاد، وكذلك رجال الجن لنساء الإنس، ولولا ذلك لعرض الرجال للرجال والنساء للنساء، وقال تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ، ولو كان الجان لا يفتض الآدميات، ولم يكن: ذلك في تركيبه، لما قال الله هذا القول. انتهى. غاية ما هناك أن العلوية في اعتقاد العرب آهلة في اعتقاد اليونان، وأظن أن هذه المسألة لو عرضت كالجاري على أرباب مدرسة فرنسا العظمى المسماة «أكدمة» لأجابت بعد النظر فيها بالصحة، وأيدت القول بذلك. وقد سلف في عبارة القاموس أسماء البلاد التي تسمى «بإسكندرية»، وليس مما ينسب إلى «إسكندر» الرومي الشهير بلدة «الأرناؤط» المسماة «إسكندرياسي»، يعني «إسكندرية». بل هي منسوبة على «إسكندربيك». وقال بعضهم: مدينة «إسكندرية» ببر مصر كانت تسمى قبل بناء الإسكندر لها بنحو ثلاثمائة سنة واثنتين قبل ظهور عيسى (عليه السلام) «قيسون» (بفتح القاف وسكون الياء التحتية). وقال الإفرنج: إنها كانت تسمى «نو»، (بضم النون)، وقبل فتحها بالإسلام كانت تارة تحت حكم الرومان، وتارة تحت حكم الأروام أو اليونان. وفتحها عمرو بن العاص بأمر عمر بن الخطاب، ولما فتحها كتب إلى عمر (رضي الله عنه) أنه وجد بها أربعة آلاف قصر، وأربعة (ص ٢٦) آلاف حمام، وأربعين ألف يهودي تدفع الجزية، وأربعمائة ميدان، واثني عشر ألف بقال، وخضري، وفاكهاني، ولعل هذا من مبالغات المؤرخين، كما بالغوا في غيرها من البلاد؛ كمدينة بغداد. ومن عجائب ما فيها خزانة الكتب التي حرقها عمرو بن العاص (رضي الله عنه)، فكانت عدة ما فيها من الكتب سبعمائة ألف مجلد. وقد كان أهل هذه المدينة في سالف الزمان ثلاثمائة ألف نفس تقريبًا، أهلها الآن أقل من ذلك بكثير. وقد تغلب عليها الفرنسيس ثم أخرجهم الإنكليز منها، ورجعت إلى يد الإسلام. ومن الآن يلوح عليها أنوار العمارات، وبها بهجة التجارة، كما أنها كانت في الزمن السابق مركزًا للتجارات، وصارت في هذا الوقت دار إقامة الحاكم في أغلب الأوقات، وهي أشبه وضعًا وعمارة بفرضات الإفرنج. وهي على الشمال الغربي من القاهرة بنحو خمسين فرسخًا، موضوعة في إحدى وثلاثين درجة، وثلاث عشرة دقيقة من العرض، يعني درجة البعد عن خط الاستواء، وسيأتي ذكر المسافة بينها وبين باريس.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/3/
الفصل الثالث
اعلم أن هذا البحر يسمى في كتب الجغرافيا العربية «بحر الروم» لأنه يتصل إحدى جهاته ببلاد الروم، ويسمى أيضًا فيها «بحر الشام» لمجاورته أيضًا لبلاد الشام، ويسمى أيضًا عند الإفرنج «البحر المتوسط» أو الجواني. وإنما سمي بذلك؛ لأنه داخل الأراضي الناشفة، بخلاف البحر المحيط، فإنه محيط بجميع الأراضي، حتى قال بعضهم: إنه متواصل الجريان تحت الأراضي العالية على سطح مائه، وإن حقق بعضهم خلافه لوجود الأراضي اليابسة تحت سطحه؛ كبعض أراضي «الموسقو». ويسمى هذا البحر الجواني باللسان التركي «بحر سفيد» والبحر الأبيض؛ لمقابلته ببحر «بنطش» أو «البحر الأسود». وهناك بحر آخر يسمى «بالبحر الأبيض» وهو بلاد «الموسقو»، وهو المراد بالبحر الأبيض، في إطلاقات علماء الجغرافية. غير أن المعتمد على الكريم، لا يخشى من الخطب العظيم، وما أحسن قول من قال: وقد ذهب هذا الأمر بعد نحو ثلاثة أيام، وصار يزور غبًّا. «أعظم الناس اعتناء بنظافة المنازل: أهل «الفلنمك»، فتجد في مدنهم غالب حاراتهم مبلطة بالحجر الأبيض، المتعهد بالتنظيف، وبيوتهم مجملة من خارجها أيضًا، وشبابيكهم (القزاز) تغسل دائمًا، بل وحيطانهم الخارجية.» ومن الأمم من هي كثيرة الاتساخ، وكثيرة القمل، بل تجد بعض أناس يأكلهم القمل، ولا يبالون. وقد ذهب داء البرص من منذ انتشار الأقمصة البيض التي تغسل، ويغير بها كل أسبوع مرة، وعدة مرات، فالملابس البيض من جملة ما أنتج النظافة والسلامة من آثار الأوساخ الرديئة». انتهى.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/4/
الفصل الرابع
قد مررنا على جزيرة «كريد» سابع يوم من سفرنا، ورأينا على بعد جبلها الشامخ المسمى عند اليونان «إيدا» الشهير بالأمور الغريبة في تواريخهم. ثم في اليوم الثالث عشر منه، رأينا جزيرة «سيسيليا»، (بالمهملتين)، وبعضهم يكتبها بالمعجمتين، وهي مشهورة باللسان العربي باسم «صقالية»، أو «صقلية». وفي كتب الجغرافيا أن أهل هذه الجزيرة مائة ألف نفس، ومدنها فوق الجبال وقد رأينا بهذه الجزيرة على بعد، في اليوم الرابع عشر الجبل المسمى «منتثنا» (بفتح الميم وسكون النون، وكسر التاء الفوقية، وسكون الثاء المثلثة) و«منتثنا» كلمة مركبة من كلمتين: إحداهما «منت» معناها: جبل، والأخرى «اثنا» فالأحسن كتابتها هكذا «منت اننا»، وهو مشهور الآن بلفظة «جبيل»، ويظهر لي أن هذا الاسم تحريف «جبل» فهو عربي أدخله المسلمون في هذه الجزيرة، وأطلقوه على هذا الجبل، فبقي بعد خروجهم إلى الآن، وتغير بتحريف أهل هذه الجزيرة له. وهذا الجبل جبل نار، فإنه يخرج منه بالنهار دخان، وبالليل لهب، وقد يقذف مواد حجرية محترقة. ثم إن جبال النار تسمى بالإفرنجية «الجبال البلكانية». ويسمى الجبل الناري «بلكان»، (بضم الباء الموحدة، وسكون اللام)، ويقال «ولكان»، (بضم الواو)، وقد صحِّف هذا الاسم بالعربية على لفظة «بركان» بالراء) ولعله تعريب عن لغة أهل الأندلس، ويسمى «طهمة» (بفتح الطاء، وسكون الهاء) كما ذكره السعودي في كتابه المسمى «مروج الذهب». وقد جرت العادة أيضًا أن الزلزلة تعظم بقدر البعد عن البركان وعلل ذلك بعضهم بقوله: إن النار التي تحت الأرض تحاول منفسًا، لتخرج منه، فإن كان في الأرض بركان فإنها تخرج منه، فتذهب قوة النار، فتتفقد الزلزلة، بخلاف الأرض الخالية عن البراكين، فإن النيران تحاول منفسًا فيها، فلا تجده، فترتج الأرض بذلك. قال بعضهم في رد هذا القول: «إنه ينافي ما اعتمده بعض الحكماء في بناء الأرض، ونظم طبقات صخورها». ومن القواعد المقررة أن ثوران البركان يغلب كلما قل علوه، ويقل كلما عظم العلو، وهذا ما جرت به العادة. والله سبحانه وتعالى أعلم. وفي اليوم الخامس عشر رسونا على مدينة «مسينة»، لم نخرج من السفينة أبدًا؛ لأنهم لا يمكنون من يجيء من البلاد الشرقية إلى بلادهم أن يدخلها إلا بعد (الكرتنة)، وهي: مكث أيام معلومة، لإذهاب رائحة الوباء. ولكنهم يجيئون للإنسان بسائر ما يحتاج، ويناولهم الثمن، فيضعونه في إناء فيه خل ونحوه، مع التحفظ التام. (راجع الفصل الأول من المقالة الثانية). وقد تزودنا من هذه المدينة ما احتجنا إليه، من الفواكه، والخضراوات والمياه العذبة.. إلى آخره، وأقمنا بموردتها خمسة أيام وشاهدنا من بُعد قصورها العالية وهياكلها الشامخة السامية ورأيناها توقد قناديلها ووقداتها قبل أن يدخل وقت الغروب، وتمكث بعد شروق الشمس. (ص ٣٥، ٣٦) والظاهر أن مدة مرورنا بها كانت عيدًا؛ حيث إننا سمعنا بها أصوات النواقيس مدة إقامتنا، حتى إن ضربهم النواقيس مطرب جدًا. وقد صنعت في ليلة من هذه الليالي، في المحادثة مع بعض الظرفاء مقامة ظريفة، مضمونها ثلاثة معان: وذيلتها ببعض أبيات مجنسة، والبحث في معناها، ونوع تجانيسها، بالجواب عن بعض ألغاز نحوية.. إلى آخره، وليس هذا محل بسط الكلام في ذلك. ثم سرنا من هذه المدينة اليوم المتمم العشرين من مدة سفرنا، سرنا حتى حاذينا جبل النار، وجاوزناه. وفي اليوم الرابع والعشرين جاوزنا مدينة «نابلي»، وقد كانت قديمًا تسمى باللغة التركية «بولية»، وتعديناها بنحو تسعين ميلاً، فانعكس الريح، وصار قدام السفينة، هابًا من المقصد لا إليه؛ لأنه من جهة الهواء. ويعجبني قول بعضهم: وقول الصلاح الصفدي: فبانعكاس الريح، رجعنا إلى مدينة «نابلي» بعد أن جاوزناها، ورسونا عندها، ولم ندخلها لما تقدم. وقد كانت مملكة «نابلي» في يد الإسلام، ومكثت نحو مائتي سنة، ثم تغلبت عليها النصارى النورمندية، هي ومملكة «صقلية» ولم تزل إلى الآن في أيدي النصارى الإيطاليانية، حتى إنها تسمى: بلاد إيطاليا الجنوبية. وقد أسفنا أن مدينة «نابلي» هي إحدى (البنادر) الأربعة الأصلية بالبلاد الإفرنجية. ثم رأينا في اليوم التاسع والعشرين جزيرة «قرسقة»، (بضم القاف، وسكون الراء وضم السين، وفتح القاف) التي هي في حكم الفرنسيس، وتسمى الآن: جزيرة «قرس»، وقد فتحها المسلمون، ولم يمكثوا فيها زمنًا طويلاً، وهي وطن «نابليون»، (بضم الباء، وسكون اللام، وبالياء) الشهير باسم «بونابارته» الذي تغلب على مصر في غزوة الفرنساوية، ثم تولى سلطنة فرنسا، مع أن أباه كان رئيسًا في «الطوبجية). وفي اليوم الثالث والثلاثين رسونا على فرضة «مرسيليا»، فكانت مدة مكثنا في البحر ثلاثة وثلاثين يومًا، ومنها مكثنا خمسة أيام قدام «مسينة»، (بفتح الميم، تشديد السين المكسورة، وفتح النون)، ونحو يوم قدام «نابلي»، وتأخرنا كثيرًا بلعب الرياح.. ولولا ذلك لوصلنا في أقل من هذه المدة بشيء يسير.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/5/
الفصل الأول
قد رسونا على موردة «مرسيليا» التي هي إحدى فرض بلاد فرنسا، فنزلنا من سفينة السفر في زوارق صغيرة، فوصلنا إلى بيت خارج المدينة معه (للكرنتينة) على عادتهم. من أن من أتى من البلاد الغربية لا بد أن (يكرتن) قبل أن يدخل المدينة. ولنذكر هنا ما قيل في (الكرنتينة) بين علماء المغرب، على ما حكاه لي بعض من يوثق به من فضلاء الغرب، قال: وقعت بين العلامة الشيخ محمد المناعي التونسي (ص ٣٧) المالكي، المدرس بجامع الزيتون، ومفتي الحنفية العلامة الشيخ محمد البيرم، المؤلف عدة كتب في المنقول والمعقول، وله تاريخ دولة بني عثمان من مبدئها إلى السلطان محمود الحالي، محاورة في إباحة (الكرنتينة) وحضرها، فقال الأول بتحريمها، والثاني بإباحتها، بل وبوجوبها، وألف في ذلك رسالة، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة، وأقام الأول الأدلة على التحريم، وألف رسالة في ذلك، على اعتماده فيها في الاستدلال على أن (الكرنتينة) من جملة الفرار من القضاء. ووقعت بينهما محاورة أيضًا نظير هذه، في كروية الأرض وبسطها، كالبسط للمناعي، والكروية لخصمه. وممن قال من علماء المغرب بأن الأرض مستديرة، وأنها سائرة، العلامة الشيخ مختار الكنتاوي بأرض أزوات، بقرب بلاد «تمبكتو»، وهو مؤلف مختصر في فقه مالك، ضاهى به «متن خليل» وضاهى أيضًا «ألفية» ابن مالك في النحو، وله غير ذلك من المصنفات في العلوم الظاهرية والباطنية، كأوراد وأحزاب، كحزب الشاذلي، وقد ألف كتابًا وسماه: «النزهة»، جمع فيه جملة علوم، فذكر بالمناسبة علم الهيئة، فتكلم على كروية الأرض، وعلى سيرها، ووضح ذلك، فتلخص من كلامه أن الأرض كرة، ولا يضر اعتقاد تحركها أو سكونها. مات هذا الشيخ سنة ألف ومائتين وست وعشرين من لهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، وخلفه حفيده المسمى باسمه. ثم إن هذا البيت الذي كنا فيه (للكرنتينة) متسع جدًا، به القصور والحدائق والبناء المحكم، فبه عرفنا كيفية إحكام أبنية هذه البلاد وإتقانها، وامتلائها بالرياض والحياض.. إلى آخره. ولم نشعر في أول يوم إلا وقد حضر لنا أمور غريبة في غالبها، وذلك أنهم أحضروا لنا عدة خدم فرنساوية، لا نعرف لغاتهم، ونحو مائة كرسي للجلوس عليها؛ لأن هذه البلاد يستغربون جلوس الإنسان على نحو سجادة مفروشة على الأرض، فضلاً عن الجلوس بالأرض، ثم مدوا السفرة للفطور، ثم جاءوا بطبليات عالية، ثم رصوها من الصحون البيضاء الشبيهة بالعجمية، وجعلوا قدام كل صحن قدحًا من (القزاز)، وسكينًا، وشوكة، وملعقة، وفي كل طبلية نحو قزازتين من الماء، وإناء فيه ملح، وآخر فيه فلفل، ثم رصوا حوالي الطبلية كراسي، لكل واحد كرسي، ثم جاءوا بالطبيخ (ص ٣٨) فوضعوا في كل طبلية صحنًا كبيرًا أو صحنين، ليغرف أحد أهل الطبلية، ويقسم على الجميع، فيعطي لكل إنسان في صحنه شيئًا يقطعه بالسكين التي قدامه، ثم يوصله إلى فمه بالشوكة لا بيده، فلا يأكل الإنسان بيده أصلاً، ولا بشوكة غيره، أو سكينه، أو يشرب من قدحه أبدًا. ويزعمون أن هذا أنظف وأسلم عاقبة. ومما يشاهد عند الإفرنج أنهم لا يأكلون أبدًا في صحون النحاس، بل ولا في أونية أبدًا، ولو مبيضة؛ فهي للطبخ فقط، بل دائمًا يستعملون الصحون المطلية. وللطعام عندهم عدة مراتب معروفة، وربما كثرت وتعددت كل مرتبة منها؛ فأول افتتاحهم الطعام يكون (بالشوربة)، ثم بعده باللحوم، ثم بكل نوع من أنواع الأطعمة، كالخضراوات والفطورات، ثم (بالسلطة). ثم إن الإنسان كلما أكل طعامًا في صحنه غيَّره، وأخذ صحنًا غير مستعمل ليأكل فيه طعامًا آخر. ثم إنهم أحضروا لنا آلات الفراش، والعادة عندهم أنه لا بد أن ينام الإنسان على شيء مرتفع نحو سرير، فأحضروا ذلك لنا. ومكثنا في هذا المحل ثمانية عشر يومًا، لا نخرج منه أبدًا غير أنه متسع جدًا، وفيه حدائق عظيمة، ومحال متسعة، للتماشي فيها، والتنزه في رياضها. ومن هذا البيت ركبنا العربات المزينة المجملة التي تستمر عندهم آناء الليل وأطراف النهار تقرقع، وسرنا بها إلى بيت في المدينة، لكنه في حواشيها، من القصور المصنوعة خارج المدينة بحدائقه وأدواتها، فمكثنا منتظرين التوجه إلى مدينة «باريس» ومدة مكثنا في هذا البيت كنا نخرج بعض ساعات للتسلي في البلد، وندخل بعض القهاوي. والقهاوي عندهم ليست مجمعًا للحرافيش، بل هي مجمع لأرباب الحشمة؛ إذ هي مزينة بالأمور العظيمة النفيسة التي لا تليق إلا بالغنى التام، وأثمان ما فيها غالية جدًا، فلا يدخلها إلا أهل الثروة، وأما الفقراء فإنهم يدخلون بعض قهاوي فقيرة أو الخمارات والمحاشيش، ومع ذلك هذه المحال أيضًا مجملة تجملاً نسبيًا. وقد أسلفت أن مدينة إسكندرية (ص ٤٠) تشبه في حالها مرسيليا. وأذكر هنا أن الفرق بينهما اتساع السكك والطرق اتساعًا مفرطًا لمرور جملة عربات معًا في طريق واحد، والآن صارت الإسكندرية بالهمة الخديوية بنحو ذلك، ثم إن سائر القاعات والأروقة أو المنادر العظيمة يوضع في حيطانها الجوانية مرآة عظيمة كبيرة، حتى إنه ربما كانت سائر جوانب القاعة كلها من زجاج المرآة؛ ليظهر لها رونق عظيم. «فأول مرة خرجنا إلى البلدة مررنا بالدكاكين العظيمة الوضع المزججة بهذه المرائي، والمشحونة بالنساء الجميلات، وكان هذا الوقت وقت الظهيرة. وعادة نساء هذه البلاد: كشف الوجه والرأس، والنحر، وما تحته، والقفا، وما تحته، واليدين إلى قرب المنكبين. والعادة أيضًا أن البيع والشراء بالأصالة للنساء، وأما الأشغال فهي للرجال، فكان لنا بالدكاكين والقهاوي ونحوها فرجة عليها، وعلى ما يعمرها. وكان أول ما وقع عليه بصرنا من التحف قهوة عظيمة، دخلناها، فرأيناها عجيبة الشكل والترتيب، والقهوجية امرأة جالسة على صفة عظيمة، وقدامها دواة وريش وقائمة، وفي قاعة بعيدة عن الناس محل لعمل القهوة، وبين محل جلوس الناس ومحل القهوة صبيان القهوة، ومحل الجلوس للناس مرصوص بالكراسي المكسوة بالمشجرات وبالطاولات المصنوعة من الخشب الكابلي الجيد، وكل طاولة مفروشة بحجر من الرخام الأسود أو المنقوشة، وفي هذه القهوة يباع سائر أنواع الشراب والفطورات، فإذا طلب الإنسان شيئًا طلبه الصبيان من القهوجية، وهي تأمر بإحضاره له، وتكتبه في دفترها، وتقطع به ورقة صغيرة فيها الثمن، وتبعثها مع الصبي للطالب، حين يريد الدفع، والعادة أن الإنسان إذا شرب القهوة أحضر له معها السكر، ليخلطه فيها ويذيبه، ويشربه، ففعلنا ذلك كعادتهم. وفنجان القهوة عندهم كبير نحو أربعة فناجين من فناجين مصر. وبالجملة فهو قدح لا فنجان، وبهذه القهوة أوراق الوقائع اليومية لأجل المطالعة فيها، وحين دخولي بهذه القهوة ومكثي بها ظننت أنها قصبة عظيمة نافذة؛ لما أن بها كثيرًا من الناس، فإذا بدا جماعة داخلها أو خارجها ظهرت صورهم في كل جوانب الزجاج، ظهر تعددهم مشيًا وقعودًا قيامًا، فيظن أن هذه القهوة طريق، وما عرفت أنها (ص ٥٤) قهوة مسدودة إلا بسبب أني رأيت عدة صورنا في المرآة، فعرفت أن هذا كله بسبب خاصية الزجاج؛ فعادة المرآة عندنا أن تثني صورة الإنسان. كما قال بعضهم في هذا الشأن: وعادتها عند الإفرنج، بسبب تعددها على الجدران وعظم صورتها، أن تعدد الصورة الواحدة في سائر الجوانب والأركان. ومن كلامي: وقال شيخنا العطار: لم أر ألطف تخيلاً في هذا المعنى من قول ابن سهل: قال الحريري في مليح بيده مرآة: وسيأتي كمال الكلام على ذلك كله في ذكر مدينة باريس. ومدة إقامتنا في مرسيليا بعد (الكرنتينة) شغلناها أيضًا بتعلم تقطيع الحروف، يعني تعلم تهجي اللغة الفرنساوية. ثم إنه يوجد في مدينة مرسيليا كثير من نصارى مصر والشام الذين خرجوا مع الفرنساوية حين خروجهم من مصر، وهم جميعًا يلبسون لبس الفرنسيس، وندر وجود أحد من الإسلام الذين خرجوا مع الفرنسيس؛ فإن منهم من مات، ومنهم من تنصر، والعياذ بالله، خصوصًا المماليك، الجورجية والجركسية، والنساء اللواتي أخذهن الفرنسيس صغار السن، وقد وجدت امرأة عجوزًا باقية على دينها. وممن تنصر إنسان يقال له عبد العال، ويقال إنه كان ولاه الفرنسيس بمصر (أغاة انكشارية) في أيامهم، فلما سافروا تبعهم، وبقي على إسلامه نحو خمس عشرة سنة، ثم بعد ذلك تنصر، والعياذ بالله، بسبب الزواج بنصرانية، ثم مات بعد قليل ويقال إنه سمع عند موته يقول: أجرني يا رسول الله! ولعله ختم له بخير، وعاد إلى الإسلام، فقال بلسان الحال: ولقد رأيت له ولدين وبنتًا، أتوا في مصر وهم على دين النصرانية؛ أحدهما معلم الآن في مدرسة أبي زعبل. ومثله ما حكاه لي بعضهم أن سر عسكر المسمى «منو» المتولي في مصر بعد قتل الجنرال «كليبر» (بفتح الكاف، وكسر اللم وكسر الباء) كان أسلم في مصر نفاقًا، كما هو الظاهر، وتسمى: عبد الله وتزوج ببنت شريف من أشراف رشيد، فلما خرج الفرنسيس من مصر، وأراد الرجوع، أخذها معه، فلما وصل رجع إلى النصرانية، وأبدل العمامة (البرنيطة) ومكث مع زوجته، هي على دينها مدة أيام فلما ولدت، وأراد زوجها أن يعمد ولده على عادة النصارى لينصره أبت الزوجة ذلك وقالت: لا أنصر ولدي أصلاً، ولا أعرضه للدين الباطل! فقال لها الزوج إن كل الأديان حق، وإن مآلها واحد وهو عمل الطيب، فلم ترض بذلك أبدًا فقال لها إن القرآن ناطق بذلك، وأنت مسلمة فعليك أن تصدقي بكتاب نبيل: ثم أرسل بإحضار أعلم الإفرنج باللغة العربية «البارون دساسي» فإنه هو الذي يعرف يقرأ القرآن وقال لها سليه عن ذلك فسألته، فأجابها بقوله: إنه يوجد في القرآن قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. فحجها بذلك! فأذنت بمعمودية ولدها، ثم بعد ذلك انتهى الأمر على ما قيل أنها تنصرت، وماتت كافرة. ومما رأيته من جملة المصريين في مرسيليا: إنسان لابس أيضًا كالإفرنج، واسمه محمد منطلق اللسان في غير اللغة العربية، فلا يعرف من اللسان العربي إلا اليسير، فسألته عن بلده ببر مصر، فأجاب بأنه من مدينة أسيوط من أشرافها، وأن أباه يسمى السيد عبد الرحيم، وهو من أكابر هذه البلدة، وأمه تسمى مسعودة أو قريبًا من ذلك الاسم، وأنه اختطفه الفرنساوية في حال صِغره، ويقول: إنه باق على إسلامه يعرف من الأمور الدينية: الله واحد ومحمد رسوله، والله كريم!». ومن العجائب أنني بعد كلامه توسمت فيه الخير، وكان على وجهه سمة أشراف أسيوط (ص ٤٢، ٤٤) حقيقة، فإن صح كلامه كان من أولاد سيدي حريز بن سيدي أبي القاسم الطهطاوي وأشراف طهطا من أولاد سيدي يحيى بن القطب الرباني سيدي أبي القاسم، وله ثالث يسمى سيدي علي البصير، ذريته أهل جزيرة شندويل، وشهرة سيدي أبي القاسم الطهطاوي لا تخفى على من يعرفه، وإن لم يذكره سيدي عبد الوهاب الشعراني في الطبقات، وكثير من الأشراف بالبلاد العثمانية ينتهي نسبهم إلى سيدي حريز المتقدم. ومما رأيته في مرسيليا الملعبة المسماة «السبكتا كل» وأمرها غريب ولا يمكن معرفتها بوصفها، بل لا بد من رؤيتها بالعين، ونذكرها في الكلام على «باريس» ومكثنا في هذه البلدة خمسين يومًا وتوجهنا إلى باريس.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/6/
الفصل الثاني
ثم إن السفر يكون ليلاً ونهارًا إلا وقت الأكل ونحوه، وكل البلاد التي في الطريق فيها مواضع معدة للطعام والشراب، مشتملة على سائر أنواع المطعومات والمشروبات في غاية النظافة والظرافة. وفيها محال للنوم مفروشة بالفرش العظيم، وبالجملة فهي مستكملة الآلات والأدوات. فلما ركبنا عربات السفر، كل جماعة منا في يوم، وسرنا من مرسيليا سيرًا سريعًا، مستمرًا على حالة واحدة، ولا يتأثر الإنسان، كسفر البحر بالرياح ونحوها، وصلنا مدينة ليون في ضحوة اليوم الثالث، ومدينة ليون، على البعد من مرسيليا باثنين وتسعة عشر فرسخًا، ومن «مرسيليا» إلى «باريس» مائتان وأحد عشر فرسخًا فرنساويًا، وقد مكثنا في «ليون» نحو اثنتي عشرة ساعة للاستراحة، ولم أرَ داخل هذه المدينة إلا بالمرور فيها، أو من شباك البيت الذي كنا فيه:
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/7/
الفصل الأول
اعلم أن هذه المدينة تسمى عند الفرنسيس «باري» (بالباء الفارسية التي تلفظ بين الفاء والباء) ولكن يكتب هذا الاسم «باريس» ولا ينطق بالسين أبدًا فيه، كما هو عادة الفرنساوية من أنهم يكتبون بعض الحروف ولا يلفظون بها أبدًا، خصوصًا حرف السين في آخر بعض الكلمات؛ فإنه لا ينطق به أبدًا مثلاً أتينه (بإمالة التاء) مدينة حكماء اليونان تكتب بالفرنساوية (أتينس) أو (باريز)، وربما قالوا «فارس». وأظن أن الأوفق كتابتها بالسين، وإن اشتهر على ألسنة غير أهلها قراءتها بالزاي، ولعل ذلك إنما نشأ عن أن السين في اللغة الفرنساوية قد تقرأ زايًا في بعض الأحيان ببعض شروط، وإن كانت مفقودة هنا إلا في حال النسبة فإن النسبة إلى «باريس» عند الفرنسيس بارزياني، وهذا بعينه هو السبب؛ لأن النسبة ترد الأشياء إلى أصولها، ولكن هذه القاعدة في النسبة العربية، والنسبة هنا أعجمية، وقد مشيت في بعض أشعاري التي أنشدتها فيها كتابتها بالسين. حيث قلت: وقلت: ••• وسميت بذلك؛ لأن طائفة من قدماء الفرنساوية كانت على نهر السين تسمى، (الباريزيين)، ومعناها في اللسان القديم الفرنساوي سكان الأطراف والحواشي، وليس هذا الاسم منقولاً عن «باريس» اسم رجل شهير كما قاله بعضهم. ثم إن هذه المدينة من أعمر مدائن الدنيا، ومن أعظم مدائن الإفرنج الآن، وهي كرسي بلاد الفرنسيس، وقاعدة ملك فرنسا، وسيأتي تفصيل ذلك في محله. وهي موضوعة في التاسعة والأربعين درجة وخمسين دقيقة من العرض الشمالي، يعني أنها بعيدة عن خط الاستواء جهة الشمال بهذا القدر. ولإمكان تقسيم الأرض، وتسهيل معرفتها، توهموا فيها دوائر أنصاف نهار ودوائر متوازية، ومحورًا وقطبين ورسموها على صورتها المصطنعة؛ فمحور الكرة الأرضية هو الخط الموازي لمحور الفلك، وطرفاه هما القطبان، ويسمى أحدهما القطب الشمالي، والآخر القطب الجنوبي، ودوائر أنصاف النهار هي الدوائر التي تعبر من أحد القطبين إلى الآخر، وعلة تسميتها بذلك أنه إذا كانت الشمس في سمت رأس محل يمر عليه هذا الخط وقت الظهر بذلك المحل، ومركز هذه الدوائر هو مركز الأرض. ولما الدوائر المتوازية فهي الدوائر الواقعة أعمدة على دوائر أنصاف النهار، وهي التي بينها وبين مركزها تواز على محور الأرض، (ص ٤٥) وأعظمها دائرة الاستواء وهي الدائرة العظمى السنوية البعد من القطبين، وهي تنصف الكرة نصفين أحدهما النصف الشمال، والآخر النصف الجنوبي، ثم إن دوائر أنصاف النهار. والدوائر المتوازية كسائر الدوائر، تنقسم إلى ثلاثمائة وستين درجة وكل درجة تتجزأ إلى ستين دقيقة، وكل دقيقة إلى ستين ثانية، وكل ثانية إلى ستين ثالثة، وهكذا. وقد رسم كما أسلفناه «بطليموس» الحكيم دائرة نصف النهار الأولية في «الجزائر الخالدات»، فلما انكشفت بلاد أمريكة اختار الإفرنج أن يجعل كل قطر من الأقطار خط نصف نهارهم الأولي ببلادهم، لينسبوا إليها ما عداها، كما صنع الفرنساوية، فإنهم جعلوا خط نصف نهارهم الأولي في مدينة باريس، وبقيت منهم أمم كالفلمنك على أخذ الأطوال من جزيرة الحديد بالجزائر الخالدات. وفي الواقع أن الأولى، كما هو الظاهر، اتخاذ مبدأ أطوال مشترك لجميع الأمم ينسب إليه ما عداه، ويكون في قطر لا عمار بعده معلوم أو ممتاز بمزية؛ كمكة المشرفة، ثم إن كيفية تحديد أن الشمس أو الأرض، كما يقوله الإفرنج، تقطع حركتها اليومية في أربع وعشرين ساعة فهي تقطع من الدائرة التي ترسمها في سيرها خمس عشرة (ص ٤٦) درجة في كل ساعة فتقطع درجة كل أربع دقائق يعني أنه إذا دخل وقت الظهر في القاهرة مثلاً فلا يدخل وقته في المكان الذي يبعد عنها جهة الغرب بخمس عشرة درجة إلا بعد ساعة ويدخل بعد ساعتين، فيما يبعد عنها بثلاثين درجة، وهلم جرا، وبعكس ذلك في المكان الذي يبعد عنها جهة المشرق، فإنه إذا كان الظهر في القاهرة يكون قد مضى ساعة بعد الظهر في المكان الذي يبعد عنها جهة المشرق بخمس عشرة درجة، ويكون مضى ساعتان فيما يبعد عنها في هذه الجهة بثلاثين درجة إلى آخره. وأما البلاد التي على غربيها فإذا كان الظهر في مدينة «مدريد» كرسي ملك الأندلس؛ فإنه يكون فات وقته في «باريس» بأربع دقائق وإذا كان في مدينة «أشبونة» كرسي البرتوغال فإنه يكون فات وقته في باريس بخمس دقائق ونصف، وإذا دخل وقته في «فيلادلفيا» بكسر الفاء، وسكون الياء، وفتح اللام، وكسر الدال المهملة، وسكون اللام، وكسر الفاء) مدينة بأمريكة، فإنه يكون قد مضى بعده في «باريس» خمس (ص ٤٧) ساعات وثلاث عشرة دقيقة، وإذا كان وقته في مدينة «ريوجانيرو» (بكسر الراء وضم الباء، وكسر النون، وسكون الياء) كرسي سلطنة «إبريزيلة» في أمريكة، فهو ثلاث ساعات تقريبًا، وإذا كان نصف النهار في جزيرة «كنفو» في «أمريكة الموسقو» يكون نصف الليل في «باريس» فإنهما متقاطران. ومعلوم أن درجة الحر تحسب من شروع المتجمدات في الذوبان إلى حد فوران الماء، ودرجات البرد من شروعه في الجمود. والأغلب فيها عدم صحو الزمن وكثرة الغيوم، بحيث تمكث الشمس في الشتاء عدة أيام لا تنكشف ولا يرى جَرْمها غالبًا، فما كأنها إلا ماتت وعاش الليل، ويحسن هنا قول بعضهم: وأما المطر، فإنه لا ينقطع في هذه المدينة في سائر فصول السنة، وإذا نزل في الغالب نزل بكثرة؛ فلذلك احتاجوا في دفع ضرره إلى جعل أعالي الدور منحدرة لتنزل منها المياه إلى أسفل الدور، وفي سائر البيوت والطرق مجاري وبالوعات، فترى وقت المطر سائر طرق «باريس» محدودة بمجار؛ كالقناة الجارية المياه، خصوصًا وأرض هذه المدينة مبلطة بالحجر، فلا تتشرب المياه أبدًا، بل تسير إلى هذه المجاري، ومنها إلى البالوعات. ومعلوم أنه ينبغي أن يتحفظ الإنسان من ضرر هذا التغير وإن كان هواء «باريس» في الجملة طيبًا مناسبًا للصحة، ومع أن حرها لا يصل إلى حر القاهرة في الغالب فهو غير مألوف أبدًا، ولعل ذلك للانتقال من شدة البرد إلى شدة الحر. وأحسن من قال: وبالجملة فالتدفئة في الشتاء عند الفرنساوية جزء من المؤونة، فهذا ما يستعينون به على البرد. وأما ما يستعينون به على التوقي من ضرر المطر فهو المظلات المسماة في مصر بالشمسيات، يعني وقايات الشمس، وتسمى تلك عند الفرنساوية وقاية المطر، وفي الحر تمشي النساء بالشمسيات، ولا يمكن للرجال ذلك أبدًا. وبقرب أرض باريس عين ماء معدني باردة الماء. ويشقها نهران أحدهما — وهو الأعظم والأشهر — يقال له: نهر السين بفتح السين) والآخر نهر «غوبلان» قال بعض علماء الكيميا من الإفرنج: إن أقل المياه خليطًا بالمواد الخارجية «نيل مصر» و«نهر الكنك» ببلاد الهند ونهر «السين» «بباريس» ويتفرع على ذلك اعتبار مائها في فن الطب من الأمور المناسبة لصحة الأبدان، وأنه يحسن تطبيب وطبخ الخضراوات بها دون غيرها، وتحليل الصابون بها للغسل ونحو ذلك. (و) قال بعضهم في وصف يوم برد وأجاد: «في يوم برد جعله الله منه في حمى، ومجال حرب كان الظفر فيه لابن ماء السما، كأنما ماجت الأرض فرحًا لانهلال السحاب، وقويت أوتادها إذ صار لها بالسماء من جبال المطر أمد الأسباب. وكأنَّ السماء قد رأت ما بالأرض من السرور فبعثت تهنيها بصوت الرباب، فلكم تفتحت أعين النور لعيون الغمام الساجمة، ولكم استمرت به مسرة واستقرت به سائمة، ولكم ضحكت الأرض لبكاء السماء بمدامعها، وظهر البشر على وجهها. وأهلها لا يبالون بذلك. فيقال في سائرة أيامها ما قاله بعضهم في وصف يوم شديد البرد من أنه يوم يجمد خمره، ويخمد جمره، ويخف فيه الثقيل إذا هجر، ويثقل فيه الخفيف إذا هجم. إلا أن الفرنساوية يكثرون من الملاهي في ليالي الشتاء؛ لأنهم يبذلون جهدهم في التوقي من مضارها، نسأل الله تعالى الوقاية من برد الزمهرير، فلو تعهدت مصر وتوفرت فيها أدوات العمران، لكانت سلطان المدن ورئيسة بلاد الدنيا، كما هو شائع على لسان الناس من قولهم: مصر أم الدنيا، وقد مدحتها مدة إقامتي «بباريس» بقصيدة وهي: ثم من غرائب نهر «السين» أنه يوجد فيه مراكب عظيمة، فيها أعظم حمامات «باريس» المشيدة البناء وفي كل حمام منها أبلغ من مائة خلوة، وسيأتي ذكرها. ومن الأمور المستحسنة أيضًا أنهم يصنون مجاري تحت الأرض توصل ماء النهر إلى حمامات أخرى وسط المدينة، أو إلى صهاريج بهندسة مكملة. فانظر أين سهولة هذا مع ملء صهاريج مصر بحمل الجمال، فإن ذلك أهون مصرفًا، وأيسر في كل زمن، وشطوط هذا النهر داخل المدينة، مرصفة بحيطان عظيمة عالية فوق الماء نحو قامتين، يطل المار بجانبها على النهر، وهي محكمة البناء. وقناطر هذا النهر «بباريس» ست عشرة قنطرة، فمنها قنطرة تسمى قنطرة بستان النباتات، ولها أربعمائة (ص ٥٥) قدم من الطول وعرضها سبعة وثلاثون قدمًا، ولهذه القنطرة خمسة قواصير من الحديد محكمة ومسندة على حجارة من أحجار النحاتة، وقد بنيت هذه القنطرة في خمس سنوات، وصرف فيها ثلاثون مليونًا من الفرنكات، يعني ثلاثين ألف ألف فرنك، وتسمى هذه القنطرة: قنطرة «استرلتز»، سميت بذلك باسم محل غلب فيه «نابليون» ملك «النيمسا والموسقو»، فيقال لهذه الواقعة واقعة: «استرلتز». ويقال لها واقعة موسم تتويج نابليون. «واسترلتز» بلدة وقعت هذه النصرة بقربها، وهذه النصرة تستحق عند الفرنساوية الذكر الجميل على مر الدهور؛ فلذلك أبدوها ببناء هذه القنطرة، فتسميتها بهذا الاسم للتذكار وبقاء الآثار. ونهر السين يشق «باريس» نحو فرسخين، وعرضه فيه مختلف؛ فعند القنطرة المتقدمة يكون من الطول مائة وستة وستين مترًا. وسطح أرض «باريس» صنفان؛ فالأول «جبس» والثاني طين، ماء نهر «السين» بعد زيادته، وأرضها مركبة من راقات مختلفة، فالراق الأول مزرعة طينية مرملة ذات حصى. الثاني: طَفل مختلط بجبس وصدف، الثالث: طفل صواني، الرابع: طفل جيري صدفي، الخامس: حجر الجير المخلوط بصدف، السادس: البحر الملح. السابع: طين شبيه بالإبليزي الثامن: من طباشير وجير مفحوم طباشيري. وبذلك يكثر أهلها، فإن أهلها الآن — يعني أهل الاستطيان بها — فوق مليون من الأنفس، ومحيطها سبعة فراسخ فرنساوية، ومطايا هذه المدينة — كغيرها من بلاد فرانسا — العربات، إلا أنه يكثر فيها ذلك ويتنوع، ولا تزال تسمع بها قرقعة العربات ليلاً ونهارًا بغير انقطاع، وسيأتي تفصيل ذلك في غير هذا المحل.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/8/
الفصل الثاني
اعلم أن الباريزيين يختصون من بين كثير من النصارى بذكاء العقل، ودقة الفهم وغوص ذهنهم في الغويصات، وليسوا مثل النصارى القبطة، في أنهم يميلون بالطبيعة إلى الجهل والغفلة، وليسوا أسراء التقليد أصلاً، بل يحبون دائمًا معرفة أصل الشيء والاستدلال عليه، حتى إن عامتهم أيضًا يعرفون القراءة والكتابة، ويدخلون مع غيرهم في الأمور العميقة، كل إنسان على قدر حاله، فليست العوام بهذه البلاد من قبيل الأنعام كعوام أكثر البلاد المتبربرة. وسائر العلوم والفنون والصنائع مدونة في الكتب حتى الصنائع الدنيئة، فيحتاج الصنائعي بالضرورة إلى معرفة القراءة والكتابة لإتقان صنعته، وكل صاحب فن من الفنون يحب أن يبتدع في فنه شيئًا لم يسبق به، أو يكمل ما ابتدعه غيره. ومما يعينهم على ذلك زيادة عن الكسب حب الرياء والسمعة ودوام الذكر، فهم يقتدون بقول الشاعر: وقول ابن دريد: وقيل لإسكندر: لو استكثرت من النساء كثر ولدك، وطاب بهم ذكرك، فقال: دوام الذكر في حسن السيرة والسنن، ولا يحسن لمن غلب الرجال أن تغلبه النساء. ومن طباع الفرنساوية التطلع والتولع بسائر الأشياء الجديدة، وحب التغيير والتبديل في سائر الأمور، وخصوصًا في أمر الملبس، فإنه لا قرار له أبدًا عندهم، ولم تقف لهم إلى الآن عادة في التزيين، وليس معنى هذا أنهم يغيرون ملبسهم بالكلية، بل معناه أنهم يتنوعون فيه؛ مثلاً: لا يغيرون لبس (البرنيطة) ولا ينتقلون منها إلى العمامة، وإنما هم تارة يلبسون (البرنيطة) على شكل، ثم بعد زمن ينتقلون إلى شكل آخر، سواء صورتها أو لونها، وهكذا. ومن طباعهم المهارة والخفة، فإن صاحب المقام قد نجده يجري في السكة كالصغير، ومن طباعهم أيضًا الطيش والتلون، فينتقل الإنسان منهم عن الفرح إلى الحزن وبالعكس، ومن الجد إلى الهزل وبالعكس، حتى إن الإنسان قد يرتكب في يوم واحد جملة أمور متضادة، وهذا كله في الأمور الغير المهمة، وأما في الأمور المهمة، فآراؤهم في السياسات لا تتغير، كل واحد يدوم على مذهبه ورأيه، ويؤيده مدة عمره، ومع كثرة ميلهم إلى أوطانهم يحبون الأسفار، فقد يمكثون السنين العديدة والمدة المديدة، طوافين بين المشرق والمغرب، حتى إنهم قد يلقون أنفسهم في المهالك، لمصلحة تعود على أوطانهم يحبون السفر، فقد يمكثون السنين العديدة والمدة المديدة، طوافين بين المشرق والمغرب، حتى إنهم قد يلقون أنفسهم في المهالك، لمصلحة تعود على أوطانهم، فكأنهم مصداق قول الحاجري: وقال آخر: ومن خصالهم محبة الغرباء والميل إلى معاشرتهم، خصوصًا إذا كان الغريب متجملاً بالثياب النفيسة، وإنما يحملهم على ذلك الرغبة والتشوف إلى السؤال عن أحوال البلاد، وعوائد أهلها، ليظفروا بمقصدهم في الحضر والسفر، وقد جرت عادة النفوس إلى الطمع من الدنيا بما لا تظفر به، كما قال الشاعر: وليس عندهم المواساة إلا بأقوالهم وأفعالهم، لا بأموالهم، إلا أنهم لا يمنعون عن أصحابهم ما يطلبون استعارته لا هبته إلا إذا وثقوا بالمكافأة، وهم في الحقيقة أقرب للبخل من الكرم، وقد ذكرنا علة ذلك في ترجمتنا «مختصر السير والعوايد في ذكر الضيافة» وفي الواقع، حقيقة السبب في ذلك هو أن الكرم في العرب. ومن أوصافهم توفيتهم غالبًا بالحقوق الواجبة عليهم، وعدم إهمالهم أشغالهم، فإنهم لا يكلون من الأشغال سواء الغني والفقير، فكأن لسان حالهم يقول: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما. ومن المركوز في طبعهم حب الرياء والسمعة، لا الكبر والحقد، فهم كما يقولون في مدح أنفسهم: أخلص قلوبًا من الغنم عند ذبحها، وإن كانوا عند الغضب أشد افتراسًا من النمور، فإن الإنسان منهم إذا غضب قد يؤثر الموت على الحياة، فقل أن يفوت زمن يسير من غير أن يقتل إنسان نفسه خصوصًا من داء الفقر أو العشق. ومن طباعهم الغالبة: وفاء الوعد، وعدم الغدر، وقلة الخيانة، ومن كلام بعض الحكماء: المواعيد شباك الكرام، يصطادون بها محامد الأخبار، وقال آخر: كفر النعمة من لؤم الطبيعة ورداء الديانة، وقال آخر: الشكر وكاء النعمة، والوفاء به صلاح العقبى، وقيل: وعد الكريم ألزم من دين الغريم، وقال بعضهم الخيانات تؤذي الأمانات. ومن طباعهم الغالبة: الصدق، ويعتنون كثيرًا بالمروءة الإنسانية، قال بعضهم في مدحها: المروءة اسم جامع للمحاسن كلها. ومن الصفات التي يقبح وصف الإنسان بها عندهم: كفر النعم، مثل غيرهم. فيرون أن شكر المنعم واجب، وأظن أن جميع الأمم ترى ذلك — وإن كانت قد تفقد هذه الصفة عند أفراد، فهو خروج عن الطبع، فهي كشفقة الوالد وبر الولد، فإنهما قد يتخلفان في بعض الأفراد، مع أنهما صفتان جِبلِّيتان، عند سائر الأمم والملل، ومما قيل في ذلك، وهو أحسن ما قيل مع ما فيه من الاستطراد: ويقال إن أبا بكر الخوارزمي الشاعر المشهور قصد الصاحب بن عباد فأحسن زوله، وأكرمه وأقام في نعمته مدة، ثم حين ارتحاله كتب بيتين وجعلهما في مكان حيث يجلس الصاحب وهما: فلما وقف عليهما الصاحب، قال وقد بلغه موت الخوارزمي: وهذا بخلاف أبي طالب عبد السلام بن الحسين المأموني من أولاد المأمون، وهو شاعر محسن أقبل على الصاحب بن عباد، فرماه ندماءُ الصاحب فسقطت منزلته عنده، فقال قصيدة طلب فيها من الصاحب الإذن بالرحيل، ومن وداعها قوله: ومن خصالهم أيضًا: صرف الأموال في حظوظ النفس، والشهوات الشيطانية، واللهو واللعب، فإنهم مسرفون غاية السرف. ولا يظن الإفرنج بنسائهم ظنًا سيئًا أصلاً، مع أن هفواتهن كثيرة معهم، فإن الإنسان، ولو من أعبائهم، قد يثبت له فجور زوجته، فيهجرها بالكلية، وينفصل عنها مدة العمر. والتفريق بينهما بهذه المثابة يكون عقب إقامة دعوى شرعية ومرافعة يثبت فيها الزوج دعواه بحجج قوية على رءوس الأشهاد، تتلوث فيها الذرية بالفضيحة وإن كانت بدون لعان، ولا تعرض للأولاد. وهذا يقع كثيرًا في العائلات الكبيرة والصغيرة، ويشهد مجلس المرافعة الخاص والعام، فلا يعتبر الآخرون بذلك، مع أنه ينبغي الاحتراس منهن، كما قال الشاعر: ومن كلام بعض الغرب الغرباء خطابًا لزوجته: ومن الأمور المستحسنة في طباعهم، الشبيهة حقيقة بطباع العرب: عدم ميلهم إلى الأحداث، والتشبب فيهم أصلا، فهذا أمر منسي الذكر عندهم، تأباه طبيعتهم وأخلاقهم، فمن محاسن لسانهم وأشعارهم أنها تأبى تغزل الجنس في جنسه، فلا يحسن في اللغة الفرنساوية قول الرجل: عشقت غلامًا؛ فإن هذا يكون من الكلام المنبوذ المشكل؛ فلذلك إذا ترجم أحدهم كتابًا من كتبنا يقلب الكلام إلى وجه آخر، فيقول في ترجمة تلك الجملة عشقت غلامه، أو ذاتًا؛ ليتخلص من ذلك فإنهم يرون هذا من فساد الأخلاق، والحق معهم؛ وذلك أن أحد الجنسين له في غير جنسه خاصة من الخواص يميل بها إليه كخاصة المغناطيس في جذب الحديد مثلاً، وكخاصة الكهربا في جذب الأشياء، ونحو ذلك، فإذا اتحد الجنس انعدمت الخاصة، وخرج عن الحالة الطبيعية، وهذا الأمر عندهم من أشد الفواحش، حتى إنه قلمًا ذكروه صريحًا في كتبهم بل يكنون عنه بما أمكن، ولا يسمع التحدث به أصلاً، ويعجبني قول الشيخ عباس اليمني: ومن خصالهم الرديئة: قلة عفاف كثير من نسائهم كما تقدم. وعدم غيرة رجالهم فيما يكون عند الإسلام من الغيرة بمثل المصاحبة والملاعبة والمسايرة، ومما قاله بعض أهل المجون الفرنساوية: لا تغتر بإباء امرأة إذا سألتها قضاء الوطر، ولا تستدل بذلك على عفافها، ولكن على كثرة تجربتها. انتهى. كيف والزنا عندهم من العيوب والرذائل، لا من الذنوب الأوائل، خصوصًا في حق غير المتزوج، فكأنَّ نساءهن مصداق قول بعض الحكماء: لا تغتر بامرأة، ولا تثق بمال وإن كثر، وقال آخر: النساء حبائل الشيطان، وقال الشاعر: وبالجملة فهذه المدينة؛ كباقي مدن فرانسا وبلاد الإفرنج العظيمة، مشحونة بكثير من الفواحش والبدع والاختلالات، وإن كانت مدينة «باريس» من أحكم سائر بلاد الدنيا وديار العلوم البرانية، وأثينة الفرنساوية، وقد قابلتها فيما تقدم نوع مقابلة بأثينة — أي: مدينة حكماء اليونان — ثم رأيت بعض أهل الأدب من الفرنساوية قال ما معناه: إن الباريزيين أشبه الناس بأهل أثينة، أو هم أثينيو هذا الزمان، فإن عقولهم رومانية، وطابعهم يونانية. انتهى. وقد أسلفنا أن الفرنساوية من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليين، وأقول هنا إنهم ينكرون خوارق العادات، ويعتقدون أنه لا يمكن تخلف الأمور الطبيعية أصلاً، وأن الأديان إنما جاءت لتدل الإنسان على فعل الخير، واجتناب ضده، وأن عمارة البلاد وتطرق الناس وتقدمهم في الآداب والظرافة تسد مسد الأديان، وأن الممالك العامرة تصنع فيها الأمور السياسية كالأمور الشرعية. ومن عقائدهم القبيحة قولهم: إن عقول حكمائهم وطبائعييهم أعظم من عقول الأنبياء وأذكى منها. ولهم كثير من العقائد الشنيعة كأفكار بعضهم القضاء والقدر، مع أن من الحكم العاقل من يصدق بالقضاء، ويأخذ بالحزم في سائر الأشياء، وإن كان لا ينبغي للإنسان أن يحيل الأشياء على المقادير أو يحتج بها قبل الوقوع، فإن من الأمثال التي سارت بها الركبان: من دلائل العجز كثرة الإحالة على المقادير، ومن كلام بعضهم: إذا وقعت المجادلة فالسكون أفضل من الكلام، وإذا وقعت المحاربة: فالتدبير أفضل من التقدير. ومنهم جماعة يعتقدون أن الله تعالى خلق الخلق، ونظمهم نظامًا عجيبًا، فرغ منه ثم لا يزال يلاحظهم بصفة له تعالى، تسمى صفة العناية والحفظ، تتعلق بالممكنات إجمالاً، بمعنى أنها تمنتها عن خلل انتظام الملك، وسنذكر بعض عقائدهم في غير هذا المحل. ثم إن لون أهل «باريس» البياض المشرب بالحمرة، وقل وجود السمرة في أهلها المتأصلين بها، وإنما ندر ذلك لأنهم لا يزوجون عادة الزنجية للأبيض أو بالعكس، محافظة على عدم الاختلاط في اللون؛ حتى لا يكون عندهم ابن أمة. قال الشاعر: بل لا يعدون أنه قد يكون للزنج جمال أصلاً، بل غيره عندهم من صفات القبح، فليس لهم في المحبة مذهبان، ولا يحسن عندهم قول الشاعر في غلام: بل لسان حالهم دائمًا ينشد قول الآخر: على أنه لا يحسن عند الفرنساوية استخدام جارية سوداء في الطبخ ونحوه؛ لما ركز في أذهانهم أن السود عارون عن النظافة اللازمة. ونساء الفرنساوية بارعات الجمال واللطافة، حسان المسايرة والملاطفة، يتبرجن دائمًا بالزينة، ويختلطن مع الرجال في المنتزهات. وربما حدث التعارف بينهن وبين بعض الرجال في تلك المحال، سواء الأحرار وغيرهن، خصوصًا يوم الأحد الذي هو عيد النصارى، ويوم بطالتهم، وليلة الاثنين في (البالات) والمراقص الآتي ذكرها، ويحسن قول بعضهم (شعر): ومما قيل: إن «باريس» جنة النساء، وأعراف الرجال، وجحيم الخيل؛ وذلك أن النساء بها منعمات، سواء بمالهن أو بجمالهن. وأما الرجال فإنهم بين هؤلاء وهؤلاء، عبيد النساء فإن الإنسان يحرم نفسه وينزه عشيقته، وأما الخيل فإنها تجر العربات ليلاً ونهارًا على أحجار أرض «باريس» خصوصًا إذا كانت المستأجرة للعربة امرأة جميلة، فإن (العربجي) يجهد خيله ليوصلها إلى مقصدها عاجلاً؛ فالخيل دائمًا معذبة بهذه المدينة. وحيث إن باريس من بلاد الفرنسيس، فمعلوم أن لسان أهلها هو اللسان الفرنساوي، ولنذكر هنا نبذة من ذلك فنقول: اعلم أن اللسان الفرنساوي من الإفرنجية المستحدثة، وهو لسان الغلوية، يعني: قدماء الفرنسيس، ثم كمل من اللغة اللاطينية، وأضيف إليه شيء من اللغة اليونانية النيمساوية ويسير من لغة الصقالية وغيرها، ثم حين برع الفرنساوية في العلوم نقلوا كلمات العلوم من لغات أهلها، وأكثر الكلمات الاصطلاحية يونانية، حتى كان لسانهم من أشيع الألسن وأوسعها، بالنسبة لكثرة الكلمات غير المترادفة، لا بتلاعب العبارات والتصرف فيها، ولا بالمحسنات البديعية اللفظية، فإنه خال عنها، وكذا غالب المحسنات البديعية المعنوية، وربما عد ما يكون من المحسنات في العربية ركاكة عند الفرنسيس، مثلاً لا تكون التورية من المحسنات الجيدة الاستعمال إلا نادرًا، فإن كانت فهي من هزليات أدبائهم وكذلك مثل الجناس التام والناقص؛ فإنه لا معنى له عندهم وتذهب ظرافة ما يترجم لهم من العربية، ما يكون مزينًا بذلك، مثل قول صاحب البديعية: ولا يمكن أن ينقل إلى لغاتهم ما قلته في نظم مصطلح الحديث: إلى آخر قولي فيها: وسيأتي تتميم الكلام على ذلك، وبالجملة فلكل لسان اصطلاح، واصطلاح اللغة الفرنساوية تقليل التصريف ما أمكن، وتصريف الفعل مع فعل آخر؛ مثلاً إذا أراد الإنسان أن يخبر بأنه أكل فإنه يقول: أملك مأكولاً، يعني لا يمكن تصريف (أكل) في بعض أحواله إلا مع فعل الملك أو التلبس، فكأنه يقول: تلبست بالأكل. وإذا أراد أن يقول: خرجت، يقول: أنا أكون مخرجًا، يعني: خرجت وهكذا يسمي فعل الملك، وفعل الكينونة: فعلين مساعدين؛ يعني أنهما يعينان على تصريف الأفعال، ويتجردان عن معناهما الأصلي، وإذا أرادوا تعدية الفعل قالوا: فعلت له الأكل، يعني جعلته يأكل، أو أكلته، وفعلت له الخروج، يعني أخرجته وهكذا، فلا يمكنهم تصريف الأفعال كما يمكن في اللغة العربية؛ فلذلك كانت لغتهم ضيقة من هذه الحيثية، ثم إن قواعد اللسان الفرنساوي وفن تركيب كلماته وكتابتها وقراءتها يسمى: (غرماتيقي) «واغرمير» (بتشديد الميم) عند الفرنسيس، ومعناه فن تركيب الكلام من لغة من اللغات، فكأنه يقول: فن النحو فيدخل فيه سائر ما يتعلق باللغة، كما نقول نحن: علوم العربية: وتريد بها الاثني عشر علمًا المجموعة في قول شيخنا العطار: وبعضهم زاد البديع، وآخر استحسن زيادة التجويد، وبالجملة فباب الزيادة والنقص فيها مفتوح؛ إذ حصرها وتقسيمها في ذلك جعلي لا حصري. والظاهر أن هذه العلوم جديرة بأن تسمى مباحث علم العربية فقط، فكيف يكون كل من الشعر والقريض والقافية علمًا مستقلاً برأسه، وكل من النحو والصرف والاشتقاق علمًا برأسه، وانظر ما المراد بالتاريخ وبكونه من العلوم العربية مع أن أول من ألف فيه علماء اليونان، وأول ما ظهر في هذا الفن كتب «أوميروس» في واقعة يكون المراد بالتاريخ طريقة إنشاء تواريخ الحوادث السنوية على أسلوب حساب الجمل، فيكون أيضًا تسميته علمًا من قبيل التوسع في تعريف العلم، وعلم الخط قديم أيضًا؛ فالإفرنج يدخلون هذه المباحث في علم تركيب الكلام، بل ويعدون منه المنطق والوضع والمناظرة. وقال آخر: فلا شك أن لسان العرب هو أعظم اللغات وأبهجها: ولله در من قال: بسم الله المبدئ المعيد، الحمد لله العالي المتعالي، الذي له الأسماء الحسنى، ولا يخالط صفاته عن وجل من صفات المخلوق شيء أقصى ولا أدنى، العليم الذي ليس لعلمه نهاية، والحكم الحكيم الذي حكمه وحكمته وراء كل حد وغاية، لا يحصر لاهوت وجوده زمان ومكان، ولا يشوب صفاء جبروته شائبة زيادة ولا نقصان. مسبب الأسباب الذي لا يتحرك في أطراف الأرض والسماء متحرك إلا بقدرته وإرادته، ولا يتكلم في أكناف الآفاق متكلم إلا بإلهامه وإفادته، أحمده حمد من اعترف بتقصير فهمه، وضعف عقله فهداه برحمته وتوفيقه إلى تحصيل بعض العلوم والفنون، وأشكر له شكر من كان يخبط في ظلام الجهل فأخرجه برأفته وتأييده إلى فضاء الرشد ونور التمييز، حتى عرف الحق اليقين من أباطيل الظنون، ثم أتوسل إليه — سبحانه وتعالى — بأنبيائه المرسلين، وأوليائه المقربين. الذين كل واحد منهم كالغُرة على جبهة الدهر، وكالتاج على مفرق العصر، وأسأله — عز وجل — أن يجعلني من عباده المهتدين، الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، إنه على كل شيء قدير، وبإجابة هذا الدعاء جدير. أما بعد: لما فضل الله جنس الناس على سائر المبتدعات بفوائد الأفهام، واختص بني آدم من بين أصناف الحيوانات بكرامة الكلام، بعث في كل أمة من الأمم من يكون في تمهيد قواعد البلاغة واستنباط أحكام شريعتها معروفًا مشهورًا، ويصير لسانك طريقة الفصاحة إمامًا ودستورًا، فممن اشتهر بذلك بين الأنام، وصار المشار إليه في هذا الباب عند أهل الإسلام، مؤلف المقامات المشهور بالحريري، وهو الشيخ الإمام أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان البصري الذي ازدرى من كان قبله من الأدباء والفصحاء، وأجهد من جاء بعده من الظرفاء والبلغاء، فأتى لما رأيت أن كتابه المذكور، لم يزل مذ ألفه إلى يومنا هذا لعلم الأدب كالعلم المشهور، يحسبه الخاصة والعامة واسطة عقده، وخلاصة نقده، ويعتقدونه نور مصباحه، وضياء صباحه، بل لا يشك أحد منهم أنه أزهار بستانه، وأثمار جنانه، وزلال مائه، ونسيم هوائه، أحببت أن أشرحه شرحًا متوسطًا بين الإيجاز والتطويل، أكشف الغطاء عن مشكلاته ومجملاته بالتفسير والتفصيل. وقد شرح المقامات الحريرية من علماء المشرق والمغرب كثير، وذكرهم الحاج خليفة في كتابه المسمى: «كشف الظنون» عن أسامي الكتب والفنون، وما وصلت يدي إليه من مؤلفاتهم شروح أربعة منها «غريب الإيضاح في غريب المقامات الحريرية» للإمام برهان الدين أبي الفتح ناصر بن عبد السيد المطرزي الخوارزمي، المتوفى سنة عشر وستمائة، وهذا الشرح مع وجازته كتاب مفيد محصل للمقصود. والمطرزي كانت له معرفة تامة بالنحو وباللغة والشعر وأنواع الأدب، وهو صاحب كتاب «المغرب» تكلم فيه على الألفاظ التي يستعملها الفقهاء من الغريب. ومنها كتاب «شرح ما غمض من الألفاظ اللغوية، من المقامات الحريرية» تأليف الشيخ محب الدين عبد الله بن الحسين العكبري البغدادي المتوفى سنة عشر وستمائة، قال: إني رأيت المقامات الحريرية مشحونة بالألفاظ اللغوية، وهي أحد الكتب التي عني بها علماء العربية، ودعاني ذلك إلى تفسير ما غمض من ألفاظها على الإيحاز، وقد كنت عثرت لبعض الناس على شيء من ذلك إلا أنه أسهب بما لا يحتاج إليه، وربما فسر اللفظة بغير ما قصد منشئها. ومنها «شرح المقامات» للأستاذ اللغوي النحوي أبي العباس أحمد بن عبد المؤمن بن موسى القسي الشريشي المتوفى سنة تسع عشرة وستمائة، وهو شرح طويل، ذكر الشريشي أنه لم يترك في كتاب من شروح المقامات فائدة إلا استخرجها، ولا عائدة إلا استدرجها، ولا نكتة إلا علقها، ولا غريبة إلا استحلقها، حتى صار شرحه تأليفًا في المقامات يغني عن كل شرح تقدم فيها، ولا يحوج إلى سواه في لفظة من ألفاظها، ولا معنى من معانيها، وقد أخذ شيئًا كثيرًا من شرح ابن ظفر الصقلي صاحب كتاب «سلوان المطاع» في عدوان الأتباع المتوفى بمدينة حماة سنة خمس وستين وخمسمائة. ومن شرح الفندهجي، وهو الشيخ الإمام تاج الدين أبو سعيد محمد بن سعادات عبد الرحمن بن محمد الخراساني المروزي الفندهجي، وقيل: البندهجي، المتوفى بمدينة دمشق سنة أربع وثمانين وخمسمائة. هذا ما كان لي من شروح المقامات، وقد اجتمع عندي أيضًا نسخ ست من كتاب المقامات بلا شرح، غير أن أكثرها يوجد به من التعليقات والحواشي ما ينتفع به القارئ، وقد اخترت من تلك الشروح والحواشي كل ما يحتاج إليه طالب العلم في تحصيل المقصود، ويستعين به الراغب في الأدب، على إدراك المطلوب، ثم أضفت على ذلك شيئًا كثيرًا نقلته من كتب أئمة النحو واللغة، ومن مجمع الأمثال، للعلامة الميداني، وكتاب وفيَات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلكان، ثم من ديوان البحتري، ومن ديوان المتنبي، وشرح المعلقات للزوزني، وغير هذا من كتب الأدب كل ذلك ليتيسر على من أعجبه الغوص في بحار اللغات العربية أن يظفر من دررها بكل يتيمة عقيلة، وليسهل على المولع بغرائب العلوم الأدبية المشرقية أن يصل من جواهر معادنها إلى كل فلذة ثمينة جزيلة، وإنما المرجو ممن نظر في هذا الشرح المختار أن لا يؤاخذني على ما ظهر عليه من العثرات، بل أن يستر بذيل كرمه ما استبان له من العورات، والله أسأله أن يجعل هذا الكتاب لمن تصفحه من أهل الشرق والغرب نافعًا مفيدًا، ولجميع من أسرع إلى مورده من أبناء جنسنا ومن غير جنسنا هنيئًا مريئًا حميدًا انتهى كلامه. وقال في المقدمة الفرنساوية لهذا الكتاب: إن المقامات البديعية تفضل المقامات الحريرية. وقد ترجم إلى الفرنساوية عدة مقامات من الاثنتين في مجموعة: كتاب الأنيس المفيد، للطالب المستفيد، وجامع الشذور، من منظوم ومنثور، وبالجملة فمعرفته خصوصًا في اللغة العربية مشهورة، مع أنه لا يمكنه أن يتكلم بالعربي إلا بغاية الصعوبة، وقد رأيت له في بعض كتبه توقيفات عظيمة، وإيرادات جليلة، ومناقضات قوية، وله اطلاع عظيم على الكتب العلمية المؤلفة في سائر اللغات، وسبب ذلك كله تمكنه من لغته بالكلية، ثم تفرغه بعد ذلك لمعرفة اللغات شعر: هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ التركي الفارابي الحكيم الفيلسوف، فيلسوف الإسلام الماهر الباهر، قدم على سيف الدولة بن حمدان، وكان مجلسه مجمع الفضلاء في جميع العلوم، فأدخل عليه، وهو بزي الأتراك، وكان ذلك عادته فوقف بين يديه، فقال له سيف الدولة: اجلس، فقال: حيث أنت أو حيث أنا؟ فقال: حيث أنت. فتخطى رقاب الناس، حتى انتهى إلى مجلس سيف الدولة وزاحمه في مسنده حتى أخرجه عنه، وكان على رأس سيف الدولة مماليك وله معهم لسان يسارهم به قلّ أن يعرفه أحد، فقال لهم بذلك اللسان: إن هذا الشيخ قد أساء الأدب، وإني مسائله عن أشياء إن لم يعرف بها فأخرجوه، فقال له أبو نصر بذلك اللسان: أيها الأمير اصبر، فإن الأمور بعواقبها، فتعجب سيف الدولة منه، وقال له: أتحسن هذا اللسان؟ فقال: نعم، أحسن أكثر من سبعين لسانًا، فعظم عنده، ثم أخذ يتكلم مع العلماء الحاضرين في المجلس في كل فن، ولم يزل كلامه يعلو. وكلامهم يسفل، حتى صمت الكل وبقي يتكلم وحده، ثم أخذوا يكتبون ما يقول، فصرفهم سيف الدولة وخلا به، فقال له: هل لك في أن تأكل؟ قال: لا، قال: فهل تشرب؟ قال: لا، قال: فهل تسمع؟ قال: نعم، فأمر سيف الدولة بإحضار القيان، فحضر كل ماهر في هذه الصناعة بأنواع الملاهي، فلم يحرك أحد منهم آلته إلا عابه أبو نصر، وقال له: أخطأت فقال له سيف الدولة: فهل تحسن في هذه الصنعة شيئًا؟ قال: نعم، ثم أخرج من وسطه خريطة، ففتحها، وأخرج منها عيدانًا فركبها، ثم لعب بها، فضحك كل من في المجلس ثم فكها، وركبها، ولعب بها، فبكى من في المجلس، ثم فكها، وركبها، ولعب بها، فنام كل من في المجلس حتى البواب، فتركهم نيامًا وخرج! وكان أزهد الناس في الدنيا متقللاً منها أجرى عليه سيف الدولة في كل يوم أربعة دراهم، ومن شعره: ومنه: ثم إن الفنون باللغة الفرنساوية قد بلغت درجة أوجها حتى إن كل علم فيه قاموس مرتب على حروف المعجم في ألفاظ العلوم الاصطلاحية، حتى علوم السوقة، فإنها لها مدارس كمدرسة الطباخة، يعني مجلس علماء الطباخة وشعرائها، وإن كان هذا من أنواع الهوس، غير أنه يدل على اعتناء هذه البلاد بتحقيق سائر الأشياء، ولو الدنيئة وسواء في ذلك الذكور والإناث، فإن للنساء تآليف عظيمة ومنهن مترجمات للكتب من لغة إلى أخرى، مع حسن العبارات وسبكها وجودتها، منهن من يتمثل بإنشائها ومراسلاتها المستغربة، ومن هنا يظهر لك أن قول بعض أرباب الأمثال: جمال المرء عقله، وجمال المرأة لسانها، لا يليق بتلك البلاد، فإنه يسأل فيها عن عقل المرأة وقريحتها وفهمها وعن معرفتها. ثم العلوم الأدبية الفرنساوية لا بأس بها، ولكن لغتها وأشعارها مبنية على عادة جاهلية اليونان وتأليههم ما يستحسنونه، فيقولون مثلا: إله الجمال، وإله العشق، وإله كذا، فألفاظهم في بعض الأحيان كفرية صريحة وإن كانوا لا يعتقدون ما يقولون، وإنما هذا من باب التمثيل ونحوه. وبالجملة فكثير من الأشعار الفرنساوية لا بأس به، ولنذكر لك شيئًا من بعض أشعارهم مترجمة من كلام بعضهم للعبد الفقير: وقوله مترجمًا لي: ومن القصيدة المسماة: «نظم العقود، في كسر العود»، للخواجة يعقوب المصري منشئًا، الفرنساوي استيطانًا، وقد اعتنيت بترجمتها سنة ألف ومائتين واثنتين وأربعين: وأخرجتها من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام قول صاحبها ونظمه للعبد الفقير: وبعد هذا بعدة أبيات، تخلّص الشاعر إلى ذم العشق وتوابعه، فقال: وقال يذم نفسه ويوبخها على العزم على فراق محبوبته، لا سيما وهي تتأذى من فراقه: وهذه القصيدة كغيرها من الأشعار المترجمة من اللغة الفرنساوية عالية النفس في أصلها، ولكن في الترجمة تذهب بلاغتها، فلا تظهر علو نفس صاحبها، ومثل ذلك لطائف القصائد العربية، فإنه لا يمكن ترجمتها إلى غالب اللغات الإفرنجية من غير أن يذهب حس، بل ربما صارت باردة، وسيأتي تتميم الكلام على غالب الآداب الفرنساوية والعلوم والفنون.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/9/
الفصل الثالث
ولنكشف الغطاء عن تدبير الفرنساوية، ونستوفي غالب أحكامهم؛ ليكون تدبيرهم العجيب عبرة لمن اعتبر، فنقول: قد سلف لنا أن «باريس» هي كرسي بلاد الفرنسيس، وهي محل إقامة ملك فرنسا وأقاربه وعائلته المسماة «البربون» (بضم الباء الموحدة، وسكون الراء، وضم الباء الثانية) فلا يكون ملك فرانسا إلا من هذه العائلة. ومملكة الفرنساوية متوارثة، ومسكن ملك فرنسا (سراية) تسمى: «التولري» (بضم التاء وكسر الواو وكسر الراء)، والغالب إن الفرنساوية يعبرون عن ديوان فرنسا بقولهم: «كابينة النواري» يعني ديوان هذه السراية، أي ديوان الملك. ووظيفة أهل ديوان «البير» تجديد قانون مفقود، أو إبقاء قانون موجود على حاله، ويسمي القانون عند الفرنساوية: شريعة: فلذلك يقولون: شريعة الملك الفلاني، ومن وظيفة ديوان «البير» أن يعضد حقوق تاج المملكة، ويحامي عنه، ويمانع سائر من يتعرض لها، وانعقاد هذا الديوان يكون مدة معلومة من السنة، في زمن اجتماع ديوان رسل العمالات، بإذن ملك الفرنسيس، وعدد أهل ذلك الديوان غير منحصر في عدة مخصوصة، ولا يقبل دخول الإنسان فيه إلا وهو ابن خمس وعشرين سنة ولا يشرك في الشورى إلا وهو ابن ثلاثين سنة ما لم يكن من بيت المملكة، وإلا فبمجرد ولادته يحسب من أهل هذا الديوان ويشرك في المشورة حين يبلغ عمره خمسًا وعشرين سنة. وكانت وظيفة «البيرية» متوارثة للذكور فيقدم أكبر الأولاد، ثم بعد موته يقدم من يليه وهكذا. وأما الديوان الخصوصي، فإنه تخصيص الملك لجماعة بمشورته إياهم على مادة مخصوصة، والغالب على أهل هذا الديوان كونهم من أقاربه ووزرائه. وأما ديوان سر الملك فإنه يتألف من وزراء السر ومن أربعة وزراء آخرين، لهم وزارة مطلقة ثم جماعة من أرباب المشورة في الدولة. وأما ديوان الدولة، فإنه يتألف ممن يعينه الملك من أقاربه من الوزراء التسعة الكاتمين سر الدولة، ثم من وزراء الدولة المطلقين، ومن أرباب المشورة، ليتعلموا تدبير الدولة. ومن ذلك يتضح لك أن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف، وأن السياسة الفرنساوية هي قانون مقيد، بحيث إن الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين التي يرضى بها أهل الدواوين، وأن ديوان «البير» يمانع الملك وديوان رسل العمالات يحامي عن الرعية، والقانون الذي يمشي عليه الفرنساوية الآن ويتخذونه أساسًا لسياستهم هو القانون الذي ألفه لهم ملكهم المسمى: لويز الثامن عشر (بضم اللام وكسر الواو) ولا زال متبعًا عندهم ومرضيًا لهم، وفيه أمور لا ينكر ذوو العقول أنها من باب العدل. ولنذكر هنا نبذة مما قاله فيه العلماء والحكماء، أو في ضده من كلام بعضهم: ظلم اليتامى والأيامى مفتاح الفقر، والحلم حجاب الآفات، وقلوب الرعية خزائن ملكها، فما أودعه إياها وجده فيها، وقال آخر: لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل. وقيل فيما يقرب من هذا المعنى: سلطان الملوك على أجسام الرعايا لا على قلوبهم، وقال بعضهم: أبلغ الأشياء في تدبير المملكة تسديدها بالعدل، وحفظها من الخلل. وقيل: إذا أردت أن تطاع فاطلب ما يستطاع، إن المولى إذا كلف عبده ما لا يطيعه؛ فقد أقام عذره في مخالفته، وقال بعضهم شعرًا يفيد أن النصر يتوقف على العدل: وقال آخر: ثم إن هذه الشرطة قد حصل فيها تغيير وتبديل من منذ الفتنة الأخيرة الحاصلة في سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة وألف بتاريخ الميلاد، فراجعها في باب قيامة الفرنساوية وطلبهم للحرية والمساواة انتهى. فإذا تأملت رأيت أغلب ما في هذه الشرطة نفيسًا، وعلى كل حال، فأمره نافذ عن الفرنساوية، ولنذكر هنا بعض ملاحظات فنقول: قوله في المادة الأولى: سائر الفرنسيس مستوون قدام الشريعة، معناه سائر من يوجد في بلاد فرنسا من رفيع ووضيع لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون، حتى إن الدعوى الشرعية تقام على الملك وينفذ عليه الحكم كغيره، فانظر إلى هذه المادة الأولى، فإنها لها تسلطًا عظيمًا على إقامة العدل وإسعاف المظلوم، وإرضاء خاطر الفقير بأنه كالعظيم؛ نظرًا إلى إجراء الأحكام. ولقد كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية، وهي من الأدلة الواضحة على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية، وتقدمهم في الآداب الحضرية. وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف وذلك؛ لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين، بحيث لا يجوز الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة، فهذه البلاد حرية بقول الشاعر: وبالجملة، إذا وجد العدل في قطر من الأقطار، فهو نسبي إضافي لا عدل كلي حقيقي؛ فإنه لا وجود له الآن في بلدة من البلدان، فهو كالإيمان الكامل، والحلال الصرف، وأمثاله ذلك ونظائره، فلا معنى لحصر المستحيل في القول والعنقاء والخل الوفي، كما هو مذكور في قوله: ومع أن ذلك منوع في العنقاء، فإنها نوع من الطيور، موجود الأفراد، يذكر عند أرباب علم الحشائس، وذكر الثعلبي في قصص الأنبياء قصة العنقاء مع سيدنا سليمان في تكذيبها بالقدر، نعم لا وجود للعنقاء بالمعنى المشهور عند العامة من العرب والإفرنج: من أنها من أعلاها عقاب ومن أسلفها أسد، وعلى كل حال فلها في الجملة وجود. وأما المادة الثانية فإنها محض سياسة، ويمكن أن يقال: إن (الفِرَد) ونحوها لو كانت مرتبة في بلاد الإسلام كما هي في تلك البلاد لطابت النفس، خصوصًا إذا كانت الزكوات والفيء والغنيمة لا تفي بحاجة بيت المال، أو كانت ممنوعة بالكلية وربما كان لها أصل في الشريعة على بعض أقوال مذهب الإمام الأعظم، ومن الحِكم المقررة عند قدماء الحكماء: «الخراج عمود الملك». ومدة إقامتي بباريس لم أسمع أحدًا يشكو من المكوس و(الفرد) والجبايات أبدًا، ولا يتأثرون، بحيث إنها تؤخذ بكيفية لا تضر المعطى، وتنفع بيت مالهم، خصوصًا وأصحاب الأموال في أمان الظلم والرشوة. وأما المادة الثالثة فلا ضرر فيها أبدًا، بل من مزاياها أنها تحمل كل إنسان على تعهد تعلمه، حتى يقرب من منصب أعلى من منصبه، وبهذا كثرت معارفهم، ولم يقفل تمدنهم على حالة واحدة مثل أهل الصين والهند، ممن يعتبر توارث الصنائع والحرف، ويبقي للشخص دائمًا حرفة أبيه. وقد ذكر بعض المؤرخين أن مصر في سالف الزمان كانت على هذا المنوال، فإن شريعة قدماء القبطة كانت تعين لكل إنسان صنعته، ثم يجعلونها متوارثة عندهم شريفة، فكانت هذه العادة من مقتضيات الأحوال؛ لأنها تعين كثيرًا على بلوغ درجة الكمال في الصنائع؛ لأن الابن يحسن عادة ما رأى أباه يفعله عدة مرات بحضرته، ولا يكون له طمع في غيره. فهذه العادة كانت تقطع عرق الطمع، وتجعل كل إنسان راضيًا صنعته، لا يتمنى أعلى منها، بل لا يبحث إلا عن اختراع أمور جديدة نافعة لحرفته توصل إلى كمالها. انتهى. ويرد عليه أنه ليس في كل إنسان قابلية لتعلم صنعة أبيه، فقصره عليها ربما جعل الصغير خائبًا في هذه الصنعة، والحال أنه لو اشتغل بغيرها لصلح حاله، وبلغ آماله. وأما المادة الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، فإنها نافعة لأهل البلاد والغرباء؛ فلذلك كثر أهل هذه البلاد وعمرت بكثير من الغرباء، وأما المادحة الثامنة، فإنها تقوى كل إنسان على أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله، مما لا يضر غيره، فيعلم الإنسان سائر ما في نفس صاحبه خصوصًا الورقات اليومية المسماة «بالجورنالات» او «الكازيطات» الأولى جمع (جرنال) والثانية جمع (كازيطة) فإن الإنسان يعرف منها سائر الأخبار المتجددة، سواء كانت داخلية أو خارجية، أي داخل المملكة أو خارجها، وإن كان قد يوجد فيهات من الكذب ما لا يحصى، إلا أنها قد تضم أخبارًا تتشوق نفس الإنسان إلى العلم بها، على أنها ربما تضمنت مسائل علمية جديدة التحقيق، أو تنبيهات مفيدة أو نصائح نافعة، سواء كانت صادرة من الجليل أو الحقير؛ لأنه قد يخطر ببال الحقير ما لا يخطر ببال العظيم، كما قال بعضهم: لا تحتقر الرأي الجليل، يأتيك به الرجل الحقير؛ فإن الدرة لا تستهان لهوان غواصها، وقال الشاعر: ومن فوائدها: أن الإنسان إذا فعل فعلاً عظيمًا، أو رديئًا، وكان من الأمور المهمة كتبه أهل (الجورنال) ليكون معلومًا للخاص والعام، لترغيب صاحب العمل الطيب، وردع صاحب الفعلة الخبيثة، وكذلك إذا كان الإنسان مظلومًا من إنسان، كتب مظلمته في هذه الورقات، فيطلع عليها الخاصة والعام، فيعرف قصة المظلوم والظالم من غير عدول عما وقع فيها، ولا تبديل، وتصل إلى محل الحكم ويحكم فيها بحسب القوانين المقررة، فيكون مثل هذا الأمر عبرة لمن يعتبر. وأما المادة التاسعة، فإنها عين العدل والإنصاف، وهي واجبة لضبط جور الأقوياء على الضعاف، وتعقيبها بما في العاشرة من باب اللياقة الظاهرة، وفي المادة الخامسة عشرة نكتة لطيفة، وهي: أن تدبير أمر المعاملات لثلاثة مراتب، المرتبة الأولى: الملك مع وزرائه، والثانية: مرتبة «البيرية» المحامية للملك، والثالثة: مرتبة رسل العمالات الذين هم وكلاء الرعية والمحامون عنهم؛ حتى لا تظلم من أحد، وحيثما كانت رسل العمالات قائمة مقام الرعية، ومتكلمة على لسانها كانت الرعية كأنها حاكمة نفسها، وعلى كل حال فهي مانعة للظلم عن نفسها بنفسها، وهي آمنة منه بالكلية ولا يخفى عليك حكمة باقي المواد. حقوق الفرنساوية الواجبة لهم والواجبة عليهم (مضمون الشرطة بعد التغيير) الفرنساوية مستوون في الأحكام على اختلافهم في العظم والمنصب والشرف والغنى، فإن هذه مزايا لا نفع لها إلا في الاجتماع الإنساني والتحضر فقط، لا في الشريعة؛ فلذلك كان جميعهم يقبل في المناصب العسكرية والبلدية، كما أنه يعين الدولة من ماله على قدر حاله. وقد ضمنت الشريعة لكل إنسان التمتع بحريته الشخصية؛ حتى لا يمكن القبض على إنسان إلا في الصورة المذكورة في كتب الأحكام، ومن قبض على إنسان في صورة غير منصوصة في الأحكام يعاقب عقوبة شديدة. ومن الأشياء التي ترتبت على الحرية عند الفرنساوية أن كل إنسان يتبع دينه الذي يختاره يكون تحت حماية الدولة ويعاقب من تعرض لعابد في عبادته. ولا يجوز وقف شيء على الكنائس أو إهداء شيء لها إلا بإذن صريح من الدولة. وكل فرنساوي له أن يبدي رأيه في مادة السياسات، أو في مادة الأديان، بشرط أن لا يخل بالانتظام المذكور في كتب الأحكام. كل الأملاك على الإطلاق حرم لا تهتك؛ فلا يكره إنسان أبدًا على إعطاء ملكه إلا لمصلحة عامة، بشرط أخذه قبل التخلية قيمته، والمحكمة هي التي تحكم بذلك. كل إنسان عليه أن يعين في حفظ المملكة العسكرية بشخصه، بمعنى أنه كل سنة يجمع أولاد إحدى وعشرين سنة لتضرب القرعة، لأخذ العساكر السنوية منهم، ومدة الخدمة العسكرية ثمان سنوات، وكل فرنساوي عمره ثماني عشرة سنة، وله حقوقه البلدية يمكنه أن يتطوع ويدخل العسكرية. ولما كان لا يمكن لكل إنسان أن يدخل بنفسه في عمل الدولة. وكَّلت الرعية بتمامها عنها في ذلك أربعمائة وثلاثين وكيلاً تبعثها إلى باريس في المشورة: وهؤلاء الوكلاء تختارهم الرعية وتوكلهم بأن يمانعوا عن حقها، ويصنعوا ما فيه مصلحة لها، وذلك أن كل فرنساوي مستكمل للشروط التي منها أن يكون عمره خمسًا وعشرين سنة، له أن يكون ممن له مدخل في انتخاب رسل عمالاته. وكل فرنساوي له أن يكون رسولاً إذا كان عمره ثلاثين سنة، وكان موصوفًا بالشروط المذكورة في كتاب الأحكام. وفي كل مأمورية مجمع اختبار وانتخاب، ومجامع انتخاب للأقاليم الصغيرة: ومجامع المأموريات الكبيرة مؤلفة من المنتخبين الكبار، وتعين ١٧٢ رسولاً، ومجامع انتخاب الأقاليم الصغيرة تعين ٢٥٨ رسولاً، ودفاتر أرباب الانتخاب تطبع وتكتب في الطرق شهرًا قبل فتح مجامع الانتخاب حتى إنه يمكن لكل إنسان أن يكتب إعلامًا به، وكل منتخب (بكسر الخاء) يكتب رأيه سرًا في ورقة ويعطيها للرئيس مطوية والرئيس يضعها في إناء القرعة. وديوان رسل العمالات يتجدد أهله بالكلية كل خمس سنوات، ولا يمكن أخذ الفرد إلا بخلاصة من مشورة الديوانين، مقررة من طرف الملك، ويمكن لأهل البلدان أن يراسلوا أهل الديوانين بطرق (العرضحال) ليشتكوا من شيء ويعرضوا شيئًا نافعًا. للملك أن يعفو عن المعاقَب وأن يخفف العقاب الشديد — على الملك وورثته أن يحلفوا عنه ارتقاء الكرسي بأن يعملوا بما في كتاب قوانين المملكة. ثم إنه يطول علينا ذكر الأحكام الشرعية أو القانونية المنصوبة عند الفرنساوية، فلنقل: إن أحكامهم القانونية لست مستنبطة من الكتب (ص ٨٥) السماوية، وإنما هي مأخوذة من قوانين أخر غالبها سياسي، وهي مخالفة بالكلية للشرائع وليست قارّة الفروع، ويقال لها: الحقوق الفرنساوية، أي حقوق الفرنساوية بعضهم على بعض؛ وذلك لأن الحقوق عند الإفرنج مختلفة، ثم إن بباريس عدة محاكم وفي كل محكمة قاض كبير كأنه قاضي القضاة وحوله رؤساء وأرباب مشورة، ووكلاء الخصوم، ومحامون للخصوم ونواب عن المحامين، وموقع الوقائع.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/10/
