BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringclasses
879 values
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringclasses
890 values
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/14/
التصوير والشعر الوصفى
وهى أبيات مشهورة، فيها — كما يرى، أو كما سيرى، القارئ — صورة مركبة.. ونعنى بذلك أن فى هذه الصورة التى رسمها، منظرين: أحدهما منظر الخباز يتناول قطعة العجين كرة ولا يزال بها يبسطها ويدحوها حتى تعود رقاقةً مستديرة مسطحة يصنع بها بعد ذلك ما شاءت صناعته لإنضاجها مما لا شأن لنا به الاَن. والمنظر الثانى الماءُ يُلقى فيه حجر فيُحدث وقوعُه فيه دوائرَ تتسمع شيئًا فشيئًا حتى تضعف قوةُ الدفع ويفتر الاضطرابُ الذى سبَّبه سقوطُ الحجر. وفى كلا المنظرين حركة، أو قل إن كلّا منهما مؤلف من عدة مناظر متعاقبة سريعة التوالى. إذا أراد المرء أن يثبتها بالرسم على اللوح احتاج إلى أن يصنع فيها صورًا كثيرة تمثل كلّ منها واحدًا. ولكنه بعد أن يفعل ذلك لا يكون قد صنع شيئًا على الحقيقة ولا أمكننا من النظر إلى جملتها كما فعل ابن الرومى بأبياته الثلاثة. لأن ههنا حركةً هى مجال الشعر، وليس للتصوير قبل بها أو قدرة على إثباتها. وإنما كان هذا هكذا لأن الشاعر يسعه أن يتدرج وأن ينتقل من وصف حركة إلى وصف أخرى وثالثة وإن كان لا يسعه أن يفعل ذلك بمثل السرعة التى تتوالى بها الحركاتُ. ولكن تسامح القارئ أو السامع هنا قليل، وما يطلبه الشاعر من خياله أو يعول فيه عليه ليس بالكثير، وما عليه إلا أن يغتفر البطء الذى فى طبيعة اللغة التى هى أداةُ الشاعر. وهو بطء قد اعتاده المرء فى حياته وفى كل مظهر من مظاهر اتصاله بالناس. ولكن هذا البطء الطبيعى المغتفر يحول فى التصوير جمودًا غير مقبول ولا سبيل إلى احتماله أو اغتفاره، لأن وظيفة التصوير أن يعطيك المنظرَ دفعة واحدة لا على أقساط، وأن يمكنك، بنظرة واحدة، من أخذ جملة المنظر بكل ما فيه من تفاصيل. وكما أن المصور يخفق إذا عالج تصوير الحركات المتعاقبة، كذلك يخفق الشاعر إذا هو حاول أن يرسم لك، بالألفاظ المتعاقبة، منظرًا ثابتًا خاليا من الحركة. خذ مثلا أبيات أبى تمام فى وصف روضة فى مقدمة المصيف: والأبيات فى ذاتها، وبالقياس إلى أمثالها مما فى الشعر، حسنة جميلة، ولكنها من حيث القدرة على تصوير المنظر للقارئ وإحضاره إلى ذهنه ليست إلا مظهرًا للفشلٍ التام والعجز البيّن الذى يُمنى بهما من يريد أن يتخذ من القلم ريشة كريشة المصور. وخيال القارئ هنا هو الذى يفعل كل شىء ويتناول العناصر التى سردها الشاعر ثم يرتب منها صورة على مثال ما يروقه من المناظر المألوفة. وفى وسعه أن يرسم لنفسه من هذه الأبيات ألفَ صورة لا تشابه واحدة منها أختها. وفى مقدور كل امرئ أن يتصور اَلافًا من هذه المناظر. وقد يكون ذلك حسنًا وجميلًا، وربما ذهب البعض إلى أنه مزيةٌ وإلى أن فيه فضلًا، ولكنا لم نقصد إلى هذا ولا أردنا شيئًا سوى أن اللغة عاجزة عن أن ترسم لك جملة المنظر الذى تأخذه عينك حين تقع عليه. غير أن هذا الذى لا يتيسر للشاعر أو الكاتب يتهيأ للمصور كما لا يتهيأ سواه. وهنا موضع التحرز من خطأ قد يقع فيه القارئ أو يتوهم أنا نقوله. ذلك أن المصور، حين يرسم لك مثل هذا المنظر، لا يرسم فى الحقيقة أغصان النبات وألياف أوراقه وغلائلَ الأزهار وما إلى ذلك من التفاصيل وإنما هو يُحدث من تأليف ألوانه والمزاوجة بينها ما «يوهمك» أنك ترى كل ورقة وكل عود. ونقرّب المسألة قليلًا فنقول هبه يرسم لك وجهًا تتدلى منه لحية، فإنه لا يرسم كل شعرة فى هذه اللحية، ولو حاول ذلك لرام المستحيل، ولكنه «يوهمك» بألوانه وبإثبات الضوء والظل أنه فعل ذلك وُتدخل فى روعك أنك ترى شعرات اللحية وأن فى وسعك أن تمسك كل واحدة منها وتفتلها إذا شئت. وهذا «الإيهام» أو التخييل الذى يتأتى فى التصوير لا سبيل إليه فى الشعر والكتابة على هذا الوجه وإن كان فى الشعر نوع اخر من الإيهام. فالمصور له لحظة فى الفضاء والشاعر له لحظات متعاقبات فى الزمن، ومن أجل ذاك كان على المصور أن يتخير أحفلَ اللحظات بالمعانى والدلائل وأنمَّها — إذا استطاع — على اللحظة التالية مباشرة وأدلها، إذا تيسر له هذا، على اللحظة السابقة. ولكن ليس له أن يطمع فى تصوير أكثر من لحظة واحدة أو رسم التعاقب الذى يقع فى الزمن. غير أنه يستطيع، بحسن تخيره وانتقائه للحظة الحافلة، أن يجمع بين لحظتين متعاقبتين متداخلتين فى الحقيقة. ومن هذا القبيل صورة (العمامة) فى المعرض المقام فى القاهرة. وهى للأستاذ صبرى وفيها يرى الناظر رجلًا من عامة المصريين فى سروال أبيض، وقميص مثله ينسدل إلى الركبتين، وفوقه صدرية مفتوحة الأزرار، وطربوشه على ركبته اليمنى، وكفاه على طيات العمامة. والناظر إلى هذه الصورة يرى من وضع اليد اليمنى من أين جاءت فى لفّها حول العمامة، وتكاد يحس أنها ستتحرك ماضية فى طريقها. فالمصور هنا استطاع أن يُنبئك عن الحركة التالية التى لم يرسمها، وتلك قدرة ولا شك وأستاذية لا خفاءَ بها. ولكن المصور مع هذا أخطأ فيما عدا ذلك فى رأينا. ذلك أنه لم يختر اللحظة التى تتناسب مع إشعار الناظر إلى الصورة باستمرار حركة الكفين. وهذا لأن العمامة تامة حول الطربوش، وأنت ترى من الصورة أن عملية اللف قد انتهت وأن هذه الحركة الواضحة من رسم الكفين والمرادَ بها توجيه طية العمامة، لا محل لها تقريبًا، ولو أن جانبًا من العمامة كان باقيًا لم يُلف لتناسبت هذه الدلالة على الحركة مع استمرار عملية اللف. على أنه قد يعتذر له بأن الرجل يسوّى عمامته وبحبكها بعد أن أتم لفها، وهو اعتذار مقبول ولكنا كنا نحب أن نربأ بهذه الصورة البديعة المتقنة عن الاعتذار لها مما يبدو لنا فيها من عدم تحرى أنسب اللحظات فيما نرى. ولكن الشعر يستطيع مع ذلك حين يعالج وصف المناظر ألّا يقصّر عن التصوير وأن يبذه ويفوته. ذلك أن المصور إنما يُلقى إليك المنظرَ مجردًا من خوالج النفس ومن وقعه فى الصدر. نعم إن فى اختياره معنى، وقد يحرك المنظرُ المرسوم خالجة أو عاطفة أو إحساسًا فى قلبك، غير أن المصور لا يسعه أن يضمِّن المنظر إحساسه هو أو يُنهى إليك كيف كان وقعه فى نفسه كما يستطيع أن يفعل الشاعرُ لأن الشعر