الفصل الرابع
من المعلوم أن البلدة أو المدينة تبلغ من الحضارة على قدر معرفتها، وبعدها عن حالة الخشونة والتوحش، والبلاد الإفرنجية مشحونة بأنواع المعارف والآداب التي لا ينكر إنسان أنها تجلب الأنس وتزين العمران، وقد تقرر أن الملة الفرنساوية ممتازة بين الأمم الإفرنجية بكثرة تعقُّلها بالفنون والمعارف، فهي أعظم أدبًا وعمرانًا والبنادر أولى في العمارات عادة من القرى والضِياع. والمدن العظمى أولى من سائر البنادر وتحت المملكة أولى من سائر ما عداها من مدن تلك المملكة؛ فحينئذ لا عجب أن قيل: إن باريس التي هي قاعدة ملك الفرنسيس من أعظم بلاد الإفرنج بناء وعمارة، وإن كانت عماراتها غير جيدة المادة، فهي جيدة الهندسة والصناعة، على أنه ربما يقال أيضًا: أن مادتها جيدة إلا أنها ناقصة؛ لعدم كثرة حجر الرخام فيها، ولخلوها عن بعض أشياء آخر — كيف لا؟ وأساس حيطانها من أحجار النحاتة، وكذلك الحيطان الخارجية، وأما الداخلية ذاتها تتخذ من الخشب الجيد في الغالب، وأما عواميدها فهي غالبًا من النحاس، فقل إن كانت من الرخام، كما أن تبليط الأرض يتخذ من حجر البلاط، وقد يكون من الرخام الأسود مع البلاط؛ وذلك أن الطرق دائمًا مبلطة بحجر البلاط المربع، والحيشان مبلطة بالبلاط المذكور، والقيعان بالآجر أو بالخشب، أو بالمرمر الأسود مع البلاط المشغول، وجودة الحجر أو الخشب تختلف باختلاف يسار الإنسان. وربما رأيت على طاولة الشغل أوراق الوقائع على اختلاف أجنساها، وربما رأيت كذلك في (أوض) الأكابر (النجفات) العظيمة التي توقد بشموع العسل، وربما رأيت أيضًا في (أوضهم) في يوم تبقى الناس طاولة وعليها جميع الكتب المستجدة والوقائع وغيرها لتسلية من أراد من الضيوف أن يسرح ناظره، وينزه خاطره في قراءة هذه الأشياء، وهذا يدل على كثرة اهتمام الفرنساوية بقراءة الكتب، فهي أنسهم. ومن التوقيعات اللطيفة: الكتاب وعاء مليء علما، وظرف حشى ظرفًا، ومن لك بروضة تقلب في حجر وبستان يحمل في كم، وما أحسن قول بعضهم شعرًا: وقال آخر: وأما السقوف فإنها من الخشب النفيس، ثم إن البيت في العادة مصنوع من أربع طبقات، بعضها فوق بعض ما عدا البناء الأرضي، فلا يحسب دورًا وقد يصل إلى سبعة أدوار، وغيرها تحت الأرض من المخادع التي تستعمل أيضًا لربط الخيل، أو المطبخ وذخائر البيت، وخصوصًا النبيذ والخشب للوقود. ثم إن البيت عندهم كما في بيوت القاهرة، مشتمل على عدة مساكن مستقلة ففي كل دور من أدوار البيت جملة مساكن، وكل مسكن متنافذ (الأوضات)، وقد جرت عادتهم بتقسيم البيوت إلى ثلاث مراتب؛ المرتبة الأولى: بيت عادي. والثانية: بيت لأحد من الكبار، والثالثة: بيوت الملك وأقاربه ودواوين المشورة ونحوها، فالأول يسمى: بيتًا، والثاني يسمى: دارًا، والثالث يسمى: قصرًا أو (سراية). ويمكن أيضًا تقسيم البيوت من حيثية أخرى إلى ثلاث مراتب أيضًا: المرتبة الأولى: البيوت التي لها حاجب، ولها باب كبير يسع دخول العربة منه، والثانية: البيوت التي داخلها دهاليز ولها بواب، ولا يمكن أن تدخل العربة من بابها، والثالثة البيوت التي لا بواب لها، أي لا مكان للبواب فيها يسكن فيه، ووظيفة البواب في باريس أن ينتظر الساكن إلى نصف الليل، فإذا أراد الساكن أن يسهر في المدينة زيادة عن الليل، فعليه أن ينبه البواب لينتظره، ولكن لا بد أن يعطيه بعض شيء، وليس على الحارات بواب أصلاً، وليس لها أبواب كما في مصر. ثم إن العقارات بباريس غالية الثمن والكراء، حتى إن الدار العظيمة قد يبلغ ثمنها مليون فرنك، يعني نحو ثلاثة ملايين قروشًا مصرية، ثم إن كراء المساكن في باريس قد يكون لمجرد المسكن، وقد يستأجرها الإنسان بفراشها العظيم وجميع أثاثها وآلاتها. والغالب أن الرجل ينام في (أوضة) غير التي تنام فيها زوجته، إذا تقادم الزواج. ومن العوائد التي لا بأس بها أن قصر ملك فرنسا وقصور أقاربه تنفتح حين خروج السلطان وأقاربه كل سنة إلى الإقامة في الخلاء مدة أشهر، فيدخل سائر الناس للفرجة على بيت الملك وأقاربه، فيرون أثاث البيت وسائر الأشياء الغريبة، ولكن لا يدخل أحد إلا بورقة مطبوعة مكتوب فيها الإذن بدخول شخص أو شخصين أو أكثر، وهذه الورقة توجد عند كثير من الناس، فإذا طلبها الإنسان ممن يعرفه أعطاها له، فترى في البيت ازدحامًا عظيمًا للفرجة على جميع ما في حريم الملك وأقاربه، وقد دخلت ذلك عدة مرات فرأيته من الأمور العجيبة التي ينبغي التفرج عليها، وفيه كثير من الصور التي لا تمتاز عن الناس إلا بعدم النطق، وفيه مصور كثير من ملوك فرنسا وغيرهم، وكل أقارب السلطنة وكل الأشياء الغريبة، وأغلب الأشياء الموجودة في حريم السلطنة مستحسنة من جملة جودة صناعتها لا نفاستها بالمادة؛ مثلاً سائر الفراش كالكراسي والأسرِّة حتى كراسي المملكة مشغولة شغلاً عظيمًا بالقصب المخيش، ومطلية الذهب إلا أنه لا يوجد بها كثير من الأحجار الكريمة كما يوجد ببلادنا ببيوت الأمراء الكبار بكثرة، فمبنى أمور الفرنساوية في جميع أمورهم على التجمل لا على الزينة وإظهار الغنى والتفاخر. ومما يمدح به الفرنساوية نظافة بيوتهن من سائر الأوساخ، وإن كانت بالنسبة لبيوت أهل الفلمنك كلاشيء فإن أهل الفلمنك أشد جميع الأمم نظافة ظاهرية، كما أن أهل مصر في قديم الزمان كانوا أيضًا أعظم أهل الدنيا نظافة، ولم يقلدهم ذراريهم وهم القبطة في ذلك.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/11/
الفصل الخامس
اعلم أن قوت أهل المدينة هو الحِنطة، وهي في الغالب صغيرة الحبوب، إلا إذا كانت منقولة من البلاد الغريبة فيطحنونها في طواحين الهواء والماء، ويخبزونها عند الفران فيباع الخبز في دكانه، وسائر الناس لها مرتب يومي تشتريه من الخباز، وعلة ذلك توفير الزمان والاقتصاد فيه؛ لأن سائر الناس مشغولون في أشغال خاصة؛ فصناعة العيش في البيوت تشغلهم. ثم إن المحتسب يأمر الخبازين أن يكون عندهم كل يوم من العيش ما يكفي المدينة وفي الحقيقة لا يمكن فقد العيش أبدًا بمدينة باريس، بل ولا فقد غيره من أمور الأغذية. وأدم أهل هذه المدينة اللحوم والبقول والخضراوات والألبان والبيض وغيرها، والغالب تعدد الأطعمة ولو عند الفقراء، ثم إن المذابح عندهم تكون بأطراف المدينة لا داخلها، وحكمة ذلك أمران: دفع الوخم، ودفع أضرار البهائم إذا انفلتت، وكيفية الذبح تختلف عندهم، فأما ذبح الضأن فإنه أهون من ذبح غيره، فإنهم ينفذون السكين وراء زوره يعني بين زوره ورقبته، ثم يقطعونه بعكس ما نفعل، وأما ذبح العجول فإنه مثله، وأما الثيران فيضربونها بمقامع من حديد في وسط رأسها فيدوخ من عِظم الخبط، ثم يكررون ذلك عدة مرات، فيقطع الثور النفس مع بقاء الحركة، ثم يذبحونه كما تقدم من ذبح الضأن، ولقد بعثت خادمًا لي مصريًا إلى المذبح ليذبح ما اشترى منه كما هو عادتي، فلما رأى معاملة الثيران بمثل ذلك الأمر البشع جاء يستجير، ويحمد الله تعالى؛ حيث لم يجعله ثورًا في بلاد الإفرنج، وإلا لذاق العذاب كالثيران التي رآها، والعجول والثيران تكون من البقر؛ إذ لا وجود للجواميس بهذه البلاد إلا للفرجة. وأما ذبح الطيور فإنه على أنواع مختلفة: فمنهم من يصنع فيها كالغنم، ومنهم من يقطع لسان الطائر، ومنهم من يخنقه بفتلة خيط، ومنهم من يذبحه من قفاه إلى غير ذلك. وأما الأرانب فإنها لا تذبح أبدًا، بل تخنق ليحقن فيها دمها. وأواني الشرب دائمًا من البلور والزجاج، وعلى السفرة عدة أوان صغيرة من الزجاج أحدها فيه ملح، والآخر فيه فلفل، وفي الثالث خردل إلى آخره. وبالجملة فآداب سفرتهم وترتيباتها عظيمة جدًا، وابتداء المائدة عندهم (الشوربة) اختتامها الحلويات والفواكه، والغالب في الشراب عندهم النبيذ على الأكل بدل الماء. وفي الغالب، خصوصًا لأكابر الناس، أن يشرب من النبيذ قدرًا لا يحصل به سكر أصلاً؛ فإن السكر عندهم من العيوب والرذائل، وبعد تمام الطعام ربما شربوا شيئًا يسيرا من العرقي، ثم إنهم مع شربهم من هذه الخمور لا يتغزلون بها كثيرًا في أشعارهم، وليس لهم أسماء كثيرة تدل على الخمرة كما عند العرب أصلاً، فهم يتلذذون بالذات والصفات، ولا يتخيلون في ذلك معاني ولا تشبيهات ولا مبالغات، نعم عندهم كتب مخصوصة متعلقة بالسكارى، وهي هزليات في مدح الخمرة، لا تدخل في الأدبيات الصحيحة في شيء أصلاً. ويكثر في «باريس» شرب الشاي عقب الطعام؛ لأنهم يقولون إنه هاضم للطعام، ومنهم من يشرب القهوة مع السكر، وفي عوائد أغلب الناس أن يفتتوا الخبز في القهوة المخلوطة باللبن، ويتعاطوها في الصباح — وإذا أردت بعض شيء يتعلق بالمأكل والمشرب فراجع فصل المآكل والمشارب في ترجمتنا كتاب: «قلائد المفاخر». ثم إن الغالب أن ما يقطعه أهل هذه المدينة من المآكل والمشارب كل سنة يكون هذا تقريبه، فمن الخبز ما تزيد قيمته على خمسة وثلاثين مليونًا من الفرنكات، وتأكل من اللحوم نحو واحد وثمانين ألف ثور، وأربعمائة وثلاثين ثورًا، ومن البقر نحو ثلاثة عشرة ألف بقرة، ومن الضأن أربعمائة وسبعين ألف كبش، ومن الخنازير الوحشية والأهلية نحو مائة ألف خنزير، ومن السمن بنحو عشرة ملايين من الفرنكات، ومن البيض بنحو خمسة آلاف فرنك. ومن غرائب الأشياء أن فيها التحيل على عدم عفونة الأشياء التي من شأنها العفونة؛ فمن ذلك ادخار اللبن بكيفية خاصة خمس سنين من غير تغير، وادخار اللحم طريًا عشر سنوات، وادخار الفواكه لوجودها في غير أوانها، ومع كثرة تفننهم في الأطعمة والفطورات ونحوها، فطعامهم على الإطلاق عديم اللذة، ولا حلاوة صادقة في فواكه هذه المدينة إلا في الخوخ. وأما خماراتها فإنها لا تحصى؛ فما من حارة إلا وهي مشحونة بهذه الخمارات، ولا يجتمع فيها إلا أراذل الناس وحرافيشهم مع نسائهم، ويكثرون الصياح وهم خارجون منها بقولهم ما معناه: الشراب، الشراب! ومع ذلك فلا يقع منهم في سكرهم أضرار أصلاً. وقد اتفق لي ذات يوم وأنا مار في طريق في «باريس» أن سكران صاح قائلاً: يا تركي، يا تركي، وقبض بثيابي، وكنت قريبًا من دكان يباع فيه السكر ونحوه، فدخلت معه، وأجلسته على كرسي. وقلت لرب الحانوت على سبيل المزح: هل تريد أن تعطيني بثمن هذا الرجل سُكْرًا أو نُقَلاً؟ فقال صاحب الحانوت: ليس هنا مثل بلادكم، يجوز التصرف في النوع الإنساني؟ فما كان جوابي له إلا أنني قلت: إن هذا الشخص السكران ليس في هذا الحال من قبيل الآدميين، وهذا كله والرجل جالس على الكرسي، ولا يشعر بشيء، ثم تركته بهذا المحل وذهبت.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/12/
الفصل السادس
وملابس النساء ببلاد الفرنسيس لطيفة بها نوع من الخلاعة، خصوصًا إذا تزيَّنّ بأغلى ما عليهن، ولكن ليس لهن كثير من الحلي فإن حليَّهن هو الحلق المذهب في آذانهن، ونوع من الأساور الذهب يلبسنه في أيديهن خارج الأكمام، وعقد خفيف في أجيادهن، وأما الخلاخل فلا يعرفنها أبدًا، ولبسهن في العادة الأقمشة الرقيقة من الحرير أو (الشيت) أو (البفت) الخفيف، ولهن في البرد شريط فروة فيضعنه على رقابهن، ويرخين طرفيه كالمآزر؛ حتى يصل بطرفيه إلى قرب القدمين. ومن عوائدهن أن يحتزمن بحزام رفيع فوق أثوابهن، حتى يظهر الخصر نحيفًا ويبرز الردف كثيفًا، ومما أنشده الحاجري في ديوانه، وإن كان فيه خروج قوله: ومن خصال النساء أن يشبكن بالحزام قضيبًا من صفيح من البطن إلى آخر الصدر؛ حتى يكون قوامهن دائمًا معتدلاً لا اعوجاج به، ولهن كثير من الحيل. ومن خصالهن التي لا يمكن للإنسان أن لا يستحسنها منهن عدم إرخائهن الشعور؛ كعادة نساء العرب، فإن الفرنسيس يجمعن الشعور في وسط رءوسهن، ويضعن فيه دائمًا مشطًا ونحوه، ومن عوائدهن في أيام الحر كشف الأشياء الظاهرية من البدن؛ فيكشفن من الرأس إلى ما فوق الثدي، حتى إنه يمكن أن يظهر ذلك من الأمور المخلة عند أهل هذه البلاد، ولكن لا يمكن لهن أبدًا كشف شيء من الرجلين، بل هن دائمًا لابسات للشرابات، الساترة للساقين، خصوصًا في الخروج على الطرق، وفي الحقيقة سيقانهن غير عظيمة أصلاً، فلا يصلح لهن قول الشاعر: وملابس الحزن عند الفرنسيس هي علامة حزن تلبس مدة معلومة، ولها محل معلوم؛ فالرجل يضع علامة الحزن في (برنيطته) مدة معلومة، والمرأة في ثيابها والولد على فقد أبيه أو أمه يلبس علامة الحزن ستة أشهر، وعلى فقد الجدة أربعة أشهر ونصفًا والزوجة على فقد الزوج سنة وستة أسابيع، وعلى فقد الزوجة ستة أشهر، وعلى فقد الأخ أو الأخت شهرين، وعلى فقد الخال، والخالة، والعم، والعمة ثلاثة أسابيع، وعلى فقد أولاد الأعمام والعمات والأخوال والخالات أسبوعين. ثم إن ما يباع في باريس من الجوخ كل سنة بنحو مليون من الفرنكات تقريبًا ومن الحرير بثلاثة ملايين من الفرنكات، ومن الفراوي بمليون من الفرنكات، ولعل السبب في ذلك هو أن الفراوي تشتري من خصوص باريس، لأهل باريس. ومن المتداول عند الفرنساوية استعمال الشعور العارية لنحو الأقرع ورديء الشعر، بل قد يستعملونها في اللحى والشارب للتقليد، وقد شاعت عندهم تلك العادة من زمن «لويز الرابع عشر» ملك فرانسا؛ حيث إن هذا الملك كان يلبسها، ولا يخلعها من رأسه أصلاً إلا عند النوم، وما زالت إلى الآن مستعملة، لكن للأقرع أو رديء الشعر، ومن الغريب أنها تستعمل الآن في مصر بين نساء القاهرة.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/13/
الفصل السابع
اعلم أن هؤلاء الخلق؛ حيث إنهم بعد أشغالهم المعتادة المعاشية لا شغل لهم بأمور الطاعات، فإنهم يقضون حياتهم في الأمور الدنيوية، واللهو، واللعب، ويتفننون في ذلك تفننًا عجيبًا. وصورة هذه «التياترات» أنها بيوت عظيمة لها قبة عظيمة، وفيها عدة أدوار كل دور له (أود) موضوعة حول القبة من داخله، وفي جانب من البيت مقعد متسع يطل عليه من سائر هذه (الأود) بحيث إن سائر ما يقع فيه يراه من هو في داخل البيت، وهو منور (بالنجفات) العظيمة، وتحت ذلك المقعد محل للآلاتية، وذلك المقعد يتصل بأروقة فيها سائر آلات اللعب، وسائر ما يصنع من الأشياء التي تظهر، وسائر النساء والرجال المعدة للعب، ثم إنهم يصنعون ذلك المقعد كما تقتضيه اللعبة، فإذا أرادوا تقليد سلطان مثلاً في سائر ما وقع منه، وضعوا ذلك المقعد على شكل (سراية) وصوروا ذاته، وأنشدوا أشعاره، وهلم جرا. ومدة تجهيز المقعد يرخون الستارة لتمنع الحاضرين من المنظر، ثم يرفعونها ويبتدئون باللعب، ثم إن النساء اللاعبات، والرجال يشبهون العوالم في مصر. واللاعبون واللاعبات بمدينة باريس أرباب فضل عظيم، وفصاحة، وربما كان لهؤلاء الناس كثير من التآليف الأدبية والأشعار، ولو سمعت ما يحفظه اللاعب من الأشعار وما يبديه من التوريات في اللعب، وما يجاوب به من التنكيت والتبكيت لتعجبت غاية العجب. وهذه (السبكتاكلات) يصورون فيها سائر ما يوجد، حتى إنهم قد يصورون فرق البحر لموسى عليه السلام، فيصورون البحر ويجعلونه يتماوج حتى يشبه البحر شبهًا كليًا، وقد رأيت مرة في الليل أنهم ختموا (التياتر) بتصوير شمس وتسييرها، وتنوير (التياتر) بها حتى غلب نور هذه الشمس على نور النجف، حتى كان الناس في الصباح، ولهم أشياء أغرب من هذا، وبالجملة (التياتر) عندهم كالمدرسة العامة، يتعلم فيها العالم والجاهل. وأعظم (السبكتاكلات) في مدينة باريس المسماة «الأوبرة» (بضم الهمزة وتشديد الباء المكسورة، وفتح الراء) وفيها أعظم (الآلاتية) وأهل الرقص، وفيها الغناء على الآلات والرقص بإشارات كإشارات الأخرس، تدل على أمور عجيبة، ومنها (تياتر) تسمى: «كوميك» فيغنى فيها الأشعار المفرحة. وبها (تياتر) تسمى: «التياتر الطليانية» وبها أعظم (الآلاتية)، وفيها تنشد الأشعار المنظومة باللغة الطليانية، وهذه كلها من (السبكتاكلات) الكبيرة، وفي باريس «سبكتاكلات» أخرى وهي مثل تلك إلا أنها صغيرة. وهناك أيضًا (سبكتاكلات) يلعبون فيها الخيل والفيلة ونحوها، ومنها (التياتر) المسماة «تياتر فرنكوني» (بكسر الفاء وفتح الراء وسكون النون وضم الكاف وكسر النون الثانية)، وفيها فيل مشهور بالألعاب الغريبة معلم تعليمًا عجيبًا. ولا أعرف اسمًا عربيًا يليق بمعنى (السبكتاكل) أو (التياتر) غير أن لفظ (سبكتاكل) معناه منظر أو منتزه أو نحو ذلك، ولفظ (تياتر) معناه الأصلي كذلك، ثم سمي بها اللعب ومحله، ويقرب أن يكون نظيرها أهل اللعب المسمى خياليًا، بل الخيالي نوع منها. ومن المتنزهات محال الرقص المسماة «البال» وفيه الغناء والرقص، وقل إن دخلت ليلاً في بيت من بيوت الأكابر إلا وسمعت به الموسيقى والمغنى، ولقد مكثنا مدة لا نفهم لغنائهم معنى أصلاً، لعدم معرفتنا بلسانهم، ولله در من قال في مثل هذا الأمر: (البال) قسمان: (بال) عام، ويدخله سائر الناس، (كالبال) في القهاوي والبساتين، (وبال) خاص، وهو أن يدعو الإنسان جماعة للرقص والغناء والنزهة ونحو ذلك؛ كالفرح في مصر، و(البال) دائمًا مشتمل على الرجال والنساء، وفيه وقدات عظيمة، وكراسيّ للجلوس. والغالب أن الجلوس للنساء ولا يجلس أحد من الرجال إلا إذا اكتفت النساء، وإذا دخلت امرأة على أهل المجلس، ولم يكن ثم كرسيّ خال قام لها رجل وأجلسها، ولا تقوم لها امرأة لتجلسها، فالأنثى دائمًا في المجالس معظمة أكثر من الرجل، ثم إن الإنسان إذا دخل بيت صاحبه، فإنه يجب عليه أن يحيي صاحبة البيت قبل صاحبه، ولو كبر مقامه ما أمكن، فدرجته بعد زوجته أو نساء البيت. وقد قلنا إن الرقص عندهم فن من الفنون، وقد أشار إليه المسعودي في تاريخه المسمى: «مروج الذهب» فهو نظير المصارعة في موازنة الأعضاء ودفع قوى بعضها إلى بعض، فليس كل قوي يعرف المصارعة، بل قد يغلبه ضعيف البنية بوساطة الحيل المقررة عندهم، وما كل راقص يقدر على دقائق حركات الأعضاء، وظهر أن الرقص والمصارعة مرجعهما شيء واحد يعرف بالتأمل، ويتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس، وكأنه نوع من العياقة والشلبنة لا من الفسق؛ فلذلك كان دائمًا غير خارج عن قوانين الحياء، بخلاف الرقص في أرض مصر، فإنه من خصوصيات النساء؛ لأنه لتهييج الشهوات، وأما في باريس فإنه نمط مخصوص لا يشم منه رائحة العهر أبدًا، وكل إنسان يعزم امراة يرقص معها، فإذا فرغ الرقص عزمها آخر للرقصة الثانية، وهكذا، وسواء كان يعرفها أو لا، وتفرح النساء بكثرة الراغبين في الرقص معهنّ، ولا يكفيهن واحد ولا اثنان، بل يحببن رؤية كثير من الناس يرقصن معهن لسآمة أنفسهن من التعلق بشيء واحد، كما قال الشاعر: وقد يقع في الرقص رقصة مخصوصة؛ بأن يرقص الإنسان ويده في خاصرة من ترقص معه، وأغلب الأوقات يمسكها بيده، وبالجملة فمسُّ المرأة أيّامّا كانت في الجهة العليا من البدن غير عيب عند هؤلاء النصارى، وكلما حسن خطاب الرجل مع النساء، ومدحهن عد هذا من الأدب، وصاحبة البيت تحيي أهل المجلس. ومن النزه: المواسم العامة التي تصنع في الصيف، ومبناها على الرقص والآلات، وتسبيب البارود، ونحو ذلك. ومن المتنزهات المحال المسماة «البلوار»، وهي الأشجار المتصافة المتوازية، وقد أسلفنا بيانها، وهي محل يتماشى فيها سائر الناس، في سائر الأيام، وفيه أعظم قهاوي باريس، وتدور فيه الآلاتية المتنقلون بآلاتهم، وفيه كثير من محال (التياترات)، وبه أيضًا تدور النساء اللواتي يتعرفن بالرجال، سيِّما بالليل، فهو في جميع الليالي، وفي ليلة الاثنين، يحوي كثيرًا من الناس، فترى فيه كل عاشق مع معشوقته، ذراعه في ذراعها إلى نصف الليل، ويصلح هنا قول الشاعر: وقال آخر: ولا يمدح الليل إذا من ترقب فيه وصال محبوبه، وتفقد فيه نيل مطلوبه، بخلاف من كثر فيه حرقه، وزاد أرقه، وطال سهاده، وطار رقاده، فإنه يهوى الصباح؛ ليذهب همه ويرتاح، قال الشاعر: وقال آخر: وقال من يشكو من الليل: وقال آخر مثله: وهذا أيضًا من باب الشكوى. ومن المنتزهات أيضًا سوق تباع فيه الأزهار، وفي هذا السوق تجد سائر الأشجار والنباتات والأزهار الغريبة النادرة ولو في غير أوانها، حتى إن الإنسان يمكنه أن يجدد بستانًا في يوم واحد بأن يشتري سائر ما يحتاج، ثم يزرعه في يوم، وبالجملة فلا يمكن أن الإنسان يتمتع بهذه المتنزهات إلا بصحة البدن.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/14/
الفصل الثامن
لما كان من ضروريات الحكمة الاعتناء بحفظ صحة الأبدان، وكان الإفرنج أحكم الأمم؛ كثر اعتناؤهم بهذا الفن، وبتكميل آلاته ووسائطه، وكانوا أشد الناس مسارعة لما فيه نفع للبدن؛ كالحمامات والمحام الباردة المياه، وترييض الجسم وتعويده على الأمور الشاقة، كالعوم، وركوب الخيل، والألعاب التي يخف بها البدن. والحمامات في باريس متنوعة، وفي الحقيقة هي أنظف من حمامات مصر، غير أن حمامات مصر أنفع منها وأتقن وأحسن في الجملة؛ وذلك أن الحمام في مدينة باريس عدة خلوات، في كل خلوة مغطس من نحاس يسع الإنسان فقط، وفي بعض الخلوات مغطسان، وليس عندهم مغطس عام كما في مصر، ولكن هذه العادة أسلم بالنسبة للعورة؛ فإنه لا طريقة أن يطلع إنسان على عورة آخر، حتى إن الخلوة التي فيها مغطسان بين كل مغطس ستارة تمنع أن ينظر الإنسان صاحبه، وليس في دخول الإنسان هذه المغاطس الصغيرة لذة كالدخول في الحمامات، ولا يعرق الإنسان بها أبدًا؛ إذ الحرارة لا توجد إلا في المغطس لا في الخلوة أبدًا وإن كان يمكن أن يوصي الإنسان على حمام بالبخار، فإنهم يصنعون له ذلك ولكن بثمن آخر غير الثمن المعتاد. وفي الحمام صفان من الخلاوي: صف للرجال وصف للنساء، وكما أنه يوجد حمامات مستقرة يوجد حمامات منقولة، فإذا طلب الإنسان حمامًا في بيته، أو كان مريضًا، أو نحو ذلك، فإنهم يحملون إليه في عربة كالبرميل الماء البارد في شقة، والساخن في أخرى ومعها محم، فيوضع المحم في بيت الإنسان، ويملأ من الماء المسخن، فيغتسل الإنسان منه، ثم بعد فراغه يحملونه إلى بيت الحمام. ومن الحمامات حمام يضع فيه الإنسان بعض بدنه لبعض الأمراض، فيسمى نصف حمام، والحمامات بباريس كثيرة، وأشهرها ثلاثون حمامًا تقريبًا. ومن أمور الرياضات النافعة لصحة البدن مدارس يتعلم فيها علم السباحة، وهي ثلاثة مكاتب على نهر السين، ومنها مدارس لتخفيف البدن، وجعله قابلاً للأشياء العجيبة كالبهلوانية، والمصارعة، ونحو ذلك.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/15/
الفصل التاسع
والحكماء في باريس كثيرون جدًا، حتى يوجد في كل خط عدة حكماء، بل الطرق مملوءة من الحكماء حتى إن الإنسان إذا أصيب في الطريق بداء فإنه لا بد أن يجد الحكيم حالاً؛ لكثرة الحكماء بهذه البلدة. ووضع المرضى بالنسبة للأطباء مختلف، فمن المرضى من يطلب الطبيب ليزوره عنده، وللحكيم قدر معلوم على كل مرة يأتيها إليه، ومن المرضى من يذهب إلى الطبيب في بيته، وللطبيب ساعات معينة يمكث فيها قصدًا في بيته لتلقي الناس، ومن المرضى من ينتقل مدة معينة في بيت يسمى بيت الصحة، معَد لمن يدفع قدرًا معينًا في نظير أكله وشربه وسكناه وتطبيب بدنه وخدمته ونحو ذلك. وفي باريس بيوت حكماء معدة لمن ابتلي بخلل شيء من عظام البدن؛ كالأحديداب فإنه يدخل بيتًا من هذه البيوت للتطبيب، فيقومون بدنه بشيء من علم الحيل، كما إذا كان إنسان مقطوع أحد الأطراف، فإنهم يجبرون ذلك بأن يضعوا له من المعدن أو الخشب شيئًا في محله. وفي هذه المدينة أيضًا بيوت يدخل فيها النساء الحوامل المشرفات على الولادة، ليلدن فيها ويقضين فيها مدة النفاس، وفي هذه البيوت توجد القوابل وسائر ما يحتاج إليه في الولادة. ومن المواضع المعدة للمرضى والتي يوجد فيها الأطباء المارستانات العامة، فيدخلها المرضى للعلاج والإقامة مدة المرض بلا عوض. ثم إن الأطباء في باريس فرقتان: إحداهما أطباء عامة لمطلق الأمراض على تنويعها، والأخرى لداءات خاصة، وبذلك أن علم الطب متسع جدًا، فقلّ أن يشتغل إنسان بسائر فروعه ويحققها، فاحتاج أطباء الفرنساوية إلى أن الطبيب بعد أن يقرأ فروع العلوم الطبية ينبغي له أن يختار منها فنًا ليصرف فيه همته، ويتقوى فيه ويتبحر؛ حتى يشتهر ويمتاز عن غيره من الأطباء بتحقيق ذلك الفن؛ حتى يجلب إليه من به داء يدخله شيء من ذلك الفن؛ فلذلك يوجد في باريس أطباء مثلاً لخصوص مرض الرئة، وأطباء لمرض العين تسمى: «المحلاتية» وأطباء لأمراض الأذنين، وأطباء لداء الأنف وتجبيره، حتى إن من أطباء الأنف من يمكنه بالحيلة أن يرجع الأنف المجدوع صحيحًا. وفي باريس أطباء تستعمل جاذبية المغناطيس الإنسانية، للاستعانة على مداواة الإنسان. وتفصيل ذلك أن في باريس جماعة من الطبائعية، تزعم أنه ثبت عندهم أن بدن الإنسان يشتمل على مادة سيالية، يعني جاذبية المغناطيس الإنسانية، يعني أن هذه المادة لها خاصية المغناطيس: وتحصل هذه بتقريب اليد عدة مرات كالمسح، فينعس الإنسان، أو تغيب حواسه، حتى لا يحس شيئًا، فإذا غاب وكان مريضًا بمرض شديد عالجه الحكماء بقطع شيء أو بفتح شيء من بدنه من غير أن يشعر بشيء أبدًا، وقد جرب ذلك في قطع ثدي امرأة، بعد مغناطيسيتها، فمكثت عدة أيام ثم ماتت، فقال علماء المغناطيسية: إنها ماتت بسبب آخر لا بألم القطع، فإنها عاشت بعده، فالمغناطيسية نافعة لمعالجة الأمراض العصبية. وفي باريس أيضًا حكماء لخصوص مداواة خلل العقل، أو لألم أعضاء التناسل، أو الحصوة، ولخصوص الأمراض الجلية المنفرة وغيرها؛ كالجذام والجرب. وفي باريس أيضًا حكماء لتوليد النساء، فإن العادة أيضًا في باريس أن المرأة يولدها رجل حكيم عارف بأمور الولادة. ثم إن فروع العلوم الطبية كثيرة، فالمشهور منها فن التشريح، وفن تمييز أمراض الإنسان من حال طبيعته، وفن الكيمياء العقاقيرية، وفن أسباب الأمراض الباطنية الطبية، وعلم الجراحة الطبية، ووضع العصابة على الجراح، والتضميد بالمراهم، وفن تطبيب ملازم الفراش المبتلى بأمراض ظاهرية، وفن تطبيب ملازم الفراش المبتلى بأمراض باطنية، وفن معالجة النفساء، وتوليد الحامل، وعلم الطبيعة التي تدخل الطب، وعلم العقاقير والأدوية المفردة أو المركبة، وصناعة المعاجلة ومباشرة المريض. ومدارس الحكمة بمدينة باريس منافعها شهيرة؛ فمنها مدرسة كبيرة تسمى «أكدمة الصكمة السلطانية، وهي ديوان الحكماء السلطانية وهي مجعولة لحاجة المملكة الفرنسية، ومباشرة الأمراض العامة الضرر، كالأمراض الوبائية، والأمراض التي يعتقد الفرنساوية أنها معدية، وكمرض فصل البهائم. ومن وظيفة علماء «أكدمة الحكمة» معالجة سائر الناس بما تجعله المملكة موقوفًا على النفع العام، كإشهار تلقيح البقري، لإخراج الجدري، وامتحان الأدوية الجديدة، والأدوية المكتومة، وامتحان الأدوية المعدنية الأصلية أو المصطنعة، لإدخالها في الأدوية، وبالجملة فأهل هذه الجمعية السلطانية أعظم الحكماء الفرنساوية. ولنذكر هنا بعض ما يتعلق بمارستانات باريس في فصل فعل الخير، وقد أسلفنا بعض شيء من ذلك في الفصل السابق. ولنذكر لك نبذة من فن قانون الصحة، وتدبير البدن؛ حتى تتم فائدة هذه الرحلة، وهذه النبذة ترجمتها في باريز لقصد استعمال جميع الناس بمصر لها، لصغر حجمها، فهي وإن كانت تخرجنا عما نحن بصدده، إلا أن منفعتها عظيمة، وثمرتها جسيمة.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/16/
نصيحة الطبيب
لا شك أن الأطباء معتبرون بين الناس لشدة نفعهم عندهم، ومع ذلك فالأولى الاستغناء عنهم؛ لأنهم رفقاء المرضى فلنحرص على حفظ أنفسنا من أسباب المرض ومن الاحتياج إلى الطبية. ارفع أرض بيتك بعض قراريط، برمل أو حصى، أو طوب مسحوق، أو ما أشبه ذلك، وتجنب البناء في أرض مماسة لأرض أعلى منها، اجعل منافس الهواء إلى الجنوب الشرقي أي اجعله بين الشرق والجنوب؛ فإن ذلك للصحة أسلم من جميع الأوضاع. اعلم أن كثيرًا من الناس باعتناء فاسد يريد أن يداوي المرضى فيهلكهم، فأول ما يبدو قليل من الحمى أو القيء فلا يجد أحسن من تعريق المريض فيضغطه تحت أغطية ثقيلة، ويحجب عنه الهواء، ويسقيه شوربة الخضراوات الحارة وربما سقاه خمرًا حارًا أو حلوًا، فهل من الأصحاء من يستطيع حمل ذلك؟ أو ليس أن هذا يمرض من ليس بمريض؟ نعم، قد يكون العرق به الشفاء، لكن حين تكون الأمراض قد صدرت عند انحباسه أو بعد تقليل هذه أو إزالتها بكثرة تعاطي (الشوربات) وعلى كل حال فلا بد من إدخال الهواء اللين في موضع المريض؛ لما أن حاجة الإنسان إلى الهواء كحاجة السمك إلى الماء، و(الشوربات) الحادة تزيد الحرارة التي تهلك المريض وتحرقه وتيبِّسُه، والخمر هو سم حقيقي في الحمى، فعليك بخلاف ذلك من (الشوربات) الرطبة الباردة، فإنها تذيب الأخلاط المنفسدة وتسهل خروجها وتجفف الحرارة، وتنظف المعدة، وبعض الناس يريد أن يرد العافية لذي القيء فيعطيه المرق: فيضاعف ألمه مع أن من الحقيقة المقررة عند أكابر الأطباء أن المريض الذي به خميرة المعدة كلما أعطوه من الأغذية زاد ضعفه، وهذه الأغذية إذا انفسدت بالأخلاط المعفونة التي تختلط معها في الجوف تنقلب مرضًا جديدًا، فما يتعين في شفاء المريض هو ما يضعف المرض؛ ففي كل عشرين مريضًا يموتون في الأرياف فأكثر من الثلثين يمكن أنه كان يشفى بلا شيء لو كان في موضع مستور من مضار الرياح، وكان لا يشرب إلا ماء مبردًا، ولكن لا مفر من القدر، وأغلب الأمراض الحادة والحميَّات يتقدمها أيام تشويش كيسير الخدر، وقلة النشاط وعدم شهيَّة الأكل، ويسير ثقل المعدة والتعب، وثقل الرأس والنعاس الثقيل، عديم الراحة غير المصلح القوي، بل وثقل الصدر والميل إلى البرودة وتيسر العرق غير المعتاد وانقطاع العرق المعتاد، وعند ذلك يتيسر تدارك أو تخفيف هذه الأمراض المضرة بأربعة: الأول: ترك سائر الأشغال الشاقة والمداومة على الأشغال الهينة، الثاني: تقليل أكل المغذيات أو اجتنابها، لا سيما ترك اللحم والمرق والبيض والنبيذ، الثالث: إكثار الشرب يعني أن يشرب كل يوم قزازة فأكثر في كل نصف ساعة طاسة من الشربة المذكورة في المادة السابقة أو من الماء الفاتر المخلوط في كل قزازة إما بخمس عشرة أو بعشرين حبة من الملح المعتاد أو بفنجان خل أو بملاعق من العسل. الرابع: الاحتقان بماء فاتر أو بهذا الدواء وهو أن تأخذ قبضتين من الحشائش أو من زهر الخبازي وتغمرهما وترش عليهما نصف (قزازة) ماء مغلي وتصفيها بخرقة وتضيف عليهما أوقية عسل. ثم إن بعض أهالي القرى يعتادون النوم على طراحة مكبوسة ريشًا، ويتغطون بغطاء ثقيل من الزغب، والحر الصادر عن الريش هو خطر على المحمومين، لكن لما اعتيد على ذلك يمكن اغتفار هذه العادة في بعض الأحيان، إلا في مدة الحر واشتداد الحمى، فليتخذ للنوم طراحات مكبوسة بالقش، وللغطاء ملاحف أو أكسية أقل خطرًا من الريش، فهذا هو ما يريح المريض. وينبغي الحذر من تسخين هواء محل المريض، ومن كثرة الناس، واللغط، ومن الكلام معه إلا على قدر الحاجة، وينبغي فتح طيقانه، وأقله ربع ساعة في النهار، وربع ساعة بالليل، وينبغي مع فتح الطيقان فتح باب الغرفة ليتجدد الهواء، ولكن لإبعاد المريض عن جريان الأهوية فلتسحب عليه ستائر فراشه، أو ليحجب عن الهواء بكيفية أخرى، وفي زمن الحمر ينبغي إبقاء طاقة من الطيقان مفتوحة. ويحسن أيضًا تبخير غرفته بخل مطفى فوق نحو مجرفة حديد محماة. وينبغي في الهجير، والمريض متعب بالهواء الحار، أن يرش بلاط غرفته، وأن يوضع فيها فروع غليظة من شجر الصفصاف ونحوه، تغمس في إناء فيه ماء، لتكون مسقية. وليجتنب المريض تناول الأطعمة المغذية، ولا يأكل إلا يسيرًا من خفيف الثريد المنضج أو الأرز المطبوخ بالماء مع يسير من الملح، ولا بأس في الصيف بالأثمار المستوية في الشتاء بالتفاح المنضج، أو البرقوق والأجاص، بعد تيبسهما وطبخهما، فهذه الأثمار إذا أكلت بلا إكثار منها تروى وتبرد وتصلح الصفراء المنفسدة الحارة؛ فهي الأغذية اللائقة المحموم، واستعمل الشراب الرطب، والمبرد الذي ذكرناه سابقًا، ولا بأس أيضًا أن تضع في نحو (قزازة الماء) طاسة من عصير الفواكه التي ذكرناها قريبًا. وينبغي للمريض أن يشرب كل يوم (قزازتين) من ماء فأكثر وأن يتناول في المرة يسيرًا، ففي كل ربع ساعة يشرب فنجانًا ما لم ينم، واللائق أن يكون الشراب غير شديد البرودة، ففي اعتدال الزمن يكون في مزاج طراوة نسيم. ولو امتنع المريض من حاجة الإنسان جملة أيام، أو لم يبل بكثرة أو خرج بوله أحمر، أو خلطك في كلامه، أو كانت (حمته) قوية، أو كان وجع رأسه أو كليته شديدًا أو كانت بطنه متألمة، أو كان محتاجًا كثيرًا إلى النوم فليحتقن كل يوم مرة بالحقنة المركبة مما سبق ذكره في المادة الثانية، فالاحتقان شفاء المحموم إلا إذا حدث للمريض العرق النافع فلا يحتقن. وإذا خف المرض فينبغي الخروج من الفراش في اليوم ساعة فأكثر، كما يمكنه، ولكنه لا أقل من نصف ساعة، ولا ينبغي ترك فراشه وهو متلبس بالعرق. ومن المستحسن تصليح فراشه كل يوم، وتغيير ما على بدنه كل يومين، إذا تيسر ذلك، ومن الضرر البيِّن الحكم بخلاف ذلك. اعتقاد أنه يخشى على المريض من خروجه من فراشه، فيتركه في ثيابه المتسخة، وهذه الثياب لا تقتصر في أضرارها على إبقاء أصل المرض فقط، بل تقويه، (ولو) قيل، إن المريض تعبان جدًا، وهذه حجة عاطلة ولو سلم أن استعمال ذلك يتعبه درجة، فإنه يزيد ما بقي من قوته، ويسرع تخفيف ألمه. اعلم أنه ما دام بالإنسان قليل من الحمى فلا يتناول إلا الأغذية الخفيفة التي بيناها، فإذا انقطع عرق الحمى؛ فلا بأس أن يتناول غيرها كقليل من اللحم الطري، أو السمك، أو المرقة أو البيض هين النضج، فهذه الأغذية تصلح القوى بشرط عدم الإكثار فيما يتناول منها، وإلا فتبطئ الصحة؛ لأن المعدة الضعيفة من المرض ليست متأهلة إلا ليسير الهضم، فلو أعطيتها فوق ما في قوتها لم ينهضم سائر ما يدخل فيها، بل ينفسد، وقوام البدن إنما هو بما تهضمه المعدة لا بما يصل إليها فقط، فينبغي للناقِه أن يكون كالمريض في تناوله قليلاً في كل مرة، ولكن في غالب الأوقات، وأن لا يتعاطى في المرة إلا جنسًا واحدًا من الأطعمة، وأن لا يكثر من تغيير الأطعمة، وأن لا يستعجل في مضغ ما يتناوله من الجوامد، وأن لا يكثر من الشرب، وخير الشراب هو الماء المخلوط بشيء من الأنبذة. وليَسر على قدر ما يستطيع ماشيًا أو راكبًا عربة أو فرسًا، ومن العبث ترك ركوب الخيل في هذه الحالة لمن يملك الخيل، كأغلب أهل الأرياف، وإذا كان السير بعد تناول الطعام كان مقويًا لمادة الهضم بخلاف فعله قبل، فهو ربا يضر الهضم، وليتناول من قام من المرض يسيرًا من الطعام في المساء؛ لأن النوم أريح وأصبح له من الأكل، ولا يضره عدم قضاء الحاجة كل يوم، نعم إذا جاوز يومين من غير خروج شيء فليحتقن ثالث يوم، أو قبله إن علم أن قبض بطنه تتولد عنه الحرارة، أو الانتفاخ، أو ضيق الصدر، أو وجع الرأس، وينبغي لمن قام من مرضه جديدًا ألا يسرع في العودة إلى شغله، فإن لم يصبر إلى تمام عافيته طال ضعفه، فالاستعجال على الشغل قبل أوانه يعقبه من الخسارة زيادة على ما يؤمل كسبه، فإن لم يتحفظ على نفسه، وإلا أصابه مرض الذبول فينبغي حين إرادة الأخذ للمبادئ مراقبة العواقب. اتخذ القناعة في الأكل، فمن لم يقنع لا يشبع، بل يهلك نفسه، قيل: من أرخى على الطعام طويل عنانه، حفر مقبرته بحدة أسنانه، لا تأكل دون مرتين في اليوم، بل لا بأس بثلاثة، والصغار لهم أن يأكلوا أربع مرات بل خمسًا. لا تنم عقب الأكل، ومدة النوم للسليم ست ساعات أو سبع، وللضعيف والصغير أطول من ذلك. تضمحل القوة والعقل، ويذهب كل منهما باعتياد تطويل النوم. النظافة نصف الصحة، فلتكن في البدن والثوب والمسكن والغذاء والمتاع. لا تمضغ الدخان، ولا تنتشق به؛ فكثرة اللعاب الذي يكسبه للطبيعة مضعفة على طول الزمن، وبه يضيع الريق اللازم في الهضم، وينتن النفس، وتسودّ الأسنان، وتنفسد، وقد شوهد أن كثيرًا من الناس اعترته الحماقة بالإكثار من شرب الدخان أو شم النشوق. إياك والانهماك على تعاطي الخمور والمسكرات، سيَّما أيام الصوم، وقد توهم أنها تشد القوى، مع أن القوة المستفادة من تعاطيها تمر في أدنى زمن، ويعقبها وهن، وذلك كما أن النار تذكو إذا أكثرت من نفخها وترعى الوقود سريعًا، ولا تعطي الحرارة إلى درجة. وأما الفلاحون الذين يشتغلون في وقت الصيف فعليهم تغطية رءوسهم وأن يتداركوا أشغالهم. ومن كلام بعض الحكماء الأقدمين: يهلك بالنزلة والزكام أبلغ مما يهلك بالوباء، وعلاج ذلك: استعمال الشربة المذكورة في المادة الأولى، أو تعاطي سلاقة الخمان التي ربعها أو ثلثها لبن، وينبغي قبيل النوم وضع الرجلين في الماء الفاتر، ولو انحبست البطن تعيَّن الاحتقان، وينبغي الاقتصار على تناول الأطعمة الخفيفة، وتعاطي اليسير في المأكل، ولا بأس بتعاطي بعض طاسات من خفيف مرقة الخشخاش الأحمر، وقد توهم بعضهم أن هذا الداء يذهب بالعرقي المحروق، أو الخمر المعطر، أو الحلو، مع أن هذا كإلقاء الحطب في النار؛ إذ هذه الأشربة أقرب في تثقيل هذا الداء من إزالته، أو ليس أن هذا الداء حرارة، وهي تزداد بهذه الأشربة. ومتى عض هذا الكلب الإنسان فإن الجرح من عاداته أن يلتئم بالسهولة، كأنه غير متسمم، وبعد مدة قليلة أو كثيرة، وهي ثلاثة أسابيع إلى ثلاثة أشهر يحس بالجرح وجعٌ مكتوم، فينتفخ أثره، ويحمر، وينتفخ، ويقيح، ومدته تخرج حارة منتنة محمرة، ويذوق المريض الكآبة والخدر والكسل والبرودة، ويعسر عليه التنفس، ويمسك الوجع أمعاءه، يضطرب في تعاسة، يعطش عطشًا مهلكًا، ويقاسي إذا شرب، ثم يعتريه الارتعاد من الماء والمائع، ويبح صوته، ثم يجن ويموت، وليس من شأن من أصيب بهذا الداء أن يعض غيره دائمًا، بل معظم المبتلين بهذا الداء إذا أحس هجومه عليه ينصح الحاضرين بأن يكونوا منه على حذر، وما يذوقه من الألم تقصر عنه العبارة، فيتمنى ولو الموت. ومعالجته هي: أن أول ما يعضه الكلب تسرع الدواء فيه، فإن توانيت سرح السم إلى الدم، ولا يجدي التطبيب شيئًا، وذلك هو أن تستخرج الدم من الجرح بعد كشفه، وتغسله بماء مملح، وتكويه بحديدة بعد إحراقها في النار حتى تبيض بعد الاحمرار وتغرزها في سائر أقطار الجرح، فلو بقي جزء من الجرح غير محكم الكي كان الكي كلا شيء، ويصح أن تستعمل بدل الحديدة المحرقة دهن الزاج فتدخله بين شفتي الجرح وتجريه في سائره، ومتى انكوا اللحم تغطيه بخرقة مدهونة بالقيرووطي، أي: المرهم، أو بالزبدة الطرية، اعلم أنه يجب غسل الثياب المنقوبة بأسنان الكلب الكَلِب؛ لما أنها حين تشربت من ريقه تخلل بها جزء من سمه، وما تقدم لك هو الكيفية المتعينة المجربة في هذا المرض الشديد، فلا تتردد، أو تخف قليلاً من الألم الذي يطرد غيره من الألم الشديد، أو الهلاك المفزع، وأيضًا لو طلبت الحكيم لأثبت لك بسداد رأيه هذه المعالجات السالفة، ولا بأس أن تستعمل هذا الدواء في أي حيوان معضوض بكلب كَلِب. اعلم أن شدة البرد قد تستحكم بأعمالها في الإنسان، فتجمد الأعضاء، وتحبس جريان الدم، وربما مات بها الإنسان، ودواؤها مخوف العاقبة جدًا وإن كان لا ألم به أبدًا، فمباديها هو الرعشة التي تكاد تصرع الإنسان، وصلابة الجسم، وانحباس الدم، وخدر المفاصل، وذهاب الإحساس، والتذاذ البدن بالنوم، وانقياده إليه ولو بالقهر، وانقطاع حركات الحياة على التدريج، وعاقبته خروج المبتلى به من حيز الأحياء إلى حيز الأموات، وفي الحقيقة حركات الحياة ليست إلا متوقفة، فعليك أن تسرع في معالجته بدواء؛ سواء ذهبت أمارات الحياة بالكلية، أو بقي منها شيء، واعلم أن بعض الناس توهم أن معالجة إفاقته تكون بالحرارة، وهذا وهم فاسد، لإضرار الحرارة بكثير من الناس، ولكن معالجته هي أن تلف أولاً بدنه في محلفة من صوف، وتحمله إلى أقرب ما يرتاح فيه من الأماكن، وتخلع ثيابه وتضعه في فرش غير محمي، ثانيًا: إذا كان عندك ثلج فدلك البدن مع رفق بشيء من ذلك، مارًا من القلب إلى المفاصل، ثم بعد لحظات دلكه بدل الثلج بخرقة مسقية بماء بارد، وبعده بماء فاتر، ثم بماء مسخن ورش على وجهه شيئًا من هذه المياه ثالثًا: لو تعذر الثلج فضعه في حمام فيه ماء بئر بارد، وبعد نحو ثلاث دقائق أفرغ عليه قليلاً من الماء المسخن، وهلم جرا، فأفرغ عليه كل ثلاث دقائق، حتى تذهب برودة الماء على التدريج، ويصير فاترًا معتدلاً، واعمل جميع ذلك نحو ثلاثة أرباع ساعة فقط، فإن استشعرت برجوع حركة نبض المريض، فلك أن تزيد حرارة الحمام؛ حتى يصير في درجة سخونة الحمام المعتاد، وما دام المريض في الحمام فرش على وجهه يسيرًا من ماء بارد بعد تدليكه بخرقة رقيقة، رابعًا: الهواء في صدره بواسطة أنبوبة أو منفاخ، كما سبق في الغريق، سادسًا: أعطه سفوفًا حبات من الملح المعتاد، والعقه لعقتين ماء باردًا مخلوطًا بقطرات من ماء الملكة، سابعًا: إذا بقي بالمريض الخدر، فاسقه قليلاً من ماء ممزوج بخل وإن كان نومه به سباتًا فاحقنه بحقنة حادة، وهي ما تقدمت في شأن الغريق، ومن سوء الخطأ توهم أن استعمال الخمور والمسكرات القوية، يمكن أن يتدارك به إبعاد هذا الداء، مع أن الأمر بعكس ذلك، وهو أن كثرة الأشربة تحبس جريان الدم، فمن ينهمك على تعاطيها فهو أشد تأثرًا من غيره بآفات البرودة. ومعالجته هي أن تسرع إلى تعريضه في الهواء وتتجرده من أنوابه، وتنيمه على ظهره، وتسقيه ماء ممزوجًا بخل وترش من هذا الماء على وجهه وصدره، وتبل خرقة من ذلك الماء وتدلك بدنه بها، وتمسح وجهه ثم تعيد ذلك عدة مرات، وتقرب نحو مشامه عود كبريت مشتعلاً، أو غيره من حاد الرائحة، وتغمزه في باطن أنفه بطرف ريشه، وتحقنه مرتين: الأولى بماء ممزوج بخل والثانية بماء ملح، فإن بقي بعد ذلك على حالته فدلك فقار ظهره بممسحة من عرف حيوان، والطخ شيئًا من معجون الخردل على بطن رجليه، وأدخل الهواء في صدره بأن تدخل في إحدى طاقتي أنفه فم منفاخ وليس في الغالب يُفيق المريض، فإن ساعدتك المقادير على إفاقته وظهر شيء من أمارات الحياة فضعه في فرش عظيم التسخين، في غرفة بها الهواء وألعقه شيئًا من خير الأشربة. أمر الجدري معلوم، وكونه إما قاتلاً أو مشوهًا. لا سيما بالوجه بين عند سائر الناس، وربما أذهب البصر وأورث أسقامًا تنقضي إلا انقضاء الأجل، وهناك طريقة لتداركه قبل أوانه مجربة فمن مرض بالجدري مع وجودها فهو من سوء تفريط والديه وإهمالهما، فعلى أبي الإنسان وأمه المبادرة لذلك، فإذا بلغ سن المولود ستة أسابيع إلى ثمانية وجب طلب الحكيم ليخرج سم الجدري بالتلقيح ولا عذر لهما إن أهملا في ذلك، لقدرتهما على مداواة ولدهما، فلو تركاه حتى أصيب بالجدري فقد فات أوان استعمال تلقيح البقري، فيندمان حيث لا ينفع الندم. وفي بعض الممالك تلقيح البقري للأطفال معين على بيت المال، فلا كلفه فيه خصوصًا على الفقراء، فعلى أهل هذه المملكة أن يقبلوا عليه في الحال، ولا يتأخروا إلى غد، فربما في اليوم القابل تحرك سم الجدري، ولا يغتر بقول من يزعم أنه غير مثمر شيئًا، فصحيح التجربة أوضح فائدة استعماله، ومن استعمله لطفل فأصيب الطفل بعد ذلك بالجدري؛ فذلك لفقد شروط: كان التلقيح كان غير محكم الوضع، والحبات التي أخذت كانت غير تامة، فإذا استعملته في المولود فاطلع الحكيم على حبات البقري تتحقق إصابة استعماله وعدمها، واستعمال تلقيح البقري غير مؤلم فهو أخف من شكة إبرة ولا يمرض به الإنسان، ويصح استعماله لأي عمر كان. والجدري داء متوقع مدة أجل الإنسان، حتى كأنه دين مآله إلى القضاء، وقضاؤه يحصل بالمسارعة إلى استعمال تلقيح البقري أن يريد التخلص من إصابته. هذا آخر ما أوردنا شرحه من النصائح النافعة للصحة، فالصحة جوهر نفيس عن سائر ما عداه؛ إذ يسلبها لا تنفع زينة الحياة، فما ثمرة الأموال لعليل، لا يتمتع منها بشفاء الغليل. يذهب المريض كنوز ذهبه، لمن يبريه من وصبه، ومع ذلك قد يكون خلاف غرضه، فلا يصح له الشفاء من مرضه، تقرع الأمراض باب الخطير، على نسق ما تقرع باب الحقير، ولا ترق لشكواه، ولا تسمع دعواه، حكمة بالغة للحكم العدل، ذي الاقتدار والفضل، فليس بنا قوة ولا حول، بل الكل بحول وقوة ذي الطول، فهو الممرض والشافي، والمبتلي والمعافي، ها نحن الآن في حيز الحياة والثبات، ولا ندري هل نعد غدًا في زمرة الأموات؟ فهذا سر خفي لا نصل إلى فهمه، كيف وقد استأثر به الله في غامض علمه! فلا تثق بالمخايل الطاهرة، من الصحة الزاهية الزاهرة، فربما في أسرع من البرق اللامع، تعترينا الأمراض وتلزمنا المضاجع، وقدرتنا على القبض على الأجل، وحفظ الصحة من الخلل، كاقتدارنا على عروج السما، واتخاذ الأفلاك ملزمًا، فعلينا بالاستعداد للمعاد، ولنكن كالمسافر المستحضر على الحمل والزاد، العازم على الرحيل، الجازم من الإقامة بالقليل. قد كان بالأمس نوبة الجاز، وستأتي غدًا نوبة صاحب الدار، ولا خوف علينا ولا حزن، حيث كان خلاص ذمتنا حسن، هذا، والحمد لله وحده، وصلى الله على نبيه وآله وصحبه وسلم.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/17/
الفصل العاشر
اعلم أن غالب الناس ببلاد الإفرنج وسائر البلاد التي تكثر الصناع والنجامة فيها يعيشون من كسب أيديهم، فإذا حصل للإنسان منهم مانع كمرض أو نحوه، فقد معيشته واضطر إلى أن يعيش من غير كسب يده، كأنّ يتكفف الناس، أو نحو ذلك، فشرعت المارستانات المعدة لفعل الخير، حتى إن الإنسان لا يسأل ما في أيدي الناس، وكلما كثرت صنائع بلدة وكثر كسبها كثرت أهاليها فاحتاجت إلى مارستانات أكثر من غيرها، ومعلوم أن مدينة «باريس» من أعمر المدن وأكثرها صناعة ونجامة؛ فلذلك كثرة مارستاناتها وجمعيات فعل الخير بها سادة لخلل شح أفراد أهلها وبخلهم؛ لما تقدم أنهم بمعزل عن الكرم من العرب، فليس عندهم حاتم طي، ولا ابنه عدي، ولم يخرج من بلادهم معن بن زائدة الشهير بالحلم والندى الذي قال فيه الشاعر: وفي مدينة باريس ديوان لتدبير المارستانات، وأهله خمس عشرة نفسًا للمشورة العامة، وفي هذا الديوان خمس نظارات: النظارة الأولى: لمباشرة المارستان، النظارة الثانية: لمباشرة مهمات المراستان، والخدمة للمرضى والعقاقير العامة، النظارة الثالثة: مباشرة الأوقاف، النظارة الرابعة: مباشرة الفقراء في بيوتهم وإعانتهم، النظارة الخامسة: مباشرة مصاريف المارستان وتوابعها. ولا يدخل الإنسان المارستان إلا إذا أثبت مرضه. يقول الحكماء: ومن قام من مرضه في المارستان وأراد أن يخرج منه قبل أن يتم شفاؤه وترجع له قوته أخذ من الوقف بعض شيء يستعين به على قوته؛ حتى يمكنه الرجوع إلى أشغاله. وأعظم مارستان «بباريس» المارستان المسمى: «أوتيل ديو» يقرب أن يكون معناه «بيت الله» وهو موقوف على المرضى والجرحى، ولا يدخل فيه الأطفال ولا أرباب الداء العضال، ولا المجانين ولا النفساء ولا أرباب الأمراض المزمنة، ولا المبتلى بالإفرنجي، فإن كل داء من هذه الأشياء له مارستان خاص. ومن المارستانات الشهيرة في «باريس» مارستان يسمى «ستلويز» وهو معد لأرباب الأمراض المزمنة، ولأرباب الدمامل والقوبة، والحكة، والجرب، ونحو ذلك. وفي باريس مارستان للقطاء، يعني الأطفال الذين يلتقطونهم من الطرق فيدخل فيه الذين يهملهم أهلهم كأولاد الزنا ونحو ذلك. «وبباريس» مارستان أيضًا للأيتام، وفيه يدخل الأولاد الفاقدون لأهاليهم، وهو موقوف على نحو ثمانمائة ذكر وأنثى. فالذكور فيه في جهة، والإناث في أخرى، ويباشر هذا المارستان ديوان يدبره فلا يوضع الصغير في المارستان إلا بأمر هذا الديوان، وإذا بلغ الإنسان إحدى عشرة سنة في السن فإنه يخرج بإذن أهل ذلك الديوان من هذا المارستان، ويسكن عند معلم صنعة ومصرفه يخرج من وقف المارستان، ولمعلم الصنعة أن يتبنى الصغير، أي يأخذه وينزله منزلة ابنه، ولكن بشرط أن يثبت لأهل ذلك الديوان يساره وفضله وحسن حاله. ومن جملة مارستانات «باريس» مارستان موقوف لتلقيح الجدري بوضع البقري. ومنها مارستانان يسمَّيان «مارستاني الشيخوخة والهرم» فأحدهما للذكور، والآخر للنساء، ومنها مارستان لأصحاب الداء العضال، موقوف على أربعمائة وخمسين مريضًا ذكرًا وخمسمائة وعشرين مريضة». ومنها: مارستان العميان، من أهل «باريس» أو غيرها من العمالات، فلهم فيه الأكل والشرب، وسائر ما يحتاجون إليه في تعليمهم ونحو ذلك. ويوجد في «باريس» زيادة عن هذه المارستانات ديوان عام يسمى «ديوان الإحسان» المقصود منه تكميل الخير الذي لا يمكن في المارستانات، كما إذا أحرقت تجارة تاجر أو انكسر، فإنه يجبر من هذا الديوان بشروط معلومة. وفي كل خط «بباريس» ديوان إحسان، والإحسان فيه قسمان: إحسان حالي وإحسان حولي، فالأول يعطى للفقير الذي وقف حاله أو حدث له ما يعطله، والثاني لمن به حالة دائمة تمنعه من الشغل، ومن فعل الخير بمدينة «باريس» إنه يوجد بشاطئ نهرها علب وحوائج بها روائح لتشميم الغريق والمغمى عليه والجريح ونحو ذلك ليفيق، ويوجد أيضًا بهذه المواضع عدة رجال من أهل الخبرة، لينهضوا لإسعاف من وقعت له حادثة عارضة. ومن هذا كله يتبين أن فعل الخير بمدينة «باريس» أكثر منه في غيرها بالنسبة للجملة أو للمملكة، لا لكل واحد على حدته فإنه قد يشاهد في طرقها أن بعض الناس الذين لا يذهبون إلى المارستانات الموقوفة ونحوها يقع في وسط الطريق من الجوع، وربما تراهم ينهرون السائل، ويردونه خائبًا، زاعمين أنه لا ينبغي السؤال أبدًا؛ لأنه إذا كان السائل قادرًا على الشغل فلا حاجة إلى السؤال، وإن كان عاجزًا عنه فعليه بالمارستانات ونحوها؛ ولأن السائلين عندهم أصحاب حيل في تحصيل الأموال في غالب الأحوال، حتى إنهم يتشكلون في صورة المجاريح ونحوهم؛ ليشفق الناس عليهم ويرقوا لحالهم. ومن فعل الخير أنهم يجمعون عند الحاجة أشياء لمن نكبه الزمان حتى يصير بها غنيًا، فمن ذلك أنهم جمعوا لأولاد «الجنرال ني» نحو مليونين من الفرنكات يعني ستة ملايين من القروش.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/18/
الفصل الحادي عشر
اعلم أن المركوز في أذهان هؤلاء الطوائف محبة المكسب والشغف به، وصرف الهمة إليه بالكلية، ومدح الهمة والحركة وذم الكسل والتواني، حتى إن كلمة التوبيخ المستعملة عندهم على ألسنتهم في الذم هي لفظة الكسل والتنبلة، وسواء في محبة الأشغال العظيم والحقير، ولو حصل من ذلك مشقة أو مخاطرة بالنفس، فكأنهم فهموا قول الشاعر: إلى أن قال: ثم إن أعظم التجارات وأشهرها في «باريس» معاملات الصيارفة، والصيارفة قسمان: صيارفة المملكة أو (الميري)، وصيارفة «باريس»، ووظيفة صيارفة الدولة بالنسبة للتجارة أن يضع الناس ما يريدون وضعه، ويأخذوا كل سنة ربحه المعين في قانونهم، فلا يعد عندهم هذا الربح ربا إلا إذا زاد عما في القانون، وللإنسان أن يأخذ ما وضعه من المعاملة عند صيارفة الدولة متى أراد، ومثل ذلك صيارفة «باريس» فإنهم يأخذون ويعطون الأموال بالمرابحة، وهم يعطون الربح أزيد مما تعطيه صيارفة بيت المال الذين هم صيارفة المملكة، ولكن المال الموضوع عند صيارفة المملكة آمن من الموضوع عند صيارفة الدولة، فإن ما يأخذونه يكون دينًا على الدولة، والدولة دائمًا موجودة. ومن أمور المعاملات المهمة عند أهل «باريس»: جمعية تسمى «الشركاء في الضمانة» فإنها تضمن لمن يدفع لها كل سنة قدرًا هينًا مخصوصًا سائر ما يتلف في بيته بحادثة قهرية، كما إذا احترق بيته أو حانوته أو نحو ذلك، فإنها ترجعه له كما كان، وتدفع له قيمته. وفي باريس عدة خانات عظمى، توجد فيها سائر المبيعات، ووكائل وحوانيت وبيوت للتجارة أو الصناعة مكتوب على واجهتها اسم التاجر واسم تجارته، وبعض الأحيان قد يكتب اسم المتجر، ألا يمكن أن يشرع الإنسان في التجارة إلا إذا دفع لبيت المال شيئًا ولو هينًا، فيأخذ (نيشانًا علامة على الإذن له في التجارة، فيحتاج أن يكون معه (النيشان)، وعلى تجارته. وللتجارة مكتب مخصوص يسمى مكتب التجارة، يتعلم فيه التلامذة علم التجارة، وعلم تمييز صفات أنواع الأشياء المبيعة، ومعرفة الأثمان والقيم. وفي هذا المكتب خمس عشرة مدرسة، وفيه تلامذة من أقاليم عديدة، وبمقتضى قانون ذلك المكتب أنه بدفع القدر المعين يقبل من أراد الدخول للتعليم من سائر الأمم. ومن الأمور التي تعين على النجامة والكسب تعمير طرق البر والبحر؛ فمن ذلك صناعة الخلجان والقوارب التي تسير بالدخان ونصب القناطر، ونصب دواوين تسفير العربات الكبيرة (والتليغراف) وهي الإشارة، ونصب البريد بالساعي، والبريد بالخيل وغير ذلك. وأما البريد المسمى عند الفرنسيس البسطة» فإنه من أهم المصالح النافعة في التجارات وغيرها، يسهل فيه إخبار الغير بواسطة المكاتبات التي تذهب عاجلاً، ويأتي ردها في أسرع ما يكون. وتدبيرها بكيفيتها التي هي عليها من أعظم ما يمكن، فإن المكاتيب التي تبعث في البلد وأن العمالة تصل إلى صاحبها من غير شك؛ لأن سائر نمرة البيوت مكتوب عليها بالرقم عددها المسمى «النمرة» فيها يمتاز البيت عما عداه، والمكتوب الذي تبعثه الإنسان تضعه في محل المكاتيب الموضوع في كل حارة، فيأتي الساعي ويأخذه، فيصل المكتوب إلى الحارة الأخرى، ويأتي رده في يومه. ثم إن الفرنساوية يحترمون أمور المراسلات غاية الإمكان، فلا يمكن لإنسان أن يفتح مكتوبًا معنونًا باسم آخر ولو كان متهمًا بشيء، ولما كان احترام المراسلات بباريس على هذه (ص ١٢٦) الحالة كثرت الرسائل بين الأحباب والأصحاب، خصوصًا بين العشاق، لأمن الإنسان على مكتوبه من أن يفتحه غير المرسل إليه، المعنوَن باسمه، وأعلام العشق بين العاشق ومعشوقته يكون بالمراسلة، وبها أيضًا يحصل الوعد بالمواصلة، وفي باريس محل لإرسال المعاملات والحوائج مع الساعي أيضًا، من غير خوف أبدًا ومن الأمور النافعة في التجارات (الجورنالات) فيكتبون فيها كثيرًا من البضاعة النافعة أو الجيدة الصنعة، ويمدحونها، ليروجوا السلع، وليعلِّموا الناس بها، وصاحب البضاعة يدفع لهم شيئًا في نظير ذلك، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، وقد يطبع التاجر الذي يرى ترويج سلعته عدة أوراق صغيرة، ويرسلها مع خدم في سائر البيوتات، ولسائر المارين بالطرق، ويفرقها عليهم مجانًا؛ ففي هذه الأوراق يذكر اسمه واسم دكانه، وما عنده من المبيع، ويعين القيمة لسلعته. وبالجملة ففي مدينة باريس يباع سائر ما يوجد في الدنيا سواء كان خطيرًا أو حقيرًا، ومن أعظم الأشياء دكاكين العقاقيرية، فيها توجد سائر الأدوية مجهزة، وسائر العقاقير التي وجه الأرض المعروفة الاسم والخاصية. وسائر الخلق «بباريس» يحبون الكسب والتجارة، سواء الغني والفقير، حتى إن الصغير الذي لا يمكنه التكلم إلا بالأشياء الصغيرة إذا أعطيته فلسًا يفرح به ويصفق بيديه قائلاً ما معناه بالعربية: كسبت وقنيت؛ ولولا أن كسبهم مشوب في الغالب بالربا لكانوا أطيب الأمم كسبًا، وإذا كسدت تجارة أحدهم كما هو غالب في تلك البلاد فسد حاله، وآل أمره إلى تطلب ما في أيدي الناس، وربما أخذ معه مكتوبًا من أحد الكبار يدل على كساد حاله، وأنه يستحق الإعانة، ويكثر وقوع مثل هذا الأمر في هذه المدينة وإن كثر أخذها وعطاؤها. وتداول الأمطار والرياح لا يمنع الإنسان منهم عن الخروج إلى شغله، يقولون بلسان حالهم: اليد الفارغة تسارع إلى الشر، والقلب الفارغ يسارع إلى الإثم. وأهل «باريس» أغنياء جدًا، حتى إن المتوسط منهم أغنى من تاجر عظيم من تجار القاهرة، فلا يرضون قول الشاعر: بل يحرصون على الأموال، ويسلكون سبيل الحرص زاعمين أنه يزيد في الأرزاق، ولا يقتدون بقول الشاعر: وقد يوجد بها من أهالي الحرف الدنيئة من إيراده كل سنة أبلغ من مائة ألف فرنك، وذلك من كمال العدل عندهم، فهو المعول عليه في أصول سياساتهم، فلا تطول عندهم ولاية ملك جبار أو وزير اشتهر بينهم أنه تعدى مرة وجار، ولا شك أنه تأسس في قلوبهم قول الشاعر: وهذا لا يمنع من أنهم يدفعون (الميري) عن طيب خاطر، لما أنهم يرون أن الخراج عمود الملك إذا دفع كل إنسان منهم ما هو عليه قادر، فمال (الميري) هو قوام صورة الممالك، وإحسان مصرفه في استحقاقه خير مما هنالك، قال الشاعر: ولما كانت رعيتهم رائعة كان الدولة عندهم لها إيراد سنوي عظيم، فإن إيراد الدولة الفرنساوية كل سنة نحو تسعمائة وتسعة وثمانين مليونًا من الفرنكات. ومن جملة أسباب غنى الفرنساوية أنهم يعرفون التوفير، وتدبير المصاريف، حتى إنهم دونوه، وجعلوه علمًا متفرعًا من تدبير الأمور الملكية، ولهم فيه حيل عظيمة على تحصيل الغنى، فمن ذلك عدت تعلقهم بالأشياء المقتضية للمصاريف، فإن الوزير مثلاً ليس له أزيد من نحو خمسة عشر خادمًا، وإذا مشى في الطريق لا تعرفه من غيره، فإنه يقلل أتباعه ما أمكنه داخل داره وخارجها وقد سمعت أن قريب ملك الفرنسيس المسمى: الدوق «درليان» وهو الآن السلطان الذي هو من أعظم الفرنسيس مقامًا، وأكثرهم غنى، له من الأتباع وسائر من طرفه من العساكر ونحوها (كالبستانجية) والخدم وغير ذلك نحو أربعمائة نفس لا غير، والفرنساوية يستكثرون ذلك عليه، فانظر الفرق بين باريس ومصر؛ حيث إن العسكري بمصر له عدة خدم.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/19/
الفصل الثاني عشر
قد تقدم لنا في الشرطة أن دين الدولة هو دين النصارى «القاثوليقية» وقد بطل هذا الشرط بعد الفتنة الأخيرة، وهم يعترفون للبابا الذي هو ملك رومة بأنه عظيم النصارى وكبير ملتهم، وكما أن الدين القاثوليقي هو دين الدولة الفرنساوية كذلك هو دين غالب الناس عندهم، وقد يوجد «بباريس» الملة النصرانية المسماة: «البروتستانتية» وغيرها، ويوجد بها كثيرٌ من اليهود المستوطنين، ولا وجود لمسلم مستوطن بها. وقد أسلفنا أن الفرنساوية على الإطلاق ليس لهم من دين النصرانية غير الاسم، فهم يدخلون في اسم الكتابيين، فلا يعتنون بما حرمه دينهم، أو أوجبه، أو نحو ذلك؛ ففي أيام الصيام في «باريس» لا ينقطع أكل اللحم في سائر البيوت، إلا ما ندر، كبعض القسوس، وبيت ملك الفرنسيس القديم، وأما باقي أهل المدينة فإنهم يستهزئون بذلك ولا يفعلونه أبدًا، ويقولون: إن سائر تعبدات الأديان التي لا نعرف حكمتها من البدع والأوهام. ولا تعظم القسوس في هذه البلاد إلا في الكنائس عند من يذهب إليهم، ولا يسأل عنهم أبدًا، فكأنهم ليسوا إلا أعداء للأنوار والمعارف، ويقال: إن غالب ممالك الإفرنج مثل «باريس» في مادة الأديان، ثم إن «مسيو دساسي» لما اطلع على ذلك كتب عليه ما نصه: قولك أن الفرنساوية ليس لهم دين ألبتة، وإنهم ليسوا إلا بالاسم فيه نظر، نعم إن كثيرًا من الفرنساوية خصوصًا من سكان «باريس» ليسوا نصارى إلا بالاسم فقط لا يعتقدون اعتقادات تدينهم، ولا يتعبدون بعبادات النصرانية، بل هم في أعمالهم لا يتبعون إلا أهواءهم، تشغلهم أمور الدنيا عن ذكر الآخرة، تراهم ما دامت حياتهم لا يهتمون إلا باكتساب الأموال بأي وجه كان، وإذا حضرهم الموت ماتوا كالبهائم، ولكن فيهم أيضًا من يقيم على دين آبائه يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعمل الصالحات، وهم طائفة لا تحصى من الرجال والنساء، ومن العوام والخواص. بل ومن المشهورين بفضل العلم والأدب، غير أنهم في ورعهم وتقاهم على مراتب شتى: منهم من يشارك عامة الناس تصرفاتهم، ويحضر معهم في محافل اللذات أعني «السبكتاكل» «والبال» ومجامع الأغاني، ومنهم المتقشفون المعرضون عن كل ما تشتهيه الأنفس، وهؤلاء أقل عددًا، وإن دخلت كنائسنا أيام الأعياد المعظمة ظهر لك صحة قولي. هكذا انتهت عبارته والحامل له على ذلك: كونه من أرباب الديانة، وعددهم نادر ولا حكم له. ومن الخصال العادية المهولة ببلاد الفرنسيس أو بلاد «القاثوليقية»: عدم الإذن بزواج القسيسين على اختلاف مراتبهم ودرجاتهم، فإن عدم زواجهم يزيدهم فسقًا على فسقهم. ومن الخصال الدميمة: إن القسيسين يعتقدون أنه يجب على العامة أن يعترفوا لهم بسائر ذنوبهم؛ ليغفروها لهم، فيمكث القسيس في الكنيسة على كرسي يسمى كرسي الاعتراف، فسائر من أراد أن تغفر ذنوبه يذهب إلى كرسي الاعتراف، داخل باب بينه وبين القسيس حائل كالشبكة، فيجلس، ثم يعترف قدامه بذنوبه، ويستغفره، فيغفر له، وقد عرف عندهم أن أكثر من يدخل الكنيسة أو يذهب إلى الاعتراف يكون من النساء والصغار، وهذا موافق لقول بعض شعراء العرب: ودرجة القسيسية عندهم مختلفة؛ فأولهم الكردينال وهو بعد «البابا» في الرتبة؛ وذلك أن البابا قبل توليته يشترط أن يكون «كردينالاً» ثم بعده «المطران» ثم بعده «الأسقف» ثم «الخوري» ثم «نائب الخوري» ثم «الشماس». وعند الفرنساوية أعياد دينية متنقلة: يعني لا تقع في يوم معين كل سنة، بل هي دورية ومرتبة في الغالب على وقوع عيد الفصح. فمن أعيادهم الغريبة «عيد الرفاع» وقد تقدم، ومنها عيد ظهور السيد المسيح، ويسمى عند الفرنسيس: عيد الملوك، وذلك أن كل عائلة تصنع فطيرة عظيمة، وتضع فيها حبة فول في عجينها، ويقسمون الفطير على الندامى، فكل من جاءت حبة الفول في نصيبه فهو الملك، فإن جاءت في نصيب رجل فإنه يسمى باسم الملك، ويخاطب فوق المائدة وتمام الليلة بخطاب الملوك، ثم يختار من النساء امرأة يجعلها الملكة، فتخاطب أيضًا بذلك الخطاب، وإن جاءت الفولة من نصيب امرأة فإنها أيضًا تختار من الحاضرين شخصًا كالزوج لها، وتطلق عليه اسم الملك، فيكون سائر إكرام الليلة للملك والملكة، برسوم خاصة، وقوانين مألوفة، وهذه الكيفية تصنع في سائر البيوت في مدينة «باريس» حتى بيت ملك الفرنسيس. وللقسيسين بدع لا تحصى. وأهل باريس يعرفون بطلانها، ويهزءون بها، ولهم أعياد أخر لا يسعها هذا الكتاب. ثم إن لكل إنسان من الفرنساوية عيدًا وهو يوم مولد القديس الموافق له في اسمه فإذا كان إنسان اسمه بولص مثلاً فإن عيده يكون عيد «ماري بولص»، فنرى كل إنسان اسمه بولص«يصنع وليمة ويشهر عيده، وفي عيد الإنسان يهادونه بأنواع الأزهار.»