بطبيعته مجاله العاطفة. خذ مثلاً أبيات البحترى فى الربيع: فلم يحاول أن يرسم لك صورة وإنما أفضى إليك بما أثاره الربيعُ من المعانى فى نفسه وبما حرَّكه من طلب الانشراح فى عيد الطبيعة. ولو أنك جئت بأبدع صورة مرسومة ووضعتها إلى جانب هذا الكلام أو غيره مما يجرى مجراه لما أغنت شيئًا. فإن لكل من الفنين دائرة إذا عداها ضعف وسمج ولحقه الوهنُ وقصّر عن الغاية. ••• وأجمل ما فى الطبيعة وأرقى ما فيها الإنسان، وما أحسبنا نكترث لشىء فيها إلا من أجله. وأقوى ما فى الإنسان عواطفه التى مردُّها إلى غريزة حفظ النوع، وكما يعجز الشعر عن رسم جمال الطبيعة بما يعالجه من الوصف، كذلك يعجز الشاعر عن إثبات صورة من يحب من الناس مهما أوتى من القدرة والحذق. بخلاف التصوير فإن بضعة خطوط مجتمعة، وألوان مؤتلفة، تحضر إليك الصورة دفعة واحدة.. ولكن الجمال ليس مظهرًا فحسب، وليس كل ما فيه ألوانًا مؤتلفة وأصباغا متناسقة حتى ينفض الشاعر يده من تصويره يائسًا ويدع كل أمره للمصور.. وإذا كان من السخف أن يجور شاعر، كبشار بن برد مثلًا على مجال المصور ويقول: ويحاول بهذا الجمع السخيف بين هيف الغصن وضخامة الكثيب وبياض القمر أن يحدث صورة معقولة لها معنى أو من ورائها محصول أو لها دلالة سوى العجز المستبين والتقليد السمج، إذ كان القمر مثلًا ليس جميلًا لأنه أبيض أو مستدير بل لأن لياليه شائقة ولذكراها نوطة فى القلب وعلوق بضمير الفؤاد ولأن حسنها محرك للأشجان متير للرغبات وكذلك الغصن ما أسخف أن يكون قدّ إنسان كقده وإنما يكون جميلًا بما حوله من حاشية المعانى — نقول إذا كان ما يعالجه الشاعر من هذا القبيل ليس فيه خير ولا وراءه فائدة، فإنه يستطيع أن يأتى بخير كثير إذا نظر إلى الجمال باعتباره حركة. أى إذا مثّل لك رشاقته وسحرَه ووقعَ محاسنه العديدة كما فعل بشار إذ يقول: أوإذا صور لك ما تثيره الملاحةُ فى نفس رائيها من الرغبة والطلب كما يظهر من قول النواسى: والبيت الثانى هو المقصود. فهذا مجال إذا زج المصورُ بنفسه فيه استهدف لكل عيب وجعل نفسه أضحوكة. وتصور البيت الثانى مرسومًا! امرأة بارعة الجمال وحولها نفرٌ من الرجال تكاد عيونهم تخرج من وجوههم! غاية السخف ولا شك. لأن وظيفة المصور ليست أن يؤدى إليك التأثيرَ بل أن يدع الصورة تؤثر بذاتها وبما تنطق به دون أن يعالج أداءَ الأثر الذى تحدثه. لا. ليس بالشاعر حاجة إلى أن يسرد لنا أوصاف الجميل وأن يذكر لنا مثلًا ما لونُ عينيه وكيف حمرة خده ونضوج صدره واعتدال قوامه، بل يكفينا أن يقول مثل ابن الرومى: لنعلم أننا هنا نقرأ عن جمال نتخيله وفق هوانا ولا نحتاج إلى صورة قد تكون أقل مما تصورناه فتخيب أملنا. وحسبك أن نقرأ له هذا السؤال: لتغرى بأن تصور لنفسك المثل الأعلى للجمال ولتعد كل صورة مرئية دون ما تتخيل، أو قوله فى مغنية: ••• ومن العبث ولا شك أن يعالج المصور رسم وقع المنظور كما أسلفنا، أو أن يحاول أن يلف لنا الصورة فى مثل الضباب وأن يقول لنا إن هذا هو ما تعلقت به عينى من معنى ما أرى. وقد نشأ مذهب الأمبرشنزم من الخطأ فى فهم وظيفة التصوير. إن وظيفة التصوير هى أن ينقل المرئى نقلا تتوافر فيه معانى الجمال مع مراعاة قوانين الرسم والأصول التى ترجع إلى السنن المقررة. أما التأثير والوقع فشىء خارج عن دائرة المصور. نعم إن للأمبرشنزم أصلًا صحيحًا فى ذاته. ذلك أنك قد تنظر إلى الشىء وتتأمل تفاصيله، واحدًا واحدًا، وتُدير فيه عينك على مهل لتأخذه فى جملته وفى تفصيله، أو قد تنظر إلى الشىء نظرة عامة لا تتوخى فيها تأمل التفاصيل. أو قد تنظر إلى جزء معين منه تعلق به عينك وتترك ما حوله يبدو لك فى غير وضوح لأنك لا تقصده بنظرك ولا تعتمد بلحظك إلا الجزءَ الذى أَتْأَرت إليه بصرك. والمصورون على طريقة الأمبرشنزم يتوخون الحالتين الأخيرتين لا الأولى، ولكنهم يضحون فى هذا السبيل بالرسم ذاته مقابل الحصول على المنظر جملة أو على جانب منه على الخصوص مع ترك باقيه ملفوفًا فى ضباب عدم الالتفات إليه مع العناية إلى جانب ذلك بالألوان الزاهية، ولو أنهم دققوا فى الرسم وعُنوا به أيضًا لجاز عملهم، ولكن الألوان تذهب على الزمن فلا يبقى على اللوح شىء لأنه لا رسم هناك أى لأن الأصل غير موجود. فهو مذهب يقوم على خطأين: الخروج عن دائرة التصوير أو تجاوز حده، وإهمال الرسم الذى هو قوامه. ومن الغريب أن ينشأ هذا المذهب فى مصر وأن يتعلق به بعض مصورينا. وأحسبهم يؤثرونه لأنه لا يكلفهم مر اعاة ا لأصول التى لايحسنونها على ما يظهر! نعود فى هذا الفصل إلى مثل ما بدأناه من الكلام على الشعر والتصوير وإظهار فرق ما بينهما فى طريقة التعبير عن المعانى التى يكون لهما أن يتناولاها، معتمدين فى ذلك على ما قرأناه فى هذا الباب وعلى ما يمكن استخلاصه من درس براعات القدماء، وهو موضوع يدق فيه الكلام، ولا يؤمن معه الغموض والاستبهام، ولا يتيسر استقصاء بحثه من جميع جهاته فى بضعة أنهر أو أعمدة. فعلى القارئ أن يُتم النقص ويسد الفراغ، فما نطمع أن نقدم له أكثر من بذرة إذا هو تعهدها ربت واهتزت واتته ثمرًا كثيرًا وخيرًا وفيرًا. الشعر والتصوير لبوسهما الجمال. والدمامة فى الدنيا كثيرٌ بل أكثر من أن تحتاج إلى وصف أو تصوير، والناس أحس بها، وأشد نفورًا منها، وأعظم اتقاء لما تثيره من الإحساسات المنغصة من أن يرتاحوا إلى تمثيلها أو يطلبوا أن يروها مصورة. فهل للشعر والتصوير أن يتناولاها؟ سؤال لا نجرؤ أن نجيب عنه بالنفى الشامل، ولكنا مع ذلك نقول إن الدمامة، من حيث هى، لا ينبغى أن تكون مما يعتمد الشاعر أو المصور تمثيله لذاته فقط. ولا شك فى أن التصوير باعتباره فنّا تقليديّا، له أن يفعل ذلك وأن ينقل القبح ويصوره على اللوح ولكنه باعتباره فَنّا جميلًا ليس له أن يتخذ الدمامةَ فى ذاتها غرضًا، وإنما هو يتخذ منها أداة إلى استثارة إحساسات أخرى غير التى تبعثها الدمامة نفسها. وإنما كان هذا هكذا لأن المصور يستطيع أن يجمع على اللوح كلَّ مكونات الدمامة فتأخذها العينُ دفعة واحدة. وقد يكون صدق التصوير ودقةُ الحكاية مصدرَ سرور للناظر ولكنه سرور أو ارتياح مبعثه قدرةُ الفن ذاته لا الصورة، فهو عرضى لا يتصل بأصل الموضوع بل يأتى من طريق العمل، ولهذا لا يكون إلا وقتيّا لا يلبث أن يزول. ولما كانت قدرة الفن مفروضة سلفًا وصدقُ النقل والأداء مقدرًا من قبل، فإن الناظر لا يطول تأمله لهذه القدرة التى كانت محسوبة وكان من أمرها على ثقة، ولا يلبث أن يتحرك فى نفسه النفورُ الناشئ عن منظر القبح الدائم الذى هو أصل الصورة وقوامها لا عرض جاء من غير طريقها. والأمر ليس كذلك فى الشعر إذ كان لا يسعه أن يقدم للقارئ جملةَ الدمامة مجتمعة، بل هو يسردها عليك متفرقةً ويؤديها إليك على أقساط ويسوقها مقطعة الأوصال، فيضعف فى أثناء أدائه لها ذلك الإحساسُ بالنفور الذى تستشعره حين تقع عينك على جملة ذلك مجتمعة على اللوح. فالتنغيص المستفاد من الصورة يضعف ويفتر فى الشعر حتى لا يكاد يحس. وإذا كان الشاعر يفسد عليك الأمرَ إذا هو عالج وصفَ الجمال فإنه يهوّن عليك التغثية حين يسرد أوصاف الدمامة. بخلاف المصور فإنه يُغثى النفس ويكرب الصدر بتصوير الدمامة ويسر بتمثيل الجمال. وعلى أن الدمامة ليست مطلوبة لذاتها ولا هى ينبغى أن تكون من أغراض الشاعر أو المصور وإنما هما يبغيانها — إذا احتاجا إليها — وسيلة إلى غيرها وأداة يستعينان بها على تحريك إحساسات متزاوجة أو مركبة غير التى ينبهها منظرُ الدمامة. وقد تعلم أنه قل من بين الإحساسات البغيضة — كما يقول نيقولاى — ما لا يكون مختلطًا بغيره أو نقيضه، فالخوف مثلًا قلما يخلو من خيط من الأمل كما يقول ابن الرومى: والغضبُ تزامله الرغبةُ فى الأخذ بالثأر. ومن الأمثلة الواضحة لذلك فى الشعر ثورةُ ابن الرومى على ابن المدبّر لما أحقده بتخييب أمله، فقال فيه قصيدته التى مطلعها (يا بن المدبر غرنى الرواد) وفيها يقول: والحزن أبدًا مرتبط بذكرى ما سلف من الأيام الحسان والساعات المحبوبة. وأظهر ما تجد ذلك فى شعر ابن الرومى أيضًا. تأمل قوله فى رثاء ابنه محمد — وكان طفلًا — وكأنه هنا يحب أن يتعزى بابنيه الباقيين وإن كان ينفى ذلك، ولكن حسبك أن تسأل نفسك لماذا يذكر هما؟ والبيت الأخير هو الشاهد. وأظهر من ذلك وأدل على ارتباط الحزن والأسى بذكريات السعادة قصيدته فى رثاء بستان المغنية، وهى طويلة جدّا نختار منها لما نريده من التمثيل هذه الأبيات: فالقلب كما ترى يتعلق مرة بالسار وأخرى بالسىء من عناصر العاطفة، ويتنقل من هذه إلى تلك تنقلًا هو أشجى وأكثر إمتاعًا من عاطفة السرور الخالصة، ومن هنا يقول نيقولاى إن المَغيظَ المحنق يكون أشد تعلقًا بغضبه، والحزين بحزنه، وأعظم زهدًا فى كل ما نحاول أن نسكنه به ونسرِّى به عنه. ولكنّ الاشمئزاز المنبعثَ عن الدمامة شىءٌ اخر، والنفس لا تحس من ناحيتها ما يمزج بهذا الاشمئزاز شيئا من السرور، ولهذا نرى الشعراء والمصورين الذين يدركون غايات فنيهما لا يطلبون الدمامة لذاتها وإنما يتخذونها سلمًا إلى تحريك الإحساسات المتزاوجة، مثال ذلك أن يضيفوا إليها تكلف الرشاقة أو تصنع الوقار أو مبالغة الدميم فى رأيه فى نفسه أو غير ذلك مما يُخرج لنا صورة مضحكة. وهنا موضع التحرز من خطأ. ذلك أن الدمامة ليست إلا نقصًا أو عدم استواء قد يكون باعثًا على العطف، ولكن الروح قد تعوض ذلك وتسد النقص كما يسده العلم أو الفضل أو غيرهما، ولكن إثارة الإحساس بالضحك لا تكون فى الغالب إلا من طريق الدمامة التى هى نقص إذا اتُّخذ دعوى كمالٍ فتح الباب للسخرية. وقد فطن ابن الرومى إلى ضرورة الدمامة فى حيثما أراد أن يُحيل المهجوَّ مضحكًا وموضعَ استهزاء. وقد هجا كثيرين ولكنه إذا أراد أن يركب المهجوَّ بالسخرية والفكاهة ألزمه صفة الدمامة. وقد تفرد هو والمتنبى من بين شعراء العرب بدقة التفطن إلى هذا. تأمل قوله فى أبى بكر الرقى: فانظر كيف وصفه بالقبح وشبهه بالقصاص الأعمى المستجدى ونعته بتكلف العلم والشعر والعزوف عن الطعام وتصنع التأبى والزهد ثم الإقبال عليه من تلقاء نفسه إذا تركه الداعون وكيف جعله يمط جبينه ويمد صوته ويفخّم لفظه ليخرج منه صورة مضحكة. وانظر قوله فى اخر: أى أن كثرة الصفع — القفد — صغرته حتى صار قائمًا كقاعد، أو قوله فى مغن: أو قوله فى وصف اَخر: «ولكنى أنا — أنا الذى لا يصلح شكلى للعب ولا لأن أجتلى مراَى فى صقال مراَة.. أنا الذى خدعتنى الطبيعةُ عن نصيبى من حسن الطلعة.. أنا المشوه المخدج الناقص الخلق الذى أرسل قبل الأوان فى هذه الدنيا المتنفسة — أنا الذى تنبحنى الكلاب إذا وقفتُ حيالها.. لا أفيد لذة من قضاء الوقت اللهم إلا فى النظر إلى ظلى تحت الشمس والتعليق على تشوه خلقتى — ولما كنت لا أستطيع أن أكون عاشقًا — فقد اعتزمت أن أكون نذلًا». فهذه دمامة مرثية ومسموعة، ونقص فى الوجه وطغوى فى النفس. والشعر أقدر على تصوير ذلك لأنه يسعه أن يفرّق المجتمعَ وأن يتناوله شيئًا بعد شىء، وأن يضم إلى ما يتناول من مظاهره وجوهًا أخرى من المعانى والحركات لا تتأتى فى التصوير، بيد أن التصوير مع هذا يستطيع، بخروجه بعض الشىء عن غايته، أن يعطينا لمحة من بعض هذه المعانى، ومن هنا نشأ التصوير الهزلى حتى صار فنّا قائمًا بذاته مستقلّا فى الحقيقة عن التصوير.. ذلك أن القواعد والأصول المتعلقة بالرسم والنسب الطبيعية والتلوين لا تُراعى فيه وإنما يكون هم المصور أن يُبرز إلى جانب الرسم الذى يريد أن يدلنا به على المرسوم صفةً تُحيل المنظر مضحكًا. ولكن هذا ليس إلا شعبةَ لهو من فن التصوير وليس له إلا قيمة زائلة وهو عرض من أعراض المًدنية فيه متعة ولذة، ولكنه فيما عدا ذلك لا يخلد ولا يبقى ولا يفهمه ويلتذه الناظرُ إلا إذا كان عارفًا بالأصل الذى يُراد التهكمُ عليه، ملمّا بالعادة التى تعلق بها الرسامُ وأثار بسببها الإحساس بالمضحك فى نفوس الناظرين. إذن فهل فن التصوير عاجز عن مجاراة الشعر فى إحالة الدمامة مضحكة أو فظيعة؟ وجوابنا على ذلك: إنه عاجز إلى حد كبير. نعم يستطيع أن يضم مظهرَ العجز إلى الدمامة على نحوٍ ما فيحدث الإحساس بالمضحك، أو أن يضيف إليها الطغوة فيروع. ولكنه لا يستطيع أن يأتى بما يقارب ما يستطيعه الشعر لأن الدمامة تفقد كثيرًا فى أثناء وصف الشعر لها حتى تكاد تتجرد منها ولاشيما إذا زاوج الشاعر بينها وبين معان أخرى من مثل ما أسلفنا القول عليه والتمثيل له. أما فى التصوير، فالدمامة مجتمعة بكل قوتها، ولما كانت هى الأصل وكانت المعانى المضافةُ إليها ليست من الكثرة والتنوع بحيث تستغرق الخاطرَ فإن الفكر لا يلبث أن يرتد إلى هذا الأصل وأن ينسى المضحك أو غيره ويطويه فى ثنايا الدميم.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/15/