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/20/
الفصل الثالث عشر
الذي يظهر لمن تأمل في أحوال العلوم والفنون الأدبية والصناعة في هذا العصر بمدينة «باريس» أن المعارف البشرية قد انتشرت وبلغت أوجها بهذه المدينة، وإنه لا يوجد من حكماء الإفرنج من يضاهي حكماء «باريس» بل ولا في الحكماء المتقدمين كما هو الظاهر أيضًا، غير أن صاحب النقد السديد قد يقول: إن سائر الفنون العلمية التي يظهر أثرها بالتجارب، معرفة هؤلاء الحكماء بها ثابتة، وإتقانها عندهم لا نزاع فيه، كما يشهد لذلك قول بعض أجلة الحكماء: «الأمور بتمامها، والأعمال بخواتيمها، والصنائع باستدامتها». وأما أغلب العلوم والفنون النظرية فإنها معروفة لهم غاية المعرفة، ولكن له مبعض اعتقادات فلسفية، خارجة عن قانون العقل، بالنسبة لغيرهم من الأمم، غير أنهم يموهونها، ويقوونها، حتى يظهر للإنسان صدقها وصحتها، كما في علم الهيئة مثلاً، فإنهم محققون فيه: وأعلم ممن عداهم بسبب معرفتهم بأسرار الآلات المعروفة من قديم الزمان، والمخترعة له. ومن المعلوم أن المعرفة بأسرار الآلات أقوى معين على الصناعات غير أن لهم في العلوم الحكمية حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب السماوية، ويقيمون على ذلك أدلة يعسر على الإنسان ردها، وسيأتي لنا كثير من بدعهم، وننبه عليها في محالها إن شاء الله تعالى. وإنما نقول هنا: إن كتب الفلسفة بأسرها محشوة بكثير من هذه البدع، فسائر كتب الفلسفة يجري فيها الحكم الثالث، من الخلاف الذي ذكره صاحب متن السلم في الاشتغال بعلم المنطق. فحينئذ يجب على من أراد الخوض في لغة الفرنساوية المشتملة على شيء من الفلسفة أن يتمكن من الكتاب والسنة، حتى لا يغتر بذلك، ولا يفتر عن اعتقاده، وإلا ضاع يقينه، وقد قلت جامعًا بين مدح هذه المدينة وذمها: ومن جملة ما يعين الفرنساوية على التقدم في العلوم والفنون سهولة لغتهم وسائر ما يكملها، فإن لغتهم لا تحتاج إلى معالجة كثيرة في تعلمها، فأي إنسان له قابلية وملكة صحيحة يمكنه بعد تعلمها أن يطالع أي كتاب كان؛ حيث إنه لا التباس فيها أصلاً، فهي غير متشابهة، وإذا أراد المعلم أن يدرس كتابًا لا يجب عليه أن يحل ألفاظه أبدًا، فإن الألفاظ مبينة بنفسها، وبالجملة فلا يحتاج قارئ كتاب أن يطبق ألفاظه على قواعد أخرى برانية من علم آخر، بخلاف اللغة العربية مثلاً، فإن الإنسان الذي يطالع كتابًا من كتبها في علم من العلوم يحتاج أن يطبقه على سائر آلات اللغة، ويدقق في الألفاظ ما أمكن، ويحمل العبارة معاني بعيدة عن ظاهرها. وأما كتب الفرنسيس فلا شيء من ذلك فيها، فليس لكتبها شراح ولا حواش إلا نادرة، وإنما قد يذكرون بعض تعليقات خفيفة تكميلاً للعبارة بتقييد أو نحوه، فالمنون وحدها من أول وهلة كافية في إفهام مدلولها، فإذا شرع الإنسان في مطالعة كتاب في أي علم كان تفرغ لفهم مسائل ذلك العلم وقواعده من غير محاكاة الألفاظ. فيصرف سائر همته في البحث عن موضوع العلم، وعن مجرد المنطوق والمفهوم، وعن سائر ما يمكن إنتاجه منها، ولما غير ذلك فهو ضياع مثلاً إذا أراد إنسان أن يطالع علم الحساب، فإنه يفهم منه ما يخص الأعداد من غير أن ينظر إلى إعراب العبارات، وإجراء ما اشتملت عليه من الاستعارات، والاعتراض بأن العبارة كانت قابلة لتجنيس وقد خلت عنه، وإن المصنف قدم كذا، ولو أخره كان أولى، وأنه عبر في محل الواو والعكس أحسن، ونحو ذلك، ثم إن الفرنسيس يميلون بالطبيعة إلى تحصيل المعارف، وتشوقون إلى معرفة سائر الأشياء؛ فلذلك ترى أن سائرهم له معرفة مستوعبة إجمالاً لسائر الأشياء، فليس غريبًا عنها، حتى إنك إذا خاطبته تكلم معك بكلام العلماء، ولو لم يكن منهم؛ فلذلك ترى عامة الفرنساوية يبحثون، ويتنازعون في بعض مسائل علمية عويصة، وكذلك أطفالهم فإنهم بارعون للغاية من صغرهم، فالواحد منهم كما قال الشاعر: فإن قد تخاطب الصغير الذي خرج من سن الطفولية عن رأيه في كذا وكذا، فيجيبك بدلاً من قوله لا أعرف أصل هذا الشيء بما معناه «الحكم على الشيء فرع عن تصوره» ونحو ذلك، فأولادهم دائمًا متأهلون للتعلم والتحصيل، ولهم تربية عظيمة، وهذا في الفرنسيس على الإطلاق. والعادة أنهم يزوجون أولادهم قبل تمام تعلمهم، وهذا يكون غالبًا في عشرين إلى خمس وعشرين سنة، فقل منهم من كان في سن العشرين، ولم يبلغ درجة التدريس، أو يتعلم صنعته التي يريد تعلمها، غير أنه قد يمكث مدة طويلة ليتمكن من العلوم والفنون غاية التمكن، وهذا السن في الغالب تظهر به براعة الإنسان وحسن طالعته، كما قال الشاعر: بأنه وهو في دون ذلك السن ألف في أصعب من ذلك المقام، وما قلناه بالنسبة لأرباب المعارف من الإفرنج. وأما علماؤهم فإنهم منزع آخر لتعلمهم تعلمًا تامًا عدة أمور، واعتنائهم زيادة على ذلك بفرع مخصوص، وكشفهم كثيرًا من الأشياء، وتجديدهم فوائد غير مسبوقين بها، فإن هذه عندهم هي أوصاف العالم، وليس عندهم كل مدرس عالمًا، ولا كل مؤلف علامة، بل لا بد من كونه بتلك الأوصاف، ولا بد له من درجات معلومة، فلا يطلق عليه ذلك الاسم إلا بعد استيفائها والارتقاء، ولا تتوهم أن علماء الفرنسيس هم القسوس؛ لأن القسوس إنما هم علماء في الدين فقط، وقد يوجد من القسوس من هو عالم أيضًا، وأما من يطلق عليه اسم العالم فهو من له معرفة في العلوم العقلية التي من جملتها علم الأحكام والسياسات. ومعرفة العلماء في فروع الديانة النصرانية هينة جدًا، فإذا قيل في فرنسا: هذا الإنسان عالم لا يفهم منه أنه عالم في دينه، بل إنه يعرف علمًا من العلوم الأخرى [ي]، ويظهر لك فضل هؤلاء النصارى في العلوم عمن عداهم، وبذلك تعرف خلو بلادنا، عن كثير منها، وأن الجامع الأزهر المعمور بمصر القاهرة، وجامع بني أمية بالشام، وجامع الزيتونة بتونس، وجامع القرويين بفأس، ومدارس بخارى ونحو ذلك كلها زاهرة بالعلوم النقلية، وبعض العقلية كعلوم العربية. والمنطق، ونحوه من العلوم الآلية، والعلوم في مدينة باريس تتقدم كل يوم، فهي دائمًا في الزيادة فإنها لا تمضي سنة إلا ويكشفون شيئًا جديدًا، فإنهم قد يكشفون في السنة عدة فنون جديدة، أو صناعات جديدة، أو وسائط، أو تكميلات، وستعرف بعض هذا إن شاء الله تعالى. ومما يستغرب: أن في رجال العسكرية منهم من طباعه توافق طباع العرب العربا في شدة الشجاعة الدالة على قوة الطبيعة، وشدة العشق الدالة ظاهرًا على ضعف العقل، مزاجهم كالعرب في الغزل بالأشعار الحربية، وقد رأيت لهم كلامًا كثيرًا يقرب من كلام بعض شعراء العرب مخاطبًا لمحبوبته بقوله: وقول الآخر: وقول صاحب لامية العجم: ولنذكر لك مجامع العلماء، والمدارس المشهورة، وخزائن الكتب، ونحو ذلك لتعرف به مزية الإفرنج على غيرهم. فمن خزائن الكتب: الخزانة السلطانية، وفيها سائر ما أمكن الفرنساوية تحصيله من الكتب في أي علم كان بأي لغة كانت، مطبوعة أو منسوخة، وعدة ما فيها من الكتب المطبوعة أربعمائة ألف مجلد، وفيها مبلغ عظيم من الكتب العربية الخزائنية التي يندر وجودها بمصر أو بغيرها، وفيها عدة مصاحف لا نظير لها أبدًا، ثم إن المصاحف التي عند الفرنساوية في خزائنهم غير مهانة، بل هي مصونة غاية الصون، وإن كان عدم إهانتها حاصلاً غير مقصود، غير أن الضرر في كونهم يسلمونها لمن يريد أن يقرأ القرآن منهم أو يترجمه أو نحو ذلك، وتوجد المصاحف للبيع في مدينة «باريس»، وبعضهم لخص من القرآن العظيم سائر الآيات التي اختارها للترجمة ثم ترجمها، وضم إليها قواعد الإسلام، وبعض شعبه، وقال في كتابه إنه يظهر له أن دين الإسلام هو أصفى الأديان، وأنه مشتمل على ما لا يوجد في غيره من الأديان. ومنها: خزانة المدينة، وهي نحو ستة عشر ألف مجلد، وهي دائمًا في الزيادة، وكتبها آداب. وهناك خزائن مملوكة وهي كثيرة جدًا: فمنها ما يشتمل على خمسين ألف مجلد، ومنها للدولة نحو أربعين خزانة، فأقل ما يوجد في كل خزانة منها ثلاثة آلاف مجلد، وأكثرها في الغالب خمسون ألف مجلد، وقد تنيف عن ذلك ولا حاجة لتسميتها هنا. وتعلق هذه الأشياء العلوم إن الإنسان يدرس ما يراه في الكتب ويقابله، فإن رأى في كتاب تعريف حجر كذا، وحيوان كذا، وكان الحجر أو الحيوان نصب عينه قابله مع الأوصاف المذكورة في الكتب، وأنفع الأشياء بالنسبة للطبيعيات بمدينة «باريس» البستان السلطاني المسمى «بستان النباتات» وفيه سائر ما يعرفه البشر من الأمور الخارجة من الأرض الغريبة، ويزرع بأرضه سائر النباتات الأهلية التي يعالجون تطبعها عندهم بقوة الصناعة والحكمة، فيطالع طلبة علم العقاقير والحشائش دروسهم ويقابلون ما في الكتاب على ما يرونه، ويأخذون فرعًا من كل صنف من الحشائش يضعونه في نحو ورقة، ويكتبون اسمه وخاصيته، وفيه أيضًا سائر مراتب الحيوانات الحية غريبة أو أهلية برية أو وحشية، فيوجد بها نحو الدب الأبيض والأسود، والسبع، والضبع، والنمورة والسنانير الغريبة، والإبل، والجواميس، وغنم بلاد التبت، وزرافة سنار، وفيلة الهند، وغزلان البربر، والأيل، وبقر الوحش، وأنواع القردة، والثعالب، وسائر أنواع الطيور المعروفة لهم، وسائر هذه الحيوانات التي تراها حية بهذا البستان تراها ميتة أيضًا محشوة بالتبن، يراها الإنسان على صورة الحية، كبو البقر الذي يصنعه الفلاحون بوادي مصر. وكل هذه الأشياء موضوعة بهذا البستان كالعينة أو الأنموذج من كل شيء، ومكتوب على كل شيء اسمه باللغة الفرنساوية، أو اللاطينية، مثلاً في القاعة التي فيها سبع مكتوب عليها اسم السبع باللغة الفرنساوية وهو «ليون» وهكذا. ومما وقع في هذا البستان ما اشتهر أن بعض السباع قد مرض، فدخل حارسه، ومعه كلب فقرب الكلب من الأسد، ولحس جرحه فبرئ الجرح، فحصلت الألفة بين الأسد والكلب، وخلت محبة الكلب في قلب الأسد فصار الكلب يتردد دائمًا على الأسد، ويتملق إليه، ويراه كأنه من أصحابه، فلما مات الكلب مرض الأسد لفرقته، فوضعوا معه كلبًا آخر، امتحانًا لتطبعه، فتسلى به عن الميت، ولا زال معه. وفي بستان النبات رواق يسمى «رواق التشريح» وفيه جميع «الموامي» أي الجثث المحنطة المصبرة ونحوها من الجثث. ويوجد بهذا الرواق بعض شيء من جثة المرحوم الشيخ سليمان الحلبي الذي استشهد بقتله للجنرال الفرنساوي «كليبر» وقتل الفرنساوية له في أيام تغلبهم على مصر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ومخادع هذا المرصد هي داخلة في الأرض التي عمقها يساوي سمك حيطان الرصد، وإلى هذه المخادع ينزل بدرج على الدوران والانعطاف؛ كدرج المنارة، وعدة درجها ثلثمائة وستون، ووظيفة هذه المخادع أنها قد تفيد الطبائعية والكيماوية أن يصنعوا بها تجاربهم بأن يجمدوا فيها المائعات، ويبردوا بها الأجسام، ليعرفوا مزاج الأهوية، وفيها رواق يسمى «رواق المناجاة» أو رواق الأسرار؛ وذلك أن فيه أمرًا عجيبًا من قرع الصوت للأذن، أي وصوله بالهواء إليها، وذلك أن بالرواق عمودًا يقابله عمود آخر، فإذا وضع الإنسان فمه على العمود، وأسر بكلام فإنه يسمعه الإنسان الذي بالعمود الآخر، ولا يسمعه من يقرب منه، وهذه الأمور يفهمها من له إلمام بخاصية الصوت. ومن المحال العلمية بمدينة باريس موضع يقال له: «الكنسروتواز» (بضم الكاف، وسكون النون، وكسر السين، وسكون الراء، وفتح الواو، وسكون التاء) كلمة فرنساوية معناها المخزن أو المحفظ، أو نحو ذلك، وفي هذا المحل جميع الآلات سواء العظيمة وغيرها، خصوصًا الآلات الهندسية، كآلات الحيل، وتحريك الأثقال، ويزعم الفرنساوية أنه ليس في الدنيا نظير هذا المخزن، وفي هذا المحل يرد الصدى صوت الشخص برد عجيب. ثم إنه يكثر بباريس مدارس سائر العلوم والفنون والصنائع، وقد سلف الكلام على اعتناء الفرنساوية بالحكمة يعني علم الطب ولهم فيها مدارس كثيرة. ومن نوادره: أنه كتب قبل موته كعادة الفرنساوية على رخامة قبره المهيَّأ له بيت شعر باللسان الفرنساوي يقول فيه ما معناه بالعربية: ومعناه: هذا قبر من لم يصل إلى درجة أيّاما كانت حتى لو بلغت هذه الدرجة في الحقارة درجة هؤلاء العلماء. وهناك أكدمة تسمى «أكدمة تقييد الفنون الأدبية» وأهل ديوان هذه الجمعية ثلاثون نفسًا، ووظيفتها الاشتغال بالألسن النافعة، وبآثار الأمم وأخلاقها، وغالب شغلها تكميل آداب العلوم الفرنساوية بما خلت عنه، مما هو في كتب علوم اللغات الغريبة؛ كاللاطينية، والعربية، والفارسية، والهندية، والصينية، واليونانية، والعبرانية، والقبطية وغيرها. ومن الأكدمات الأكدمة المسماة «أكدمة العلوم السلطانية» وأهلها منقسمون أحد عشر قسمًا، لكل قسم منهم فرع مخصوص فتكون فروعهم اثني عشر فرعًا: فأهل القسم الأول: يشتغلون بالرياضيات، كالهندسة والحساب: وأهل القسم الثاني بعلوم الحيل كعلم جر الأثقال ونحوه، والثالث: بالعلوم الفلكية والرابع: بالعلوم الجغرافية، والعلوم التجريبية، والخامس: بعلم الطبيعة العامة، والسادس: بالطبيعة، والسابع: بعلم المعادن والأحجار، والثامن: بعلم الحشائش، والتاسع: بتدبير مصاريف الأرض، والعاشر، بتطبيب الدواب، والحادي عشر: بالتشريح، والثاني عشر: بفن الطب والجراحة. ومنها: مكتب الفنون الظريفة، وهو مكتب موقوف على تعليم علم الرسم وتوابعه، وفيه يتعلم الرسم، والنقاشة والعمارة. ومن مجالس العلوم جمعية تسمى: «أثينة الفنون» وهي تعين على تقدم الفنون والصنائع، وهي كالحكم الذي ينفذ الأشياء، ويقضي فيها برأيه. ومنها: «أثينة باريس» السلطانية، وهي محل علوم وفنون، ولا يكون فيها الإنسان للتعلم إلا إذا دفع شيئًا يسيرًا كل سنة، والمدرسون فيها أرباب فضل. ومنها: جمعية تشتغل بعلوم الإنشاء والبلاغات والغرض من هذه الجمعية تدوين العلوم الأدبية، وحفظ غريبها؛ حتى لا تفسد لغة الفرنسيس، وإذا اخترع الإنسان معنى غريبًا، أو أجاب عن سؤال غريب أو قال شعرًا مقبولاً، فإنهم يعطونه جائزة ذلك. ومنها: جمعية تسمى: «حسن الدروس» ووظيفتها تعليم الآداب القاثوليقية، والدين القاثوليقي. ومنها: جمعية تسمى «أكدمة أبناء أبلون» يعني الأدباء، وهي مجلس أرباب الفنون الأدبية. ومنها: جمعية تسمى «الجمعية الجغرافية» وهي معدة لتحسين وتكميل علم الجغرافيا، فهي تقوى الناس على السفر إلى البلاد المجهولة الأحوال، فإذا سافر فيها إنسان ورجع يطلبون منه سائر ما علقه عليها، فتأخذ ما علقه وتقيده وتدخله في كتب الجغرافيا؛ ولذلك كان ذلك العلم عند الفرنساوية دائمًا يأخذ في الكمال. وبالجملة: فهذه الجمعية هي التي تخدم سائر ما يتعلق بالجغرافيا، كطبع (الخرطات) ونحوها. ومنها: الجمعية «الغرماتيقية» يعني المشتغلة بنحو اللغة الفرنساوية فإن علم النحو يسمى في اللسان الفرنساوي «الأغرمير» وباللاطينية وبالإيطالية «أغرماتيقا» ووظيفة هذه الجمعية: الاشتغال بتصحيح اللغة وتجديد اصطلاحات، أو إبقاء الاصطلاحات القديمة؛ لأن اللسان الفرنساوي لسان غير قار القواعد كتابة وقراءة. ومنها: جمعية تسمى «جمعية المولعين بالكتب الخزائنية» ووظيفة أهل هذه الجمعية الحث على طباعة الكتب النافعة النادرة. ومنها: جمعية للخطاطين، وأهلها يشتغلون بإجادة الخط. ومنها جمعية تسمى: جمعية المغناطيسية الحيوانية، وهي جماعة تقول: بوجود سيال مغناطيسي في الحيوان. ومنها: جمعية «حفظة آثار القدماء»، وهي جمعية معدة لحفظ سائر ما يوجد من الآثار الباهرة عند القدماء؛ كبعض مبانيهم، ومومياهم، وملبسهم ونحو ذلك، والبحث عن ذلك؛ ليتوصل به إلى دراسة عوائدهم، ففي ذلك يوجد كثير من الأمور النفيسة المأخوذة من بلاد مصر، كالحجر المصور عليه فلك البروج المأخوذ من «دندرة» فإن الفرنساوية يتوصلون به إلى معرفة الفلك على مذهب قدماء أهل مصر، فإن مثل ذلك يأخذونه بغير شيء إلا أنهم يعرفون مقامه، فيحفظونه، ويستخرجون منه نتائج شتى، ومنافع عامة. ومنها: الجمعية السلطانية في علوم الفلاحة، وتحرير توفير المصاريف البرانية والجوانية وأهل هذه علماء، أغنياؤهم يعطون الجائزة لمن يخترع شيئًا جديدًا نافعًا. ومنها جمعية لتحسين الأصواف، ووظيفة أهلها مباشرة ما يتعلق بالغنم. ومنها: جمعية تعين على حث الفرنساوية على البراعة في الفنون والصنائع، وهي تعين الصنائع بسائر أنواعها على التقدم، فإذا اقترح إنسان شيئًا نافعًا أخذ من أهل هذه الجمعية تحفة عظيمة وشهرة. ومنها: مكتب يسمي «مكتب الفروع الفقهية» فيدرسون فيه أحكام المعاملات والجنايات ونحوها. ومنها: مكتب موقوف على تعليم علم الرسم، فيدرس فيه الذكور والإناث علم التصوير. ومنها: مكتب الغناء السلطاني فيتعلم فيه أيضًا الذكور والإناث علم الألحان الصوتية والغناء الكنائسي. ومنها: مكتب موقوف أيضًا على الرسم والرياضيات، لتكون وسائل للفنون، فيتعلم فيه الحساب، والهندسة، والقياس، ونحاتة الحجر والخشب، وعلم المساحة، وتصوير البهيمة، والآدمي، والأزهار وأنواع الزينة. ومنها: مكتب القناطر والجسور: وفيه يتعلم هندسة الطرق والخلجان والأرصفة. ومنها: مكتب سلطاني لتعلم علم المعادن، وفيه يتعلم وسائط كشف المعادن واستخراجها. ومنها: مدرسة الفنون والحرف يتعلم فيهما علما الكيمياء والهندسة الداخلان في الحرف والفنون، وفيها يوجد سائر آلات الصنائع الموجودة إلى هذا العصر. ومنها: مكتب يسمى: مكتب اللغات المشرقية المستعملة، وفيه يتعلم الفارسي والماباري والعربية الأصلية والدارجة ولغة الترك والأرمن والروم. ومنها: مكتب سلطاني يتعلم فيه تواريخ الدول وسياساتها ونحو ذلك. ومنها: مكتب سلطاني للموسيقى والإنشاء، والخطابة، وفيه يتعلم أهل اللعب والغناء والآلاتية، من الذكور والإناث، وأهل التعلم به أربعمائة نفس. ومنها: مدرسة بستان السلطان، التي هي بستان النباتات، وبها يقرأ ثلاثة عشر درسًا في جملة فروع؛ كعلم الحشائش، والطبيعيات، والكيميا، والمعادن، والتشريح، والمقابلة بين أجزاء بدن الآدمي والبهيمة. ومنها: مكتب تقليم الأشجار غير المثمرة لإخراج ثمرها. ومنها: مكتب تعليم النباتات والمعادن لمن يريد السفر في بلاد ليميز نباتها ومعدنها. ومنها: مكتب الصم البكم، وهو موقوف على مائة نفس، ويدخلون فيه من إحدى عشرة إلى ست عشرة، فيتعلم فيه القراءة والكتابة، والحساب واللسان، والتاريخ، والجغرافيا، وصنعة من الصنائع، وفي هذا المكتب (ورشة) يتعلم فيها علم الطباخة، والنقاشة، والنجارة والخراطة والخياطة، (والصرماتية) ونحوها. وزمنها: مكتب العميان السلطاني، وهو موقوف على جملة محصورة من العميان، فيتعلمون القراءة على شيء مكتوب لهم كتابة مخصوصة فيمسونها باليد، ويتعلمون أيضًا علم الجغرافيا، على خرطات مخصوصة أيضًا، ويتعلمون التاريخ واللغات، والرياضيات، والموسيقى بالصوت وبالآلة، وغير ذلك من الحرف كشغل الجرابات ونحوه. وغير ما ذكرناه يوجد أيضًا عدة مدارس. ويوجد في «باريس» أيضًا مكاتب تسمى: «البنسيونات» جمع «بنسيون» (بفتح الباء وسكون النون، وكسرالسين، وضم المثناة التحتية، وسكون الواو) وهي مكاتب يتعلم فيها الصغار الكتابة والقراءة وعلوم الآلات كالحساب، والهندسة، وغيرها، كالتاريخ، والجغرافيا، وهي نحو مائة وخمسين (بنسوينا) وفيها أكل الإنسان، وشربه، ونومه، وغسل ثيابه، ونحو ذلك، فيدفع أهالي الأولاد قدرًا معلومًا في السنة. وغير البنسيونات المذكورة يوجد بيوت صاحبها عالم، فيأخذ عنده عدة أولاد، ليأكلوا معه، ويشربوا معه، ويعلمهم بنفسه، أو يحضر لهم معلمين عنده. وغير هذا كله فكثير من الناس يحضر لأولاده المعلم في البيت كل يوم ليعلمهم عهده. «والجرنو» عصب، فكل جماعة لها في رأيها مذهب كل يوم تقويه وتحاميه، وتؤيده، ولا يوجد في الدنيا أكذب من «الجرنالات» أبدًا خصوصًا عند الفرنسيس الذين لا يتحاشون الكذب إلا من حيث كونه عيبًا. وبالجملة فكتاب «الجرنو» أسوأ حالاً من الشعراء عند تحاملهم أو محبتهم. «والجرنالات» مختلفة الأنواع والأصناف، فمنها ما هو معد لذكر أخبار داخل مملكة الفرنسيس وخارجها، ومنها ما هو مخصوص بأمور المملكة فقط، وما هو للمعاملات وما هو للطب. ولكل علم على حدته؛ كعلم الطب إلى آخره. وفي «باريس» (أوض) القراءة أو خلوات القراءة، فيذهب الإنسان فيها، ويدفع قدرًا معلومًا، ويقرأ سائر «الجرنالات» وغيرها من الكتب، ويستأجر منها ما يحتاجه من الكتب ويأخذه عنده ويرجعه. ومما يبهر العقول في باريس دكاكين الكتبية وخاناتهم، وتجارات الكتب، فإنها من التجارات الرائجة مع كثرتها وكثرة المطابع، وكثرة التآليف التي تنطبع كل سنة فإنها يعسر حصرها، وأغلبها المقصود منه الكسب لا النفع، ولا تمر سنة بمدينة «باريس» إلا ويخرج من المطبعة كتب معدومة النظير، واغتناؤهم بالمعارف هو أحسن ما ينبغي أن يمدحوا بهن قال الشاعر: وقال آخر: وبالجملة فلا يمكن وصف مدينة «باريس» مع تفصيل علومها وفنونها، إلا أنه يمكن التعبير عن ذلك إجمالاً كما ذكرنا.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/21/
الفصل الأول
ولما كانت آمال الوالي متعلقة بتعلمنا عاجلاً، ورجوعنا إلى أوطاننا ابتدأنا في «مرسيليا» قبل وصولنا إلى «باريس» وتعلمنا في نحو ثلاثين يومًا التهجي، ثم لما ذهبنا إلى «باريس» مكثنا جميعًا في بيت واحد، وابتدأنا في القراءة، فكانت أشغالنا مرتبة على هذا الترتيب، وهو: أنا كنا نقرأ في الصباح كتاب تاريخ ساعتين: ثم بعد الغذاء نتعلم درس كتابة ومخاطبات ومحاورات باللغة الفرنساوية: ثم بعد الظهر درس رسم، ثم درس نحو فرنساوي، وفي كل جمعة ثلاثة دروس من علمي الحساب والهندسة، وفي مبدأ الأمر كنا نأخذ في درسين: يعني في معرفة الكتابة الفرنساوية، ثم بعد ذلك كنا نأخذ كل يوم درسًا، ثم انتهى الأمر إلى أننا تعلمنا الخط، فانقطع عنا معلم الخط، وأما الحساب والهندسة والتاريخ والجغرافيا فلم تزل نشتغل بها حتى سهل الله علينا بالرجوع، وقد مكثنا جمعيًا في بيت واحد دون سنة قرأ معًا في اللغة الفرنساوية، وفي هذه الفنون المتقدمة، ولكن لم يحصل لنا عظيم مزية إلا مجرد تعلم النحو الفرنساوي، ثم بعد ذلك تفرقنا في مكاتب متعددة، كل اثنين، أو ثلاثة: أو واحد منا في مكتب مع أولاد الفرنساوية، أو في بيت مخصوص عند معلم مخصوص، بقدر معلوم من الدراهم، في نظير الأكل والشرب والسكنى، والتعليم وتعهد أمورنا: من غسل، ونحوه، فكان يأخذ صاحب المكتب أو البيت نحو عشرة أكياس كل سنة في نظير ذلك، ولا يلزمنا شيء في المأكل والمشرب. ولكثرة هذه المصاريف في تعليمنا وغيره من سائر ما ذكرنا، كان ناظر التعليم أو الضابط علينا يذكرنا به في أغلب الأوقات لنجتهد، وسترى بعض ذلك في مراسلات كتبها لي بعد الامتحان العام.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/22/
الفصل الثاني
هذه صورة ترتيب (الأفندية) في «البنسيونات». وهذا الترتيب لازم ولا بد، فإن رجع أحد إلى «البنسيون» قبل ذلك، وتعشي هناك، فهو أولى وأحسن ومن اللوازم ألا يدور أحد في الأزقة ليلاً، ومتى دخل في «البنسيونات» يعطي الورقة المذكورة للمعلم.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/23/
الفصل الثالث
جرت عادته من مدة خروجنا من مصر بأنه كان يبعث لنا «فرمانًا» كل عدة أشهر، يحثنا فيه على تحصيل الفنون والصنائع، فمن هذه «الفرمانات» ما كان من باب ما يسمى عند العثمانية إحياء القلوب مثل الفرمان الآتي، ومنها ما كان من باب التوبيخ على ما كان يصله منا ويبلغه عنا من بعض الناس حقًا أو غير ذلك، (كفرمان) آخر وصلنا قبل رجوعنا إلى مصر القاهرة، ولنذكر لك هنا (فرمانًا) من النوع الأول الذي هو إحياء القلوب، وإن كان فيه أيضًا شائبة توبيخ لتعلم كيف كان يحثنا على التعليم، وهذه صورة ترجمته: قدوة الأماثل الكرام (الأفندية) المقيمين في «باريس» لتحصيل العلوم والفنون زيد قدرهم. ينهي إليكم أنه قد وصلنا أخباركم الشهرية والجداول المكتوب فيها مدة تحصيلكم، وكانت هذه الجداول المشتملة على شغلكم ثلاثة أشهر مبهمة لم يفهم منا ما حصلتموه في هذه المدة، وما فهمنا منها شيئًا وأنتم في مدينة مثل مدينة «باريس» التي هي منبع العلوم والفنون، فقياسًا على قلة شغلكم في هذه المدة عرفنا عدم غيرتكم وتحصيلكم، وهذا الأمر غمنا غمًا كثيرًا، فيا (أفندية) ما هو مأمولنا منكم، فكان ينبغي لهذا الوقت أن كل واحد منكم يرسل لنا شيئًا من أثمار شغله وآثار مهارته، فإذا لم تغيروا هذه البطالة بشدة الشغل والاجتهاد والغيرة، وجئتم إلى مصر بعد قراءة بعض كتب فظننتم أنكم تعلمتم العلوم والفنون، فإن ظنكم باطل فعندنا ولله الحمد والمنة رفقاؤكم المتعلمون يشتغلون ويحصلون الشهرة، فكيف تقابلونهم إذا جئتم بهذه الكيفية، وتظهرون عليهم كمال العلوم والفنون، فينبغي للإنسان أن يتبصر في عاقبة أمره، وعلى العاقل ألا يفوِّت الفرصة، وأن يجني ثمرة تعبه، فبناء على ذلك أنكم غفلتم عن اغتنام هذه الفرصة، وتركتم أنفسكم للسفاهة، ولم تتفكروا في المشقة والعذاب الذي يحصل لكم من ذلك، ولم تجتهدوا في كسب نظرنا وتوجهنا إليكم، لتتميزوا بين أمثالكم، فإن أردتم أن تكتسبوا رضاءنا فكل واحد منكم لا يفوّت دقيقة واحدة من غير تحصيل العلوم والفنون، وبعد ذلك كل واحد منكم يذكر ابتداءه وانتهاءه كل شهر، ويبين زيادة على ذلك درجته في الهندسة، والحساب، والرسم، وما بقي عليه في خلاص هذه العلوم، ويكتب في كل شهر ما تعلمه في هذا الشهر زيادة على الشهر السابق، وإن قصرتم في الاجتهاد والغيرة فاكتبوا لنا سببه، وهو إما من عدم اعتنائكم، أو من تشويشكم، وأيّ تشويش لكم هل هو طبيعي أو عارض؟ وحاصل الكلام أنكم تكتبون حالتكم كما هي عليه حتى نفهم ما عندكم، وهذا مطلوبنا منكم، فاقرءوا هذا الأمر مجتمعين، وافهموا مقصود هذه الإرادة. قد كتب هذا الأمر في ديوان مصر، في مجلسنا في إسكندرية، بمنّه تعالى: فمتى وصلكم أمرنا هذا فاعملوا بموجبه، وتجنبوا وتحاشوا عن خلافه (خمسة في ربيع الأول، سنة ١٢٤٥) خمسة وأربعة بعد الألف والمائتين من الهجرة، انتهت صورة المكتوب. لا يخفى عليكم الأمر الوارد من الوالي المتعلق بالأوراق الشهرية، المشتملة على الدروس التي قرأتموها، فدم على ما أنت عليه من المواظبة، وابعث هذه الأوراق في اليوم الثلاثين كل شهر «لمسيو المهردار أفندي» واطلب منه أوراقًا غير مكتوبة، ولتكتبها بعد ذلك، ومن المعلوم أن هذه الورقة الشهرية لا تأخذ في كتابتها إلا نصف ساعة؛ لأن الغرض منها مجرد ضبط عدد الدروس التي قرأتها، ومعرفة نوعها، وليكتب رئيس مدرستك في كل شهر في الورقة الشهرية تحت اسمك، ولا يخفى علي اجتهادك، ولا أجهل قدر ثمرة تحصيلك، فاطلب منك أن تواظب على توفية الحقوق التي كلفت بها، واعلم وتيقن بمحبتي لك.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/24/
الفصل الرابع
فمن كاتبني عدة مرات «مسيو دساسي» ولنذكر لك بعض مكاتيبه، فمنها ما كتبه باللغة العربية، ومنها ما كتبه باللغة الفرنساوية. من الفقير عليّ — رحمه ربه سبحانه وتعالى — إلى المحب العزيز المكرم، والأخ المعز المحترم الشيخ الرفيع رفاعة الطهطاوي، صانه الله — عز وجل — من كل مكروه وشر، وجعله من ذوي العافية وأصحاب السعادة والخير. أما بعد: فإن القطعة التي أكملت المطالعة فيها من كتابك النفيس، وحوادث إقامتك في باريس رددتها إليك على يد غلامك، ويصلك صحبتها حاشية مني على ما تقوله في باب تصريف الفعل في لغتنا الفرنساوية، فإذا نظرت فيها تبين لك صحة ما نستعمله من صيغة الفعل الماضي، فمن الواجب عليك أن تصنف كتابًا يشتمل على نحو اللغة الفرنساوية المتداولة عند أمم أوروبا كلها وفي ممالكها؛ حتى يهتدي أهل مصر إلى موارد تصانيفنا من فنون العلوم والصناعات ومسالكها، فإنه يعود لك في بلادك أعظم الفخر. ويجعلك عند القرون الآتية دائم الذكر، ودمت سالمًا. إلى حبيبنا الشيخ رفاعة الطهطاوي، حفظه الله، وأبقاه. أما بعدك فإنه سيصلك مع هذا ما طلبته منا من الشهادة بأننا قرأنا الكتاب المشتمل على حوادث سفرك، وكل ما أمعنت فيه النظر من أخلاق الفرنساوية وعوائدهم وسياساتهم وقواعد دينهم وعلومهم وآدابهم وجدناه مليحًا مفيدًا يروق الناظر فيه، ويعجب من وقف عليه، ولا بأس أن نعرض خط يدنا على "مسيو جومار" وإن شاء الله يحصل لك بمصنفك هذا حظوة عند حضرة سعادة الباشا وينعم عليك بما أنت أهله ودمت على أحسن حال. لما أراد مسيو رفاعة أن أطلع على كتاب سفره باللغة العربية قرأت هذا التاريخ إلا اليسير منه، فحق لي أن أقول: إنه يظهر لي أن صناعة ترتيبه عظيمة، وأن منه يفهم إخوانه من أهل بلاده فهمًا صحيحًا عوائدنا وأمورنا الدينية والسياسية والعلمية، ولكنه يشتمل على بعض أوهام إسلامية ومن هذا الكتاب يعرف علم هيئة العالم وبه يستدل على أن المؤلف جيد النقد، سليم الفهم، غير أنه ربما حكم على سائر أهل فرنسا بما لا يحكم به إلا على «أهل باريس» والمدن الكبيرة، ولكن هذه نتيجة متولدة ضرورة من حالته التي هو عليها، حيث لم يطلع على غير «باريس» وبعض المدن. وعبارة هذا الكتاب، في الغالب وضاحة غير متكلف فيها التنسيق، كما يليق بمسائل هذا الكتاب، وليست دائمًا صحيحة بالنسبة لقواعد العربية، ولعل سبب ذلك أنه استعجل في تسويده، أنه سيصلحه عند تبيضه وفي التكلم على علم الشعر ذكر استطرادًا بعض أشعار عربية أجنبية من موضوع هذا الكتاب، على ما يظهر لي، لكنه ربما أعجب ذلك إخوانه من أهل بلاده، وفي الكلام على تفضيل الصورة المدورة على غيرها من الأشكال، ذكر بعض أشياء قليلة الجدوى فينبغي له حذفها، وما ذكرت هذه الأشياء وبينتها هذا التبيين إلا للإعلام بأني دققت النظر في قراءاتي هذا الكتاب. وبالجملة فقد بان لي أن مسيو رفاعة أحسن صرف زمنه مدة إقامته في فرنسا، وأنه اكتسب فيها معارف عظيمة، وتمكن منها كل التمكن؛ حتى تأهل لأن يكون نافعًا في بلاده، وقد شهدت له بذلك عن طيب نفس، وله عندي منزلة عظيمة، ومحبة جسيمة. بعد إهداء السلام إلى مسيو رفاعة، يحصل لي حظ عظيم إذا جاء عندي يوم الاثنين الآتي، والساعة في ٣ إن أمكنه أن يسرني برؤيتي له لحيظات لطيفة، ويحصل لي أيضًا غاية الانبساط؛ إذا بعث لي أخباره بعد وصوله إلى القاهرة، فإذا لم يتيسر لي رؤيته طلبت له طريق السلامة، ولا أزال أتذكر دائمَا آثاره، وأستنشق أخباره، مع انجذاب قلب، وانشراح صدر. حضرة المحب العزيز الأكرم، الفصيح اللسان والقلم، جناب الشيخ رفاعة المحترم، حفظه الله آمين. بعد إهدائكم جزيل السلام، ومزيد التحية والإكرام، فقد ورد علينا عزيز مكتوبكم البارحة، فبادرنا بقضاء حاجتكم، فواصل لكم طيَّة تحرير تحتوي على رأينا في كتاب حوادث سفركم الذي تفضلتم علينا باطلاعنا عليه، وبالحقيقة قلنا مثل ما هو اعتقادنا وشرحنا ما وجدنا فيه من المحاسن، وأما بخصوص المذام فما لقينا من ذلك شيئًا. قرأت بالتأمل مؤلف الشيخ رفاعة الملقب بتخليص الإبريز في تلخيص باريز، فوجدته يتضمن حكاية صغيرة في سفر المصريين المبعوثين إلى فرنسا من طرف وزير مصر الحاج محمد علي باشا، وتشتمل على تخطيط مدينة باريز، وعلى نبذات موجزة في جملة فروع من العلوم المطلوبة التعليم من هؤلاء التلامذة، وقد ظهر لي أن هذا التأليف يستحق كثيرًا من المدح وأنه مصنوع على وجه يكون به نفع عظيم لأهالي بلد المؤلف، فإنه أهدى لهم نبذات صحيحة من فنون فرنسا، وعوائدها، وأخلاق أهلها، وسياسة دولتها، ولما رأى أن وطنه أدنى من بلاد أوروبا في العلوم البشرية والفنون النافعة أظهر التأسف على ذلك، وأراد أن يوقظ بكتابه أهل الإسلام، ويدخل عندهم الرغبة في المعارف المفيدة، ويولد عندهم محبة تعلم التمدن الإفرنجي، والترقي في صنائع المعاش، وما تكلم عليه من المباني السلطانية والتعليمات وغيرها، أراد أن يذكر به لأهالي بلده أنه ينبغي لهم تقليد ذلك، وما نظر فيه في بعض العبارات يدل في الغالب على سلامة عقله، وخلوّه من التعسف والتحامل. وعبارة هذا الكتاب بسيطة أي غير متكلف فيها التنميق، ومع ذلك فهي لطيفة، وحين كان نسخة هذا الكتاب بيدي كان الجزء الذي يتعلق بالعلوم والفنون غير تام، فما رأيت منه إلا نبذة في الرياضيات، وعلم هيئة الدنيا، ومبادئ أصول الهندسة، والجغرافيا الطبيعية، فهذه النبذات وإن كان موجزة إلا أنها مشبعة. فيترجى أن المؤلف يدوم على تأليف النبذات الباقية بهذه المثابة، وإذا اجتمعت هذه النبذات في الكتاب هذا فإنها تكون كتاب علوم مستقل، مفتاحًا لغيره من العلوم نافعًا لأهل العربية، وإذا فرغ الكتاب بهذه الطريقة فإنه يستدل به على رفعة عقل مؤلفه، واتساع دائرة معرفته. فإذا قابلت هذا المكتوب مع ما تقدم رأيت أن «مسيو دساسي» و«مسيو كوسين» اتفقا على حسن هذا الكتاب، وعلى بساطة عبارته، أي عدم التأنق فيها، وعلى نفعه لأهل مصر. وإنما «مسيو دساسي» عابه بثلاثة أشياء: الأول: اشتماله على بعض مسائل يعتقد أنها من أوهام الإسلام، الثاني: جعلنا ما ينسب لمدينة «باريس» وغيرها من المدن عامًا لسائر بلاد فرنسا، الثالث: ذكرنا بعض أشياء قليلة الجدوى عند تفضيل الشكل المدور على غيره من الأشكال. وأما «مسيو كوسين» فإنه لم يتعرض لما جعله «مسيو دساسي» من باب الأوهام، ولما تحدثت معه في شأن ذلك أجابني بأنه لم ير ذلك مضرًا؛ حيث إني كتبت على ما هو في اعتقادي، وإلا لو تتبعت ما قاله الإفرنج، ووافقت آراءهم للحياء أو غيره لكان ذلك محض موالسة، وأما قول «كمسيو دساسي»: إن عبارة في هذا الكتاب بسيطة فمعناه أن تراكيبه لم يحاول فيها سلوك طريقة البلاعة: يقال عند علماء الفرنساوية، عبارة بسيطة في مقابلة العبارة البليغة. قد سلمت أمانتك لابن شيخ المأمورية، ليعطيها لك، فانتظرها بعد وصول هذا المكتوب بزمن يسير، وقد وكلني أخي بأن أخبرك بثنائه عليك على ما صنعته معه من الجميل في إعارتك له هذه الأمانة، وأن أهنيك على بلوغك المأمول. هل عن قريب تفارقنا لترى وطنك العزيز؟ فإن شاء الله تجتمع بما تركته فيه من الأقارب والأحباب، وتجده بخير، فقد بلغني أن سفرك قد قرب جدًا، حتى إنني لا أظن أن أقابلك في مدينة «باريس» ولكن لو سافرت قبل هذا الزمن بيسير لاجتمعنا في مرسيليا وودعتك في آخر مدينة من مدن الفرنساوية تعبر فيها في سفرك، ولو تأخر سفرك مدة يسير لافترقنا في مدينة «باريس» التي كان بها أول اجتماعنا، ولا أدري إن التلاقي مقدرًا أم لا، ولكن تقلبات الدهر كثيرة، خصوصًا للإفرنج، فلا يمكنني أن أجزم بعدم الاجتماع، وبالجملة فلا شك أنك تركت في فرنسا صديقًا يتذكرك، ويتأثر لك بما يقع لك من النفع والضر، ويسر غاية المسرة إذا بلغه أنك تحظى في بلادك بثمرة فضلك وأوصافك، وليت شعري ترجع إلى بلادك بأي اعتقاد في طبيعة الفرنساوية، وقد رأيت هذه الملة في وقت ينبغي أن يكون تاريخًا من غرائب سيرها، وأظن أنك تسأل في بلادك مرارًا عديدة عن هذه الفتنة العظيمة، ونصرة الفرنساوية في طلب الحرية. فإذا وقع اتفاقًا أن سفرك توقف مدة أيام فمأمولي أن أراك في مدينة «باريس» وإلا فأرجو منك ألا تسافر حتى تودعني بلسان القلم بمحبتي لك غاية المحبة.» انتهت صورته.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/25/
الفصل الخامس
ترجمت مدة إقامتي في فرنسا اثني عشر كتابًا وشذرة يأتي ذكرها في آخر هذا الكتاب، يعني اثني عشر مترجمًا بعضها كتب كاملة، وبعضها نبذات صغيرة الحجم. وقرأت مع «مسيو شواليه» كتابًا صغيرًا في المعادن وترجمته. وقرأت في فن الطبيعة رسالة صغيرة مع «مسيو شواليه» من غير تعرض للعمليات. وقرأت في فن العسكرية من كتاب يسمى «علميات ضابطان عظام» مع «مسيو شواليه» مائة صحيفة، وترجمتها. «اعلم يا محبنا أن هذه أول مرة التحم فيها صفنا مع الصفوف الإسلامية من منذ وصولنا إلى العساكر الموسقوبية، ثم إن سائر ما رأيته مما يذهل العقول ويحير الألباب، تقصر عنه العبارة، كيف وهو أمر غريب! بالنسبة إلى مثلي، فلو كنت مثل جنابكم من العسكر المتمرن على الحروب سافرت في غزوة مصر، ورأيت واقعة أبي قير، وحصار مدينة عكا لما حار لبي حين رأيت شيئًا جديدًا لم أكن عاينته قبل ذلك، مما يكل عنه الوصف، ولكن تأمل يا أخي في أمري حيث إني قد كنت في خفر مليكنا، وخرجت من مكتب «سنسير» ولم أحضر من الوقائع إلا وقعة الأندلس، فلم أشعر إلا أن وجدت نفسي قدام جبل «بلقان» بعد أن جبت البراري والقفار، وعاينت المشاق بتهديد أهلها لنا وتخلصهم منا، وإدهاشهم لجيوشنا، وانظر في استعجابي وذهاب صوابي حين خرجت الفوارس التركية متصافة صفوفًا عجيبة للحروب الإسلامية بأعلى «شملا» وقد وصل إلى شريف علمكم من دفتر علم «الموسقو» تفصيل هذه الواقعة، وشر أحوال الجمع الغفير من عساكرنا، والخبر بأنها صارت ضائعة، وقد شاهدت بعيني رأسي سوء ميتة «الميرالاي باردي الموسقوبي» بحالة رديئة؛ حيث انقسم نصفين بضربة مدفع تركية، ومن الآن فقط ظهرت صعوبة هذه الحرابة، وطول مدتها لا يعد من الغرابة، وإن كان بعساكرنا شجاعة وصلابة في الحروب، فعساكر الإسلام لها مصادمة قوية بمعزل عن الهروب، وهذه المصادمة هي التي تستهل الخطر، وتخترق المانع لبلوغ الوطر، ينتج منها ثمرتان: الأولى: أنها تلقي الحيرة في عقول الرجال، والثانية: أن عاقبتها دائمًا تفرغ الفزع في قلوب الأعداء، ولو كانوا من الأبطال، ولو شاهدت عيناك ما شاهدته من أن الفرسان العثمانية تروع (ص ١٦٢) الإنسان بمجرد منظرها المرعب، وبسرعة اقتحامها المدهش المعجب، ومشيها على صوت الألحان الوحشية، وصهيل الخيول الكردية، ونزولها كالصواعق على المشاة الموسقوبية لحكمت مثلي بأن هذه الحرابة تطول، وأن اضطرام نارها قل أن يزول، أو ليس أن للدولة العثمانية فرسانًا عظيمة مرتبة بترتيب عجيب، وهمة عليه بنظام غريب؟ أو هل ينكر أحد أن رجالهم متمرنون على ركوب الخيل، وأن خيولهم على أصل خلقتهم الوحشية طائعة لسيدها في الإقدام والإحجام، يبلغ عليها في الحرابة المقصود والمرام؟ فيا ويح العساكر القرابة التي يلتحم صفها بصف هذه الخيول المركوبة لهؤلاء الفحول الذين لهم زيادة عن قوتهم الجهادية، دعامة غيرتهم الإسلامية والوطنية، وهذه مزية لا توجد يقينًا في عساكر «الموسقو»، ثم ازدحام الخلائق في أوقات الحروب له تدبير صحيح، ولكن في هذه الواقعة لا يجهل إنسان ولو كان من «القزاق» أن الفخر لعساكر الإسلام، وهذا الخبر ربما ظهر لك أنه عجيب من مثلي، خصوصًا وأنا قد جئت متطوعًا في عسكر «الموسقو»، لأشاركهم في اقتحام الأخطار، وأقتسم معهم الفخار، ولكن لما وصلت إلى هنا ظهر لي أن الظن قد خاب، وأني قد حدت عن الصواب، ورأيت أعداءنا الذين كنا نتهمهم بحقارة الرتبة والرداءة هم الليوث الضراغم، ليس لهم شيء من الدناءة، بل هم أقرب إلى قبول التأدب والظرافة من الإفرنج. واعلم يا أخي أن غيرتي على خلاص الأروام من يد العثمانية لم تنقص شيئًا، ولكن أقول ليت شعري، هل تلزم الغارة على إسلامبول في خلاصهم؟ أو ليس مما يتحسر عليه أن ما خسرناه في أخذ مدينة «إبرائل» من العساكر كان يكفي وحده في فك أسر الأروام وتحرير رقابهم، وتقليل سفك دمائنا بعساكر الإسلام، وقد أسرنا عن قريب أحد ضباط العساكر العثمانية، وكان شابًا بديع الصورة كثير الجروح، فعفا عساكرنا عن قتله ولم يكن ذلك لغيره، ورقوا لملاحته وجراحته، فخاطبته باللغة الإيطاليانية، ففهم مقالي وأجاب سؤالي، وأخبرني بأن أباه له من العمر الآن ثمانون سنة، وله إخوان في خدمة حسين باشا لا يشك في نصرة الدولة العثمانية، بل يقول: إن الترك يصلون إلى موسقو، واعلم يا أخي أن في «شملا» نحو مائتي ألف محارب، ويتجدد عليها كل يوم، وسلطانهم بكل عظيم عن يقين، وها أنا الآن أطوي لك كتابي لأضع قدمي في ركابي، فالآن عساكر الأعداء تحارب في طليعة جيشنا، وأنا بين دوي ألحان الترك، وعجيج أصوات الروس غريق، وهذه حرابة مهولة إن نظرت بعين التحقيق.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/26/
الفصل السادس
اعلم أن من عادة الفرنساوية أن لا يكتفوا في العلم بمجرد شهرة الإنسان بالفهم، أو الاجتهاد، أو بمدح المعلم في المتعلم، بل لا بد عندهم من أدلة واضحة محسوسة تفيد الحاضرين في الامتحان قوة الإنسان والفرق بينه وبين أمثاله، وهذا إنما يكون بالامتحانات العامة يحضرها العام والخاص، بدعوة مثل دعوة الولائم عادة. وهناك امتحانات خاصة، وهي أن يمتحن المعلم تلامذته كل أسبوع أو شهر؛ ليعلم قوة زيادتهم في ذلك الأسبوع أو الشهر، وليكتب مفاد ذلك إلى آبائهم، فكنا في البنسيونات بهذه المثابة، وكل سنة يصنع معنا الامتحان العام بحضور أعيان الفرنساوية. أول يوم من شهر أغسطس سنة ١٨٢٧ من الميلاد. قد صرت مستحقًا لهدية اللغة الفرنساوية، بالتقدم الذي حصلته فيها، وبالثمرة التي نلتها في الامتحان العام الأخير، ولقد حق لي أن أهنئ نفسي بإرسالي لك هذه الهدية من طرف (الأفندية) النظار دليلاً على التفاتك في التعليم، ولا شك أن الوالي يسر متى أخبر أن اجتهادك وثمرة تعلمك يكافئان المصاريف العظيمة التي يصرفها عليك في تربيتك وتعليمك، وعليك مني السلام مصحوبًا بالمودة. وقوله في الامتحان الأخير المراد أنه (آخر) بالنسبة لما قبله من الامتحانات الخصوصية. وهدية الامتحان تشبه أن تكون مثل جائزة الشعراء: أو هي كقصب السبق وفي الامتحان العام الثاني بعث لي كتاب «الأنيس المفيد، للطالب المستفيد»، و«جامع الشذور، من منظوم ومنثور» تأليف «مسيو دساسي» وصحبته هذا المكتوب، وصورته مترجمًا. باريس ١٥ شهر مارث سنة ١٨٢٨ من الميلاد. قد صرت مستحقًا لهدية النحو الفرنساوي، بالتقدم الذي حصلته في هذه اللغة، وبالثمرة التي نلتها في الامتحان العام الأخير، ولقد سرني أنك صرت مستحقًا أن أبعث لك علامة السرور منك، تشويقًا لك، وها أنا باعث جدول امتحانك للوالي باجتهادك وفلاحك، ولا شك أنه يسر بأنك تشتغل مع ثمرة، وأنك أهل لرعايته لك واعتنائه تربيتك وتعليمك، وعليك مني السلام. وفي هذين الامتحانين أخذت هدية الامتحان. وأما صورة الامتحان الأخير الذي به رجعت إلى مصر أن «مسيو جومار» جمع مجلسًا فيه عدة أناس مشاهير، ومن جملتهم وزيرا لتعليمات الموسقوبي رئيس الامتحان، وكان القصد بهذا المجلس معرفة قوة الفقير في صناعة الترجمة التي اشتغلت بها مدة مكثي في فرنسا. وصورة ما تحصل من الامتحان وكتبه الفرنساوية في وقائع العلوم ما نصه: وصور التلميذ رفاعة أنه قرئ في المجلس دفتران: الدفتر الأول يشتمل على تعديد اثنتي عشرة ترجمة من اللغة الفرنساوية إلى العربية ترجمها المذكور منذ سنة وهذه أسماؤها: وكتب لي مكتوب تهنئة برجوعي إلى مصر بعد تحصيل المرام غير أن هذا المكتوب قد ضاع مني وكان لا بأس بذكره هنا وصورة ترجمة ما كتبه لي «مسيو شواليه» وهو أشبه بإجازة وشهادة لي: ومما ينبغي التنبيه عليه أن غيرة مسيو الشيخ رفاعة تناهت به إلى أن أدته إلى أن شغله مدة طويلة في الليل تسبب عنه ضعف في عينه اليسار، حتى احتاج إلى الحكيم الذي نهاه عن مطالعة الليل، ولكن لم يمتثل لخوف تعويق تقدمه، لما رأى أن الأحسن في إسراع تعليمه أن يشتري اكتب اللازمة له غير ما سمح به (الميري) وأن يأخذ معلمًا (ص ١٦٧) آخر غير معلم (الميري) أنفق جزءًا عظيمًا من ماهيته المعدة هل في شراء كتب، وفي معلم مكث معه أكثر من سنة، وكان يعطيه الدرس في الحصة التي لا يقرأ معي فيها. وقد ظننت أنه يجب علي وقت سفره أن أعطيه هذا الإعلام الموافق لما في الواقع ونفس الأمر، وأن أضيف إلى ذلك الإفصاح عما في ضميري من كمال اعتقاد فضله ومحبته.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/27/
الفصل الأول
اعلم أن هذه الطائفة متفرقة في الرأي فرقتين أصليتين، وهما: الملكية والحرية، والمراد بالملكية أتباع الملك القائلون بأنه ينبغي تسليم الأمر لولي الأمر، من غير أن يعارض فيه من طرف الرعية بشيء، والأخرى تميل إلى الحرية، بمعنى أنهم يقولون: لا ينبغي النظر إلا إلى القوانين فقط، والملك إنما هو منفذ للأحكام على طبق ما في القوانين، فكأنه عبارة عن آلة، ولا شك أن الرأيين متباينان؛ فلذلك كان لا اتحاد بين أهل فرنسا، لفقد الاتفاق في الرأي، والملكية أكثرهم من القسوس وأتباعهم، وأكثر الحربين من الفلاسفة والعلماء والحكماء وأغلب الرعية، فالفرقة الأولى تحاول إعانة الملك، والأخرى ضعفه وإعانة الرعية، ومن الفرقة الثانية طائفة عظيمة تريد أن يكون الحكم بالكلية للرعية، ولا حاجة إلى ملك أصلاً، ولكن لما كانت الرعية لا تصلح أن تكون حاكمة ومحكومة. ويجب أن توكل عنها من تختاره منها للحكم، وهذا هو حكم الجمهورية ويقال للكبار: مشايخ وجمهور. وشريعة الإسلام التي عليها مدار الحكومة الإسلامية مشوبة بالأنواع الثلاثة المذكورة لمن تأملها وعرف مصادرها ومواردها، فعلن من هذا أن بعض الفرنساوية يريد المملكة المطلقة، وبعضهم يريد المملكة المقيدة بالعمل بما في القوانين، وبعضهم يريد الجمهورية، وقد سبق للفرنساوية أنهم قاموا سنة ١٧٩٠ من الميلاد وحكموا على ملكهم وزوجته بالقتل، ثم صنعوا جمهورية، وأخرجوا العائلة السلطانية المسماة «البربون» من مدينة «باريس» وأشهروهم مثل الأعداء وما زالت الفتنة باقية الأثر إلى سنة ١٨١٠ ميلادية، ثم تسلطن «بونابارته» المسمى: «نابليون» وتلقب بسلطان سلاطين: ثم لما كثرت محارباته وكثر أخذه للممالك وخيف بأسه وبطشه تعاهد عليه ملوك الإفرنج؛ ليخرجوه من المملكة، فأخرجوه منها، مع محبة الفرنساوية له، وأعادوا البربون إلى محلهم رغمًا عن أنف الملة الفرنساوية، فكان أول من تسلطن منهم «لويز الثامن عشر» ولأجل تغريب الناس في حكمه وتمكين ملكه صنع قانونًا بينه وبين الفرنساوية بمشورتهم ورضائهم، وألزم نفسه أن يتبعه ولا يخرج عنه، وهو الشرطة، وقد ذكرناها مترجمة في باب سياسة الفرنساوية ولا شك أن وعد الكريم ألزم من دين الغريم. وقد جعل هذا القانون له ولمن بعده من ورثة مملكة الفرنساوية، وأنه لا يزاد فيه ولا ينقص إلا إذا اتفق عليه الملك وديوان «البير» وديوان وكلاء الرعية، فلا بد من الديوانين والملك، ويقال إنه صنع ذلك على غير مراد أهله وأقاربه وهم يحبون التصرف المطلق في الرعية، ويقال: إنهم تعصبوا عليه، وكان رئيس العصبة أخاه «كرلوس العاشر» حتى إنه اطلع على ما أخفاه له فأبطله: ويقال إن كرلوس العاشر أراد في «كبر لويز الثامن عشر» أن ينقص ذلك القانون، ويرجع إلى طريق إطلاق التصرف، فلم يمكنه ذلك، ثم بعد موت أخيه أظهر «كرلوس» الحيلة، وأبطل ما كان نواه، وأظهر أنه لا يريد شيئًا من ذلك، وجوز لكل إنسان أن يبدي في الكازيطات رأيه بالكتابة من غير أن ينظر فيه قبل طبعه وإظهاره فصدق الناس كلامه واعتقدوا أنه لا يخلف وعده، بل فرحت سائر الرعية بتدبيره ومشيه على القوانين، ثم إنه انتهى أمره إلى أن هتك القوانين التي هي شرائع الفرنساوية وخالفها، وقبل هتكه للشريعة بانت منه أمارات ذلك بمجرد تقليده الوزارة للوزير: «بولنياق» وهو معلوم المذهب والتدبير، يعني أنه يميل إلى كون الأمر لا يكون إلا للملك، ويقال إن هذا الوزير هو ابن زنا، زنت أمه بهذا الملك، فولدته منه، فهو في الحقيقة أبوه، وشهير بالظلم والجور، ومن الحكم التي في غاية الشيوع: أن ظلم الأتباع مضاف إلى المتبوع، وفي الحديث: (من سل سيف الجور سل عليه سيف الغلبة ولازمه الهم)، وقال الشاعر: ولما كان هذا الوزير سابقًا «إيلجيًا» ببلاد الإنكليز من طرف الفرنساوية، يعني رسولاً للمصالح بين الدولتين، كانت الفرنساوية تنسب إليه كل ما خالف مذهب الحرية، وكلما شاع عنه أنه راجع إلى فرنسا يظن جميع الناس أنه لا يأتي إلا ليتقلد منصب الوزارة ويغير القوانين؛ فلذلك كان يبغضه سائر أرباب الحرية وأغلب الرعية، وقد عرف الفرنساوية من قبل أن اختياره للوزارة كان مقصودًا لمهم، وقد حصل بعد توليته بنحو سنة. وقد قلنا فيما سبق: إن ديوان رسل العمالات الذين هم وكلاء الرعية يجتمعون كل سنة للمشورة العمومية، فلما اجتمع هذا الديوان عرضوا على الملك أن يعزل هذا الوزير ومن معه من الوزراء الستة، فلم يصغ لكلامهم أصلاً، وقد رجت العادة أن ديوان المشورة يعمل فيه جميع الأشياء بمقالة أكثر أربابه، وكان المجتمع في هذا الديوان للمشورة في قضية الوزراء أربعمائة وثلاثون نفسًا، منها ثلثمائة لا يرضون بإبقاء الوزراء، ومنهم مائة وثلاثون يحبون إبقاءهم، فكان العدد الأكثر عليهم، والعدد الأقل لهم، فتيقنوا عزلهم، وكان الملك يحب إبقاءهم، لاستعانته بهم على تنفيذ ما أضمره في نفسه فأبقاهم، ثم خرم القانون بعدة أوامر ملكية فكانت عاقبتها خروجهم وإخراجهم له من بلادهم معزولاً، فهو كما قال الشاعر:
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/28/
الفصل الثاني
قد سبق لنا من القوانين السالفة في الكلام على حقوق الفرنساوية في المادة الثامنة أنه لا يمنع إنسان في فرنسا من أن يظهر رأيه، ويكتبه ويطبعه، بشرط أن لا يضر ما في القوانين. فإن أضر به أزيل، فلما كانت سنة ١٨٣٠، وإذا بالملك قد أظهر عدة أوامر، منها: النهي عن أن يظهر الإنسان رأيه، وأن يكتبه أو يطبعه بشروط معينة، خصوصًا «للكازيطات» اليومية، فإنه لا بد في طبعها من أن يطلع عليها أحد من طرف الدولة، فلا يظهر منها إلا ما يريد إظهاره، مع أن ذلك ليس حق الملك وحده، فكان لا يمكنه عمله إلا بقانون، والقانون لا يصنع إلا بإجماع آراء ثلاثة: رأي الملك ورأي أهل ديواني المشورة يعني ديوان البير، وديوان رسل العمالات، فصنع وحده ما لا ينفذ إلا إذا كان صنعه مع غيره، وغير أيضًا في هذه الأوامر شيئًا في مجمع اختيار رسل العمالات، يعني في الذين يختارون رسل العمالات ليبعثوها في «باريس» وفتح ديوان العمالات قبل أن يجتمع مع أنه كان حقه ألا يفتحه إلا بعد اجتماعهم كما فعله في المرة السابقة، وهذا كله على خلاف القوانين، ثم إن الملك لما أظهر هذه الأوامر كأنه أحس في نفسه بحصول مخالفة، فأعطى المناصب العسكرية لعدة رؤساء مشهورين بأنهم أعداء للحرية، التي هي مقصد رعية الفرنساوية، وقد ظهرت هذه الأوارم بغتة حتى ظهر أن الفرنساوية كانوا غير مستعدين لها، وبمجرد حصول هذه الأوامر قال غالب العرافين بالسياسات: إنه يحصل في المدينة محنة عظيمة يترتب عليها ما يترتب — كما قال الشاعر: فعظم القتال وكان أكثر المقتول والمجروح من الرعية، كما قال الشاعر: فاشتد غضبهم، وعرضوا القتلى في المحال العامة، لتحريض الناس على القتال، وإظهار عيوب العساكر، وقامت أنفس الناس على ملكهم؛ لاعتقادهم أنه أمر بالقتال، فما مررت بهذا الوقت بحارة إلى وسمعت فيها: السلاح! السلاح. أدام الله الشرطة، وقطع دابر الملك! فمن هذا الوقت كثر سفك الدماء، وأخذت الرعية الأسلحة من السيوفية بشراء أو غصب، وأغلب العملة والصنائعية خصوصًا الطباعين هجموا على (القرقولات) وخانات العساكر، وأخذوا منها السلاح والبارود، وقتلوا من فيها من العساكر، وخلع الناس شعار الملك من الحوانيت والمحال العامة، وشعار ملك الفرنسيس هي صورة «زهر الزنبق»، كما أن شعار ملك الإسلام «صورة هلال» وملك الموسقوبية «صورة عقاب»، وكسروا قناديل الحارات وقلعوا بلاط المدينة، وجمعوه في السكك المطروقة، حتى يتعذر مشي الفرسان عليه، ونهبوا (خبخانات) البارود السلطانية، فلما اشتد الأمر وعلم الملك بذلك، وهو خارج أمر بجعل المدينة محاصرة حكمًا، وجعل قائد العسكر أميرًا من أعداء الفرنساوية مشهورًا عندهم بالخيانة لمذهب الحرية، مع أن هذا خلاف الكياسة والسياسة والرياسة، فقد دلهم هذا على أن الملك ليس جليل الرأي، فإنه لو كان كذلك لأظهر أمارات العفو والسماح، فإن عفو المَلك أبقى للمُلك! ولما ولي على عساكره إلا جماعة عقلاء، أحبابًا له وللرعية، غير مبغوضين ولا أعداء، ولكن أراد هلاك رعاياه حيث نزلهم بمنزلة أعدائه، مع أن استصلاح العدو احزم من استهلاله، ويحسن قول بعضهم: فعاد عليه ما فعله بنقيض مراده، وبنظير ما نواه لأضداده، فلو أنعم في إعطاء الحُريّة، لأمة بهذه الصفة حَريّة، لما وقع في مثل هذه الحيرة، ونزل عن كرسيه في هذه المحنة الأخيرة، لا سيَّما وقد عهد الفرنساوية بصفة الحرية وألفوها، واعتادوا عليها وصارت عندهم من الصفات النفيسة، وما أحسن قول الشاعر: وما أحسن قول الشاعر:
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/29/
الفصل الثالث
اعلم أن أوامر الملك برزت منه وهو في بلدة «سنكلو» على القرب من باريس، فالفتنة حصلت في باريس، والملك لم يكن بها، ثم أن أهل المدينة بعثوا له أن يغير وزراءه، وأن يسترد أوامره، ويسترجعها، يعني أن يكتب أمرًا بأنه أعاد إليه ما كان أمر به فلم يرض بذلك، وأرسلوا إليه في ذلك عدة وكلاء، ليستعطفوه، ويترجوه في هذا المعنى، فلم يفد كلامهم. بل كان: أضيع من دمع على طلل، وأخبروه أن الرعية لا تريد ذلك أبدًا، وأنه ربما ترتب عليه فساد أعظم من ذلك، فأجاب بأن كلامه غير قابل للتغيير والتبديل، فلما تحقق عنده أن دولته قد أشرفت على الزوال بسبب عدم قبوله للمصالحة، أرسل يطلب منهم ذلك بنفسه، فأجابوه بأنه لم يبق محل للصلح، وأن أوان الصلح قد فات، وأنه لم يتبصر في العواقب، ومن لم يتبصر في العواقب لقي النوائب، وأنه لم يدقق النظر، وإلا لما حصل له ذلك [الضرر] وفي اليوم الثلاثين من شهر يوليه اتفق رأي أهل مشورة رسل العمالات على أن يبعثوا ليترجوا «الدوق درليان» قريب لسلطان من بدنة ثانية بأن يكون قائم مقام المملكة؛ حتى تقع مشورة أخرى على من يتولى مملكتهم وكان خارج «باريس» فبمجرد ما وصله ما اقتضاه نظر هذه المشورة وصل إلى «باريس» في الحادي والثلاثين، ونزل في دار المدينة، وأجاب برضائه بما صنعه أهل هذا الديوان وعند دخوله شرع يذكر عبارة عظيمة في السبب الحامل له على الرضاء بذلك، وملخصها: أنه قد حصل لي غاية التحسر على الأمر الذي جعل «باريس» في هذه الحالة المسببة عن خرم القوانين أو تفسيرها بمعنى بشع تحتمله عبارتها، ولقد امتثلت وجئت بينكم لأخلص البلاد من الفشل، ولا بد أن ألبس معكم علامة الثلاثة ألوان التي قد لقستها كثيرًا في أول عمري، ثم ختم عبارته بقوله: والشرطة تصير من هذا الوقت حقًا، يعني أنه يعمل بقوانين المملكة، وتصير متبعة لا يحاد عنها لكونها حقًا، ولقد صارت هذه الجملة عند الفرنساوية مثلاً من الأمثال، وألفاظها بالفرنساوية في غاية الحماسة، ثم إن «شرل» العاشر ظن أنه يمكن التخلص من زوال مملكته بخلع المملكة على ابنه ونزوله عنها له: شعر: شعر: وهكذا حال الدنيا، وأحسن ما قيل في التسلية والصبر على مكارهها قول بعضهم: إنه يتحسر على الخطر الذي حصل لمدينة «باريس» عقب هتك قوانين المملكة، ثم بعد فراغه سلم لديوان المشورة الورقة التي بعثها له «كرلوس» العاشر وابنه «الدوفين» المتضمنة لخلعهما المملكة على الدوق «دبردو» وأنهما يسميانه «هنري» الخامس؛ لأنه تقدم في فرنسا أربعة ملوك كل منهم يسمى: «هنري» ثم خرج قائم مقام المملكة من المشورة، وصار ديوان المشورة يفتح كل يوم للتدبير.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/30/
الفصل الرابع
اعلم أن المشورة كانت تدبر حالة فرنسا المستقبلة، وقد أسلفنا أن آراء الفرنساوية مختلفة، حتى إنهم في المشورة مختلفون في الموضع، فمنهم الملكية يجلسون في الجهة اليمنى، والحريون في الجهة اليسرى، والتابعون لآراء الوزراء في الجهة الوسطى، وكل منهم يقول رأيه من غير معارض له؛ لأن العبرة بكثرة الأصوات وما زال هذا الأمر، معمولاً به إلى الآن، ولم تغير الفتنة شيئًا من ذلك، فكان أصحاب الآراء فرقتين: فرقة تريد المملكة، وفرقة تريد الجمهورية، والفرقة الأولى منها من كان يريد تمليك الدوق «دوبردو» حفيد الملك القديم، ومنهم من كان يريد تولية ابن «نابليون» الذي هو «بونابارته» ومنهم من كان يريد تمليك «الدوق درليان» قائم مقام المملكة، وعائلة «درليان» هي العائلة الثانية الوارثة للملكة، بعد انقراض العائلة الأولى البكرية، وهي عائلة «البربون» ثم إنه ظهرت ورقة مطبوعة، وألصقت في الحارات والمشارع العامة، مضمونها، قد صح بالتجربة أن الجمهورية لا تناسب بلاد الفرنساوية، وأما الدوق دبردو فتوليته تجعل الفرنساوية تحت حكم «البربون» فتقع الفرنساوية فيما فرت منه، وأما ابن نابليون فهو تربية قسيسين وهم أعداء الحرية فتعين «الدوق درليان» انتهت. وقد دبرت عدة مواد انحط عليها الرأي: والدال علامة على الإضافة بين المضاف والمضاف إليه، مثل اللام المقدرة في الإضافة عندنا، فعلامة الإضافة ظاهرة عند الفرنسيس، ثم بعد جلوسه عزم على أهل ديوان «البير وديوان رسل العمالات، بالجلوس، ثم طلب من رئيس الديوان أن يقرأ عليه الخلاصة التي عزم عليه أهل الديوانين فيها بالمملكة، فلما فرغ الرئيس من قراءتها أجاب «الدوق» المذكور بقوله: يا ساداتنا. قد سمعت مع التأمل خلاصة الديوانين، وقد وزنت عبارتهما وأمعنت فيها النظر، وأقول: رضيت من غير شرط ولا تعليق بجميع الشروط المذكورة في الخلاصة، وبتلقيبي ملك الفرنسيس الذي أعطيتموه لي، وها أنا حاضر مستعد للحلف والمبايعة على أني أحفظ ذلك، ثم قام الملك مكشوف الرأس، ورفع يده اليمنى، وشرع يقول هذه الصيغة، الآتية بترتيب وترتيل، وبصوت ثابت من غير لجلجة، وهذه الصيغة مترجمة: أشهد الله — سبحانه وتعالى — على أني أحفظ مع الأمانة الشرطة المتضمنة لقوانين المملكة، مع ما اشتملت عليه من الإصلاح الجديد المذكور في الخلاصة، وعلى أني لا أحكم إلا بالقوانين المسطورة وعلى طريقها، وإن أعطى كل ذي حق حقه، بما هو ثابت في القوانين، وأن أعمل دائمًا على حسب ما تقتضيه مصلحة الرعية الفرناسوية وسعادتها وفخرها، ثم صعد على كرسي المملكة، وشرع يقول: يا ساداتنا، قد حلفت في هذا الوقت يمينًا عظيمًا، وما جهلت بالواجبات المرتبة به على، مع عظمها واتساعها، لما أن نفسي تحدثني أنني أوفى بها، وما قيلت المبايعة إلا عن رضى، وقد كنت عزمت على ألا أركب أبدًا الكرسي الذي أعطته لي الملة الفرنساوية، ولكن لما رأيت أن فرنسا قد جرحت حريتها، وتكدرت الراحة العامة بأرضها، وبهتك قوانين المملكة قد أشرفت على الفساد، وجب نصب القوانين، وكان ذلك من وظيفة ديوان «البير وديوان رسل العمالات» وقد وفيتهم بذلك، فما صنعناه من إصلاح الشرطة يستلزم الأمن في المستقبل فمأمول أن فرنسا تصير مرتاحة في داخلها، ومحترمة في خارجها، والصلح في بلاد أوروبا يزيد ثباتًا، فلما فرغ من كلامه صاحت الأصوات: حفظ الله الملك «لويز فليب الأول»، ثم سلم الملك على المجلس، وخرج، مصافحًا من رآه من أهل المجلس وغيرهم، وركب حصانه، ومشى، وصار يصافح الناس عن يمينه وعن يساره، وربما عانق كثيرًا من الناس، وكان موكبه مؤلفًا من أهل البلد، وهن خفر الملة المسمى الخفر الأهلي يعني «الرديف» ولما دخل الليل نورت باريس بوقدة عظيمة وكان تملكه في السابع من شهر أغسطوس سنة ١٨٣٠ من الميلاد.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/31/
الفصل الخامس
كما قال الشاعر: اعلم أن الفرنساوية بعد هذه الفتنة اهتموا غاية الاهتمام بالتفتيش على الوزراء الذين كانوا السبب في ذلك، وأيضًا فإنه بمقتضى القوانين أن الوزراء يضمون ما يقع في المملكة من الخلل فهم المحاسبون دون الملك: وليس على الملك شيء أصلاً، فحملهم ثقيل، ووظيفتهم شاقة التحمل، فعليهم الوزر في كل ما يحدث، قال الشاعر: اعلم أن ملك الفرنسيس الجديد لما تولى تعلقت إرادته بعزل سبعين رجلاً من أهل مشورة «البير» الذين كان ولاهم «شرل العاشر» الملك السابق ثم سمى منهم تسمية جديدة من كان على غرضه فلو كان هؤلاء السبعون (فضلوا) من أهل الديوان لكانوا يحامون عن الوزراء، فكان غالب أهل ديوان مشورة «البير» أعداء لهم إلا أن التمسك بالقوانين، وطيب نفوسهم في الجملة وعدم ميلهم بالطبيعة إلى الظلم كان سببًا في نجاة الوزراء المذكورين، ومما يتعجب منه أن الوزير «بولنياق» حين القبض عليه أراد أن يختار واحدًا يحامي عنه من العارفين بالأحكام، فلم يختر إلا «مرتنياق» أحد الوزراء المعزولين قبله ليس بينه وبينه وصلة ولا محبة، وأعجب من ذلك أن الآخر الذي هو «مرتنياق» وفى بذلك مع غاية الأمانة التامة، وبذل ما عنده من المعارف لدفع الإيرادات عن موكله، وكذلك كل واحد من الوزراء المقبوض عليهم وكّل محاميًا لهم، ثم لما فتحوا الدعوى أرسلوا لكل واحد من الوزراء المحبوسين يطلبونه بخصوصه مع غاية الرفق واللين. وكيفية أول ما يسأل به: ما اسمك؟ ما وصفك؟ ما منصبك؟ ما رتبتك؟ فيجيب بأجوبة هذه الأسئلة، ولو كانوا يعرفون ما ذكر ثم قالوا لكل واحد منهم: أتقر بأنك وضعت خط يدك تحت أوامر الملك؟ قال: نعم، ولأي شيء فعلت ذلك؟ فيجيب بأن الملك أراده، ولأي شيء أراد الملك فعل ذلك؟ وهل عزم عليه من قديم الزمان أو الآن فقط؟ وقد كان كل منهم يجيب في مثل هذه الأسئلة بقوله: لا أفشي سر ديوان حضرة الملك أصلاً، مع غاية التعظيم في المجلس لمليكهم المعزول ولم يتفوه أحد منهم بشيء من أسرار الديوان أبدًا، ولم يكرههم أحد على ذلك، ثم بعد سؤالهم وانتهائه، وكتب خلاصته جاء المحامون عنهم ومكثوا أيضًا عدة أيام، ليظهروا أن الوزراء بريئون من الذنوب وأن مقصدهم كان حسنًا، وهكذا، فبعد ذلك امتحنت المشورة جميع الدعوى، ثم قضت بما هذه صورته: من حيث إن الوزراء وضعوا خط أيديهم تحت الأوامر المخالفة لقوانين المملكة، ومن حيث إنهم هتكوا حرمة القوانين ومخالفتها، حكمت المشورة عليهم بالحبس الدائم، وتجريدهم من أوصاف الشرف وألقابه، وحكمت على «بولنياق» زيادة على ذلك بالموت الحكمي وهو تقريبًا نظير مسألة من انقطع خبره وحكم بموته القاضي باجتهاده، بعد مضي مدة لا يعيش فوقها غالبًا، والموت الحُكْمي عند الفرنساوية، ويقال له: «الموت المدني» هو أن يكون حكم الحي عندهم كحكم الميت في كثير من الأحوال، وهو أن المحكوم عليه بذلك يزول عنه جميع ما يملكه ليدخل تحت يد ورثته مثل ما إذا مات حقيقة، ولا يصح أن يرث غيره بعد ذلك: ولا أن يورث هو غيره الأموال التي ملكها بعد ذلك، ولا يمكنه أن يتصرف في أمواله جميعها أو بعضها بهبة أو وصية، ولا يجوز إهداؤه، ولا الوصية له إلا بالقوت، ولا يجوز أن يكون وليًا ولا وصيًا ولا شاهدًا في شهادة شرعية، ولا تقبل دعواه، ولا ينعقد نكاحه، بل ينفسخ نكاحه الأول، بالنظر للأحكام المترتبة عليه: ولزوجته وأولاده أن يصنعوا في أمواله أو في أنفسهم كما لو مات هو حقيقة، وبالجملة فهو حي ملحق بالموتى، ولكن لما كان هذا الوزير وأمثاله ممن يحكم عليهم بذلك من أعيان الناس، وكانت ذريته حسنة التربية، كان المحكوم عليه بذلك يبقى في العادة على ما كان عليه قبل الحكم؛ لكون عائلته تعتقد أن هذا من باب التعدي المحض، وأنه ناج بينه وبين مولاه، ولا تفارقه زوجته أصلاً؛ لاعتقادها أنها في عصمته باطنًا، ولو ولدت منه بعد ذلك ولدًا ورثه الإخوة معهم، وإن كان هذا خلاف الأحكام المترتبة على الموت الحكمي، ولما سمعت الرعية بذلك قاموا وقالوا لا بد من الحكم عليهم بالموت الحقيقي، فأخبرهم أهل الدولة أن هذا يناقض ما تطلبونه من الحرية والعدل والإنصاف، وإن كتاب القوانين لم يعين نوع عقوبة الوزراء إذا حصلت منهم خيانة، وإنما حكمت المشورة بالاجتهاد عقوبة لهم وزجرًا لأمثالهم، ويصلح في حقهم قول الشاعر:
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/32/
الفصل السادس
اعلم أنه جاء إلى الفرنساوية خبر وقوع بلاد الجزائر في أيديهم قبل حصول هذه الفتنة بزمن يسير، فتلقَّوا هذا الخبر من غير حماسة، وإن أظهروا الفرح والسرور به، فبمجرد ما وصل هذا الخبر إلى رئيس الوزراء «بولنياق» أمر بتسييب مدافع الفرح والسرور، ولقد صدق من قال: وصار يتماشى في المدينة كأنه يظهر العجب بنفسه؛ حيث إن مراده نفذ، وانتصرت الفرنساوية في زمن وزارته على بلاد الجزائر، فما كانت أيام قلائل إلا وانتصرت الفرنساوية عليه، وعلى ملكه نصرة أعظم من تلك، حتى إن مادة الجزائر نسيت بالكلية وصار الناس لا يتحدثون إلا بالنصرة الأخيرة: على أن حاكم الجزائر خرج منها بشروط، وأخذ منها ما يملكه، وملك الفرنسيس خرج من مملكته يتندم على ما وقع منه، وللزمان صروفٌ تدول، وأحوال تحول، وكان هذا هو عاقبته على غارته على بلاد الجزائر بأسباب واهية لا تقتضي ذلك، بل بمجرد إرضاء هوى النفس، وإذا نصر الهوى بطل الرأي. مما وقع أن المطران الكبير لما سمع بأخذ الجزائر، ودخل الملك القديم الكنيسة يشكر الله — سبحانه وتعالى — على ذلك جاء إليه ذلك المطران ليهنيه على هذه النصرة، فمن جملة كلامه ما معناه: أنه يحمد الله — سبحانه وتعالى — على كون الملة المسيحية انتصرت نصرة عظيمة على الملة الإسلامية، ولا زالت كذلك — انتهى — مع أن الحرب بين الفرنساوية وأهالي الجزائر إنما هو مجرد أمور سياسية، ومشاحنات تجارات ومعاملات ومشاجرات ومجادلات، منشؤها التكبر والتعاظم. ومن الأمثال الحكيمة: لو كانت المشاجرة شجرًا، لم تثمر إلا ضجرًا، فلما وقعت الفتنة كسر الفرنساوية بيت المطران بعد هروبه وخربوه، وأفسدوا جميع ما فيه حتى إنه تخفى، ولم يعلم له أثر ثم ظهر واختفى ثانيًا، وهجم على بيته ثانيًا، وما زال مذمومًا مخذولاً، وقال الشاعر: إلى قوم ثم إن الفرنساوية لما رأوا أن «شرل العاشر» أخرج «باشا الجزائر» من مملكته أيضًا، صاروا يهزءون «بشرل العاشر»، ويصورونه هو وباشا الجزائر في الطرق، ويكتبون في وقائع النوادر تلميحات غريبة، ونكات ظريفة؛ فمن جملة ذلك أنهم صوروه هو والباشا المذكور وكتبوا تحت صورة باشا الجزائر: وأنت أيضًا.. جاءت نوبتك؟!! كأن الباشا يقول للملك استفهامًا ليهزءوا به: وأنت أيضًا عزلت كما عزلتني! شعر: وقال آخر: وكتبوا أيضًا في وقائع النوادر ما نصه: إن الباشا المذكور يقول «لشرل» العاشر: قم بنا نلعب لعب كذا، على قدر معلوم، وإن لم يكن معك شيء جمعنا لك شيئًا، على سبيل الصدقة من الناس! يشيرون بذلك إلى أن باشا الجزائر خرج من بلاده غنيًّا، و«شرل العاشر» خرج من بلاده فقيرًا، وصوروا أيضًا الملك المذكور في صورة الأعمى يتكفف الناس، ويقول في سؤاله: اعطوا بعض شيء للفقير الأعمى، يشيرون إلى أنه لم يتبصر في عواقب الأمور، وصوَّروه أيضًا هو ووزيره «بولنياق» خارجين من كنيسة إشارة إلى أنهما لا يفلحان إلا في هذه العبادة الباطلة، وإنهما قسوس لا أمراء، وكانوا يزعمون أن الملك كان يلبس في بعض الأحيان لبس القسيسين، ويقدس بالناس كالقسيس في كنيسته التي في (سرايته)، وكانوا يصيحون في البلدة بعد هذه الفتنة بورقات مطبوعة، فيها: عشق هذا الملك وفساده في صغر سنه، وفسق المطران الكبير، وهكذا، وبأن ابن ابنه ليس هو ابنًا حقيقيًا، وإنما هو ابن مزور، والعجيب أنهم كانوا يصيحون بهذه الأوراق ليبيعوها في ساحة بيت الملك الجديد، الذي هو من أقارب الملك، وأعجب من ذلك أنهم يكتبون في هذه الورقة: إن الملك الجديد هو الذي كتب ذلك سابقًا في «جرنالات» الإنكليز، بعد ولادة حفيد الملك القديم، ويصيحون بذلك، ولا أحد ينكر عليهم، لما أن حرية الرأي قولاً وكتابة تقضي بذلك. وبعد تولية هذا الملك ظهرت عدة تعصبات عظيمة، منها من يريد عزله ونصب الجمهورية لعدم اكتفائه بالحرية وطلبه أزيد عن ذلك، ومنهم من تعصب لنصب الحكم القديم، وتولية حفيد الملك السابق. وما زالت هذه الفتنة باقية الآثار إلى الآن، وربما تعدت آثارها إلى غيرها من البلاد. فمن ذلك: الفتنة التي ترتب عليها انعزال إقليم البلجيك من مملكة الفلمنك، وقد كان جزءًا منها. ومن آثارها أيضًا: طلب بلاد له الحرية والخروج من حكم الموسقوبية. ومنها: الفتن التي وقعت في بلاد إيطاليا.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/33/
الفصل السابع
لا يخفى أن العائلة السلطانية القديمة قد رجعت بعد تعاهد الدول الإفرنجية على السلطان «نابليون» وإخراجه ونفيه إلى جزيرة «سنت هلينة»، وترجيع هذه العائلة إلى البلاد بعد أن كانت في البلاد الغريبة، فتملك هذه العائلة إنما هو بمعاهدة ملوك الدول الإفرنجية، فهي في الحقيقة مملكة على فرنسا رغمًا عن أنف غالب الفرنساوية، فلما وقعت الفتنة خشي الفرنساوية من أن الملوك المذكورين يأتون بجيوش على بلادهم، وينصبون كرسي هذه العائلة، فتخلصوا من ذلك بتملك العائلة الأخرى التي هي عائلة «أرليان»، ولكنهم لم يعلموا هل ترضي الملوك بذلك أو لا؟ وعزموا على أنهم إذا لم يرضوا بذلك وجاءوا لمحاربتهم حاربوهم، ولو حصل ما حصل وجهزوا ما يدل على ذلك. ولنذكر لك هنا نسبة ملوك الإفرنج بالنظر لهذه المادة فنقول: اعلم أن ملك إسبانيا يوافق بسياسته وسلوكه سياسة ملك فرنسا القديم، وهو أيضًا من أقاربه؛ لأن العائلة التي تحكم ببلاد إسبانيا من العائلة التي تحكم ببلاد فرنسا، فهي تميل إليها ظاهرًا وباطنًا، ومثلها في ذلك الميل بلاد البرتوغال، فهاتان المملكتان لا يحصل منهما شيء يخاف به على العائلة القديمة، وأما بلاد إيطاليا فإن دولة «نابلي» ودولة «رومة» ودولة «سردنيا» توافق أيضًا في سياستها سياسة «البربون»، يعني العائلة القديمة، فحينئذ ملوك هذه الدول تأثرت باطنًا بما وقع في بلاد الفرنساوية، وأما دولة «المسقو»، ودولة «النيمسا»، ودولة «البروسه»، و«الإنكليز» فإنها متعاهدة على تولية عائلة «البربون» القديمة المملكة، فهي أيضًا تأثرت بذلك نوع تأثر، وخصوصًا الدولة المسقوبية، وأما الدول الصغيرة ببلاد الإفرنج فإنها تابعة للدول الكبيرة، فلم يبق مع دولة الفرنساوية الجديدة إلا بعض أقاليم صغيرة تريد الحرية، غير أن أهل دولة الإنكليز أظهرت الرضا بما وقع؛ فلذلك ملكهم كان أول من اعترف بالمملكة لملك الفرنساوية الجديد، وقد جرت العادة أن الملك إذا تولى لا بد من أن يعترف له الملوك بالتملك، ويقروه على ذلك، وهو من الرسوم غالبًا، يقال إن حضرة مولانا السلطان الأعظم لما سمع بذلك، وأخبره «الإيلجي» أجاب بأنه لا يصنع شيئًا حتى يرى ما تصنع ملوك الإفرنج، فإن أقروه على ذلك أقره أيضًا ومدخلية الدولة العلية في ميدان دوائر الدولة الإفرنجية قليل. وممن توقف في الإقرار مدة طويلة ملك الموسقو، ثم بعد ذلك أقره بشرط ألا يتغير شيء في ميزان بلاد الإفرنج، يعني أن الإفرنج تبقى على ما هي عليه، من غير أن يحصل بها راجحية أو مرجوحية في السياسة، بمعنى أن مملكة فرنسا مثلاً لا تزيد عما كانت عليه قبل الفتنة، والظاهر أن أكثر الملوك التي أقرت ملك الفرنساوية الجديد، إنما أقرته على ذلك، ورضيت بما وقع رضاه وقتيًا؛ حتى إن الفرنساوية تحس بذلك وتجهر به، كأنها لا تثق بذلك الصلح الذي تراه كأنه هدنة وتعليق. ولما خرجت من فرنسا كان جميع الناس يتوقع فيها إشهار الحرب وظهوره بين النيمساوية والفرنساوية، أو الموسقوبية، أو الإسبانيول، أو البروسة. والله — سبحانه وتعالى — أعلم بما كان ربما يكون، وللفرنساوية الآن التئام مع الإنكليز لم يسبق مثله أبدًا، وأما الكلام على الرجوع فراجعه في خاتمة الرحلة.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/34/
الفصل الأول
اعلم أن الإفرنج قسموا المعارف البشرية إلى قسمين: علوم وفنون فالعلم هو الإدراكات المحققة المذكورة بطريق البراهين، وأما الفن فهو معرفة صناعة الشيء على حسب قواعد مخصوصة. ثم إن العلوم تنقسم إلى رياضيَّة وغيرها، وغير الرياضية تنقسم إلى طبيعيات وإلهيات. والعلوم الرياضية هي: الحساب، والهندسة، والجبر، والمقابلة. والعلوم الطبيعية هي: تاريخ الطبيعيات، وعلم الطبيعة، وعلم الكيمياء. والمراد بتاريخ الطبيعيات علم الحشائش والأعشاب، وعلم المعادن والأحجار وعلم الحيوانات. وهذه الفروع الثلاثة تسمى مراتب التولدات: مرتبة النباتات، ومرتبة المعادن، ومرتبة الحيوانات. وأما الإلهيات فتسمى أيضًا علم ما وراء الطبيعيات: أو ما فوق الطبيعيات. وأما الفنون فإنها تنقسم إلى فنون عقلية، وإلى فنون عملية، فالفنون العقلية ما يكثر قربُها من العلوم، مثل علم الفصاحة والبلاعة، وعلم النحو، والمنطق، والشعر، والرسم، والنحاتة والموسيقى، فإن هذه فنون عقلية؛ لأنها تحتاج إلى قواعد علمية. وأما الفنون العملية: فهي الحِرَف. هذا هو تقسيم حكماء الإفرنج، وإلا فعندنا أن العلوم والفنون في الغالب شيء واحد، وإنما يفوق بين كون الفن علمًا مستقلاً بنفسه، وآلة لغيره، ثم إن العلوم المطلوبة من عموم التلامذة هي: الحساب، والهندسة، والجغرافيا، والتاريخ، والرسم، ومعرفة هذه كلها تكون بعد معرفة اللغة الفرنساوية، وما يتعلق بها؛ فلذلك وجب علينا هنا أن نذكر نبذة منها:
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/35/
الفصل الثاني
اعلم أن اللغة لما كانت ضرورية في أفهام السامع معنى يحسن سكوت المتكلم عليه وكانت لازمة في التفهيم والتفهم وفي المخاطبات والمحاورات، وجب عند جميع الأمم على المتعلم أن يبتدئ بها، ويجعلها وسيلة لما عداها، واللغة من حيث هي الألفاظ المخصوصة الدالة على المعاني المخصوصة، وطريقها الكلام والكتابة المختلفة باختلاف الأمم، وهي قسمان: لغات مستعملة، ولغات مهجورة؛ فالأول ما يتكلم بها الآن كلغة العرب، والفرس، والترك، والهند، والفرنسيس، والطليانية، والإنكليز، والإسبانيول، والنمسا، والموسقو، والثاني ما انقرض أهله واندثر ولم يبق إلا في الكتب مثل اللغة القبطية، واللاطينية، واليونانية العديمة المسماة بالإغريقية، ومعرفة هذه اللغات المهجورة في المخاطبات نافعة لمن أراد الاطلاع على كتب المتقدمين، في بلاد الإفرنج توجد مدارس مخصوصة معدة لتعلم هذه الألسن، لما يعلمُون من نفعها. وكل لغة من اللغات لا بد لها من قواعد لتضبطها كتابة وقراءة، وتسمى هذه القواعد باللغة الطليانية «أغرماتيقا» وباللغة الفرنساوية «أغرمير» ومعناها تركيب الكلام، يعني علم ضبط اللغة من حيث هي، وهو مرادنا هنا فهو: علم به يعرف تصحيح الكلام والكتابة على اصطلاح اللغة المرادة الاستعمال، والكلام ما قصد به إفادة السامع معنى يحسن عليه السكوت، وهو يتركب من الكلمة، وأقسامها عند أهل اللغة العربية ثلاثة: الاسم، والفعل والحرف، والاسم إما مظهر نحو زيد، أو مضمر نحو هو، أو مبهم نحو هذا، والفعل إما ماض كضرب، أو مضارع كيضرب، أو أمر كاضرب، والحرف إما مختص بواحد من قسميه كمن وقد، أو مشترك بينهما كهل وبل. وإنما قسمنا هذا التقسيم هنا؛ لأنه سيأتي لنا أن الفرنساوية عندهم الضمير واسم الإشارة قسيمان للاسم، ولا يعدان منه بوجه من الوجوه فإنهم جعلوا أجزاء الكلمة عشرة، كل واحد منها قسم مستقل له علامة وهي الاسم، والضمير وحرف التعريف والنعت والمشترك وهو أسماء المفعول والفاعل والفعل والظرف ويسمى عندهم مكيف الفعل، وحروف الجر وحروف الربط وحروف النداء والتعجب ونحوه، فيقولون في تعريف الاسم هو كلمة تدل على شخص أو شيء أي على العالم وغير العالم مثل زيد وفرس وحجر، وفي تعريف الضمير: هو ما يقوم مقام الاسم وحرف التعريف هو أيضًا عندهم لام التعريف كما عندنا إلا أنه يختلف باختلاف الاسم الداخل عليه، فإنه للمذكر «ل» بالضم، وفي المؤنث «ل» بالفتح، ولجمعيهما «لس». ولكن السين لا ينطق بها ويقولون في تعريف النعت هو ما يدل على الاتصاف بوصف من الأوصاف كحسن وجميل، فهو نظير الصفة المشبهة، وأما اسم الفاعل واسم المفعول فإنهما نحو ضارب ومضروب، والظرف عندهم مثله في لغة العرب، وحروف الجر مثل الظروف، وحروف الجر في اللغة العربية، فإذا قال الإنسان باللغة الفرنساوية: «جئت» قبل زيد وبعده، فإن قبل وبعد من حروف الجر عندهم، وإذا قال جاء زيد أولاً أو قبل أو نحو ذلك فإنه ظرف، وأما الحروف الروابط فإنهم يعرفونها بأنها ما تتوسط بين كلمتين أو جملتين نحو واو العطف في قولك جاء زيد وعمرو، ونحو أن قولك أؤمل أن أعيش زمنًا طويلاً، ومن هذا القسم إذن وحينئذ من نحو قولك أنت عاقل، فإذ أنت قابل للتعلم أو أنت فحينئذ قابل، وحروف النداء والتعجب ونحوها معلومة، وقواعد لغتهم يلزمها هذا التقسيم. ويظهر أن قول بعضهم: أقسام الكلمة أو الكلام ثلاثة في سائر اللغات، وأن الحصر عقلي لعلة استغلالها المفهومية وعدمه، ودلالة ما استقل بالمفهومية على زمان وعدمها فيه بعض شيء. ورأيت في كتب الفرنساوية من قسمها أولاً إلى هذه الأقسام الثلاثة، ثم قسمها تقسيمًا ثانويًا، فالحصر حينئذ عقلي على حاله. ثم إن كل إنسان يعبر عن مقصوده إما بالكلام أو بالكتابة، فكلامه يسمى عبارة ومنطقًا، وتعبيره عن مقصوده بالكتابة يسمى نفسًا ومسطرة وقلمًا، فقد يكون قلم الإنسان أفصح من عبارته، فإنه قد يكون الإنسان ألكن، ويكون قلمه فصيحًا ثم إنه إذا أفصح وأغرب غرابة مقبولة كانت عبارته عالية، وإن كانت عبارته مؤدية للمقصود من غير ركاكة فهي مناسبة، وإن كان بها بعض شيء يمجه السماع فهي ركيكة أو رديئة، وعلى كلٍّ، فالعبارة إما بها إطناب أو اختصار أو على الأصل، ثم إن الكاتب إما أن يفصح عن مراده بنظم أو نثر، وعلى كل فإما أن يكون كلامه أو تأليفه باللغة المستعملة في المحاورات المسماة الدارجة أو باللغة الموافقة، فقواعد النثر هو الأصل في الكلام والتآليف، ولا يحتاج إلى وزن تقفية إلا في السجع، وهو لسان العلوم والتاريخ والمعاملات والمراسلات والخطابات ونحو ذلك؛ ولاتساع اللغة العربية كان بها كثير من كتب العلوم منظومًا، وأما لغة الفرنسيس فلا ينظم فيها كتب العلوم أصلاً. والنظم هو أن يفصح الإنسان عن مقصوده بكلام موزون مقفى، وهو يحتاج زيادة عن الوزن إلى رقة العبارات، وقوة والأسباب الداعية لنظمه، ويعجبني قول بعضهم موريًّا: ولبعضهم: وقال بعضهم في فقد الأسباب: وقال آخر: ونظم الشعر غير خاص بلغة الغرب؛ فإن كل لغة يمكن النظم فيها بمقتضى علم شعرها، نعم، فن العروض على الكيفية الخاصة به المدون عليها في لغة العرب وحصره في البحور الستة عشر المستعملة هو لخصوص اللغة العربية، وليس في اللغة الفرنساوية تقفية النثر، ومعرفة فن النظم لا تكفي في نظم الشعر، بل لا بد أن يكون الشاعر به سجية النظم سليقة وطبيعة، وإلا كان نفسه باردًا وشعره غير مقبول: ولنذكر هنا خلاصة صغيرة من الأشعار ملخصة من أحسن القصائد والمقطعات فنقول: قد اشتهر أن أرق بيت قالته العرب في الغزل قول جرير: ولنذكر هنا حكاية لطيفة، وهي: إنه دخل أعرابيٌّ على ثعلب، فقال له: تزعم أنك أعلم الناس بالأدب؟ فقال: كذا يزعمون، فقال: أنشدني أرق بيت قالته العرب، وأسلسه فقال قول جرير: إن العيون إلى آخره، فقال: هذا الشعر غث رث، قد لاكه السفلة بألسنتها، هات غيره، فقال ثعلب: أفدنا من عندك يا أعرابيٌّ: فقال: قول مسلم بن الوليد صريع الغواني: فقال ثعلب لأصحابه: اكتبوها على الحناجر، ولو بالخناجر! فشعر مسلم ابن أبي الوليد أقوى حماسًا من قول جرير، وأقول: إن نسبة القوة بينهما كنسبتها بين قول بعضهم: وقول ابن سهل الإسرائيلي: ومما يمكن نظمه في سلك قول مسلم بن الوليد قول بعضهم: ويعجبني قول أمين أفندي الزللي في همزيته: إلى أن قال: ويحسن هنا ذكر قول الشهاب الحجازي: ويعجبني قول بعضهم: وينتظم في سلكه قول بعضهم: وقول بعضهم: ومما بعد من الأشعار الرقيقة قول الشاعر: ومما ينسب للخليفة هارون الرشيد: ومن أرق ما قيل أيضًا قول الشاعر: ومما يعجب في الرثاء قول أي الطيب في أبي شجاع فاتك: إلى أن قال: وقوله أيضًا في فاتك المذكور: إلى أن قال: بالجملة والتفصيل فأحسن وأظرف سائر ما قيل:
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/36/
الفصل الثالث
هو فن يعرف به التعبير عن المقصود بنقوش مخصوصة تسمى حروف الهجاء أو حروف المعجم، وأغلب الحروف الهجائية متفقة في سائر اللغات ومبدوءة بحرف الألف إلا عند الحبشة، فإن حرف الألف هو الثالث عشر، وصناعة الكتابة شديدة النفع عند سائر الأمم، وهي روح المعاملات وإحضار الماضي، وترتيب المستقبل ووصول المراد، ونصف المشاهدة، ثم إن العرب والعبرانيين والسريانيين يكتبون من اليمين إلى الشمال، والصينيون يكتبون من أعلى إلى أسفل، وتكتب الإفرنج من الشمال إلى اليمين، وهل الأوفق طبعًا الكتابة من اليمين إلى الشمال كما تكتب العرب وغيرهم ممن ذكرهم معهم، أو العكس كما تكتب الإفرنج؟ مما يدل على الأول ترتيب الأعداد فإنها مرتبة طبعًا، وهي تبتدئ من اليمين إلى اليسار؛ فالآحاد التي هي أجزاء العشرات تكون على يمين العشرات، والعشرات كذلك بالنسبة للمئات، وهي كذلك بالنسبة للألوف، وإذا كان الأعداد أصولاً لغيرها — يعني أشياء أولية اتفقت فيها الطبائع على اختلاف أصحابها — دل ذلك على أن مخالفتها مخالفة للأصل وثبت نقيضه وهو المراد، وحاول الإفرنج فحملوا القراءة والكتابة على قراءة الأعداد وكتابتها فقط، فبرهنوا بهذا على أوفقية طريقتهم للطبع، فمن باب أولى يقال: إن الكتاب من أعلى إلى أسفل مخالفة لمقتضى الطبع ويقال: إن العرب كانت تعرف الكتابة في زمن سيدنا أيوب عليه السلام، وقد وقع اختلاف في أن الحروف الهجائية هل هي من الأوضاع الإلهية أو من الأوضاع البشرية، وعلى الثاني فقد وقع الاختلاف في أنها من أوضاع أي ملة، فقال بعضهم: إنها من أوضاع السريانيين أو من أوضاع قدماء المصريين، واستظهر الأول فعليه تكون انتقلت من السريانيين إلى اليونان، بدليل أن الحروف اليونانية هي عين السريانية إلا أنها انقلبت من الشمال إلى اليمين، ومن أهل اليونان أخذ الرومانيون حروفهم. وجودة الخط لا تدل على الفضل، وعدم تأدية الكتابة حقها دليل على الجهل. وأشار السيوطي في كتاب الأوائل إلى تفضيل القلم على السيف حيث قال:
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/37/
الفصل الرابع
وهو علم تحسين العبارة، أو علم تطبيق العبارة على مقتضيات الأحوال، والمقصود منه على العموم توصل الإنسان إلى الإفصاح عما في ضميره بفصيح الكلام وبليغه. وهذا العلم بهذه الحيثية ليس من خواص اللغة العربية، بل قد يكون في أي لغة كانت من اللغات، فإنه يعبر عن هذا العلم في اللغات الإفرنجية بعلم «الريثوريقي» نعم هذا العلم في اللغة العربية أتم وأكمل منه في غيرها، خصوصًا علم البديع فإنه يشبه أن يكون من خواص اللغة العربية؛ لضعفه في اللغات الإفرنجية. وبلاغة أسلوب القرآن الذين نزل إعجازًا للبشر من خصوصيات اللغة العربية، ثم إنه قد يكون الشيء بليغًا في لغة غير بليغ في أخرى، أو قبيحًا فيها، وقد تتفق بلاغة الشيء في لغتين أو لغات، كما إذا أردت أن تعبر عن رجل شجاع بأنه أسد، فتقول زيد أسد؛ فإن هذا مقبول في غير اللغة العربية كما هو مقبول فيها، وإذا أردت أن تعبر عن شخص حسن بأنه بديع الجمال، فتقول: هو شمس أو عن حمرة خده فتقول: خدوده تتلظى، فإن هذا التشبيه حسن في اللغة العربية، غير مقبول أصلاً في اللغة الإفرنجية، وكذلك ما يقال في الريف ونحوه، مثل قول الشاعر: فأغلب التشبيهات الموجودة في هذه الأبيات غير مقبولة عندهم؛ لأنهم يقولون إن الطبع لا يألف الريق مثلاً لكونه آيلاً إلى البصاق، وإذا شبهت بضع العذراء قبل افتضاضها بالوردة التي لم تفتح، ثم بعده بالوردة المفتوحة كان ذلك عظيمًا عند الفرنسيس، فمبنى البلاغة عندهم على ما يقبله الطبع، ويقال: نسبة علم البلاغة للبلاغة كنسبة العروض للشعر، فحينئذ قد توجد البلاغة عند من لا يحسن علمها، كما أنه قد يحسنه غير البليغ. وأغلب نفع البلاغة يكون في الشعر والخطابات ونحوها من كتب الآداب والتواريخ وأعظم نفع ذلك العلم الموصل إلى معرفة أسرار التنزيل وإعجازه؛ وذلك لأن النبي ﷺ بعث في زمن شعر ونظم وكهانة، فأيده الله — سبحانه وتعالى — بالقرآن الذي لو قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (الإسراء: من الآية: ٨٨) فظهر لأرباب العقول الصائبة أنه كلام قادر يقدر عليه، وأنه لا يشبه كلام المخلوقين، فآمنوا به، واتبعوه، إلا من حق عليه العذاب، فنزل القرآن الشريف على مقتضيات الأحوال، وكانت سائر عباراته مناسبة للأحوال لفظًا ومعنى، وإذا أردت توضيح العلوم الثلاثة ومعرفة قواعدها فعليك بكتب المعاني والبديع.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/38/
الفصل الخامس
هو علم يبحث فيه عن المعلومات التصورية والتصديقية من حيث توصيلها إلى غيرها، والمشهور أن واضعه «أرسطو الحكيم» المسمى أيضًا: «أرسطاطاليس» وفي كتب الفرنساوية أو أرسطاطاليس هو الذي كمل هذا الفن، وأن «أفلاطون» أيضًا هذبه، وأن «زنون» وضعه، ونسبة هذا العلم للجنان كنسبة النحو للسان، والعروض للنظم ونحو ذلك. ولهذا العلم مبادٍ ومقاصد؛ فمباديه التصورات والتصديقات ومقاصده التعريفات والأقيسة، والتصور إدراك غير الحكم، وعكسه للتصديق فإذا تصورنا حقيقة الرجل من غير أن نحكم عليه بإثبات ونفى كان ذلك تصورًا، وإذا حكم عليه بأنه عالمٌ مثلاً فإنه يكون تصديقًا، والتصور قسمان: بسيط، مركب، فالتصور البسيط: إدراك الشيء مجردًا عن صفاته، والمركب: إدراك الشيء مع بعض صفاته، مثال الأول: ما إذا تصورت الإنسان ولم يخطر ببالك أنه متحرك، ومثال الثاني: ما إذا تصورته وميزته من الجماد بتحركه فالتصور لا يكون إلا في المفردات، كما أن التصديق لا يكون إلا في القضايا، والقضية، هي حكم يحصل بإثبات تصور إلى آخر، أو نفيه عنه، فالتصور المسند إليه الإثبات أو النفي يسمى: الموضوع، والتصور المسند إلى الموضوع مما تقدم يسمى: المحمول، والموضوع والمحمول يسميان جزئي القضية، وهذان الجزآن يجمعهما جزء ثالث يسمى رابطة، مثال ذلك ما إذا قلت: «زيد فصيح» فإن زيدًا هو الموضوع وفصيح هو المحمول، والرابطة مقدرة والتقدير زيد هو الفصيح، فإن الرابطة ظاهرة، ثم إن القضية إما كلية يعني مستغرقة لسائر الأفراد، كما إذا قلت: كل إنسان صنعة الله تعالى، وإما جزئية كما في قولك: بعض الحيوان إنسان، وكل من القضية الكلية والجزئية مسور. وإما شخصية وإما مهملة؛ فالأولى كزيد قائم والثانية كالإنسان كاتب بقطع النظر عن الكلية والجزئية، وإما طبعية: كما في قولك: الظلم رديء، والقضية أيضًا إما بسيطة أو مركبة؛ فالقضية البسيطة ما كانت غير متعددة الموضوع والمحمول، كما في قولك: الفضيلة حميدة، والرذيلة ذميمة، وبخلافها المركبة؛ فهي ما تعدد فيها الموضوع فقط، أو المحمول فقط، أو هما معًا، كما إذا قلت: الفضيلة والرذيلة ضدان لا يجتمعان، ونحو ذلك، وإذا كانت القضية المركبة مصنوعة من عدة قضايا بسيطة فإنه يكفي في كذبها كذب بعض أجزائها، وأما التعريفات التي هي مقاصد التصورات ومصححات القضايا فإنها تنقسم إلى تعريف بالحد، وتعريف بالرسم، وتعريف لفظي، فمثال التعريف بالحد قولك: الإنسان حيوان ناطق، ومثال التعريف بالرسم قولك: الإنسان حيوان كاتب، ومثال التعريف اللفظي قولك: الإنسان هو الآدمي إذا فرضنا أن لفظ الآدمي أشهر وأعرف من لفظ الإنسان، ويمكن أن يجعل من هذا القسم الثالث سائر تفسير الألفاظ المترجمة من لسان إلى آخر، مثال ذلك: إذا قدرنا أن أعجميًا لا يعرف معنى كلمة الله، فإنه تعرفها له تعريفًا لفظيًا بقولك له: الله هو «خداي». وكل من الحد والرسم ينقسم إلى تام، وإلى ناقص، على حسب كونه بالجنس، أو الفصل القريب أو البعيد، أو بالخاصة، أو بالعرض العام، كل منها منفردًا أو مجتمعًا، وهذا كله موضح في كتب المنطق. وأما القياس: وهو المقصود الأصلي من علم المنطق فهو ما يلزمه لذاته تصديق آخر، مثال ذلك: ما إذا قلنا إن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يقتص من الظالم للمظلوم، فإنك تقول هكذا: الله — سبحانه وتعالى — حكم عدل، وكل من كان كذلك فإنه يقتص للمظلوم من الظالم، فتكون النتيجة هكذا: الله سبحانه وتعالى يقتص للمظلوم من الظالم، فمتى سلمنا القضيتين الأوليين فلا بد أن نسلم القضية الثالثة: والقضيتان الأوليان تسميان مقدمتين، وإحداهما تسمى صغرى، والأخرى كبرى، وروح القياس هو النتيجة. والقياس يكون صحيحًا إذا كان صحيح المادة والصورة، وفاسدًا إذا فسدت إحداهما، والمراد بصحة المادة أن سائر قضاياه تكون صحيحة، والمراد بصحة الصورة أن يكون منظومًا على كيفية يكون إنتاجها ضروريًّا، والقياس الصحيح: هو المسمى بالحجة والبرهان، وأما القياس الفاسد أو البرهان الفاسد فيسمى سفسطة، وهو ما يشبه الصحيح وليس صحيحًا؛ لعدم ملازمة نتيجته الظاهرية للمقدمات الصحيحة. وفي كتب الفرنسيس أن القاعدة التي ينبني عليها القياس الصحيح ويمتاز من السفسطة هي إثبات أصلين؛ أحدهما مبنى الصحة، والآخر مبنى الفساد، وهما أن المستلزم لشيء مستلزم لذلك الشيء، والنافي لشيء ناف لشيء آخر هو ناف لذلك الآخر، أو ناف للاثنين معًا، وكيفية تطبيق هذا على القياس أنك إذا سئلت عن الغضب: هل هو مذموم؟ فأردت أن تستدل على أنه مذموم، فإنك تبحث عن طرف القضية الذي هو الموضوع، فإنك ترى من جملة تعريف الغضب أنه عيب، فحينئذ كلمة غضب متضمنة لمعنى العيب فتركب مقدمة هكذا: الغضب عيب، ثم تقابل العيب مع الذم الذي هو محمول القضية، فإنك تجد أن العيب يستلزم الذم، فتقول: العيب ذميم، فإذا لما رأيت أن الغضب يسلتزم العيب، والعيب يستلزم الذم، فإنك تنتج منه أن الغضب ذميم، فكل قياس لا يمكن أن تطبقه على هذا الأصل فإنه يكون سفسطة، مثال ذلك أرسطو فيلسوف، وبعض الفلاسفة صالح، فأرسطو صالح، فإن الإنتاج فاسد، وذلك أن القضايا لا تستلزم النتيجة؛ لأنه لا يلزم من كون أرسطو هو أحد الفلاسفة، وأن بعض الفلاسفة صالح أن أرسطو صالح. وبعض أجزاء القياس قد يحذف للعلم به، كما في قولك: الفضيلة حميدة، فينبغي كسبها. والقياس إما حملي أو شرطي، فكل ما تقدم مثال للحملي، ومثال الشرطي: لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودًا، لكن الشمس ليست بطالعة — تخرج النتيجة قائلة — فالنهار ليس بموجود، ومحل ذلك كتب المنطق. ثم إن الإفرنج كما يطلقون الكلمات على قواعد اللغة الفرنساوية، ويسمون ذلك إعرابًا نحويًا، يطبقونها على قواعد المنطق ويسمون ذلك [إعرابًا] منطقيًا، فإذا أراد إنسان إعراب «زيد فاضل» إعرابًا نحويًا، فإنه يقول مثلاً: زيد مبتدأ وفاضل خبره، أو نحو ذلك مما يليق بقواعد نحوهم، وإذا أراد أن يعرب إعرابًا منطقيًا فإنه يقول: زيد موضوع، وفاضل محمول، وهذه القضية قضية شخصية، ويفعلون ذلك في سائر الجمل.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/39/
الفصل السادس
الشيء الثاني أن متعلمها يكتفي بمجرد ألفاظ وهمية ويظن أنه على شيء، مع أنه لم يعرف بها شيئًا له في الواقع معنى واضح محقق.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/40/
الفصل السابع
والحساب أهم العلوم الرياضية وقد دلت كتب التواريخ على أن واضع هذا العلم أهل برور الشام، يعني: الصوريين، وقدماء أهل مصر — يعني أن هاتين الأمتين هما أول من جمع الأعداد والحساب، ونظماهما في عقد الترتيب، حتى إن فيثاغورس الحكيم رحل من بلاد اليونان على مصر، فتلقى فيها هذا العلم، ومما اشتهر بين السلف أن علم الحساب من مخترعات الصورتين ويقال: إنهم أيضًا أول من استعمل القوائم والدفاتر، والظاهر أن الأصابع هو أول الطرق التي استعملها الإنسان في الحساب، وأن ذلك هو السبب في كون أول عقد في العدد هو عقد العشرات، والثاني عقد عشرات العشرات التي هي المئات، والعقد الثالث عقد عشرات المئات أو الألوف وهكذا؛ لأن الأصابع عشرة، فكان الانتقال من عقد إلى آخر من عشرة إلى عشرة، ولما كانت الأصابع لا تكفي إلا في تمييز عشرة عشرة احتاج الأمر إلى طريقة أخرى، وعلامات أخرى فأخذوا صغار الحصى، وحبوب الرمل والقمح ونحوها، واستعملوها لضبط المعدودات، كما هو الآن عند بعض همل أمريكة، وبعض همل غيرها من أقسام الأرض، حتى إن بعض قدماء الأمم الماضين لا يوجد في لغاتهم ما يمكن التعبير به عما فوق العشرات، فإنهم كانوا يعبرون عن مائة وسبعة وعشرين مثلاً، بقولهم: سبعة وعشرتان وعشرة عشرات؛ وذلك لأن الأقدمين كانوا يذكرون العدد الأصغر قبل الأكبر، فيبتدئون بالآحاد ثم بالعشرات ثم بالمئات، وهكذا، كما قال بعضهم: إنه يوجد في كتب العبرانيين واليانيين ما يدل على ذلك، وهو أيضًا أسلوب اللغة العربية فيما دون المائة، وأما الآن فقد تبحر الأمم في علم الحساب وتنوعوا وتفننوا فيه، حتى وصلوا إلى كماله. وحد علم الحساب علم يبحث فيه عن الأعداد من حيث ما يعتريها من الأعمال. والعدد: اجتماع الآحاد، وهو قسمان؛ صحيح وكسر، وزاد بعضهم ثالثًا، وهو ما تركب منهما، وسماه عددًا مشتملاً على الكسور، ويتعلق بهذه الأعداد أعمال أربعة هي: الجمع، والطرح، والضرب والقسمة، وهي معلومة في كتب هذا الفن. وأما علم الهندسة، فموضوعه قياس الامتدادات الثلاثة التي هي الطول والعرض والعمق، كما أشرنا إليه في منظومتنا في علم الهندسة بقولنا: وهذه الكواكب الجديدة لا يمكن رصد دورانها على نفسها إلا بصعوبة؛ لصغر بعضها في رأي العين، وبُعد البعض الآخر، بل لا يمكن رصد ما عدا «أورانوس» إلا بالنظارات الفلكية؛ ولهذا سميت عند الإفرنج بالسيارات النظارية، ويؤمل الإفرنج كشف غيرها من السيارات. التاريخ مدرسة عامة يقصدها من أراد من الأمم أن يفوز بالتعلم وهو أيضًا تجريبيات حوادث الأعصر التي تساعد الحال الراهنة، من جهة اشتماله على عبر محفوظة يعين المرء على التفكر في ظاهر الآتي، فمنه يعتبر من اعتبر من جميع الناس أيًّا ما كان مقامهم؛ لما أنه يظهر على رءوس الأشهاد الآثار الرديئة المترتبة على تشاجرهم واختلافهم، ومثل هذه الصورة المهولة تحملهم على التخلق بالأخلاق الحميدة مثل الحلم والعدل. ومن التاريخ يفهم الملوك أنه في زمن سلطة ملك حَسَن التدبير ينبغي أن تكون شوكة الملك وكراسيه ظلاً ووقاية قال «بسوه»: «لو فرض أن التاريخ لا ينفع غير الأمراء، فإنه يجب قراءته للأمراء، ولكن إنما يفتح التاريخ للعاقل كنوزه؛ ليفهم منها خفياته ورموزه، فيشغل فكره مدة قراءته عن تغيرات معيشة الإنسان الباطنة، ثم ينتقل من ذلك إلى مادة أهم من ذلك، فتنكشف له سلاسل الزمن العديدة التي تمس حلقتها الأخيرة خلق العالم، أو ليس أن هذه السلاسل كميدان عظيم يطلع الإنسان فيه دفعة واحدة على جميع الأمم والدول وأزمان كل؟ فانظر إلى هذا المحفل العظيم المحتوى على أرباب سعود ونحوس، فكم فيه من مدائن دمرت، ومن دول انقرضت، ومن ممالك ذهبت واندثرت، ومن محال خربت، ومن مقابر عمرت! فكأن كل شيء يؤول إلى القبور، وهي التي تعلو وحدها على ميدان الأرض! فكم تظهر زينة الحياة الدنيا هينة حقيرة إذا نظر الإنسان من سماء التاريخ! وكم يظهر أن الجمعية التي في زماننا يسيرة هينة بجانب جمعيات أهالي القرون والإعصار، فشتان بين ملوك عصرنا الذين يمكن للناظر أن يقيس عظمها المحسوس، وملوك تلك الأزمنة التي يظهر للأعين كأنهم جبال مرفوعة على دائرة أفق الأعصر السالفة! وانظر ما تكون حروبنا الوقتية، وحبنا للعلو والشرف المؤقتين، عجائب منازعة السلف من مبدأ العالم، على مكان من الأمكنة، أو على شبر من أرض، فمن نظر حق النظر في عجائب التاريخ فإنه يكتسي بثياب الجد، ويتجرد من ملابس الهزل، ويصعد على ذروات النظر فيرى تحت رجليه أن العالم بأسره أشبه ببحر محيط، تسبح فيه سفن آمال الخلق وأمانتهم من غير دفة، عرضة للرياح الشديدة، وينتهي أمرها إلى الانكسار على ما يصادمها من الشعوب، ولا تجد من المراسي ما ترسو عليه غير فرضات القدم! فإذا نظرت من هذا المحل ترى بعين مجردة عن الطمع حطام الدنيا الفانية، والمدح الباطل المقصودين المرغوبين لكثير من الناس كلاشيء، أو ليس أن للدهر نكبات، وتغيرات في جميع ما وهبه وأعطاه، فأي مملكة أمنَّا على كرسيها من السقوط؟ وأي دولة أيسنا على تختها من الارتفاع؟ أوَما رأينا أن الهيكل الواحد يتداول على محرابه عدة أديان متباينة؟ وكم ارتكبت الرذائل حيث كانت الفضائل قاطنة؟ وكم من قواعد فخر وغنى آل أمرها إلى أن أعقبها الفقر والحقارة؟ وكم شوهد أن الخشونة والتمدن يمشيان بهرولة على سطح الكرة، ويتبادلان على أجزائها من غير تخلل وساطة بينها؟ وكيف قد آل أمرك أيُّتها المدائن التي كانت عامرة ببلاد آسيا، وقد كنت تحكمين على جميع الأمم يا مدن «نينيويونس»، و«بابل» السحر؟ أو «يا اصطخر» فارس، و«تدْمُر» سليمان، كيف صارت الآن مجالك خرابًا، وقد كنت كراسي دول العلوم فلم يبق لك من فخارك القديم، وبهائك الجسيم غير الاسم وبعض رسم من حجر! ومع ذلك فلم يحل ببلد من بلاد الدنيا، من النكبات العجيبة والبلايا الغريبة، مثل ما حل بمصر المباركة المصابة بالشقاء التي كانت خيولها تسبق سالفًا خيول سائر الممالك في الركض في ميادين الفخار والعلم والحكمة! فكأن الدهر أراد أن يصب على هذه البلاد — دفعة واحدة — إما نعيم الإنعام، أو عذاب الانتقام، مع أنه لم يكن من الأمم مثل قدماء مصر، في كونهم بذلوا جهدهم في الجلوس على مباني هياكلهم المشيدة، وأرادوا بذلك أن يكونوا مؤبدين، فبادوا جميعًا وانقرضوا، حتى إن أهل مصر الموجودين الآن ليسوا جنسًا من أجناس الأمم، بل هم طائفة متجمعة من مواد غير متجانسة، ومنسوبون إلى عدة جنوس مختلفة، من بلاد آسيا وأفريقية، فهم مثل خليط، من غير قياس مشترك، وتقاطيع شكل صورهم لا تتقوم منها صورة متحددة بها يعرف كون الإنسان مصريًا من سحنته، فكأنما سائر بلاد الدنيا اشتركت، في تأهيل بر النيل!؟ انتهى مترجمًا من مقدمة «الخواجا أكوب» في تاريخ مصر. وعلم التاريخ واسع، وإن شاء الله — تعالى — يصير التاريخ على اختلافه منقولاً من الفرنساوية إلى لغتنا وبالجملة فقد تكفلنا بترجمة علمي التاريخ والجغرافيا بمصر السعيدة بمشيئته تعالى.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/41/
الخاتمة
وأما حضرة حسن بك أفندي، وكذا الأفندية البحريون، ففضلهم وكمال علومهم ثابت بالبرهان، يدل عليه امتيازهم بين الأقران، شهرة اصطفان أفندي غنية أيضًا عن البيان، فقد حاز من العلوم ما حاز، وفاز من الفنون بما فاز، ولا ينكر فهم «الطين أفندي» في جميع أنواع العرفان، ولا خليل أفندي محمود، وتعلم أحمد أفندي يوسف مشهود غير مجحود، وبالجملة فالجل من الأفندية حصل المرام، ورجع لنشر هذا بديار الإسلام. ولنذكر هنا رجوع العبد الفقير إلى مصر ليتم غرض هذه الرحلة فنقول: خرجنا من باريس في شهر رمضان سنة ١٢٤٦ وسرنا نقصد مرسيليا، لنركب البحر ونرجع إلى إسكندرية، فمررنا على مدينة «فنتنبلو» بقرب باريس بها قصر سلطاني، وهذا القصر شهير بأن نابليون نزل فيه عن سلطنة فرنسا، وخلعها عنه سنة ١٨١٥ من الميلاد، ويشاهد به عمود على شكل الهرم مبني من الحجارة، والقصد منه أنه تبقى آثاره، لتذكر رجوع «البربون» في فرنسا، فنجد مرسومًا عليه أسماؤهم وتاريخ ولادتهم، وغير ذلك، وفي هذه الفتنة الأخيرة محا الخلق هذه الأسامي، فلا يشاهد منها إلا الآثار، وهكذا عادة الزمان، في تلونه بجميع الألوان، وغدره وفتكه بقوم، وإقباله على آخرين قبل تمام يوم، قال الشاعر: وكتابة تلك الرسوم من عادة الإفرنج، تأسيًا بالسلف من أهالي مصر وغيرهم، فانظر إلى بناء أهل مصر للبرابي وأهرام الجيزة، فإنما بنوها لتكون آثارًا ينظر بعدهم إليها من رآها. وقال بعضهم في الأهرام، مضمنًا عجز بيت من معلقة طرفة: قال السيوطي في منتهى العقول: إنه يتعجب من قول العلماء: إن أعجب ما في مصر الأهرام، مع أن البرابي بالصعيد أعجب منها، والبرابي هي المشهورة عند العامة بالمسلات، ولغرابتها نقل منها الإفرنج اثنتين إلى بلادهم: إحداهما نقلت إلى رومة في الزمن القديم، والأخرى نقلت إلى باريس في هذا العقد. وأقول: حيث إن مصر أخذت الآن في أسباب التمدن، والتعلم على منوال بلاد أوروبا فهي أولى وأحق بما تركه لها سلفها من أنواع الزينة والصناعة، وسلبه عنها شيئًا بعد شيء يعد عند أرباب العقول من اختلاس حلي الغير للتحلي به، فهو أشبه بالغصب، وإثبات هذا لا يحتاج إلى برهان؛ لما أنه واضح البيان. وقد صنع نابليون في باريس عمودًا مفرغًا من المدافع التي سلبها من الموسقو والنمسا، وقد حاول الموسقو إسقاطه حين حلولهم بباريس، فما ظهر إلا عجزهم عن ذلك. ونهر طلوارة يمكن المسير فيه بقرب هذه المدينة: وهذه المدينة غير مدينة «روان» البعيدة عن باريس جهة الشمال بثلاثين فرسخًا، والتي يمر بها السين، والتي هي من إقليم «نورمنديا». وهتك العرض: هو ما يعبر به عندهم بالسبة والعار، قال الشاعر: قال الزمخشري، عند قوله تعالى: حكاية عن قول العزيز: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ: ما كان العزيز إلا حليمًا، وقيل: إنه كان قليل الغيرة، قال الشيخ أثير الدين أبو حيان، في تفسير هذه الآية الكريمة: وتربة مصر اقتضت هذا يعني قلة الغيرة، وأين هذا مما جرى لبعض ملوك بلادنا، وهو أنه كان مع ندمائه الخصيصين به في مجلس أنس وجارية تغني وراء الستارة فاستعاد بعض جلسائه بيتين من الجارية، وكانت قد غنت بهما، فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعًا في طشت، وقال له الملك استعد البيتين من هذا الرأس، فسقط مغشيًا عليه، ومرض مدة حياة ذلك الملك! أقول: وأين غيرة هذا الملك من غيرة عبد المحسن الصوري على محبوبه، حيث قال: انتهى «سكردان ابن حجلة صاحب ديوان الصبابة» وبالجملة فسائر الأمم تتشكى من النساء ولو العرب، قال الشاعر: وقال آخر: ومن أغرب ما وقع ببلاد الإفرنج في هذا الأمر، أن ملك الإنكليز «جرجس الرابع» اتهم زوجته بالفاحشة بعد أن عهد منها ذلك المرار العديدة، واشتهرت بذلك عند الخاص والعام، لكونها كانت تسافر ببلاد الإفرنج مع من تريد، ولها في كل محل عشاق، فلما رفع أمرها عند شرعهم، وأقيمت الدعوى كما ينبغي، وقصد بإثبات زناها طلاقها ليتزوج بغيرها، فلم تثبت أمور كافية في الطلاق، فحكم القاضي بإبقائها على عصمته قهرًا عنه، فبقيا متفرقين، ولكن لم يتزوج غيرها، وذاع أمرهما وشاع، ولكن في الحقيقة وإن كان يعتقد فيها ذلك إلا أنه بمجرد القرائن لا بالمشاهدة، ألا لا نثلم عرضه، فمادة العرض التي تشبه الفرنساوية فيها العرب هو اعتبار المروءة وصدق المقال، وغير ذلك من صفات الكمال. ويدخل في العرض أيضًا العفاف، فإنهم تقل فيهم دناءة النفس، وهذه الصفة من الصفات الموجودة عند العرب، والمركوزة في طباعهم الشريفة، وإن كانت الآن قد تلاشت فيهم، واضمحلت فإنما هو لكونهم قاسوا مشاق الظلم، ونكبات الدهر، وأحوجهم الحال إلى التذلل والسؤال، ومع ذلك فقد بقي منهم من هو على أصل الفطرة العربية، عفيف النفس على الهمة، كما قال الشاعر: وأما الحرية التي تتطلبها الإفرنج دائمًا فكانت أيضًا من طباع العرب في قديم الزمان، كما تنطق به المفاخرة التي وقعت بين «النعمان بن المنذر» ملك العرب، «وكسرى» ملك الفرس. وصورتها: إنه قدم النعمان على كسرى، وكان عنده وفود الروم والهند والصين والعجم والترك وغيرهم، فذكروا من ملوكهم وبلادهم وعماراتهم وحصونهم، فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم، ولم يستثن فارسًا ولا غيرها. فقال كسرى، وقد أخذته الغيرة: يا نعمان، لقد فكرت في العرب وفي غيرهم من الأمم ونظرت في حال من يقدم عليَّ من الوفود، فوجدت الروم لها حظ في اجتماع ألفتها، وعظيم سلطانها وكثرة مدائنها، ووثيق دينها. ورأيت الهند شهيرة الحكماء طيبة الثراء، كثيرة الأنهار، والبلاد والثمار، عجيبة الصناعة، مرونقة الحسان، معمورة بالأهل. وكذلك الصين عجيبة في اجتماعها، وكثرة صنائع أيديها، وهمتها في الحروب وصنعة الحديد، وأن لها ملكًا يجمعها. وكذلك الترك مع ما هم عليه من سوء الحال في المعاش، وقلة الريف والثمار والحصون، وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس، فإن لهم بعد ذلك ملوكًا تضم قاصيهم، وتدبر أمورهم. فقال النعمان: أصلح الله الملك.. صدقت، إن هذه الأمة تسمو بفضلها، وبعظم خطبها، وعلو درجتها، إلا أن عندي جوابًا في كل ما نطق به الملك من غير رده عليه، ولا تكذيب له! فإن أمَّنتني من الغضب مما أتكلم به، فعلت. قال كسرى: [تكلم] وأنت آمن، فقال النعمان: أمّا أمتك فلا تنازع في الفضل لموضعها التي هي به من عقولها وأخلاقها، وبسطة محلها، وبحبوحة عزها، وما كرمها الله تعالى به من ولايتك وولاية آبائك وأجدادك، وأما الأمم التي ذكرت فما من أمة إلا فضلتها العرب بفضلها. قال كسرى: لماذا؟ قال النعمان: بعزها ومنعتها، وحسن وجوهها وذمتها وبأسها ورياستها وسخائها وحكمة ألسنتها، وشدة عقولها ووفائها. فأما عزها ومنعتها؛ فإنها لم تزل مجاورة لآبائك وأجدادك الذين فتحوا البلاد، ووطئوا العباد، وأقاموا الملك، وقادوا الجيوش، ولم يطمع فيهم طامع، ولم يزالوا عندهم محترمين، ولا نال أحدًا منهم نائل، بل حصونهم ظهور خيولهم، ومهادهم الأرض، وسقوفهم السماء وإلى جانبهم السيوف، وعدتهم السقُف؛ إذ غيرها من الأمم، إنما عزها بالحجارة والطين والجزائر والبحور والقلاع والحصون. وأما حسن وجوهها وألوانها، فقد يعرف بذلك فضلهم على الهند المحترقة، والصين المتجمشة، والترك المشوهة، والروم المقترة الوجوه. وأما أنسابها وأحسابها: فليس أمة من الأمم إلا وقد جهل أباؤها وأصولها، وكثير من أولها وآخرها، حتى إن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه فلا ينسب، ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا ويسمي آباءه أبا فأبًا أحاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا بذلك أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينسب إلى غير نسبه، ولا يدعى إلى غير أبيه. وأما حكمة ألسنتها: فإن الله تعالى أعطاهم أشعارًا، ورونقًا كاملاً، وحسن وزنه وقوافيه، مع معرفتهم بالإشارة وضربهم الأمثال: وبلاغتهم في الصفات ما ليس من ألسنة الأجناس. ثم إن خيولهم أفضل الخيول، ونساءهم أعف النساء، ولباسهم أحسن اللباس، ومعادنهم الذهب والفضة، وأحجار جبالهم الجزع، ومطاياهم التي لا يبلغ إلا على مثلها سفر، ولا يقطع إلا بمثلها بلد قفر. وأما دينها وشريعتها، فإنهم متمسكون به أعظم تمسك، وإن لهم أشهرًا حرمًا، وبلدًا محرمًا، وبيتًا محجوجًا، ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون في ذبائحهم، فيلقى الرجل فيه قاتل أبيه وأخيه، وهو قادر على أخذ ثأره منه وإدراك رغمه فيه، فيحجزه كرمه، ويمنعه دينه عن تناوله إياه؛ احترامًا لذلك البيت وتشريفًا له. وأما وفاؤهم: فإن أحدهم يلحظ اللحظة، فهي عقد لأهلها، لا يرجع عما أضمره في نفسه حتى يبلغه، وأحدهم يرفع عودًا من الأرض، فيكون رهنًا بدينه فلا يطلق رهنه ولا يخفر ذمته؛ خوفًا من الله تعالى، وإن أحدهم يبلغه أن أحدًا استجار به وعسى أن يكون نائيًا عن داره، فيمنع عنه عدوه، ويحميه منه ولو تفنى قبيلته، أو تلك القبيلة التي استجار عليها، وذلك لما أخفر من جواره، وإن أحدهم ليلجأ إليه المحروم، والمحدث عنه، بغير معرفة ولا قرابة فينزلونه عندهم، وتكون أنفسهم وأموالهم دون ماله. وأما قولك أيضًا الملك، حفظك الله: إنهم يقتلون أولادهم من الحاجة، فإنما يفعله من فعله منهم رغم أنفه حذرًا من العار، وخيفة وغيرة من الأزواج. وأما قولك أيها الملك: إن أفضل طعام ظفروا به لحوم الإبل على ما وصفت منها، فما تركوا ما دونها إلا احتقارًا له، فعمدوا إلى أجلها وأفضلها، فكانت مراكبهم ومطاعمهم، من أنها أكثر البهائم لحومًا، وأطيبها شحومًا، وأرقها ألبانًا، وأقلها غائلة، وأحلها مضغة، وإنه لا شيء من اللحوم يفاخر لحمها إلا استبان فضلها عليه. وأما محاربتهم وأكلهم بعضهم بعضًا، وتركهم الانقياد إلى رجل واحد يسوسهم ويدبر أمرهم، فإنما يفعل ذلك من الأمم من علمت الضعف من أنفسها، وتخوفت من نهوض عدوها عليها، فإنهم يحتاجون إلى ملك، يدبر أمرهم، ويكون رجلاً من أعظمهم شأنًا وقدرًا، ويكونون معترفين بشرفه على سائرهم فينقادون إليه بأزمَّتهم، وينقادون إلى أمره. وأما العرب: أيها الملك، فإن كثيرًا فيهم، لعظم كرمهم ووقائهم، ودينهم، وحكمة ألسنتهم، وسخاء نفوسهم يقولون: إنهم ملوك بأجمعهم مع رفعتهم، فلا ينقاد أحد إلى الآخر فإنهم أشراف. وأما اليمن، التي وصفها الملك: فإن آباءك وأجدادك أعلم بصاحبها لما أتاه ملك الحبشة في مائتي ألف، وتغلب على ملكه وجاء إلى بابك وهو مستصرخ ذليل حقير مسلوب فلم يجره أحد من أجدادك ولا آبائك، فاستجار بالعرب فأجاروه، ولولا ما وتر به من بلية العرب لمال إلى نقص، ولم يرجع إلى محله، ولولا أنه وجد من يجيد معه الطعان بقتل الأحرار، وتبدد شمل الكفار، وبذبح العبيد الأشرار لم يرجع إلى اليمن. قال: فعجب كسرى مما جاء به النعمان، ثم قال له: إنك لأهل لموضعك من الرياسة، ولأهلك ولأهل إقليمك، ولما هو أفضل منه ثم كساه وأنعم عليه، وأعطاه أشياء جليلة ثم سيَّره إلى موضعه من الحيرة، ثم بعدُ سيّر إليه وقتله. والتنوخية فرقة من اليمن، وقال المتنبي على لسان بعضهم: وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: حضر رجل من أهالي مصر إلى عمر بن الخطاب، وجعل يشكو من عمرو بن العاص، فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا مقام العائذ. فقال عمر: لقد عذت فما شأنك؟ قال تسابقت بفرسي أنا وابن عمرو بن العاص فسبقته، فحمل عليَّ بسوط في يده، وجعل يقنعني بالسوط، ويقول لي: أنا ابن الأكرمين، وبلغ ذلك لعمرو بن العاص فخشي أن آتيك لأشتكي ولده وحبسني فتفلت من الحبس، وها أنا قد أتيتُك. قال: فكتب كتابًا: من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، إنه إذا أتاك كتابي هذا فاحضر الموسم — يعني الحج — أنت وابنك، ثم التفت إلى المصري، وقال له: قم حتى يأتي غريمك، فلما حضر عمرو بن العاص وابنه الحجَّ وجلس عمر بن الخطاب وجلسوا بين يديه، وشكى المصري كما شكى أول مرة، فأومأ عمر بن الخطاب، وقال له: خذ الدرة وانزل بها عليه: قال: فدنا المصري من ابن عمرو بن العاص، ونزل عليه بها. وعن أنس: قال: والله لقد ضربه، ونحن نشتهي أن يضربه، فلم يزل يضربه حتى استحببنا أن لا يضربه؛ وذلك من كثرة ما يضربه، وعمر (رضى الله عنه) يقول: اضرب ابن الأكرمين. قال عمرو بن العاص: قد شفيت يا أمير المؤمنين، قال عمر بن الخطاب للمصري: انزع عمامته، وضع الدرة على صلعة عمرو، فخاف المصري من ذلك، وقال يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني فما لي أضرب من لم يضربني. فقال عمر (رضى الله عنه): والله لو فعلت لما منعك أحد. فمنه يفهم أن الحرية أيضًا من طباع العرب من قديم الزمان. هذا، ولا ينبغي لنا أن نختم هذه الرحلة من غير أن نشكر محاسن من ساعد الوالي في نجاح مقصوده من ترتيب أمور التلامذة وتعليمهم بمدينة باريس محب البلاد المصرية وأهلها «الخواجة جومار» فإنه يسعى بهمته ورغبته في تنفيذ مقصد الوالي ويسارع في المصلحة بلا إنكار فكأنه من أبناء مصر البارين بها فهو جدير بأن ينظم في سلك المحبين. ونتكلم أيضًا على علم المعادن واستخراجها وقطع الحجارة من مقاطعها، وعلى علم الحشائش الطبية، والنباتات المستعملة في الفنون والصنائع، وعلى البهائم النافعة، وعلى علم الجبر والمقابلة والهندسة. وهذا آخر ما يسره الله — سبحانه وتعالى — في ذكر حوادث السفر لتلك الجهة التي لا ينكر معارفها إلا من لا إنصاف عنده ولا معرفة له، قال الشاعر: ولا ينبغي أن يمنع ذو الحق حقه، كما قال الشاعر في هذه الأبيات المملوءة من الحكمة: ولا أحد يخلص من قال الناس وقيلهم، كما قال الشاعر: وحيث كان العمل بالنية، والمدار على حسن الطوية؛ فلا معول على من لم يكن نيّر السياسة، ساطع الكياسة، ولا اكتراث إلا بمن رقي رتبة عليه في الرسوم والقوانين وتشبث بالشريعة، وكان فيها ذا رياسة، ودرى أن القصد إنما هو حس أهل ديارنا على استجلاب ما يكسبهم القوة والبأس، وما يؤهلهم لإملائهم الأحكام على هؤلاء الناس. وبالجملة فنحن الآن على ما كان عليه الأمر في زمن الخلفاء العباسية، كما قال الشاعر: ولبعض أقاربي: وقال آخر: وعلى كل حال فأرجو ممن نظر فيه أن يتصفحه بجملته؛ ليكون على بصيرة مما يقول، فإن المتصفح للكتاب أبصر بمواقع الخلل منه، ولا أقول إلا كما قال الشاعر:
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/46205086/
تخليص الإبريز في تلخيص باريز
رفاعة رافع الطهطاوي
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، هو الكتاب الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث كما يلقب. ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو بلا شك واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر آنذاك بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتوجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم. وقد نصح المدير الفرنسي لهذه الرحلة رفاعة بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات. فأخرج لنا عملًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
https://www.hindawi.org/books/46205086/42/
تعليق
ولكن في منتصف ذلك الشهر نفسه، ولد رفاعة الطهطاوي في بلدة طهطا من قلب صعيد مصر، ولم يكن لولادته يومذاك مغزى. إلا أنه ولد في البلدة التي أغرقت بنادق أهلها القديمة سفينة القيادة لحملة فتح الصعيد التي أرسلها نابليون من القاهرة، فلم تستطيع أبدًا أن تزعم أنها فتحته، ولكن ولادته رغم ذلك كانت هي ثالث الأحداث في ذلك الشهر التي سميت البداية لتاريخ مصر الحديث. بل ربما كانت ولادته، هي الحدث الأكثر أهمية، إذا نظرنا إلى التاريخ بحثًا عن أعماقه الحقيقية وأساسه، فإن العمل الذي أنجزه الصبي الصعيدي فيما بعد هو الذي أعطى المعنى الإيجابي للحدثين الأوّلين؛ فقد كان على شعب مصر، الذي دفع الثمن كله أن يكون هو الذي يصنع بجهده ذلك المعنى، وأن يكون هو الذي يجسده. يصعب علينا الآن بالفعل أن نتخيل نوع العالم الذي جاءه رفاعة الصغير يوم مولده، كانت قد مرت ثمانية قرون تقريبًا منذ بدأت سيطرة الأجناس الآسيوية، المتخلفة حضاريًا وثقافيًا، على مصر والوطن العربي: من الأكراد والشركس والتركمان والمغول والأتراك، جاءوا قادة عسكريين، ومماليك وغزاة فاتحين، وكانوا محاربين عظماء، ولكنهم كانوا أيضًا أصحاب تخلف حضاري وثقافي عريق، وبحكم سيطرتهم السياسية القائمة على القهر، وبحكم غربتهم عن لغة الثقافة العربية ووصولهم إلى السيطرة دون سند أوليّ من «مؤسسات» هذه الثقافة — إلا الأسانيد الشكلية — وبحكم قسوتهم الأصلية وقسوة النظام الاجتماعي السائد، فقد ترابطت هذه العوامل لكي تفرض على مصر، وعلى الوطن العربي كله ستارًا من التخلف والفساد العقلي والأخلاقي أصبح فيما بعد مضرب الأمثال. والقصص التي تروى عن ذلك ليست لها نهاية، كما أن ذلك التخلف قد احتوى في مضمونه نسيانًا كاملاً للتراث الحضاري والثقافي العظيم الذي ازدهر حتى قبل وصول «الآسيويين» بعشرات قليلة من السنين، إن علماء الأزهر الذين ظنوا أن العلماء الفرنسيين يستخدمون نوعًا من السحر في معامل الكيمياء لكي يخدعوهم، وأقر مؤرخهم الكبير «عبد الرحمن الجبرتي» بأنهم يأتون أعمالاً: «لا تسعها عقول أمثالنا» هؤلاء العلماء كانوا جديرين بأن يظنوا نفس الظنون بأسلافهم العظماء من الفلاسفة والعلماء العرب، من أمثال الفارابي وابن سينا أو الكِنْدي أو ابن الهيثم أو البيروني.. هذا إذا أتيح لهم أن يسمعوا عن تلك الأسماء. ونحن الآن قد نستخدم لغة السجع والتورية اللفظية لكي نصنع بعض الفكاهات.. ولكن هذه اللغة كانت هي اللغة الوحيدة التي يمكن أن يعبر بها من شاء الكتابة من هؤلاء العلماء، ولم تكن هذه اللغة الفقيرة قد استخدمت أبدًا، منذ نحو ألف سنة للتعبير عن شيء من العلوم الطبيعية، ولا الفلسفة العقلية، ولا العلوم البحتة — كالرياضة — ولا العلوم النظرية — كالفلك والهندسة، ونظرة واحدة إلى المجلدات الأولى من كتاب في التاريخ وضع في هذه السنوات الألف، تكشف عن التصور الخرافي الذي نقله المؤرخون من كتابات اليهود وغيرهم، ومن بقايا ما عرفوه من حكايات شعبية عن تاريخ شعبهم والشعوب المجاورة، وبعد مئة سنة فقط من موت المؤرخ وعالم الاجتماع الكبير عبد الرحمن بن خلدون.. وضع — عالم — أزهري كتابًا لتعليم أمير من المماليك في مادة — وصف العالم — أو الجغرافيا، ولكن هذا الكتاب يصلح لأن يكون دائرة معارف لكل الخرافات القديمة عن شكل كوكبنا وما يعيش فيه من أحياء، ولا يكاد وصف مصر نفسها فيه يكون صحيحًا. أما عن أدوات الموت، فيكفي أن نتذكر أن الجبرتي قال إن الناس الذين تجمعوا لمشاهدة القتال بين الفرنسيين والمماليك في إنبابة: «لما عاينوا القنبر — أي: قذائف المدافع — ولم يكونوا عاينوه من قبل، صاحوا: يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف، وأن الجبرتي أيضًا أبدى إعجابه بالعربة الصغيرة ذات العجلة الواحدة التي صنعها الفرنسيون لتسهيل نقل الأتربة، وقال إنها — معجزة الناس الفرنساوية — وأنها — شيء لطيف.. ولكن هذا العالم كان قد اهتز هزة عنيفة في السنتين السابقتين على مولد رفاعة، وإن هؤلاء الناس الذين استنجدوا بخفي الألطاف حينما عاينوا القنبر — سبكوا شبابيك الجوامع والبيوت بعد عام واحد لكي يصنعوا مدافع وقنابل يمنعون كليبر من العودة للقاهرة في ثورتها الثانية، ونظموا أول مقاومة وطنية مسلحة وسرية ضد السلطة الاستعمارية انتهت بقتل كليبر نفسه بعد أيام، واستمرت لكي تعزل ولاة السلطان الذين جاءوا من الأستانة واحدًا بعد الآخر، وأرغمت السلطان بالثورة على تعيين الوالي الذي أرادته قيادة المقاومة من نفس مشايخ الأزهر الذين سحرتهم معامل الكيمياء واستصغروا عقولهم أمامها قبل عامين اثنين فقط. كان بعض هؤلاء المشايخ قد اكتشف معنى الحرية ومعنى أن تحكم الأمة نفسها بنفسها، ومعنى أن تكون الأمة منظمة تدافع عن نفسها بالسلاح، وقد تكرر هذا الدفاع أيام حملة فريزر في رشيد والإسكندرية، وتحت نفس القيادة التي شجعت محمد علي لكي يقاوم الغزوة الإنجليزية ولا يهرب كما فعل المماليك، واكتشفت بعض المشايخ الآخرين قيمة العلم والحضارة، وهؤلاء هم الذين ارتبط بهم رفاعة الشاب حينما وصل إلى القاهرة لكي يدرس في الأزهر وهو في السادة عشرة من عمره، فقيرًا يحفظ القرآن وبعض كتب شروح النحو والبلاغة والفقه. وفي القاهر يكتشف شيخه الكبير، وشيخ الأزهر فيما بعد، حسن العطار الذي كان يجمع في بيته ألمع تلاميذه لكي يتباحثوا فيما عرفوا من علوم الفرنسيين، وأسباب تفوقهم الظاهر على المماليك، وولعهم بالمعرفة والنظام والنظافة، واكتشف الشيخ الكبير موهبة تلميذه الشاب، وبينما كان عقل الشاب يتفتح أمام ما يسمعه. كانت الدولة توطد أركانها، فقد أباد محمد علي بقايا المماليك وقضى على أسس النظام الاقتصادي والإداري القديم، واكتشف أن باشوات الأستانة سيعملون على خلعه؛ حتى لا يخلق مركزًا قويًا ينافسهم من القاهرة، وقرر أن — جيشًا قويًا — هو ما يمكن أن يحميه، وبمجيء عدد من ضباط جيش نابليون المهزوم في ووترلو، وعدد من الاقتصاديين والسياسيين أتباع — سان سايمون — الاشتراكي الخيالي الفرنسي، حصل طموح محمد علي، على الأفكار العلمية اللازمة بتجسيد خياله — وهو كعسكري لا بد أن يفكر في أن بناء الجيش يمكن أن يكون النواة التي ينبغي أن يشيد فوقها وحولها بناء الدولة كلها، إن جيشًا حديثًا يحتاج إلى إدارة وصناعة وعلوم ومدارس واقتصاد حديث، ولا يمكن أن تنتجه مؤسسات متخلفة، وبذلك بدأ تجنيد الشباب للجيش، وإرسال أفراد قلائل لتلقي العلوم اللازمة لتوسيع هذا الجيش وتغذيته بما يلزمه وتغذية الدولة التي ستنفق عليه وترسله في الحروب المطلوبة منها، أو الحروب التي سنفرض عليها. ويكتشف رفاعة، مع الفقر واحتياجه للرزق المنتظم الذي لا يتيحه التدريس في الأزهر، يكتشف أهمية الالتحاق بوظيفة في هذه المؤسسة الجديدة التي ستبنيها الدولة، والتي ستبني هي الدولة بدورها. ويصبح رفاعة، الأزهري الذكي، تلميذ حسن العطار الذي تفتحت آفاق خياله وعقله بأحاديث أستاذه عن حضارة الغرب، يصبح موظفًا في الدولة الجديدة، إمامًا وواعظًا في إحدى وحدات الجيش الجديد، ومن هنا تبدأ رحلة الخلق الجديد. لقد كان من الممكن أن يعود رفاعة الطهطاوي من باريس إلى القاهرة مثلما ذهب، مجرد إمام وواعظ في إحدى وحدات الجيش، وكان يمكن أن يعود، حتى بعد انضمامه إلى البعثة كدارس وليس كمجرد إمام وواعظ، كواحد منها، وواحد من الذين درسوا معه ومن بعده في عواصم أوروبا، فيتحول إلى مجرد أداة تكتيكية متوسطة الإعداد، تؤدي خدمة معينة للجيش محمد علي ودولته ثم تنتهي مثلما انتهت دولة محمد علي وانتهى جيشه بعد هزيمته أمام القوى الأوروبية التي أفزعها تقدمه فاتخذت ضده وضد مصر، أو ضد عمله على إنعاش السلطة العثمانية في الحقيقة. ولكن رفاعة، يقدم لنا نموذجًا مثاليًا للدور الذي يمكن أن تلعبه العبقرية الفردية في التاريخ: العبقرية التي تكتشف المغزى الحقيقي لأحداث عصرها وتيار تلك الأحداث، ونكتشف واجبها في استخلاص كل ما هو ممكن من ذلك التيار لصالح قوى التقدم الحقيقية والأصيلة. لقد انتهت «أسطورة» محمد علي بهزيمته وإجباره على قبول شروط أوروبا وباشوات السلطنة المتواطئين ضده، وجاء بعده وبعد موت ابنه إبراهيم باشا، حفيده الخديوي عباس، صورة من الولاة القدماء تخلفًا وجهلاً وقسوة وغباء وحرصًا على التخلف والجهل والغباوة، وتغلق مدرسة الألسن وكل ما أنشأه رفاعة وتلامذته من المدارس ومؤسسات الدولة المتدينة التي تحايلوا لخلقها مستفيدين من طموح محمد علي، ومن الضرروات على خلقها وفرضها على الدولة وعلى المجتمع كله ذلك الطموح.. وينفي رفاعة إلى السودان. فكيف كان يمكن أن تبدو أسطورة محمد علي، إلا لونًا من الذكريات يتبادلها المشايخ والموظفون والضباط القدماء المسرحون من الجيش المتضائل.. لولا الكتب الألف التي كان رفاعة وتلاميذته قد نقلوها إلى العربية في كل الفنون والعلوم وطبعوها، فوزعت بين مئات البيوت وألوف الأيدي.. ولم يعد في وسع الخديو المتخلف الغبي لا أن «يغلقها» كما أغلق مدارس رفاعة، ولا أن ينفيها مثلما نفى المعلم الأول الذي اختارها بنفسه وأشرف على ترجمتها، وراجع الكثير منها، وتلقى بيديه أول نسخة منها جميعًا طوال سبعة عشر عامًا؟ ويتكرر نفس الموقف أثناء سنوات تحرير الوالي سعيد الذي جاء بعد عباس، ثم أثناء حكم إسماعيل، حتى بلغت تلك الكتب أكثر من ألفين. فبينما كان محمد علي يحلم بالإمبراطورية، وبكرسي الصدر الأعم في الأستانة، ويحصي النقود التي جمعها جباته بالسياط من فلاحي مصر وتجارها، وبينما كان يظن أن دولته.. ومن أكبر موظفيها رفاعة نفسه — لا عمل لها إلا تصنيع الأسلحة والجنود وجمع النقود.. كان رفاعة يضع الأساس لاستمرار تطور مصر نفسها وبنيانها الحضاري الحديث كله.. بصرف النظر عن مصير هذه المغامرة التي ما كان العصر الاستعماري يقبلها في المنطقة التي تمثل محور الارتكاز لاستراتيجية الدول العظمى طوال القرن التاسع عشر، لم يكن محور حلم الباشا هو مصر، وإنما السلطنة العثمانية التي كان التاريخ قد حكم عليها بالزوال، ولم يكن يبقيها إلا منطق توازن القوى في وسط العصر الاستعماري، ولم يكن هم الباشا عظمة الإسلام وإنما مجده الشخصي.. أما الشيخ المعلم فكان محور حلمه هو مصر في المستقبل؛ لأنه تفرغ لتعليمها ولغرس البذور التي لا تموت ولا تتحكم فيها أية معاهدات دولية ولا أية نهايات لمصائر أفراد بعينهم، وكان همه هو المصريون وحريتهم ورخاؤهم واستنارتهم، وحكمهم لأنفسهم وحصولهم على حياة جديرة بالبشر، يصنعونها بأنفسهم. كان يمكن في باريس أن يتعلم اللغة وأن يتقن الترجمة، وأن يكتفي بترجمة نصوص الكتب المدرسية التي ستلقى في الفنون العسكرية على ضباط وجنود الجيش طبقًا لخطة محمد علي وتصور رجاله عن وظيفة هذه البعثة التعليمية والبعثات المشابهة.. ولكن ها هو رفاعة الشاب يحرث أرض المعرفة كلها لكي يعد نفسه للمهمة التي قرر أن يتولاها، والتي رأى أن التاريخ نفسه يؤذن بإمكانية تحقيقها: مهمة بعث الحياة في عقل هذه الأمة ووجودها اعتمادًا على أصولها بالذات، وعلى أساس بث الروح الحية في الإدارة الأساسية لمصنع الحضارة واستيعابها وهي: اللغة؛ حتى تمتلك الأمة في لغتها أسرار تلك الحضارة الحديثة وأوعيتها وما تحتويه. وفي يقيني أن المعلم الأول، كان واعيًا منذ البداية بما يفعله، وبما يريد إنجازه، ربما نبهه أحد إلى ضرورة أن يهتم بكل فروع المعرفة حتى يصبح «مترجمًا» يترجم كل شيء على لغته العربية، ولكن من المؤكد أنه هو الذي اختار فروع المعرفة التي يركز اهتمامه عليها، والكتب التي سيشرع في ترجمتها للاستفادة المباشرة بمادتها ولتطويع اللغة العربية — بمفرداتها وتركيبتها — من أجل أن تصبح قادرة على استيعاب هذه المادة وما يترتب عليها حتمًا من أفكار، لقد طلب إليه أستاذه الشيخ حسن العطار قبل السفر أن يسجل ملاحظاته، ولكن رفاعة هو الذي كتب صورة الحضارة والثقافة الغربيتين، ولخصهما، ونقدهما، واكتشف موقفهما الحقيقي من «الشرق» ومن وطنه، وعرف أنهما قد يكونان أداة تصلح لتطوير بلاده، ولكن من الخطر الاستسلام لهما، ومن الغباء السعي إلى استبدال جوهر وطنه بهما. وتوحي مختارات المعلم الأول للترجمة، وموضوعاته للتأليف. أنه اكتشف الحاجات الحقيقية لحياة أمته، ولعقلها، اكتشف أنها بحاجة إلى المعارف العملية وتطبيقاتها، فاهتم بالرياضة والهندسة والمعادن والإدارة والاقتصاد، ولكنه اكتشف أيضًا حاجتها إلى تغيير تصورها عن الكون وعن الكوكب الذي نعيش فيه، وفي هذا سر اهتمامه الشخصي الخاص بالجغرافيا وبالفلك، ولا شك أنه توقف كثيرًا عند المغزى الذي تدل عليه الحقيقة التي نعرفها عن التطابق بين بداية علوم الفلك والجغرافيا الحديثة، وبين بداية عصر النهضة والتحرر الفكري في الغرب، فبهذين العلمين حصل الإنسان الغربي على «الإحساس» الصحيح بوضع البشر في الكون.. وبشكل هذه الأرض التي يقفون فوقها واستبدلوا التصور الخرافي القديم بشعور «ملحمي» يقيني جديد يدفعهم دفعًا إلى مرحلة جديدة من الصراع ضد الطبيعة، يشعرون فيه بأنهم يواجهون أشياء يمكنهم بالفعل معرفتها والوصول إليها، وإخضاعها لاحتياجات الإنسان، وليسوا أمام «مشاعل معلقة في السماء يسكنها الملائكة كما جاء في «نهاية الأرب» وفي تعاليم الكنيسة الكاثوليكية قديمًا ولا يقفون فوق «أسطوانة مستديرة يمسكها تدبير إلهي فوق قرن ثور، ويقال فوق ظهر سلحفاء يقف أو تقف فوق ظهر حوت يسبح في بحر الظلمات». ولا شك أن المعرفة «العلمية» بحقيقة ذلك الوضع والإيمان بها يخلقان شعورًا مختلفًا وحالة عقلية متميزة كل التميز عن الشعور الذي تولده الخرافات الأخيرة. وهذا الشعور وتلك الحالة العقلية هما ما سعى إليهما المعلم الأول؛ لأنهما يعنيان «الحرية» والقدرة على الفعل.. النتيجة المحتمة للعلم، بدلاً من حالة القهر والعجز التي تخلقها التصورات الخرافية. وإلى جانب الجغرافيا والفلك، اهتم المعلم الأول بالتاريخ ربما يمكن أن نسميه «فلسفة التاريخ» أو «علم الاجتماع»، أو بنوع من «الأنثروبولوجيا» — «علم تاريخ العقائد»، فبعد تصحيح إحساس الناس بوضعهم في الكون وفي كوكبهم، اكتشف المعلم الأول حاجة أمته إلى تصحيح تصورها عن تاريخ المجتمع الإنساني نفسه أو تاريخ البشر أنفسهم على هذا الكوكب، ثم إلى تصحيح تصورها عن تاريخها، هي بالذات؛ ولذلك لم يكتف بترجمة وتأليف الكتب التي تقدم «حقائق» ذلك التاريخ وإنما أضاف إليها الكتب التي تكشف معنى تلك الحقائق بوصفها ظواهر موضوعية.. تحكمها قوانين لا سيطرة للبشر عليها إذا حققوا الوعي بها، كسائر قوانين العلم التي تتحكم في سائر ظواهر الطبيعة، وهي الكتب التي تمنح أمته التصور الصحيح عن حياة وعقائد وتصورات الأمم الأخرى؛ حتى يسود أمته إحساس موضوعي إزاء هؤلاء الآخرين، ينتج عن المعرفة بحقيقتهم. بدلا من التصورات الخرافية التي نجدها أيضًا في كتب مؤرخي الألف سنة الماضية وعلمائها. ونظرة إلى كتاب الطهطاوي عن تاريخ مصر وتاريخ العرب: «أنوار توفيق الجليل في تاريخ مصر وتوثيق بني إسماعيل» تكشف أيضًا عن رغبته في إقامة تصور المصريين عن تاريخهم على نحو صحيح: إنهم أصحاب تلك الحضارة العريقة القديمة التي تطورت حتى التقت بنهر التاريخ العربي فاستوعب أحدهما الآخر وصارا نهرًا واحدًا له «روافد» بعيدة متعددة الأصول، وإن عليهم أن يعيشوا الوعي بهذا البعد التاريخي لوجودهم «الاجتماعي» حتى يعرفوا أنفسهم والمعنى الحقيقي لحضارتهم المعاصرة، وحتى يعرفوا أنهم هم الذين صنعوا تلك الحضارة، وإنهم صنعوها من خلال صراع عظيم ضد عناصر وعوامل القهر الكثيرة. وأخيرًا نكتشف اهتمام المعلم الأول باللغة، سواء عن طريق إثرائها مباشرة بالترجمة، وإحيائها لكي تتمكن من استيعاب تلك العلوم والمعارف التي لم تستخدمها أبدًا طوال ألف سنة، والتي تطورت وتشعبت بشكل هائل طوال تلك القرون العشرة، أو عن طريق تحديد المصطلحات العلمية الجديدة وتوحيدها عن طريق وضع القواميس الخاصة في نهاية كل كتاب مترجم، تحديدًا للمعاني وتوحيدًا لها في أذهان من يستخدمون الاصطلاحات في العمل أو في التعليم، وكان المعلم الأول عمليًا إلى أقصى حد في هذا المجال، فكان يلجأ إلى اللهجة العامية لكي يأخذ منها المصطلح الذي يريده إذا لم تسعفه الفصحى، فإذا لم يجد في العامية بغيته كتب المصطلح الأوروبي بالحروف العربية كما هو، وكذلك في أسلوب التعبير الذي كان قائمًا في عصره على ضرورة استخدام المحسنات البديعية من سجع وجناس وتورية.. إلخ. لقد اكتشف خطورة ذلك القيد الثقيل على العقلية العربية منذ تعلم الفرنسية في الشهر الأول من إقامته في باريس، وبدأ منذ ذلك الحين، في الصفحات الأولى من كتابه الأول «تخليص الإبريز» محاولة التخلص من ذلك القيد؛ سعيًا إلى دقة التعبير وتطابقه مع حقائق الأشياء ومع جوهر المعاني التي يريد التعبير عنها. إن هذا الصراع الكبير من أجل تحرير اللغة، ومن أجل تحريرها من «التقديس» من أجل إثرائها بالمفردات والمصطلحات وأساليب التعبير، إنما تكشف عن إدراكه؛ لأن اللغة وعاء للثقافة والحضارة جميعًا، وأنه دون إعداد هذا الوعاء، لكي يكون مستعدًا للاتساع والتشكل بأشكال ما يحتويه، فإنه لا أمل في تطور حقيقي لعقل أمته، والتالي لحياتها. لقد انتهت مغامرات الباشوات الثلاثة، محمد علي، ثم سعيد ثم إسماعيل، نهايات تتناقض جوانبها بين النفع والضرر، كما تتناقض مقدماتها بين الخير والشر، أما مصر فقد فازت بما صنعه أبناؤها، وعلى رأسهم معلمها الأول الكبير وما حققوه من معرفة وحرية وبنيان مادي ومعنوي، حضاري وثقافي تقوم عليه حياتهم الجديدة. وفي ظني أن هذا البنيان، وفي جانبه المعنوي الثقافي بالذات، قد كان في حساب القوى التي كانت تخطط للقضاء على النهضة المصرية لتحويل مصر على مستعمرة ونقطة حراسة لطريق المواصلات الإمبراطورية في نفس العصر الاستعماري، ولا شك أن الأجيال التالية للمعلم الأول، قد جاهدت لكي تكمل طريقه، وكان عليها أيضًا أن تجاهد ضد ذلك المخطط الذي أرادنا أن نتخبط في طريق المعرفة والحرية، ولعلنا نستطيع في إعادة اكتشاف معنى العمل الذي حققه «جدنا الجليل» أن نعود إلى طريقه المستقيم.
رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين. رفاعة رافع الطهطاوي: أحد قادة النهضة العلمية في مصر والعالم العربي خلال القرن التاسع عشر. لقب برائد التنوير في العصر الحديث؛ لما أحدثه من أثر في تطور التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث. اختير إمامًا مشرفًا ومرافقًا للبعثة العلمية الأولى التي أرسلها محمد علي باشا إلى فرنسا بعد أن رشحه الشيخ حسن العطار لهذه المهمة وزكاه عند السلطان. وُلد رفاعة رافع الطهطاوي عام ١٨٠١م، بمدينة طهطا بصعيد مصر. اعتنى به أبوه في صغره، رغم مروره بضائقة مالية فرضت عليه التنقل بعائلته من قرية إلى أخرى، إلى أن استقر المُقام بهم في القاهرة. وكان رفاعة قد حفظ القرآن الكريم، ودرس النحو واللغة، كما حفظ كثيرًا من المتون المتداولة في عصره. وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره أكمل رفاعة دراسته في الأزهر الشريف، ومن حُسن حظه أن درس على يد الشيخ حسن العطار، فقد كان واسع الأفق، كثير الأسفار، يقرأ كتب الجغرافيا والتاريخ والطب والرياضيات والأدب والفلك؛ فخرج رفاعة كأستاذه واسع الأفق، عميق المعرفة. وقد تخرج رفاعة في الأزهر في الحادية والعشرين من عمره. اختاره «محمد علي باشا» ليكون إمامًا للبعثة العلمية المتجهة صوب فرنسا، بناء على توصية من أستاذه حسن العطار، وهناك قرر ألا يعود إلا بعد أن يكون شخصًا نافعًا لوطنه ومجتمعه. لذا؛ عكف على تعلم الفرنسية، وقراءة أهم الكتب وأنفعها، وترجمة ما استطاع منها مع شرحه وتفسيره. وقد حرص الطهطاوي على إبداء المقارنة بين حال العلم في فرنسا وبين حاله في مصر. وقد عاد الطهطاوي إلى مصر عام ١٨٣١م، بعد أن قضى خمس سنوات في باريس يبحث ويتعلم ويترجم ويؤلف، وتجسدت خلاصة جهده الجهيد في أهم كتبه، وهو كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، وقد عدَّ المؤرخون هذا الكتاب واحدًا من أهم كتب النهضة الثقافية التي كتبت في القرن التاسع عشر. وقد توفي رفاعة الطهطاوي سنة ١٨٧٣م عن عمر يناهز الثانية والسبعين عامًا، بعد أن قدم مشروعًا نهضويًّا رائدًا، استفادت منه الحركة الثقافية والعلمية في مصر، وبنى عليه من خلفه من جيل النهضة المصرية أوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/80735394/
أَبُو صِيرٍ وَأَبُو قِيرٍ
كامل كيلاني
‏‏كان «أبو صير» حلاقًا ذكيًّا، اتسم بحُسن الخُلق وطِيب القلب، وكان ذا سيرةٍ حسنةٍ بين الناس، أما «أبو قير» فكان صبَّاغًا ماهرًا في عمله، لكنه ماكرٌ وسيئ السُّمعة، وكان الاثنان صديقَين مُقرَّبَين، وتعاهدا على الوفاء ومساندة كلٍّ منهما الآخر، إلا أن «أبا قير» خان صديقَه، ولكن أخلاق «أبي صير» النبيلة أنجَتْه من الخيانة.‏‏
https://www.hindawi.org/books/80735394/1/
أَبُو صِير وَأَبُو قِير
كانَ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ حَلَّاقٌ ذَكِيٌّ، حَسَنُ الْخُلُقِ، طَيِّبُ الْقَلْبِ، اسْمُهُ: «أَبُو صِيرٍ». وَكانَ فَقِيرًا جِدًّا لا يَجِدُ قُوتَ يَوْمِهِ إلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ. وَكانَ يَشْكُو الْكَسَادَ وَيُفَكِّرُ فِي تَرْكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَالسَّفَرِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ كانَ يَتَرَقَّبُ الْفُرَصَ. وَكانَ بِجِوارِهِ صَبَّاغٌ ماهِرٌ فِي صِناعَتِهِ، وَلكِنَّهُ ماكِرٌ خَبِيثٌ سَيِّئُ السُّمْعَةِ اسْمُهُ: «أَبُو قِيرٍ». وَكانَ هَذا الْجارُ شَرِهًا طَمَّاعًا. وَهَوَ مِثالٌ لِلْغِشِّ وَالْخِداعِ وَالْمُماطَلَةِ؛ إذا حَدَّثَكَ كَذَبَ عَليْكَ، وَإِذا وَعَدَكَ أَخْلَفَ وَعْدَهُ، وَإذا ائْتَمَنْتَهُ خانَكَ. فَكَرِهَهُ النَّاسُ، وَكَفُّوا عَنْ مُعامَلَتِهِ، فَكَسَدَتْ صِناعَتُهُ، وَلَمْ يُقْبِلْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَصارَ النَّاسُ يَحْذَرُونَهُ وَيُحَذِّرُونَ غَيْرَهُمْ مِنْ مُعامَلَتِهِ. وَكانَ مِنْ عادَتِهِ إذا جاءَهُ أَحَدٌ بِثَوْبٍ — لِيَصْبُغَهُ لَهُ — أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الْأَجْرَ مُقَدَّمًا، بَعْدَ أَنْ يوهِمَهُ أَنَّهُ سَيَشْتَرِي بِهِ أَصْباغًا. فَإِذا انْصَرَفَ صاحِبُ الثَّوْبِ ذَهَبَ «أَبُو قِيرٍ» بِالثَّوْبِ إِلَى السُّوقِ، فَباعَهُ وَاشْتَرَى — بِثَمنِهِ وَبِما أَخَذَهُ مِنَ الْأَجْرِ — ما شاءَ مِنْ أَطْيَبِ الْمَآكِلِ وَالْحَلْواءِ. فَإِذا عادَ إلَيْهِ صاحِبُ الثَّوْبِ ماطَلَهُ، وَتَعَلَّلَ لَه بِأَعذارٍ كاذِبَةٍ: يَدَّعِي — فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ — أَنَّهُ كانَ مَشْغُولًا بِبَعْضِ الضُّيُوفِ، وَيَزْعُمُ — فِي الْيَوْمِ الثَّانِي — أَنَّ زَوْجَهُ وَلَدَتْ، وَهكَذا؛ حَتَّى يَمَلَّ صاحِبُ الثَّوْبِ، فَيَطْلُبَهُ مِنْهُ لِيَصْبُغَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَحِينَئِذٍ يَقولُ لَهُ «أَبو قِيرٍ»: «الْحَقُّ يا صاحِبِي أَنَّنِي خَجِلٌ مِنْكَ جِدًّا، وَلسْتُ أَرَىُ بُدًّا مِنْ مُكاشَفَتِكَ بِالْحَقِيقَةِ؛ فَقَدْ صَبَغْتُ ثَوْبَكَ أَحْسَنَ صَبْغٍ، وَبَذَلْتُ جُهْدِيَ كُلَّهُ فِي إِتْقانِهِ، ثُمَّ جاءَ لِصٌّ خَبِيثٌ فَسَرَقَهُ — لِسُوءِ الْحَظِّ — مِنْ دُكَّانِي، فَبَحَثْتُ عَنْهُ، فَلَمْ أَجِدْهُ». فَيَنْصَرِفُ صاحِبُ الثَّوْبِ إِذا جازَتْ عَلَيْهِ حِيلَتُهُ، أَوْ يَتَشاجَرُ مَعَهُ إِذا ارْتابَ (أَيْ: شَكَّ) فِي قَوْلِهِ، ثمَّ لا يَظْفَرُ مِنْهُ بِشَيْءٍ عَلَى الْحالَيْنِ. وَما زالَ كَذلِكَ حَتَّى عَلِمَ بِهِ الْقاضِي، فَأَمَرَ بِإِغْلاقِ دُكَّانِهِ، حَتَّى يَأْمَنَ النَّاسُ شَرَّهُ. وَكانَ «أَبُو صِيرٍ» يرى مُماطَلَةَ جارِهِ وَهَرَبَهُ مِنْ أَداءَ الْحُقوقِ إِلَى أَصْحابِها، فَيَنْصَحُ لَهُ بِالِاسْتِقامَةِ، فَلا يَسْمَعُ لَهُ قَوْلًا. فَلَمَّا أَغْلَقَ الْقاضِي دُكَّانَ «أَبِي قِيرٍ»، قالَ لِصاحِبِهِ «أَبِي صِيرٍ»: «ما لَنا وَلِهَذا الْمَكانِ؟ أَلَيْسَ خَيْرًا لَنا أَنْ نُسافِرَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، لَعَلَّنا نَجِدُ رِزْقًا أَحْسَنَ مِمَّا وَجَدْناهُ فِي هَذا الْبَلَدِ؟» وَكَانَ «أَبُو صِيرٍ» — كَما قُلْنا — يَشْكُو الْكَسَادَ، وَيُفَكِّرُ فِي السَّفَرِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ، فارْتاحَ لِكَلامِ صاحِبِهِ، وَوافَقَهُ عَلَى السَّفَرِ. فَقالَ لَهُ «أَبُو قِيرٍ»: عاهِدْنِي إذَنْ عَلَى أَنْ نَعْمَلَ بِجِدٍّ، وَنَقْسِمَ بَيْنَنا كُلَّ ما نُصِيبُ مِنَ الرِّزْقِ بِالسَّوِيَّةِ.» فَعاهَدَهُ «أبُو صِيرٍ» عَلَى ذَلِكَ، وَباعَ دُكَّانَهُ، وَاسْتَعَدَّ لِلسَّفَرِ مَعَهُ بِأَوَّلِ سَفِينَةٍ تَقُومُ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَبَعْدَ أَيَّامٍ قَلائِلَ رَكِبَ «أَبُو صِيرٍ» وَصاحِبُهُ سَفِينَةً كَبِيرَةً فِيها كَثِيرٌ مِنَ الْمُسافِرِينَ. وَلَمَّا صارَتِ السَّفِينَةُ فِي عُرْضِ الْبَحْرِ نَشِطَ «أَبُو صِيرٍ» إلَى الْعَمَلِ، فَقامَ — وَمَعَهُ أَدَواتُهُ — لِيَبْحَثَ بَيْنَ رُكَّابِ السَّفِينَةِ عَنْ عَمَلٍ لَهُ، فَناداهُ أَحَدُ الْمُسافِرِينَ لِيَحْلِقَ لَهُ رَأْسَهُ. وَلَمَّا انْتَهَى مِنْ عَمَلِهِ أَعْطاهُ شَيْئًا مِنَ الطَّعامِ وَالْمالِ. وَدَعاهُ ثانٍ وَثالِثٌ، فَلَمَّا انْقَضَى النَّهارُ عادَ «أَبُو صِيرٍ» إلَى صاحِبِهِ — وَمَعَهُ طَعامٌ كَثِيرٌ — فَأَكَلا مَعًا. وَكَانَ «أَبُو قِيرٍ» يُقْبِلُ عَلَى الْأَكْلِ بِشَهِيَّةٍ عَجِيبَةٍ، وَشَرَهٍ لا مَثِيلَ لَهُ. وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي دَعاهُ رُبَّانُ السَّفِينَةِ لِيَحْلِقَ لَهُ. وَسُرَّ مِنْ أَدَبِهِ وَمَهارَتِهِ، فَدَعاهُ وَصاحِبَهُ إلَى الْأَكْلِ عَلَى مائِدَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ. وَكانَ «أَبُو صِيرٍ» لا يَتَوانَى عَنِ الْعَمَلِ، فَكانَ يَحْلِقُ كُلَّ يَوْمٍ لِبَعْضِ الْمُسافِرِينَ، وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ أَجْرَهُ، وَلا يَضِنُّ عَلَى صاحِبِهِ «أَبِي قِيرٍ» بِشَيْءٍ يَطْلُبُهُ، حَتَّى وَصَلَتِ السَّفِينَةُ — بَعْدَ عِشْرِينَ يَوْمًا — إلَى مَدِينَةٍ كَبِيرَةٍ، فَنَزَلَ «أَبُو صِيرٍ» مَعَ صاحِبِهِ إِلَيْها. وَلَمَّا طافا بِأَسْواقِها وَجَداها مُزْدَحِمَةً بِالتُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ، فَعَزَمَا عَلَى الْإِقامَةِ فِيها أَيَّامًا. وَاسْتَأْجَرَ «أَبُو صِيرٍ» غُرْفَةً صَغِيرَةً فِي أَحَدِ الْفَنادِقِ لِيُقِيمَ فِيها مَعَ صاحِبِهِ. وَكانَ «أَبُو صِيرٍ» يُبَكِّرُ فِي الْقِيامِ مِنَ النَّوْمِ فَيَرَى صاحِبَهُ لا يَزالُ نائِمًا، فَإِذا أَيْقَظَهُ تَظاهَرَ بِالضَّعْفِ وَالْمَرَضِ، فَيَخْرُجُ «أَبُو صِيرٍ» وَحْدَهُ إلَى الْمَدِينَةِ يَتَلَمَّسُ رِزْقَهُ خِلالَ النَّهارِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى صَاحِبِهِ بِالطَّعامِ، فَيَأْكُلُهُ بِشَرَهٍ غَرِيبٍ. وَما زالَ كَذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ. ثُمَّ مَرِضَ «أَبُو صِيرٍ»، وَاشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ وَالضَّعْفُ، فَعَجَزَ عَنِ الْخُرُوجِ، وَلَزِمَ الْفِراشَ. فَلَمَّا جاءَ الْيَوْمُ التَّالِي، بَحَثَ «أَبُو قِيرٍ» فِي الْغُرْفَةِ عَنْ طَعامٍ يَأْكُلُهُ فَلَمْ يَجِدْ شَيئًا. وَرَأَى صاحِبَهُ «أَبا صِيرٍ» مُسْتَغْرِقًا فِي النَّوْمِ. فَظَلَّ يُفَتِّشُ فِي ثِيابِ «أَبِي صِيرٍ» حَتَّى عَثَرَ عَلَى كِيسِ نُقُودِهِ، فَأَخَذَهُ مَعَهُ، ثُمَّ خَرَجَ وَأَغْلَقَ بابَ الْغُرْفَةِ عَلَى صاحِبِهِ «أَبِي صِيرٍ» وَعَزَمَ عَلَى الْهَرَبِ مِنْهُ. ثُمَّ مَشَى «أَبُو قِيرٍ» فِي أَسْواقِ الْمَدِينَةِ، فَرَأَى دُكَّانَ صَبَّاغٍ. فَوَقَفَ يَتَأَمَّلُ فِي الثِّيابِ الْمَصْبُوغَةِ، وَهُوَ يَتَعَجَّبُ أَشَدَّ الْعَجَبِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ فِي الدُّكَّانِ إِلَّا اللَّوْنَ الْأَزْرَقَ وَحْدَهُ. فَتَأَمَّلَ فِي مَلابِسِ الْمارَّةِ فَلَمْ يَرَ إِلَّا اللَّوْنَ الْأَزْرَقَ، وَاللَّوْنَ الْأَبْيَضَ، فَازْدادَ عَجَبُهُ، وَأَخْرَجَ مِنْدِيلَهُ الْأَبْيَضَ، وَطَلَبَ مِنَ الصَّبَّاغِ أَنْ يُلَوِّنَهُ لَهُ بِاللَّوْنِ الْأَحْمَرِ. فَقالَ لَهُ الصَّبَّاغُ: «نَحْنُ لا نَعْرِفُ إلَّا اللَّوْنَ الْأَزْرَقَ.» فَعَظُمَتْ دَهْشَةُ «أَبِي قِيرٍ»، وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَهُ أَجِيرًا عِنْدَهُ، لِيُعَلِّمَهُ كَيْفَ يَصْبُغُ بِالْأَلْوانِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأُخْرَى. فَرَفَضَ الصَّبَّاغُ، وَقالَ لَهُ: «نَحْنُ لا نَقْبَلُ — فِي هَذِهِ الصِّناعَةِ — غَرِيبًا عَنَّا». فَذَهَبَ إِلَى صَبَّاغٍ ثانٍ وَثالِثٍ وَرابِعٍ، فَلَقِيَ مِنْهُمْ مِثْلَ ما لَقِيَهُ مِنَ الصَّبَّاغِ الْأَوَّلِ. وَلَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يُنْشِئَ مَصْبَغَةً، لِفَقْرِهِ وَقِلَّةِ ما مَعَهُ مِنَ النُّقُودِ. فَذَهَبَ إلَى الْمَلِكِ، وَبَسَطَ لَهُ شَأْنَهُ، فَسُرَّ الْمَلِكُ مِنْ فِكْرَتِهِ، وَأَمَرَ بِبِناءِ مَصْبَغَةٍ كَبِيرَةٍ لَهُ فِي أَحْسَنِ شَوارِعِ الْمَدِينَةِ وَفْقَ ما يَشْتَهِي. وَأَحْضَرَ لَهُ كَثِيرًا مِنَ الثِّيابِ لِيَصْبُغَها لَهُ، فَصَبَغَهَا أَحْسَنَ صَبْغٍ بِأَلْوانٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَفَرِحَ الْمَلِكُ بِذَلِكَ، وَكافَأَهُ أَحْسَنَ مُكَافَأَةٍ. وَأَقْبَلَ الأُمَراءُ وَأَعْيَانُ الْمَدِينَةِ عَلَى مَصْبَغَتِهِ، فَراجَتْ صِناعَتُهُ، وَكَثُرَ مالُهُ، وَأَصْبَح مِنْ كِبارِ الْأَغْنِياءِ. وَلَمْ يُفَكِّرْ لَحْظَةً واحِدَةً فِي صاحِبِهِ «أَبِي صِيرٍ» الَّذِي أَطْعَمَهُ وَآواهُ، وَبَذَلَ لَهُ كُلَّ ما يَسْتَطِيعُ مِنَ الْمُساعَدَةِ فِي أَيَّامِ مِحْنَتِهِ وَفَقْرِهِ. أَمَّا «أَبُو صِيرٍ» فَقَدْ لَزِمَ فِراشَهُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ لا يَسْتَطِيعُ الْحَراكَ مِنْ شِدَّةِ الْمَرَضِ، حَتَّى فَطِنَ إِلَيْهِ صاحِبُ الْفُنْدُقِ، فَذَهَبَ إِلَى غُرْفَتِهِ فَرَآها مُغْلَقَةً. فَبَحَثَ عَنِ مِفْتاحٍ يَفْتَحُها بِهِ، وَلَمَّا رَأَى «أَبا صِيرٍ» وَهُو مَنْهُوكُ الْقُوَى مِنْ شِدَّةِ الْمَرَضِ، عَطَفَ عَلَيْهِ وَرَقَّ لَهُ قَلْبُهُ، وَوَكَّلَ بِهِ خادِمًا يَخْدُمُهُ. وَبَحَثَ «أَبُو صِيرٍ» عَنْ كِيسِ نُقُودِهِ لِيُعْطِيَ صاحِبَ الْفُنْدُقِ شَيْئًا مِنَ الْمالِ فَلَمْ يَجِدْهُ. فَقالَ لَهُ صاحِبُ الْفُنْدُقِ: «لا يَحْزُنْكَ ذَلِكَ يا أَخِي، فَإِنِّي لَسْتُ فِي حاجَةٍ إلَى الْمالِ.» وَما زالَ صاحِبُ الْفُنْدُقِ يُؤَاسِي «أَبا صِيرٍ» وَيُعْنَى بِأَمْرِهِ — عِدَّةَ أَشْهُرٍ — حَتَّى شُفِيَ مِنْ مَرَضِهِ، وَعادَ إلَيْهِ نَشاطُهُ وَقُوَّتُهُ، فَخَرَجَ مِنَ الْفُنْدُقِ، وَمَشَى فِي إحْدَى أَسْواقِ الْمَدِينَةِ، فَرَأَى زِحامًا شَدِيدًا أَمامَ مَصْبَغَةٍ كَبِيرَةٍ. وَنَظَرَ فِي الْمَصْبَغَةِ فَرَأَى كَثِيرًا مِنَ الْخَدَمِ عَلَيْهِمْ أَفْخَرُ الثِّيابِ. وَرَأَى صَدِيقَهُ «أَبا قِيرٍ» جالِسًا فِي صَدْرِ الْمَكانِ — وَهُوَ يَأْمُرُ وَيَنْهَى — فَفَرِحَ «أَبُو صِيرٍ» أَشَدَّ الْفَرَحِ بِما نالَهُ صَدِيقُهُ مِنَ النَّجاحِ وَالتَّوْفِيقِ. وَقالَ فِي نَفْسِهِ: «لَعَلَّهُ شُغِلَ عَنِّي طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِتَنْظِيمِ هَذِهِ الْمَصْبَغَةِ الْكَبِيرَةِ! وَلا شَكَّ أَنَّهُ سَيَفْرَحُ أَشَدَّ الْفَرَحِ حِينَ يَرانِي، بَعْدَ أَنْ شُفِيتُ مِنْ مَرَضِي!» ثُمَّ دَخَلَ «أَبُو صِيرٍ» لِيُهَنِّئَ صاحِبَهُ بِما نالَهُ مِنَ النَّجاحِ وَالتَّوْفِيقِ، وَلَكِنْ خابَ ظَنُّهُ؛ فَما كادَ يَراهُ «أَبُو قِيرٍ» حَتَّى صاحَ بِهِ غاضِبًا: «أَلَا تَزالُ — أَيُّها اللِّصُّ الْخَبِيثُ — تَتَسَلَّلُ إلَى مَصْبَغَتِي لِتَسْرِقَ الثِّيابَ مِنْها؟ أَلَمْ يَكْفِكَ ما سَرَقْتَهُ مِنِّي فِي الْمَرَّاتِ السَّابِقَةِ؟ وَاللهِ لا بُدَّ مِنْ عِقابِكَ حَتَّى لا تَعُودَ إِلَى السَّرِقَةِ بَعْدَ هَذا الْيَوْمِ.» ثُمَّ أَمَرَ غِلْمانَهُ بِضَرْبِهِ، فَضَرَبُوهُ ضَرْبًا مُوجِعًا حَتَّى أُغْمِيَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الضَّرْبِ، ثُمَّ أَلْقَوْا بِهِ فِي الطَّرِيقِ. وَلَمَّا أَفاقَ «أَبُو صِيرٍ» عادَ إِلَى غُرْفَتِهِ مَحْزُونًا مُتَأَلِّمًا مِمَّا حَدَثَ لَهُ. ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ التَّالِي يَبْحَثُ عَنْ حَمَّامٍ يَسْتَحِمُّ فِيهِ، فَلَمْ يَجَدْ. فَسَأَلَ النَّاسَ: أَيْنَ يَسْتَحِمُّونَ؟ فَقالُوا لَهُ: «إنَّنا نَذْهَبُ إِلَى الْبَحْرِ لِنَسْتَحِمَّ فِيهِ.» فَقالَ فِي نَفْسِهِ: «إنَّ جَمالَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ الْكَبِيرَةِ لا يَتِمُّ إلَّا إِذا أُنْشِئَ فِيها حَمَّامٌ.» ثُمَّ ذَهَبَ «أَبُو صِيرٍ» إِلَى الْمَلِكِ، وَشَرَحَ لَهُ فِكْرَتَهُ، فَرَضِيَ عَنْها، وَأَمَرَ بِبِناءِ حَمَّامٍ فَخْمٍ — فِي أَحْسَنِ مَكانٍ فِي الْمَدِينَةِ — وَفْقَ ما يَشْتَهِي «أَبُو صِيرٍ». وَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ بِنائِهِ وَإعْدادِهِ، ذَهَبَ «أَبُو صِيرٍ» إِلَى الْمَلِكِ، وَدَعاهُ إِلَى زِيارَةِ حَمَّامِهِ. فَلَمَّا دَخَلَ الْمَلِكُ الْحَمَّامَ سُرَّ مِنْ نِظامِهِ وَنَظافَتِهِ، وَأُعْجِبَ بِذَكاءِ «أَبِي صِيرٍ» وَأَدَبِهَ إِعْجابًا كَبِيرًا. ثُمَّ خَرَجَ الْمَلِكُ — بَعْدَ أَنِ اسْتَحَمَّ فِيهِ — مَسْرُورًا راضِيًا. وَكافَأَ «أَبا صِيرٍ» أَحْسَنَ مُكافَأَةٍ. وَفِي الْأَيَّامِ التَّالِيَةِ زارَ الْأُمَراءُ وَالْوُزَراءُ وَأَعْيانُ الْمَدِينَةِ حَمَّامَ «أَبِي صِيرٍ»، وَأُعْجِبُوا بِهِ الْإِعْجابَ كُلَّهُ. وَكانَ يُكْرِمُهُمْ غايَةَ الْإِكْرامِ، فَأَحَبُّوهُ جَمِيعًا، وَتَتابَعَ النَّاسُ عَلَى حَمَّامِهِ. وَلَمْ يَنْسَ «أَبُو صِيرٍ» صاحِبَ الْفُنْدُقِ الَّذِي آسَاهُ فِي مَرَضِهِ، فَدَعاهُ إِلَى زِيارَتِهِ وَأَكْرَمَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الْهَدايا الْفاخِرَةِ وَالنَّفائِسِ الْغالِيَةِ. وَسَمِعَ «أَبُو قِيرٍ» بِحَمَّامِ صاحِبِهِ الَّذِي ذاعَ صِيتُهُ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ. وَلَمْ يَكَدْ يَرَى صاحِبَهُ «أَبا صِيرٍ» حَتَّى أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَعانَقَهُ، مُتَناسِيًا إِساءَتَهُ إِلَيْهِ وَضَرْبَهُ وَطَرْدَهُ. وَقالَ لَهُ: «أَهَذِهِ يا أَخِي هِيَ حُقُوقُ الصُّحْبَةِ؟ أَهكَذا يَنْسَى الصَّدِيقُ صَدِيقَهُ؟ لَقَدْ بَحَثْتُ عَنْكَ فِي كُلِّ مَكانٍ فَلَمْ أَعْثُرْ عَلَيْكَ، فَأَيْنَ كُنْتَ؟» فَتَعَجَّبَ «أَبُو صِيرٍ» مِنْ كَلامِ صاحِبِهِ، وَقالَ لَهُ: «أَلَمْ أَذْهَبْ إِلَى مَصْبَغَتِكَ لِزِيارَتِكَ، وَكانَ نَصِيبِيَ الْإِهانَةَ وَالطَّرْدَ؟» فَتَظاهَرَ «أَبُو قِيرٍ» بِالْأَسَفِ، وَقالَ لَهُ: «لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ! لَقَدْ حَسِبْتُكَ يا أَخِي — لِسُوءِ الْحَظِّ — اللِّصَّ الَّذِي تَعَوَّدَ سَرِقَةَ الثِّيابِ. وَقَدْ كُنْتُ مَشْغُولًا فَلَمْ أَتَثَبَّتْ مِنْ رُؤْيَتِكَ! وَلَعَلَّ الْمَرَضَ قَدْ غَيَّرَ مِنْ مَلامِحِ وَجْهِكَ، فَلَمْ أَعْرِفْكَ! وَلَقَدْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْكَ أَنْ تُنَبِّهَنِي إِلَى خَطَئِي — حِينَئِذٍ — وَتَذْكُرَ لِيَ اسْمَكَ لِأُقابِلَكَ بِما أَنْتَ أَهْلُهُ مِنَ التَّرْحِيبِ وَالْإِكْرامِ». وَلَمَّا سَمِعَ «أَبُو صِيرٍ» كَلامَ صاحِبِهِ، حَسِبَهُ صادِقًا فِي دَعْواهُ فَعَذَرَهُ، وَأَكْرَمَهُ كُلَّ الْإِكْرامِ. وَلَمَّا سَأَلَهُ «أَبُو قِيرٍ» عَنْ سَبَبِ إِنْشائِهِ هَذا الْحَمَّامَ، قَصَّ عَلَيْهِ «أَبُو صِيرٍ» قِصَّتَهُ كُلَّها. فَقالَ لَهُ «أَبُو قِيرٍ»: «وَلَكِنَّكَ نَسِيتَ شَيْئًا واحِدًا لا يَكْمُلُ حَمَّامُكَ إِلَّا بِهِ!» فَقالَ لَهُ «أَبُو صِيرٍ»: «وَما هُوَ؟» فَقالَ لَهُ: «أَنْتَ حَلَّاقٌ ذَكِيٌّ ماهِرٌ فِي صِناعَتِكَ. فَلَوْ حَلَقْتَ لِلْمَلِكِ — حِينَ يَزُورُ حَمَّامَكَ — لَزادَ بِذَلِكَ سُرُورُهُ مِنْكَ.» فَحَسِبَهُ «أَبُو صِيرٍ» مُخْلِصًا فِي نَصِيحَتِهِ، وَشَكَرَها لَهُ، وَوَعَدَهُ بِتَحْقِيقِها. وَلَمَّا خَرَجَ «أَبُو قِيرٍ» مِنْ حَمَّامِ صاحِبِهِ، ذَهَبَ مُسْرِعًا إِلَى الْمَلِكِ، وَقالَ لَهُ: «لَيْسَ فِي قُدْرَتِي يا مَوْلايَ أَنْ أَكْتُمَ عَنْكَ حَقِيقَةَ هَذا الرَّجُلِ الْخَبِيثِ الْماكِرِ، فَقَدْ جاءَ هَذا الْبَلَدَ لِقَتْلِكَ.» فَدُهِشَ الْمَلِكُ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُ. فَقالَ لَهُ «أَبُو قِيرٍ»: «إنِّي أَعْرِفُ هَذا الرَّجُلَ. وَقَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّ مَلِكَ الْجَزائِرِ — الَّذِي انْتَصَرْتَ عَلَيْهِ فِي الْعامِ الْماضِي وَقَهَرْتَهُ — أَوْفَدَهُ إلَى مَدِينَتِكَ لِيَحْتالَ لِقَتْلِكَ، وَوَعَدَهُ بِمُكافَأَةٍ عَظِيمَةٍ إِذا نَجَحَ فِي مَكِيدَتِهِ. فَاحْذَرْهُ — يا مَوْلايَ — وَاحْمَدِ اللهَ عَلَى نَجَاتِكَ مِنْ شَرِّهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى.» فَقالَ لَهُ الْمَلِكُ: «وَما هِيَ الْمَكِيدَةُ الَّتِي دَبَّرَها لِقَتْلِي؟» فَقالَ لَهُ: سَيَدْعُوكَ إِلَى زِيارَةِ حَمَّامِهِ مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ يَقُولُ لَكَ: إنَّهُ حَلَّاقٌ ماهِرٌ، وَإِنَّ الِاسْتِحْمامَ لا يَتِمُّ إِلَّا بِالْحِلاقَةِ. وَقَدْ أَعَدَّ لِقَتْلِكَ مُوسَى ماضِيَةً مَسْمُومَةً». وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي ذَهَبَ «أَبُو صِيرٍ» إِلَى الْمَلِكِ وَدَعاهُ إِلَى زِيارَةِ حَمَّامِهِ، وَلَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ لَهُ، وَرَأَى فِي يَدِهِ مُوسَى الْحِلاقَةِ حَسِبَ «أَبا قِيرٍ» صادِقًا فِي وِشايَتِهِ. فَغَضِبَ عَلَى «أَبِي صِيرٍ» غَضَبًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ كَبِيرَ الْخَدَمِ أَنْ يَضَعَهُ فِي غِرارَةٍ، (أَيْ: زَكِيبَةٍ)، ثُمَّ يُلْقِيَهُ فِي الْبَحْرِ، وَوَقَفَ الْمَلِكُ فِي النَّافِذَةِ لِيَراهُ. وَكانَ كَبِيرُ الْخَدَمِ يُحِبُّ «أَبا صِيرٍ» لِأَدَبِهِ وَمُرُوءَتِهِ. فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَخْتَبِئَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ يُسافِرَ إِلَى بَلَدِهِ فِي أَوَّلِ سَفِينَةٍ قادِمَةٍ حَتَّى لا يَراهُ الْمَلِكُ. وَذَهَبَ كَبِيرُ الْخَدَمِ فَمَلَأَ الْغِرارَةَ (أَيِ: الزَّكِيبَةَ) حِجارَةً وَرَمْلًا، وَوَقَفَ عَلَى شاطِئِ الْبَحْرِ تَحْتَ نافِذَةِ الْقَصْرِ الْمَلَكِيِّ. وَأَشارَ الْمَلِكُ إِلَيْهِ أَنْ يُلْقِيَ الْغِرارَةَ فَأَلْقَاهَا، وَسَقَطَ خاتَمُ الْمُلْكِ مِنْ إِصْبَعِ الْمَلِكِ، وَهُوَ يُشِيرُ بِهِ إِلَى كَبِيرِ الْخَدَمِ. فَعادَ الْمَلِكُ وَهُوَ مَغْمُومٌ أَشَدَّ الْغَمِّ. وَجَلَسَ «أَبُو صِيرٍ» عَلَى شاطِئِ الْبَحْرِ يَصْطادُ السَّمَكَ، فَاصْطادَ سَمَكًا كَثِيرًا. وَلَمَّا شَقَّ السَّمَكَةَ الْأُولَى وَجَدَ فِيها خاتَمَ الْمُلْكِ فَلَبِسَهُ، وَلَمَّا عادَ كَبِيرُ الْخَدَمِ إِلَى بَيْتِهِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ خادِمًا فَأَشارَ إِلَيْهِ «أَبُو صِيرٍ» أَنْ يَحْمِلَ السَّمَكَ، فَسَقَطَ رَأْسُهُ عَنْ جَسَدِهِ. فَدُهِشَ «أَبُو صِيرٍ» أَشَدَّ دَهْشَةٍ. وَلَمَّا جاءَهُ كَبِيرُ الْخَدَمِ، وَرَأَى الْخاتَمَ فِي إِصْبَعِهِ قالَ لَهُ: «احْذَرْ أَنْ تُشِيرَ بِخاتَمِكَ وَإِلَّا أَهْلَكْتَنِي، فَإِنَّ مَلِكَنا لا يَحْكُمُ الرَّعِيَّةَ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ إذا أَشارَ بِهِ إِلَى أَيِّ إِنْسانٍ قَتَلَهُ مِنْ وَقْتِهِ. وَفِي اسْتِطاعَتِكَ أَنْ تَصِيرَ مَلِكَ الْمَدِينَةِ الآنَ.» فَذَهَبَ «أَبُو صِيرٍ» إِلَى الْمَلِكِ وَأَعادَ إِلَيْهِ الْخاتَمَ. فَقالَ لَهُ الْمَلِكُ: «قُلْ لِي بِماذا أُكافِئُكَ عَلَى مَعْرُوفِكَ؟» فَقالَ لَهُ: «أَرِيدُ أَنْ أَعْرِفَ يا مَوْلايَ سَبَبَ غَضَبِكَ عَلَيَّ.» فَأَخْبَرَهُ بِما قالَهُ «أَبُو قِيرٍ». فَعَجِبَ «أَبُو صِيرٍ» مِمَّا سَمِعَ، وَقَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ مَعَهُ فَغَضِبَ الْمَلِكُ عَلَى «أَبِي قِيرٍ»، وَأَمَرَ بِوَضْعِهِ فِي غِرارَةٍ، وَإِلْقائِهِ فِي الْبَحْرِ. وَشَفَعَ فِيهِ «أَبُو صِيرٍ» فَلَمْ يَقْبَلِ الْمَلِكُ شَفاعَتَهُ. وَماتَ «أَبُو قِيرٍ» الْمِيتَةَ الَّتِي دَبَّرَها لِصاحِبِهِ، أَمَّا «أَبُو صِيرٍ» فَقَدْ كافَأَهُ الْمَلِكُ أَحْسَنَ مُكافَأَةٍ. وَعادَ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَصارَ مِنْ أَغْنِيائِها. وَقَضَى حَياتَهُ كُلَّها عَلَى أَحْسَنِ حالٍ، وَأَهْنَأِ بالٍ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/19491969/
أبو الحَسَن
كامل كيلاني
تحكي هذه القصة عن أبي الحسن الذي ورث عن أبيه مالاً كثيرًا، وقد قسمه إلى نصفين، نصف لأصدقائه وقد أنفقه سريعًا، فهجرته صحبته حين خُيّل إليهم أنه أصبح فقيرًا، أما النصف الآخر فنصحته أمه أن يحافظ عليه من أصدقاء السوء، فتعلم من الدرس السابق ألا يصاحب أحدًا أكثر من يوم، وفي يوم من الأيام كان أبو الحسن ينتظر أحدًا يسامره يومًا كما قرر، فإذا الخليفة هارون الرشيد يأتي متخفيًا في زي تاجر، فيخبره أبو الحسن أنه على استعداد لصداقته ليوم واحد فقط، ولما سأله الخليفة عن سبب ذلك السلوك العجيب أخبره بقصته، وبأمنيته أن يصبح خليفة ولو ليوم لينتقم من أصدقاء السوء، فيحقق له هارون الرشيد أمنيته دون أن يدري، ليستيقظ ويجد نفسه في قصر الخلافة، وهنا تبدأ أحداث القصة المثيرة.
https://www.hindawi.org/books/19491969/1/
أبو الحَسَن
نَشَأَ «أَبُو الْحَسَنِ» فِي مَدِينَةِ «بَغْدادَ» فِي زَمَنِ الْخَلِيفَةِ «هارُونَ الرَّشِيدِ». وَكانَ أَبُوهُ غَنِيًّا جِدًّا، فَلَمَّا ماتَ وَرِثَ مِنْهُ أَمْوالًا كَثِيرَةً، فَقَسَمَها قِسْمَيْنِ مُتَساوِيَيْنِ، وَادَّخَرَ نِصْفَ ثَرْوَتِهِ، وَوَقَفَ الْنِّصْفَ الْآخَرَ عَلَى مَسَرَّاتِهِ وَمَبَاهِجِهِ، فاجْتَمَعَ حَوْلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الأَصْحابِ الَّذِينَ تَظاهَرُوا لَهُ بِالْحُبِّ وَالإِخْلاصِ. وَقَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ نِصْفَ ثَرْوَتِهِ فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ. ثُمَّ تَظاهَرَ لَهُمْ بِالْفَقْرِ، فَهَجَرُوهُ وَامْتَنَعُوا عَنْ زِيارَتِهِ. فَذَهَبَ «أَبُو الْحَسَنِ» إِلَى أُمِّهِ بَاكِيًا، وَقَصَّ عَلَيْهَا غَدْرَ أَصْحابِهِ الَّذِينَ هَجَرُوهُ لِفَقْرِهِ، فَقالَتْ لَهُ: «إِنَّهُمْ لَمْ يُصاحِبُوكَ إِلَّا لِمَالِكَ، فَلَمَّا عَلِمُوا بِفَقْرِكَ هَجَرُوكَ، فاحْتَفِظْ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ ثَرْوَتِكَ، وَانْتَفِعْ بِهذَا الدَّرْسِ الْقاسِي الَّذِي تَعَلَّمْتَهُ يا وَلَدِي.» فَأَقْسَمَ «أَبُو الْحسَنِ» أَنَّهُ لَنْ يَعُودَ إِلَى مُصاحَبَةِ رِفاقِهِ الْقُدَماءِ، وَلَنْ يُصاحِبَ بَعْدَ الْيَوْمِ إِلِّا الْغُرَباءَ الَّذِينَ لا يَعْرِفُهُمْ، وَلَنْ تَدُومَ صُحْبَتُهُ مَعَ أَحَدٍ مِنَ الْنَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ لَيْلَةٍ واحِدَةٍ؛ فَكانَ يَقِفُ عَلَى الْجِسْرِ وَقْتَ الْغُرُوبِ، فَإِذا رَأَى غَرِيبًا قَادِمًا عَلَيْهِ دَعاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَضَافَهُ عِنْدَهُ وَأَكْرَمَهُ طُولَ لَيْلَتِهِ، فَإِذا طَلَعَ الصُّبْحُ وَدَّعَهُ وأَنْكَرَهُ، وَأَبَى أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا. وَقَدْ أَخَذَ نَفْسَهُ بِهَذِهِ الْخُطَّةِ سَنَةً كَامِلَةً. وَوَقَف «أَبُو الْحَسَنِ» — عَلَى عَادَتِهِ — ذاتَ مَساءٍ عِنْدَ الْجِسْرِ، فَرَأَى الْخَلِيفَةَ «هارُونَ الرَّشِيدَ»، وَكانَ قَدْ خَرَجَ فِي زِيِّ تاجِرٍ قادِمٍ مِنَ «الْمَوْصِلِ»، وَمَعَهُ خَادِمُهُ، فَرَحَّبَ بِهِ «أَبُو الْحَسَن»، وَدَعاهُ إِلَى بَيْتِهِ، بَعْدَ أَنْ أَخَذَ عَلَيْهِ الْمَواثِيقَ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهُ لَيْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ لا يَلْقَاهُ بَعْدَها أَبَدًا. فَعَجِبَ الْخَلِيفَةُ، وَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ هذا، فَأَخْبَرَهُ «أَبُو الْحَسَنِ» بِقِصَّتِهِ كُلِّها، فَاشْتَدَّ عَجَبُهُ، وَسارَ مَعَهُ الْخَلِيفَةُ وَخَادِمُهُ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى الْبَيْتِ. وَرَأَى الْخَلِيفَةُ مِنْ كَرَمِ «أَبِي الْحَسَنِ» ما أَدْهَشَهُ فَسَأَلَهُ: «أَلا تَتَمَنَّى شَيْئًا يا أَبا الْحَسَنِ؟» فَقالَ لَهُ: «أَتَمَنَّى أَنْ أُصْبِحَ خَلِيفَةً، وَلَو يَوْمًا وَاحِدًا، لِأُعاقِبَ خَمْسَةً مَنْ الْأَشْرارِ، يَعِيشُونَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَنْزِلِيِ، وَيَدْخُلُونَ فِيما لا يَعْنِيهِمْ، وَلا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ شَرِّهِمْ.» فَضَحِكَ الْخَلِيفَةُ مِنْ قَوْلِهِ، وَعَزَمَ عَلَى تَحْقِيقِ أُمْنِيَّتِهِ. ثُمَّ غَافَلَهُ وَوَضَعَ دَواءً مُنَوِّمًا فِي شَرَابِهِ، فَلَمْ يَكَدْ يَشْرَبُهُ حَتَّى نامَ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ خَادِمَهُ أَنْ يَحْمِلَ «أَبا الْحَسَنِ» إِلَى قَصْرِهِ، وَيَضَعَهُ عَلَى سَرِيِرِهِ، وَيُلْبِسَهُ مَلابِسَهُ. ثُمَّ أَمَرَ كُلَّ مَنْ فِي قَصْرِهِ أَنْ يُطِيعُوا «أَبا الْحَسَنِ» فِي كُلِّ ما يَأْمُرُهُمْ بِهِ، بَعْدَ أَنْ يُوهِمُوهُ أَنَّهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ «هارُونُ الرَّشِيدُ». وَلَمْ يَكَدِ الْفَجْرُ يَطْلُعُ حَتَّى أَيْقَظُوهُ مِنْ نَوْمِهِ، فَدَهِشَ «أَبُو الْحَسَنِ» حِينَ رَأَى نَفْسَهُ فِي سَرِيرِ الْخَلِيفَةِ — وَهُوَ مِنَ الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ — وَحَوْلَهُ الْجَوارِي وَالْخدَمُ يُنادُونَهُ خاشِعِينَ: «عِمْ صَباحًا يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.» وَظَنَّ «أَبُو الْحَسَنِ» انَّهُ فِي حُلْمٍ، فَلَمَّا أَثْبَتُوا لَهُ أَنَّهُ يَقْظانُ، وأَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ الْخَلِيفَةُ عَظُمَتْ دَهْشَتُهُ. ثُمَّ مَثَلَ الْوَزِيرُ «جَعْفَرٌ» بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقالَ لَهُ: «لَقَدِ اكْتَمَلَ الْمَجْلِسُ يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.» ثُمَّ سارَ مَعَهُ حَتَّى أَجْلَسَهُ عَلَى عَرْشِ الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ حَائِرٌ ذَاهِلٌ مِنْ شِدَّةِ الدَّهْشَةِ. وَكانَ الْخَلِيفَةُ يُرَاقِبُهُ مِنْ نَافِذَةٍ عَالِيَةٍ، وَقَدْ تَمَلّكَهُ السُّرُورُ والْفَرَحُ. وَلَمْ يَكَدْ «أَبُو الْحَسَنِ» يَجْلِسُ عَلَى الْعَرْشِ حَتَّى أَمَر كَبِيرَ الشُّرْطَةِ أَنْ يُنَكِّلَ بِأُولَئِكَ الأَشْرَارِ الْخَمْسَةِ، أعْنِي: يُعاقِبُهُمْ عِقابًا شَدِيدًا يَجْعَلُهُمْ عِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ، كَما أَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَ أُمَّ «أَبِي الْحَسَن» كِيسًا فِيهِ أَلْفُ دِينارٍ. وَبَعد قَلِيلٍ ذَهَبَ «أَبُو الْحَسَنِ» إِلَى غُرْفَةٍ أُخْرَى، فَحَضَرَتِ الْجَوارِي وَظَلَلْنَ يَعْزِفْنَ عَلَى الْعُودِ وَيُغَنِّينَ أَحْسَنَ الْغِنَاءِ، وَهُوَ لا يَعْرِفُ: أَهُوَ فِي يَقَظَةٍ أَمْ هُوَ حَالِمٌ؟ وَلَمَّا أَقْبَلَ اللَّيْلُ وَضَعُوا لَهُ فِي شَرابِهِ دَواءً مُنَوِّمًا، فَلَمْ يَكَدْ يَشْرَبُهُ حَتَّى نامَ، فَحَمَلُوهُ إِلَى بَيْتِهِ. وَلَمَّا طَلَعَ الصُّبْحُ، وَرَأَى نَفْسَهُ نَائِمًا عَلَى سَرِيرِهِ، صَرَخَ مِنْ شِدَّةِ الدَّهْشَةِ وَالْأَلَمِ، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ وَسَأَلَتْهُ عَنْ سَبَبِ صِياحِهِ، فَقالَ لَها: «أَلَسْتُ أَنا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: هارُونَ الرَّشِيدَ؟» فَقالَتْ لَهُ: «هَلْ جُنِنْتَ يا وَلَدِي؟ أَنْتَ أَبُو الْحَسَن.» فَقالَ لَها: «كَلَّا بَلْ أَنا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.» فَحاوَلتْ أَنْ تُسَلِّيَهُ وَتُعِيدَ إِلَيْهِ عَقْلَهُ، وَقَصَّتْ عَلَيْهِ ما نَزَلَ بِأَعْدائِهِ مِنْ عِقابٍ، وَأَحْضَرَتْ لَهُ الْكِيسَ الَّذِي أَرْسَلَهُ إِلَيْها الْخَلِيفَةُ — أَمْسِ — وَفِيهِ أَلْفُ دِينارٍ. فَعَرَفَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حالِمًا، وَقالَ لِأُمِّهِ: «الآنَ أَيْقَنْتُ أَنَّنِي أَنا الْخَلِيفَةُ، وَقَدْ أَمَرْتُ — أَمْس — كَبِيرَ الشُّرْطَةِ بِضَرْبِ هؤُلاءِ الأَشْرارِ، وَإِرْسالِ هذا الْكِيسِ إِلَيكِ.» فَحَاوَلَتْ أُمُّهُ أَنْ تُقْنِعَهُ بِأَنَّهُ وَاهِمٌ فِي ظَنِّهِ، فَاشْتَدَّتْ ثَوْرَتُهُ وَهِياجُهُ، وَأَقْبَلَ الْجِيرانُ يَسْأَلُونَ عَنِ الْخَبَرِ، وَما كادُوا يَسْمَعُونَ قَوْلَهُ: إنَّهُ الْخَلِيفَةُ حَتَّى اعْتَقَدُوا أَنَّهُ جُنَّ. فَحَمَلُوهُ إِلَى الْبِيمارِسْتانِ حَيْثُ قَضَى شَهْرًا. وَلَمْ يُخْلُوا سَبِيلَهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ عادَ إِلَيْهِ رُشْدُهُ وَقَرَّرَ لَهُمْ أَنَّهُ «أَبُو الْحَسَنِ». ثُمَّ خَرَجَ «أَبُو الْحَسَنِ» — عَلَى عَادَتِهِ — إِلَى جِسْرِ «بَغْدادَ» فَلَقِيَ الْخَلِيفَةَ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَهُوَ فِي زِيِّ تَاجِرٍ، فَحَيَّاهُ الْخَلِيفَةُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ تَحِيَّتَهُ، فَظَلَّ الْخَلِيفَةُ يَتَوَدَّدُ إِلَيْهِ حَتَّى رَضِيَ عَنْهُ «أَبُو الْحَسَنِ»، وَدَعَاهُ إِلَى بَيْتِهِ، وَأَفْضَى إِلَيْهِ بِما حَدَثَ لَهُ، فَتَأَلَّمَ الْخَلِيفَةُ لِما أَصابَهُ. وَلَمَّا جاءَ وَقْتُ الْنَّوْمِ أَلْقَى الْخَلِيفَةُ الدَّواءَ فِي شَرابِ «أَبِي الْحَسَن»، فَقامَ الْخادِمُ وَحَمَلَهُ إِلَى الْقَصْرِ. وَجاءَ الصَّباحُ فَأَيْقَظُوهُ. وَرَأَى نَفْسَهُ فِي قَصْرِ الْخَلِيفَةِ مَرَّةً أُخْرَى، وَالْجَوارِي حَوْلَهُ يُحَيِّينَهُ، فارْتَبَكَ «أَبُو الْحَسَنِ»، وَكادَ يُجَنُّ مِنَ الدَّهْشَةِ، وَخُيِّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ فِي مَنامٍ. ثُمَّ غَنَّتْهُ الْجَوارِي، وَأَقْبَلْنَ عَلَيْهِ بَاسِماتٍ. وَجَاءَهُ الْوَزِيرُ «جَعْفرٌ» يُحَيِّيهِ، فَقالَ أَبُو الْحَسَنِ»: «مَنْ أَنا؟ أَتُرانِي حالِمًا؟» فَقالَ لَهُ: «أَنْتَ الْخَلِيفَةُ هَارُونُ الرَّشِيدُ.» فَقالَ «أَبُو الْحَسَنِ» لِأَحَدِ الْخَدَمَ: «إِذا كنْتُ أَنا فِي يَقَظَةٍ فَعَضَّ أُذُنِي، لِأَثِقَ بِأَنَّنِي يَقْظَانُ، وأتَثَبَّتَ مِنْ أَنَّنِي لَسْتُ فِي حُلْمٍ.» فَعَضَّ الْخادِمُ أُذُنَهُ، فَصَرَخَ «أَبُو الْحَسَنِ» مِنْ شِدَّةِ الأَلَمِ، وَقالَ: «الآنَ عَرَفْتُ أَنَّنِي لَسْتُ نَائِمًا، وَأَيْقَنْتُ أَنَّنِي لَمْ أَكُنْ حَالِمًا. الآنَ أَدْرَكْتُ أَنَّنِي الْخَلِيفَةُ هارُونُ الرَّشِيدُ.» وَظَلَّ «أَبُو الْحَسَنِ» يَعْجَبُ مِمَّا يَراهُ فِي قَصْرِ الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ يَتَرَدَّدُ فِي تَصْدِيْقِ ما تَراهُ عَيْناهُ وَتَسْمَعُهُ أُذُناهُ. ثُمَّ صاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ، وَقَدْ كادَ يُجَنُّ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: «لا شَكَّ فِي أَنَّنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلا رَيْبَ فِي أَنَّنِي لَسْتُ أَبا الْحَسَنِ!» وَكانَ الْخَلِيفَةُ يَرَى ذلِكَ كُلَّهُ وَيَسْمَعُهُ، فَدَخَلَ الْغُرْفَةَ، وَقَدْ كادَ يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شِدَّةِ الضَّحِكِ. فَعَرَفَهُ «أَبُو الْحَسَنِ»، وَأَدْرَكَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ، وَارْتَمَى عَلَى قَدَمَيْهِ يُقَبِّلُهُما. وَفَرِحَ بِهِ الْخَلِيفَةُ وَعانَقَهُ، وَغَمَرَهُ بِالْهَدايا وَالْمالِ، وَاتَّخَذَهُ نَدِيمًا لَهُ مُنْذُ ذلِكَ الْيَوْمِ. •••
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/86057520/
عود على بدء
إبراهيم عبد القادر المازني
هل دار بخلدك يومًا بعد أن صرت شيخًا، وشاب شعرك، واصطكت ركبتاك من الكبر، أن تصحوا من نومك لتجد نفسك وقد صرت صبيًّا يافعًا نشيطًا؟ فتبدل الصوت غير الصوت، والشكل غير الشكل، والصحة غير الصحة! فصار صوتك أنعم، وشكلك أصغر، وصحتك أقوى. هل خيِّل إليك يومًا أن أدوارك في الحياة يمكن أن تتبدل؟ فيصير ابنك أكبر منك سنًّا، وتصير زوجتك أمك! ماذا لو حدث لك كل ذلك وبقيت ذاكرتك هي الأمر الوحيد فيك الذي لم يتبدل؟ هذا هو لسان حال بطل هذه القصة، ذلك الرجل الذي اختلطت عليه الحدود، فلا يدري أحقيقة ما هو به؟ أم حلم؟
https://www.hindawi.org/books/86057520/1/
الفصل الأول
قالت امرأتى ونحن ندنو بالسيارة من طنطا: «بعد زيارة السيد البدوى، مل بنا إلى بيت الشيخة صباح لنسلم عليها.» قلت: «لا صباح ولا مساء. الوقت ضيق …». قالت: «أرجو، لأجل خاطرى …». قلت: «يا امرأة، ألا تتقين الله فى هذا العبد الصالح الذى سخره الله لخدمتك وخدمة بنيك»؟ قالت متهكمة، مستضحكة: «أنت عبد صالح»؟ قلت: «من حسن الحظ أنه لن تنصب امرأة لنا الميزان يوم الحساب. على كل حال، نحن الاَن بعد العصر، وما زال علينا — علىّ أنا — أن نقطع مائة كيلو وزيادة قبل أن نبلغ القاهرة، وأخشى أن يتحلل بى التعب إذا أدركنا الليل قبل أن أفرغ من الطريق، أم ترى تعبى راحة لك؟ ثم إنك قد سلّمت عليها منذ أربعة أيام ليس إلا، فما حاجتك إلى سلام جديد؟ أهو زاد تتزودينه للطريق»؟ قالت، وكأنها تحلم: «لست أشبع من النظر إلى حسن وجهها». وقد صدقت. فقد كانت الشيخة صباح، على الرغم من «التمشيخ» غيداء، حسناء، مبتلّة، ورطبة حلوة، يجرى ماء الشباب فى محيّاها من نضرة النعمة، ولو طبع وجهها على «جُنَيْهٍ» لزانته وأغلته، وكان شعرها، الفاحم السبط، والورد الذى تتضرّخ به وجنتاها من آيات صنع الله، تبارك وتعالى من خلاق عظيم، أما عينها النجلاء الرقيقة الجفن «الجِّنيةُ» الانسان فأنقذ من أشعة «إكس» إلى حنايا الصدور وطوايا القلوب. وقلت: «إذا كنت تشعرين أنك لن تطيقى الحياة إلا إذا حملتك إلى ذلك البيت الضيق لأختنق ساعة بالبخور المنطلق من المجامر حتى تتفضل فتبرز لك، وتمن عليك بإنبائك — وأنا من الشاهدين — أن «أمامك سفراً …». فصاحت بى مقاطعة: «اسكت، وحذار أن تذكرها بغير الخير». فكست، وما حيلتى؟ ••• ورفع السجف، ودخلت علينا الشيخة صباح مسترسلة الأعطاف، ناعمة، غير متثنية على لينها، كأنها مَلِكة. وكانت ترتدى ثوباً أبيض رقيقاً من الكتان، وتغطى رأسها بِشفٍّ ينسدل على جانبي وجهها إلى كتفيها وصدرها الناهد، ويحجب جيدها الأتلع ويدور على ذقنها إلى قريب من ثغرها الدقيق الرفاف الشفتين الذى ما خلق إلا للقبلات الحرار، لا لما يلهج به، وأستغفر الله.. وقبّلتْ زوجتى، ومدت إلىّ يداً هممت أن أبوسها بطناً وظهراً، لولا هذه الزوجة التى لا تزال تظلمنى بسوء ظنها. ولما دارت القهوة. نظرت إلىّ وقالت: «أرنى كفيك … ابسطهما». ولمستهما لمساً خفيفاً ثم أرسلتهما وأطرقت شيئاً ثم رفعت رأسها وحدقت فىّ دون أن تطرف وقالت: «ستُعطى ما لم تطلب، وتُؤتى ما لا يباع ولا يشترى، وتُسْلَبُهُ فى اليوم نفسه …». فرفعتُ عينى إلى السماء — أو إلى السقف — ولمحت زوجتى وقد أخذ كتفاها يهتزان من الضحك المكتوم. ومضت الشيخة صباح فى كهانتها غير عابئة بنا: «… وسيُنضى عنك ثوب الرجولة … إلى حين يا صاحبى». ونحّت وجهها عنى. وقالت وهى تودعنا: «أحسبنى لم أخاطب منك سوى أذنيك، فإنى أحس أن قلبك بعيد …». فأكدت لها أنه «ما زال فى موضعه، تحت الضلع العاشر، أم تراه الخامس عشر؟ معذرة، فلست أعرف عدد هذه الضلوِع». فجذبتنى امرأتى، من ذراعى، ثم دفعتنى خارجاً، وسمعتها تقول للشيخة صباح: «إنه يمزح … فلا تغضبى عليه». فقرضت أسنانى، ولم أقل شيئاً.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/86057520/
عود على بدء
إبراهيم عبد القادر المازني
هل دار بخلدك يومًا بعد أن صرت شيخًا، وشاب شعرك، واصطكت ركبتاك من الكبر، أن تصحوا من نومك لتجد نفسك وقد صرت صبيًّا يافعًا نشيطًا؟ فتبدل الصوت غير الصوت، والشكل غير الشكل، والصحة غير الصحة! فصار صوتك أنعم، وشكلك أصغر، وصحتك أقوى. هل خيِّل إليك يومًا أن أدوارك في الحياة يمكن أن تتبدل؟ فيصير ابنك أكبر منك سنًّا، وتصير زوجتك أمك! ماذا لو حدث لك كل ذلك وبقيت ذاكرتك هي الأمر الوحيد فيك الذي لم يتبدل؟ هذا هو لسان حال بطل هذه القصة، ذلك الرجل الذي اختلطت عليه الحدود، فلا يدري أحقيقة ما هو به؟ أم حلم؟
https://www.hindawi.org/books/86057520/2/
الفصل الثاني
ولما صرنا فى البيت، وجلسنا إلى المائدة نتعشى، قال أحد الشقيين — ولدىّ ولا فخر: «هل تعلمين يا ماما أنك عدت أصبى وأجمل؟ ومع ذلك لم تغيبى سوى أيام أربعة». قلت: «لا عجب. فقد استراحت من وجع الرأس الذى تورثانها». فضحك الشقى الأكبر، وعاد الأصغر يقول: «صحيح يا ماما — رجعت بنت عشرين». فقلت: «فى مثلك سنك وتنافق، وتداهن، وتتملق، فكيف إذا دخلت مداخل الرجال»؟ فألقت إلىّ نظرة تنطوى على نذير أعرفه بالتجربة، فلئن لم أستدرك ليحيقن بى ما أكره من ائتمارها مع هذين اللعينين، فقلت: «وهل رأيتَها أسنّت وكبرت، وشابت، وشيّخت حتى تقول إنها ارتدت بنت عشرين؟ ومتى كانت إلا بنت عشرين أو أقل … رفافة الحسن..». «ولو …». فبلعت ريقى، وبلعت معه لقمة بلا مضغ. وعاد الأصغر يسأل — فإنه ثرثارة مشهور: «قولى لى يا ماما. ماذا تصنعين إذا رُددت بنت عشر»؟ قالت بسرعةَ: «أذهب ألعب معكما». قال: «وبابا..؟ ماذا يصنع»؟ قالت، وهزت كتفيها: «يصنع ما بدا له.. مالى أنا»؟ قال: «وتظلين زوجته»؟ قالت، وعينها علىّ: «أظل زوجة هذا الذى تصطك ركبتاه من الكبر»؟ ولم يكن عندى لهذا الطعن القبيح المفاجئ، جواب حاضر. وعلى أنها لم تمهلنى فمضت تقول: «بل كنت أنتظر حتى أبلغ وأرشد، ثم أزف إلى فتى نجيب بارع عليه طلاوة، وله مال، وفى خلقه دماثة، وفى نفسه طيب وخير». فقلت: «حسبك! والله يسامحك، وما أظن بك إلا أنك ستعذبين فى جهنم الحمراء عذاباً غليظاً طويلا يما تجحدين من نعمة سيدك وتاج رأسك …». وسكنت الثورة، وقرت الفورة، وجمعت الخادمة ما على الأرض من المقذوفات المرتجلة المصنوعة من لباب الخبز الطرى على هيئة الكرات الصغيرة. وهى خادمة «فلكية» تغنيني عن مرصد، فترينى نجوم السماء طرًّا في الظهر الأحمر. ورثتها عن أمى. لأنها — أى الخادمة — آنقذتها من بين أخفاف الابل فى طريق «منى» قبل عهد السيارات. وكانت أمى رحمها الله قد استصحبتها فى حجها الأول لتقوم على خدمتها. ولعلها آنست منها القدرة على الشيل والحط. وكانت — أى أمى — وهنانة لا عهد لها بالجِمال ولا قدرة على احتمال المخض من سيرها فدار رأسها فتدحرجت وهوت إلى الأرض. فلولا أن نطت الخادمة ورفعتها لقُضى عليها فحفظت لها هذا الجميل، وأبت أن تسرحها بعد ذلك، وأوصتنى بها خيراً، وهكذا ورثتها عنها. والإرث يباع، أو يرهن، أو يوهب أو يبدد. ولكن الدول، كما تعلم، آجمعت — لمكيدتى — على تحريم الرق. فلا سبيل إلى بيع هذه الخادمة أو رهنها أو وهبها. ثم إنها لا تساوى ملء أذنها نخالة. ومن المستحيل تبديدها لانها هائلة الأنحاء جدًّا. والعمر— كل العمر — أقصر من أن يتسع لهذا الجهد. وعسير جدًّا إضاعتها لأنها تعرف الطريق إلى البيت. ولعله كل ما تعرفه. وقد خطر لى أن أتخلص منها، كما تتخلص الناس من قطة مزعجة لم يبق فيها خير، فيضعونها فى غرارة ويحملونها إلى مكان سحيق، وهناك يطلقونها أو يدلقونها، فتضل الطريق ولا تعود. ولكن أين الغرارة التى تسعها — أعنى الخادمة — وأين الكتف التى تقوى على حملها؟ فهى قعيدة البيت ولا حيلة لى فى ذلك. وشر ما فيها، إخلاصها، ومن العجائب أن تنقلب المحمدة مذمة، والمزية منقصة، والفضيلة رذيلة. ولكنها الدنيا وأنت سيد العارفين. وكل ما فيها اعتبارى، كما لا أحتاج أن أبين لك. قمت مرة برحلة مع صديق لى، فأضافنا رجل كريم، سيد ماجد. ففرحنا وزهينا. فإن مثله يفخر المرء بأن يكون — أى المرء — ضيفاً عليه. وكان يسبق كل رغبة لنا باقتراحها وتحقيقها. ويعنى براحتنا وسرورنا، عناية لم تترك لنا رأياً أو إرادة أو شعوراً حتى بحرية التفكير. وكانت مبالغته فى تحرى مرضاتنا، عن كرم وإحساس مرهف بالواجب، لا عن ثقل نفس، أو رغبة فى التظاهر. وكنا على يقين من هذا. ولكنا مع ذلك ضقنا ذرعاً بهذا الكرم. وما كدنا نرحل حتى تشهدنا كأنا كنا سجناء. وما زلنا نضحك كلما تذكرنا كيف ظلمنا هذا الرجل الكريم وغمطنا حقه وجحدنا فضله. وأعود إلى هذه الخادمة المخلصة الأمينة فأقول إنى أغلط أحياناً فأناديها وأطلب أن تجيئنى بشىء، فتجيئنى بخلافه. ولا تغلط مرة واحدة فتجىء بما أريد. أقول: «هاتى الكبريت». وليس فى لفظ الكبريت ولا فى حروفه ما يمكن أن يلتبس «بالجبن الرومى». وهى ليست بالصماء فإن سمعها كسمع القطة، وأنا خفيض الصوت ولكنى آتوخى معها أن أزعق وأصيح، حتى ليبح صوتى، ويوجعنى حلقى، وأمرض يوماً أو يومين ومع ذلك لا تكاد تسمعنى أطلب الكبريت حتى تقول: «حاضر» وتعمد إلِى ملاءة سوداء تلفها على نفسها — فإنها حيية — وتخرج فتشترى لى جبناً قد يكون روميًّا غير مزيف أو مقلد، ولكنه لم يخطر لى على بال، ولا كانت لى رغبة فيه. وأراها مقبلة علىّ تحمل على كفيها صينية عليها طبق فيه الجبن الرومى وشوكة وسكينة وفوطة ولقمة — فإنها تدرك من تلقاء نفسها وبغير حاجة إلى تلقين أن الجبن لا يؤكل وحده فلابد من خبز معه، وما دام سيدها سيأكل، وقد اشتهت نفسه الجبن الرومى فهل تتركه يوسخ يده؟ معاذ الله، وهذا هو تفسير الشوكة والسكينة. وأنظر إلى هذا الذى على يديها فأتميز من الغيظ. وأكاد أطق وأنفلق، ولكنى ألمّ نفسى بجهد، وأهز رأسى، وأروح أتعجب لقدرة ربى على خلق كل هذه الأصناف من الناس. هذه امرأة لها كل ما لى — تقريباً — من الأعضاء. وليس ينقصها شىء. وهى تتكلم العامية التى نتكلمها ولا أعرف لها لغة غيرها. ومع ذلك لكل لفظ فى هذه اللغة معنى عندها غير معناه عندنا. فالكبريت معناه الجبن الرومى. والكتاب معناه طاحونة البن. والكلب معناه «الخيط وإلابرة». والكمون معناه السجاير إلخ.. حتى لقد خطر لى أن الألفاظ التي تبدأ بالكاف هى التى انفردت عندها بهذا الحال المقلوب. وأنا أحصى هذه الألفاظ — إيثاراً للراحة — وآثْبت معانيها إلى جانبها ليتسنى لى أن أخاطبها بلغتها فأقول لها مثلا: «خذى اشترى لى كموناً» ويكون مرادى السجاير. أو: «هاتى كلباً وخيطى هذا الزرار» وإذا مر بالشارع الذى يصلح طواحين البن قلت: «خذى الكتاب فأصلحيه عنده» أو: «اشترى لنا كرنبا» أى بترولا … إلخ إلخ ولكنى أخشى أن تتطور اللغة عندها وتكتسب الألفاظ كل بضعة أيام معانى جديدة فيذهب تعبى سدى. وآه إذا مرضت … تلازمنى ولا تبرح كرسيها إلى جانب سريرى، وليتها تسكت ولكنها لا تكف عن الكلام والدعاء والتنهد وضرب الكف بالكف. ثم ليت هذا كان كل ما تصنع فإنها تفتأ تجسنى، وتلفنى، وتدس اللحاف تحتى هنا، وههنا، وتسوى لى المخدة، وترفع رأسى وتحطها، وتستخبرنى عن حالى ومبلغ سوِئه، حتى يكاد عقلى يطير. وما دمت مفطوماً عن طعام أهل البيت وملتزماً الحمية الموصوفة فهى صائمة، لا كصيام المسلمين من عباد الله، بل كصيام غاندى إلا عن قطرات من الماء كحسو الطائر، لبل الريق. وربما تعجبت لها وتساءلت: «أترى أمى لم تكن أمى، بل تبنتنى، وهذه هى أمى الحقيقية؟ وإذا لم يكن ذاك — وأرجو ألا يكون — فهل الأمومة عندها قوية إلى هذا الحد؟ ولكأنى بها تنظر إلى ضخامة جسمها، وذهابه طولا وعرضاً، وضاَلة جسمى وهزاله فتحنو على، وترأمنى». وأقول قد برمت بهذا العطف «الفاحش»: «ما كان ضر أمى لو نسيت أن توصينى بها قبل موتها»؟ ويجىء الطبيب، وهو يعرفها ويطيب له أن يعابثها، فيهول عليها بما أصابنى من برد أو غيره، فتروح تبكى وتندبنى، قبل الأوان سامحها الله! وينال الطبيب جزاءه أيضًا. فتأخذ بتلابيبه ولا تدعه يبرح غرفتى إلا بحيلة يحتالها. ولولا ذلك لسجنته معى حتى أشفى. وكثيرًا ما يقول لها: «يا ستى الحاجة الشفاء من الله، ولست إلا واسطة خير». فلا تقتنع ولا تطلق سراحه. وأقول لامرأتى: «هاتى لى كل ما أمر الطبيب باجتنابه من الأكل». فتسأل عن السبب فأقول: «إن هذه الحاجة لا تقتنع بأنى شفيت إلا إذا أكلت ما يأكل الناس. ولن تعفينى من عطفها ما لم أفعل. فاصنعى معروفاً وأطعينى وأمرى إلى الله. وسأموت على التحقيق وسيكون دمى في عنقها ولكن ما حيلتى»؟ فتضحك الزوجة وتقول: «لا تغالط. إنما تريد أن تأكل وتخالف أمر الطبيب». فأقسم بكل يمين أعرفها. ولكن من يصدق؟ حتى أنا، ينتهى الأمر بأن يساورنى الشك، أحياناً، ولى العذر …. ••• وقالت امرأتى تخاطب أصغر الشقيين: «لقد أذكرنى سؤالك حكاية سمعتها، أو قرأتها، وأنا صغيرة. قالوا إن ملكاً واسع السلطان، أسن ولم يرزق ولدًا، وكان تقيًّا صالحًا فدعا الله أن يرده شابًّا. ونام فهتف به هاتف أن قم فكل من شجرة التفاح، فإن عليها ثمرة فى غير أوانها. وكان له بستانى هرم همٌّ يتوكأ على العصا، وكان يجوس خلال البستان، فبلغ الشجرة ونظَر فإذا ثمرة ناضجة تتدلى فتعجب، ومد يده فقطفها، وخطر له أن يهديها إلى الملك، غير أنه راجع نفسه، واستقل الهدية وإن كانت نادرة، وقال لنفسه إن تفاحة واحدة ولو كانت فى غير أوانها، لا تستحق أن ترفع إلى ملك، وليس يضيرنى أن أكلها، فلن يفتقدها أحد وهذا غير أوان التفاح، ثم إنى جوعان فما طعمت فى يومى شيئاً. فأهوى عليها بأسنانه حتى أتى عليها، وعاد إلى كوخه فنام. وجاء الملك بعد قليل، فلم يجد تفاحة، ولا إيذانًا بتفاحة، فلم يستغرب، وقال ما كان لى أن أتوقع غير ذلك، إن هى إلا أضغاث أحلام. وكر راجعًا إلى قصره. وأقبل ابن البستان على الكوخ ليوقظ أباه، فألفى فى فراشه فتى منظرانيًّا فتعجب وتساءل من عساه يكون؟ وأيقظه وراح يسأله من يكون؟ وماذا جاء به؟ وماذا يصنع فى كوخ أبيه؟ فقال: «أنا أبوك … ألا تعرفنى»؟ قال: «أبى؟ وكيف يمكن ان تكونه وأنت أصغر منى وأصبى»؟. وأمسكت. وجلسنا صامتين ننتظر البقية. فضحكت وقالت: «نسيت بقية الحكاية». فصاح بها الشقيان محتجين: «لا، لا، لا، يا ماما … هذا لا يجوز …». قالت: «فليتمها بابا». قلت: «كيف يمكن أن أفعل وأنا ما سمعتها إلا الساعة»؟ قالت، وهى تنهض عن المائدة وترفع أطباقًا: «أليست دعواك أنك واسع الخيال؟ تخيل إذن، ولا تخيب أمل ولديك …». فنهضت مثلها، ودنوت منها، وغافلتها، وقرصتها، فلولا لطف الله لتهاوت الأطباق قطعًا متناثرة.. وكانت ساعة! ثم لاحت لى فرصة، ففررت إلى غرفتى، وأوصدت بابها.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/86057520/
عود على بدء
إبراهيم عبد القادر المازني
هل دار بخلدك يومًا بعد أن صرت شيخًا، وشاب شعرك، واصطكت ركبتاك من الكبر، أن تصحوا من نومك لتجد نفسك وقد صرت صبيًّا يافعًا نشيطًا؟ فتبدل الصوت غير الصوت، والشكل غير الشكل، والصحة غير الصحة! فصار صوتك أنعم، وشكلك أصغر، وصحتك أقوى. هل خيِّل إليك يومًا أن أدوارك في الحياة يمكن أن تتبدل؟ فيصير ابنك أكبر منك سنًّا، وتصير زوجتك أمك! ماذا لو حدث لك كل ذلك وبقيت ذاكرتك هي الأمر الوحيد فيك الذي لم يتبدل؟ هذا هو لسان حال بطل هذه القصة، ذلك الرجل الذي اختلطت عليه الحدود، فلا يدري أحقيقة ما هو به؟ أم حلم؟
https://www.hindawi.org/books/86057520/3/
الفصل الثالث
فكأنما أوصدته دون عالمى كله.. وكنت قد أشعلت سيجارة، واستلقيت على جنبى معتمدًا بكوعى على المخدة، ومسندًا رأسى إلى كفى، وذهبت أفكر فى أمر هذه الزوجة الصالحة التى لا تفتأ تغرى ولدينا بالمعابثة وتشاركهما فيها. وحدثت نفسى أنهما ولدان صغيران غريران، وإن كانا عفريتين، وأنها هى ليست إلا امرأة، والمرأة فيما تصفها الحكمة المأثورة أو الشائعة على الأقل، ينقصها العقل والدين. ولأنا خليق، بفضل السن، والتجربة، والخيال، وسعة الحيلة، والقدرة على الابتكار، أن أقهر ثلاثتهم فى هذا المعترك، وإنى لأعلم أن الكثرة تغلب الشجاعة، وأعرف أن هؤلاء الثلاثة لا تنقصهم الشجاعة، ولكنى أعرف أيضًا أن شجاعتهم هذه إن هى إلا ثمرة تدليلى لهم، وطول أناتى وحلمى معهم. وإنما يتعفرتون، ويتشيطنون، ويركبون رؤوسهم بالعبث، لأنى أستملح ذلك وأحبه لهم وأوثر تفكيههم بما يطيب به عيشهم، ويجمل الحياة والدنيا فى عيونهم، وقد أوهمهم طول مساناتى لهم، وفرط ترفقى بهم، أنهم يستطيعون أن يبذونى ويسبقونى فى هذه الحلبة، فيحسن أن أريهم «بعض» النجوم فى الظهر الأحمر … أى نعم، أدب هين آؤدبهم إياه، يزجرهم زجراً كافياً عن طمع مسرف يطمعونه فى حلمى. وغلبنى النعاس، وأنا أحدث نفسى بهذا. ونمت ملء جفونى على هذه النية الطيبة السارة بإذن الله. وكان النوم عميقاً هنيئاً لا حلم فيه فاستوفيت حظى منه كاملا لا ينقص دقيقه واحدة، ثم استيقظت على نور الصبح، فتعجبت لهذه البلجة من أين جاءت، وأنا قد غلقت الشبابيك والباب قبل أن اوى إلى الفراش؟ وفركت عينى لأستثبت. ولكن الضوء الساطع كان يحوجنى إلى تغميض عينى، والمداناة بين جفونهما. على أنى ما لبثت أن فتحت عينى جدًّا، فقد رأيت امرأة فى مئزر أبيض، تنحى ستائر عن شباك — كاباب — عريض لا عهد لى به. فغضضت البصر وأدرت وجهى إلى الحائط، وفى ظنى أن هذا حلم يتراءى لى. ومن أين بالله يمكن أن تجىء المرأة ذات المئزر الأبيض؟ ومن أين تدخل والباب موصد ومفتاحه فيه — أو لابد أن يكون فيه فما رفعته منه؟ وأنى لى هذه الستائر الرقاق الموشاة بمثل صور الطير، وليس فى بيتي من الأستار إلا كل غليظ النسج قاتم اللون؟ وما هذا الشباك العريض كالباب؟ بل هو باب، وغرفتى ذات شباكين ولا باب فيها إلا ما أوصدت. إنه حلم على التحقيق، فلننعم به ما دام. وألفيتنى أدعو الله فى سرى أن يجعل المرأة ذات المئزر خودا منظرانية، فإنه ما دمنا نحلم ولا نرى حقا فلا أقل من أن نحلم بخير. وسرعان ما استجاب الله دعائى، فليته يفعل ذلك فى اليقظة — يقظتى آنا، كما لا أحتاج أن أقول فإنه — سبحانه — لا ينام — فاستدارت، فإذا هى من البيض الحسان والحواريات المسمورات، حلوة رقراقة ناعمة، ووضيئة قسيمة، مستغنية بجمالها عن كل زينة، فتبسمت لها، وقد رف لها قلبى، وهى مقبلة علىّ، تهفو كالنسيم، ولا تكاد تمس الأرض، فما كنت أسمع وقع قدميها وهى تمشى إلىّ، وعلى ثغرها النضيد إبتسامة ما أحلاها وأعذبها! فلماذا يا ترى نُحرم مثل هذا فى عالم الحقيقة، ونخايل به فى أحلامنا، وأشفقت — وأنا أرنو إليها مغتبطًا بدنوها منى شيئا فشيئًا، متطلعا إلا حلاوات سأتذوقها مها، ولذات سأفوز بها من قربها — أقول آشفقت أن يكون مصور الحلم قد جعل لها قدمين على هيئة السمك أو ذنبه، وخفت أن تنقلب الغرفة بحيرة والسرير زورقًا، وتذهب تسبح بنت الماء هذه، وتطالعنى من هنا وههنا وتحاورنى، فأحاول أن أدركها، فيضطرب الزورق فى الماء وأغرق فما أحسن السباحة، أو أبتل على الأقل. وصوبت عينى إلى الأرض فاطمأنت نفسى. فما زلنا فى الغرفة. وإن للفتاة لقدمين دقيقتين جميلتين، وإن ساقيها لممشوقتان. واتكأت على السرير براحتيها، ومالت، وصار محياها فوق وجهى، وبينهما شبران، أو أقل، فليتها تختصر المسافة أو تختزلها أو تمحوها! وقالت بأعذب صوت صافح أذنى: «صباح الخير يا بابا..» فحيرنى قولها «يا بابا»، أهو تدليل لى أو مفاكهة؟ إن كان هذا فأنا خليق أن أسر، أم هي إشارة إلى ما بيننا من فرق السن؟ إن تكن الأخرى فهى ليست من حسن الذوق على الريق. وخطر لى أنى جدير — على الحالين — أن أسر بأن أصبح على هذا الوجة الحسن، وراقتنى، وأنا أنظر إليها — بل أحدق فيها — نقرتان عند الشدقين حفرهما الابتسام، فافتررت لها كما تفتر وقلت لها أمازحها مثل مزاحها، وإنها لأولى بذلك من الحاجة! «صباح الخير يا ماما …». وما كدت أفعل، حتى وجمتُ، ووضعتُ يدى على فمى فما كان هذا بصوتى ولا هو يشبهه، وإن صوتى لأجش، جهير، وفيه برجمة، وغلظ، وكثيرًا ما عابتنى به امرأتى وزعمته صلبًا شديدًا، مبالغة منها على عادتها، عندما تمزح. وقد قالت فى صفته مرة إنه «ضوضاء». أما هذا الذى سمعته من نفسى حين حييتها فصوت ناعم دقيق مع ارتفاع، كأصوات الصبيان قبل أن يبلغوا الحلم، أو أصوات البنات، فماذا جرى؟ هل أصاب حلقى شىء؟ وتحسست رقبتي، وبلعت ريقى لأستوثق، فلم أشعر أن بى شيئاً. ورأت الفتاة سهوم وجهى، وشرود نظراتى، فأراحت كفها على كتفى وسآلتنى: «مالك؟ ألست بخير هذا الصباح»؟ فتنبهت. ووقع فى نفسى ما فى صوتها من الحنو. وأسرعت فقلت: «نعم بخير. شكرًا لك». وارتعتُ ثانية لما سمعت هذا الصوت الجديد الناعم، وأحسب أن وجهى امتقع فقد حنت علىَ، وراحت تمسحه لى بكفها الرخصة، وتجسه، وكاد طيب لمسها يذهلنى عن تعجبى لصوتى وإنكارى له. وسمعتها تقول: «كلا. لا شىء بك. وسأجيئك بطعامك فتهيأ له»، وألقت إلىّ ابتسامة وانصرفت خفيفة كمر النسيم. وجلست على السرير وقلت لنفسى: «هذه خلوة يحسن أن أقضيها في جلاء هذا الأمر»، ورفعت يدى إلى رأسى أسوى شعرى وأسرحه بأصابعى، وإذا بيدى تقف وعينى تشخص، فإن شعرى قليل خفيف، على طوله، وقد استوى بياضه وسواده أما هذا الذى تخللته بأصابعى فكثير مجتمع مسترسل إلى القفا، وهوت يدى إلى خدى من الدهشة، فإذا الصفحة ملساء ناعمة أسيلة، وبضة طرية لا أثر فيها لشعر نابت يحتاج إلى الموسى لحلقه. فأدنيت أصابعى فى حذر وإشفاق من شفتى العليا فكان ما خفت أن يكون، ولم أجد شيئاً. وزاد عجبى أن أحسست فى هذه الشفة انقلابا يسيرا واسترخاء. فدفعت الغطاء وانتفضت أريد الوثوب إلي الأرض لانظر فى المرآة وأتبين ما حلّ بى، ولكن الغطاء لم يكد يطرح وينحسر حتى جمدت مكانى. فقد ألفيتنى فى ملابس الصبيان — سراويل قصير لا ساق له، وقميص مقوَّر الجيب بغير كم، والجرم كله جرم حدث، لا جرم الرجل الذى أعرف أنى هو — أو أنى كَنتُه — ودليت ساقى من فوق السرير فلم تبلغا الأرض، فجعلت أهزهما وأتأمل بضاضة بشرتهما، وأتعجب أين ذهب الجسم الذى كنت فيه؟ وكيف دسست فى هذا الإهاب الجديد؟ واشتقت أن أسمع صوتى فرحت أتكلم بصوت خفيض مخافة أن يدخل علىّ داخل فيستقل عقلى. واشتهيت أن أرى وجهى وصورتى فى مرآة، فإنى أرى معظم بدنى، ولا أرى وجهى وطولى وعرضى، ولكنى خفت أن يباغتنى أحد وأنا أتأمل نفسى فى المرآة وأدور امامها، فقلت أنتظر حتى أغتسل أو أغير ثيابى. فلابد أن لى ثيابًا أخرى وعسى أن تكون فى هذه الخزانة. واستثقلت هذا الحلم، وضاق صدرى بالتحول الذى تحولته فيه، وإذا طال الحلم فستتراخى السنون وتتعاقب قبل أن أبلغ مبالغ الرجال مرة أخرى، ثم ضحكت، فإن الأحلام تبدو لرائيها كالدهر طولا فيما يحس، ولكنها لا تستغرق أكثر من ثوان أو دقائق، وفاء بى هذا الخاطر إلى حد من السكينة والرضا، فقلت إنها على كل حال رؤيا سينسخ الإصباح كل ما فيها من صور، ولا منطق للأحلام، ولاضابط، ولا ايين تجرى عليه فإنما هى خيالات تتمثل، وأضغاث كسمادير السكْر، وليس بمستغرب فى حلم أن يرتد المرء حدثا ابن عشر — ترى كم بلغت؟ — ووالله لقد نسيت كيف كنت إذ أنا طفل، فلعل ما أنا فيه يجدد لى الذكرى ويحيى ما غمض، وينشر ما انطوى. ولمحتُ الباب يفتح فاستحييت أن ترانى هذه الفتاة المليحة عارى الساقين، فآسرعت فرفعت رجلىّ إلى السرير وتغطيت بالملاءة وأسندت رأسى إلى شباك السرير. وكانت تحمل صينية كبيرة عليها أطباق شتى مغطاة وفنجان وإبريق وفوطة. فوضعتها على منضدة قريبًا من الشباك أو الباب على الأصح ثم انثنت إلىّ وقالت: «ألا تزال فى سريرك؟ ما هذا الكسل؟ تعال». وحنت علىّ، وطرحت الملاءة عنى، وراحت تدلك لى جسمى من فوق. فأغمضت عينى مستحليًا ذلك منها، ولكنها هوت بكفيها إلى الفخذين فدفعت يدها وتغطيت وصحت بها، وقد أنسانى الحياء ما أنكر من صوتى: «كله إلا هذا»! قالت متعجبة: «ماذا جرى لك اليوم؟ ألست أفعل هذا كل يوم تقريبًا»؟ كل يوم..؟ إن هذا الحلم أطول مما أعرف! فما أغربه من حلم مقتضب يبدأ من نصفه؟ وهل ترى اسمى فيه بقى كما أعرفه أو تغير هذا أيضاً؟ وهل ترانى أجرؤ على الاستفسار؟ أم ستتاح لى فرصة فأعرفه بلا سؤال؟ وسمعتها تقول: «مالك لا تعجب؟ إنك اليوم متغير». فقلت فى سرى: «لو عرفت لعذرتنى». ثم لها: «لاحاجة بى إلى التدليك. ثم إنه غير لائق». فاستضحكت ثم قالت: «غير لائق؟ هذا جديد … هذا ممتع». قلت: «ممتع أو غير ممتع، سيان. لا أريده والسلام». فهزت رأسها وقالت: «إنك لطفل غريب. لا ينقضى منك عجبى، طيب. قم إلى طعامك». فسألتها: «ألا أغتسل أولا»؟ قالت: «طبعًا. تعال». وتقدمتنى إلى باب لم أفطن إليه من قبل، يفتح على حمام، ورأيتها تسبقنى إليه فناديتها فخرجت إلىّ فما أسرع ما اندفعت داخلا وأغلقت الباب ورائى. ورأيت فى الحمام مرآة فوق الحوض، إلا أنها عالية لا ترينى إلا وجهى وصدرى. ولم يخطئ ظنى. فقد كان الوجه صابحًا والشعر شعر حدث، ولكنه لم يعجبنى، فقد كان — أى وجهى — كأنه منتفخ الصفحتين، وكانت الشفتان شديدتى الحمرة وعلياهما منقلبة قليلا قليلا كما ظننت، حيث ينبت الشارب، على أني حمدت للذى صورنى هذه الصورة آنه لم يجعلنى أشرم. ونظرت بعد ذلك إلى ألوان الطعام ثم إليها وسألتها: «ألا تشاركيننى»؟ فابتسمت، وشكرتنى وقالت إنه طعامى وحدى. فقلت: «كل هذا لى؟ أتعنين أنك تتوقعين أن أحشو معدتى وأكظها بكل هذا؟ إذن سأمرض بلا شك». قالت: «كلام فارغ، إنك أكول مبطان، أو تحسب أنى لا أعرف ماذا تلتهم فى نهارك بين الوجبات من شكولاته، وفول سودانى، وحمص وغير ذلك؟ كل وأنت ساكت، ولا تتظاهر بهذه الزهادة، فلولا شفقتى عليك لأخبرت آمك». قلت فى سرى: «ولى أم أيضاً.. ترى كيف هى»؟ ثم للفتاة: «ولكن.. زبدة وجبن وبيض مقلو مع اللحم المتمَر، وقشدة، وعسل، ولبن وشاى، وهذا. ما هذا؟ آه خبز مكسر على السمن. فماذا تظنينى بالله؟ غولا.. ألا تعرفين أن «الغازات» تسود عيشى؟ فكيف آكل هذا وآمن فورتها وسورتها»؟ ونسيت وأنا أقول هذا أن الذى ردنى طفلا، وكرّ بى راجعا كل هذا الزمن لابد أن يكون قد عُنى بأن يضع لى مكان معدتى العتيقة، معدة جديدة شابة. فما يعقل أن يكون هذا قد فاته، وإلا صار ما صنعه بى تخليطًا لا يستقيم معه الأمر. وقالت الفتاة: ألا ليت أحدًا يناديها باسمها فأعرفه فقد أحتاج إليه،ثم ليتها تدعونى باسمى لأعرف من أنا؟: «ما هذا الكلام الذى تقول؟ إنه أشبه بالهذيان. سم بالله وكل». فأطعت. وهل كان لى معدى عن الصبر؟ وجعلت فى أول الأمر أتناول بحذر وتقية، وآكل على مهل وبحساب، وأمضغ مضغاً طويلا مستأنئاً فيه، ثم أحسست وأنا ألوك أن رغبتي تشتد، وشهوتى تقوى، فعكفت على الطعام عكوف المنهوم الرّغيب الذى لا تنتهى نفسه ولا تمتلئ عينه، وما هى إلا لحظة حتى كنت قد قششت كل ما أمامى. ثم اضطجعت وربتّ على بطنى وحدثت نفسى أن أملى لم يخب فيمن صنع بي هذا، فليتنى أعرف حيلة أستبقى بها هذه المعدة لما بعد اليقظة. وتذكرت قول ابن الرومى: وتمنيت، وقد آتانى هذه المعدة الفتية، أن لو كان آتانى أيضًا عقل حدث. وأحسبه نسى أن يغير لى نفسى كما غير لى جسمى، على أنى ما أظن إلا أنه لو كان فعل لما فطنت إلىِ أنى تغيرت. وسمعت فتاتنا تقول: «هنيئاً مريئاً يا بابا». قلت؟ «شكرًا». ووددت لو نسيت «بابا» وذكرت اسمى.. وخطر لى أن خادمتنا الحاجة لعلها صغرت مثلى!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/86057520/
عود على بدء
إبراهيم عبد القادر المازني
هل دار بخلدك يومًا بعد أن صرت شيخًا، وشاب شعرك، واصطكت ركبتاك من الكبر، أن تصحوا من نومك لتجد نفسك وقد صرت صبيًّا يافعًا نشيطًا؟ فتبدل الصوت غير الصوت، والشكل غير الشكل، والصحة غير الصحة! فصار صوتك أنعم، وشكلك أصغر، وصحتك أقوى. هل خيِّل إليك يومًا أن أدوارك في الحياة يمكن أن تتبدل؟ فيصير ابنك أكبر منك سنًّا، وتصير زوجتك أمك! ماذا لو حدث لك كل ذلك وبقيت ذاكرتك هي الأمر الوحيد فيك الذي لم يتبدل؟ هذا هو لسان حال بطل هذه القصة، ذلك الرجل الذي اختلطت عليه الحدود، فلا يدري أحقيقة ما هو به؟ أم حلم؟
https://www.hindawi.org/books/86057520/4/
الفصل الرابع
وخرجت فى الشباك العريض — أو الباب — بعد أن أعُطيت ثيابًا أخرى أرتديها — إلى شرفة رحيبة تصلح للّعب وتتسع لفنون منه، وتطل على بستان زهر وثمر، تخترقه طرق ممهدة وبعضها مفروش بدقاق الحصى المصفرّ، وفى أرجائها المترامية ظلال من الحرور، وأكنان من القر، وبين الأفنان فواكه شتى، رأيت فمى يتحلب عليها فيتلمظ لسانى وشفتاى، وإن كنت ناهضًا عن المائدة الساعة. واشتهيت، وأنا واقف أجيل عينى فى هذه الحديقة، أن تكون بين أصابعى سيجارة وأمامى فنجان من القهوة، فأترشف وأدخن وأنعم، وأنى لى ذلك إلا بحيلة أحتالها؟ واتَكأت على حافة الشرفة وذهبت أفكر فى أمرى، وتساءلت: «ترى ماذا صنع الله بإهابى الذى كنت فيه؟ بالجسم الذى كان لى»؟ وقلت فى جواب ذلك: إنى أحسبه ما زال مطروحًا على سريره. وفزعت اذ خطر لى أنهم لعلهم وجدوه فى الصباح لا حياة فيه ولا حراك به — بعد أن خرجت منه ونضوته عنى — وما يدرينى أنهم حينئذ لا يعدونه ميتًا فيدفن؟ إن هذه تكون إحدى المصائب الكبَر، لأنه يقضى علىّ أن أظل فى هذا الإهاب الصبيانى وينتسخ كل أمل فى إصلاح هذا الحال المقلوب. وجرى ببالى أن لعل هذا هو تناسخ الأرواح الذى سمعت أنْ البعض قالوا أو يقولون به. ولكن التناسخ لا يجرى على هذا النحو، ولا يكون — أو لا ينبغى آن يكون — بنقل نفس حية من جسم إلى جسم آخر، فيه هو أيضًا حية تُطرد منه، ويتطلب طردها إحلالها محل ثالثة تُنفى هى كذلك إلى جسم رابع وهكذا وليس لهذا آخر يقف عنده وينتهى إليه، ومؤداه الفوضى العميمة. وما ظنك بحال عالم يسمى ناسه وهم هم، ثم يصبحون وهم غيرهم؟ ولا خير فى هذا لأنه لا يعدو أن يكون مجرد تنقيل من آجسام. وإنما يحصل التناسخ بعد موت الجسم، وأنا لم أمت. أو من يدرى؟ لعلى مت، وانتقلت روحى أو نفسى إلى جسم هذا الصبى! ولكنى لم أولد معه، بل حللت فى بدنه فجأة فى بعض مراحل عمره، وليس هذا بجائز فيما أرى. ونشف ريقى وأنا أفكر فى هذا ولا أهتدى. وتصببت عرقًا. وحرك النسيم الأغصان فتنبهت إلى أن ههنا — تحت أنفى — شجرة عظيمة ذاهبة في الهواء، وفى وسعى بلا مشقة أن أتخطى الحافة إليها وأتدلى منها إلى الأرض، واستغربت أن يخطر لى خاطر هذا العبث الصبيانى، وماذا أصنع إذا لقيت من لا أعرف؟ وقد يبتدرنى بسؤال عن شىء أو أحد أو عن نفسي، أو يدخل معى فى حديث يتناول ما أجهل. كلا … الخير أن أبقى حيث أنا، وأن أدع من شاء يصنع بى ما يشاء حتى أهتدى إلى نفسى. وأقبلت الخادمة — أعنى الفتاة المليحة — مرة أخرى، فسألتها: «فى آى يوم نحن؟». فابتسمت وهزت سبابتها فى وجهى وقالت: «تتباله؟ يا مكار». فحدثت نفسى أنى لن أهتدى إلى شىء فى هذه الحياة الجديدة إذا ظل كل من ألقى يفترض أنى أعرف ما أجهل. وقلت أستدرجها: «إنما أريد أن أستوثق». قالت: «لا محل للشك. هو اليوم العظيم ولا كلام». قلت: «بل شكى عظيم. ويخيل إلىّ أن هناك خطأ كبيراً». قالت، وهزت رأسها: «آه، فهمت، ولك العذر إذا اختلج فى نفسك شك، فإنك ما زلت صغيرًا، وصحيح أن اليوم قد يختلف فيكون السبت مرة، والجمعة مرة، ولكن التاريخ ثابت، وهو الذى عليه المعول». فقلت لنفسى: «هذه فرصة فلأغتنمها»، ثم لها: «مهلا. أرجو أن تزيدي هذا إيضاحًا، فإن الأمر مختلط علىّ قليلا». قالت: «حبّاً وكرامة. اليوم الجمعة، مثلا». فلم يعجينى قولها «مثلا» لأنه يتركنى حيث كنت، حائرًا لا أدرى، وضالاًّ فقاطعتها سائلا: «مثلا أو هو يوم الجمعة فعلا؟ يجب أن يكون كل شىء واضحاً بدقة». قالت: «هو الجمعة فعلا». فقلت فى نفسى: «إنى لا أستغرب أن يحيق بى هذا فى يوم جمعة، فالاَن آمنت بزعم العامة أن فى يوم الجمعة ساعة منحوسة، ولكنى نقلت هذه النقلة ليلا لا نهارًا؟ وما الفرق؟ إن الجمعة تبدأ بالحساب القمرى من مغرب الخميس، فليلتها السوداء تبدأ حيث ينتهى نهار الخميس. وهى بالحساب الشمسى تبدأ بعد منتصف الليل، فهى الجمعة المنحوسة بنهارها وليلها على الحسابين جميعًا. وفاتنى وأنا أفكر فى هذا، بعض ما هى قائلة، فقرضت أسنانى من الغيظ، والسخط على نفسى، وقلت: «معذرة. ماذا كنت تقولين»؟ فزوت وجهها وتناولت كتفى وسألتنى: «ماذا جرى لك اليوم؟ واليوم على الخصوص؟ إنى خائفة …». فقلت مقاطعًا: «على الخصوص؟ وما وجه هذا الخصوص»؟ فسألتنى، وهى مقطبة مضطربة: «أو نسيت هذا أيضًا»؟ قلت، وأنا أتكلف السخر: «وما فضله على الأيام»؟ قالت، وضربت كفًّا بكف: «فضله؟ عيد ميلادك تتكلم عنه بهذه اللهجة»؟ ففهمت — هذا على الأقل — وقلت: «آه! تعنين «يوم» ميلادى الجديد»؟ قالت: «أيوه عيد ميلادك … أعنى يوم عيد ميلادك … أوه لقد أعديتنى فأنا أتكلم مثلك». قلت: «الصواب أنه «يوم» ميلادى الجديد …». قالت: «هو كذلك. يوم ميلادك الجديد». قلت: «إنك غير فاهمة — ولا أنا أيضًا فاهم إذا أردت الحقيقة». قالت: «ماذا»؟ قلت: «لا شىء.. لا شىء. ولن تفهمى إذا قلت. فدعى عنك هذا. وهاتى أنت ما عندك». قالت: «مالك تتكلم كأنك شيخ كبير، وأنت ما جاوزت العاشرة»؟ فحدثت نفسى أن هذا شىء آخر جديد عرفناه، وقد بقى أن نعرف من أنا. ومن هؤلاء ممن أرى ومن لا أرى، وقلت لها: «هذا إحساسى … أنى شيخ … أنى كبير، وإن كنت أبدو كما ترين غلامًا صغيراً». قالت: «كيف تقول هذا والدهر كله، مستقبلك كله، لا يزال أمامك»؟ قلت: «إلى البارحة فقط كنت قد خلفت ورائى شبابى، وفى هذا الصباح، أو فى الليل فما أدرى، دار الزمن — بى وحدى على ما يظهر — دورة انقلب معها الحال فصار قدامى ما كان ورائى، ماذا كنت أنت أمس؟ طفلة؟ امرأة عجوزًا؟ الحاجة زكية»؟ فلمست جبينى بكفها وسألتنى: هل أنت مريض؟ أتشعر بشىء على خلاف العادة»؟ فقلت — برغمى، وإن كنت أدرك أن هذا عبث لا طائل تحته، وقد يجر علىّ ما لا أحمد: «نعم أشعر، وأعرف، يقيناً، أن كل شىء على خلاف العادة، ولكنى لست مريضًا. أوه. ما الفائدة؟ لن تفهمى. ولن تصدقى إذا فهمت …». وأوليتها ظهرى، واتجهت إلى الباب، فلما بلغته سألتها: «هل أظل محبوسًا فى الغرفة والشرفة»؟ فأسرعت إلىّ، وقالت: «أنا متعجبة وخائفة، فليست هذه عادتك». فلم أرحمها وقلت: «إن كل ما اعتدته تغير — كل شىء تغير — صدقينى وإن لم تفهمى، وقولى لى ماذا ينبغى أن أصنع الآن»؟ قالت: «أرجو إذا نزلت إلى ماما أن لا تتكلم هكذا فإنه لن يسرها، وفى يوم عيدك على الخصوص … ليتنى أعرف ما بك»؟ فرق لها قلبى، وهممت أن أقبلها شكرًا لها على عطفها، واندفعت يداى تريدان تطويقها، ولكنى صددت نفسى مستحييًا. وإنى لغلام صغير فيما ترى، ولكن إحساسى إحساس رجل، وطاف برأسى أن هذه فرصة لى، إذا شئت اغتنمتها فلن تردنى عن عناقها وتقبيلها، فما تدرى إلا أنى طفل، ويغنم الرجل الذى انطوى عليه، والذى تنكر فى زى غلام، حلاوة القبلة ومتعتها. ولكنى صرفت نفسى عما يغريها بذلك، وقلت لها فيما قلت: إنها قد تحنو علىّ، ويعطفها ما يعطف المرأة على الصغار، وقد تحتمل ثقل تقبيلى لها وتعلقى بعنقها، لأنى صغير يُلاطف، وقد يسر الأم الكامنة فى نفسها أن يلاعبها طفل، ولكنها لن تستحلى القبلة أو تستطيبها وتستمتع بها إلا من رجل، وما خير قبلة لا تبادلنيها؟ وأنفت أيضاً أن أخدعها، وإن كان ما تحولت إليه ليس من فعلى أو تدبيرى. وقلت لها: «ألا ترافقيننى إلى حيث ماما»؟ فابتسمت وقالت: «كأنك لا تعرف طريقك … إن كل أحوالك اليوم غريبة. كلا. لا أستطيع مرافقتك. فإن عملى هنا، وهو كثير، كما تعلم». فتوكلت على الله، فما بقيت لى حيلة إلا أن أقذف بنفسى على المجهول.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/86057520/
عود على بدء
إبراهيم عبد القادر المازني
هل دار بخلدك يومًا بعد أن صرت شيخًا، وشاب شعرك، واصطكت ركبتاك من الكبر، أن تصحوا من نومك لتجد نفسك وقد صرت صبيًّا يافعًا نشيطًا؟ فتبدل الصوت غير الصوت، والشكل غير الشكل، والصحة غير الصحة! فصار صوتك أنعم، وشكلك أصغر، وصحتك أقوى. هل خيِّل إليك يومًا أن أدوارك في الحياة يمكن أن تتبدل؟ فيصير ابنك أكبر منك سنًّا، وتصير زوجتك أمك! ماذا لو حدث لك كل ذلك وبقيت ذاكرتك هي الأمر الوحيد فيك الذي لم يتبدل؟ هذا هو لسان حال بطل هذه القصة، ذلك الرجل الذي اختلطت عليه الحدود، فلا يدري أحقيقة ما هو به؟ أم حلم؟
https://www.hindawi.org/books/86057520/5/
الفصل الخامس
ورأيت سلمًا عريضًا درابزونه من الخشب المصقول، ودرجاته مكسوةِ ببساط، فقلت فى نفسى: إن هذا قصر على ما يظهر. فلماذا يا تري آثروا لأرض غرفتى العرى وقد كسوا السلم؟ وهبطت على مهل،درجة درجة، ونفسى تحدثنى أن أركب الدرابزون فأنزل عليه! وكنت لا أنفك أتلفت فى كل ناحية، ولكنى لم ألق أحدًا، فاستوحشت من هذا السكون، ولما بلغت آخر درجة نظرت فإذا أمامى بهو أوسع من دهليز، وفيه مقاعد قليلة، وعلى جدرانه صور شمسية لم أستبعد أن تكون لبعض «أهلي» فصعدت طرفى إليها ولكنها كانت عالية، والبهو مظلم. وأبصرت بابًا مواربًا إلى يسارى فنظرت منه ولم تكن بى حاجة إلى انحناء فإن قامتى الجديدة ليست مديدة، وأنا لا أنظر من ثقب المفتاح بل من فرجة الباب الموارَب، ومع ذلك انحنيت كأنى ما زلت أنا. وأنسيت أنى قد صرت هذا الذى لا أعرف من هو، فأخذت عينى سيدة كدت أهجمِ عليها حين وقع عليها بصرى فقد كانت هى زوجتى بعينها، ولكن شيئا فى جلستها، وهيئتها، وثيابها، ردنى وكبحنى عن الاندفاع، فقد كانت إحدى ساقيها ملتفة بالأخرى، ولا أعرف زوجتى تفعل ذلك، وكانت فى حجرها كرة من الخيط وفى يديها مسلتان تنسج بهما الخيط، مداولة، على مقدار، وامرأتى لا ترى أن تشتغل بهذا عن معابثتى. وهذه ثوبها معرج وبين خطوطه الملتوية ترابيع بيض وحمر، وامرأتى تؤثر ما لا وشى فيه ولا تخطيط. وهذه شعرها فينان مفروق من الوسط ومرسل إلى الخلف، وفى شعر امرأتى شىء من التحجن. وهى ترفعه فوق الجبين وتلويه، وتثبته بما يمسكه. وخطر لى أن لعل هذه هى «ماما» وخفت أن لا تكون، وحرت ماذا أصنع وكيف أخاطبها — وأخيرًا وبعد تردد، قلت الرأى أن أدبدب وأحدث صوتًا وضجة، حتى إذا التفتْ وتكلمتْ رجوتُ أن أعرف من تكون، والله المعين …. وخبطت الباب، ودبدبت، وتقلبت أيضًا — على البساط الوثير — وما كان ظنى أن أحسن هذا، ولا كنت أنويه أو أفكر فيه، ولكنى دفعت إليه دفعًا، وأغرتنى به وزينته لى فيما أظن طبيعة هذا الجسم الصبيانى. فلما عاد رأسى إلى مكانه، واستقرت قدماى مرة أخرى على البساط، رأيت هذه التى ما شككت أنها امرأتى تنظر إلى راضية مغتبطة — وسمعتها تقول: «آه. سونه. عيد سعيد يا سونه. تعال هات بوسه». فقلت لنفسى وأنا أخطو إليها وأمط بوزى، وأدانى ما بين جفونى، وأهز ساعدى هزًّا قويًّا: «إن اسمك يا هذا «سونه» وقد عرفناه، أو عرفنا ما يكفى. وقد يكون الاسم الكامل «حسونه» أو «حسنى» أو «محسن» أو «حسن» أو «حسين» أو غير ذلك مما يمكن أن يتألف مِن الحاء والسين والنون. أو من يدرى؟ فقد لا تكون فيه حاء، ولكن شيئاً خير من لا شيء. ولست أتوقع أن أتلقى كتبًا بالبريد، وإن كان هذا محتملا فى يوم عيدى السعيد، ولكنى أحسبهم سيجمعون ما يرد من التهنئات — إذا ورد شىء — ويحملونه إلىّ جملة، فلا خوف إذن. وسنعرف ما نجهل متى آن الأوان». ولما صرت على أشبار منها نططت فإذا أنا فى حجرها، وذراعاى حول عنقها وفمى على خدها، فقبلت رأسى، وما بين عينى، وخدى، وقرصت وجنتى قرص مداعبة لا قرص إيجاع (وقد أسلفت أنهما منتفختان قليلا، فهما يغريان بالقرص) ثم عاودنى الحياء فنهضت ومشيت مطرقاً إلى مقعد كبير منجّد، فانحططت عليه وذهبت أحرك ساقى وأحك بقدمي ما يليهما من البساط وذراعاى على المسندين. و قالت، ويداها لا تكفان عن النسج: «سيتغدى عمك معنا وقد سبقته هديته إليك». فهممت أن أشيل نفسى عن المقعد. فأشارت إلىّ تردنى عن ذلك وقالت: «لا تعجل — فى المساء بعد اكتمال الجمع، نفتح الهدايا … تعلّم الصبر …». وكان لابد أن أقول شيئاً فسألتها: «ولكن ألا يمكن أن أعرف الهدية ما هى؟ باللسان فقط». قالت: «إن الله مع الصابرين. كل شىء فى وقته». فأسلمت أمرى إلى الله، وهززت رأسى وكتفى، وقمت فسألتنى: «إلى أين»؟ قلت: «سأتمشى فى الحديقة». قالت: «لا توسخ ثيابك … ليس فى هذا اليوم». فقلت فى نفسى: «يا له من يوم»! أتعرف ذلك الصندوق الذى يضعه بعضهم لبريده على بابه وفى أسفله رقعتان كتب على إحداهما «موجود» وعلى الأخرى «غير موجود» ولا تبدو واحدة إلا بحجب الأخرى؟ كان هذا حالى فيما أحس. فأنا تارة أفكر بعقلى القديم الذى كان لى فى صورتى السابقة، وأصدر فيما أعمل عن وحيه، ثم يُنَحَّى هذا العقل، أو يُطرح فى زاوية أو ركن، أو يحجبه حاجب، ويظهر العقل الجديد الذى يلائم حال الطفولة التى رُددتُ إليها، وهكذا دواليك. وهذه السيدة التى رأيتها جالسة تنسج، بدت لى فى أول الأمر زوجة، فدار فى نفسى لها ما يدور فى نفس الرجل لامرأته، ثم إذا بشىء يحجب هذه الناحية من إدراكى، أو يغلق طاقة، ويفتح أخرى، فأرتد غلامًا ينط ويلعب، ويرتمى على حجر السيدة، ويكون معها كما يكون الولد مع أمه، ويفرح بلعبة أو هدية، ولا يطيق الصبر على تركها إلى المساء. ولم أكد أقول إنى خارج إلى الحديقة حتى عاد عقلى القديم موجودًا. فرحت أفكر فى المخرج وأحاذر أن تبدو علىَّ الحيرة، وأتظاهر بأنى أتلكأ وأنا أجوب الحجرات، وأفتح بابًا وأغلق بابا، حتى وفقنى الله. وكان الخدم كثيرين — رجالا ونساء — ولا عجب أن يكثروا فى بيت طويل عريض كهذا، ولكن العجب أن تطيق العيش فيه هذه السيدة المزدوجة الشخصية التى أراها تارة أمًّا وتارة زوجة، وهى مستفرَدة فيه ولا أنيس ولا جليس من إنسان أو كلب، ولكن عجبى لم يطل، فإن الأوضاع كلها مقلوبة. وانطلقت أفكر وأنا أتمشى فى الحديقة، وأعجب تارة بألوان الزهر علي أغصانه، وأنزع غلائله طورًا وأفركها بأصابعى ولا أبالى جمالها ولا أرحم رقتها — أقول إنى ذهبت أفكر فى هذه الحداثة التى يقول الكبار — وأنا منهم — إنها أحلى وأسعد وأرغد أيام الحياة، ومع ذلك أرانى ناسيًا كيف كنت إذ أنا صبى، وماذا بلغ من استمتاعى بذلك الرغد الذى نتحسر عليه، بل أنا قد قضيت معظم الساعة أو الساعتين اللتين عدت فيهما حدثا فى استثقال هذه الطفولة والضجر منها والتبرم بها. أم ترى ذاك لأنى لست طفلا صرفًا؟ وهذا العم الذى سيشق الأرض ويخرج لى من جوفها، كالجّنى، كيف هو يا ترى؟ قد عرفت الأم وأحسست لها فى قلبى رقة لأنها تشبه زوجتى (التى لا يخلو قلبى من الموجدة عليها لكثرة معابثتها لى وحضها الولدين الشقيين على كيدى) وبقى أن نعرف العم الذى لم يكن لنا فى حساب. أطويل هو أم قصير؟ وثقيل أم خفيف ظريف؟ ووددت لو أن أمي أرتنى هديته لأعرف ذوقه ورأيه فى ابن أخيه، من اختياره. وإنى لأدفع حصاة برجلى، وإذا بصوت يقول: «هش …» فالتفت إلي مصدره فإذا رجل فى سراويل إلى نصف الفخذ كالتى يلبسها لاعب الكرة أو المصارعون، وتكتها طويلة غليظة كحبل الشراع إلا أنها ملوّنة، وطرفاها يتدليان من عقدتهما إلى قريب من الركبة، وعلى صدره قميص أو قطعة منه، وفوق رأسه قبعة قديمة، وقدماه فى حذاءين باليين عليهما طوائف شتى من الاوحال جف بعضها وما زالت بقيتها طرية، فأدركت أنه البستانى أو بعض أعوانه، فما يقوم على خدمة هذه الحديقة الواسعة الحافلة بصنوف الزهر والشجر رجل واحد. واقتربت منه فقال: «سمعت أن البك مشرفنا اليوم». قلت: «البك»؟ قال: «البك عمك». قلت: «آه». قال مستفسراً، وفى عينيه التماع خبيث: «العادة يا سعادة؟ فلم أفهم، ولى العذر، وبدا لى أن خير ما أصنع هو أن أوافقه، وليكن ما شاء الله أن يكون، وهززت له رأسى أن «نعم» وتبسمت. فقال: «عال. قبل الظهر تكون الأمانة تحت السرير». فشكرته ووددت لو كان معى مال لأنفخه منه بشىء، وتساءلت فى سرى: «أليس لى «اعتماد» مفتوح فى ميزانية هذا القصر أنفق منه كغيرى من الغلمان — مصروف لجيبى كما يسمونه»؟ ورأيته يتراجع فى حذر ويتوارى وراء جذع شجرة كالقطة أبصرت كلبًا يدلف إليها فتلفتّ إلى حيث كانت عينه تنظر، فإذا الفتاة الخادمة، فلم أكترث لها وهممت أن أمضى فى طريقى، وخطر لى أن ليتها ترافقنى فإنها جميلة وضاءة المحيا، وخليق بالتنزه معها فى هذه الحديقة أن يفيد الرجل المضمر فى هذا الاهاب الصبيانى، متعة. ولكنها لم ترافقنى بل دعتنى إليها بإشارة من كفها، فذهبت إليها أعدو فانحنت علىّ وقالت بصوت كالهمس: «لقد رأتك ماما من الشباك واقفاً مع «عم أحمد» الجناينى فكلفتنى أن أقول لك إنه لا يليق بك أن تحادث مثله». فدهش شقّى المستور وسألها بلسان الغلام: «وما عيبه؟ أليس من خلق الله مثلى ومثلك؟ ما هذه الغطرسة»؟ فباستنى خطفًا كما يشرب الطائر، يحسو حسوة ويرفع منقاره — أو رأسه الصغير — ويتلفت كأنما يخاف عواقب الطمع أو مطاوعة النفس، فقلت فى سرى لابد أن تكون هذه الأيام التى استظرفتها، ثقيلة غليظة الكبد، ومتنطعة سخيفة الرأى. وآحسب آن وجهى ارتسم عليه ما يضطرب به صدرى فقد قالت الفتاة: «إنما تخشى أن توسخ ثيابك فى يوم عيدك. ثم إن ماما هى ماما ويجب أن نطيعها». فقلت: «لا تعتذرى عنها، وقولى لها إنى سأكلم وأخالط من أشاء.. بل قولى لها إنى سأتمرغ فى التراب، وأتقلب فى الوحل، وأجرح جلدى بالشوك وأمزقه. ولتفعل ما بدا لها». وانكفأت عنها أعدو فى الحديقة، وتمنيت لو أن فى وسعى أن أسلخ هذا الجلد كله كما تُسلخ الشاة. واستثقلت هذه الطفولة التى تحاط من كل ناحية بالسدود والحواجز، والعُقَل والموانع، كأنما لا يكفيها أن لها من طبيعتها حدودًا، ولا يسمع فيها من يُقضى عليه بها إلا «إياك» و«حاذر». وآليت لأؤدبن هذه الأم غير هذا الأدب.. أو تظننى طفلا حقيقياً؟ سنرى ونريها.. ودرت أبحث عن «عم أحمد» الجناينى وأستعجله ما وعد، فقد كبر فى ظنى أن يكون ما وعدنيه وسيلة لركوب العم المنتظر — البك. فقد صار لنا بيك من الأعمام — بشىء من العبث، وحدثت نفسى أن هذه الأم — إلى الآن — أولى، ولا مانع فيما أرجو من قسمة الأمر بينهما نصفين. ولكنى لم أجد الرجل، فقد شق الأرض وغاب فيها، كما شقها وبرز منها ….