أبو الطيب المتنبى
لى عامان وبعضُ عام لم أر ديوان المتنبى. وكنت قبل ذلك لا أدمن قراءته، ولا أكثر من مراجعته، وإذا تناولته لا أعكف عليه عكوفى على غيره من شعراء العرب من مثل ابن الرومى والمعرّى والشريف، وقد أبدأ القصيدة فلا أتم قراءتها. وربما استوقفنى بيت فى أول مقطع منها فأضع الديوان وأذهب آخذ فيما فتحه لى البيتُ من أبواب التفكير. ولا أزال ماضيًا على سننى حتى أنسى الشاعر وما قرأت له. ولا أذكر أنى قرأت له فى حياتى قصيدتين فى يوم واحد. ولكنى على شغفى بغيره، وقلة إقبالى ومواظبتى عليه، وطول الفترات التى قد تمضى قبل أن أعود إليه — أقول على الرغم من كل ذلك أرانى أحفظ من شعره أكثرَ ممّا أحفظ لسواه، وإن لم أكن بالقوى الذاكرة، ولا بالذى يحفظ لشاعر، كائنًا من كان، شيئًا يُذكر مهما بلغ من حبى له وكثرة مطالعتى لكلامه. وقد أنسى له البيتَ كنت أظننى ذاكرَه ولكنى لا أنسى معناه. وقد تعابثنى الذاكرة فلا أجد حتى المعنى حاضرًا، ولكنى على هذا أحسه، وإن كان يعيينى تحديده وإيضاحه، وأشعر كأن أثره شائع فى صدرى، مستفيضٌ فى جوانب نفسى، مالئ لشعاب قلبى. فأقنع بهذا الإحساس الغامض وأستغنى به عن المعنى الذى أحدثه، وأستشعر الرضا والغبطة كأنى حللتُ مشكلًا أو جلوت معمّى. ولقد فقدت نسخة ديوانه — أو بعتُها — فلم أشعر بإلحاح الحاجة إليه. وكنت كلما نازعتنى نفسى أن أشتريه أقول: ما ضرورة ذٍلك؟ أليس خيرًا أن يحيا المتنبى فى نفسى من أن يعيش على رف فى المكتبة؟ أترى الغاية من الأدب هى اقتناء الكتب؟ لا. وليست هى أن يكون المرءُ كثيرَ الحفظ أو مدمن القراءة لما لا ينتفع به. وحسب المرء من الكتب أثرها فى نفسه وفعلها فى تهذيبها ورفع مستواها وصقلها. ولخيرٌ له أن يقرأ، وينسى لفظ ما قرأ بل معناه أيضًا، ما دامت الفائدةُ قد حصلت. والنفس إذا كانت خصبة مستعدة تنمى البذرة التى غرست فيها، وليس يمنع النماءَ أن البذرة تحت التراب مدفونة. ولكن لماذا يبقى عندى من كلام المتنبى ما لا يبقى من كلام سواه؟ الذاكرةُ واحدة وليس هو بأحب إلىّ وأعز علىّ من الشعراء الفحول غيره؟ أيكون تعليل ذلك أن حُفّاظ شعره كثيرون وأن أبياته متداولة ملوكة تُساق فى كل معرض من معارض الاستشهاد والاقتباس، وأن كثرة سماعى لشعره من أفواه الناس ورؤيتى إياه موردًا فى غضون الكتابات — كل ذلك كان من اثاره أن علقت أبيات كثيرة له بذاكرتى؟ هذا التعليل لا يزحزح المسألة عن موضعها قيد أنملة. ويبقى بعد ذلك أن نسأل: لماذا نرى الناس أحفظَ لشعره وأكثر رواية وتمثلًا به منهم لشعر غيره؟ وكل ما هنالك من الفرق أن دائرة السؤال اتسعت فصارت عامة تشمل الناس جميعًا بعد أن كانت خاصة قاصرة على كاتب هذه السطور؟ وعندنا أن علة هذه السيرورة التى رُزقها شعرُ المتنبى هى أن فى شعره «قوةً» تخطئها فيمن عداه من مشاهير شعراء العرب. وإذ كنا لا نحب أن يكون كلامنا مبهمًا فالأولى والأمثل أن نخرج من هذا التعميم إلى التخصيص، وأن نبين مظاهر هذه «القوة» فى المتنبى وقد لا نحصيها أو نستطيع الإتيان على أكثرها، ولكن هذا لا قيمة له ولا خطر، وليست غايتنا الاستقصاءَ فإن المقام أضيق من أن يتسع له، والوقت أقل من أن يعين عليه. على أنه لا حاجة بنا إلى التقصى وحسبنا أن ندل المحتاج من القراء إلى الطريق وليسر هو بعد ذلك على الدرب. لم يكن المتنبى من المكثرين بل من المقلين، وهو على على إقلاله لا يُطيل قصائده. وقد حسب له الواحدى ما اشتمل عليه ديوانه فبلغت عدة أبياته خمسة الاف وأربعمائة وتسعين، وهذا كل ما قاله فى أكثر من خمس وثلاثين سنة. وقد قال ابنُ الرومى مثلًا فى ثلاثين من قصائده الطوال أكثر من هذا. وهذا على الرغم من طول اتصاله بسيف الدولة وكافور خاصة وبغيرهما من مثل ابن العميد وعضد الدولة. وهذه رواية صاحب «الصبح المنبى»، قال إن أبا فراس الشاعر قال يومًا لسيف الدولة وكان قريبه: «إن هذا المتسمّى كثير الإدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة الاف دينار على ثلاث قصائد» وهى رواية قريبة من الصحة وإن لم تكن فى الصميم من حبة الصواب؟ لأن المتنبى إنما كان يقول الشعر فى سيف الدولة إذا عرضت مناسبة لذلك كغزوة أو نحوها ولم يكن فارضًا على نفسه أن يقول ثلاثَ قصائد فى كل عام، ولكن العبارة صحيحة فى دلالتها على أن المتنبى كان يُقل من الشعر ولا يكثر، وأنه كان أشبه بصديق لممدوحه منه بشاعرٍ وظيفته الثناءُ عليه. وكان المتنبى فضلًا عن ذلك يستنكف أن ينشد وهو قائم، وقد بدأ حياته بالتطلع إلى ولاية أمرٍ من أمور الدنيا ولم يزل يطمع فى ذلك إلى أن وافاه الحينُ. وفى هذا وحده، فضلًا عن حوادث حياته، دلالة كافية على روحه وأنه من أصحاب الشخصيات القوية التى خُلقت للكفاح والنضال لا للاستخذاء والتمسح بالأقدام.. وهذه الشخصية البارزة ظاهرةٌ فى شعره وحسبك شاهدًا عليها أنه لما شعر بتغير سيف الدولة دخل عليه وأنشده قصيدةً يعاتبه بها، وفيها يقول: وهو أشبه بالمحاسبة منه بالمعاتبة. وأدل من ذلك قصيدته التى مطلعها: وفيها يقول: (يعنى أبا فراس وحزبه). إلى أن يقول: وليس هذا بكلام مداح مأجور وما كان ليصدر عنه لولا شعوره بنفسه وبحقه، وأنه فوق أن يُعَدَّ أحد الأذيال. وقد أنس إليه سيف الدولة على أثر هذه القصيدة وعاد فأدناه، وقال بعض الرواة وقبَّل رأسه وأجازه. ومن الإطالة فى غير محل لذلك أن نفيض فى بيان شعور المتنبى بنفسه، ومعرفته لقدره، وطموحه وبروز شخصيته، وكفى دليلًا على ذلك قوله فى أمه: وهو فى شعره يأخذ بيدك إلى ما يريد مباشرة، ولا يطيل اللف والدورانَ معك إلى غايته. وهذا من أسباب القوة. وليس ممن يهذرون ولا يقدرون قيمةَ الاقتصاد أو يحشون كلامهم بما يراد به التظاهرُ والمفاخرةُ بسعة المجال وطول الباع. بل هو يدفع إليك المعنى الذى فكر فيه وأنضجه، تامّا محبوكًا لا يحتاج إلى زيادة ولا يتأتى نقصُ حرف مما عبر به عنه، كقوله: ثم يتركك وشأنك وما يبدو لك فى هذا الذى ألقاه إليك. إذا شئت خالفته أو وافقته، أما هو فينام كما يقول ملء عينيه ولا يبالى كيف وقع كلامُه من نفسك بعد أن ألقاه بلهجة الجزم القاطعة التى لا تردد فيها. ولو كان غيره مكانه لمهد لهذا المعنى وراح يسوق الحجج والأمثلة والشواهد على صحته وسداده حتى يملك، ولأغرق هذه الخلاصة فى بحر من الكلام حتى تعود وليس لها أثر محسوس. وأين من يدعى مثلًا أن المتنبى هو الوحيد الذى له معان مستجادةٌ وأبيات متخيرة وأمثال حكيمة؟ أليست دواوين الشعراء حافلة بنظائر ما فى شعر المتنبى؟ ولكنها ليست سائرة على الألسن لأن أصحابها لم يُرزقوا رجولة المتنبى التى تخرج البيت مخرج المثل، ولم يمنحوا مثله إحكام التسديد إلى الغاية، والاقتصاد إلى الحد الواجب، وحسن تخير الألفاظ التى يؤدى بها المعنى، والحلاوة فى سبكها وتعليق بعضها ببعض. وهى صفات قلما يخلو منها شاعرٌ كبير، ولكنها لا تؤدى إلى مثل ما تحسه من القوة فى شعر المتنبى إلا إذا اجتمعت.. ولو أنه كان كابن الرومى مولعًا بشرح المعنى وتصفيته والتوليد منه، أو كالشريف كَلِفًا بفخامة اللفظ ورنة الأسلوب وجزالة التعبير، أو كمهيار فى حشوه وفتور روحه، أو كالمعرى فى التردد وكثرة المو ازنة والتحليل — نقول لو أنه كان كهؤلاء لما أجدتْ عليه مزاياه الأخرى. نعم كان يكون له محلّ رفيع بينهم ولكن شعره لم يكن ليسير هذا المسير، ولا كانت الأمثال والحكم تكثر فيه هذه الكثرة. وقد لا توافقه على ما يذهب إليه من الرأى ولكنه لا يسعك إلا أن تحترم منه ما تحسه فى شعره من عمق الاقتناع، ومن قوة الجزم البات، وإلا أن تتأثر بطريقته المباشرة فى العبارة عن فكرته، وأن تشعر بقيمة اقتصاده وما ينم عليه ذلك من يقينه أن الأمر لا يحتاج إلى إطناب وإسهاب، وأنه بديهى يُلمس السدادُ فيه ويحس وإلا أن تفتنك موسيقية الأسلوب وحلاوته وإن كانت أشبه بموسيقى الحرب! ولكن المتنبى كثيرًا ما يُزهى بقوته هذه فيسىء استعمالها ويأتى بالثقيل الذى تستك منه المسامع، وبالضعيف المهلهل. ولهذا كثرت السفاسف وحفل بها شعره وإن كان كثير من ذلك مما قاله فى صباه أو مما تعمده ولا عجب! فإن عثرة الوثَّاب شديدة. يقول ابنُ رشيق فى كتاب العمدة: «ثم جاء المتنبى فملأ الدنيا وشغل الناس».. ووُفق بهذه العبارة الوجيزة إلى ما عجز عنه سواه من النقاد والشراح والخصوم والأنصار. والواقع أننا لا نعرف شاعرًا اَخر كان له من الشأن ما كان للمتنبى، أو أحدث فى عالم الأدب مثل ضجته، وأثار من العداوات المرة بعض ما أثار، حتى ولا ابن الرومى الذى بسط لسانه فى كل عرض حتى خافه القاسم وأشفق أن يستطيل عليه بمثل ما وصم به غيره فدعاه إلى الطعام ودس له السم فيه. وحسبك دليلًا على عمق ما تركه المتنبى من الأثر فى بعض النفوس قولُ الجرجانى عن فريق خصومه إنه (أى هذا الفريق) «يسابقك إلى مدح أبى تمام والبحترى ويسموِّغ لك تقريظَ ابن المعتز وابن الرومى حتى إذا ذكرتَ أبا الطيب ببعض فضائله وأسميته فى عداد من يقصر عن رتبته امتعض امتعاض الموتور ونفر نفارَ المضيم فغض طرفه وثنى عطفه وصعَّر خده وأخذته العزة بالإثم». ولا يُعقل أن تكون علةُ ذلك أن شعر المتنبى يهيج هذا النفارَ ويغرى بذلك الامتعاض ويشعر القارئ كأنه بطبيعته وتر أو ضيم. فإنا نقرؤه فى عصرنا هذا فنوافقه أو نخالفه ونستجيد قوله أو نسترذله ونعجب به أو لا نُعجب، ولكنا لا نحس شيئًا من هذا الذى يصفه الجرجانى فى كتاب الوساطة. ولا شك فى أن الناس كانوا مثلنا على عهده ولكنهم كانو ا فريقين: فريقًا يراه ويعرفه ويبلو منه بعض صفاته، وفريقًا لا يتأدى إليه سوى شعره ولا يحكم عليه إلا به وبأخباره مثلنا. وقد روى عن أحد النحاة، واسمه أبو على الفارسى، أن بيته كان فى طريق المتنبى إلى عضد الدولة. وكان أبو على هذا يستثقله ولا يرتاح إلى ما يأخذ به نفسه من الكبرياء. وكان ابن جنى كثير الإعجاب بالمتنبى يكره من يذمه ويحط منه ويسوءه إطناب أبى على فى ذمه.. واتفق أن أبا على هذا قال يومًا: «اذكروا لنا بيتًا من الشعر نبحث فيه». فبدأ ابن جنى فأنشد: فاستحسنه أبو على واستعاده، وقال: لمن هذا البيت فإنه غريب المعنى؟ فقال ابن جنى للذى يقول: فقال: والله هذا أحسن فلمن هذا؟ فقال: للذى يقول: فقال: وهذا أحسن والله! لقد أطلت با أبا الفتح فأخبرنا من القائل؟ قال: هو الذى لا يزال الشيخ يستثقله ويستقبح فعله وزيه! وما علينا من القشور إذا استقام اللب؟ قال: أظنك تعنى المتنبى؟ قال: نعم، قال: والله لقد حببته إلىّ إلخ إلخ. نقول: ونحن لا نطمئن كثيرًا إلى أمثال هذه الروايات ولا نمنحها ثقتنا التامة، ونشتم من أكثرها رائحة التأليف والاختراع، ولكن هذه الرواية فى ذاتها معقولة وإن كان يلاحظ أن ابن جنى لم يتخير أجودَ ما للمتنبى وما يصح أن يبهر من شعره، ولكنا نحسب ابن جنى تعمد ألّا ينشد من كلام أبى الطيب ما عليه طابعه الخاص، مخافة أن يفطن أبو على فيزهد فى الاستزادة ويفوت على ابن جنى غرضه ويقطع عليه متوجهه، فاثر صاحبنا أن ينشده من الأبيات ما قدر أن يكون أوقع فى نفس لغوى نحوى مثل أبى على الفارسى: على أننا إنما سقنا هذه القصة شاهدًا على أن «شخصية» المتنبى هى التى أقامت قيامةَ الناس فى زمنه وجعلتهم لا يعدون فريقيين: أنصارًا متعصبين، وخصومًا متعنتين. وذلك ما تفعله كل شخصية قوية كالعاصفة لا يبقى أحد إلا عُنى بها واكترث لها. وما حاجتنا إلى القصص والأخبار نسوقها ونستشهد بها على ضخامة شخصية المتنبى؟ إن شعره أصدقُ راوٍ وأوثق شاهد. وإذا كنا فى حاجة إلى شاهد من غيره فكفى ما قاله رجل ساذج بفطرته فى رثاء المتنبى لما بلغه قتله، وهو رجل يدعونه أبا القاسم المظفر بن على الطبسى لا نحسب أديبًا قرأ له أكثر من هذه الأبيات: والبيت الثالث هو الشاهد. وقد فطن فيه صاحبنا أبو القاسم إلى الحقيقة.. وانظر بعد ذلك إلى قول المتنبى نفسه من قصيدة له يهنئ فيها كافورًا ببناء دار: وإنه لكذلك، وما به من عيب إلا ما تكشف عنه الشهرة. والشهرة إذا استفاضت، صار صاحبها هدفا لعيون الخلق وألسنتهم، تلك تفلى وتنقب، وهذه تروى وتسرد، حتى تعود كل كلمة لصاحب الشهرة محفوظة، وكل حركة ملحوظة، وكل عمل محسوبًا، وكل رأى مكتوبًا، وحتى تشغل التوافهُ من أعماله، والفلتاتُ من حركاته أو أقواله، أكثر من محلها الصحيح. فيشتهر بالبخل وقد لا يكون كزّا بخيلًا، ويوصم بالجبن ولعله أجرأ ذى قلب، وهذا هو الذى مُنى به المتنبى. ولقد ذكرنا فى مقالنا السالف أنه لم يكن يعد نفسه شاعرًا يُثنى على سيف الدولة ويدوِّن وقائعه وحسناته ويمشى فى ظله، بل صديقًا وكفئًا، وأوردنا من شعره بعض ما ينم على ذلك. ولم يكن حيال كافور إلا كذلك. تأمل قوله وهو يهنئه: ولو سوى المتنبى لشعر بالضعف أمام القوة المادية التى يملكها الملوك الذين غضب عليهم وجفاهم وهجاهم. ولكنه كان يشعر بقوة لدُنّيَّة تكافئ فى نظره قوة الجيوش وبأسها، بل كان يحس أن فى وسعه أن يعتو ويسطو كذلك على العاتين والساطين. فمن ذلك قوله لما خرج من مصر: ولو شاور الحزمَ الدنيوى لما أصدر هذا الإعلان، ولا أشهر هذا الإنذار، ولخطر له أن يتقرب إلى من نابذهم قبل مضيه إلى مصر كسيف الدولة على الأقل. ولكن المتنبى ليس من هذا الطراز لأنه لا يعرف ضعف النفس ولو خلت يده من كل وسائل البطش وكثر عُداته وقل إخوانه. فنفسه أبدًا شابَّة قوية على الأيام كما يقول: لا يكربه أن يفارق وطنه إذا نبا به مقامه فيه، ولا تحز فى عظامه الفاقةُ ولا يلين عزمه بُعْدُ الشقة وكثرة الأعداء وقلة الأسباب إذا وجد ما يركب فيها، وإلا فالسير فى المهامه والقفار على الأقدام أشرف وأفخر وأمثل به: وماذا يهمه؟ إن مطلبه ضخم ومراده عظيمٌ، وعلى قدر علو المطلب تكون صعوبة المرتقى، وهو لعظم ما يحس من ذات نفسه يدرك أنه وحيد فى هذه الدنيا، فوطنه وغيره سواء: وهو لعظم رجولته يستنكف من صفات النساء ويتبرأمما يُجَمِّلهن حتى من غير أن تدعو مناسبةٌ إلى هذا التبرؤ، ويقول «وما بى حسن المَشَى» أى إنه ليس جميل المشية، والواقع أنه كان مشَّاءً قويّا صبورًا على المشى سريعًا فيه، حتى زعموا أنه كان يوهم أغرارَ البدو أن الأرض تُطوى له.. وبلغ من ذلك أنه لما رثى خولة أخت سيف الدولة نعتها بصفات الرجال وأخرجها من جنسها، ولم يرض إلا أن يجعلها «غير أنثى العقل»! وإن كانت قد خلقت أنثى، وإلا أن يفضلها على عشيرتها التى نمتها، وذلك حيت يقول: ومثل ذلك رثاؤه لعمة عضد الدولة حين أشار إليها بضمير المذكر وقال إن حسن ذكرها ينم على تذكيرها: قد يقال: إذن فما بال هذا الرجل القوى العاتى لا يرى أن يقصد إلا كافورًا بعد أن فارق سيف الدولة على حين كان كثير من الأمراء يتوقون ويشتهون أن يقدم عليهم، فأحقدهم باطراحه إياهم وصمده إلى كافور؟ والجواب: إنه لم يمدح كافورًا لأنه راة أهلا لمدحه، بل طمعًا فى ولاية بعض أملاكه، كما هو مشهور معروف. أما المدح فإنا والله نراه تهكَّم به ولم يثن عليه. وما قرأنا له قصيدة فى كافور إلا عثرنا فيها على بيت أو أبيات تُشعر بأن المتنبى كان يركبه بالدعابة ويرى نفسه أجل وأخطر شأنا من أن يمدحه.. ونورد لذلك بعضَ الشواهد. قال: فمن يرى فى قوله هذا مدحًا؟ أى امرئ يقال له هذا ولا يدرك أنها مبالغةٌ قد جاوزت كل حد مع أعظم التسامح حتى انقلب هجاءً؟ ومن الذى يرضيه أن يقال لهإن لك ما بين السماء والأرض؟ أليس هذا فراراً التهنئة؟! قد يقال: ولكن المتنبى كثير المبالغات وتلك عادته، حسن! فتأملو إذن قوله واذكروا أن كافوراً أسود الجلد: شمس سوداء تفضح شمس النهار؟! ولقد اضطر المتنبى لما نظم هذا البيت أن يفسر المعنى و يؤوله على خلاف عادته من إلقاء الكلام وترك الناس وشأنهم فيه، وجارى ابن الرومى فى هذه المره فقال: ولم يكتف بذلك بل راح يقول له فى القصيدة نفسها: إنه أمل العيون! وماذا ترى العين فى كافور الأسود، الضخم البطن، القبيح السحنة، الغليظ «المشفرين»؟ أيمكن أن يستقيم المعنى ويعقل إلا على تأويل واحد هو أنه اشناق أن يبصر عبد السوء هذا الذى صارت له فى مصر دولة كما يحب المرء أن يرى قردا يقلد الآدميين مثلاً؟ وأدل على شعور المتنبى وهو يمدح كافوراً قوله من قصيدة آخرى! ومن أقرب إليه يومئذ من كافور وأبعد من سيف الدولة؟ وما الداعى إلى ذلك، والمناسبة لا تستوجبه؟ ولم يكتف ببيت واحد بل أنشأ يقول بعد أن وصف سيره وقدومه إلى مصر: وهل من المدح أن يقول لك قادم عليك إن أرشد الطريقين هو الذى تجنبته وأضلهما الذى سلكته؟ وقد زاد المتنبى الطين بلة فقال: فجعله هزأة وأضحوكة وقرر أن لا غرابة إذا طربت لما رأيته. وقد فطن ابنُ جنى إلى أن المتنبى أراد الاستهزاء فقال: «لما قرأت عليه (على المتنبى) هذا البيت قلت: جعلت الرجل أبا زنة! (وهى كنية القرد) فضحك». وشر من ذلك وأدهى قوله بعد هذا البيت: والشطر الأول صريح فى السب والهجاء، وإن كان قد رقعه فى الشطر الثانى. وحسبنا أن أبا الطيب لما انصرف عن مصر شعر بأن عليه أن يعتذر للأدب عما تكلفه من مدح كافور، فقال ما معناه أن الناس هم الذين أحوجوه إلى مدحه، وأن هذا المدح كان عبارة عن هجاء للخلق لأنهم اضطروه إلى أن يقصده، وهذا قوله: ولم يكن يخفى عن كافور أنه ما قصده حبّا فيه بل ليستعين به على كبت خصومه، فقد كان يقول له فى وجهه إن قومًا خالفوه فى مجيئه إلى كافور ولم يسايروه إليه استنكافًا فذهبوا شرقًا وحضر هو: وما هذا من المدح فى شىء على الرغم من احتراسه فى الشطر التالى من البيت الأول. تلقيت اليوم رسالة من الأستاذ الشيخ عبد العظيم يوسف ينكر فيها علىَّ بعض ما ذهبت إليه فى كلامى عن شخصية المتنبى ويؤاخذنى على قولى «وهو لعظم رجولته يستنكف من صفات النساء ويتبرأمما يُجمِّلهن حتى من غير أن تدعو مناسبةٌ إلى هذا التبرؤ، ويقول «وما بى حسن المَشَى» أى إنه ليس جميل المشية والواقع أنه كان مشّاءً قويّا صبورًا على المشى سريعًا فيه … إلخ». «وهذا رأى إدٌّ لا تغتبط الحثالة من الأقنان إذا امتدحت به، ولا ترتاح السفلة من الدهماء إذا ألبسته، بله ذا البطولة كالمتنبى، فصرف هذه الصفات إلى مزنون بالتخنث أحق وأجدر، فأرجع فيها بصرك كرة أخرى. ولقد ظهر منك بعض التردد والإنكار لهذا الوصف إذ تقول: «من غير أن تدعو مناسبة إلى هذا التبرؤ». ومنشأ ما فرط وهمك إليه فيما أحسب، هو اقتطاعك لجزء فى بيته عما يلتحم به قبله وبعده، وتأويلك له على حسب ما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة من لفظه، فجاء معناه كما ترى. «وقبل مساق البيت مشدودًا بأواخى أخويه، أقول إن قول العرب «ما بى كذا» مثلًا معناه ما أكترث به وما أهتم له وما أباليه. أما الجزء المذكور فمن قصيدته التى أثبتها عند وصوله الكوفة من