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/86057520/
عود على بدء
إبراهيم عبد القادر المازني
هل دار بخلدك يومًا بعد أن صرت شيخًا، وشاب شعرك، واصطكت ركبتاك من الكبر، أن تصحوا من نومك لتجد نفسك وقد صرت صبيًّا يافعًا نشيطًا؟ فتبدل الصوت غير الصوت، والشكل غير الشكل، والصحة غير الصحة! فصار صوتك أنعم، وشكلك أصغر، وصحتك أقوى. هل خيِّل إليك يومًا أن أدوارك في الحياة يمكن أن تتبدل؟ فيصير ابنك أكبر منك سنًّا، وتصير زوجتك أمك! ماذا لو حدث لك كل ذلك وبقيت ذاكرتك هي الأمر الوحيد فيك الذي لم يتبدل؟ هذا هو لسان حال بطل هذه القصة، ذلك الرجل الذي اختلطت عليه الحدود، فلا يدري أحقيقة ما هو به؟ أم حلم؟
https://www.hindawi.org/books/86057520/6/
الفصل السادس
وأخيرًا جاء العم. وتلقيت قبلاته، وقاك الله السوء! وهو شىء كل ما فيه ثقيل، تنفسه حشرجة، وصوته ضوضأةٌ، وضحكه قرقعة، وقبلته كمص الماء من كوزٍ نَصفان، وكرشه برج دبابة، وشعرات شاربيه فتلات حبل مقروضة، وعينه — والعياذ بالله — شفرٌ متفتل، وجفن محمرٌّ لا هدب له، وماء يسيل، وحاجباه شعرهما رقيق من أخر وكثيف من قُدُم، وأذنه مسترخية من رأسها ومنكسرة على وجهها كأذن الكلب، ورأسه على شكل البيضة، وقد ذهب أكثر شعره، وبقيت له طرة شعراتها متفرقة صلبة كأنها الشوك. وما كدت أراه حتى قلت: بل هو أولى بكل ما يهيئ له هذا الجناينى الطيب العم أحمد … قواه الله ووفقه! وتمنيت أن يجيئنى بثعبانين أو ثلاثة، أدس منها اثنين فى كميه، أعنى عمى، وألف الثالث حول عنقه الغليظ المقبل إلى صدره المنتفخ. وكان يأبى إلا أن يجلسنى على ركبته، ولا أكاد أفعل حتى تدفعنى كرشه وتدحرجنى، فيقهقه ويطخطخ، فيبح، ويسعل سعالا مشقوق الصوت، ويسيل لعابه على ذقنه، ويمسك جنبيه بيديه، كأنما يجد فيهما وخزًا، ولا يخطر له أن يخرج منديلا يستر به هذا الفم الأفوه الذى كأنه باب كهف، وما فيه من لثة ذابلة، وأسنان مسودة، سفلاها خارجة من الحنك وعلياها متقاعسة. وكنت شديد الشوق إلى تلقى ما وعدنى العم أحمد، والتلهف عليه، فأنا لا أستقر، ولا أسكن، ولا أزال أنفى من هذا العم الذى رميت به من حيث لا أحتسب. وأمى تدعونى بغمز العين أو إشارة اليد إلى المراضاة، فلا يزيدنى هذا إلا تقطباً، وجفوة وسوء خلق، وهو لا يفطن إلى ما بى منه أو لا يحفله. ولا يكف عن «ملاطفتى» وممازحتى، ممازحة الفيل للقط، كأنه موكل برياضتى على احتمال المكاره! وبعد لأى ما استطعت أن أفر من هذه الغرفة. فأسرعت إلى غرفتى، وأطللت على الحديقة من الشرفة فلم أجد أحدًا، وخفت إذا أنا بقيت هنا، أن يصعد العم إلىّ. فيفسد التدبير كله ويحبط، فعدت من حيث أتيت، وجعلت أمشى على أطراف أصابعى وفى مرجوى أن يكون قد غلبه النعاس فأنجو إلى حين، فإن مثله، فى مثل ضخامته، ينام ولو كان على ظهر فرس جامح. وبلغت الباب. ولم يكن مفتوحاً كل الفتح. فاستوقفنى ما سمعت. فبقيت حيث أنا أتسمع. فسمعت أمى تقول: «إنه عنيد مثل …». وسمعت عمى يقول: «قوليها … مثل أبيه … تماماً. ولكن المسألة أننا جميعًا، وأنا وأنت فى الطليعة، نخضع لسلطانه كأنه ملك ذو صولجان، حتى فى حياة أبيه، وأيام كان لا يزال رضيعًا، كانت جباهنا تعنو لأصابعه الصغيرة التى يطبقها على شاربى ويشد هأ هأ هأ». فقالت أمى وهى تتنهد: «تاللَّة ما كان أحلى هذه الأصابع الحمراء … وأحسب انا قد دللناه وأفسدناه». فقال: «من المسئول عن ذلك؟ هه؟ من الذى كان يغضى عن كل ما يفعل؟ من التى كانت إذا رأتنى أنهره وأزجره تدور من ورائى وتحمل إليه ملء سلة كبيرة من الحلوى والفواكه»؟ فصاحت به أمى: «أنت كنت تنهره؟ أنت؟ صحيح، ولكن بصوت رقيق، لين. كما يناغى ذكر الحمام أنثاه، وإذا رأيته يبكى زويت وجهك وعبست جاهدًا لتخفى الدموع التى تترقرق فى عينك، ثم تحمله وتوسعه تقبيلا». فاستغربت أن ينطوى هذا الفيل الضخم على كل هذه الرقة، ولكنى ما عرفته إلا اليوم فلى العذر واضحاً، وماذا تقول العامة؟ من لا يعرفك فهو يجهلك، صدقوا والله … وسرنى أن يكون فى هذه الكرش العظيمة شىء غير المعدة والأحشاء. وصارت المسألة عندى هى: هل أمضى فيما انتويت من معابثته بمعاونة عم أحمد الجناينى بما لا أعمل؟ وزهدني فى ذلك أن قلبه كبير، وأغرانى به طمعى الجديد فى حلمه وحبه. وخيل إلى وأنا بين هذه الدوافع والجواذب، كأنى مشدود إلى حصانين يجريان فى اتجاهين مختلفين، وأحسست كأن ساعة انقضت فى هذا التردد، وأشفقت أن يضيع الوقت سدى، فتفلت الفرصة وتذهب إلى غير رجعة، وتأدى إلى صوت هذا العم الفاضل الطيب يقول: «إنك تعلمين يا فيفى ما أنطوى عليه لك من زمان طويل …» فقلت في سرى — وأذنى مع ذلك مرهفة للتسمع — آه لقد عرفنا اسمك يا ماما! لم يسعنى إلا أن أتعجب لأهل هذا البيت الرحيب الذى يتسع «للتكبير» إلي أقصى حد وأبعد مدى، لماذا يحتاجون أن يلجأوا إلى «التصغير» فيه؟ فأنا «سونه» والله أعلم بالأصل المستكثر على. وأمى «فيفى» ولست أستغرب أن يكون ما يُدعى به الاَخرون ممن رأيت ومن لم أر «توتر» و«لولو» و«توحه» و«كوكو» … وتذكرت بيتا نزلت فيه ضيفًا — قبل أن أصغر — مع ستة غيرى من الإخوان. وكان صاحبه ممن لا يحتاج ابن الرومى أن يتعجب لهم كيف أخطأهم الجسم، فأرقدنا فى حجرة كالهيكل، رص لنا فيها سبعة أسرة غير الخزانات والمناضد والكراسى، كانت تبدو لنا مع ذلك فارغة. وكان الواحد منا يستطيع أن ينام على سريره طولا أو عرضًا كما يشاء من فرط سعته. وأصبحت فقصدت إلى الحمام فإذا هو يصلح أن يكون ميدانًا للركض أو ساحة للرقص. ولما صرت فى الحوض خيل إلىّ أنه حوض سباحة، وأنى فيه سمكة من «البساريا» فى مجرى النيل العظيم، وأشفقت أن أغرق، وصحت أطلب النجدة، وتوقعت أن يجىء مضيفى بدلو عظيمة يلقى بها إلى، فأصعد فيها، أو يدلى لى حبلا أشد به وسطى ويرفعنى فأخرج إلى الشط. وقلت لمضيفى لما نجوت: «لم لا تؤجر هذا الحوض للأسطول البريطانى فيتخذه قاعدة له»؟ على أن هذا كان منى ظلمًا له، فما عدا الرجل أن شيّد بيته وفصله على قده. فلا وجه للوم أو السخرية. وهنا تجرى الأمور على نقيض ما ينبغى. فيصغرون الكبير حتى ليمسخون الرجل ذا الشاربين المفتولين واللحية الكثة التى يضنيه حلقها كل صباح، فيجعلون منه غلامًا أمرد …. وصرفنى عن الاسترسال فى هذه الخواطر كلام آخر سمعته كان له وقع اللطمة القوية، فقد كان العم يقول: «وما قولك فى أن نجعل هذا العيد مزدوجًا؟ إنك تعلمين أنى أنا وأخى عليه رحمة الله أحببناك وتنافسنا عليك. وقد آثرته علىّ واخترته دونى، فنزلت على حكمك، وكنت على حق. فإنه كان خيرًا منى. ثم اختاره الله إلى جواره … فأكرمتك ونزهتك عن الالحاح عليك بحبى لك. وتركت لك هذه المهلة الطويلة — سبع سنوات كاملة — وأحسب أن فى سبع سنوات من الترمل الكفاية. ثم إن سونه يحتاج إلى عنايتنا ورعايتنا وتعهدنا معا، وأنت وحدك لا تقدرين على شىء …». ولم أطق أن أسمع غير ذلك.. هذا العم الذى راجعت نفسى فى أمره وأقنعتها بأنه رجل طيب كبير القلب، لم تخطئ فراستى فيه أول ما وقعت عينى على دمامته المجسدة! وهو الاَن يراود أمى! بل زوجتى … أى نعم زوجتى التى يموهها الحلم ويزورها، ويلقى فى حجرها صوفا تنسجه، ليوهمنى أنها غيرها وأنها أمى! فيا له — الرجل لا الحلم — من سفيه مستهتر، ومتهتك سادر لا يبالى أن يخطف زوجات الرجال وهم ينظرون — أو يسمعون.. وما أراه يريد أن يتزوجها إلا على مالها، فإنها تبدو ذات ثراء، بل هى كذلك بلا مراء. ويزعم الخبيث المحتال أنه إنما يفعل ذلك رقة على ولدها — الذى هو أنا فيما يتوهم وتتوهم معه — وليقوم حضرته بأمرى. بففف! ولم تبق عندى ذرة من الشك فيما صار أهلا له. وآليت لأكونن أبغض الناس إليه، وأثقلهم عليه، ولأوقدن له نارًا تزغرد شعاليلها، ويسطع مريجها، ويضرب لظاها عليه مثلَ الخباء. وكلما تفرق عنها ما يسعرها، أو خبا شواظها، حششتُ لها حتى تعود ذات معمعة وقرقعة كضحكته الثقيلة، وحينئذ نرى أيهما يطيب له — الزواج أم الفرار؟
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/86057520/
عود على بدء
إبراهيم عبد القادر المازني
هل دار بخلدك يومًا بعد أن صرت شيخًا، وشاب شعرك، واصطكت ركبتاك من الكبر، أن تصحوا من نومك لتجد نفسك وقد صرت صبيًّا يافعًا نشيطًا؟ فتبدل الصوت غير الصوت، والشكل غير الشكل، والصحة غير الصحة! فصار صوتك أنعم، وشكلك أصغر، وصحتك أقوى. هل خيِّل إليك يومًا أن أدوارك في الحياة يمكن أن تتبدل؟ فيصير ابنك أكبر منك سنًّا، وتصير زوجتك أمك! ماذا لو حدث لك كل ذلك وبقيت ذاكرتك هي الأمر الوحيد فيك الذي لم يتبدل؟ هذا هو لسان حال بطل هذه القصة، ذلك الرجل الذي اختلطت عليه الحدود، فلا يدري أحقيقة ما هو به؟ أم حلم؟
https://www.hindawi.org/books/86057520/7/
الفصل السابع
وانكفأت إلى غرفتى، وأوصدت بابها، وتذكرت أنى فعلت ذلك بارحة طلباً للنجاة من عبث الولدين — تري كيف هما الاَن؟ — وأمهما، فصرت إلى هذا الحال المقلوب — أنا الرجل الكبير ارتددت غلامًا صغيرًا، زوجتى انقلبت أما لى يخطبها لنفسه عم وقح لا يبالى أن لها بعلا متنكرًا — بكرهه — فى هذا الاهاب الذى جُمعت وضُم بعضى إلى بعضى وحشرت فيه، والولدان الحبيبان على الرغم من العفرتة والشيطنة ماذا أصابهما يا ترى؟ وقطعت بضعة فراسخ فى هذه الغرفة الصغيرة، بين جيئة وذهوب، ثم انحططت على السرير من التعب والملل، وإذا بباب الشباك يفتح على مهل وبحذر، والعم أحمد الجناينى يدخل من الفرجة برأسه أولا، ورأى أن ليس معى غيرى فاطمأن ودخلتْ بقيتُه، فبادرته أسأله: «بماذا جئتنى»؟ قال: «بجماعة من النمل». قلت: «نمل؟ وما خير النمل؟ ماذا أصنع به»؟ قال: «إن له لقرصًا كلسع النار وكيها.. ثم إنه ما تطلب فى كل مرة». قلت: «ألم يكن يسعك أن تأتى ببضعة قنافذ حديدة الشوك، أو بما هو خير — عقارب شائلة الاذناب، أو أفعوان خبيث، أو طائفة من الحيات»؟ فبهت الرجل، وتلعثم، ولم يعد يدرى ماذا يقول. ورميتُ إليه كيس النمل وقلت: «خذ. خذ. لقد خيبت أملى». فقال وهو يحاول أن يتألفنى من نفرتى: «يعز علىّ أن أخيب لك أملاً يا سيدى. ولكن هذا ما اعتدت أن تطلب دائماً، على أنى أستطيع أن أجمع لك قليلا من الضفادع، إذا أمهلتنى ساعة أو نحوها». فلوحت بيدى وقلت يائساً: «ضفادع ونمل؟ ما هذا الكلام الفارغ؟ ألا تفهم؟ إن ههنا جريمة يوشك أن تُرتكب، ولا يجدى فى منعها ضفدع أو نملة.. كلا. لا أقل من أفعوان كبير … أو لعل العقارب تكفى. وعسى أن يكون أمرها أسهل». فقال: «يا سيدى ماذا جرى لك؟ أى جريمة؟ هل أنت مريض»؟ وهم بالدنو منى وجسنى، فتراجعت وأشرت إليه أن خلّك حيث أنت. وقلت بلهجة مرة: «هل أنا مريض؟ لا أسمع غير هذا السؤال كلما عجز الناس أن يفهموا عنى … كلا لست مريضًا. ولم أمرض قط، وليس فى نيتي أن آمرض إذا كان يسرك أن تعرف هذا. فاذهب وهات العقارب، وإلا فهذا آخر العهد بيننا … وخذ هذا النمل معك، فما بى إليه حاجة، وما غناء نملة صغيرة يدوس الواحد منا ملايين منها ولا يحس أنه داس شيئا؟ أو خلّه هنا … اتركه فقد ينفع الصغير من النمل فى الصغير من الأمور». وذهب الرجل يبحث عن العقارب أو لا يبحث، فما عاد إلىّ فى نهاره، ولا رأيت وجهه إلا بعد العشاء لما … ولكن هذا سيجىء فى أوانه فلا داعى لتقديمه. وطال انتظارى، سنة أو سنتين، فيما أحس، وما مضت إلا دقائق إذا صدقت الساعة الموضوعة قريبًا من السرير. وضاق صدرى ففتحت الباب وخرجت إلى الردهة، فرأيت الفتاة المعهودة تهم بدخول غرفة أخرى فقلت: «سسس..». فتنبهت وارتدت إلىّ وقالت بابتسام: «أليس لى اسم يا بابا»؟ قلت: «معذرة فقد نسيت». قالت: «نسيت اسمى»؟ قلت: «نسيت أن أدعوك به». وأردت أن أعدل بها عن هذا فسألتها: «غرفة من هذه؟ أعنى لماذا تدخلينها الاَن»؟ قالت: «غريب. أنسيت أيضًا أن عمك يستريح قليلاً بعد الغداء». قلت، وقد خطر لى خاطر: «كلا، لم أنس، ولكنى أريد أن أكلمك، فهل أستطيع أن آحدثك فى غرفة.. عمى»؟ قالت: «طبعًا. تعال …». وتناولت ذراعى. فقلت لها وأنا أقاوم شدها: «اسبقينى وسألحق بك». ففعلت، ودخلت الغرفة، وحملت كيس النمل ودسته فى جيبى. ولما لحقت بها رأيتها تخرج من الخزانة منامة كبيرة تتسع لثور، وتطرحها على السرير وتضع على الأرض قريبًا منه، صندلا وقبقابًا، كبيرين كما لا أحتاج أن أقول. ولم أسألها لماذا هذان، فقد أدركت بذكائى، أن الصندل ليتبختر به فى الغرفة، والقبقاب ليدخل به الحمام. فيا له من تزيد! وأردت أن أصرفها فقلت: «ألم تنسى شيئًا»؟ قالت: «ماذا»؟ قلت: «إنه أكول، والجو حار، وسيظمأ، فأين الماء البارد»؟ قالت: «إنك تمزح». قلت: «لا، أبدا. إنى جاد جدا». قالت: «ما عليه إلا أن يدق الجرس فنحمل إليه ما يريد». قلت: «ولماذا لا تعفين نفسك من رؤية وجهه الغليظ»؟ قالت: «أراك اليوم ساخطًا عليه فهل أغضبك منه شىء؟» قلت: «كل شىء يسخطنى عليه». واندفعت فقلت: «لقد سمعته يغرى..! أمى بأن تتزوجه..». قالت: «لا»؟ غير مصدقة. قلت: «نعم، سمعته بأذنى هذه». وشددتها بأصبعين على سبيل التأكيد. قالت: «وهل.. هل قبلت»؟ قلت: «أخشى». قالت: «يا للمصيبة. بعد سيدى تتزوج هذا …»؟ فقبلتها، فما كان يسعنى غير ذلك. ولكنها كانت قبلة شكر واغتباط، لا قبلة … كلا وأقسم! وقلت لها: «لم يخب ظنى. أنت أجمل فتاة، وأطيب فتاة، وأشرف فتاة، رأيتها فى حياتى الطويلة (فتبسمت راضية ومستغربة) والاَن يجب أن نقصى هذا المحتال عن البيت، فإن أمى صغيرة ساذجة (فكادت الابتسامة تصبح ضحكا) فما قولك؟ لقد أطلعتك على السر، ووافقتنى على أنه رهيب، فلا ينبغى أن تخذلينى …». فقعدت على كرسى وقالت وهى تحدق فى وجهى: «لا أدرى.. إني فى حيرة … أنظر إليك فأراك صغيرا، وأسمع منك مثل كلام الكبار». وهزت رأسها، وطأطأته، فدنوت منها وأرحت يدى على كتفها وقلت: «آه! هذا سر آخر أشعر أن فى وسعى أن أأتمنك عليه، ولكنى أخشى أن لا تفهمى، أو لا تصدقى، أو تظنى أنى جننت». فرفعت رأسها وزوت ما بين عينيها النجلاوين وقالت: «سر؟ أى سر؟ لقد كثرت الأسرار اليوم؟» فنازعتنى نفسى أن أبيحها إياه، وأن أقول بشجو، وأطرح عن صدرى هذا العبء الثقيل وأشركها فى أمرى، لعلها تستطيع، ولكنى أنا خليق أن أستريح بعد البث، ولكنى كنت أشفق أن تظن بى الخبل، أو تعد الأمر كله هذيان غلام يجمع به خياله الطائش، فقلت: أخطو بحذر. وسألتها: «هل تصدقين أنى لا أعرف من أنت ولا ما اسمك لأنى ما رأيتك إلا اليوم»؟ وما كدت أقول ذلك حتى عضضت شفتى، فقد أدركت — بعد الأوان — أنى بدأت من حيث كان ينبغى أن أنتهى، فلا عجب إذا كانت قد وثبت إلى قدميها، وتناولت كتفى وهزتنى بعنف وسألت: «إيه؟ لا تعرفنى؟ لم ترنى من قبل؟ ماذا أصابك اليوم؟ إنك من أول النهار حالك حال لم أعهده منك، فماذا جرى لك؟ قل لى …». فنحيت يديها عنى، وتحسست رقبتي التى كادت تنخلع وقلت: «آلم أقل لك؟ كلا! لا يمكن أن تفهمى أو تصدقى، فلأقصر فإنه أرشد. وخلنا فى عمى وآمى..» وضحكت «لم يكن ينقصنى إلا آم وعم يسقطان علىّ من السماء، ويتم بهما …». ولم أتمها فقد صاحت بى: «ماذا تقول؟». فانفجرت، وقد نفد صبرى، وصحت، كما تصيح: «أقول إنى لست هذا الغلام الذى تسمونِه «سونه»، وما كنت أعرف أن هذا اسمه إلا بعد أن نادتنى به أمى … وهى أيضًا ليست أمى بل زوجتى … قولى ما شئت وظنى بعقلى الظنون، فما عدت آبالى ولكنها الحقيقة، أيضًا أن هذا العجل السمين الذى تظنونه عمى، ليس عمى، فما لى أعمام …». وأمسكت — اضطرِرت أن أمسك — فقد سقطت على الأرض مغشيًّا عليها! لم تقل شيئا، ولم تصرخ، بل هوت، كما يهوى الثوب، الفارغ، فاضطربت، وتلفت، وأشفقت أن أستنجد بأحد فتحدثهم بما سمعت، فيحملونى إلى مستشفى الامراض العقلية، ولمحت زجاجة كولونيا فخطفتها وصببت منها على وجهها، وعلى كفى وأنشقتها، وجعلت أضرب لها وجهها، حتى فتحت عينيها ثم جلست وقالت وهى تفرك عينيها: «ياله من حلم» وتنبهت إلى وجودى فسألتنى: «سونه، ماذا جرى لى»؟ قلت: «لا شىء. رأيتك تترنحين كالسكرى ثم تسقطين». وحدثت نفسى أن خير ما أصنع هو أن أشجعها على الظن بأنها كانت تحلم، وأنها سمعت فى غيبوبة لا منى. سألتنى: «هل كنت تقول لى شيئا»؟ قلت: «نعم، كنت أسر إليك …». فصاحب بى وكفها على جبينها: «لا، لا، لا، لا تفعل … يكفى يكفى …». قلت: «ولكنك كنت موافقة على أن هذا الزواج لا يجوز ويجب أن يحال دونه»؟ قالت: «إيه؟ زواج»؟ قلت: «نعم. هل نسيت ما حدثتك به من أن عمى يريد أن يتزوج أمي»؟ قالت: «آه. صحيح.. وو …». قلت: «وكنا نتشاور فى الوسيلة لمنع ذلك، وإذا بك يُغشى عليك». قالت: «أهذا كل ما كان»؟ قلت: «كله». فتنهدت، وقالت: «الحمد لله. ولكنه حلم لن أنساه. ما أفظعه»! قلت: «ماذا رأيت فيه»؟ قالت، وهى تنهض إلى قدميها: «لا، لا، لا … لا أستطيع. أووف يا حفيظ يارب»! وسحبتنى معها وخرجت بى من الغرفة. وهكذا ضاعت الفرصة، وعدت بالنمل مدسوسًا فى جيبى كما جئت ورجعت إلى غرفتى، وعضنى الجوع، ولم أجد شيئا يؤكل. فاستلقيت علي السرير فأغفيت، ورأيت فيما يرى النائم اْنى صبى صغير من خشب، وأنى أرتدي ثيابًا من ورق، وعلى رأسى طربوش أسمر من لباب الخبز، فأخوف ما أخاف النار والفيران. وبصرت بملعب على بابه رجل ينقر علي طبلة بعصوين ويدعو الناس أن يدخلوا، فتسللت من بين الأرجل، وإذا علي المسرح صبيان مثلى من خشب يرقصون، فما إن رأونى حتى كفوا عن الرقص وصاحوا جميعًا: «هذا أخونا التائه قد رُد إلينا». ودعونى إليهم فقفزت فإذا أنا على صلعة رئيس الجوقة التى تعزف، وقفزت مرة أخري فإذا أنا معهم، فأقبلوا على يحيوننى ويعانقوننى. ودخل علينا عملاق يشبه عمى، نهرنا وزجرنا عن العناق وساقنا أمامه. وإذا نحن فى المطبخ وإذا كبش عظيم يشوى على النار، وانطرح العملاق على كرسي ونفخ نفختين ثم قال: «النار تكاد تخبو وتهمد، وعشائى لم ينضج، فتعال أنت (وأشار إلىّ) لألقى بك علبها فتذكو». فجعلت أتوسل إليه وأقول إنى يتيم ولا أريد أن أموت — فعطس فقلت: «يرحمك الله» ودنا منى أخ من خشب خيل لى أن فيه مشابه من أحد ولدي وهنأنى بالنجاة، وقال إن صاحبنا يعطس إذا رق قلبه وأدركه العطف وسمعت العملاق يصيح مرة أخرى: «ولكنى لن أتعشى إذا تركت النار تخبو، فتعال آنت». وأشار إلى الأخ الذى يشبه ابنى فبكى، وبكيت ثم رفعت رأسى وقلت: «كلا. إذا كان لابد من إلقاء أحدنا علي النار فأنا أولى». فعطس العملاق عطستين، فتبادلنا التهنئات، ونظر إلي وقال: «تعال أقبلك». فقفزت حتى صارت قدماى على لحيته، فضمنى إليه بأصبع، ثم حطنى على الأرض وقال: «كنت أرجو أن أنعم شيه ولكنه لم يبق لى مفر من أكله ملهوجًا … لا بأس لا بأس». فأقبل بعضنا على بعض يعانقه ويهنئه. والعملاق يهبر ويلقى فى فمه ولا يلقى إلينا عظمة، فالتهبت جوعًا وتلوت أمعائى، وذهبت عيناى فى رأسى واسترخيت فانحنى ظهرى، وصرّ، ورثيت لنفسى، وانهملت دموعى كالخيط المتصل، وأحاط بى إخوتى ينقرون على كتفى، ويسألوننى: «مالك تنتحب»؟ ويهزوننى فرفعت عينى إليهم فإذا أمى حانية علىّ تسألني: «مالك يا سونه»؟ قلت: «جوعان..». قالت: «الأكل حاضر يا حبيبى. قم».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/86057520/
عود على بدء
إبراهيم عبد القادر المازني
هل دار بخلدك يومًا بعد أن صرت شيخًا، وشاب شعرك، واصطكت ركبتاك من الكبر، أن تصحوا من نومك لتجد نفسك وقد صرت صبيًّا يافعًا نشيطًا؟ فتبدل الصوت غير الصوت، والشكل غير الشكل، والصحة غير الصحة! فصار صوتك أنعم، وشكلك أصغر، وصحتك أقوى. هل خيِّل إليك يومًا أن أدوارك في الحياة يمكن أن تتبدل؟ فيصير ابنك أكبر منك سنًّا، وتصير زوجتك أمك! ماذا لو حدث لك كل ذلك وبقيت ذاكرتك هي الأمر الوحيد فيك الذي لم يتبدل؟ هذا هو لسان حال بطل هذه القصة، ذلك الرجل الذي اختلطت عليه الحدود، فلا يدري أحقيقة ما هو به؟ أم حلم؟
https://www.hindawi.org/books/86057520/8/
الفصل الثامن
وكانت المائدة حافلة بما طاب من «الآكال والأشواب» التى كان ابن الرومى يحسد التجار على الفوز بمثلها. وأحسب أن ما أثقلت به إنما كان من أجل هذا العم المحتال. فما يعقل أن تجتزئ هذه الكرش العظيمة باليسير أو الرقيق أو «تلك التى مخبرها ناعم. تلك التى منظرها شاحب». ان لا يفتأ يكظ لى طبقى ويحضنى على الأكل، ويزين لى طيبه وخفّته علي المعدة، وحسن ما يفيده من المتعة والصحة، كأنما يجد فى الوصف لذة كلذة الالتهام، أو كأنما هو يأكل بعينه وأذنه فضلا عن فمه — بجوارحه وحواسه جميعًا — ولا يزال يبدئ ويعيد فى الثناء على الطباخ. وكان جالساً أمامى — أعنى عمى لا الطباخ — وزوجتى — أعنى أمى — بيننا إلى صدر المائدة فلم يفتنى ما كانا يتبادلان من لحظات مختلسة أو نظرات صريحة، فقلت فى نفسى: «يا خبيث، أو تحسب أنى أجهل أن التودد إلى الابن وسيلة إلى قلب الأم؟ وأن الثناء على حذق طباخها وسيلة أخرِى؟ ولكنك تجهل أنى رجل فى زى غلام. وما أظن بك إلا أنك كنت حقيقاً أن تجتوى هذا الطعام وترتد شهوتك عنه لو اطلعت على الحقيقة». ولم تكن بى حاجة إلى ترغيبه وحضه. ولكنى كنت أتقزز عن الطعام، من سوء ما يصنع، فقد كان تلقامة، يعظّم اللقمة ويلقى بها فى فمه كأنما يرميها فى كهف. وكان يأخذ اللحم بمقدم أسنانه، ويتمخخ العظم، ويتلمظ، ويتمطق، وتعلقت بشاربيه قطرات من الحساء. وانتشر بعض الفتات على ذقنه وصدره، حتى كرهت أن أنظر إليه، وصرت أتعجب لهذه المرأة ماذا أعجبها منه؟ ولكن النساء لغز، والذى يعرفهن معرفتهن لم يخلق بعد. وكنت أحدث نفسى كلما وقعت عينى عليه أنه لا ينقصه من العملاق الذى روّعنى فى منامى إلا أن تُركّب له فى عذاريه مخلاة من لحية، ولا ينقصه من الدواب إلا أن تملأ المخلاة شعيرًا. ونهضنا عن المائدة بعد أن انتقل ما كان عليها — أو معظمه — الى جوفه. وآن أن نتفرق لنستريح استعدادًا للمساء والحفل الذى سيكون فيه. وكنت أتظاهر قبل ذلك بالفتور وثقل الجفون. فلما أخلى سبيلى ذهبت أثب صعدًا إلى غرفته وأخرجت كيس النمل من جيبى، وحللته، وأفرغت معظمه فى ساقى المنامة وكميها، وأطلقت البقية بين المخدات وأغطيتها، وكررت بسرعة إلى غرفتى وقفزت إلى السرير، دون أن أخلع نعلى وتناومت. ولم يكن هذا ما أبغى، ولكنه كان ما وسعنى. وما حيلتى وقد خذلنى الجناينى، ولم يجئنى، إلا بهذا النمل الذى لا خير فيه ولا غناء له؟ ولقد زعم أن قرصه كى، فعسى أن يصدق. وخامرنى الشك فى إمكان شعوره بدبيب النمل ولكعه جلده، فإنه سميك غليظ. ولكنى تمنيت على الله أن يحرمه النوم والراحة على الأقل، فيسوء خلقه، وترى هذه المسكينة المخدوعة، من شكاسته وجلافته وعسره، ما كان يحرص على ستره بحلاوة اللسان. والله قادر على أن يضع سره فى أضعف خلقه. وآخذنى النوم وأنا أتعلق بالأمل فى النمل، وأتحول شيئا فشيئا إلى الاعتماد عليه والثقة به. وما أدرى أطال نومى أم قصر. ولكن الذى أدريه أنى استيقظت مذعورًا على صرخات مجلجلة ودبدبة شديدة فى الردهة، وأصوات مختلفة ولجب عظيم. فأيقنت أن الله قد أجاب دعوة هذا الطفل الغرير البرىء الطاهر النفس. وترددت، هل آخرج أو أبقى؟ وزهدنى فى الخروج علمى أنى جنيت هذا وخوفى أن يفضحنى وجهى، ورغبّنى فيه أن اختبائى شبهة كافية، وقرينة دالة. ولا يُعقل أن أظل مستغرقًا فى نومى — وإن كنت طفلا — على الرغم من هذه الزعقات الشديدة، والصرخات العالية، والهرج العظيم، والخبط والدب. واشتهيت أن أراه وهو ينط، ويتلوى، ويتعوج، ويتحرق ويشتم. وتصورت منظره وهو يفعل ذلك فضحكت. لم يبق محل للتردد والاحجام. ولم أجد فى الردهة غير أمى والخدم من رجال ونساء. وكانوا جميعا يتلاغطون ويضوضون، ولا يحفلون أن أمى بينهم. فسألت عن الخبر وأنا أتكلف الجهامة، فالتفتت إلىّ أمئ، وأراحت يدها على رأسى وقالت بحنو: «مسكين.. تعال نم فى غرفة أخرفة أخرى بعيدة من هنا.. لا حول ولا قوة إلا بالله! ألا يستطيع الولد أن يستريح ساعة»؟ وهمّت أن تمضى بى، فثبّت قدمى. فما يجوز أن تفوتنى ثمرة مجهودى! وسألتها: «ولكن ما هى الحكاية؟». قالت: «علمى علمك. كل ما أعرفه أن عمك خرج يصيح ويصرخ، ويضرب الأرض برجليه، وفى يده إحدى قطعتى المنامة. فلما خرجنا إليه أسرع فدخل وأقفل الباب وظل يصيح من خلفه ويسب ويلعن … وقد سكن الاَن قليلا … فعد إلى غرفتك أو تعال معى». قلت: «كلا» ونحيّت يدها «سأدخل عليه لأرى ماذا جرى له». ودققت عليه الباب فصاح من ورائه: «لا يدخل أحد..». قلت: «أنا سونه يا … عمى». فصرخ: «امش يا خنزير يا قليل الحياء». قلت وأنا أغالب الضحك: «أقول لك أنا سونه». قال: «آه! تقتل القتيل وتمشى فى جنازته. هيه؟ تحشو لى ثيابى نملا وتجئ تسأل عنى … لتنعم بمنظر جلدى المشوى.. طيب يا ملعون والله لأؤدبنك». فالتفتُّ إلى أمى، وكانت قد تبعتنى لما سمعت صوته، وقلت: «هل سمعت؟ إنه يزعم أنى وضعت له نملا فى ثيابه. فمن أين أجىء بهذا النمل، ولا نمل فى البيت»؟ فجذبتنى أمى من ذراعى وقالت: «سخيف … ثقيل.. تعال». فطربت، وكدت أرقص، من الفرح، وهممت بأن أنط وأبوسها، ولكنى رددت نفسى مخافة أن ترتاب فيفسد التدبير. ولما عاد كل امرئ من حيث جاء، وسكنت الضجة، دخلت الفتاة الحسناء التى كنت لا أزال أجهل اسمها، وأشارت إلىّ وسبقتنى إلى الشرفة، ثم قالت لى بصوت كالهمس: «فى المرة المقبلة أرجو أن تكون أكثر حرصًا». قلت: «ماذا تعنين»؟ ونسيت أنى كنت فى الصباح قد رجوت منها أن تكون فى حِلفى على عمى. قالت: «لا تحاول أن تكابر، فليست هذه بالمرة الأولى، ثم إنك قد تركت هذا الكيس». ورفعت به يدها لأراه. فسألتها: «أين وجدته»؟ وأدركت أنى اعترفت. قالت: «لمحته على السرير فأُخذته». قلت: «هل رآه»؟ قالت: «لا، كان هذا قبل دخوله لينام». قلت: «إنه يتهمنى على كل حال» وهززت كتفى. قالت: «نعم، ولكن الكيس دليل مادى يقدمه إلى ماما فتقتنع، أو تشك على الأقل، فلا ترميه بالتحامل عليك. أما الاَن …». ومطت شفتيها. قلت: «هاته». قالت: «ليعثروا به عندك؟ كلا.. سأحتفظ به». قلت، وآنا أهز كتفىِ: «إنه كيس فارغ». قالت: «لم يكن فارغاً جدًا لما وجدته. وقد تُسأل عنه: من أين لك هذا؟ فتلجأ إلى الكذب. ولست أحب لك هذا». قلت: «ألم أقل لك إنك أجمل فتاة وأطيب فتاة رأيتها»؟ فابتسمت، وشردت نظراتها، وقالت كأنما تناجى نفسها: «لا أدرى لماذا أحبك كل هذا الحب، وإن كنت شيطانًا صغيرا». فوددت أن أسآلها: هل تشيطنت عليها؟ ولكنى رأيت شرود لحظها، واستغراق خواطرها لها فعدلت. ومضت هى فى المناجاة فقالت: «غريب. فى الصباح تعجبت لاستحيائك أن أدلك لك جسمك — وآنا الاَن أتعجب لنفسى — آشتهى آن أبوسك وأستحى أن أفعل! لعلها عينك، فإن فى نظراتها لشيئا». فهممت أن أكر إلى ما أفضيت به إليها فى الصباح. وخفت أن ترتاع كما ارتاعت، وألفيتنى أستطيب ما أجد من حنوها علىّ وأنسها بى، ومراضاتها لى. وحدثت نفسى آن فى وسعى أن أحبها بذلك الجانب من نفسى المكنون فى ضمير الفؤاد، لا لعطفها، بل لذاتها، ولحسن وجهها واكتمال آنوثتها. ولكن ما الرأى فيما نكبت به من هذا المظهر الصبيانى؟ ولأخلق بها أن تسخر منى أو تسايرنى ضاحكة لاهية. وردنى ذلك إلى التفكير فى أمرى، وأمر زوجتى وولدى، ماذا صنع الله بهم؟ ماذا قالوا وفعلوا حين أصبحوا فوجدوا سريرى خاليًا؟ أو وجدوا جسمى ممدودأ عليه ولا حياة فيه ولا روح؟ أليس واجبى أن أبتغى وسيلة إليهم، وأن أبلغهم أنى ما زلت حيا أرزق، وإن كنت قد مسخت طفلا، ليطمئنوا؟ وإنى لأجهل فى أية رقعة من الأرض أنا. وللذى صيرني غلاما قادر على أن ينفينى من الأرض ويقذف بى إلى كوكب أخر. ولكن أرى الناس هنا كما عهدت. فأنا ما زلت على الارض، وهم يتكلمون لغتى، فأنا فى بلادى، فليس لقاء أهلى بممتنع. ولكن هبنى لقيتهم فهل يعقل أن يصدقوا أن الطفل الأمرد هو رجلهم الذى اختفى بقدرة قادر؟ أو مات؟ وهبنى اتخذت التليفون وسيلتى إلى إبلاغهم ما كان ألا يعذرون إذا ظنوا أن غلامًا يتماجن عليهم فى محنتهم؟ ولكن ألا أن تنوب عنى هذه الفتاة الكريمة فى أداء هذا الواجب؟ وماذا يكون حكم الله إذا ذعرت مرة أخرى وأغمى عليها؟ لا بأس من التجربة علي كل حال. ولنمض على حذر. والله المعين. وسألتها: «أليس هنا تليفون»؟ فكأنما لطمتها على وجهها. ولما أفاقت من دهشتها قالت: «يخيل إلىّ أنك تريد أن تطير لى عقلى فهل سلفت منى إساءة إليك حتى تعاملنى هذه المعاملة»؟ فسألتها مستغربا: «لماذا؟ ماذا قلت مما يمكن ان يُحمل على هذا المحمل»؟ قالت: «تسأل عن التليفون كأنك لا تعرف … وفى الصباح تقول لى إنك لا تعرف اسمى، ولم ترنى من قبل و…». قلت: «ألا تزالين تسيئين بى الظن، وتحسبين أنى لا أقول الحق»؟ قالت: «رجعنا إلى ماكنا فيه صبحاً! (وتنهدت) الأمر لله (وكأنما تذكرت فقالت) هل تعنى أنك لا تعرف أن فى البيت تليفونا»؟ قلت بابتسامة مُرة: «وأنىّ لى أن أعرف؟ ألم أقل لك …»؟ قالت: «لم أر طفلا أعسر منك أو أصعب مراسًا». قلت: «حلمك … كل ما أريد منك، ويطمعنى فيه حبك لى، هو أن تذهبى أنت إلى التليفون، فى غفلة من الرقباء، وتطلبى رقمًا سأكتبه لك، وتقولى لزوجتى أو أحد ولدى أو الحاجّة، إنى …». ولم أتمها، فقد راحت تنفخ نفخًا شديدًا كأن فى جؤفها بركانًا فائرا، ثم التفتت إلىّ والعبرات ترفضّ على خديها وقالت: «ألا ترحم ضعفى؟ ألا يعطفك علىّ أنى محتاجة إلى عمل هنا؟ هل تريد أن أخرج من البيت»؟ وثنت رأسها ووضعت كفيها على وجهها وانتحبت. فكاد قلبى يتفطر. وأقبلت عليها أدعوها إلى السكينة، وألاطفها، وأقسم لها أنى لن أعود إلى ما تكره منى. فقلت وهى تنحى الدمع عن خديها بأصبعها: «لست أكره منك شيئًا، وأنت تعرف ذلك ولكن أخشى على عقلى من مثل هذا الكلام. فاصنع معروفًا و..». فلثمت جبينها، ومسحت لها دموعها ووعدتها أن أكف. كلا … لا فائدة. وصدق من قال: ولكن كيف؟ كيف؟ هذه هى المسألة..
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/86057520/
عود على بدء
إبراهيم عبد القادر المازني
هل دار بخلدك يومًا بعد أن صرت شيخًا، وشاب شعرك، واصطكت ركبتاك من الكبر، أن تصحوا من نومك لتجد نفسك وقد صرت صبيًّا يافعًا نشيطًا؟ فتبدل الصوت غير الصوت، والشكل غير الشكل، والصحة غير الصحة! فصار صوتك أنعم، وشكلك أصغر، وصحتك أقوى. هل خيِّل إليك يومًا أن أدوارك في الحياة يمكن أن تتبدل؟ فيصير ابنك أكبر منك سنًّا، وتصير زوجتك أمك! ماذا لو حدث لك كل ذلك وبقيت ذاكرتك هي الأمر الوحيد فيك الذي لم يتبدل؟ هذا هو لسان حال بطل هذه القصة، ذلك الرجل الذي اختلطت عليه الحدود، فلا يدري أحقيقة ما هو به؟ أم حلم؟
https://www.hindawi.org/books/86057520/9/
الفصل التاسع
قضيت بقية النهار — ألا متى يصبح «ذاك» النهار؟ — فى سجن. ولست أعنى أنى حبست فى مكان، أو غُلّقت علىّ أبواب، أو حيل بينى وبين الحركة والتنقل. كلا. فقد كنت أصعد وأهبط، وأدخل وأخرج، وألعب وأرتع وأنط، فى البيت والحديقة، كما أشاء بلا تقية أو حذر. ولكنى كنت وحدى لا رفيق لى، ولا ترب ألاعبه ولا شىء ألعب به. فاستوحشت وكانت أمى فى مخدعها أغلب الوقت. وما كان لى لذة فى مجالسة امرأة يخالط إحساسى بأنها أمى إحساس آخر بأنها زوجة. ولا كانت لى رغبة فى حديث هذا العم الذى نام، وشخر ونخر، بعد أن هزم جيش النمل، وكان الخدم مشغولين فى جناحهم بإعداد ما كلفوه للاحتفال «بمقدمى السعيد» أو عيد ميلادى كما يزعمون. وما جدوى الخدم، وأنا بى حاجة إلى من أبثه شجنى فيصدق ولا يرتاع أو يغشى عليه أو يفر منى، أو يحدق فى وجهى ويتفرس كأنما يحاول أن يرى أمارات الجنون التى يرجو أن ترتسم أو تبرز على صفحته، أو يجسنى لعلى محموم يهذى، أو يذهب يقهقه ويجاملنى فيسايرنى وفى ظنه أنى أتخيل ما أقول وأصف. وكان أمرى يحيرنى، ويورثنى اضطراباً وقلقاً شديدين، فإنه إن يكن هذا حلماً فقد طال وثقل، والأحلام لاتطرد على هذا النحو المنتظم، والاغلب فيها أن تتغير مناظرها وصورها ومواقفها وسائر ما يتمثل فيها لرائيها بغير ضابط، وهذا الذى أنا فيه والذى أراه، يجرى على نسق الحياة الدنيا، ويسير الهوينى جدٌا، كتأتأة الطفل الذى يتعلم الخطو، ومتى بالله ينتهى حلم يأبى إلا أن يبدأ من بداية العمر، وتبطئ الساعات فيه كل هذا الابطاء فى الدوران؟ وسأحتاج إلى سنين وسنين كالدهر طولا حتي أكبر، آو أفيق، وأرانى مرة أخرى على سريرى فى غرفتى التى أوصدت بابها … أترى كسروه علىّ، أم تركونى أنام إلى العصر الذى أنا فيه الأن؟ من يدرى؟ أم الأمر جد، وقد رددت طفلا؟ إن يكن هذا هكذا فلماذا بقى عقلى عقل رجل؟ أم ترٍاه سيصغر شيئا على الأيام — أو على الساعات — حتى ينقلب هو أيضا عقل غلام حدث؟ فانى أرى نفسى تنازعنى أن أصنع ما يصنع الصبيان وأن أركب الحياة والناس بما يركبهما به حدث غرير، ولو تم هذا التحول لكنت به أسعد وأشقى — أسعد لأن. حداثتى تستوفى حيئذ حقها بانتقاء هذا التلفيق والترقيع، وأشقى لأنى أبت صلتي بما عشته وألفته وأنساه، وتتغير شخصيتي التى أنا بها ما أنا، ولست أرضى لنفسى هذا، ولست مستعدًّا أن أرضى سلفا عن شخصية جديدة أجهلها، وأعتاضها من شخصيتي القديمة المألوفة، ثم لماذا تُكتب لى وحدى هذه المحنة دون خلق الله جميعاً، ويقضى على أن أحيا حياتين مختلفتين، وأمر بعهد الحداثة وما يليها مرتين؟ وإذا ظل الحال يجرى على هذا المنوال فأصغر بعد أن أكبر، فمتى يمكن أن أستريح وأُعفى من هذا العناء المتكرر؟ وكنت وأنا أدير هذا فى نفسى أتمشى فى الحديقة، فخطر لى أن مدّ البصر إلى المستقبل متعبة، وأن الساعة التى أنا فيها أولى بالعناية، وأن أول ما ينبغى هو أن أعرف أين أنا؟ أى بلد هذا وأى حى؟ لأعرف أقريب أنا أم بعيد من أهلى وبيتى، ويحسن أن أعرف ماضىّ «الجديد» فقد أقحم — علىّ حاضر أعيشه وأحياه بماض يُعد «مستعارا» وهذا ترقيع لا تصلح به الحياة التى أعطيتها فإما أن أعطى ماضيها معها أو أعاد إلى الحاضر الذى زحزحت عنه وأجلبت لا أدرى كيف؟ وعلى فرط ما أجهدت رأسى، لم أر إلا أن الموقف يدعو إلى القنوط، فما من وسيلة مثلا إلى إقناع أهلى، إذا تسنى لى أن أتصل بهم، بأنى أنا أنا — أعنى أنى أنا المفقود الذى اختطف وأن كل ما حدث أنى صببت فى هذا القالب، فأصبحت «طبعةَ جيب» من الرجل الذى كنتهُ وكيف يمكن أن يصدقوا أو يقتنعوا؟ ولكن الاً يمكن أن يقتنعوا إذا ذهبت أخبرهم أخبار ماضىّ معهم وأروى لهم ما كان بينى وبينهم فى حياتنا المشتركة؟ ممكن إذا أصغوا، ولم تطر عقولهم قبل أن أفرغ من الكلام. إذن أسلم أمرى إلى الله، فلا سعى ولا محاولة؟ وماذا يسعنى خلاف ذلك إلا إذا أردت أن أحمل إلى مستشفى المجانين لأعالج وأداوى من الخرف الذى أروع به الناس. وكنت قد صرت تحت شجرة برتقال سكرى مثقلة الأغصان يما تحمل من هذه الفاكهة الطيبة. فجرى ريقى. فمددت اليد وقطفت وذهبت أقشر وأمص وقد أذهلتنى حلاوة البرتقال عما كنت فيه، فلما شبعت وهنئت، رحت أتعجب وأقول إنى أرانى كبيت ذى شقتين أو جناحين، فلا أدخل واحدة إلا بالخروج من الأخرى، ومتِى كان فتحُ باب من هذه، أغلق باب تلك، وإن هذا ليكسبنى ازدواجاً ورحابة، ولكنًه يكلفنى شططا، فإن إحدى الشقتين يجب أن تظل سرًّا مطويًّا، وإلا حلت بى متاعب لا ينقصنى أن أعانيها، وستسكن هذه الشقةَ وطاويط الخواطر السود، ولكن ما حيلتى؟ وهل يعوض هذا أن الجانب الاَخر يستطيع أن ينعم بمرح الصبيان وخفة الحداثة وطيش أحلامها وذهولها بجدة الحياة الفياضة عن الجد؟ ربما … جائز … وإذا كان قد جاز أن أصير طفلا فلماذا لا يجوز أى شىء اخر؟ واليوم عرفنا أنه الجمعة، وغداً يجىء السبت، وأحسب أن سيكون على فيه أن أذهب إلى المدرسة، وإن كانت عينى لم تقع فى هذا البيعلى كتاب أو دفتر أو قلم، أم ترى للدرس غرفة خاصة؟ وكيف أذهب إلى مدرسة لا أعرف أين هى؟ وهبهم حملونى إليها فى سيارة، أو رافقنى إليها خادم، فإلى أى الفرق أقصد؟ وأى التلاميذ أحيىّ، وعن أيهم أعرض، ومن ألاعب ومن أتقى؟ واه لو كان الذى تقمصت بدنه قد ورثنى عداوات وخصومات وثارات؟ وأخرج يوماً أو ليلة أتمشى فإذا ثلاثة أو أربعة — أو أكثر أو أقل — من الحاقدين الموتورين أو المولعين بالشر — لوجه الله تعالى — قد كمنوا لى وراء شجرة، ثم انقضوا علىّ وأوسعونى لكما وركلا وتمزيقاً؟ آو قذفونى بحجارة فشجوا لى رأسى وأسالوا دمى وهشموا عظمى؟ وكيف أتقى هذا وقد أهمل الذى تخلى لى عن بدنه أن يترك لى بباناً يعرفنى ماضيه وعلاقاته الحسنة والسيئة؟ أما إنه والله لاهمال! أو لعلها سرعة الإبدال أنست الذى تولاه أن يعنى بهذه التوافه. وماذا كان الداعى إلى كل هذه العجلة؟ وما ضره لو كان تأنى، بل عدل؟ وخفت أن يذهب عقلى، فقد بدأت أخلط، فأقصرت، وبدا لى أن أذهب أعدو فيرفضّ عنى هذا الكرب عرقاً.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/86057520/
عود على بدء
إبراهيم عبد القادر المازني
هل دار بخلدك يومًا بعد أن صرت شيخًا، وشاب شعرك، واصطكت ركبتاك من الكبر، أن تصحوا من نومك لتجد نفسك وقد صرت صبيًّا يافعًا نشيطًا؟ فتبدل الصوت غير الصوت، والشكل غير الشكل، والصحة غير الصحة! فصار صوتك أنعم، وشكلك أصغر، وصحتك أقوى. هل خيِّل إليك يومًا أن أدوارك في الحياة يمكن أن تتبدل؟ فيصير ابنك أكبر منك سنًّا، وتصير زوجتك أمك! ماذا لو حدث لك كل ذلك وبقيت ذاكرتك هي الأمر الوحيد فيك الذي لم يتبدل؟ هذا هو لسان حال بطل هذه القصة، ذلك الرجل الذي اختلطت عليه الحدود، فلا يدري أحقيقة ما هو به؟ أم حلم؟
https://www.hindawi.org/books/86057520/10/
الفصل العاشر
وكان مساء … أي والله كان مساء … وأى مساء؟ لن أنساه ما حييت، فقد كان سلسلة رجات تميد بى منها الارض، حتى لقد كنت — أفرشح وأنا واقف وأباعد ما بين رجلى التماساً للثبات، من فرط شعورى بالزلزلة. ولكنى أسبق الحوادث، فلأبدأ من البداية. والبداية أنهم عمدوا إلى حجرة رحيبة مستطيلة رفعوا عن أرضها السجادة الوثيرة — لئلا يوسخها الغلمان بأحذيتهم الموحّلة — ومدوا فى وسطها مائدة طويلة أقاموا عليها مقصفاً، ولا قصف هناك ولا شبهه، فما كان ثم إلا الديكة، والحمام، والسمك، واللحم، والحشو وما إليه والحلواء من فطائر وولائق وما أشبه، والفواكه، وفى وسط المائدة فطيرة عظيمة مخلوطة بالصنوبر واللوز والجوز والفستق — على الرغم من انقطاع الوارد من ذلك فى هذه الحرب — غرزوا فيها عشر شمعات بعدد سني عمري. فتأمل! لو جعلوها مائة أو مائتين لما أخطأوا أو أسرفوا، فقد عشت فى هذا النهار وحده قرناً كاملا وزيادة! وأضيئت الأنوار كلها حتى بتنا كأننا فى عرس.. فشعرت بيد غليظة تعصر قلبى، إذ تذكرت أن زوجتى المسكينة تندبنى الآن، وأن ولدىّ قد غاض معين المرح من نفسيهما، وحلت فيهما الترحة والغصة وأنا هنا يحتفي بي الناس ويسروننى ويبروننى. و أقبل الغلمان فرادى وجماعات، وأنا أحييهم وأرحب بهم، وإن كنت أنكرهم ولا أعرفهم، وكانوا يسلمون ولا يزيدون على الابتسام، ولا يجرون ألسنتهم بكلمة تهنئة، وأحسبهم ما كان يعنيهم إلا الطعام الذى سيطعمونه، أو لعلهم كانوا على استحياء من أمى، وفزع وجزع من منظر العم الذى لا حاجة إلى تعريف جديد به. وصاروا كثرا، وغُصت بهم الحجرة التى سيقوا إليها، ورأيتهم صامتين يتخالسون النظر فقلت فى سرى: إنه لا يطلق ألسنتهم ولا يحل عقدتها إلا الطعام، فنهضت وأشرت إليهم أن تعالوا إلى المائدة، فهزت أمى رأسها أن لا، وأشارت بأصابعها مضمومة أن تأن … وأن الله مع الصابرين. فدنوت منها وسألتها: «ما الداعى إلى التأخير»؟ قالت: «أما إنك لغريب … ألا تنتظر الباقين؟ لماذا تأخروا يا ترى»؟ ومضت إلى الباب ونادت: «يا لولو.. لولو». فتعجبت للولو هذه من عساها تكون. ولهذا الولع بتصغير الكبار فى بيت يصلح أن يكون ثكنة لفيلق كامل. وجاءت لولو فإذا هى فتاتى الحسناء التى خلعت لها قلبها وذعرتُها بما حدثتها به فى الصباح، والتى أكاد أرجح أنها ما تحولت إليه الحاجّة. وقالت لولو بأدب — تالله ما أحلى اسمها، وإن كان يذكرنى باسمٍ كلب كان لنا وأراد لص أن يسرق بيتنا فدس له سما فى طعام تمهيدا للسطو المنوىّ: «نعم يا ستى». قالت الست: «اسألى بالتليفون عن حمادة وسعيد لماذا تأخرا واستعجليهما». حمادة، سعيد؟ ما أغرب هذا الاتفاق! وهممت أن أسألها من يكون هذان؟ ولكنى تذكرت أنى أعرفهما، أعنى أن المفروض أنى أعرفهما، ولابد أن العلاقة وثيقة ما دامت أمى تعطل الحفلة كلها وتؤخرها من أجلهما. وخرجت لولو. ولكنها لم تذهب إلى التليفون، بل دارت على عقبيها وقالت ويدها على الباب: «ها هما يا ستى». وصدق حدسى، وكنت أرجو أن يكذب. فما كان حمادة وسعيد غير ولدي الشقيين. ودارت بى الأرض حتى لم أعد أدرى أواقف أنا على قدمى أم على رأسى. ولما استقرت الأشياء فى مواضعها، وعادت، كما كانت، ثابتة لا تترنح ولا تميل كل مميل، مسحت العرق المتصبب من جبينى ومددت يدى إليهما واحداً بعد واحد. فضغطها كل منهما ضغطة خفيفة، وغمز بعينه. نعم هما الشقيان ولا شك، فإن هذا الضغط وذاك الغمز دأبهما أبداً. وهى لغة لهما يعنيان بها أشياء شئ — تترجمها أنت على مقتضى الحال إذا كنت تعرفهما، فمرة يكون المراد التهنئة أو التحية، وتارة يكون التذكير بعبث شاركا فيه، وسرا به، أو بعبث اتفقا معك عليه، وطوراً يكون إنذاراً بما ينويان أن يركباك به، فإنهما يأنفان أن يأتيا شيئاً من هذا القبيل لم يسبق الإنذار به والتحذير منه، وهكذا إلى آخره إن كان لهذا آخر. ولم يكن يبدو عليهما قلق، أو ما يشى بقلق، فكدت أجن … أهذا حال فتَيين أصبحا فإذا أبوهما قد شق الأرض — والسرير — واختفى؟ أو وجداه جثة هامدة؟ مستحيل! إذن ماذا؟ أترانى هنا وهناك فى آن معا؟ أيمكن أن أكون انفلقت اثنين، فبقى منى واحد، حيث كنا جميعاً، وجىء بواحد إلى هنا؟ وكررت إليهما الطرف فإذا هما على عهدى بهما، لا يحفلان أن أمى لا تنفك داخلة خارجة، وأن هذا العم الضخم قائم كأحد تمثالى رمسيس فى مدخل وادى الملوك بطيبة، فهما يدغدغان هذا تحت إبطه، وذاك فى خاصرته، ويدسان أيديهما فى جيوبهما، ويخرجان مالا أدرى، ويضعانه بخفة فى قفا ثالث أو أذن رابع فيصرخ وينط، ويدفع يده إلى ظهره، فيقرقر الشقيان سروراً، وتوقعت أن لا أنجو من عبثهما، ولكن هذا لم يكن يعنينى قدر ما كان يعنينى أن أتبين ماذا صنع الله بى هناك … عندهما … أعنى شطرى الثانى الذى انفلقت عنه، إذا كنت انفلقت شطرين. وآليت لاجلون هذا الأمر فجذبت حمادة من ذراعه ونأيت به عن الجماعة التى وقف معها، وتوقعت وأنا أمضى أن ينظر إلىّ يمؤخر عينه على عادته فأدرت وجهى إليه لأرى هل فعل؟ وصح ظنى، فكان ما توقعت، فزال كل شك يمكن أن يختلج فى الصدر. وسألته: «من أين جئت»؟ قال: «ومن أين أجىء إلا من البيت»؟ قلت: «! …! وكيف حال الأسرة»؟ فقهقه اللعين وأشار إلى أخيه سعيد وقال: «إنه يسألنى كيف حال الاسرة»؟ قلت: «ماذا يضحكك»؟ قال: «أتكره أن أضحك يا سونه هانم»؟ فدهشت وسألته: «سونه هانم؟ هل سمعتك تقول سونه هانم»؟ قال ببساطة وبابتسامة فيها معنى التحدى: «إن أذنك حادة». فغلى الدم فى عروق الرجل الباطن وسأل ببرد متكلف: «ولماذا بالله»؟ قال بلهجة الزراية: «هذا الشعر البناتى الجميل، والصوت الستاتى الناعم». فالختلط الأمر فى جوفى، وتنازعتنى دوافع شتى، وأشبهت مجلس سكارى يتلاغطون ولا يصغى منهم أحد. فهذا رجل ثار غضبه وتلهب فهو يهم أن يصيح: «اخرس»! هذا غلام يدفع رجله ليركل حماده وكفه ليلطمه. ولكن الرجل يتذكر أن حماده ابنه — أو أن له وجهَ ابنه — فيكظم غيظه ويرد القدم الممدودة، ويجذب الكف المرفوعة فتهوى كأنما ليس فى كمها شئ. ويؤلم الغلام عجزه عن التشفى فيجول الدمع فى عينيه. وقال حماده وقد رأى ما أسفرت عنه هذه المعركة الباطنة: «ألم أقل لك إنك بنت»؟ واصطلح علىّ عجزُ الغلام الظاهر وشفقة الأب الباطن. فأوليت حماده ظهري وخرجت من الغرفة كلها إلى ردهة مجاورة، ورأتنى لولو مستنداً إلى الحائط، وأصابعى تنكف الدمع فخفّت إلىّ، وسألتنى: «مالك؟ هل حدث شىء»؟ وجمعتنى، وضمتنى إليها، فدفنت وجهى فى بطنها، وتركت الدموع تنهمر. وأحست أنى هدأت فرفعتنى عنها ومسحت لى وجهى. انتحت بى ناحية وسألتنى: «خبرنى ماذا جرى»؟ قلت: «زعم حماده أنى كالبنت بشعرى وصوتى». قالت: «اخص عليه، وفى عيد ميلادك أيضا»! قلت: «المصيبة أنه مصيب. فإن شعرى وصوتى يبدوان حتى لى أنا كما وصف». قالت: «بل هو قليل الأدب». فقالت البطانة المحجوبة عن عينيها بلسان الظهارة الصبيانية التى يسمونها سونه: «لا، لا، لا، لا تقولى هذا. إنه ولد طيب. وقد رباه والداه فأحسنا تربيته. صدقينى فإنى أعرف». قالت: «بل أنت الطيب لا هو. يشتمك فى بيتك، وينغص عليك عيدك … هل هذا من حسن الادب والتربية»؟ قلت: «إن مظهرى، كما وصفه، وأنا أعترف بهذا. وكيف أكابر فى واقع محسوس ملموس؟ ولكن قذفهَ به فى وجهى مؤلم … أما لو كان يعرف»؟ فسألت: «يعرف ماذا»؟ قلت: «لا شىء، يحسن أن أعود إلى ضيوفى». ودخلت فى هذه اللحظة سيدتان، على إحداهما مسحة من ملاحة، والأخرى شابة تامة الحسن. فلم أعرفهما كما لا أحتاج أن أقول، وإن كانتا قد أوسعتانى تقبيلا وتهنئة. وكان من غريب أمرهما أن إحدهما — سريعة الكلام، ولكنها تتكلم بأقصى حلقها، ففى صوتها مقمقة لا تخف على الاذن، والأخرى كلية اللسان ولثغاء بالراء. وقد غافلتهما، وهززت رأسى للولو مستفسراً عنهما، فابتسمت وخبطت كفًّا بكف فملت إليها وقلت: «إنما أريد أن تحدثينى عنهما، لا أن تعرفينى بهما». فقالت: «إنهما كما تعرف أختان، وقد تزوجت الكبرى ومات عنها زوجها فرجعت إلى أهلها، فكان هذا من من سوء حظ أختها. فقد كان خطابها كثرا فقلوا بفضل أختها». فاستزدتها فقالت: «الصغرى لا تخلو من سذاجة. وكلما خطبها خاطب، راحت الكبرى تدور من ورائها وترمى نفسها على هذا الطالب، وفى مرجوها أن تفوز هى به فتنفره، وهكذا، فلا أمل للصغرى فى زواجٍ ما لم يسق الله من يحمل الكبرى ويريح أختها من حماقتها». فسألتها — لم يسعنى إلا أن أسألها: «وأنت يالولو، أصدقينى، أليس لك خطب»؟ فدفعتنى بيدها وقالت وهى تضحك: «لا تسخر منى». قلت: «إنك كنز، حصان رزان، لبيقة عطوف. وإن الذى يظفر بك لسعيد». قالت وهى تتنهد: «ومن ذا الذى يرغب فى خادمة فقيرة؟ ثم إنى راضية قانعة بما أنا فيه. وللّه الحمد». وتنهدت مرة أخرى، وندت عن صدرها «إيه» طويلة ممطوطة ثم تنبهت وقالت لى: «اجر العب مع ضيوفك … اذهب … ماما تشير». ودخلنا إلى حيث المائدة، وتقدمتُ الصفوف، وإلى يمينى ويسارى حماده وسعيد، ولم أخترهما أنا وإنما اختارتهما أمى — تلك التى أعرف بشقى المستور أنها زوجتى — فحمدت اختيارها على الرغم من تطاول حماده على بالقول الجارح والوصف الممض، واصطففنا أمام المائدة من الجانبين. وحمدت لأمى مرة أخرى أنها أعفتنا من العم والسيدتين ومضت به وبهما إلى غرفة أخرى وتركتنى مع أترابى أحرارا. وما كادت تخرج، حتى صارت الغرفة كالحمام الذى ليس فيه ماء، فعلا الصياح، وكثرِ اللغط، وتدافعت الأيدى، وانطلقت صرخات من هنا وههنا، لأن واحداَ داس على قدم جاره، أو ضرب ساقه العارية بطرف حذائه، المحدد، أو رفسه بمؤخره، أو قرصه، أو فعل غير ذلك مما يُغرى به الغلمان. وكان حمادة وسعيد لا يأكلان إلا بقدر، وكنت أحثما وأشجعهما فيبتسمان ولا يزيدان، فسرنى وساءنى هذا — سرنى منهما القصد وقلة التهالك، وساءنى أن أراهما يأكلان دون الشبع. وآن أن ننفخ الشمعات ونطفئها، وكان شر ما فى ذلك أن الأم وضيوفها عادوا ليشهدوه، فخفتت الأصوات، وصارت همسات مقرونة بخبطات خفية ووخزات الجنوب، ونخسات من الخلف، وركلات تحت المائدة، وكان بالى إلى الجمع وعينى عليه لا على جارىّ اللذين كانا يبدوان ساكتين رزينين. وقد أقلقنى منهما هذا السكون، فإنى أعرفها، لا يكون سكون طائرهما إلا نذيراً بالشر. وأدنيَتْ الفطيرة بالشموع المغروزة فيها، واحتجت مع ذلك أن أشب عن الأرض لأطولها. ولم تكف نفخة واحدة، فتكرر النفخ مرات إلى اليمين وإلى اليسار، وشغلت بذلك عن كل ما عداه، حتى إذا فرغت منه تناولت الشوكة والسكين وعكفت على الفطيرة أقطع منها وأوزع. وناولت منها الكبار نصيبهم، فحملوه فى أطباقهم ووقفوا حلقة على مسافة منا يتحدثون، وإذا بهؤلاء الصبيان ينفجرون ضاحكين مقهقهين، مكركرين، مطخطخين، ويلقون بالأطباق على المائدة فترتج وتقع الأشواك أو بعضها على الأرض، ويروح بعضهم يصفق، والبعض يضرب المائدة بجمع يده أو ببطنها، وأنا أنظر إليهم، وأدير عينى فيهم، وفمى فاغر كالأبله من الدهشة. ولكنهم كانوا معذورين، فقد كان منظرى يضحك الثكلى. وتصور غلاما فى ثياب جديدة نفيسة، وجيوبه تطل منها وتتدلى قشور الفواكه، من مثل الموز والبرتقال والليمون الحلو! حتى العُرَى أدخلت فيها «قصاصات» من هذه القشور، وعقدت على هيئة الأنشوطة، حتى زيق السترة المحيط بالعنق تدلى من تحته قشر الموز، حتى الرأس رشقت وردتان على جانبيه، وزينِ اليافوخ بنثار الزهر. وكنت حقيقاً أن أحمل كل ذلك على محمل المداعبة، ولكن العيون ضربتْ على من حدق نطاقا، وكانت سخرية النظرات والضحكات بينة، لاخفاء بها، ولم يخالجنى شك فى أن حمادة وسعيد هما اللذان صنعا بى هذا، ولو اقتصر الأمر على قشور الفاكهة التى حليت بها ثيابى لما كبر على ذلك، ولكنهما — والويل لهما، وإن كانا ولدىّ — رشقا لى الورد فى شعرى ونثرا لى غلائل الزهر عليه تشبيهاً لى بالبنات وتشنيعاً علىّ، ولمزاً فعابانى فى وجهى، وحقرانى على ملأ من أحداث لاشك أنهم سيجعلونى مضعه فى أفواههم طول الأسبوع، بل الشهر على الأرجح. ورميت الورد، ونفضت نثار الزهر عن رأسى، أول شىء، فقد كان هذا هو الذى أمضنى وأرمضنى، ونزعت أمى ما على ثيابى، وهى تضحك — سامحها الله — وتقول لى: إنه مزاح لاينبغى أن يغضبنى. ولكنى كنت مغيظاً محنقاً ولافائدة من محاولة التسرية عنى، فدفعتُ يدها عنى بعنف، وانطلقت خارجاً من الغرفة إلى الحديقة، ورحت أتمشى، مطرقاً، وأفكر فيما ينبغى أن أصنعه، فما بقى مفر من أن أصنع شيئا أميط به عنى هذا الذى يلصقه بى الولدان اللعينان، ويجعلانى به أضحوكة وهزؤاً بين الغلمان، ولافائدة ترجى من الترقق بهما والحنو عليهما، فما يعرف أحد ما أعرف من نفسى، وكل مايعرفه هؤلاء الصبيان أنى ولد مثلهم، وأن حمادة وسعيد مازحانى هذا المزاح الثقيل، وزعمانى كالبنت، وأنى جبنت فالخير كل الخير أن أؤدبهما، وإن كانا ضيفىّ، وإن للضيف لحرمة عند الكبار، ولكن الصغار لايرعون حرمة لشىء، وسيحملون حلمى على الجبن وضعف القلب، ويتقرر فى نفوسهم أنى كما زعم الخبيثان فلا أزال بعد ذلك أقع كل يوم فى بلية، وأتعرض لحديث الأولاد وسخرهم وعبثهم. واستقر رأيى على أن أضربهما علقة، فى هذه الليلة، وفى هذه الحديقة، وأنسانى الغيظ والموجدة، أنى لو كنت فى إهابى المنزوع لهان ذاك وتسنى، وأنى صغير مثلهما، ولعلى أضعف منهما وأضوى جسما وأقل شدة عظام. ودرت لأدخل وأستدرجهما إلى الخروج، ثم آخذهما بما فعلا. ولكنى لم أحتج إلى تكلف ذلك. فما كدت أخطو خطوات، حتى رأيتهما مقبلين على مهل. فوقفت في مكانى، أنتظرهما، فلما صارا أمامى قال أكبرهما (سعيد): «لقد كان منظرك ممتعاً». كأنما يباهى بما صنع، ولا يحفل ما أورثنى من ألم وخجل، فلم أقل شيئا، ورميته بنظرة سخط واشمئزاز. وقال الاَخر (حمادة): «ما كان أحلى الورد فى شعرك … لو كان الوقت اتسع لضفرت لك منه إكليلا … يا خسارة … إذن لكنت كالعروس ليلة الزفاف». فطار عقلى، وارتميت عليه اريد أن آخذ بتلابيبه، وأجذبه إلى الأرض وألقيه على وجهه أو شقه، وأعجنه بقدمى، ولكنه كان كأنما توقع ذلك. فقد انحرف عن طريقى بخفة، فوقعت على الأرض — بوجهى — كالحجر، وانغرس أنفى فى التربة الطرية، فلبثت هكذا ثوانى، لا أتحرك، ثم رفعت رأسى وجذبت رجلىّ ونهضت متثاقلا، وشرعت أمسح ما لطخ به وجهى من الطين، وهما يضحكان، ومن ورائهما جمع يضحك معهما، فقد تبعهما الباقون، وأنا لا أدرى. وصار موقفى أبعث لى على السخط، ولهم على الهزؤ، وأدركت أنه لا خير فى مثل ما صنعت، فقلت لحماده: «لو لم تكن جباناً لما أجفلت …». فضحك وقال بهدوء غريب: «إنما تنحيت عن طريقك إشفاقاً عليك، فإنك مسكين هش لاعظم فى بدنك، ولوشئتُ لدفعت فى صدرك فحطمت لك ضلوعك أو لبططت لك أنفك وشوهت وجهك البناتى». قلت: «طيب خذ». وألقيت نفسى علية مرة أخرى، وحرصت على أن لا أدعه يفلت كما فعل من قبل، ولكنه أخذ بناصينى وثنى عنقى، حتى خلت من ألمى أنه سينقطم، وراح يضرب صدغى بجمع يده، وبطنى بركبته حتى أيقنت من شدة الوجع أنى طائح هالك لا محالة ثم خلانى ودفعنى بكلتا يديه فانطرحت على ظهرى، انطراح من لا ينوى أن يقوم بعد ذلك أبداً. ولم أكن — وأنا راقد — أفكر فى شىء أو أحس شياً سوى هذا الفتور الذى جعلنى أخلد إلى رقدتى، وسمعت صوتاً تأدى إلىّ من بعيد يقول: «يظهر أنه استحلى الرقدة، فتعالوا يا جدعان». وتالله ما أقسى قلوب الصغار وأغلظ اكبادهم، إن صح أن لهم أكباداً، وهو ما أشك فيه، فقد تناولونى من ذراعى، ورجلى، ورفعونى بينهم عن الأرض وراحوا يطوحوننى يميناً وشمالا، كأنى لعبة فى أيديهم، لا مخلوق مثلهم مشفِ على الهلكة، وكنت لا أصيح، ولا أقاوم، لأنه لم تبق لى قدرة على صياحَ أو حركة وإن كنت مدركاً لما يفعلون محسًّا به. ولو كان الأمر إليهم لقتلونى وما عبأوا شيئاً. وما زلت إلى هذه الساعة أتعجب لشدة نقمتهمِ على من تقمصت جسمه، وقلة عطفهم عليه ورحمتهم له، فما سمعت واحداَ منهم يزجرهم أو يدعوهم إلى القصد وينهاهم عن الشطط، فلولا أن عم أحمد — جزاه الله خيراً — أقبل فى تلك الحظة، لظلوا فى لهوهم القاسى. وما كادوا يبصرونه حتى تخلوا عنى وذهبوا يعدون فى أرجاء الحديقة، فهويت إلى الأرض مرة أخرى، كالحجر ….
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/86057520/
عود على بدء
إبراهيم عبد القادر المازني
هل دار بخلدك يومًا بعد أن صرت شيخًا، وشاب شعرك، واصطكت ركبتاك من الكبر، أن تصحوا من نومك لتجد نفسك وقد صرت صبيًّا يافعًا نشيطًا؟ فتبدل الصوت غير الصوت، والشكل غير الشكل، والصحة غير الصحة! فصار صوتك أنعم، وشكلك أصغر، وصحتك أقوى. هل خيِّل إليك يومًا أن أدوارك في الحياة يمكن أن تتبدل؟ فيصير ابنك أكبر منك سنًّا، وتصير زوجتك أمك! ماذا لو حدث لك كل ذلك وبقيت ذاكرتك هي الأمر الوحيد فيك الذي لم يتبدل؟ هذا هو لسان حال بطل هذه القصة، ذلك الرجل الذي اختلطت عليه الحدود، فلا يدري أحقيقة ما هو به؟ أم حلم؟
https://www.hindawi.org/books/86057520/11/
الفصل الحادي عشر
وأفقت فى سريرى، على أمى بجوارى، وعمى يتمشى فى الغرفة، ولولو تضع كمِادة على خدى الوارم. وسمعت عمى يقول: «لقد كان رأيى دائماً أن هذا الولد يجب أن يزاول ألعاباً رياضية، رياضية لتشتد عظامه، وتقوى عضلاته، ولكنك تبالغين فى الخوف عليه من النط والقفز، فانظرى ماذا صار؟ ولد صغير أصغر منه — يدقه هذا الدق ويطحنه حتى تنقطع أنفاسه، لو كان بنتاً لما كان هناك بأس، ولكنه ليس بنتاً …». فقالت أمى تقاطعه: «ألا تكف عن هذا اللت والعجن»؟ فدار وواجهها — بكرشه — وقال محتجاًّ: «لت وعجن؟ أنا أريد أن يصبح رجلا وأنت تربينه تربية البنات. وأنصحك مرة وأخرى. فتقولين إني ألت وأعجن! سبحان الله العظيم! طيب … ولكنى لن أكف عن اللت والعجن حتى تغيرى كل هذا. إنه ابن أخى — يعنى ابنى — كما هو ابنك. ماذا تخشين عليه؟ أن تنكسر ساقه؟ أو ذراعه؟ أن يدق عنقه؟ كل الأولاد فى كل الدنيا يلعبون ولا يصيبهم سوء. فلماذا يصيبه السوء وحده دون هذه الاَلاف المؤلفة؟ وهبيه انكسر، فالكسور تجبر». فتنهدت وقالت: «طيب.. طيب، آمنا وصدقنا، ولكن هذا ليس وقت الكلامٍ ثم إن الدكتور قال يجب أن لا نزعجه بكثرة الكلام، فاصنع معروفاً …». فقاطعها بدوره وقال ساخراً: «الدكتور؟ دكتور لماذا؟ لأن ولداً ضربه علقة؟ تقلبين الدنيا لأن خبطة ورم منها خده؟ هذا إسراف فى التدليل … هذا …». فصاحت به: «يا أخى أنا فى عرض النبى، اسكت …». فصاح بدوره: «أسكت كيف؟ إنك تفسدين حياة الولد المسكين، فكيف أسكت»؟ قالت: «طيب، تول أنت إصلاح حياته. بس فيما بعد. ولنتركه الآن مستريحاً». ونهضت بعد أن ألقت علىّ نظرة، وإلى لولو أخرى، وسحبت عمى من الغرفة، وخيراً صنعت. فقد بدأ رأسى يوجعنى من صوته «اللجب» المضوضى. ولمٍ يكن بى شىء يستحق الذكر غير هذا الورم الذى زاد به خدى أنتفاخاً. وكان فتح فمى ربما كلفنى بعض التعب وقد استغربت أن يكون الأمر احتاج إلى طبيب، ولكنى أحسب أن أمى أفزعها الاغماء، فاستدعته، وكنت لما هجمت على حماده أشعر أنى أقذفه منى بجبل، فإذا أنا هش ركيك البناء خرع، لا أقوى على شىء، وأخجلنى هذا الذى تبينته من أمرى ومن صدق حماده فى وصف وهنى وخورى، وجال الدمع فى عينى وأنا راقد وعلى خدى الكمادة، فربتت لولو على ذراعى وقالت بابتسام: «علقة تفوت ما حد يموت. تعيش وتأخذ غيرها». وكانت تمزح ولا تقصد إلى التعبير. فأطلق ذلك لسانى فقلت: «لم أكن أعرف أن جسمى واه إلى هذا الحد. وقد كنت واثقاً حين هجمت عليه أنى سآكله بعظمه». ففتحت عينيها مستغربة، وسألت: «أنت.. تقول إنك هجمت عليه»؟ قلت «نعم. فقد تحرش بى وٍ استفزنى فنفد صبرى فألقيت بنفسى عليه كان ظنى أنى سألقى عليه درسا لا ينساه، فتلقيته أنا عنه». قالت: «لا أزال أستغرب … كيف هاجمته»؟ قلت: «ألست أقول لك إنه استثار غضبى»؟ قالت: «ولكن.. لقد كنا نظن أنه هو البادئ بالعدوان». قلت: «العدوان باللسان. نعم، أما باليد فأنا البادئ». قالت، وكأنها تحدث نفسها: «غريب …». قلت: «ما هو الغريب». قالت: «أن تكون أنت المعتدى، عهدنا بك أن يعتدى عليك، فتلوذ بالفرار ولا تثبت لاحد.» فصرت أنا المتعجب وسألتها: «أهذا كان دأبى»؟ قالت: «كأنك لا تعرف! إنك اليوم على خلاف ما عهدنا … فى كل أمر … مدهش هذا التحول». قلت فى سرى: «ما خفى كان أعظم، وإذا كان يدهشها إلى هذا الحد أن ترانى أتحول من الفر إلى الكر، فكيف لو اطلعت على المغيب من تحول الرجل الشديد المحتنك إلى فتى ضعيف القلب منسرق المنة»؟ وقلت لها — كالمعتذر: «لو كنت أعرف أنى ضعيف إلى هذا الحد لبقيت محافظاً على تقاليدى». فزاد عجبها ولم ينقص، وقالت، وأغضت عن المزح الذى فى قولى: «كيف لم تكن تعرف؟ هل هذا معقول»؟ قلت: «والله ما أقول إلا الحق، ولقد حملت عليه وأنا على يقين أنى ساَخذه فى راحتى، كأنه لعبة صغيرة، ثم آلطعه وأقضى عليه. ولكنى كنت أجهل ما أنا. فما سبق أن امتحنت قوة هذا الجسم ومبلغ جلده». فجست جبينى، وفى ظنها أنى أهذى من حمى أو غيرها. فلما لم تجد شيئا قالت: «إنك تدير لى رأسى بهذا الكلام الذى تلهج به طول النهار … فيحسن أن تسكت لئلا تتعب». فسكتّ، فإن الاسترسال فى هذا المعنى عبث لا طائل تحته. وكنت أرى رقتها وحدبها وهى تمرضنى، فأعجب لمثلها فى مثل جمالها كيف أخطاها الزواج، وما أخطأها فى الحقيقة، فإنها غضة السن، ولكن مثلها يخطف خطفاً؟ وقلت لها بعد قليل: «أراك هربت منى الليلة كما تقولين إنى كنت آهرب من الأولاد …». فعبست — تكلفت التعبيس — وهل يحسنه من يضحك الجمال فى وجهه ويضيء؟ وقالت: «لست فاهمة». قلت: «سألتك هذا المساء لم لم تتزوجى؟ فهربت من الجواب الصريح». فضحكت، وقالت: «آه هذا … لا لم أهرب … قد يسليك أن تعلم أن رجلا ليس من طبقة الخدم مثلى خطبنى …». وضحكت مرِة أخرى. فقلت معترضاَ: «لست أرى موجباً للضحك …». قالت: «نعم. رجل ذو مال … حكاية ظريفة. هل تريد أن تسمعها»؟ قلت: «طبعاً … ولكن لماذا هذه السخرية … أو هذه المرارة فى لهجتك؟.. ما عيب الرجل ذى المال»؟ قالت: «لا عيب فى ماله. وإنى لأكون كاذبة إذا ادعيت الزهد فى المال والنعيم والراحة». قلت: «العيب فيه هو إذن»؟ قالت: «انتظر … أصر أن أتعلم الموسيقى …». قلت: «فن جميل يزيد الحياة طيباً وسعة». قالت: «صحيح … واشترط أن أتقن العزف على الكمان. وعليه النفقات كلها …». فظننت أن الذى زهدّها فى الرجل طول الزمن، فسألتها، فقالت: «كلا … فإنى أتنظر بغير خطبة … فلماذا لا أنتظر بخطبة؟ ولم يكن هذا كل ما طلب وشرط. فلا بد أَن أتعلم الرقص أيضاً». قلت: «أراه رجلا يعرف من أين تؤكل الكتف كما يقولون». قالت: «كتف؟ … كتف إيه»؟ فابتسمت وقلت: «يعنى أنه ذكى يفهم». قالت: «طيب … وكان ابن خمسين وأصم وله ساق من خشب …». فلم أقل شيئا. ولكن الغلام الذى لبست جلده ضحك. أما الرجل الذي فى جوفه فحدث نفسه أن الدنيا لا تكون دنيا إلا إذا اجتمع فيها كل صنوف الناس. وعادت تقول بابتسامة: «ولى محب عاشق ولهان آخر … أظنك تعرفه …». قلت: «أنا أعرفه؟ … من هذا»؟ قالت: «عم أحمد الجناينى». قلت: «آه … هذا الذى نهيتنى عن الكلام معه»؟ قالت بحدة: «لم أنهك. وإنما نقلت إليك كلام الست …». فأستغربت حدتها، وقلت: «إنه رجل طيب … وله علىّ فضل … أذكره ولا أجحده. وإن كان قد خيب أملى قليلا». فصارت هى المستغربة، وسألتنى بلهفة: «خيب أملك؟ كيف؟ إنه يحبك حباًّ شديداًّ، ويحب التراب الذى تمشى عليه …». فسألتها مستدرجاً لها: «هل قال لك ذلك»؟ قالت ببساطة: «مراراً كثيرة … إنه لا يكاد يكون له حديث إلا عنك». فحدثت نفسى أن فى الزوايا خفايا كثيرة، وفى الدنيا أعاجيب لا تنتهي. هذه فتاة يخلب جمالها الألباب. وفى وسعها لوشاءت أن تقطع هذه العزوبة وتتزوج فى أية طبقة. فما يستطيع أن يقاوم فتنتها من تتصدى له … فتعرض عن المال والجاه. وتقصر أملها علىِ بستانى فقير، تحذَيه شر من الحفى … فالحق أن الحب أعمى. والحظ أيضاَ. وماذا ترى أعجبها من هذا البستاني؟ وماذا يروقها من حديثه، أو مجلسه أو حاله على الجملة، حتى تروح تنشد لقاءه، وتنعم به — أيضاً فى غفلة من الرقباء؟ وإنه لرجل طيب، ولكن هذا لا يكفى. وقلت لنفسى: «خسارة. خسارة والله». ويظهر أنى تكلمت بصوت عال، وأن هذا صار عادة لى. فقد سألتنى: «ماذا تقول»؟ قلت: «لاشىء …». قالت: «ولكنك كنت تقول شيئا». قلت: «نعم، كنت آعرب عن أسفى لأن عم أحمد جاءنى بنمل، ولم يجئنى بما هو أجدى وأفعل وأكفل بأن يحمل صاحبنا علىِ الهرب». قالت، وهى تضع سبابتها على شفتيها: «أظنه اتياَ الآن … ليعودك فإنى أعرف دبة رجله». قلت: «إذن سأتناوم حتى تنقشع السحابة أو ينحسر ظل الجبل». وغطيت عينى بذراعى. ولم يخطئ ظنها، فقد كان هو القادم بعينه — أو بطوله وعرضه وكرشه — ولم أره لأنى لم أرفع ذراعى عن عينى ولكنى سمعتة يقول هامساً: «أهو أحسن»؟ وأحسبها هزت رأسها فما سمعت صوتها. فعاد يقول: «عال! الحمد للّه. مسكين هذا الولد. عسى أن يصبح بخير …». ثم كأنما خطر له خاطر وهو يمضى. فارتد وقال: «اسمعى يا لولو. أرجو أن لا … لا تذكرى شيئا عن زيارتى هذه لستك فإنها … فاهمة؟ آشكرك». وخرج ورد الباب بحذر وخفة لئلا يوقظنى. وسألت لولو: «ماذا يعنى»؟ قالت: «إنه ثقيل ولا مؤاخذة، ولكنه طيب القلب». قلت. «ولكن ماذا يعنى»؟ قالت: «ستى دائماً تعيره أن قلبه يرق لك على الرغم من الثورات العنيفة التى يثورها. وهو أيضاً يقول عنها ذلك … الحقيقة أن الاثنين، يحبانك حبا لا مزيد عليه». قلت: «شكراً لهما … وهل تحبيننى مثلهما»؟ قالت: «أتشك فى ذلك»؟ قلت: «قدر حبك لعم أحمد»؟ فاتقد وجهها واعترفت إذ سألتنى: «من أدراك»؟ قلت: «فضحَك وجهك ونم عليك هذا الأرجوان الذى صبغه». فآطرقت حياءً فَقلت أطمئنها: «لا تخافى على سرك. فسيظل مطويّا مع سرى». فرفعت رأسها وسألت: «سرك؟ وما هو»؟ قلت: «آه … هذه هى المسألة … إنه لا يبقى سراً إذا أفضيت به إليك». قالت: «يا لك من ماكر! هل تعرف أنك تبدو لى أحياناً أكبر مما أنت؟» قلت: «أوه. جدًا. جدًّا».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/86057520/
عود على بدء
إبراهيم عبد القادر المازني
هل دار بخلدك يومًا بعد أن صرت شيخًا، وشاب شعرك، واصطكت ركبتاك من الكبر، أن تصحوا من نومك لتجد نفسك وقد صرت صبيًّا يافعًا نشيطًا؟ فتبدل الصوت غير الصوت، والشكل غير الشكل، والصحة غير الصحة! فصار صوتك أنعم، وشكلك أصغر، وصحتك أقوى. هل خيِّل إليك يومًا أن أدوارك في الحياة يمكن أن تتبدل؟ فيصير ابنك أكبر منك سنًّا، وتصير زوجتك أمك! ماذا لو حدث لك كل ذلك وبقيت ذاكرتك هي الأمر الوحيد فيك الذي لم يتبدل؟ هذا هو لسان حال بطل هذه القصة، ذلك الرجل الذي اختلطت عليه الحدود، فلا يدري أحقيقة ما هو به؟ أم حلم؟
https://www.hindawi.org/books/86057520/12/
الفصل الثاني عشر
وآن أن أنام. وِلم يكن يرنق فى عينى نوم. نعم كنت متعبًا مهيضاً. وكنت أرانى أحياناَ بين اليقظان والوسنان. ولكنى لم أكن أشعر بمقاربة النوم أو ثقل الجفون. ولكن قيل لى إن النوم وجب، فقلت وهو كذلك، ورأيت أن هذا يتيح لى أن أخلو بنفسى فتظاهرت بالطاعة فذهبوا عنى وصرت وحدى فوسعنى أن أفكر فى أمرى، فى سراح ورواح، وأمان من أن يتطفل على خلوتى أحد بوجوده. وقلت لنفسى هذا يوم الجمعة قد انقضى، لا بسلام، بل بعلقة، ولا عجب أن يطّرد النحس فيه من البداية إلى الختام. وقد انتهت الحفلة يما لا أعرف. فما عنيت بأن أسأل. ولا صدقت لحظة واحدة أن هذا عيد ميلادى. وكيف يكون وأنا لم أولد هنا ولا لهؤلاء القوم الذين ما عرفتهم إلا فى هذا اليوم؟ ولست آدرى هل ينتظر منى فى صباح الغد أن أذهب إلى المدرسة أو تعفينى العلقة منها أياماً؟ وعلى أن هذا لم يكربنى كما يكربنى ما صرت إليه، وما أقصيت عنه فماذا أصنع؟ هلِ أوطنِ نفسى على السكون إلى هذه الحداثة الجديدة، وأحتمل أن أكبر شيئا فشيئاَ، سنة بعد سنة حتى يأذن الله مرة أخرى أن أعود رجلا، بعد أن كنت قد فرغت واسترحت من هذا العناء؟ ولماذا يقضى علىّ أنا وحدى بهذا التكرار؟ وعدت أتساءل: أهذا حلم أم أنا أرى حقا؟ فإذا كان حلماً فلعلنى إذا تحركت أن أستيقظ. وأغمضت عينى وجعلت أدفع يدى ورجلى وأضرب بهما الهواء وأتقلب بعنف. ثم فتحت عينى وأجلتهما فيما حولى وأنا أتوقع أن أرى غرفتى القديمة التى أسرى بى منها، ولكنى على الرغم من الظلام لم أر أنى قد عدت إليها. فهبط قلبى وكاد اليأس يخامرنى من النجاة أو الأوبة إلى ما خلفت. ثٍم ضحكت — أضحكنى أنى أتكلف هذا العبث لأستيقظ، وما كنت نائما، ولو كان شىء خليقاً أن يوقظنى، لتكفلت بذلك العلقة السخنة. وسألت نفسى: «والاَن ما العمل»؟ وجلست ونزعت الكمادة التى تركوها على خدى وحدثت نفسى أن الطبيب الذى عادنى وأنا غائب عن وعيى وعن هذا العالم الجديد الذى قذف بى عليه، حمار. وكيف عجز أن يتبين أن هذا الاهاب الصغير، محشو برجل كبير ولم يفطن إلى هذه الغلطة الجسيمة؟ وما قيمة ورم قليل فى الخد وأنا كلى وارم؟ وكيف غاب عنه أن جلدى مكظوط ومشدود لأن ما هو أكبر منه حشر فيه؟ وكففت عن هذا فما فيه خير. وقلت إن الطبيب لم يكن معنيًّا إلا بما يستحق عليه أجره. ولو كان عُنى بالفحص الجدى لاطلِع على معجزة ولوقع على مالم يقع عليه طبيب من قبل. ولصار بذلك علما خالد الذكر. ولكنه لايعرف إلا مافى كتبه ولايجعل باله إلى الأعراض البارزة جدًّا، ويدخل متأثراً بما قيل له، وقد عادنى وكل مافى رأسه أنى ضربت علقة. فلم يكلف نفسه أكثر من النظر إلى المواضع التى أصابها الضرب. ولو أهمل ما قيل له، ودقق فى الفحص لعلم أنى مدسوس فى جسم غير جسمى. وبدا لى أن الطبيب سيضيع وقتى، إذا كنت أعود إليه كلما اعتزمت أن آتركه. وماذا كان يسعه؟ أهذا صندوق يستطيع أن ينزع مساميره ويرفع غطاءه ويخرجنى منه؟ إذن فلندعه إلى ما هو أجدى. وخطر لى أن أجدى من ذلك أن أنهض وأحاول أن أتصل بأهلى! وقد عرفت أن ههنا آلة تليفون، وقد نام البيت، ففى وسعى أن أستخدمه، وبحسبى أن أسمع صوت زوجتى أو غيرهما ممن فى البيت، فما أطمع أن يصدقونى إذا قلت لهم إنى رجلهم! ورأيتنى وأنا أهبط على درجات السلم بحذر وعلى أطراف أصابعى أتساءل: «كيف يكون الحال إذا طلبت بيتي فأجابنى صوت كصوتى الذى أمسيت به وأصبحت بخلافه؟ أى إذا تبينت أنى لا أزال هناك وإن كنت هنا»؟ وطردت هذا الخاطر فإنه مثبط ومزعج، وذهبت أنسل من غرفة إلى أخرى وأتلفت وأستثبت قبل أن أدخل حتى اهتديت إلى التليفون، وكان فى غرفة تشبه غرفة مكتب إلا أنه لا كتب فيها ولا شىء سوى مكتب ألصق بالحاط ووضعت عليه ربطات مختلفة مزدانة ذات ألوان بهيجة، خطر لى أنها عسى أن تكون «الهدايا» التى أهديت إلى فى «عيد ميلادى» ونسوا — لا أدرى كيف؟ — أن يقدموها إلىّ، أو حتى أن يذكروها. ولكنى لم أعن بها وانصرفت عنها إلى التليفون، وهو فيما أعلم، أو فيما كنت أعلم، مجعول لتيسير أسباب الاتصال بين الناس، ولكنه كان فى ليلتى هذه كأنما جعل لمكيدتى وامتحان صبرى، فما رفعت السماعة عنه مرة وأدرت رقم تليفونى إلا خلتنى فى نادى سمر وقصف، وما أكثر ما سمعت مما لو قرأته فى كتاب، أو شهدته على مسرح أو فى سينما لقلت إنه شطط فى التخيل، ومبالغة فى الاغراب، وكثر المتطفلون على، وكانوا ينهروننى ويأمروننى أن «أخرج» ويوبخونني ويقولون لى إن استراق السمع عيب، كأنما كنت قد فعلت ذلك، أو تعمدته، أو كأنما هم لا يُعدون أيضاً متطفلين علىّ! وشتمنى واحد بألفاط لم أكن أعلم أنها مما يجرى به اللسان حتى بين المرء ونفسه، فتعجبت للإنسان وما ينطوى عليه من جبن أصيل، وسوء أدب وقلة مروءة، وظننى بعضهم فتاة لأن صوتى قد صار كصوت البنات كما أسلفت، فراح يغازلنى ويحاول أن يتعد معى! وكدت أخرج عن طورى، فقد أجهدنى وأتلف أعصابى هذا الخلل الذي أصاب التليفون، ورأيتنى مرات أهم بأن أصيح لأطرد هؤلاء الطفيليين الواغلين الذين لا يزالون يحشرون أنفسهم كلما طلبت الرقم كأنهم، آلوا على أنفسهم ليحولن بينى وبين الاتصال بمن أريد، وخفْتُ عاقبة الصياح فألقيت السماعة وعدت أدراجى إلى غرفتى، لأطمئن،َ فقد جري بظنى أن لعل بعضهم قد زارِنى ليرى كيف حالى. ولكنى وجدت كل شىء هادئاَ كما تركته. فقلت أنفض الأرض حول البيت فإن الليل فرصتى، فلن يأخذ أحد على متوجهى. وكان باب الشرفة مفتوحاً ليدخل الهواء. فخرجت إليها ومددت، فجذبت غصنا من الشجرة التى لفتت نظرى فى الصباح والتى تسلقها عم أحمد لما جاءنى بالنمل. وجلست على حافة الشرفة، وثبت رجلى بين فرعين. وانتقلت إلى الشجرة. وتذكرت أنى كنت فى حداثتى الأولى أحسن تسلق الشجر. وشجعنى ذلك وقوى قلبى، وإن كان الحذر لم يزايلنى، وكان فى أغضانها خشونة آذت هذا الجلد الرقيق الريان، وخطر لى وأنا أتأفف أن حمادة على حق، فما هذا بجلد صالح لجسم رجل. وتذكرت وأنا أنتقل هابطاً بين الغصون شجرة جميز سهوقٍ فى بيتنا الذى نشأت فيه كنت أوثرها على السلم. ولكنى كنت ولدا قويًّا مصكا لا أعيا بعمل لا كهذا الخرع الذى دسونى فيه. وبعد مشقة عظيمة صارت قدماى على الأرض. فنفضت التراب والورق. وشرعت أتلفت. وتمنيت لو كنت أعرف أين العم أحمد الاَن، فأذهب إليه وأستعين به فإنى بغيره خليق أن أسير على غير هدى. ولم يكن فى رأسى خطة واضحة. وكان كل ما يخطر لى هو أن أحاول أن أعرف آين آنا من الكرة الأرضية؟ فقد رجح عندى أنى ما زلت عليها. ولقد كان هذا أولى بالنهار. ولكن ما فات مات. ولا فائدة من الأسف. وطار طائر ففزعت لحركة جناحيه المفاجئة وخفقهما. وكنت قد نسيت الظلام وما عسى أن يطالعنى به. فسألت الله السلامة. ولست ممن يخافون الليل وسواده، ولكنى انتقلت إلى جسم جديد، أجهل كنهه. ولقد امتحنته فى المساء فخيب أملى فمن أدرانى الاَن أنى لست متهوراً فى هجومى به على هذا الليل الأسود؟ وما كاد هذا يمر بخاطرى حتى رأيت عينين واسعتين شاخصتين فاضطربت وزاد اضطرابى أنى لا أرى الجسم الذى تطلان منه. ولم أدر أهما عينا أفعى أم قط أم بومة؟ وتراجعت ويدى على فمى لأكتم الصرخة التى أحسست أنها ستنطلق. ولم أر أن ذا العينين يدنو منى فاطمأن قلبى قليلا. وخطر لى أن أجرب. فقلت: «بس» فاختفت العينان. فأقدمت وسرت خطوات. وإذا هما أمامى مرة أخرى. فقلت: «بس» فاختفتا ثانية. فمضيت فى طريقى وقد أيقنت أن هذا قط أسود ولكن خوفى ما كان يخف إلا ليشتد، ولا يذهب إلا ليجىء. فقد كان القط — كلما قلت «بس» — يتركنى أو يختفى، او يمضى أمامى، ولكنه كان فيما يخيل إلىّ، كأنما ينط ويدور ويرشقنى بهذه النظرة الجامدة الساكنة التى لا يتغير تعبيرها؛ وكان ربما كبر فى وهمى أنه عفريت، خرج لى فى فى زى قط، ولكنى كنت أطرد هذا الخاطر وأقول إن «سونه» قد تفزعه العفاريت أو القطط ولكن سونه يحتل بدنه عقلى أنا الناضج الذى لا تخيفه هذه الأوهام. وصار القط رائدى، فهو يمضى قدامى، وأنا أمضى خلفه. فما كان يهمل أن يبدو لى بعد كل اختفاء، وما كان أغرب أن أمشى مهتديا بعينين تومضان في ظلمة الليل، ولشد ما وددت أن ألمس الجسم الذى هما فيه. فقد كانتا كأنهما منزوعتان ومرسلتان فى الفضاء وحدهما، وبمجردهما. وإنا لنخبط فى هذا الليل — أنا والقط أو أنا وعيناه — وإذا بزمارة الإنذار تنطلق مؤذنة بغارة جوية. يا خبر أسود! وما العمل الآن؟ لقد بعدت عن البيت حتى اختفى فأنا لا أراه ولا أعرف موقعة من الجهات الأربع. فأين أختبئ إذا احتجت إلى الاختباء؟ وسيلتمسوننى فى غرفتى ليحملونى معهم إلى مخبأ — إذا كان لهم مخبأ — أو ليطمئنونى ويذهبوا عنى الروع. ولن يجدونى. وحينئذ تقوم القيامة. وكيف حال أهلى يا ترى الآن؟ أهلى أنا لا أهل الذى أنا مدسوس فيه؟ وحدثت نفسى أنه لا خوف عليهم أن يجزعوا كما أرى الذى ابتليت بجسمه يجزع. فقد راح ينتفض ويرعد حتى كاد يخلع لى فؤادى. ثم ذهب يعدو ويدردب من الخوف ويحملنى معه هنا وههنا من فرط الفرق والحيرة. وأنا أصيح به — من الباطن: ماهذا؟ ليس هكذا يصنع العقلاء.. ألايمكن أن تقف وتسكن حتى أفكر لك؟ فلا يقف ولايسكن ولايتيح لى فرصة للتفكير. فأنا محمول معه بكرهى إلى حيث لا أعلم. وسمعت طلقة مدفع فقلت: «آه جاءك الموت ياساكن جسم سونه الأهوج الاخرق الوهنان» أترى عقله قد أخلق وتمزق واحتاج أن يرقع بعقلى؟ وليته يدعنى أرقعه له! إذن لاستطعت أن أجرى أمره على استواء. وذهبت أعدو معه، وهل كان يسعنى أن أتخلف؟ وإذا بى أصطدم بما حسبته أول الأمر شجرة أو نخلة، ثم تبينت أنه إنسان مثلى، فقد قال: «أخ» كما قلت ووقعت على الأرض ولكن يدى كانت مطبقة على قطعة من ثوبه عرفت، فيما بعد، أنها تكة سراويله، فأدركت أنه العم أحمد. على أنه أعفانى من إضناء عقلى فقد سآلنى: «من هذا؟ لكأنى به سونه»؟ فعرفته من صوته قبل أن أعرفه من شارته ورايته — أعنى تكته. وقال سونه — أخزاه الله: «خبئنى ياعمٍ أحمد»! فخجلت، ولو كنت بادياً، ولم اكن مختبئا، فى جسده الخوار لتصببت عرقاً. وماكنا سمعنا سوى قذيفة واحدة فما كل هذا الفزع والجزع؟ ومن حسن الحظ آن العم أحمد لايستطيع أن يرانى فى مخبئى الآدمى، وإلا لذبت خجلا. وربت العم أحمد على كتف سونه — ولو استطعت لدفعت يده، فما كانت بى حاجة إلى طمأنية — وقال: «لاتخف! تعال معى.» قلت: «إلى أين»؟ قال: «إلى البيت طبعاً … لماذا خرجت؟ وكيف خرجت فى هذا الوقت»؟ فاختلفت أنا وسونه: هو يريد أن يحدثه عن الغراب الذى طار عن الشجرة فأطار لبه، والقطة التى أرعبته فى الظلام بعينيها، وأنا أشعر أن فى وسعى أن أكاشف هذا الرجل بسرى، ألست قد تبينت أنه يحب لولو والحب يلين القلوب وينشط الخيال، ويكبر القلب، ويقوى العطف، والرجل الذى يحب لولو لابد أن يكون له نظر وذوق، وإن كان لايحتاج إلى نظر كثير ليفطن إلى جمالها، فأخلق به — بفضل فطنته ونظره — أن يرى أنى مخبوء فى هذا البدن الذى ليس لى، وأنى فى الحقيقة موءود فيه! وعسى أن يساعدنى على الاهتداء إلى بيتى وأهلى فأتصل بهم ولو من ناحيتي أنا. ولم يطل الخلاف، فقد تغلب سونه فإنه ذو اللسان، وأنا أخرس أو لا لسان لى على الأصح، فقد بقى هناك مع جسمى الفارغ، فلشد ماتتحكم الأجساد فى النفوس وتسيطر عليها! هذا أنا — أسكن جسدا لم يسو على قدى، ولم يصنع على قياسى، فهو يستطيع أن يصنع بى ماشاء، ولا أستطيع أنا إلا أن آتأسف وأهز رأسى هزًّا مجازيا، فما لى رأس كما لاحاجة بى أن أقول. ولم أكن أعرف أن سونه كذاب مذّاع، فأدهشنى فشره ومعره، وأخجلنى أيضاً، وحاولت أن أغمزه ليقتصد فيما يزوّر ويختلق من الأباطيل والترهات، ولكنه لم يحفل غمزى أو لم يشعر به، وراح يخبر عن خرافات لا أصل لها، ولم يقع منها شىء ويقول فيما يقول إن ماردا سد الطريق فى وجهه، فرماه باية الكرسىٍ فاحترق المارد وخلا فى وجهه — اعنى سونه — الطريق.. وزعم أيضا أن ذات مئزر أبيض همت بعناقه وضمه إلى صدرها الذى كانت الابر البارزة منه تلمع فى الظلام ولو ضمته لانغرزت الابر فى صدره هو فمات — فقلت فى سرى: ليتك مت! إذن لأمكن أن أنقل إلى جسم آخر لاتخجلنى سكناه — ولكنه حاورها وفر. وصارت القطة فى أساطيره ذئباً، تارة، وكلباً عقوراً تارة أخرى. أما الغراب فكان ساحرة يطير بمقشة كما رآها على مايظهر فى بعض الصور المتحركة. فقلت لنفسى: «والله إنك لذو خيال ياهذا، ولكنه خيال لايعدو خيال الصبيان من أمثالك ولايجاوز بك آفاقهم. فإذا كان لابد لك من الكذب والادعاء فهلا كنت استشرتنى لألهمك ماهو أبرع من ذلك»؟ ولكن المدهش أن العم أحمد لم يدهش، ولم يشمئز من هذا الكذب الصراح، بل كان يشجعه عليه ويستزيده منه ويبدى له التصديق، والاستطابة، ويحمد الله — تعالى — على نجاته تارة ويثنى على شجاعته وقوة قلبه طوراً، وهكذا إلى أن بلغنا البيت فقلت لنفسى ستسمع بضع أساطير أخرى حين تجتمع علينا الأم والعم والخدم. فما يليق أن يحرمهم السيد سونه الاستمتاع بمثل ما استمتع به الجناينى من ثرثرة لسانه الحلو الذى يظهر أنه يفرح بقدرته على دهورته فى شدقه. وتحسسنا طريقنا حتى هبطنا إلى حجرة مسدودة النوافذ، وفيها نور ضئيل أخضر من مصباح بترول صغير موضوع على الأرض فى ركن، وكنت اتعجب لعم أحمدِ ودخوله البيت كأنه من أهله، وفى هذه الملابس التى لايليق أن يلقى بها أحداَ وخاصة إذا كان هذا الأحد سيدة، وزاد عجبى أنى رأيتهم لاينكرون وجوده بينهم واجتراءه وتسحبه عليهم هكذا. وأقبلت الأم والعم ولولو والبقية، وصار كل امرئ يرمينى بسلسة متصلة غير منقطعة فن الأسئلة، ولا ينتظر جوابها. ولما كلت الألسنة، وفترت همتها قال سونه: «لما سمعت الزمارة خرجت لأتفرج فقابلنى عم أحمد وعاد بى». بهذا الإيجاز المخل! فلو استطعت لقرصته! فعادوا يقولون كيف يفعل ذلك وهو لم يشف؟ وكيف يخاطر بحياته الغالية؟ وكيف وكيف حتى ضجرت فى جوفه، ولكنه كان يبتسم ولا يستثقل حملتهم اللفظية. وما كاد أكثرهم يكبح لسانه ويكف عن اللغط حتى خيِل إلى أن الأرض تميد. فقد انطلقت المدافع مرة واحدة، انطلاقاً متتابعاً، وكانت كأنها قريبة منا، وكنا نحس أن بعضها منصوب على بابنا، فقالوا: يا ستار استر … وجمعتنى أمى فى حجرها وأحاطتنى بذراعيها وألصقت وجهى بصدرها، ولم أكن أنا خائفاً ولكن سونه كانت تصطك ركبتاه وأسنانه، ولم يكفه هذا فأنشأ يبكى بصوت عال! ولا يكتم أنه «خائف يا ماما»، حتى هذا لم يكفه فصرخ، ولم يكن هذا لائقاً، ولكن ما حيلتى وهو الذى فى وجهه العين الباكية، وفى فمه اللسان الدائر؟ ولو كان الأمر إلىّ أنا وحدى، لأقعدته على كرسى وألزمته الرزانة والاتزان ورباطة الجأش، ولوضعت له رجلا على رجل، وجعلت فى يده سيجارة، فإن التدخين يطيب فى مثل هذا الوقت، ويعين على إفادة السكينة. وعلى ذكر التدخين أقول إنى لم أر فى هذا البيت الطويل العريض أحداً يدخن، فلم أستطع أن أحتال وأسرق سيجارة أدخنها سرًّا وخفية، ولعل هذا الحرمان هو الذى أضعف إرادتى فراح سونه يركض بى بغير عنان. ولم يطل الآمر، وانطلقت الصفارة المؤذنة بانتهاء الغارة، فما راعنى إلا أن هذا الفتى الاخرق قفز من حجر أمه وانطلق يصفق ويقول: «هيه …» ممطوطة طويلة. وأخجلنى سونه مرة أخرى ونحن نصعد درجات السلم عائدين إلى غرفنا. فقد تعلق بذراع أمه وراح يموء كالقطة، فلما سألته عما به قال إنه خائف … فبالله مم يخاف هذا الرعديد؟ وزجرتُه همسا: «اختش يا شيخ … عيب». ولكن من يقول ومن يسمع؟ أنا من جسده فى مثل غيابات الجب التى ألقى فيها يوسف — عليه ألف سلام — وما أحسبه — أى يوسف — خاف مثل هذا الخوف الذى يخافه سونه، ولو فعل لكان معذورا، فقد كان فى جب، وكان وحده. أما هذا فما عذره؟ وهو فى بيت، بل قصر معمور، وأنا معه لا أفارقه، وأونسه وإن كنت لا آنس به؟ وهو — أعنى سونه — على رأس السلم، وتحت ذراع أمه التى تهدئ من روعه وتعده آن تبقى معه، فكيف يصغى إلى هذا الصوت الخافت الذى يشبه صوت الضمير، ويهمل صوت أمه الواعد بالأمن والاطمئنان وأين فى الناس من يلقى باله إلى الضمير الذى لا يحسن إلا التنغيص؟ وتذكرت أيام كنت أنا حدثا مثله فى حياتى المستقلة، وقبل أن تتصل أسبابى بأسبابه — أى سونه — وكيف كنت أقطع طريق الصحراء الموحشة، وحدى، فى الليل البهيم، وأجتاز منطقة القبور اختصاراً للطريق، فى الظلام الدامس، ولا أفزع ولا أتهيب، ولا يخيفنى عفريت، أو قاطع طريق، أو مجرم متربص، وكان البيت الذى نشأت فيه فى حارة عتيقة، وكان الغلمان — غيرى — يقطعونها عدوا حتى فى النهار المشمس، لشدة ما ينتابهم من هولها، وكان بئر السلم — والعياذ بالله — يجعل قلب أجرأ الناس كلعبة اليويو، فى صعود وهبوط بين الحذاء والصدر، فقد كان يوقع فى الروع أنه مباءة العفاريت والقتلة، ومع ذلك لم أكن أقول: «ياماما أنا خائف» كما يقول هذا الفتى الذى سود وجهى. وقال عمه ساخراً: «خائف؟ من أى شىء يا سيدى»؟ فهمست فى أذن سونه، أوبخه: «سامع»؟ «وانت مالك»؟ لعمه، لا لى. فدهشت، وطربت! وصحيح انه قالها بضعف، وبلهجة الطفل المدلل الذى اعتاد أن يسىء أدبه وهو آمن، ولكنه قالها والسلام. وبارك الله فيه! ولا فض فوه! ورجوت بعد أن سمعت منه ذلك أن ينتهى بنا الأمر إلى حسن المواطنة وطيب العشرة. وانثنت أمه علية تقول له: «لا يا بابا … عيب … هذا عمك». فترك سونه عمه وٍ العيب، وكر راجعاً إلى رأس أمره وقال: «أنا خائف». فكررت أنا أيضا راجعا إلى سخطى عليه … ولعله إنما أراد أن يخرج من المأزق فلاله ولا عليه. ولكنه ما كان ينبغى أن يعود فيلهج بالخوف مرة أخرى. والحق أقول إنه خيب أملى.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/86057520/
عود على بدء
إبراهيم عبد القادر المازني
هل دار بخلدك يومًا بعد أن صرت شيخًا، وشاب شعرك، واصطكت ركبتاك من الكبر، أن تصحوا من نومك لتجد نفسك وقد صرت صبيًّا يافعًا نشيطًا؟ فتبدل الصوت غير الصوت، والشكل غير الشكل، والصحة غير الصحة! فصار صوتك أنعم، وشكلك أصغر، وصحتك أقوى. هل خيِّل إليك يومًا أن أدوارك في الحياة يمكن أن تتبدل؟ فيصير ابنك أكبر منك سنًّا، وتصير زوجتك أمك! ماذا لو حدث لك كل ذلك وبقيت ذاكرتك هي الأمر الوحيد فيك الذي لم يتبدل؟ هذا هو لسان حال بطل هذه القصة، ذلك الرجل الذي اختلطت عليه الحدود، فلا يدري أحقيقة ما هو به؟ أم حلم؟
https://www.hindawi.org/books/86057520/13/
الفصل الثالث عشر
وصارت المسألة عندى بعد ذلك، وأنا راقد على سريرى — أعنى على سريره هو كما هو ظاهر — فى حضن أمى، وظهرى إليها، ووجهى إلى الحائط، ويدها علىّ لأطمئن، هى هذه: «هل أطيق العيش فى هذا الجسد»؟ وقلت لنفسى: ينبغى أن أحصى مزايا هذا التحول ومساوئه. فمن المزايا أنىٍ رددت طفلا غنيًّا، وكان من السهل أن أن يقلبنى الذى قلبنى، طفلا فقيرا، يسكن كوخاً حقيرا، ويعانى مرارة الفاقة وذل الحاجة. ثم إن هذه الأم رقيقة القلب حنانة، وهى إلى هذا تشبه زوجتى، بل هى هى بعينها، فأنا لا أشعر أنى فارقت زوجتى، فإنها معى أبداً، وإن كنت قد حرمت ما يجنيه الزوجان من متع القرب، ومن الهين رياضة النفس على هذا الزواج الروحانى وأخلق أن يعيننى — أو يرغمنى — على الاكتفاء به، أن لى هذا الجسد. ويبقى الولدان، وفى وسعى أن أراهما متى شئت، كما رأيتهما الليلة. وإن بينى وبين أصغرهما لثأرا، ولكنى بعد أن أصخه كما صخنى، أستطيع أن أفىء به وبأخيه إلى الصداقة والمصافاة، ويكِبران وأكبر، فما أغرب، وأحلى، أن نصبح أتراباً ونسيم سرح اللهو معاَ، ونركب الحياة بشبابنا، وأكون لهما صديقا لا يعلمان أنه أبوهما، وأوقظ رأيى لهما، وأجعل تجاربى فى حياتى الأولى رائدى فى السهر عليهما ورعايتهما وتسديد خطواتهما، ولا يكونان هما معى إلا على حال الصديق مع صديقه من الود والالفة ورفع الكلفة وطيب المشاركة فى الجد والهزل! أى نعم، وبذلك أصل ما انقطع، وإنه لعناء أن أتناسى أنى أبوهما. ولكن لا بد مما ليس منه بد. ولكن البلاء والداء العياء، أنى لا أرانى مطيقا لاعتياض هذه الشخصية الفجة التى لم تنضج، من شخصيتي القديمة، كلا هذا عسير، وهو المعضلة الكبرى فى الامر كله، وما أرى الذى آتانى هذا الجسد الصغير إلا قد أخطأ وكلفنى شططا، ولو كان أهرمنى وأعلى سنى، وأسكننى جسداً مقوس القناة وجعل لى وجهاً مغضنا، كالمدينة بادية من طيارة، واشاع الشيب فى رأسى، لكان أهون، وأخف محملا. ولكان أيسر علىّ أن أتقبل هذه الوثبة إلى الشيخوخة وأسكن إليها لأنها هى التى تقترن فى الذهن بالحياة مع امتداد العمر، والمرء يتوقعها ويعرف أنه يدلف إليها، ولكن استمرار الحياة لا يقترن فى الذهن أبدا بهذه الرجعة، أو بهذا الهبوط إلى سفح الجبل بعد أن قارب المرء ذروته. وليس فى الحياة لا وقوف ولا رجوع إلى الوراء، فكيف يمكن ان أوطن نفسى على هذا المستحيل؟ وقد ألفتُ نفسى وانتهى الأمر، وعرفت أنها نفسى، ورضيت بها، وعنها، وإن خالف رأى الناس فيها رأيى، فكيف يعقل، وأنا لا أزال أحس هذه النفس، واعتز بها وأباهى، وأحرص عليها، وأضن بها أن أغالط أقول بل نفسى هى هذه الجديدة التى ما عرفتها ولا خالطتها ولا بلوتها من قبل، ولا حمدت منها شيئا على قصر عهدى من قبل، ولا حمدت منها شيئا على قصر عهدى بها؟ وإنى لادرك أن نفسى باقية معى، ولكن المصيبة أنها لا تتبدى، ويحجبها هذا الجسد الصغير الذى أسكنته. وأخوف ما أخاف أن يحصل على الأيام امتزاج بيِن النفسين، وما يدرينى أن ثمرة المزج لا تكون ائتلاف أسوأ ما فيهما جميعاَ؟ لا يا سيدىِ يفتح الله … هذا خلط غير مأمون العاقبة، ثم إنى لا أريد خلطاً، ولا مزجاَ ولا شعشعة. وما شكوت أو تذمرت حتى يفردنى بهذا من قضاه علىّ، وجعلنى به بدعاً فى الناس. فلا أنا أنا ولا أنا غيرى. وأفزعنى خاطر استطردت إليه: ذلك أنى قلت لنفسى إن الذى حدث لى لا يعدو أن يكون شبيهاً بالرفو والرقع، وإذا جاز هذا وتسنى فيما يُلبس، فإنه لا يجوز ولا يسهل إذا كان الأمر أمر شخصية. وصحيح ان الشخصية الجديدة التى يحصل بها الرفو أو الرقع، جديدة، لأنها حديثة عهد بالوجود والحياة. ولكنها تبدو للشخصية القديمة التى يراد رفوها — لا أدرى لماذا فما كانت آخلقت وبليت — أقول إنها تبدو دونها، وأقل منها قيمة، وأهون شأناً، وأقل نفاسة، لأنها لم تنضجِ ولم تستوف الحظ المقدور لها من اكتمال الجوانب — وهذا كله يبدو لى خلطا لا يحسن به الحال أو يستقيم الأمر، أو يطيب العيش. ولما كان الذى سلخ جلدى، ثم لمِنى ودسنى فى هذا الجسد الصغير قد صنع معجزة، فلا بد أنه قادر أن يأتى أيضا ما يفْتضيِه ذلك، فمن المعقول إذن أن يقل عقلى على الأيام ويصغر، حتى ينقلب مناسباَ لهذا الجسد الصبيانى. ولعله استغنى عن معالجة التصغير بنفسه، ثقة منه بأن الجسد الصغير سيفعل فعله من تلقاء نفسه. وتذكرت وأنا أدير هذا فى نفسى أن بعضهم كان يقول عن خياط فيه شذوذ إنه كان لا يقيس طول الزبون وعرضه بل يطرحه على منضدة ويخط له حدوده بالطباشير كما يفعل الحذاء حين يرسم قدمك على الورق بالقلم الرصاص. قالوا: وكان يقول للزبون إذا أشتكى ضيق الثوب: «كش فيه». فيظهر أن القدر يكلفنى الآن ما كان هذا الخياط يكلف زبانه من التجمع فى الثوب الضيق، ويطالبنى بأن «أكش» فى جسد سونة حتى يصبح كلانا على قد صاحبه. وما أرى سونه سيتجشم عناء. فإن العناء كله من نصيبى. وهالنى هذا، وشق علىّ أن يقل عقلى، وأخذنى النوم وأنا فى حيرة واضطراب وجزع من أن يصبح عقلى أصغر مما أمسى. ورأيت فيما يرى النائم أنى ولد صغير فى كوخ لساحرة عند سفح جبل، ولم أكن أعرف من أنا، ولا من أين جاءت بى، وكان كل ما أعرفه أنها تسخرنى لخدمتها وترهقنى بها، فتناولنى دلواً عظيمة وتبعث بى إلى الجبل! فلا أزال أصعد فيه حتى أبلغ قمته، وهناك أملؤها وأعود بها إليها. ولا أزال فى هذا الكد المضنى طول النهار. ثم تغير الحلم فصرت فيه كلبا لعجوز فقيرة، ولكنها طيبة القلب، فكنت إذا جعت نبحت، وقلت: «وو.. وو.. إنى جوعان. فانظرى فى هذه الخِزانة لعل فيها عظمة»، ولا أزال أوهوه، وأمد صوتى، وأعوى متضرعاَ حتى تجيئنى بطعامى. وإذا بالعجوز الطيبة الكريمة تنقلب مستبدة ظالمة، فتصنع لى ثيابا — سترة وسراويل — وتلبسنى طربوشا، وتضع فى يدى عصا، وتقول لى اخرج وأضحك الناس — والأطفال خاصة — بألاعيبك وحذقك فيها، واجمع فىِ هذا الطربوش ما يجودون به عليك من قروش أو ملاليم، فأخرج متذمراً متأففاً، مستهجنا هذه الملابس الآدمية التى لا تليق بكلب مثلى، ولا يسعنى إلا الطاعة، وإلا ضربتنى وأوجعتنى. وقد أثرت العجوز، فاتخذت غنما كثيرة تبيع ألبانها وأصوافها وصغارها، فنضت عنى ما كانت كستنى، ووكلت إلىّ حراسة الغنم فى رعيها وسقيها ومرابضها، حتى أخذنى البهر من الحر والمشى، وأضمرنى الكلال، وهى لا ترحمنى ولا تريح عصبى، ولا يعطفها على ما أسلفت فى خدمتها ولا تزداد إلا حرصاً وجشعاً — ولا ترى لأحد شيئا إلا أحبت أن يكون لها.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/86057520/
عود على بدء
إبراهيم عبد القادر المازني
هل دار بخلدك يومًا بعد أن صرت شيخًا، وشاب شعرك، واصطكت ركبتاك من الكبر، أن تصحوا من نومك لتجد نفسك وقد صرت صبيًّا يافعًا نشيطًا؟ فتبدل الصوت غير الصوت، والشكل غير الشكل، والصحة غير الصحة! فصار صوتك أنعم، وشكلك أصغر، وصحتك أقوى. هل خيِّل إليك يومًا أن أدوارك في الحياة يمكن أن تتبدل؟ فيصير ابنك أكبر منك سنًّا، وتصير زوجتك أمك! ماذا لو حدث لك كل ذلك وبقيت ذاكرتك هي الأمر الوحيد فيك الذي لم يتبدل؟ هذا هو لسان حال بطل هذه القصة، ذلك الرجل الذي اختلطت عليه الحدود، فلا يدري أحقيقة ما هو به؟ أم حلم؟
https://www.hindawi.org/books/86057520/14/
الفصل الرابع عشر
ولكل شىء آخر — حتى الليل الطويل الغاص بالأحلام المزعجة — ولم يكن نومى هنيئا، ولا مريحأ، فما كاد الصبح يتنفس حتى تمطيت وحمدت الله على اليقظة من نوم قصير مضطرب، وتثاءبت وفتحت عينى وقلت لنفسى: «صباح الخير ياسونة، وعسى أن يكون يومك أطيب من أمسك.» وحدثت نفسى أن اليوم السبت، فالأرجح أن أذهب إلى المدرسة، والله المعين. فما أعرف أين هى؟ ولا أدرى فىِ أى فرقة أنا؟ وتذكرت أنى لم أر فى هذا البيت كتابا أو كراسة أو ورقة أو قلماً. بل لم أر حتى لعبة لغلام مثلى، فما أغربه من بيت! وما أعجبها من حياة! وألفيتنى أتساءل: «أتراهم علمونى شيئاً»؟ وابتسمت، فما أحتاج إلى التعليم فإنى كبير فى الحقيقة، وأخلق أن يروع التلاميذ ويدهشهم مايفاجئهم بعد اليوم — من اليوم فصاعدا — من علمى وسعته! وسيكون أمر المدرسة والتعليم فيها أهون ما أعانى: وإن كان «الحساب» سيضنينى ويرهقنى، فقد كنت — احسبنى ما زلت — أبغضه لأنى لا أحسنه وما أكثر ما قلت لحماده وسعيد — ولدى — بارك الله فيهما — وصديقى وأخوىّ بعد اليوم — حين كانا يجيئانى بمسألة من الحساب: «اسمعا! إنى طول عمرى حمار فى هذا الحساب. ولا أدرى كيف كنت أجتاز الامتحانات المدرسية فيه، ولكن الله كان يسترَ ويلطف، فينتهى الأمر بسلام وخير. وإنى لأذكر أنه كان يراقبنا فى امتحان الشهادة الابتدائية معلم فرنسى طويل اللحية. وكان ينحط على الكرسى وينام، فلما صرنا إلى الحساب لم أستطع شيئاً، وأيقنت أنى لا محالة مخفق، فكدت أبكى. وتلفت فرأيت جارى على مسافة ذراع منى، مكبا على ورقته يكتب. وكنت أعرفه حاذقاً بارعاً. فدفعت إليه بورقتىَ وأشرت إليه إشارة الرجاء والاستعطاف فرق لى قلبه. وكتب لى حلول مسائل ثلاث، فنهضت بالورقة وأيقظت بها المراقب. وخرجت قبل غيرى قانعأ بما جاد به زميلي». فيذهبان عنى إلى أمهما فإنها تفهم ما لا أفهم من هذا الحساب، وما أظن إلا أن المرأهَ أقدر عليه. نعم سيكون الحساب علة شقائى مرة أخرى. والجغرافيا أهون ولكنها ثقيلة، وكان معلمها يأمرنا أن نغنى بأسماء الخلجان والأنهار والرءوس والبلدان لنحفظها عن ظهر قلب فحفظناها إلى حين ثم نسيناها وكيف تبقى أسماء لا تقترن بشىء يذكر بها؟ فكيف يصنع معلمى الجديد؟ إنه لا شك من طراز أحدث فلعل له طريقة أخرى أجدى. وانقلبت على جنبي الأيمن فصار وجهى إلى باب الشرفة، وتوقعت أن تدخل لولو بعد قليل وتصبحنى بوجهها الحسن وابتسامتها الحلوة، وهممت أن أقول: تاللَه ما أجملها وأبرع حسنها! ولكنى قلت بدلا من ذلك: «إيه»؟ بلهجة المنكر لا المستفسر، وجلست فى السرير، وفركت عينى، وجعلت أطرف، ثم رحت أستثبت، فقد أصبحت فى غرفة أخرى غير التى أعرف أنى قضيت الليل فيها، أفترانى سأنتقل كل صباح — أو كل ليلة — إلى بيت جديد وبدن جديد؟ ولكن هذه … هذه غرفتى! أى والله هى بعينها. ووثبت إلى الأرض، وذهبت أعدو إلى الباب فأدرت فيه المفتاح، أو أردت أن أديره، ولكنى كنت عجولا فخرج ووقع على الارض، فانحنيت وتناولته وأنا أسخط على نفسى ودفعته فى الثقب، أو جعلت أدفعه فلا يدخل من فرطِ اضطرابى وارتعاش يدى، وبعد لأى ما فتُح الباب، فانطلقت خارجاَ كالصاروخ، وداخلا على زوجتى فى غرفتها، وكانت لا تزال نائمة، فطرحت الغطاء الرقيق الذى تستر به جسدها وجذبتها من ذراعها. فقامت معى تقول: «إيه؟ مالك»؟ قلت، أو صحت: «قومى يا امرأة … انظرى إلىّ … ألست كما كنت؟ هل تغيرت»؟ قالت: «ماذا، جرى لك؟ ما هذا النط الذى تنطه كالقرود»؟ قلت محتجاًّ: «قرود؟ أسألك كيف تريننى فتقولين إنى أنط كالقرد»؟ قالت: «ماذا أصنع إذا كنت تنط مثلها تماما»؟ قلت: «طيب. دعى هذا وقولى كيف تريننى»؟ قالت ببرود: «مالك؟ كما كنت سوى أن خدك وارم». قلت: «خدى وارم؟» ورفعت يدى إليه اتحسسه. وسمعتها تقول: «قرصة نملة على ما يظهر». قلت: «وكيف تريننى فيما عدا ذلك»؟ قالت: «أراك قليل الذوق. توقظنى فى الفجر لتسالنى سؤالا بارداً … ماذا جرى لك؟ قلت: «إنها تسأل ماذا جرى لى»؟ وخطر لى أنها لا تعرف فلها العذر، وأدرت عينى فى نفسى. فألفيتنى على عهدى بها، لا كما كنت أمس — أعنى.. تعرف ما أعنى — ودفعت يدى إلى وجهى، فشعرت بخشونة الشعر النابت، وإلى شفتى العليا فإذا عليها الشاربان، فتشهدت وتنهدت، وارتميت على كرسى. وسمعتها تقول وهى تضع رأسها على المخدة: «اذهب ونم فما زالت من الليل بقية». فوقفت، وقلت: «أنا أنامَ؟ مستحيل …». قالت، وأدارت وجهها عنى: «شأنك. أما أنا فسأنام. فاذهب عنى من فضلك». قلت أعاتبها: «وتتركيننى»؟ قالت مستغربة: «أتركك؟ِ لست فاهمة. مالك اليوم»؟ قلت: «أولا لا تقطبى، ثانياَ اجلسى أقص عليك حكاية، وبعد ذلك قولى لى هل يجوز أن أخاطر فأنام مرة أخرى»؟ فاعتدلت وقصصت عليها ما كان مما رأيت فى الحلم وهى تضحك. فلما فرغت قالت: «هذا جزاؤك ألم أحذرك؟ ألم أنهك أن تذكر الشيخه صباح إلا بخير»؟ قلت: «ولكنك أنت التى قصت علينا حكاية البستانى والملك فأوحت إلى ما تمثل لى فى منامى». قالت: «بل هذا من غضب الشيخة صباح عليك». وكانت أعصابى لا تزال مضطربة من أثر الحلم، فلم أجادل ولم أكابر. ولما أضحينا قلت لها: «ما قولك؟ اليوم السبت وليس على عمل …». قالت: «سبت إيه؟ إنه الجمعة»! قلت: «الجمعة؟ كيف يمكن؟ لقد كان أمس الجمعة». قالت: «ألا ترى أن الولدين لم يذهبا إلى المدرسة»؟ قلت: «صحيح! وغريب أن أعيش الجمعة مرتين فى أسبوع واحد … على كل حال … أريد أن أقترح أن نركب السيارة إلى طنطا ونزور الشيخة صباح». قالت، ويداها فى حجرها وعيناها إلى فوق كأنما ترى الشيخة صباح فى السقف: «إنى لا أشبع من النظر إلى حسن وجهها». قلت: «اتفقنا إذن». ورفع السجف، ودخلت علينا الشيخة صباح فى شملتها البيضاء تمشى كأنها ملكة، فنهضت واقفا، فافتر ثغرها عن ابتسامة خفيفة، وناولتنى يدها فانحنيت أريد أن ألثمها، ولا أخشى أن تسىء بى امرأتى الظن. ولكنها جذبتها فاعتدلت وقلت لها: «أنا أعرف أنك لا تأخذين منا شيئا. فخذى هذه الساعة». فهزت رأسها، ولكنى وضعتها فى كفها، وثنيت عليها أصابعها. وقلت: «إنها ساعة أمى. وكنت أعتز بها وأضن». فتطلق وجهها وتهلل. فقد كانت تعرف عظم محبتى لأمى. والتمعت عيناها، ورفت على شفتيها ابتسامة، ورفعت الساعهَ إلى أذنيها وأصغت، ثم هزت رأسها مسرورة، ونحت الشملة عن صدرها. ووضعت الساعة هناك.. قرييا من قلبها. ثم تناولت رأسى بين يديها، وتحركت شفتاها بدعاء لم أسمعه. وقالت امرأتى ونحن نعود إلى السيارة: «الأن تستطيع أن تنام مطمئنًّا». قلت وأنا أستوى على مقعدى: «ولا تقصين على مثل هذه الحكايات»؟ فرنت الىّ فى سكون، كأنما تتوضح شيئاً، ثم ابتسمت وهزت رأسها أن نعم. فجمعتها بين ذراعى وبستها. فقالت: «فى الشارع؟ ألا تستحى»؟ قلت: «هذا من فرحتى بك. واحذرى أن تغالطينى مرة أخرى». قالت: «أنا أغالطك»؟ قلت: «نعم. فى المنام». فضحكت … ووسعنى أن أضحك مثلها ….
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/53819473/
عَنْترَة
أحمد شوقي
تعد «مسرحية عنترة» تحفة من التحف الأدبية والفنية التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي حيث تعرَّض فيها للمسرح الشعري و الغنائي العربي في صورة بديعة. ومزج شوقي في هذا العمل بين الأصالة والمعاصرة، حيث قدم العربية القديمة (الجاهلية) ممزوجة بالفن المسرحي الجديد الذي يضم تقنيات المسرح الأوروبي. وتتألف المسرحية من مكونات أدبية عديدة تجمع بين المأساة، والغناء، والحب، وغيرها من المكونات التي جعلت المسرحية مثيرة. وقد زجّ شوقي بنفسه في منافسة مع عنترة تلك الشخصية التاريخية المعروفة، التي جمعت بين الشعر والفروسية في جزيرة العرب قبل قدوم الإسلام، وذلك عندما اختار مُؤلِفنا أن يكتب المسرحية بالعربية الجاهلية في شكل شعري.
https://www.hindawi.org/books/53819473/0/
تمهيد
null
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/53819473/
عَنْترَة
أحمد شوقي
تعد «مسرحية عنترة» تحفة من التحف الأدبية والفنية التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي حيث تعرَّض فيها للمسرح الشعري و الغنائي العربي في صورة بديعة. ومزج شوقي في هذا العمل بين الأصالة والمعاصرة، حيث قدم العربية القديمة (الجاهلية) ممزوجة بالفن المسرحي الجديد الذي يضم تقنيات المسرح الأوروبي. وتتألف المسرحية من مكونات أدبية عديدة تجمع بين المأساة، والغناء، والحب، وغيرها من المكونات التي جعلت المسرحية مثيرة. وقد زجّ شوقي بنفسه في منافسة مع عنترة تلك الشخصية التاريخية المعروفة، التي جمعت بين الشعر والفروسية في جزيرة العرب قبل قدوم الإسلام، وذلك عندما اختار مُؤلِفنا أن يكتب المسرحية بالعربية الجاهلية في شكل شعري.
https://www.hindawi.org/books/53819473/1/
الفصل الأول
(عين ذات الأصاد في يمين المسرح، وقد حفت بالنخيل وفي اليسار مضارب بني عبس، وأظهرها خيمة مالك الحمراء التي يبدو جزء منها حوله ومن ورائه فضاء. وفي جبهة المسرح ربوة عالية وكثبان من الرمال تستوي بالأرض من ناحية اليمين. الوقت في مطلع الشمس وقد وقف عنترة أمام الخيام باديا عليه النصب والكلال. يُسْمَعُ نباح كلاب من وراء الخيام.) (يصعد الربوة من اليمين) (يهيئ لنفسه مضجعًا وراء نخلتين على الربوة يحجبانه عن سائر المسرح جهد المستطاع، ثم يرقد ويعلو نباح الكلاب وثغاء الشاة وصياح الديكة ويمر به فَتيان سائِرَين على الربوة وقادمين من ناحية الخيام.) (يهبط الفتيان الربوة ويختفيان ناحية اليمين وراء النخيل ويُسْمَع صوتُ هاتف من وراء الخيام.) (تخرج صبية وجَوارٍ من كل ناحية في الحي مارين بالخيمة الحمراء ومتجهين إلى الحظائر وراء النخيل بينما يجلس جماعة من الجواري على حفافي العين يملأن الجرار ومن بينهن ناجية، ثم تخرج عبلة من الخيمة الحمراء وتقف أمام بابها تتمطى وتتثاءب.) (تدخل عبلة خيمتها ويمر صخر أمام الخيام متهاديًا واقفًا في المسرح هنا وهناك بين الحين والحين.) (تظهر عبلة على باب الخباء) (عبلة ضاحكة) (ثم إلى صخر) (تسمع ضجة وأصوات استغاثة من ناحية الخيام) (يفر الجمع من هنا ومن هناك وتبقى عبلة وحدها فتخرج إليها من الخيمة الخادم سعاد.) (تدخل عبلة الخيمة ويسمع صوتها من الداخل وترى من بالباب) (تتجه عبلة إلى الصنم بداخل الخيمة) (تخرج عبلة) (تدور سعاد حول الخباء في حذر ثم تعود) (يظهر أحد اللصوص فتختفي الفتاتان وراء باب الخباء حتى إذا حاذى الباب طعنته عبلة في ظهره.) «يظهر لص آخر فتطعنه سعاد» (يظهر لصوص آخرون من هنا وهناك وراء الخباء) (تحاول أن تطعنه فيمسك بذراعها ويمسك لص آخر بذراعها الآخر، ويقبض لصان آخران على سعاد.) (يحمل بعض اللصوص عبلة وسعاد إلى ما وراء الستار من ناحية اليسار، فتسمع استغاثة عبلة من هناك بينما يبقى في المسرح سائر اللصوص.) (ثم يطعن الثاني) (ضجة الغارة مستمرة من وراء الستار. يقدم من يسار الربوة المرتفع شداد ومالك فيهرب اللصوص ويعثر القادمان بعنترة وهو نائم.) (يظهر من يمين الربوة بعض الهاربين) (ويرقد) (يسمع صوت استغاثة من وراء الستار) (يسمع صوت عبلة من بعيد ومن وراء الستار) (يظهر جماعة من اللصوص من ناحية الخيام يحملون أسلابًا. ويحاولون الهرب عن طريق العين حينما سمعوا صوت عنترة، فيهبط عنترة من الربوة ويقطع عليهم الطريق.) (يهجم عليهم) (لعنترة) (يطعن عنترة أسيد فيرديه ثم يجري إلى ما وراء الخيام باحثًا عن عبلة ووراءه مالك وشداد.) (يفر اللصوص من اليمين ويدخل عنترة وعبلة من اليسار ووراءهما داحس وسعاد.) (تشير إلى قتيلين على باب الخباء) (تدخل سعاد الخباء وينادي داحس من وراء الخيام) (تخرج سعاد من الخباء ويعود داحس من وراء الخيام فيصعد الربوة ويختفي وراء النخيل.) (تدخل سعاد الخباء) (تخرج سعاد من الخباء حاملة قصعة فيها مجيع وهو طعام يصنعه العرب من التمر واللبن، فتضع القصعة على الأرض وتدخل من حيث خرجت.) (يجلسان إلى قصعة المجيع فتتناول عبلة بضع بلحات تعطيها إلى عنترة.) (يظهر داحس على الربوة ثم يهبط منها حاملًا معه فراخ نسر وثلاثة أشبال.) (يدخل جماعة من الهاربين فتيانًا وفتيات من ناحية العين وبينهم صخر وناجية.) (ينصرف الجميع فلا يبقى إلا عبلة وعنترة) (سـتار)
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/53819473/
عَنْترَة
أحمد شوقي
تعد «مسرحية عنترة» تحفة من التحف الأدبية والفنية التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي حيث تعرَّض فيها للمسرح الشعري و الغنائي العربي في صورة بديعة. ومزج شوقي في هذا العمل بين الأصالة والمعاصرة، حيث قدم العربية القديمة (الجاهلية) ممزوجة بالفن المسرحي الجديد الذي يضم تقنيات المسرح الأوروبي. وتتألف المسرحية من مكونات أدبية عديدة تجمع بين المأساة، والغناء، والحب، وغيرها من المكونات التي جعلت المسرحية مثيرة. وقد زجّ شوقي بنفسه في منافسة مع عنترة تلك الشخصية التاريخية المعروفة، التي جمعت بين الشعر والفروسية في جزيرة العرب قبل قدوم الإسلام، وذلك عندما اختار مُؤلِفنا أن يكتب المسرحية بالعربية الجاهلية في شكل شعري.
https://www.hindawi.org/books/53819473/2/
الفصل الثاني
(المكان كما كان في الفصل الأول إلا أن خيمة مالك قريبة جدًّا تملأ المسرح أو تكاد، ويبدو بابها كأنه ستر مسدول ولا أثر لعين ذات الأصاد، ولا لسائر خيام بني عبس، ويرى مقدم المسرح كأنه طريق عام أمام الخباء. الوقت في الأصيل وقد وقفت عبلة وناجية توصوصان من ثقوب في باب الخباء ثم تتحدثان.) (تنصرف عبلة من اليسار غير عابئة، وتعود ناجية إلى الوصوصة من ثقوب الخباء، وبعد لحظات يقدم صخر من اليمين متأبطًا صرة فيها ثياب.) (ينصرف صخر من ناحية اليسار، ثم تتبعه ناجية بعد قليل من التفكير، ثم ينجاب الستار المسدول من ناحية الخباء.) (داخل خيمة مالك وتبدو النعمة على كل ما فيها وقد جلس مالك القرفصاء في جانب وجلس في جواره وفي الجانب الآخر رجال بني عامر. خدم وقوف بباب في صدر الخباء.) (ينصرف الخدم) (ثم يلتفت حوله) (يهمون بالقيام) (ثم يخرج ليأتيهم بالطعام) (يدخل مالك حاملًا قصعة فيها طعام ومن ورائه غلمان يحملون مثلها، توضع القصاع على الأرض وينصرف الغلمان.) (يقبل الحاضرون كلهم على القصاع) (يقومون عن الطعام ثم يحيون مالكًا ويبدءون في الانصراف فإذا انصرفوا وقف مالك بباب الخباء.) (تدخل عبلة) (يدخل عمرو وزهير) (ثم تخرج غاضبة) (يخرج في إثر ابنته، ويقبل صخر من ناحية الطريق من جهة اليسار ومعه الصرة التي كان يحملها في المنظر الأول.) (يفرد الصرة فيتناول كل منهما حلة) (يرى في الصرة طرحة من حرير فيتناولها) (ينظرون إلى شبحين قادمين من ناحية اليمين) (يدخل العبدان غضبان ومارد) (يتهامس الثلاثة لحظة، ثم يتجه عمرو وصخر ناحية اليمين لينصرفا.) (يخرج عمرو وصخر وينصرف العبدان من ناحية اليسار وتسمع ضجة تتعالى شيئًا فشيئًا، وصياح وعويل، فتظهر عبلة من الباب الذي في الصدر، فزعة مضطربة.) (يسمع صوت مناد ينادي) (يسمع صوت مناد آخر من ناحية أخرى) (يمر على الطريق رجال ونساء هم فلول القافلة المسلوبة في هيئة ذعر واضطراب داخلين من اليمين.) عجوز [باكية] (يهجمون على من سب عنترة ويضربونه) (يسمع صوت عنترة من وراء الستار قادمًا من ناحية اليسار.) (يفرون جميعًا من ناحية اليمين وتبقى عبلة وحدها) (يدخل عنترة)
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/53819473/
عَنْترَة
أحمد شوقي
تعد «مسرحية عنترة» تحفة من التحف الأدبية والفنية التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي حيث تعرَّض فيها للمسرح الشعري و الغنائي العربي في صورة بديعة. ومزج شوقي في هذا العمل بين الأصالة والمعاصرة، حيث قدم العربية القديمة (الجاهلية) ممزوجة بالفن المسرحي الجديد الذي يضم تقنيات المسرح الأوروبي. وتتألف المسرحية من مكونات أدبية عديدة تجمع بين المأساة، والغناء، والحب، وغيرها من المكونات التي جعلت المسرحية مثيرة. وقد زجّ شوقي بنفسه في منافسة مع عنترة تلك الشخصية التاريخية المعروفة، التي جمعت بين الشعر والفروسية في جزيرة العرب قبل قدوم الإسلام، وذلك عندما اختار مُؤلِفنا أن يكتب المسرحية بالعربية الجاهلية في شكل شعري.
https://www.hindawi.org/books/53819473/3/
الفصل الثالث
(المنظر في وادي الصفا على مقربة من حي بني عامر على سبيل مطروق. عيون ونخيل وأشجار؛ عقلت عبلة بعيرها تحت شجرة منها، على بعد قليل. أناس يغدون ويروحون على الطريق.) (تتسلى عبلة بإطعام بعيرها بينما يمر في الطريق ثلاثة فتيان، فيلمحون عبلة.) (ينصرف من الجانب الآخر ويسمع صوت عنترة من وراء الستار.) (يقبل عنترة وفي إثره داحس، فيختفي داحس وراء الشجر بعيدًا عن المسرح.) (وتريه سلاحها على هودج البعير) (ويسمع حفيف في أوراق الشجر ووطء أقدام، فيقبل داحس مذعورًا.) (يعود داحس من حيث أتى) (وفي هذه الأثناء يظهر مارد وغضبان من وراء الشجر وفي غير الناحية التي اختفى فيها داحس فيسدد أحدهما سهمه إلى ظهر عنترة فتراه عبلة وتضطرب فيصيح عنترة بالرجل دون أن يلتفت إليه.) (يقع القوس من الرعب من يد مارد ثم يخر هو نفسه إلى الأرض ميتًا ويفر غضبان.) (يسمع وطء أقدام) (يختفيان وراء الشجر ويقبل من ناحية أخرى مالك وضرغام وزهير كأنهم مارون بالطريق ويتشاغل زهير بالشرب من ماء عين أو بشيء من مثل هذا.) (يقبل زهير) (يمسك بكتفه فيهزه هزًّا) (ويرى عنترة قادمًا فيجري نحو الحي هو ومعه زهير) (يظهر عنترة) (تقبل عبلة) (تندفع إليه) (تسمع ضجة وقعقعة سلاح وأصوات استغاثة من الحي كأَنها من بعيد.) (يقبل داحس مضطربًا) (تزداد الضجة وتقترب الأصوات) (يسمع صوت رستم) (ثم يواجه الأشباح القادمة من بعيد) (يقبل جماعة من الحي هاربين وينصرف عنترة وضرغام للقاء المهاجمين.) (يشرف الكل على المعركة الدائرة من وراء الستار) (نفس المنظر بعد زمن قصير، لا تزال عبلة ومن معها من بني عبس يشرفون على المعركة، وإن كان يبدو أنهم قد تأخروا في المسرح إلى مكان أبعد من مكانهم في المنظر الأول قليلًا. في مقدمة المسرح من ناحية أخرى جماعة قليلة من بني لخم أنصار الفرس وبيد أحدهم صندوق وحديثهم يكاد يكون همسًا.) (يفتح الصندوق فيرى فيه رأس قتيل مغطى) (يكشف القائل الرأس) (تتجه الجماعتان بنو عبس وبنو لخم بعضها إلى بعض.) (ضجيج) (يسمع صوت عنترة مقبلًا من بعيد فيلتفت إلى ناحيته الجميع.) (يظهر عنترة) (ينازلهم ويقتل منهم مقتلة عظيمة فيفرون صائحين) (يلقي عنترة سلاحه ثم يقبل عليها)
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/53819473/
عَنْترَة
أحمد شوقي
تعد «مسرحية عنترة» تحفة من التحف الأدبية والفنية التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي حيث تعرَّض فيها للمسرح الشعري و الغنائي العربي في صورة بديعة. ومزج شوقي في هذا العمل بين الأصالة والمعاصرة، حيث قدم العربية القديمة (الجاهلية) ممزوجة بالفن المسرحي الجديد الذي يضم تقنيات المسرح الأوروبي. وتتألف المسرحية من مكونات أدبية عديدة تجمع بين المأساة، والغناء، والحب، وغيرها من المكونات التي جعلت المسرحية مثيرة. وقد زجّ شوقي بنفسه في منافسة مع عنترة تلك الشخصية التاريخية المعروفة، التي جمعت بين الشعر والفروسية في جزيرة العرب قبل قدوم الإسلام، وذلك عندما اختار مُؤلِفنا أن يكتب المسرحية بالعربية الجاهلية في شكل شعري.
https://www.hindawi.org/books/53819473/4/
الفصل الرابع
(في حي بني عامر وفي مضارب بني الأشتر وفي خيام صخر سرادق فخم وسامر حافل فيه جماعة من سراة بني عبس وأخرى من وجوه عامر، خدم يروحون ويجيئون بقصاع الطعام وأواني الشراب. جماعة يزمرون، وآخرون يضربون على الدفوف والمزاهر …) (يسمع صوت عنترة من بعيد يخاطب رجالًا من وراء الستار) (تسمع قعقعة سلاح) (يدخل عنترة ومعه رجال آخرون من عبس وفتاة مقنعة فينهض السامرون ويشهرون سيوفهم ويفر من بني عامر غير قليل، ويبرز لعنترة واحد من بني عبس.) (يحمل عليه عنترة فيطير السيف من يده ولا يؤذيه.) (يأخذه رجال عنترة أسيرًا) (يبرز له آخر من بني عبس) (يحطم سيفه) (إلى رجاله) (إلى منازله) (يأخذه رجال عنترة، فيبرز له شاب ثالث.) (يحمل عليه عنترة فيطير السيف من يده) (وفي هذه الأثناء يكون قد رفع بيده من الأرض مبارزًا آخر كان قد خرج إليه فيقذفه بجانب الشاب.) (ثم يخاطب الجماعة) (يقترب عنترة من الفتاة المقنعة التي دخلت معه.) (يرفع عن وجهها القناع فإذا هي عبلة) (لا يتحرك أحد)
أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا. أحمد شوقي: شاعر مصري، يُعَدُّ أحد أعظم شعراء العربية في مختلِف العصور، بايعه الأدباء والشعراء في عصره على إمارة الشعر فلقب ﺑ «أمير الشعراء». كان صاحب موهبة شعرية فَذَّةٍ، وقلم سَيَّال، لا يجد عناء في نظم الشعر، فدائمًا ما كانت المعاني تتدفق عليه كالنهر الجاري؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية، فبلغ نتاجه الشعري ما لم يبلغه تقريبًا أيُّ شاعر عربي قديم أو حديث، حيث وصل عدد أبيات شعره إلى ما يتجاوز ثلاثةً وعشرين ألف بيت وخمسمائة. وُلد «أحمد شوقي علي» بحي الحنفي بالقاهرة في عام ١٨٦٨م، لأبٍ شركسي وأُمٍّ ذات أصول يونانية، لكنه نشأ وتربَّى في كنف جَدته لأمه التي كانت تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل. أُدخل شوقي في الرابعة من عمره الكُتَّاب فحفظ فيه قدرًا من القرآن، ثم انتقل بعدها ليُتِمَّ تعليمه الابتدائي، وأظهر الصبي في صغره ولعًا بالشعر، جعله يَنْكَبُّ على دواوين فحول الشعراء فيحفظ وينهل منها قدر ما يستطيع، ولما أتمَّ الخامسة عشرة من عمره التحق بقسم الترجمة الذي أُنشِئَ حديثًا بمدرسة الحقوق، سافر بعدها إلى فرنسا ليكمل دراسته القانونية، ورغم وجوده في باريس آنذاك، إلا أنه لم يُبْدِ سوى تأثرٍ محدودٍ بالثقافة الفرنسية، فلم ينبهر بالشعراء الفرنسيين أمثال: رامبو، وبودلير، وفيرلين. وظل قلبه معلقًا بالشعراء العرب وعلى رأسهم المتنبي. يُعَدُّ أحمد شوقي من مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية مع كل من: محمود سامي البارودي، وحافظ إبراهيم، وعلي الجارم، وأحمد محرم. وقد التزم شعراء هذه المدرسة بنظم الشعر العربي على نهج القدماء، خاصة الفترة الممتدة بين العصر الجاهلي والعباسي، إلا أنه التزامٌ مازَجَه استحداث للأغراض الشعرية المتناوَلَة، التي لم تكُن معروفة عند القدماء، كالقصص المسرحي، والشعر الوطني، والشعر الاجتماعي. وقد نظم شوقي الشعر بكل أغراضه: المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة. بايع الأدباء والشعراء أحمد شوقي أميرًا لهم في حفلٍ أُقِيمَ بالقاهرة عام ١٩٢٧م، وظل الرجل مَحَلَّ إعجاب وتقدير ليس فقط بين الخاصة من المثقَّفين والأدباء بل من عموم الناس أيضًا، وفي عام ١٩٣٢م رحل شوقي عن عالمنا، وفاضت رُوحُهُ الكريمة إلى بارئها عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا.
https://www.hindawi.org/books/28184294/
عُنْقُودُ الْعِنَب
كامل كيلاني
تحكي قصة عنقود عنب وأسرة سعيدة.
https://www.hindawi.org/books/28184294/0/
فاتحة
مُعْظَمُ الْأُسَرِ تَتَأَلَّفُ مِنْ وَالِدَيْنِ، وَما يَرْزُقُها اللهُ مِنْ بَنِينَ وَبَناتٍ. وَأَهَمُّ عُنْصُرٍ يَضْمَنُ لِلْأُسْرَةِ سَعادَتَها، هُو أَنْ تَعِيشَ فِي ظِلالِ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَراحَةِ الْبالِ. وَلَنْ تَتَوافَرَ تِلْكَ الصِّفاتُ الْغالِيَةُ، إلَّا إذا شَعَرَ كُلُّ فَرْدٍ فِي الْأُسْرَةِ بِأَنَّهُ عُضْوٌ فِي جَسَدٍ، هُوَ: كِيانُ الْأُسْرَةِ. بِهذا الشُّعُورِ الكَرِيم سيَحرِص كُلُّ فَرْدٍ فِي الأُسرَةِ، عَلَى أَلَّا يُسَبِّبَ لِبَقِيَّةِ الْأَفْرادِ ما لا يَرْتاحُونَ إلَيْهِ. أَعْلَى دَرَجَةٍ مِنَ الْحَياةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ الدَّرَجَةُ الَّتِي يُحِبُّ فِيها كُلُّ فَرْدٍ لِغَيْرِهِ مِنْ أَفْرادِ الْأُسْرَةِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ؛ فَلا يَسْتَأْثِرَ بِشَيْءٍ دُونَ مَنْ تَرْبِطُهُ بِهِمْ رابِطَةٌ مُشْتَرَكةٌ. يظْهَرُ هَذا الشُّعُورُ جَلِيًّا حِينَما تَنْشَأُ حالَةٌ تَدْعُو إِلَى التَّفكِيرِ فِيها، وَماذا يَكُونُ التَّصَرُّفُ مَعَها؟ إِذا عَمَّ الْحُبُّ والْإِخْلاصُ وَالتَّعاوُنُ أَفْرادَ الْأُسْرَةِ، كانَ مِنَ السَّهْلِ حَلُّ أَيَّةِ مُشْكِلَةٍ تَعْرِضُ لِلْأُسْرَةِ فِي حَياتِها. اقْرَءُوا هَذِهِ الْقِصَّةَ، لِكَيْ تَطَّلِعُوا عَلَى مِثالٍ لِذَلِكَ، جَدِيرٍ بأَنْ يَكُونَ قُدْوَةً كَرِيمَةً، وأُسْوَةً حَسَنَةً.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/28184294/
عُنْقُودُ الْعِنَب
كامل كيلاني
تحكي قصة عنقود عنب وأسرة سعيدة.
https://www.hindawi.org/books/28184294/1/
عُنْقُودُ الْعِنَب
هذا بَيْتُ سَعِيد … بِهذا الاسْمِ يَعْرِفُهُ الجِيرانُ وَأَهْلُ الْحَيِّ؛ لِأَنَّ صاحِبَ الْبَيْتِ اسْمُهُ «سَعِيدٌ»، وَكَذَلِكَ لِأَنَّ السَّعادَةَ مُتَوَافِرَةٌ فِي هَذا الْبَيْتِ، فَهُوَ حَقًّا بَيْتٌ سَعِيدٌ. السَّيِّدَةُ «سَلْمَى» هيَ سَيِّدَةُ الْبَيْتِ، وَهِيَ تَعْرِفُ واجِباتِها وَتُؤَدِّيها أَحْسَنَ أَداءٍ، فِي نَشاطٍ واهْتِمامٍ. تَعْتَنِي بِزَوْجِها الْأَبِ «سَعِيدٍ»، وَلا تَتْرُكُهُ مَشْغُولًا بِشَيْءٍ مِنْ شُئُونِ الْبَيْتِ، فَكُلُّ شَيْءٍ مُرَتَّبٌ وَمُهَيَّأٌ عَلَى أَجْمَلِ نِظامٍ. وَالسَّيِّدَةُ الْأُمُّ كَذَلِكَ تَرْعَى ابْنَتَها «أَنِيسَةَ»، وابْنَها «فِكْرِي»، وَهُما يُطاوِعانِها فِي كُلِّ ما تَنْصَحُ بِهِ؛ يُقْبِلانِ عَلَى الْمَدْرَسَةِ، وَلا يُهْمِلانِ دُرُوسَهُما. كَذَلِكَ هُما يَحْتَرِمانِ أَباهُما، وَيَسْتَمِعانِ لِإرْشادِهِ، وَلا يُخالِفانِ لَهُ أَمْرًا، وَيَعِيشانِ أَحْسَنَ عِيشَةٍ فِي بَيْتٍ سَعِيدٍ. السَّيِّدَةُ «سَلْمَى» أُمٌّ عَظِيمَةٌ، وَسَيِّدَةٌ كامِلَةٌ. وَمَعَ أَنَّ بَيْتَها صَغِيرٌ اسْتَطاعَتْ مَعَ زَوْجِها الْأَبِ «سَعِيدٍ» أَنْ تُنْشِئَ فِيهِ حَدِيقَةً صَغِيرَةً لَطِيفَةً، لِكَيْ يَتَمَتَّعَ أَهْلُ الْبَيْتِ بِمَنْظَرٍ جَمِيلٍ، مَنْظَرِ الْخُضْرَةِ وَالزُّهُورِ، وَلِكَيْ يَشَمُّوا رائِحَةً طَيِّبَةً، رائِحَةَ الْوُرُودِ والرَّياحِينِ. وَعَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ أَصْبَحَتِ الْحَدِيقَةُ نامِيَةً، فِيها أَصْنافٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنَ الزَّهرَاتِ النَّاضِرَةِ، وَالثَّمَراتِ النَّاضِجَةِ. وَقَدْ أَحَبَّ «فِكْرِي» حَدِيقَةَ الْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ أَحَبَّتْها أُخْتُهُ «أَنِيسَةُ»، وَأَصْبَحَ كُلٌّ مِنْهُما يَأْتَنِسُ بِالْجُلوسِ فِيها لِلْمُذاكَرَةِ، أَوْ لِلرَّاحَةِ والتَّمَتُّعِ بِالْمَنْظَرِ الْجَمِيلِ، وَالْجَوِّ اللَّطِيفِ. وَأَحْيانًا يَحْضُرُ أَصْدِقاءُ «فِكْرِي» أَوْ صَدِيقاتُ «أَنِيسَةَ»؛ فَيَقْضُونَ وَقْتًا طَيِّبًا يَتَبادَلُونَ فِيهِ الْأَحادِيثَ وَالْفُكاهاتِ الْمُسَلِّيَةَ. وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ كُلَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي خِدْمَةِ الْحَدِيقَةِ، وَيُساعِدُونَ عَلَى أَنْ تَبْدُوَ مُنَظَّمَةً تَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيَقْضُونَ فِيها وَقْتَ الرَّاحَةِ وَالاسْتِمْتاعِ. الْجَمِيعُ يُحِبُّونَ الْحَدِيقَةَ، وَيُحِبُّونَ الْعَمَلَ فِيها، وَيَحْرِصُونَ عَلَى أَنْ تَنْمُوَ وَتُنْبِتَ نَباتًا حَسَنًا، وَتَجِدُهُمْ فَرِحِينَ جِدًّا حِينَ يَرَوْنَ زَهْرَةً تَفَتَّحَتْ، أَوْ غُصْنًا ظَهَرَ. لَقَدْ أَصْبَحَتْ حَدِيقَةُ الْبَيْتِ جُزْءًا مِنْ حَياتِهِمْ، فِيهِ تَرْفِيهٌ وَتَسْلِيَةٌ، وَفِيهِ إِنْعاشٌ لِلنُّفُوسِ. فِي صَباحِ يَوْمٍ نَزَلَتِ الْأُمُّ «سَلْمَى» بَعْدَ أَنْ أَتَمَّتْ شُئُونَ البَيْتِ، إِلَى الْحَدِيقَةِ الْحَبِيبَةِ، لِتُؤَدِّيَ لَها ما يَلْزَمُ مِنَ السَّقْيِ وَالتَّنْظِيفِ. وَلاحَتْ مِنْها نَظْرَةٌ إِلَى عَرِيشٍ صَغِيرٍ لِلْعِنَبِ، أَنْشَأَتْهُ فِي الْحَدِيقَةِ، وَتَعَهَّدَهُ أَهْلُ الْبَيْتِ كُلُّهُمْ، يَنْتَظِرُونَ أَنْ يَقْطِفُوا مِنْهُ عِنَبًا لَذِيذًا عَنْ قَرِيبٍ. فَرِحَتِ الْأُمُّ «سَلْمَى» فَرَحًا شَدِيدًا، لِأَنَّها فُوجِئَتْ بِأَنَّ قِطْفًا مِنْ قُطُوفِ الْعِنَبِ النَّاشِئَةِ قَدْ نَضِجَ، وَسَبَقَ جَمِيعَ الْقُطُوفِ الْأُخْرَى، فَأَصْبَحَ لَوْنُهُ مائِلًا إِلَى الصُّفْرَةِ، وَحَبَّاتُهُ شَفَّافَةٌ رَقِيقَةُ الْقِشْرَةِ. وَسَأَلَتِ الْأُمُّ نَفْسَها: «هَلْ أَتْرُكُ الْعُنْقُودَ النَّاضِجَ فِي عَرِيشِ الْعِنَبِ، حَتَّى يَحْضُرَ أَفْرادُ الْأُسْرَةِ، لِيَنْظُرُوا إِلَيهِ، وَلِيَشْتَرِكَ الْجَمِيعُ فِي قَطْفِهِ؟» وَكادَتِ الْأُمُّ «سَلْمَى» تَنْصَرِفُ، صاعِدَةً إِلَى الْبَيْتِ وَتَتْرُكُ الْعُنْقُودَ فِي عَرِيشِ الْعِنَبِ، انْتِظارًا لِحُضُورِ أَفْرادِ الْأُسْرَةِ. وَلَكِنَّها فَكَّرَتْ قَلِيلًا، ثُمَّ قالَتْ: «سَأَقْطِفُ هَذا الْعُنْقُودَ، وَأُفاجِئُ بِهِ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَسَيَفْرَحُونَ بِرُؤْيَتِهِ أَشَدَّ الْفَرَحِ.» ذَهَبَتِ الْأُمُّ «سَلْمَى»، فَغَسَلَتْ عُنْقُودَ الْعِنَبِ غَسْلًا جَيِّدًا، وَوَضَعَتْهُ فِي طَبَقٍ نَظِيفٍ، وَهِيَ تَنْظُرُ مُعْجَبَةً، كَأَنَّها تَنْظُرُ إِلَى عِقْدٍ مِنَ اللُّؤْلُؤِ النَّفِيسِ. وَكانَ أَوَّلُ الْحاضِرِينَ إِلَى الْبَيْتِ ابْنَتَها «أَنِيسَةَ». فَلَمْ تَسْتَطِعِ الْأُمُّ «سَلْمَى» أَنْ تَكْتُمَ الْخَبَرَ عَنْها، فَقالَتْ لَها: «احْزِرِي … ماذا تَظُنِّينَ أَنْ أُفاجِئَكَ بِهِ؟» فَقالَتْ «أَنِيسَةُ»: «إِنَّكِ دائِمًا تُفاجِئِينَنا بِكُلِّ ما يَسُرُّنا، ماذا عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ جَدِيدٍ؟» فَقالَتِ الْأُمُّ: «لَقَدْ بَدَأَ عَرِيشُ الْعِنَبِ يُعْطِي ثِمارَهُ. الْيَوْمَ نَضِجَ أَوَّلُ عُنْقُودِ عِنَبٍ.» وَأَحْضَرَتِ الْأُمُّ «سَلْمَى» الْعُنْقُودَ … فَما كادَتْ «أَنِيسَةُ» تَراهُ، حَتَّى أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ تُقَبِّلُهُ، وَتُشْبِعُ نَظَرَها مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ ثَمَرَةٍ طَيِّبَةٍ مِنْ عَرِيشِ الْعِنَبِ. وَقالَتِ الْأُمُّ: «إِنَّهُ بَيْنَ يَدَيْكِ، فَتَصَرَّفِي فِيهِ كَما تَشائِينَ، وَسَتَنْضُجُ فِي الْأَيَّامِ الْقَرِيبَةِ الآتِيَةِ عَناقِيدُ كَثِيرَةٌ، بِإِذْنِ اللهِ.» بَعْدَ قَلِيلٍ حَضَرَ «فِكْرِي» أَخُو «أَنِيسَةَ». وَقَبْلَ أَنْ يَصْعدَ إِلَى الْبَيْتِ دَخَلَ الْحَدِيقَةَ يَجُولُ فِيها جَوْلَةً، وَوَقَفَ أَمامَ عَرِيشِ الْعِنَبِ يَتَأَمَّلُ، وَظَهَرَتْ عَلَى وَجْهِهِ الدَّهْشَةُ: لَقَدْ أَدْهَشَهُ أَنَّ عُنْقُودًا مِنْ عَناقِيدِ الْعِنَبِ النَّاشِئَةِ قَدِ اخْتَفَى … فَأَسْرَعَ بِالصُّعُودِ إِلَى الْبَيْتِ، لِيَعْرِفَ سِرَّ اخْتِفاءِ الْعُنْقُودِ. وَلَقِيَتْهُ أُخْتُهُ «أَنِيسَةُ»، فَقالَتْ لَهُ بَعْدَ أَنْ حَيَّتْهُ تَحِيَّةً طَيِّبَةً: «سَأُفاجِئُكَ بِشَيْءٍ يَسُرُّكَ.» فَقالَ لَها: «قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ أُرِيدُ أَنْ أَعْرِفَ: كَيْفَ اخْتَفَى مِنْ عَرِيشِ الْعِنَبِ عُنْقُودٌ؟» فَعَجِبَتْ أُخْتُهُ مِنْهُ، وَقالَتْ لَهُ: «هَلْ أَدْرَكْتَ أَنَّ مَكانَهُ خَالٍ فِي عَرِيشِ الْعِنَبِ؟» فَقالَ لَها: «هَلْ تَظُنِّينَ أَنِّي لا أَعْرِفُ كُلَّ ما يَجْرِي فِي الْحَدِيقَةِ؟! إِنِّي مَشْغُولٌ بِمُلاحَظَةِ عَناقِيدِ الْعِنَبِ النَّاشِئَةِ، أُراعِيها يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ. وَقَبْلَ صُعُودِي الآنَ لاحَظْتُ اخْتِفاءَ عُنْقُودٍ مِنْ هَذِهِ الْعَناقِيدِ.» فَقالَتْ «أَنِيسَةُ»: «هَذِهِ هِيَ الْمُفاجَأَةُ الَّتِي كُنْتُ أَنْتَظِرُ أَنْ أُفاجِئَكَ بِها؛ رَأَتْ أُمِّي هَذا الْعُنْقُودَ قَدْ نَضِجَ، وَهِيَ تَسْقِي الْحَدِيقَةَ فِي الصَّباحِ، فَقَطَفَتْهُ، وَسَأُرِيكَ إيَّاهُ.» وَسُرْعانَ ما أَحْضَرَتْهُ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ مَسْرُورًا، وَقالَ: «هَذِهِ أَحْسَنُ بُشْرَى. سَنَأْكُلُ هَذا الْعامَ عِنَبًا مِنْ غَرْسِ أَيْدِينا، بِفَضْلِ اللهِ.» فَقالَتِ الْأُخْتُ: «لَقَدْ أَعْطَتْنِي أُمِّي الْعُنْقُودَ لِأَتَصَرَّفَ فِيهِ كَما أَشاءُ، وَأَنا أُحِبُّ أَنْ أَخُصَّكَ بِهِ.» فَشَكَرَ لَها «فِكْرِي» عاطِفَتَهَا الْأَخَوِيَّةَ الْكَرِيمَةَ، وَقالَ لَها: «بَلْ هُوَ لَكِ، لِأَنَّكِ أَوَّلُ مَنْ حَضَرَ إِلَى الْبَيْتِ، وَتَلَقَّى الْبُشْرَى. وَسَأَنْتَظِرُ الْعُنْقُودَ الَّذِي يُنْضِجُهُ عَرِيشُ الْعِنَبِ بَعْدَ ذَلِكَ.» فَقالَتْ لَهُ «أَنِيسَةُ»: «يَسُرُّنِي أَنْ تَأْكُلَهُ أَنْتَ، وَسَأَنْتَظِرُ أَنا الْعُنْقُودَ التَّالِي.» فَقالَ لَها «فِكْرِي»: «إِذَنْ نَقْسِمَهُ مُنَاصَفَةً بَيْنَنا، نِصْفُ حَبَّاتِهِ لِي، وَالنِّصْفُ الآخَرُ لَكِ.» فَقالَتْ «أَنِيسَةُ»: «إِنَّهُ عُنْقُودٌ صَغِيرٌ، وَلا داعِيَ لِقِسْمَتِهِ. لَكَ أَنْ تَأْكُلَهُ هَنِيئًا.» فَقالَ لَها «فِكْرِي»: «أَنْتِ يا أُخْتِي تَمْلَئِينَ نَفْسِي إِعْزازًا لَكِ بِما تَفْعَلِينَ. وَلَيْسَتْ قِيمَةُ عَمَلِكِ فِي نُزُولِكِ عَنْ عُنْقُودِ الْعِنَبِ لِي، وَلَكِنَّ الْقِيْمَةَ الْكُبْرَى هِيَ صَفاءُ الْأُخُوَّةِ بَيْنَنا، فَإِنَّكِ تُحِبِّينَ أَخاكِ أَكْثَرَ مِمَّا تُحِبِّينَ نَفْسَكِ.» فَشَكَرَتْ «أَنِيسَةُ» لِأَخِيها «فِكْرِي» أَنَّهُ مَسْرُورٌ بِحُبِّها لَهُ، مُقَدِّرٌ لِعاطِفَتِها نَحْوَهُ. وَقالَتْ لَهُ أَخِيرًا: «سَأَتْرُكُ لَكَ الْعَنْقُودَ لِتَتَصَرَّفَ فِيهِ كَما تَشاءُ.» وانْصَرَفَتْ «أَنِيسَةُ» وَنَفْسُها راضِيَةٌ عَمَّا صَنَعَتْ مَعَ أَخِيها، وَعَمَّا قالَتْهُ لَهُ. جَلَسَ «فِكْرِي» يَتَحَدَّثُ إِلَى نَفْسِهِ، وَعَيْنُهُ عَلَى الْعُنْقُودِ الصَّغِيرِ، أَوَّلِ وَليدٍ فِي عَرِيشِ الْعِنَبِ الْجَدِيدِ. لَقَدْ كانَتْ أُمُّهُ «سَلْمَى» أَوَّلَ مَنْ رَأَى الْعُنْقُودَ ناضِجًا، وَلَمَّا قَطَفَتْهُ لَمْ تَشَأْ أَنْ تَأْكُلَهُ وَتَسْتَمْتِعَ بِهِ، فَانْتَظَرَتْ حَتَّى تُفاجِئَ بِهِ أَوَّلَ مَنْ يَحْضُرُ إِلَى الْبَيْتِ. فَلَمَّا حَضَرَتْ «أَنِيسَةُ» كانَتْ هِيَ الَّتِي رَأَتِ الْعُنْقُودَ، وَتَرَكَتْ لَها الْأُمُّ حُرِّيَّةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَلَكِنَّ «أَنِيسَةَ» اخْتارَتْ أَنْ تَسْتَبْقِيَ الْعُنْقُودَ؛ لِتُرِيَهُ لِأَخِيها الْعَزِيزِ، وَلَمْ تَذُقْ مِنْهُ حَبَّةً وَاحِدَةً، وَتَرَكَتْهُ لَهُ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ كَما يُحِبُّ. ماذا يَفْعَلُ «فِكْرِي»؟ حَقًّا إنَّ الْعُنْقُودَ تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ، وَقَدْ ظَلَّ «فِكْرِي» يَنْتَظِرُ أَنْ يَنْضَجَ عِنَبُ الْحَدِيقَةِ مُنْذُ أَيَّامٍ. قالَ «فِكْرِي» لِنَفْسِهِ وَالْعُنْقُودُ بَيْنَ يَدَيْهِ: «لا أَرْضَى أَنْ أَخُصَّ نَفْسِي بالْعُنْقُودِ. الْأَحْسَنُ أَنْ أُفَكِّرَ كَما فَكَّرَتْ أُمِّي، وَكَما فَكَّرَتْ أُخْتِي. سَأَتَصَرَّفُ أَنَا فِي هَذا الْعُنْقُودِ تَصَرُّفًا كَرِيمًا، يُشْبِهُ تَصَرُّفَ أُمِّي وَأُخْتِي.» انْتَظَرَ «فِكْرِي» فَلَمْ يَقْرَبِ الْعُنْقُودَ، حَتَّى حَضَرَ وَالِدُهُ «سَعِيدٌ»، فَذَهَبَ إِلَيْهِ فِي حُجْرَتِهِ، وَحَيَّاهُ تَحِيَّةً طَيِّبَةً، وَقالَ لَهُ: «إِنِّي جِئْتُ إِلَيْكَ بِمُفاجَأَةٍ تَسُرُّكَ.» فَقالَ الْوالِدُ الْعَطُوفُ: «إِنِّي مَسْرُورٌ بِكَ، وَبِمُفاجَآتِكَ الْحَمِيدَةِ دائِمًا يا بُنَيَّ.» فَقَدَّمَ «فِكْرِي» لِوالِدِهِ الطَّبَقَ، وَعَلَيْهِ عُنْقُودُ الْعِنَبِ، وَقالَ وَهُوَ يَبْتَسِمُ ابْتِسامَةً مُشْرِقَةً: هَلْ رَأَيْتَ عُنْقُودَ عِنَبٍ أَجْمَلَ مِنْ هَذا الْعُنْقُودِ يا أَبِي؟ هَلْ تُصَدِّقُ أَنَّنِي لَمْ أَشْتَرِهِ مِنَ السُّوقِ، وَلَمْ يَكُنْ هَدِيَّةً لَنا مِنْ أَحَدٍ؟ إِنَّهُ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى حَدِيقَتِنا الصَّغِيرَةِ. هَذا أَوَّلُ ثَمَرَةٍ لِعَرِيشِ الْعِنَبِ، قَطَفَتْهُ أُمِّي فِي الصَّباحِ، وَأَعْطَتْهُ لِأُخْتِي، وَقَدَّمَتْهُ أُخْتِي لِي، وَأَنا أُقَدِّمُهُ لَكَ.» فابْتَسَمَ الْأَبُ «سَعِيدٌ» ابْتِسامَةً هانِئَةً، وَقالَ لَهُ: «إِنَّهُ عُنْقُودٌ كامِلٌ، لَمْ يَنْقُصْ حَبَّةً واحِدَةً! فَلا أُمُّكَ، وَلا أُخْتُكَ، وَلا أَنْتَ، أَخَذْتُمْ مِنْهُ شَيْئًا.» فَقالَ لَهُ «فِكْرِي»: «إِنَّكَ يا أَبِي أَحَقُّ بِهِ مِنَّا. وَسَنَنْتَظِرُ الْعَناقِيدَ الَّتِي تَنْضَجُ مِنْ بَعْدُ، وَيَكْفِينا سُرُورًا أَنَّكَ تَسْتَمْتِعُ بِهَذِهِ الْباكُورَةِ الطَّيِّبَةِ مِنْ عَرِيشِ الْعِنَبِ.» فَقالَ الْأَبُ «سَعِيدٌ» لِابْنِهِ: «كَثِيرًا ما اشْتَرَيْنا عِنَبًا أَنْضَجَ مِنْ هَذا الْعُنْقُودِ، وَلَكِنَّنَا لَمْ نَفْرَحْ بِهِ فَرَحَنا بِهَذا الْعُنْقُودِ الصَّغِيرِ. أَتَعْرِفُ لِماذا يا بُنَيَّ؟» فَأَجابَهُ «فِكْرِي»: «نَعَمْ يا أَبِي. أَعْرِفُ لِماذا نَفْرَحُ بِهِ؛ إِنَّهُ مِنْ صُنْعِ أَيْدِينا بِفَضْلِ اللهِ. غُرِسَ فِي حَدِيقَتِنا، وَوُلِدَ بَيْنَنا، فَكَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنَّا.» فَقالَ الْأَبُ «سَعِيدٌ»: «ما أَحْسَنَ ما قُلْتَ، وَما فِهِمْتَ! حَقًّا إِنَّ فَرَحَ الْإِنْسانِ بِما يَصْنَعُهُ بِيَدِهِ، وَما يَتَعَهَّدُهُ بِنَفْسِهِ، أَضْعافُ فَرَحِهِ بِما يَحْصُلُ عَلَيْهِ، دُونَ جُهْدٍ وَلا تَعَبٍ.» وَسَكَتَ الْأَبُ قَلِيلًا، ثُمَّ قالَ: «شُكْرًا لَكَ. واتْرُكْنِي أَتَصَرَّفْ فِي الْعُنْقُودِ بِما أَراهُ.» وَبَعْدَ ذَلِكَ الْتَقَى الزَّوْجانِ، الْأُمُّ «سَلْمَى» والْأَبُ «سَعِيدٌ». فَلَمَّا رَأَتْ «سَلْمَى» الطَّبَقَ بَيْنَ يَدَيْ زَوْجِها، وَعَلَيْهِ عُنْقُودُ الْعِنَبِ، قَالَتْ: «لَقَدْ عَرَفْتَ الْمُفاجَأَةَ قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَكَ بِها. مَنْ أَخْبَرَكَ؟ وَمَنْ أَحْضَرَ لَكَ الْعُنْقُودَ؟» فَقالَ لَها: «الَّذِي أَخْبَرَنِي وَأَحْضَرَ الْعُنْقُودَ وَلَدُنَا «فِكْرِي» … ماذا فِي هَذا؟» فَقالَتِ الزَّوْجَةُ: «لَقَدْ أَعْطَيْتُ الْعُنْقُودَ لِابْنَتِنَا «أَنِيسَة»، وَلَمْ آخُذْ مِنْهُ شَيْئًا. فَلا بُدَّ أَنَّها هِيَ الَّتِي أَعْطَتْهُ لِوَلَدِنا «فِكْرِي»، دُونَ أَنْ تَأْكُلَ مِنْهُ.» فَقالَ الْأَبُ «سَعِيدٌ»: «وَوَلَدُنا «فِكْرِي» فَعَلَ مِثْلَ ما فَعَلَتْ أُخْتُهُ؛ لَمْ يَأْكُلْ هُوَ مِنَ الْعُنْقُودِ شَيْئًا، وَأَحَبَّ أَنْ يَخُصَّنِي بِهِ، وَيَتْرُكَ لِي حُرِّيَّةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ.» فَقالَتِ الزَّوْجَةُ: «إِذَنْ هُوَ لَكَ، بِالْهَناءِ والشِّفاءِ.» فَقالَ لَها «سَعِيدٌ»: «أَكُنْتِ تَظُنِّينَ أَنِّي سَأَرْضَى بِذَلِكَ؟ الْحَقُّ أَنَّكِ أَوْلَى بِهِ؛ فَأَنْتِ الَّتِي تَبْذُلِينَ أَكْبَرَ جُهْدٍ فِي الْحَدِيقَةِ، وَأَنْتِ أَوَّلُ مَنِ انْتَبَهَ إِلَى نُضْجِ هَذا الْعُنْقُودِ الْيَوْمَ. هُوَ لَكِ إِذَنْ، وَسَنَنْتَظِرُ الْعَناقِيدَ الَّتِي تَنْضَجُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَيَكْفِينا فَرَحًا أَنَّ عَرِيشَ الْعِنَبِ قَدْ بَدَأَ يُعْطِينَا ثِمارَهُ.» فَقالَتْ «سَلْمَى»: شُكْرًا لَكَ، وَإِنِّي سَأَقْبَلُ مِنْكَ هَذا الْعُنْقُودَ وَلَكِنِ اتْرُكْ لِي حُرِّيَّةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ كَما أَرَى.» فَقالَ لَها الْأَبُ «سَعِيدٌ»: «هَلْ تُبْقِينَهُ مَعَكِ حَتَّى تَنْضَجَ عَناقِيدُ أُخْرَى تَكْفِينا جَمِيعًا؟» قالَتِ الْأُمُّ «سَلْمَى»: «لَمْ يَخْطُرْ هَذَا بِبِالِي.» قالَ الْأَبُ «سَعِيدٌ»: «هَلْ تُعِيدِينَ الْعُنْقُودَ إِلَى فَرْعِهِ فِي العَرِيشِ، حَتَّى تَنْضَجَ جُمْلَةٌ مِنَ الْعَناقِيدِ؟» قالَتِ الزَّوْجَةُ، وَهِيَ تَضْحَكُ ضِحْكَةً خَفِيفَةً: «وَهَذا أَيْضًا لَمْ يَخْطُرْ بِبالِي.» عادَ عُنْقُودُ الْعِنَبِ إِلَى الْيَدِ الَّتِي قَطَفَتْهُ؛ يَدِ الْأُمِّ «سَلْمَى»، وَلَكِنَّها احْتَفَظَتْ بِهِ، وَلَمْ تَنَلْ مِنْهُ حَبَّةً واحِدَةً. اخْتَلَتِ الْأُمُّ بِنَفْسِها بَعْضَ الْوَقْتِ، وَهِيَ تُفَكِّرُ فِي حِكايَةِ عُنْقُودِ الْعِنَبِ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْها. لَقَدْ كَشَفَتْ لَها حِكايَةُ هَذا الْعُنْقُودِ عَنْ شَيْءٍ مَلَأَ نَفْسَها سُرُورًا وَانْشِراحًا، شَعَرَتْ بالسَّعادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِلصَّفاءِ الَّذِي تَتَمَتَّعُ بِهِ حَقًّا أُسْرَةُ «سَعِيدٍ». الْأُمُّ تُعْطِي لِابْنَتِها الْعُنْقُودَ، وابْنَتُها تُعْطِيهِ لِأَخِيها، والْأَخُ يُعْطِيهِ لِأَبِيهِ، وَالْأَبُ يُعْطِيهِ لِزَوْجَتِهِ، لِأَنَّها كانَتْ أَوَّلَ مَنِ انْتَبَهَ إِلَى نُضْجِ الْعُنْقُودِ، وَأَوَّلَ مَنْ قَطَفَهُ. كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمْ يُحِبُّ الْآخَرِينَ، وَيُراعِي شُعُورَهُمْ، وَلا يَرْضَى أَنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِعُنْقُودِ الْعِنَبِ الْجَدِيدِ. إِنَّ هَذا الْعُنْقُودَ أَصْبَحَ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّهُ اسْتَطاعَ أَنْ يُطْلِعَ أَهْلَ الْبَيْتِ عَلَى حُبِّ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. قالَتِ الْأُمُّ لِنَفْسِها أَخِيرًا: «هَلْ يُمْكِنُ أَنْ أَخُصَّ نَفْسِي بِهَذا الْعُنْقُودِ الطَّيِّبِ الْكَرِيمِ؟» وَفِي الْمَساءِ جَلَسَتِ الْأُسْرَةُ إِلَى مائِدَةِ الْعَشاءِ، وَبَعْدَ أَنْ تَعَشَّوْا قالَتِ الْأُمُّ «سَلْمَى»: «انْتَظِرُوا، حَتَّى أُحْضِرَ لَكُمُ الْفاكِهَةَ.» وَانْصَرَفَتِ الْأُمُّ «سَلْمَى»، ثُمَّ عادَتْ بِطَبَقٍ بَيْنَ يَدَيْها، وَقَدْ بَدَتْ فِيهِ حَبَّاتُ الْعِنَبِ مُتَفَرِّقَةً تَلْتَمِعُ، وَقالَتْ: «هَذِهِ الْحَبَّاتُ الطَّيِّبَةُ ثَمَرَةُ جُهْدِنا كُلِّنا، فِي خِدْمَةِ عَرِيشِ الْعِنَبِ وَتَعَهُّدِهِ. كُلُّنا اشْتَرَكْنا فِي الْغَرْسِ، والسَّقْيِ، والتَّنْظِيفِ، وانْتِظارِ الثَّمَرَةِ. ما أَحْلَى أَنْ نَشْتَرِكَ جَمِيعًا فِي الاسْتِمْتاعِ بِأَوَّلِ الثَّمَراتِ.» فَقالَ الْأَبُ «سَعِيدٌ»: «ما أَجْمَلَ تَفْكِيرَكِ، وَأَحْسَنَ تَدْبِيرَكِ، أَيَّتُها الزَّوْجَةُ الْمُبارَكَةُ، والْأُمُّ الْحَنُونُ.» وَأَقْبَلَتْ «أَنِيسَةُ» وَ«فِكْرِي» عَلَى أُمِّهِما يُقَبِّلانِها، واشْتَرَكُوا جَمِيعًا فِي أَكْلِ حَبَّاتِ الْعِنَبِ، فَكانَ أَحْلَى عِنَبٍ أَكَلُوهُ فِي حَياتِهِمُ السَّعِيدَةِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/26063085/
الرياضيات للفضوليين
بيتر إم هيجنز
متى تلتقي عقارب الساعة؟ ما احتماليةُ أن يكون لطفلَين في فصلٍ واحد تاريخُ الميلاد نفْسُه؟ هل الأفضل أن تلعب الروليت أم أن تشتري أوراقَ اليانصيب؟ كيف يُحسَب حجم الكعكة المجوَّفة (الدونات)؟ لماذا يُخفِق الإنسانُ الآلي المدعو «داتا» في حلقات «ستار تريك» في لعبة البوكر؟ ما مُتتابعة فيبوناتشي؟ ‏يتَّضح لنا من خلال الألغاز والأسئلة الواردة في هذا الكتاب أنَّ لكلِّ شيءٍ في هذا العالَم جانبًا يتعلَّق بالرياضيات، فالكتاب موجَّهٌ لمحبي الاطِّلاع على علم الرياضيات الذين يبحثون عما يُمكِن أن يقدِّمه هذا العلم؛ حيث يقدِّم «بيتر إم هيجنز» تفسيراتٍ واضحةً للألغاز الرياضية الغامضة التي كنا نُواجِهها في طفولتنا، بالإضافة إلى أحدث الاكتشافات والعلاقات، ليبرهن على أن علم الرياضيات علمٌ ممتعٌ زاخرٌ بالمفاجآت.
https://www.hindawi.org/books/26063085/0/
تمهيد
إن غرض هذا الكتاب هو الاستمتاع؛ ومن ثم فلكَ — عزيزي القارئ — أن تتصفَّحه بادئًا بأي موضوع يروق لك. وسوف ترِد من حينٍ لآخرَ إشاراتٌ لأشياءَ سابقة، لكن لن يفوتك الكثير إذا تجاهلتها وتابعت القراءة. ومع ذلك، فأنت قد تجد نفس القدر من المتعة إذا تصفَّحت موضوعات الكتاب مرتبةً أو غيرَ مرتبة. وفي حين أن هذا ربما يفتقر إلى النظام، فإنه نهجُ معظم دارسي الرياضيات. أود أن أشكر كلَّ من ساهم بقراءة مُسوَّدات الكتاب، سواء من العاملين أو القرَّاء الذين لم تُذكر أسماؤهم بمطبعة جامعة أكسفورد، وأشكر جنيفيف هيجنز والدكتور تيم ليفرز لمراجعتهم وملحوظاتهم القيمة.
بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري. بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري.
https://www.hindawi.org/books/26063085/
الرياضيات للفضوليين
بيتر إم هيجنز
متى تلتقي عقارب الساعة؟ ما احتماليةُ أن يكون لطفلَين في فصلٍ واحد تاريخُ الميلاد نفْسُه؟ هل الأفضل أن تلعب الروليت أم أن تشتري أوراقَ اليانصيب؟ كيف يُحسَب حجم الكعكة المجوَّفة (الدونات)؟ لماذا يُخفِق الإنسانُ الآلي المدعو «داتا» في حلقات «ستار تريك» في لعبة البوكر؟ ما مُتتابعة فيبوناتشي؟ ‏يتَّضح لنا من خلال الألغاز والأسئلة الواردة في هذا الكتاب أنَّ لكلِّ شيءٍ في هذا العالَم جانبًا يتعلَّق بالرياضيات، فالكتاب موجَّهٌ لمحبي الاطِّلاع على علم الرياضيات الذين يبحثون عما يُمكِن أن يقدِّمه هذا العلم؛ حيث يقدِّم «بيتر إم هيجنز» تفسيراتٍ واضحةً للألغاز الرياضية الغامضة التي كنا نُواجِهها في طفولتنا، بالإضافة إلى أحدث الاكتشافات والعلاقات، ليبرهن على أن علم الرياضيات علمٌ ممتعٌ زاخرٌ بالمفاجآت.
https://www.hindawi.org/books/26063085/1/
عشرة أسئلة وإجاباتها
كثير من الأشياء في العالم لها جانب رياضي، ووظيفة الرياضيات هي محاولة فَهْم هذا الجانب من طبيعة الأشياء. والمنطق الرياضي غالبًا ما يفسر الأشياء التي لولاه لَظلَّت غامضةً أو محيرة، وأحيانًا يكون هذا المنطق من السهل فهمه عندما يُقدَّم إليك. يتكون هذا الفصل التمهيدي من مجموعة من الأمثلة بهدف إثبات ذلك. فإذا شعرتم أنكم أكثر فَهمًا بعد تصفُّحها فأدعوكم إلى متابعة القراءة. إن هذا الكتاب لا يسعى إلى التعمق في الرياضيات، ولكني آمل من خلاله أن أنقل إليكم نكهة الرياضيات الحديثة. كما يمكن استخدامه لتوضيح بعض جوانب الجبر والهندسة المدرسية، وحتى الحساب الذي ربما كنتَ دائم القلق من صعوبته إلى حدٍّ ما. على سبيل المثال، من الممكن جدًّا أن يفهم أيُّ شخص نظريةَ فيثاغورث كما يفهمها عالم الرياضيات المتخصص؛ فمستوى الصعوبة التي يصادفها تشبه صعوبة تجميع قطع مبعثرة لتشكيل صورة مكونة من ست قطع. وليس هناك سبب يدعو إلى أن تظل مثل هذه الجوانب المهمة الشائقة من الرياضيات غامضةً؛ فمعظم المفكرين من الناس يُمكِنهم فهمُ هذه الأشياء بقليلٍ من الصبر فهمًا تامًّا. بل إن بعض الجوانب العميقة لرياضيات القرن العشرين يمكن فهمها، وآمُل أن أعطيَ القارئ الإشباع الناجم عن رؤية بعض أجزاء من عالم الرياضيات لم تُكتشف حتى للنوابغ في الماضي. في المدرسة وكذلك في الجامعة تكون غاية الطلاب هي الحصول على درجات مُرْضية في الامتحانات، ويساعدهم المدرسون في تحقيق هذه الغاية؛ ومن ثم لا يوجد لديهم وقت للإعجاب بالمشهد الرياضي. إلا أن هذه ليست حالتنا. فالقارئ هنا لا يُرضي أحدًا سوى نفسه. ولسنا في عجَلةٍ مِن أمرنا، كما أننا لا نخشى حُكمًا صادرًا على نتائجنا. تمهل في التفكير فيما يُطرح عليك. الورقة والقلم قد يساعدان أحيانًا، فلا تمنع نفسك من الرسم والتخطيط. وعلى الرغم من أن هذه الخطوط قد تبدو طفوليةً وغيرَ مُجدية، فإنها تساعد حقًّا في عملية التفكير ولا ينبغي أبدًا التقليلُ من أهميتها. هذا النوع من الأشياء يحدث كثيرًا لعلماء الرياضيات. فهم يشعرون بالثقة في افتراض معين، ويبدو للوهلة الأولى أن هناك طريقةً مباشرة لإثباته، لكنهم يصادفون صعوبات في إتمام برهانهم. خط معالجة المشكلة يضعك أمام كثير من المساومات ويجعلك مجبرًا على أن تتعامل مع جوانبَ أخرى لم تكن مهتمًّا بها من قبل. يحدث كثيرًا كما في حالتنا تلك أننا لا نستطيع أن نرى الأشياء المُهمَّة لتركيزنا على التفاصيل الصغيرة. لذلك فالمطلوب العودة إلى الخلف لنلاحظ ما يحدث. الملاحظة الأساسية هي أن عدد المباريات هو بالضبط عدد الخاسرين: فكل مباراة يخرج منها لاعب خاسر وكل لاعب فيما عدا اللاعب الفائز بالبطولة، سوف يخسر مباراة واحدة. ومن ثم يجب أن يكون هناك دائمًا عدد من المباريات يقل واحدًا عن عدد اللاعبين. هذا برهان رائع لا تشوبه شائبة؛ فهو يمسُّ لُب المشكلة مباشرة ويسمح لنا أن نفهم ما يحدث بتقديم سبب واضح لا شبهة فيه عن سبب هذه النتيجة وكونها دائمًا بهذا الشكل. على الرغم من بساطة وقصر هذا الاستنتاج فليس من السهل بأي حال من الأحوال الوصولُ إليه؛ فلذلك لا تخجل إذا لم تعرفه وحدك. أمَّا إذا كنت قد استطعت إدراكه وحدك، فلك الحق في أن تُهنِّئ نفسك. ••• فيما يلي مسألة مشابهة تتعلق بتقسيم لوح من الشيكولاتة على شكل مستطيل. دائمًا هناك الكثير لنتعلمه من أي مسألة بعد حلها. تذكر أنك لا تحاول الحصول على درجات في امتحان ما ولكنك تحاول تعلُّم شيء عن الرياضيات. هناك الكثير من الأشياء يمكنك استنتاجها إذا ما أخذت لحظات في التفكير فيما شاهدته. ••• مسألتنا الثالثة تتعلق بوجه الساعة، وسوف نحلها بثلاث طرق. أي إن: وهذا يؤدي إلى: لا يبدو هذا حلًّا على الإطلاق، فقط مجرد سلسلة متعاقبة من التقريبات الأحسن ثم الأحسن. في الواقع، ظن الإغريق في العصور القديمة أن هذه الطريقة تؤدي إلى صعوبات لا يمكن تخطيها لأنها تنتج قائمة لا تنتهي من المهام، على أخيل أن يؤديَها قبل أن يلحق بالسلحفاة. قد يستغرق ذلك وقتًا لا نهائيًّا؛ ومن ثم فإن المسكين أخيل لن يمسك بالسلحفاة أبدًا. وهذه واحدة من مفارقات زينون. لا داعي للانزعاج. فحقيقة أننا تخيلنا فترة زمنية محدودة كمجموعة لا نهائية من فترات صغيرة لن تسبب أي صعوبة لأخيل. الفرض الخاطئ الذي أدَّى إلى تلك المفارقة هو أننا عندما نجمع متتابعة لا نهائية من الأعداد الموجبة فإن المجموع يجب أن يتجاوز كل الحدود. قد يبدو هذا معقولًا، لكننا أثبتنا أن ذلك غير صحيح. وبما أننا حللنا بالفعل هذه المسألة — مرتين في الحقيقة — فإننا نستطيع أن نستنتج ما يلي: لقد تبين لنا أن مسألة الساعة مثمرة للغاية. أما مسألتنا الرابعة فهي أسهل. المسائل والبراهين التي تحتوي على نسب مئوية تسبب الكثير من الالتباس، ولا يمكن تجاهلها لأنها تتغلغل في جميع تعاملاتنا المالية وأشياء أخرى كثيرة. لكن ما النسبة المئوية ولماذا تظهر باستمرار؟ الإجابة عملية تمامًا ولهذا السبب فهي لا تحظى بأهمية كبيرة لدى علماء الرياضيات (بالرغم من أن المسائل التي تحتوي على فائدة مركبة أصبح لها مضمون رياضي، وتؤدي إلى أسئلة ليست مجرد أسئلة حسابية بسيطة، وسوف نتعرف على الكثير منها لاحقًا.) مثل لغة الإسبرانتو (وهي لغة اصطناعية اختُرعت عام ١٨٧٨ كمشروع لغة اتصال دولية سهلة)، سيكون للنظام الاثني عشري دون شك مزايا كثيرة إذا استطاع العالم أن يواكب التغيير. ورغم كونه نظامًا منطقيًّا، فإنه يبدو أنه سيظل فكرة سديدة لا يتبناها أحد. بالضبط كما أنه من الممكن للناس تعلُّم لغتَين، فإنه من الممكن أن توظف بشكل جيد نظامين للقياس. وآمُل أن يبقى كلا النظامين لفترة طويلة، وأن نتعلم أن نكون أكثر تعايشًا معهما. لا يوجد سبب لأن نتهم أحدهما أو الآخر بالهرطقة. فكلاهما جزء من ثقافتنا. وأي شخص ما زال يتذكر جبر المدرسة الثانوية سوف يستطيع ضرب الأقواس في الطرف الأيسر ويتحقق من تلك المعادلة الصغيرة. مرة أخرى نرى أن بعض الأشياء قد تبدو غامضةً وصعبةَ التوضيح في حالات خاصة، ولكنها يمكن أن تصبح واضحة تمامًا عند فحص الحالة العامة. فإذا لم تكن على دراية بقواعد الجبر المتضمنة في هذا المثال، فلا تنزعج؛ فسوف نعود إلى هذه الأشياء في فصلٍ لاحق. فهي تستحق بالفعل بعض التبرير، وهذا يعطي لطالبتي بعض الحق في تعجُّبها ويعطي للعامل بعض الحق في انزعاجه. فحتى الرياضيات البسيطة مثل هذه تحمل درجةً من التعقيد. حرصًا على الكفاءة والنزاهة، ينتشر وجود مؤشرات الأداء في كل مكان. ومعظمنا يخضع لها. وثمة نموذج يظهر عادةً عند تَكرار دورات مقاييس الأداء وهو أن الأداء يتحسن — ويتحسن أكثر مما كنا نتصور. وهذا ينطبق على كل شيء من نتائج امتحانات تلاميذ المدارس إلى مُعدَّلات الحد من الجرائم إلى تقديرات الأبحاث الجامعية. إن مقاييس الأداء تجعل حقًّا من يخضعون لها يركزون على تحقيق معدل أداء جيد، ولكنهم لا يركزون على الأداء نفسه؛ فالناس يتعلمون كيف تسير اللعبة. إن مهمة قياس الأداء ليست سهلةً كما قد تتوقع. وحتى في مجال الألعاب الرياضية تظهر الصعوبات في مواقف عادية تمامًا. وفيما يلي نعرض مثالًا بسيطًا. مؤشر الأداء الرئيسي للرامي في لُعبة الكريكت هو متوسط عدد الأشواط التي يخسرها لكل ويكيت يحرزها؛ فكلما قلَّ العدد كان ذلك أفضل. نفترض في مباراة واحدة أن أحد الفريقَين له اثنان من الرماة، «أ» و«ب»، حقَّقا الأرقام التالية: ••• مسألتنا السادسة لها طبيعة مختلفة تمامًا: فقد أوردناها للتأكيد على خاصية من خواصِّ الأعداد التي غالبًا ما يراها الناس صادمةً أو مدهشة. كما ذكرت سابقًا، مثل هذه الحُجَج البسيطة يمكن استخدامُها لإثبات نتائج مُهمَّة كثيرة، بما في ذلك النظرية الشهيرة لفيثاغورث كما سنرى في الفصل الثالث. ••• مسألتنا التالية مشابهة للغاية، على الرغم من أن الحل الذي اخترته مختلف تمامًا. سوف نُثبِت أن الإجابة هي: هذه الصيغة مُهمَّة؛ لأنه بمجرد إيجادها أصبح سهلًا إيجادُ صيغةٍ لِما يُسمى المتسلسلة الحسابية؛ ولكن سننتظر حتى الفصل السابع قبل الكلام عن هذه النقطة مرة أخرى. ••• مسألتنا التالية سهلة لكن خادعة؛ ولهذا السبب فهي مُسلِّية. تخيل أن لدينا خيطًا يمتد حول خط الاستواء (على اعتبار أنه دائرة). ومن المقرر رَفْع الخيط مسافة متر واحد فوق سطح الأرض. إذا كانا شخصين اثنين، فالأمر بسيط. أحدهما يصبُّ في كأسَين كميَّتَين متساويتَين تقريبًا من وجهة نظره من المشروب الثمين، بمعنى أن من يصب سيكون سعيدًا بالحصول على أيهما. ويُعطَى الثاني حريةَ اختيار إحدى الكأسين، أيًّا كانت. وبهذا لا يشتكي أيٌّ منهما. إذا اعتقد أحدهم أن ب أخذ أكثر من حقه، فعلى هذا الشخص أن يأخذ كأس ب ويصب الزيادة التي يظنها. وتستمر العملية. ومن الأهمية بمكان ملاحظة أنه عندما تمر الكأس من يد إلى يد، فلن يعترض أحد من الأشخاص السابقين على المستوى الحالي للكأس؛ فمثلًا أ لا يستطيع الشكوى من أن ب حصل على زيادة لأن ب وضع كمية أقل مما حسبه أ حصة عادلة. وفي كل خطوة يقل عدد المعارضين المحتملين، حتى نصل إلى الوضع الذي يمسك فيه أحد الأشخاص، وليكن س، الكأس التي يعتقد أنها تمثل حصة عادلة ولا يميل أحد من الآخرين إلى معارضته. وعندئذٍ يصبح السيد س سعيدًا وينسحب من العملية ليحتسيَ شرابه. ويكرر الباقون نفس العملية بكاملها، ولكن بشارب أقل والباقي من الفودكا حتى يحصل كلٌّ منهم على شرابه ويكون سعيدًا. رغم ذلك، فإن أحدهم قد لا يكون سعيدًا تمامًا. فهذا النظام المرهق، بصرف النظر عن أنه يختبر صبر المشاركين، يُخفِق في ضمان ألَّا يحسد أحدُهم الآخرَ على كأسه. فصحيح أن أحدهم لا يستطيع الادِّعاء أنه لم يحصل على حصةٍ عادلة، ولكنَّ واحدًا من الذين خرجوا مبكرًا من العملية (مثل السيد س الذي أخذ أول كأس) قد يكون مقتنعًا أنَّ واحدًا ممن خرجوا لاحقًا حصل على حصة أكبر من حصته؛ لأن الباقين كانوا حمقى لدرجة تركه يحصل على ذلك. ••• مسألتنا التالية تُحل أيضًا بنفس هذه الطريقة خطوةً بخطوة. يمكنك تحريكُ حلْقةٍ واحدة في المرَّة الواحدة. لا تضع حلْقةً أكبر فوق حلْقةٍ أصغرَ منها. جرِّب اللُّعبة ببرج صغير مُكوَّن من ثلاث أو أربع حلَقات. وسوف تفهم على الفور كيف يتم ذلك. وعليك أن تجد أقلَّ عددٍ من التحركات حتى تصل إلى الهدف.
بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري. بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري.
https://www.hindawi.org/books/26063085/
الرياضيات للفضوليين
بيتر إم هيجنز
متى تلتقي عقارب الساعة؟ ما احتماليةُ أن يكون لطفلَين في فصلٍ واحد تاريخُ الميلاد نفْسُه؟ هل الأفضل أن تلعب الروليت أم أن تشتري أوراقَ اليانصيب؟ كيف يُحسَب حجم الكعكة المجوَّفة (الدونات)؟ لماذا يُخفِق الإنسانُ الآلي المدعو «داتا» في حلقات «ستار تريك» في لعبة البوكر؟ ما مُتتابعة فيبوناتشي؟ ‏يتَّضح لنا من خلال الألغاز والأسئلة الواردة في هذا الكتاب أنَّ لكلِّ شيءٍ في هذا العالَم جانبًا يتعلَّق بالرياضيات، فالكتاب موجَّهٌ لمحبي الاطِّلاع على علم الرياضيات الذين يبحثون عما يُمكِن أن يقدِّمه هذا العلم؛ حيث يقدِّم «بيتر إم هيجنز» تفسيراتٍ واضحةً للألغاز الرياضية الغامضة التي كنا نُواجِهها في طفولتنا، بالإضافة إلى أحدث الاكتشافات والعلاقات، ليبرهن على أن علم الرياضيات علمٌ ممتعٌ زاخرٌ بالمفاجآت.
https://www.hindawi.org/books/26063085/2/
الحقيقة حول الكسور
علماء الرياضيات ليسوا مولَعين بالآلات الحاسبة كما قد تتوقع. والكمبيوتر والآلات الحاسبة اخترعها وطوَّرها بالطبع علماء الرياضيات والمهندسون وهي مفيدة جدًّا، فلماذا نحن، على أفضل تقدير، منقسمون تجاهها؟ السبب أن الآلات الحاسبة لا تُفيد كثيرًا عندما يتعلق الأمر بالمفاهيم الأساسية للحساب، ويمكن أن تُستخدم بأسلوب يجعلها تحلُّ محل التفكير بدلًا من أن تحفزه. واستعمال الآلات الحاسبة على نطاق واسع في دروس الرياضيات يمكن أن يُقوِّض العملية التعليمية. وهذه الحقيقة مُعترَف بها الآن في التعليم؛ ومن ثم تم تقليص الاستخدام العشوائي للآلات الحاسبة. الأثر المؤسف الآخر لاستخدام الآلة الحاسبة هو أنها تجعل المادة مملة. فالرياضيات في المدارس الثانوية تقلَّصت إلى سلسلة من ضغط الأزرار، مما شجع الطلاب على نسيان الرياضيات أو على الأقل الابتعاد عنها. والتحفيز العقلي الذي تُتيحه الآلات الحاسبة يشبه ذلك الذي يتيحه الوقوف على طاولة الدفع في السوبر ماركت. فالمنهج العملي لا بأس به ما دام أنه لا يؤدي إلى تعطيل التفكير! فعادةً ما يكتب الطالب الذي يستخدم الآلة الحاسبة القليل جدًّا أو لا يكتب على الإطلاق، وهذا يجعله عاجزًا عن التعبير رياضيًّا وغير قادر على حل مسألة تحتاج إلى أكثر من خطوة واحدة. ومع ذلك ففي هذا الفصل، آمُل أن أستغل مزايا استخدام الآلات الحاسبة. وبفعل ذلك سوف نقابل أغرب فكرة في هذا الكتاب، وهي فكرة المجموعة غير القابلة للعد. وتكمن غرابتها في كونها أبعدَ ما تكون عن العالم الواقعي، بالرغم من أن نقطة البداية ستكون سلسلةً مألوفة من الأرقام على شاشة عرض الآلة الحاسبة. متسلسلات فيري مليئة بالخواص الجبرية وربما الهندسية الأنيقة أيضًا، وقد اكتشفها رياضي هاوٍ. ربما كان عدمُ اكتشاف مثلِ هذا الجانب الأساسي والمثير للاهتمام من الرياضيات من قِبَل كافَّة علماء الرياضيات عبر العصور؛ شيئًا صادمًا للعقول الجبَّارة في ذلك الوقت، على الرغم من أنه يبدو أن الخواص الأساسية لمتسلسلة فيري نُشرت أول ما نُشرت في عام ١٨٠٢ بواسطة هاروس الذي توقع نشر متسلسلة فيري قبلها بأربعة عشر عامًا. فلنَعُد إلى البداية، لطالما سمعنا الأطفال الذين يحاولون إجراء الجمع (ربما دون بذل الجهد الكافي)، وهم يقولون: «لماذا أنا بحاجةٍ لتعلُّم هذا؟ إذا رغبت في معرفة جواب هذه المسألة، فأنا أستطيع استخدام آلتي الحاسبة.» هذا النوع من الأسئلة كثيرًا ما يكون ناجمًا عن الإحباط، والذين يسألونه لن يُرحِّبوا بإجابة مستفيضة. إن عدم القدرة على التعامل مع الأعداد يمكن أن يكون مشكلة دائمة. فإذا كنا لا نستطيع إجراء عمليات الجمع فنحن مضطرون للاختباء كلما ظهرت أشياء عددية. وحتى الآلات الحاسبة نفسها لن تساعد كثيرًا الشخص الجاهل في الرياضيات، لأنه لن يشعر أبدًا بالثقة أنه استخدم الآلة بطريقة صحيحة؛ فالآلة الحاسبة بالنسبة له لن تكون أكثر فائدة من القاموس بالنسبة لشخص لا يعرف القراءة. التعامل مع أسئلة الأعداد والقياسات العادية يتطلب تدريبًا إلى المستوى الذي هو على الأرجح يتجاوز ما أنت في حاجة إليه عمليًّا. وهذا لأن المشاكل التي تقابلها يجب أن تكون مفهومة جيدًا لك حتى تستطيع أن تتعامل معها بثقة في أي موقف عملي. هل نحن بحاجة لمعرفة الجداول؟ نعم، وسوف أشرح لماذا. إن المعرفة بنظام الأعداد التي يولدها تعلم الجداول، في حدِّ ذاتها، أمرٌ جدير بالاهتمام، لكنَّ هناك جانبًا رياضيًّا أساسيًّا للوضع كذلك. من الأهمية بمكان أن نعرف أن جداول الضرب لا تُمثِّل مجموعةً من الحقائق العشوائية، مثل قائمة أرقام التليفونات، ولكنها أقل مجموعة من حواصل الضرب التي نحتاج إلى معرفتها لكي نقوم بعمليات الحساب العادية. من أجل فَهْم الأعداد إلى مدًى مفيد، على الطالب إجراء الكثير من الحساب. ليست الإجابة هي الشيء المهم، لكن تنمية المهارة المطلوبة للحصول عليها. إن القيام بالعمليات الحسابية يغرس في الطالب أُلفة أساسية مع الأعداد ويزرع فيه الثقة في معالجتها. وكل الرياضيات ذات المستوى الأعلى تنطوي على نفس طرق التعامل، وتستخدم فيها رموز جبرية بدلًا من أعداد خاصة؛ ومن ثم يحتاج الطالب إلى ترسيخ أقدامه تمامًا في الحساب حتى يتمكَّن من إجراء هذه المعالجات بطريقةٍ تكاد تكون طبيعية. إن عدم إتقان الأساسيات يضع عقبةً أمام فَهْم كلِّ المفاهيم الجديدة. بشكل خاص، يجب أن نكون قادرين على التعامل مع الكسور لكي نتمتع بأي إمكانيات رياضية حقيقية. هذا الكتاب ليس مقررًا لتذكيرك بهذه الأشياء، ولكني سأنتهز هذه الفرصة لأقول شيئًا عن الموضوع. حتى إذا كنت على معرفة تامَّة بحساب الكسور، فأنا أدعوك لقراءة باقي هذا القسم؛ فقراءة الأشياء التي يعرفها المرء بالفعل يمكن أن تكون ممتعةً جدًّا، وما زلت آمُل أن أقدِّم لك مفاجأةً أو اثنتين. التساوي بين الكسور يمكن التعبير عنه أيضًا من خلال الضرب التبادلي؛ أي ضرب الوسطَين في الطرفَين: بشكل أعم يُمكِننا اختبارُ ما إذا كان الكسر الموجب أقلَّ من أم يساوي كسرًا آخر باستخدام الضرب التبادلي: ويعتبر ضرب الكسور أسهل من جمعها: ببساطة نضرب كلا البسطين وكلا المقامين. مرة أخرى الجواب الذي نحصل عليه قد لا يختصر: من المهم أن يكون الذهن حاضرًا للبحث عن عوامل قبل القيام بعملية الضرب، لأن من الممكن الحذف بسهولة: للأسف، الطالب المتعجل للحصول على الإجابة غالبًا ما يتجاهل ذلك، ويقوم بعمليات ضرب غير ضرورية، مما يؤدي إلى نتائجَ عكسية. مع وجود الآلة الحاسبة في متناول اليد أخشى أن الإغراء لا يقاوَم. وعند الحصول على الإجابة الصحيحة، نادرًا ما يكون ذهن الطالب حاضرًا ليحلل ما فعل ويحذف الخطوات غير المطلوبة. هنا يمكن للمعلم الجيد مساعدته. التعبيرات المحتوية على عدد من الكسور مختلفة المقامات مزعجة. يمكننا التعامل مع كثرة المقامات بإيجاد المقام المشترك لكل الكسور. وهذا يسمح لنا بالتعامل مع أي مشكلة خاصة، لكن من اللطيف أن يكون هناك مقام واحد مشترك لجميع الكسور. وبالتأكيد لا يوجد. يمكننا احتواء هذه الصعوبة باللجوء إلى الكسور العشرية. هذا يمكننا من عرض كل الكسور بطريقة موحدة. على أية حال، الثمن الذي ندفعه هو أن تمثيلنا للكسور — حتى البسيطة جدًّا منها — بصفة عامة يصبح لا نهائيًّا. ماذا يحدث عندما نكتب العدد النسبي في صورة كسر عشري؟ الإجابة هي أننا نحصل دائمًا على عدد عشري متكرر، أي عدد عشري يحتوي على كتلة من الأرقام المتكررة إلى ما لا نهاية بعد نقطة معينة في المفكوك. ونشير إلى ذلك بوضع نقطة فوق أول وآخر رقم من الكتلة، إليك بعض الأمثلة: هناك العديد من الأسئلة التي يتعين الإجابة عنها: لماذا تؤدي الأعداد النسبية إلى تكرارات عشرية كما ادعيت الآن؟ أي الأعداد النسبية تؤدي إلى كسر عشري منتهٍ؟ أيمكن تحويل كل عدد عشري متكرر إلى كسر مرة أخرى؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فكيف؟ في هذا المثال المقام هو: ها قد وصلنا إلى وصفٍ كامل للكسور الاعتيادية التي تعطي كسورًا عشرية منتهية: دعونا الآن نتناول السؤال الرابع. سوف أوضح كيف نغير أي كسر عشري متكرر إلى كسر اعتيادي. هذه التقنية الخاصة يبدو أنها لا تُعلَّم دائمًا في المدارس، وهذا أمر مخجل، حيث إنها طريقة بسيطة وأيضًا ذكية. بعض الأمثلة ستكون كافية لتوضيح الطريقة. في الختام، يمكننا تمثيل أي كسر اعتيادي في صورة كسر عشري متكرر (تذكر أن الكسور العشرية المنتهية تنتمي أيضًا إلى هذه الفئة)، والعكس صحيح، ومن ثَم إيجاد تناظر بين الأعداد النسبية والكسور العشرية المتكررة. قطعًا من السهل إنتاج كسور عشرية ليست متكررة. فعلى سبيل المثال، في العدد الرياضيات الحديثة ممتعة بنتائجَ من هذا النوع. فهي تثبت لنا أنه يوجد في العالم ما هو أكثر من مجرد النسبة بين الأعداد الصحيحة. كان القدماء يطمحون بشغف إلى الوصول إلى نظام فلسفي يشمل كل شيء، ومن ثَم كانت خيبة أملهم مريرة بسبب الاكتشافات الجديدة التي انتهكت معتقداتهم. ولا يزال هناك منَّا مَن يبحث عن صورة كاملة للكون، ولكن هذا التوجُّه يعيق التقدم أكثر مما يساعد عليه. فقد ازدهرت جوانب جديدة للعلم، مرة تلو الأخرى فقط عندما استرخى الناس وتابعوا الأفكار الجديدة دون موانع ودون تحيُّز أو دون الحاجة إلى تبرير ما يفعلونه من وجهة نظر فلسفةٍ ما، سواء أكانت دينية أم علمانية. وهكذا وبمثل هذا التوضيح: ومن ثَم في كلا الحالتَين فإن الأعداد غير النسبية موجودة. الشيء المُلاحَظ في هذا البرهان أنه أعطى بديلَين، واستنتج أن أحدهما يقود إلى نموذج لزوج من الأعداد لهما الخاصية المطلوبة، ولكنه لا يُقدِّم أي فكرة عن أي عددين يحققان ذلك. لهذا السبب فإن كثيرًا من الناس، ومن بينهم بعض علماء الرياضيات، يعتبرون هذا البرهان عمليًّا لا قيمة له. لكن هذا لا يزعجني. حيث إننا استغرقنا وقتًا لمراجعة قوانين الأسس، فلدينا فرصة عرض بعض من خواص اللوغاريتمات، وهو موضوع غالبًا ما سيكون القراء الأكبر سنًّا قد تعرَّفوا عليه بإسهاب خلال المرحلة الثانوية. إن الخاصية السحرية التي تميزت بها اللوغاريتمات وأدَّت إلى ثورة علمية، هي أنها حولت عمليات الضرب والقسمة إلى جمع وطرح؛ لأن: كانت اللوغاريتمات هي أهم الوسائل العملية منذ فترة ليست بعيدة، وكانت المسطرة الحاسبة هي التمثيل المادي لها. وهذه الأداة عبارة عن مسطرة مدرجة لوغاريتميًّا بدقة فائقة لجمع وطرح اللوغاريتمات. وكانت المسطرة الحاسبة الجيدة قطعة هندسية جميلة. فإذا كنت لا تزال تحتفظ بواحدة فربما يكون من الحكمة أن تحافظ عليها فقد تصبح من الأشياء العالية القيمة التاريخية. لم تَعُد التقنيات المستخدمة في اللوغاريتمات تدرس اليوم على الإطلاق لأن الغرض الأساسي منها كان عمليًّا؛ ومن ثم فقد أضحت عديمة القيمة بظهور الآلات الحاسبة التي تستطيع القيام بالعمل بدقةٍ وبسرعةٍ أكبر. على أية حال، هناك خسارة حقيقية صاحبَت اختفاء الجداول اللوغاريتمية. فتَكرار الرجوع إلى صفحات جداول اللوغاريتمات والدوال المثلثية كان يولد إتقان سلوك الدوال نفسها. والأكثر من ذلك، أن هذه الطريقة كانت تلجأ إلى استخدام القياس والاستقراء الداخلي (بمعنى تقدير قيم وسيطة لم تُكتب صراحةً في الجدول) ومن ثَم كان المستخدمون يحتاجون إلى الاحتفاظ بمهاراتهم الرياضية لدرجة يفتقدها الطلاب الذين يعتمدون على الآلات الحاسبة في الوقت الحالي؛ فبمجرد أن تختصر المسألة إلى تطبيق للآلة الحاسبة، يصبح الطلاب سلبيين نسبيًّا، ويتعلمون بدرجة أقل، ويوافقون على أي نتيجة تظهر على شاشة الآلة الحاسبة دون أي استفسار. اختراع اللوغاريتمات كان دفعًا قويًّا للعلوم في مستهل القرن السابع عشر والفضل يعود بالدرجة الأولى إلى الاسكتلندي جون نيبير. ومع ذلك لم يكن تطورها مباشرًا كما هو متوقَّع. كانت لوغاريتمات نيبير الأصلية أقرب ما تكون إلى ما يُسمَّى باللوغاريتمات الطبيعية المشار إليها سابقًا. وعلاوة على ذلك، كان ثمة تقنيات موازية تُستخدَم مِن قِبل عالمَي الفلك براهي وكيبلر في الدنمارك، في نفس الوقت، للقيام بحسابات صعبة جدًّا على مدار كوكب المريخ باستخدام تقنية تحتوي على متطابقات من حساب المثلثات وتخدم في التعبير عن حاصل الضرب كمجموع. وقد أصبحت أهمية هذه المتطابقات موضع تقدير في أوروبا خلال القرن السادس عشر، بينما اكتشفت القواعد نفسها في الشرق الأوسط في فترة ترجع إلى القرن الحادي عشر. على الرغم من أنه توجد عبارات كثيرة جدًّا صائبة في العالم، فنحن جميعًا نعرف أن الصواب أصعب كثيرًا في الوصول إليه من الخطأ. وبالطريقة نفسها، الأعداد غير النسبية أكثر شيوعًا بكثير جدًّا من الأعداد النسبية، عندما يتعلق الأمر بالأعداد الاعتباطية. وهذا لا ينبغي أن يؤخذ على أنه ملاحظة غير هامة تخص الأعداد غير النسبية، ولكن مجرد وسيلة لتوصيل فكرة أنه على الرغم من وجود أعداد كثيرة جدًّا لا حصر لها نسبية، فإن كون العدد نسبيًّا يمكن أن ينظر إليه بصدق على أنه استثناء. إذا فكرنا في الأعداد فيما يتعلق بالمفكوك العشري، فسيصبح واضحًا لدينا أن الأعداد غير النسبية التي لها مفكوك غير متكرر يجب أن تكون أكثر شيوعًا من الأعداد النسبية التي لها مفكوكات عشرية متكررة. يوجد برهان بسيط على ذلك بتخيل توليد عدد عشري عشوائي بطريقة ما (بالتقاط الأرقام من قبعة مثلًا). إن احتمال أن يقع المفكوك العشري في نمط كتلة تكرِّر نفسها — لا لعددٍ كبير من المرات فحسب، وإنما للأبد — لا بدَّ أن يكون احتمالًا صفريًّا. وهذه بالفعل فكرة حَدْسيَّة سليمة، ولكنها تحتاج إلى بعض الجهد لتصبح دقيقة. تكمن الصعوبة في أن البرهان ملتبسٌ في مفهوم المحدودية (النهائية) واللامحدودية (اللانهائية)؛ إذ نسمح لأنفسنا بالكلام عن نتيجة عملية لا نهائية وكأننا فعلًا نفذناها. ربما يستند تفنيد هذا البرهان إلى ملاحظة أن كلتا المجموعتين من الأعداد، سواء النسبية أو غير النسبية، مجموعتان لا نهائيتان؛ ومن ثم فإن من غير المنطقي أن نقول إن إحداهما أكبر من الأخرى. وتعتمد هذه النتيجة على افتراض أن جميع المجموعات اللانهائية هي في الأساس متساوية؛ وهي فكرة لا تستطيع الصمود أمام التدقيق الجاد. توجد طريقة أساسية أخرى تختلف بها المجموعات اللانهائية بعضها عن بعض وهي أقل وضوحًا بكثير، ويبدو أنها لم تأخذ حقها حتى نهاية القرن التاسع عشر. فبعض المجموعات اللانهائية يمكن كتابتها في قائمة، وبعضها لا يمكن. هذه المجموعة بطبيعة الحال تعتبر قائمة مضاعفة لا نهائية. ومع ذلك، يمكن إعادة ترتيبها في قائمة لها نقطة بداية كالتالي: في الحقيقة، سوف نستخدم الفكرة المستعملة هنا أكثر من مرة؛ فإذا كان لدينا قائمتان: نستطيع دمجهما معًا لتكوين قائمة واحدة تحوي جميع عناصر القائمتين الأصليتين: ولن يجد القرَّاء مشقةً كبيرة في مد هذه القائمة إلى دزينة عناصر أخرى أو أكثر. شخصية «بظ يطير» في فيلم الأطفال «توي ستوري» تحضُّنا على السفر إلى اللانهائية وما بعدها، وهو شيء عزيز جدًّا على قلب علماء الرياضيات الذين أخذوا على عاتقهم القيام بهذه المهمة لأكثر من قرن من الزمان، والآن أضحى لديهم فكرة جيدة جدًّا عما نتوقع عند الوصول إليها.
بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري. بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري.
https://www.hindawi.org/books/26063085/
الرياضيات للفضوليين
بيتر إم هيجنز
متى تلتقي عقارب الساعة؟ ما احتماليةُ أن يكون لطفلَين في فصلٍ واحد تاريخُ الميلاد نفْسُه؟ هل الأفضل أن تلعب الروليت أم أن تشتري أوراقَ اليانصيب؟ كيف يُحسَب حجم الكعكة المجوَّفة (الدونات)؟ لماذا يُخفِق الإنسانُ الآلي المدعو «داتا» في حلقات «ستار تريك» في لعبة البوكر؟ ما مُتتابعة فيبوناتشي؟ ‏يتَّضح لنا من خلال الألغاز والأسئلة الواردة في هذا الكتاب أنَّ لكلِّ شيءٍ في هذا العالَم جانبًا يتعلَّق بالرياضيات، فالكتاب موجَّهٌ لمحبي الاطِّلاع على علم الرياضيات الذين يبحثون عما يُمكِن أن يقدِّمه هذا العلم؛ حيث يقدِّم «بيتر إم هيجنز» تفسيراتٍ واضحةً للألغاز الرياضية الغامضة التي كنا نُواجِهها في طفولتنا، بالإضافة إلى أحدث الاكتشافات والعلاقات، ليبرهن على أن علم الرياضيات علمٌ ممتعٌ زاخرٌ بالمفاجآت.
https://www.hindawi.org/books/26063085/3/
بعض الهندسة
في هذا الفصل نهدف إلى عرض بعض النتائج المشهورة في الهندسة الإقليدية، ومنها نظرية فيثاغورث وبعض نظريات الدائرة. ما زالت براهين هذه النظريات تثير الدهشة والبهجة اليومَ كما كانت قبلَ آلاف السنين، ويمكننا التأكد من أن أحفادنا سيُفتنون بها تمامًا كما فُتنَّا نحن. سوف نبدأ بنظرية فيثاغورث. هذه النظرية تربط الهندسة والجبر بطريقة عجزت عنها أي حقيقة أخرى. فهي تعطي معنًى جبريًّا للمفهوم المادي للمسافة؛ ومن ثم فإننا نستشعر وجودَها دائمًا في الرياضيات والفيزياء — فنظرية النسبية الخاصة، على سبيل المثال، تعتمد عليها. حقًّا أنه أمر سهل. ولا أستطيع التفكير في سبب وجيه يمنع عرض هذا البرهان في المدارس. فالواقع أنه إذا كان هناك عيب في هذا البرهان، فهو أنه شديد القِصَر لدرجة أنك تنتهي من قراءته قبل أن تشعر. الشخص المتشكك قد يسأل: أين أثَّرَت بالضبط حقيقة أن المثلث له زاوية قائمة في البرهان؟ إجابة هذا السؤال تكشف أن البرهان افترض على الأقل افتراضًا واحدًا خفيًّا، وهو الذي سنشرحه الآن. لنفعل ذلك، نحن في حاجة إلى بعض الخواص الأساسية للزوايا. لا تكون قوةُ نتيجةٍ ما واضحةً دائمًا من النظرة الأولى، وقد لا يكون منافيًا للمنطق، على الرغم من التوكيدات السابقة، أن نقول إن نظرية فيثاغورث تبدو حقيقةً مملةً حول مثلث خاص جدًّا. إذ لماذا نكون مهتمين برسم مربعات على أضلاع مثلث من الأساس؟ وهذا يدل على أننا ينبغي أن نحاول إثبات مساحة الدائرة عن طريق نوع من تثليث الشكل (تقسيمه إلى مثلثات). فكرة التثليث هذه، أي تقسيم الكائن الهندسي إلى مثلثات بطريقة خاصة قد تبدو ساذجة وبسيطة للغاية، ولكنها مثمرة جدًّا في الهندسة، والتوبولوجيا، وهو فرع الرياضيات الذي يهتم بالخواص العامة للأشكال والفراغ. وقد يكون من المفاجئ أحيانًا رؤية كيف يمكن التعامل مع الكثير من المسائل الصعبة جدًّا في الرياضيات بنجاح، من خلال الصبر والبناء من الحالات الخاصة إلى العامة. واحدة من هذه المميزات ترتبط بالأشكال السداسية الأضلاع. وكما هو معروف منذ القدم عن نحل العسل وصانعي الألحفة المكونة من قطع متنوعة، من الممكن تقسيم المستوى إلى مضلعات سداسية — أي إن المستوى يمكن تغطيته بمضلعات سداسية متطابقة بحيث لا تتداخل مع بعضها إلا عند حدودها — وهذه الخاصية تستغل في عملهم. إن كون الزاوية في نصف الدائرة زاوية قائمة هي حقيقة لافتة ومفيدة، ولكنها فقط حالة خاصة من النظرية التالية. هناك شيءٌ وسَطٌ بين الهندسة الكلاسيكية والهندسة الإحداثية، ويتمثل في استخدام المتجهات. هذا المفهوم له أهمية هائلة في الفيزياء الرياضية. وسوف نكتفي هنا بتقديم الفكرة وإعطاء مثال يوضح طريقة استخدامها عندما يكون المطلوب شرح أنواع معينة من الحقائق الهندسية. لدينا أيضًا معادلة متجهات أخرى: وهناك مثال آخر على نفس المنوال وهو حقيقة أن الأقطار في متوازي الأضلاع تتقابل عند منتصفاتها. يمكنك إقناع نفسك بذلك باستخدام منهاج مشابه: ابدأ عند أحد الأركان وانتقل إلى نقطة المنتصف لكل قطر وقم بترميز كل عملية انتقال على أنها مجموع متجهات. يبقى لك إثبات أن هذين المجموعين للمتجهات في الحقيقة متساويان أي إن منتصفي القطرين ينطبقان.
بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري. بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري.
https://www.hindawi.org/books/26063085/
الرياضيات للفضوليين
بيتر إم هيجنز
متى تلتقي عقارب الساعة؟ ما احتماليةُ أن يكون لطفلَين في فصلٍ واحد تاريخُ الميلاد نفْسُه؟ هل الأفضل أن تلعب الروليت أم أن تشتري أوراقَ اليانصيب؟ كيف يُحسَب حجم الكعكة المجوَّفة (الدونات)؟ لماذا يُخفِق الإنسانُ الآلي المدعو «داتا» في حلقات «ستار تريك» في لعبة البوكر؟ ما مُتتابعة فيبوناتشي؟ ‏يتَّضح لنا من خلال الألغاز والأسئلة الواردة في هذا الكتاب أنَّ لكلِّ شيءٍ في هذا العالَم جانبًا يتعلَّق بالرياضيات، فالكتاب موجَّهٌ لمحبي الاطِّلاع على علم الرياضيات الذين يبحثون عما يُمكِن أن يقدِّمه هذا العلم؛ حيث يقدِّم «بيتر إم هيجنز» تفسيراتٍ واضحةً للألغاز الرياضية الغامضة التي كنا نُواجِهها في طفولتنا، بالإضافة إلى أحدث الاكتشافات والعلاقات، ليبرهن على أن علم الرياضيات علمٌ ممتعٌ زاخرٌ بالمفاجآت.
https://www.hindawi.org/books/26063085/4/
الأعداد
الأعداد تحمل نوعًا من السحر لمعظم الناس. وقد دُرسَت باستفاضة لعدة قرون ولا يزال هناك بعض الأسئلة البسيطة عن الأعداد العادية التي لا يعرف إجاباتِها أحد. وبعض هذه الأسئلة حاسمة لفروع كاملة من الرياضيات، بينما بعضها لا تزيد عن كونها أسئلة فضولية لا يترتب عليها شيء. وسوف أقدِّم عينةً من هذه الأسئلة لاحقًا في هذا الفصل. ••• ••• نستنتج من ذلك، شريطة أن تكون تمهيدية إقليدس صحيحة، أنه لا توجد إلا طريقة واحدة لتحليل أي عدد كحاصل ضرب أعداد أولية. بعد قليل سوف أثبت تمهيدية إقليدس بطريقة غير متوقعة، من خلال استخدام خوارزمية إقليدس لحساب القاسم المشترك الأعظم لعددين. ولكن قبل أن أتناول هذا الموضوع، سوف أناقش مسألة أخرى. يوجد بالتأكيد عدد لا نهائي من الأعداد الأولية. اطرح العدد الأصغر من الأكبر. اترك العدد الأكبر وكرر الخطوة (١) مع العددين الباقيين. ربما تكون خوارزمية إقليدس هذه هي أقدم نموذج حقيقي للخوارزميات وهي طريقة ميكانيكية للبت في مسألةٍ ما. في عصر الحاسبات، أعتقد أن هذا موضوع جذاب للمدارس الثانوية لإعادة اكتشافه. لماذا تنجح؟ ويتم تنفيذ الخوارزمية عمليًّا بهذه الطريقة؛ ومن ثم تكون الحسبة كما يلي (في كل مرحلة نضع خطًّا تحت العددين المستخدمين): أي إن: لأن هذا الكتاب للفضوليين فسوف أعرض لبعض من المسائل الشهيرة التي لم تحل أو على الأقل صعبة الحل عن الأعداد. كانت مبرهنة فيرما الأخيرة واحدة من المسائل التي أخذت بجدية شديدة. وهذا يتطلب مقدمة صغيرة. فيرما ادَّعى أن لديه برهانًا رائعًا لهذه الحدسية التي ظهرت كملاحظة على هامش واحدة من مخطوطاته. وأضاف أن الهامش صغير جدًّا لاحتواء الإثبات، ولهذا لم يحدث قطُّ أنه كتب البرهان. وقد كتب فيرما عددًا من الملاحظات المماثلة على الهوامش كلها تم برهانها إلا هذه الحدسية؛ ولهذا سُميت بهذا الاسم: «مبرهنة فيرما الأخيرة». للوهلة الأولى لا تبدو هذه المسائل ذات أهمية خاصة، لكن سيكون هذا حكمًا سطحيًّا خاطئًا تمامًا لأن الكثير من الرياضيات الرائعة قد نتجت من دراسة مبرهنة فيرما الأخيرة أكثر من أي مسألة أخرى. ولحسن الحظ فإن المسألة قد حُلت تمامًا، كما تنبأ فيرما، بواسطة أندرو وايلز في التسعينيات من القرن العشرين، من خلال إثبات حدسية عميقة جدًّا عمَّا يسمى المنحنيات الإهليلجية والأشكال النمطية، التي ليست لها صلة واضحة بمبرهنة فيرما. ويعد البرهان الذي لاقى ترحيبًا هائلًا على أنه برهان القرن، برهانًا شديد العمق لدرجة أن عددًا قليلًا جدًّا — يُعَد على أصابع اليد — من الناس يستطيعون ادعاء أنهم فهموه تمامًا. وقد كان ثمة نسخة مبكرة من البرهان، أعتقد أنها كاملة، ولكن تبين أن بها خطأ جوهريًّا، وقد نجح وايلز في حل هذا الخطأ وإثبات المبرهنة فيما بعد. ويمثل عمل وايلز مؤكدًا جهدًا ملهمًا للعبقرية البشرية حتى لو كان الإعجاب به من بعيد. من المؤسف أن أندور وايلز لن يُكرَّم على هذا الإنجاز بالحصول على جائزة نوبل. فلا توجد جائزة نوبل للرياضيات. وماذا عن برهان فيرما الأصلي؟ برهان وايلز يعتمد على عدد هائل من إنجازات الرياضيين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين؛ ومن ثَم فهو خارج أي شيءٍ كان يمكن لفيرما الوصول إليه أثناء حياته. وأيًّا كان ما كان بيير دو فيرما يفكر فيه عندما كتب ملحوظته على الهامش فإنه سيظل غامضًا، ربما للأبد. توجد صيغ للأعداد الأولية: إحداها تعد أقربَ إلى إعادة صياغة المسألة مما ينتج صيغة، ورغم أن هذه الصيغة تبدو رائعة، فإنها لا يمكن استخدامها إلا إذا كنا نعلم جميع الأعداد الأولية من الأساس. أما الثانية فهي صيغة حقيقية، لكنها تتطلب كمًّا هائلًا من الحسابات لاستخدامها، ومن ثَم فهي لا تقوم بالعمل أيضًا.
بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري. بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري.
https://www.hindawi.org/books/26063085/
الرياضيات للفضوليين
بيتر إم هيجنز
متى تلتقي عقارب الساعة؟ ما احتماليةُ أن يكون لطفلَين في فصلٍ واحد تاريخُ الميلاد نفْسُه؟ هل الأفضل أن تلعب الروليت أم أن تشتري أوراقَ اليانصيب؟ كيف يُحسَب حجم الكعكة المجوَّفة (الدونات)؟ لماذا يُخفِق الإنسانُ الآلي المدعو «داتا» في حلقات «ستار تريك» في لعبة البوكر؟ ما مُتتابعة فيبوناتشي؟ ‏يتَّضح لنا من خلال الألغاز والأسئلة الواردة في هذا الكتاب أنَّ لكلِّ شيءٍ في هذا العالَم جانبًا يتعلَّق بالرياضيات، فالكتاب موجَّهٌ لمحبي الاطِّلاع على علم الرياضيات الذين يبحثون عما يُمكِن أن يقدِّمه هذا العلم؛ حيث يقدِّم «بيتر إم هيجنز» تفسيراتٍ واضحةً للألغاز الرياضية الغامضة التي كنا نُواجِهها في طفولتنا، بالإضافة إلى أحدث الاكتشافات والعلاقات، ليبرهن على أن علم الرياضيات علمٌ ممتعٌ زاخرٌ بالمفاجآت.
https://www.hindawi.org/books/26063085/5/
الجبر
إذا كان هذا الأسلوب الأفريقي للضرب يبدو غامضًا لنا، فبلا شك سيبدو أسلوبنا كذلك بالنسبة لهم. فهل يمكنك شرح طريقتهم؟ وهل يمكن شرح طريقتك؟ في الحقيقة الطريقتان تعتمدان على نفس الفكرة، وهو نفس الجانب من الجبر، ويُعرف باسم: «قانون التوزيع» وهو الموضوع الرئيسي لهذا الفصل. وسوف نعود لمسألة التجار الإثيوبيين بعد قليل. أما عند دمج هاتين العمليتين، ففي هذه الحالة تكون الأقواس ضرورية: كلٌّ منا لديه بعض الخبرة في مسائل الجبر أو الحساب التي تحتوي على بعض الصعوبة من أيام المدرسة؛ إذ كان يجب أن تكون أكثر حذرًا عند التعامل مع المسائل التي تحتوي على علامة الطرح والأقواس. ويرجع السبب الرئيسي في ذلك إلى أن عمليات الطرح ليست تجميعية. وعند إجراء عمليتي طرح متتاليتين، فإن الأقواس تكون مهمة: قانون التوزيع هو الأكثر خصوصية والأقل وضوحًا بين جميع قوانين الجبر. وتأتي خصوصيته من حقيقة أنه القانون الوحيد الذي يربط العمليتين الأساسيتين في الحساب وهما عمليتا الجمع والضرب؛ وهو القانون الذي يدلنا على كيفية ضرب الأقواس: وعلى الجانب الآخر: المهارة في قانون التوزيع تأتي من استخدامه في الاتجاه المعاكس لكتابة مجموع ما في صورة حاصل ضرب باستخراج عامل مشترك. وبدلًا من استخدام الكثير من الأقواس فإن هناك عملية ميكانيكية تمامًا موضحة أدناه، ألا وهي التحليل، وتنطوي على التفكير في تعبير ما واستخراج عامل مشترك. وهو يتطلب من الطالب حسن التقدير، فهو الذي يقرر هل هذا التحليل مناسب وسيساعد في تبسيط التعبير الجبري المُعطى. وهذا يتطلب خبرة كبيرة مناسبة، لكنه جزء لا بد منه في عملية التعليم. ويحتاج الطلاب الجادون في المواد التي تعتمد على الحساب أن يكونوا قادرين على التعامل بسهولة مع الجبر ويعرفوا كيفية استخدام قانون التوزيع في كلا الاتجاهين. لقد استخدمنا قانون التوزيع لتجزئة عملية الضرب إلى مجموع عمليتَي ضرب أبسط. بعد ذلك نقول: قد تشعر بشيء من الانزعاج من هذا المستوى التفصيلي للتفسير. جزء من السبب في ذلك أنني أشرح شيئًا مألوفًا تمامًا — الضرب البسيط — باستخدام أفكار قد تكون غير مألوفة، وهي قوانين الحساب. فإذا كان هذا يزعجك، فببساطة شديدة تجاهله تمامًا، ولكن لاحظ نقطة واحدة عامة: كل طريقة حسابية تعتمد في تفسيرها على مجموعة صغيرة من قوانين الحساب البسيطة جدًّا، ومن هذه القوانين قانون التوزيع. ومع ذلك، آمُل أن تساعد قوانين الحساب في توضيح الطريقة الإثيوبية للضرب لأنك، ما لم تكن إثيوبيًّا، ستشعر في الغالب بأنها تحتاج إلى التوضيح. دعونا الآن نَعُد إلى مسألة الضرب الإثيوبية بكل ما فيها من مضاعفةٍ وتنصيف، مع إهمال الأنصاف وحذف الصفوف الزوجية، ثم جمع الباقي. قد يبدو هذا محيرًا لنا، لكن عند تحليله، سنجد أنه مدعوم بقوة بقانون التوزيع. وفي هذه الحالة كل صف باستثناء الصف النهائي يبدأ بعدد زوجي؛ ومن ثم سيتم حذف جميع الصفوف باستثناء الصف الأخير. ثم نستمر في ذلك فنحصل على: مع أن هذه الطريقة قد لا تكون مريحةً بالنسبة لنا، فإن الطريقة الإثيوبية صحيحة تمامًا كما هو الحال في كثير من الطرق الأخرى المستخدمة في الضرب. وهذه نقطة نفسية مهمة. فعندما نقوم بعمليات حسابية عقلية، فإن كلًّا منا يبدو أن له طريقته الخاصة. ولا غبار على ذلك، شريطة أن يصل الجميع للنتائج نفسها. والناس غالبًا ما يخجلون من طريقة أدائهم للأشياء خوفًا من أن يقال إنهم يقومون بالعمل بأسلوب خاطئ. لقد شُجِّعنا جميعًا على القيام بالعمليات الحسابية ذهنيًّا، لكن عادة لم يخبرنا أحد عن كيفية عمل ذلك، وكثيرًا ما تُركنا لأساليبنا الخاصة. الطرق القياسية للقيام بعمليات الجمع مصممة بحيث يتم استخدام القلم الرَّصاص والورقة، حيث تملك ميزة كتابة الأعداد (عمليات الترحيل مثلًا) وتخزينها دون حاجة لتذكرها عند الانتقال إلى الخطوة التالية من الحسابات. ولذلك فإن هذه الطرق غير مناسبة للحساب الذهني؛ إذ إن من الصعب الاحتفاظ ببعض الأعداد في الذهن، وفي الوقت نفسه التعامل مع أخرى. عندما نتكلم عن الحساب العقلي، فأنت حر في أن تفعل أي شيء ما دام يؤدي للنتيجة. وإذا حاولت ذات مرة كتابة طريقتك لإقناع نفسك بأنها صحيحة، فإنك سترى في النهاية أن طريقتك تتم بنفس قوانين الحساب التي يستخدمها سائر الناس. ينطوي الجبر على إجراء الحسابات دون تعيين للأعداد، ويرمز لها برموز، بدلًا من تعيينها. وهذا يسمح لنا بوصف طريقة عامة ببساطة. من ناحية، يحتاج هذا إلى وقت للتعود عليه، ولكن من ناحية أخرى، بما أن قوانين الجبر يجب أن تكون مطابقةً لقوانين الحساب، فإن طريقة استخدامها لا تحوي الجديد. وذلك هو السبب في أن إجادة الحساب تؤدي إلى الكفاءة في الجبر. وللتأكيد نكتب مرة أخرى: بعبارة أخرى، ما أوضحناه هو أن الجذر التربيعي لحاصل الضرب هو حاصل ضرب الجذور التربيعية، وأن الجذر التربيعي لخارج القسمة هو خارج قسمة الجذور التربيعية؛ وهو ما يعني أن عمليات الضرب واستخراج الجذور التربيعية يمكن تنفيذها بأي ترتيب لتعطي نفس النتيجة. وهذه الحقيقة تُستخدم دائمًا لتبسيط الجذور التربيعية للأعداد الكبيرة: إلا أنه ليس صحيحًا على الإطلاق أن نتمكن من تبديل ترتيب الجمع وأخذ الجذر التربيعي، كما يتضح من المثال التالي: لدينا الآن ما يكفي من قواعد الجبر لاستخلاص الصيغة الشهيرة لحل المعادلات التربيعية، التي تتطلب منا تقنية عامة تسمى: «استكمال المربع». فلنبدأ بمثال. حل المعادلة: من أجل استعمال الجبر بكفاءة نحتاج أن نتمكن من التعامل مع الأعداد الموجبة والسالبة على حدٍّ سواء. والسبب هو أنه حتى عند التعامل مع المسائل التي تحوي كميات موجبة، وحلولًا موجبة فقط، فإن العمليات الجبرية قد تُخرجنا من نطاق الأعداد الموجبة إلى نطاق الأعداد السالبة، على الرغم من أننا قد نعود في النهاية إلى نطاق الأعداد الموجبة. إذا كنا نريد أن نُجريَ عمليات القسمة بحُرية فإننا نحتاج إلى الكسور، وإذا أردنا أن نُجري عمليات الطرح بحُرية فنحن نحتاج للأعداد السالبة كما نحتاج للأعداد الموجبة. ومع ذلك، كان يوجد دائمًا انحياز للأعداد الموجبة. فالبابليون عرفوا كيفية حل المعادلات التربيعية ولكنهم لم يقبلوا سوى الحلول الموجبة. ولهذا السبب قد تبدو طريقتهم في تمثيل المعادلات التربيعية غريبة بالنسبة لنا. وكان النهج المفضل هو أن يطلب أبعاد المستطيل بمعلومية محيطه ومساحته. وهذا أدى إلى إتاحة الحلول الموجبة بشكل دائم. ويمكننا الآن تطبيق نفس الخطوات كما سبق وإكمال المربع، شريطة أن نعلم أنه بشكل عام: وفيما يلي مثال آخر يكشف فيه الجبر عن حقيقة مهمة خاصة بالمقادير الموجبة. ولكن، مرة أخرى، سوف نسمح لأنفسنا بالتعامل مع الأعداد السالبة ونستخدم حقيقة أن حاصل ضرب عددين سالبين هو عدد موجب (وهي نقطة يتردد بعض الناس في قَبولها). وهذا ما يسمى المتوسط الحسابي. ومن ناحية أخرى فإن المتوسط الهندسي لعددين موجبين هو العدد: ومن ثم: بأخذ الجذر التربيعي الموجب للطرفين فإن: وهو المطلوب إثباته: أي إن المتوسط الحسابي أكبر من أو يساوي المتوسط الهندسي. وإذا كنا غير مُقيَّدين في تعاملنا مع الجبر، ونستخدم الأعداد السالبة بحرية، فإننا نستطيع حل أي معادلةٍ تربيعيةٍ بإكمال المربع في الحالة العامة. في المعادلة التربيعية العامة مثل: يؤدي إكمال المربع إلى الصيغة التربيعية الشهيرة: ومع أن الطُّرق الجبرية المستخدمة للحصول على هذه النتيجة صعبة بعض الشيء بالمعايير المدرسية، إلا أنها لا يوجد بها شيء جديد. فالفكرة الجديدة في حل المعادلات التربيعية هي فقط إكمال المربع. وبمجرد استيعاب ذلك، تكون الصيغة العامة بسيطة ومباشرة. إلا أنها تتطلب من الطالب أن يستطيع الاستجابة جبريًّا بشكل سليم ليتمكن من التعامل مع هذا المستوى من العمل. على سبيل المثال، أثناء الاستنتاج يطلب منا في إحدى الخطوات وضع تعبير جبري مُعقَّد على مقام موحد. ما تفسير هذا؟ كل ما يحدث هو جمع الكسور. قد تكون التعبيرات معقدة، ولكن البسط والمقام لا يزالان يرمزان لأعداد (غير محددة) ومن ثم يتبعان نفس قوانين الجبر. ما القوانين ذات الصلة بذلك؟ للإجابة عن هذا السؤال، دعونا ننظر إلى جمع الكسرين: والآن هذان الكسران لهما مقام مشترك فيمكن جمع البسطين معًا لنحصل على: هذه الخطوة الأخيرة تستخدم قانون التوزيع. لرؤية ذلك اسأل نفسك ماذا يقال عند كتابة شيءٍ مثل: وهو مثال على قانون التوزيع في حالة الكسور. وباستخدام قانون التوزيع يمكننا فك الأقواس بضرب كل حد من القوس الأول في كل حد من القوس الثاني، ثم جمعها كلها فنحصل على أربعة حدود. ويستمر الحساب: ومن ثم نحصل على: وكل ما عدا ذلك سيؤدي إلى إجابة خاطئة. ومع ذلك فعندما يقول أي مدرس إن حاصل ضرب عددين سالبين هو عدد موجب، فإنه عرضة لتلقي بعض الملاحظات على غرار «لا يمكنك ضرب كميتين سالبتين من المال للحصول على كمية موجبة!». وعلى الرغم من أن هذا قد يبدو اعتراضًا مقنعًا، فإنه هراء؛ إذ لا معنًى لضرب كميةٍ من المال في كميةٍ أخرى من المال في المقام الأول، سواء اعتبرت الكميات ائتمانات أو ديونًا. ما تقوله الرياضيات هو أنه عندما يتم ضرب عددَين سالبَين، فإن النتيجة ستكون موجبة. فمثلًا: بطريقة مماثلة نستنتج التعبير الخاص بالفرق بين مربعين: مرة أخرى، فإن عكس هذا الاتجاه هو الأكثر استخدامًا. ويمكن كتابة الفرق بين مربعين كحاصل ضرب. مثل: الذي قد تتذكر أنه ظهر في المسألة الرابعة في الفصل الأول. بأخذ المعكوس (وهو يؤدي إلى أن تغير المتباينتان اتجاههما): ومن ثَم: وهذه المتباينة الكسرية الأخيرة من السهل إثباتها لأن قاعدة الضرب التبادلي (ضرب الوسطين في الطرفين) التي ذكرناها في الفصل الثاني تقول إنها تساوي:
بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري. بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري.
https://www.hindawi.org/books/26063085/
الرياضيات للفضوليين
بيتر إم هيجنز
متى تلتقي عقارب الساعة؟ ما احتماليةُ أن يكون لطفلَين في فصلٍ واحد تاريخُ الميلاد نفْسُه؟ هل الأفضل أن تلعب الروليت أم أن تشتري أوراقَ اليانصيب؟ كيف يُحسَب حجم الكعكة المجوَّفة (الدونات)؟ لماذا يُخفِق الإنسانُ الآلي المدعو «داتا» في حلقات «ستار تريك» في لعبة البوكر؟ ما مُتتابعة فيبوناتشي؟ ‏يتَّضح لنا من خلال الألغاز والأسئلة الواردة في هذا الكتاب أنَّ لكلِّ شيءٍ في هذا العالَم جانبًا يتعلَّق بالرياضيات، فالكتاب موجَّهٌ لمحبي الاطِّلاع على علم الرياضيات الذين يبحثون عما يُمكِن أن يقدِّمه هذا العلم؛ حيث يقدِّم «بيتر إم هيجنز» تفسيراتٍ واضحةً للألغاز الرياضية الغامضة التي كنا نُواجِهها في طفولتنا، بالإضافة إلى أحدث الاكتشافات والعلاقات، ليبرهن على أن علم الرياضيات علمٌ ممتعٌ زاخرٌ بالمفاجآت.
https://www.hindawi.org/books/26063085/6/
المزيد من الأسئلة والإجابات
في معظم بلدان العالم الغربي تُتاح للمواطنين فرصةُ المشاركة في يانصيب تديره الدولة. وقد انضمَّت بريطانيا حديثًا لهذه اللُّعبة، ولم يوحد الدولة منذ عام ١٩٩٤ شيء مثلما فعَل اليانصيب الوطني، وعلى ذلك فكتاب مثل كتابنا هذا حريص على الإجابة عن السؤال التالي: عند الاستمرار بهذه الطريقة، نرى أن احتمال أن يظل اختيارك «قائمًا» بعد سحب الكرات الستة كاملة، كما في السابق، هو: السؤال التالي عبارة عن مسألة احتمالات عملية من نوع مختلف تمامًا. لقد فهمت أن هذا السؤال وُضِعَ لطلاب الطب في أمريكا، وكانت الإجابة تُنذر بالخطر بشكل ما. مسائل الاحتمالات عادة تكون خادعة بعض الشيء، لا سيما المسائل التي تحتوي على احتمالات مشروطة حيث تُسأل عن احتمال وقوع حدث مرتبط بوقوع حدث آخر. (في هذا المثال تريد معرفة احتمال أن يكون الشخص مريضًا في ظل أن نتيجة اختباره إيجابية.) مثل هذه المسائل يمكن أن تكون خادعة للغاية؛ فألَّا تتمكن من حل مسألة شيءٌ، وأن تتصوَّر أنك تستطيع حلها وتقاد إلى نتيجة خاطئة تمامًا شيءٌ آخر. وهذا المثال يوضح كيف يمكن بسهولة خداع حتى الأذكياء والمتعلمين. ومن المفيد والمهم أن يكون هناك من يفهم الرياضيات بحق. ••• مسألة الاحتمالات المشروطة التالية قديمة، ولكنها بطريقة ما تستطيع معاودة الظهور من آنٍ لآخر بأشكال مختلفة. أحيانًا تُعرَف باسم «مسألة مونتي هول» وفيما يلي النسخة الشائعة المتداولة منها. متسابق في برنامج ألعاب تليفزيوني يعرض أمامه ثلاثة أبواب مرقمة. يوجد خلف أحدها الجائزة الكبرى وخلف كلٍّ من البابَين الآخرَين يوجد ماعز. (لا تسألني لماذا الماعز.) اللاعب يختار أحد الأبواب. فيفتح مقدم البرنامج التليفزيوني، الذي يعلم ماذا وراء كل باب، بابًا آخر فيجد المتسابق ماعزًا. عندئذٍ يكون للمتسابق حق الاختيار إما أن يظل عند اختياره الأول أو يختار الباب الآخر الذي لم يُفتح بعد. والسؤال هو: الجواب: نعم، يجب أن يغير؛ لأن التغيير يضاعف له فرص الفوز! ومعظم الناس — إن لم يكن جميعهم — يجدون أن هذا يعارض توقعاتهم. فلماذا يكون الباب الباقي الذي لم يُفتح بعد أكثر ترجيحًا لوجود الجائزة خلفه مقارنة بالباب الذي اختاره المتسابق في المقام الأول؟ سنوضح هنا لماذا يكون التغيير هو الاستراتيجية الأفضل. ثمة نسخة مماثلة من هذه المشكلة وهي تخصُّ ثلاثة سجناء: سميث وجونز وأنت. حُكم عليكم جميعًا بالإعدام وسيُنفَّذ الحكم في الصباح. وقرر الحاكم عشوائيًّا أن يؤجل الإعدام لواحد منكم، وقد اتخذ قراره فيمن يقع عليه الاختيار. وفي الواقع تم إخبار الحارس بمن سيعيش ومن سيموت، ولكن الحاكم رغب في أن يحتفظ بالأنباء السارَّة لتكون مفاجأة، ومنع الحارس من كشف الحقيقة. أنت وضعت خُطة ماهرة لتحسين فرصك في النجاة. فاقتربت من الحارس لتقول له إنك تعرف أنه لا يستطيع الإفصاح عن الشخص المختار، ولكن على الأقل واحد من زميلَيك في الزنزانتين المجاورتين سينفذ فيه حكم الإعدام، ومن ثَم لن يضيره أن يكشف اسم واحد، بخلافك أنت، لم ينل العفو. الحارس تأخذه الشفقة ويوافق ويقول كلمة واحدة: «جونز». أنت الآن تُطَمْئِن نفسَك بالمنطق الزائف التالي: والآن لنفترض أنك رأيت لونًا أصفر من بين أصابع صديقك عندما سحب الكرتين. بالحصول على هذه المعلومة الإضافية، ماذا يكون الآن احتمال أن تكون الكرتان من اللون الأصفر؟ ••• وبالرجوع إلى موضوع الإعدام الذي أثير في السؤال السابق، دعونا ننظر إلى الموضوع الآتي. إذا كنت لا تعرف هذه اللعبة القاتلة، فاسمح لي بشرح قواعدها لك. يتناوب لاعبان في تفريغ خِزانة مسدس من ست طلقات بحيث يصوب كلٌّ منهما المسدس إلى رأسه. وتوجد طلقةٌ واحدةٌ في أحد الأماكن الستة في الخزانة المستديرة للمسدس، وكل واحد من اللاعبين يأخذ دوره في إطلاق المسدس، وقبل الإطلاق يدير اللاعب الخزانة حتى لا يعرف مكان الطلقة داخل الخزانة، ويستمر اللعب حتى ينجح أحدهما في قتل نفسه، وهنا يعلن اللاعب الثاني أن اللاعب الأول هو الفائز. هذه لعبة «غير عادلة» لأن اللاعب الذي يبدأ له «ميزة» طفيفة، لكن السؤال هو: ما احتمال أن يقتل اللاعب الأول نفسه (يفوز) بالضبط؟ سوف نرى في الفصل القادم أنه توجد طريقة طبيعية لحل هذه المسألة باستخدام المتسلسلة الهندسية. ومع ذلك، فمن الممكن الحصول على الإجابة حالًا باستغلال تماثل المواقف. ••• لننظر الآن إلى مسألة تجمع بين الاحتمال والهندسة. المسألة ليست أصعب كثيرًا إذا كانت العملة أكبر من المربع. فمن حيث المبدأ يمكن حلُّها بنفس الطريقة، لكن الآن تبدأ أرباع الدوائر في الشكل السابق في التداخل؛ ومن ثَم فإن حساب مساحتها الكلية سوف يكون أصعب قليلًا، وإن كان لا يزال يعتمد على القواعد الأساسية للرياضيات. ويقحم علماء الرياضيات أنفسهم أحيانًا في مسائل تصبح مربكةً بعض الشيء إذا لم تنطوِ على شيء جديد. وربما تجدر الإشارة إلى أنه لا بدَّ من الإجابة عن السؤال عن مدى كبر العملة لكي نضمن أن تغطيَ أحد الأركان. وهذا سيحدث عندما تغطي أرباع الدوائر المربع بالكامل، وهذا ما نراه يحدث الآن عندما يساوي نصف قطر العملة على الأقل نصف طول قطر المربع، أو إذا أردنا التبسيط عندما يكون طول قطر العملة مساويًا على الأقل لطول قطر المربع. ••• وأخيرًا، ونحن ما زلنا نتحدث عن مسألة رقعة الشِّطْرنج، دعونا نفكر في السؤال التالي. ••• ••• وفيما يلي مسألة أخرى تتعلق بالحفلات. الإجابة نعم، والحُجة التي سأقدمها هنا لترسيخ هذه القاعدة بسيطة ولكنها دقيقة جدًّا. وتكمن الصعوبة في أن وجود ستة أشخاص في الحفل، مثلًا، يقتضي وجود الكثير من الترتيبات الممكنة لشكل المعرفة بينهم. وحُجتنا ينبغي أن تكون قادرةً على التعامل معها جميعًا. وإذا انحرفنا عن الصواب، فسننجرف في عدد رهيب من الحالات. مرة أخرى، نحن في حاجة إلى وضع إصبعنا على المفتاح الرئيسي للمسألة. نحن نحتاج حقًّا لستة أفراد على الأقل لاستخدام هذه الحُجة. لرؤية ذلك، تصور حفلًا من خمسة أفراد يجلسون حول مائدة عشاء، وافترض أن كل فرد يعرف الفردَين الجالسَين بجواره فقط ولا يعرف الفردين الآخرين. في هذا الحفل لا توجد مجموعة من ثلاثة يعرف أحدهم الآخر وأيضًا لا يوجد ثلاثة لا يعرف أحدهم الآخر، كما يمكن رؤيته برسم صورة مناسبة. ••• المواطنون الذين لم يصلوا إلى إجابة لهذا السؤال طلبوا عون عالِم الرياضيات أويلر، وقد شرح لماذا لا يمكن القيام بذلك. ورغم سهولة المسألة، فقد كانت الأولى في نظرية الشبكات؛ ومن ثم كانت تحتاج لنهجٍ جديد: فحتى ذلك الوقت لم تكن هذه المسألةُ تُعامَل على أنها مسألة رياضية. هذا النوع من المسائل أصبح مألوفًا ومعروفًا شعبيًّا كلُغز: ارسم هذا الشكل دون أن تمر على نفس الخط مرتين (أي إن الجسر لا يُعبَر مرتين) ودون أن ترفع القلم عن الصفحة (لا تقفز). سوف نحُل هذا النوع من المسائل بشكلٍ كامل في الفصل العاشر، إلى جانب مجموعة من التطبيقات المختلفة، بعضها أكثر حداثة. في المقابل، مسألتنا التالية قديمة جدًّا في الواقع وقد نسبت إلى العَالِم هيرون السكندري في عام ٧٥ ميلادية تقريبًا. ••• الفكرة الكامنة وراء هذه المسألة عادت للظهور في القرن التاسع عشر، في سياق يبدو أنه مختلف تمامًا؛ وهو إيجاد احتمالات أن المرشح الفائز في انتخابات سيظل متصدرًا طَوال فترة إحصاء الأصوات. وسوف نرى كيف نجيب عن هذا النوع من الأسئلة باستخدام مبدأ الانعكاس في الفصل الثامن. ••• لا ينبغي أن تخجل أبدًا من أن تتشكك في أي حُجة مثيرة للرِّيبة مثل هذه الحُجة؛ فرغم أنها صحيحة، فهي تنطوي على وثبة في التفكير وهو ما يجب أن نلاحظه على الأقل. نحن لم نُجب عن سؤال الأسطوانة، ولكن أجبنا عن سؤال المستطيل الناتج من قص الأسطوانة لفتحها. فهل هذا يغير المسألة؟ مؤكد أننا إذا حاولنا التعامل مع مسألة مماثلة عن الكرة بفردها لتصبح مستوية، فإن الانحرافات الناتجة ستؤدي إلى إجابة خاطئة. الشيء الجيد في الأسطوانة هو أنها ليست منحنية في الحقيقة؛ ومن ثَم فإن فرد السطح المنحني للأسطوانة لا يسبب أي تشويه. لا سيما أن طول أي مسارٍ على الأسطوانة لن يتغير بعد فردها. تخيل نفسك قطعة من الخيط مفرودة على سطح أسطوانة دون مط. عند فتح الأسطوانة فإن شكلك سيتحول من منحنًى إلى خط مستقيم لكن بنفس الطول؛ ولن يتم مطك وفي الوقت نفسه لن تكون متراخيًا. وهذا هو السبب في أن المسألتَين متكافئتان وأن حل الثانية يعني حل الأولى. ••• إذا كنت مستعدًّا لأن تعتقد أننا يمكننا أن نفعل هذا الشيء مع الأسطوانات، إذن فنحن نستطيع حل المزيد من المسائل كالمسألة التالية. تعد الطارة واحدة من الكائنات الرياضية الأساسية في الكون. وهذه الحقيقة ليست واضحةً بذاتها على الإطلاق؛ ولذا فأنا حريص على ذكرها على سبيل التحذير. الكثير من كتب الرياضيات، وعلى الأخص كتب الطوبولوجيا، يمكن أن تثير حنقك بعدم توضيحها القاطع للأشياء التي يمكن أن تنفذ على سطح الطارة أو لا؛ ومن ثم فمطالعتها قد تبدو أسوأ طريقة تقضي بها يوم عطلتك في المنزل، حتى وإن كانت السماء تمطر بغزارة مانعةً إياك من الخروج. إلا أن هذه الأسئلة مهمة بحق. ولكني لن أحاول أن أثبت هذا الآن؛ وإنما سأبدأ في شرح كيفية إيجاد حجم الدونات.
بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري. بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري.
https://www.hindawi.org/books/26063085/
الرياضيات للفضوليين
بيتر إم هيجنز
متى تلتقي عقارب الساعة؟ ما احتماليةُ أن يكون لطفلَين في فصلٍ واحد تاريخُ الميلاد نفْسُه؟ هل الأفضل أن تلعب الروليت أم أن تشتري أوراقَ اليانصيب؟ كيف يُحسَب حجم الكعكة المجوَّفة (الدونات)؟ لماذا يُخفِق الإنسانُ الآلي المدعو «داتا» في حلقات «ستار تريك» في لعبة البوكر؟ ما مُتتابعة فيبوناتشي؟ ‏يتَّضح لنا من خلال الألغاز والأسئلة الواردة في هذا الكتاب أنَّ لكلِّ شيءٍ في هذا العالَم جانبًا يتعلَّق بالرياضيات، فالكتاب موجَّهٌ لمحبي الاطِّلاع على علم الرياضيات الذين يبحثون عما يُمكِن أن يقدِّمه هذا العلم؛ حيث يقدِّم «بيتر إم هيجنز» تفسيراتٍ واضحةً للألغاز الرياضية الغامضة التي كنا نُواجِهها في طفولتنا، بالإضافة إلى أحدث الاكتشافات والعلاقات، ليبرهن على أن علم الرياضيات علمٌ ممتعٌ زاخرٌ بالمفاجآت.
https://www.hindawi.org/books/26063085/7/
المتسلسلات
تنطوي بعض من أبسط المسائل التي تقابلها في البداية في الرياضيات على اكتشاف الأنماط في متتابعة من الأعداد. وهذا، بطبيعة الحال، يؤدي إلى أسئلة عن المتسلسلات، وعن جمع متتالية من الأعداد، وسرعان ما يجد المرء نفسه في المياه العميقة، وربما دون أن يدرك ذلك. وعلى الرغم من أن هذا الكتاب لا يمثل مقررًا في هذه الأمور، فإنني يرضيني أن أصف في هذا الفصل نتائج عن المتسلسلات، لا أن أذكر كيفية الوصول إلى هذه النتائج. أمَّا في الحالات التي تخضع فيها المتسلسلات لعمليات بسيطة وقصيرة، فسوف أقدم شرحًا كاملًا. على مدى القرون القليلة السابقة، استُثمِر كمٌّ مذهل من الجهد والإبداع العبقري في المسائل التي تنطوي على جمع متسلسلة من الأعداد. بالطبع يمكننا دائمًا جمع أي مجموعة معينة من الأعداد؛ وما أُشير إليه هنا هي المسائل المتعلقة بالمتسلسلات غير المنتهية مثل: في حين أن بعض المتسلسلات لا يمكن التعامل معها إلا باستخدام آلاتٍ رياضية مُعقدة، فإن بعضها الآخر من السهل التعامل معه بقواعد الجبر البسيطة، بما في ذلك المثالان السابقان اللذان سنتحدَّث عنهما في وقتٍ لاحق. متسلسلة مثل: رأينا في الفصل الأول، السؤال السابع ما يلي: أي إن: وهي نفس النتيجة التي رأيناها هندسيًّا في السؤال السادس في الفصل الأول. ثمة سؤال شائع في اختبارات الذكاء وهو أن تكتب الأعداد الثلاثة التالية في متتابعة مثل: وفي الواقع تعتبر متتابعة المربعات: هي أيضًا من نفس نوع متتابعة الفروق، كما رأينا من قبل مرتين، أي إنها متتابعة حسابية للأعداد الفردية. لنأخذ المجموع الغريب التالي: ومع ذلك، هناك شيء يمكننا تعلُّمه إذا ادَّعينا للحظة أننا لم نلاحظ هذا. فالحد القياسي في هذا المجموع هو: يجب أن نكون فضوليين بما يكفي للسؤال عما يحدث إذا أبدلنا الفرق بين مكعبين بالفرق بين مربعين، هل سنحصل على شيءٍ جديد؟ دعونا نُلقِ نظرة على: و تُعدُّ المتسلسلات الهندسية أهم فئة من المتسلسلات. وهي تظهر باستمرار في التطبيقات ولا سيما في دراسة الفائدة المركبة (بل إنها تتغلغل في معظم مبادئ الاقتصاد الأساسية) وكذلك في مواضيع مثل النمو السكاني. إذا جمعنا المتتابعة الهندسية، حصلنا على المتسلسلة الهندسية: ثم نقوم بفك هذا باستخدام قانون التوزيع، فنحصل على: ومن ثم نجد أن الحدين الأول والأخير فقط هما من سيتبقيان بعد الحذف، فيصبح لدينا: حبة قمح! من الواضح أن الملك لم يكن يدرك سرعة تزايد المتسلسلة الهندسية. (وعلى الرغم من أن الملك بدا أحمق، فإننا على يقين من أنه كان سمحًا وأخذ الأمر بصدر رحب.) ولكننا دخلنا بالفعل إلى عالم المتسلسلات غير المنتهية. المتسلسلات غير المنتهية تكون أسهل في التعامل معها من المتسلسلات المنتهية، فمثلًا في حالة المتسلسلة الهندسية غير المنتهية: وهذه أيضًا فرصة لإعادة النظر في مسألة لعبة الروليت الروسية (السؤال الرابع في الفصل السادس). تذكر أن هناك فرصةً واحدة من ست طلقات تطلق على كل لاعب في دوره. احتمال أن تكون الطلقتان فارغتَين لكلا اللاعبين في أي جولة معينة هو: مما يؤكد الحل الذي وصلنا إليه في الفصل السابق. هذا النهج يتطلب المزيد من العمل، ولكنه يكشف عن بعض المعلومات الإضافية. لنلقِ نظرة على بعض المتسلسلات غير المنتهية غير الهندسية. كما ذكرنا من قبل، المتسلسلة التوافقية — مجموع معكوسات الأعداد الصحيحة الموجبة — تتباعد، أي إن: تتزايد متجاوزة كل الحدود (على الرغم من أن ذلك يتم ببطء شديد). حدود المتسلسلة صغيرة، ولكنها ليست في صغر حدود المتسلسلة في المثال السابق، وهذا يجعلها تسلك سلوكًا مختلفًا تمامًا. في الواقع من السهل إثبات أن المتسلسلة التوافقية تتباعد. وينطوي البرهان القياسي على تجميع الحدود ثم المقارنة: من المدهش أن توجد صيغة بسيطة تسمح لنا بحساب مجموع أي عدد من الحدود من المتسلسلة التوافقية بدرجة كبيرة من الدقة: ومن ثم نجد أن: هذا يسمح لنا بكتابة المتسلسلة في صورة: يمكننا الآن أن نثبت أن المتسلسلة الأصلية لمجموع معكوسات مربعات الأعداد تتقارب باستخدام حجة المقارنة. بمقارنة المتسلسلتين: و هذه الزخارف الرياضية الجميلة قد تبدو لحد ما غير مهمة. والحالة الأكثر بساطة تؤدي إلى سؤال كلاسيكي عن السلوك المقيد لحواصل الضرب. وهذه هي مسألة الفائدة المركبة لبرنولي. كلما قَصرَت فترة الانتظار لدفع الفائدة التالية كان ذلك أفضل للمستثمر؛ ومن ثم إذا كان حسابك يعطي فائدةً يوميةً متراكمة، فسيكون ذلك أفضل وهكذا … وفي الواقع، يمكن أن يدفع البنك فائدة كل ساعة أو حتى كل ثانية. ولماذا لا تأخذ الأمر إلى نهايته وتقدم حسابًا يعطي فائدة متواصلة. هل هذا ممكن؟ هل سيفلس البنك على الفور لأنه سيدان بمبلغ لا نهائي من المال؟ الإجابة هي لا؛ فهذا يمكن تنفيذه؛ لأن قيمة حساب العميل ستكون دائمًا محدودة مهما صغرت الفترة بين مرات دفع الفوائد.
بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري. بيتر إم هيجنز: أستاذ ورئيس قسم الرياضيات في جامعة إيسيكس. من مؤلفاته: «الرياضيات للفضوليين» و«الرياضيات للخيال» و«الكتاب الرسمي للسودوكو الدائري». وهو مخترع السودوكو الدائري.