مصر يهجو كويفيرها ونواطيرها الغافلين عن أعمال الثعالب ويصف منازل سيره التى اجتاب ومصاعب سبله التى اجتازَ بقوله: واضح جلىّ أنه يفدِّى الخيل والنياق وضروب سيرها بكل امرأة جميلة حسنة المشية، ويقول وما بى حسن مشى النسوة أى لا ابه ولا أحفل بمحاسن مشيهن. وتحتمل العبارة وجهًا آخر أن تكون الألف واللام فى «المَشَى» عوضًا عن ضمير مضاف إليه يرجع، لا إلى المرأة، لكن إلى الخيل والإبل، أى أنه لم يؤثرها على النساء لحسن مشيها على مشيهن، كلا فإنه لايهتم ولايحفل ما يشتغل به الضعفة من التلهى بالمحاسن البادية ولكنه اعتصم بها فوصل ساحل الحياة وشارف بر السلامة فأعاناه على كيد عداه وكبتهم ودفع أذاهم عنه. ذلك هو المعنى الفحلى تبرق أساريره بأشعة الصواب، وهو مراد أبى الطيب فى مقام المفاضلة بين الماشيتين». نقول والذى يقرأ هذا يحسبنا وصمنا المتنبى بسبة، وطوقناه بعار! أو يتوهمنا على الأقل لم نفهم معنى البيت. وما فعلنا شيئًا من هذا وإنما أردنا أن نتخذ من قوله دليلًا على نزعته. ولا بأس من العود إلى هذه النقطة لنجلوها وندفع الإشكال فنقول إن «الخيزلى» هذه مشية يصفونها بأن فيها استرخاء وتفككا من مشية النساء، و«الهيدبى» مشية سريعة للإبل والخيل، و«النجاة» الناقة السريعة التى تُنجى راكبها والبجاوية نسبة إلى بجاوة وإليها تنسب النوق. ومعنى الأبيات الثلاثة: فدت كل امرأة تمشى الخيزلى كلَّ ناقة تمشى الهيدبى، أى أنه ليس من أهل الغزل وليس به حب النساء، وإنما هو رجل أسفار يحب كل ناقة سريعة السير توصل إلى الحياة وتكيد الأعداء وتدفع الأذى. هذا هو المعنى الصريح الذى لا يحتاج إلى تأويل ولا يستلزم أن نحل الألف واللام محلَّ ضمير محذوف مضاف إليه، والذى لم نتردد كما يزعمنا الأستاذ فى استخلاص مدلوله وإضافته إلى أمثاله مما سقناه. وقد قلنا إنه رجل قوى عظيم الإحساس بالرجولة ومقتضياتها، وإن إحساسه هذا ظاهرٌ من استنكافه الطراوة والرخاوة، ونفوره من نسبة شىء من ذلك إليه فى نفسه أو فيما هو جاعلُه أداة إلى غايته. وليقل الأستاذ ما شاء فإنه يبقى أن فى الأبيات تعريضًا بمشية النساء المسترخية، وذكرًا لزهادته فيها وعزوفه عنها، وهذا شأن أبى الطيب فى كل حالاته.. وهو لا يكره التطرى فى المشية وحدها، بل يتجاوز ذلك إلى كراهة الترف والنعومة فى جميع مظاهرهما. وإذا كان قد بقى بعد الذى سقناه فى كلمتنا السابقة مستزادٌ فإليك قوله من قصيدة يمدح بها كافورًا. والشفوف هى الثياب الرقيقة، وتربه أى تنعمه والمعنى ظاهر. يقول قلبى لا يطلب رفاهيةً لجسمه بأن يكسوه ثيابًا رقيقة ناعمة، وإنما يطلب لبس الدروع الثقيلة.. حتى الثياب الناعمة لا يرتاح إليها وإن كان مضطرّا إلى أن يلبسها، إذ كان لا يسع أحدًا أن يظل فى الدروع وحلق الحديد. وتراه حتى إذا اضطر إلى المفاضلة بين امرأة وامرأة، آثر الساذجةَ الجمال التى لا تكسب نفسها الحسن بالاحتيال والتى لا يكون حسنها إلا طبعًا لا مجلوبًا.. ومن قوله فى ذلك: لقد كان للمتنبى شغلان بمساعيه عن الحياة الرخوة، وعما يروق الضعفاءَ وأوساط الناس من العيش الناعم اللين. ولقد افتتح حياته بما ختمها به: يطلب ذلك «الشىء» الذى ليس له غايةٌ تعرف، أو حد يوصف والذى يبتر العمر كما قال فى صباه. وهو لا يعرف على وجه الدقة ماذا يريد من الأيام. نعم لقد طلب الحكم، وبغى أن يؤمر على الناس، ولكنى أحسب أن لو كان نال ذلك لما قنع به ولا قعد عن الطلب. ذلك أن نفسه تجيش برغبة جامحة عنيفة فيما تحسه من أبياته الاَتية، وإن كان لم يسعه، ولا يسعك تحديدُه. هذا هو الذى يبتغيه. يريد أن يدوخ الدنيا وأن يترك فيها دويّا لا ينقطع أبد الدهر.. ولو شاعر غير المتنبى قال هذه الأبيات لجاء البيت الثانى على الأرجح هكذا. ولكن نفس المتنبى فوق هذا، أعناق الرجال العاديين يتركها لعسكره. أما هو فلا يضرب إلا أعناق «الملوك». ولو شاعر غير المتنبى قال هذا وراح فى كل شعره يطلب هذا المجد، ويذكر الفتكات البكر، لابتسم القارئ ابتسامة المسرور من هذه المبالغات الظريفة الجوفاء! ولكنك تقرؤها للمتنبى الفقير، الصغير النشأة، الذى زعموه ابن سقاء، وقال بعضهم فى هجائه أن أباه: نقول تقرأ له هذا — وتلك نشأته — فلا تضحك ولا يخامرك شك فى صدقه وفى إخلاص سريرته حين يتحدت إليك بهمة نفسه ومطمح قلبه، وتحس أنه لو كان الحظ آتاه وحباه الملك لحاول أن يكون كالإسكندر المقدونى. ولقد فخر غيره من الشعراء وباهوا بأصولهم، وحدثوا عن أطماعهم وطلبهم للمعالى، ولكنك لا تجد غيره يسمى مايطلبه «حقّا» له! انظر قوله فى مستهل قصيدة يمدح بها محمد بن سيار بن مكرم: وبهذا الكلام الشامل يجبه ممدوحه.. ومن الغريب، بل مما له دلالة خاصة، أن أحفل قصائده بمثل هذا التحديث عن نفسه والإشادة بها أماديحه، وأن أخلاها من ذلك أهاجيه.. حتى لكأنه يتعمد أن يثنى على نفسه ويذكر فضلها قبل أن يتطرق إلى الثناء على ممدوحه! ولم يكن من يقصدهم من الأمراء والملوك يستخفّون بشأنه، أو يقللون من خطره، أو لا يعتدون برأيه. فقد كان اهتمامهم لمعرفة حقيقة رأيه فيهم عظيمًا. يدلك على ذلك ما حكاه عبد العزيز بن يوسف الجرجانى، وكان كاتب الإنشاء عند عضد الدولة، عظيم المنزلة منه قال: «لما دخل أبو الطيب المتنبى مجلس عضد الدولة، وانصرف عنه، أتبعه بعض جلسائه وقال له: «سله كيف شاهد مجلسنا؟ وأين الأمراء الذين لقيهم منا؟». قال فامتثلت أمره، وجاريت المتنبى فى هذا الميدان، وأطلت معه هذا القول، فكان جوابه عن جميع ما سمعه منى أن قال: «ما خدمت عيناى قلبى كاليوم!». فاختصر اللفظ وأطال المعنى، وكان ذلك أوكد الأسباب التى حظى بها عند عضد الدولة». ••• ولكن هذه النفس الكبيرة التى كان منها فى جيش، كما يقول صاحبنا أبو القاسم المظفر بن الطبسى، لم تخل من مواضع الضعف وإن كان لها من ظروف حياته ما يبررها أو يجعلها معقولة على الأقل، وأى نفس تخلو؟ ألم يكن نابليون زمن المروءة والفتوة؟ ألم يكن من أقل الناس كرمًا وأريحية ووفاء، ومن أخونهم عهدًا، وأغدرهم ضميرًا وأفجرهم يمينًا، لا يأنف أن يتدلى إلى سرقة الحق، أو يتسفل إلى الكذب، أو يحقد على رجل من أعوانه فيقتله أو يسمه؟ يظلم قواده وينشر فى صحيفته الرسمية ما يحب أن يُعرف عنه ما لا فيه للحق إنصاف. حتى بعد هويّه وبعد أن ذهب إلى منفاه كان يزور الحديث ويختلق الأباطيل ويقلب الحقائق؟ ولكنه على الرغم من كل ذلك عظيم بمزاياه وإن كثرت عيوبه. وكذلك المتنبى، وإن لم تكن العيوب واحدة. وليس نابليون بالعظيم الوحيد فى الدنيا، ولم أسقه مثلا لأن المعايب مشتركة، بل «لبعض» مشابه نراها بين الرجلين: فكلاهما وضيع النشأة، على الأقل بالقياس إلى الذروة التى تسنماها والرفعة التى بلغاها كل فى ميدانه. وكان كل منهما يحفزه طلبُ المجد، ولا يدع له قرارًا دون أن يعرف لغايته حدّا. وكما أن المتنبى يرى أن المجد أن تترك فى الدنيا الدوى الذى يصفه، كذلك كان نابليون يقول: «ليست الشهرة إلا ضجة عظيمة كلما اشتدت كان ذلك أذيعَ لذكرك وأطير لشهرتك، ولتسلم أن القوانين والأنظمة والأمم كلها إلى فناء، ولكن ضجيج الشهرة دائم خالد لا يزال يدوى فى آذان الأجيال الآتية». وكلاهما كان يعلم أن لا وفاء ولا صداقة فى هذه الدنيا، ولا يرى ذلك ضائره. وكان نابليون يقول: «ما للرجال والرحمة والرقة؟ ذلك بالنساء أحرى. وأخلق بالرجال أن يكونوا كالسيف مضاء وكالطود ثباتًا، ومن لم يأنس من نفسه ذلك فليتنحّ عن ميادين الحرب والحكم». ويذكرنا ذلك قول المتنبى: ولكن بينهما على ذلك من الاختلاف ما بين اثنين عاش أحدهما بالفضيلة، ونجح الآخر فى حياته ثم هوى بغيرها. أحكى للقارئ قصة شخصية تبقى سخافتُها بى عالقة وإن كنت قد تفاديتها، وتدل على مكان المتنبى من الفضل وحكمة الطبع، ولولا ذلك ما سقتها: صنعت يومًا قصيدة، هى قصة مروية على لسان بطلها، وجعلتُ الجحيم مسرحها، وتصورت فيها بعض ما يقع فى دنيانا هذه وما تجيش به نفوسنا من شتى العواطف والغرائز الأرضية. ونورد هنا بعض أبياتها فى موقف ليفهم القارئ المراد: وكنت ضنينًا بها، مزهوّا بفكرتها، أحملها معى إلى حيثما ذهبت. ثم ضاعت منى مسودتها — ولا أدرى كيف حدث ذلك — كما ضاع غيره! فأسفت، ولبثت زمنًا أشكو افتقادها إلى إخوانى.. وزاد فى ألمى أنى لا أذكر منها إلا كلمات أو أبعاض شطور لا خير فيها، ولعلها أردأ ما فى القصيدة. وانقضت شهور وشهور، وهى بين العين والقلب، والذاكرة كإخوان ماعهدتها. ثم أصبحت يومًا على ذكر ماكس نورداو، فتناولت كتابا له فإذا فيه المسودة الضائعة! وفى هذا اليوم نُعى إلينا ماكس نورداو فأحسست بدافع إلى الموازنة بين مقدارى الخسارة والربح، وإلى المقابلة بين العواطف المتعارضة التى حركتها فى النفس وفاةُ هذا العالم الكبير واهتدائى إلى قصيدتى التائهة! ولم يزل يخب بى التفكير ويوضع بهذه المناسبة حتى ذكرت قول أبى الطيب من قصيدة يرثى بها مولى تركيا لسيف الدولة اسمه يماك: فعدت إلى قصيدتى وتناولت مسودتها ومزقتها بيدى غير آسف على تمزيقها! ••• وأنت أيها القارئ أفهمت؟ لا أدرى! ولكن الذى أدريه أنى قلت لنفسى إن المتنبى أصاب كبد الحقيقة حين قال إن الموت هو علةُ الشجاعة والكرم والصبر، ولو اتسع مصراعا البيت لقال إنه مبعث كل الصفات والعواطف والغرائز الإنسانية جليلها ودقيقها وشريفها ووضيعها. وما على من شاء إلا أن يتصور أن الله حبا الناس الخلود وحماهم الموت: أتظن أن غرائز الإنسان يكون لها حينئذ محل أو عمل؟ المرء خالد. ومتى كان الخلود مضمونا والموت مأمونًا فلا عمل لغريزة حفظ الذات ولا حاجة بالإنسان إلى الطعام يدفع به غائلة الجوع — وهو أبسط مظاهر الغريزة — لأنه لا غائلة هناك، وتقوى به جسمه لأنه لا حاجة إلى القوة ولا خوف أن يعتريها نقصان أو يصيبها كلال. ولا لزوم للسعى والكدح إذ لا طائل تحتهما ولا ضير من رفع مؤونتهما. والاجتهاد يبطل وتذهب معه كل ما عسى أن يوفق الإنسان إليه من العلوم والمعارف والاختراعات والاستكشافات. فيعيش الإنسان على أتم ولاء وأصدق وداد مع الميكروبات التى تفتك بالعالم الآن، ويلقى بنفسه فى أطغى لجج اليم وكأنه يتمطى على فراشه الوثير، ويساكن الوحوش الضارية التى لم تعد أنيابُها ومخالبها تؤذى وتردى. ويهدم المساكن ويرمى بالثياب ويؤثر العرىَ، إذ ما حاجته إليها؟ وأى سوء يتقيه بها؟ ولا يعود «.يستحيى» أن يمشى هكذا عاريًا — كما سنثبت ذلك — بل لا يعود يحس حتى الحاجة إلى النوم لأن جسمه مركب بحيث لا يضمحل ولا ينتابه التداعى أو يعدو عليه الفناء. ولا يبقى ثم فرقٌ بين إنسان وإنسإن: لا شجاعة، لأن معنى الشجاعة الإقدام على الخطر أو مايتوهمه المرء خطرًا، وليس هنإك خطر ما، ولا كرم لأن الفقر والغنى سيان، وما بأحد حاجة إلى شىء، ولا بخل إذ لا كرم ولا خوف من الفقر وما ينطوى تحته من المعانى. والأرض ما الداعى إلى حرثها واستغلالها؟ والمصانع لماذا ننشئها؟ والمتاجر لأى غاية نتخذها؟ والسفن ما إضاعة الوقمت فى ابتنائها؟ وأى داع للعجلة فى الانتقال من مكان إلى مكان؟ والعمر عمر الأبد لا يحد؟ بل ما الحاجة إلى الانتقال وكل بقعة ككل بقعة؟ حتى الحكومات لماذا نقيمها وننظم أمورنا بواسطتها وليس لنا أمور أو شؤون تنظيم؟ والمثل العليا هل ينشدها أحد أو يحلم بها؟ كلا! ولا تبقى هناك آداب ولا علوم ولا صناعات ولا ملاهٍ ولا شىء على الإطلاق إلا جسم خامد لا يحفزه حافز حتى إلى تحريك إصبعه. بقيت الغريزة النوعية، ومظهرها الحب وغايتها حفظ النوع. وهى تبقى ما بقيت الغاية مطلوبة مسعيّا إليها. أما إذا أصبحت الغاية موجودة بطبيعة الحال، وصار النوع باقيًا خالدًا لا خوف عليه، فإن الغريزة لا يبقى لها عمل، وإذا بطل عمل الغريزة انعدمت وبطل كل ما نتج عنها من العواطف. وصار الرجل يرى المرأة ولا يشعر بحاجة إلى التعارف بينهما، والمرأة ترى الرجل ولا تحس أنه نصفها الثانى كما يقولون فى تعابيرهم الجديدة، أو أن بها حاجة إلى تكميل نفسها به. لا بجذب أحدهما الاَخر أو يصغيه إليه أو يحرك فيه بواعث الشعر والغناء. ومتى امتنع الشعور الجنسى المتبادل بين الرجل والمرأة امتنع تبعًا لذلك ما نسميه الاَن الجمالُ والحياء والخفر والدلال والوصل والهجر والغيرة وسائر أمثال هذه المعانى التى ترجع فى مردّ أمرها إلى الحب، وزالت عاطفة ا لأمومة والأبوة، وتجرد «البيت» من معناه، واستحال أن يكون «للأسرة» وجود، وتقوضت دعائم الاجتماع وصار الإنسان مخلوقًا «غير مدنى بالطبع»! لا يخالجه غضب أو رضا أو حب أو بغض أو قوة أو أمل أو ندم، ولا خوف ولا يأس ولا احتقار ولا رحمة أو قسوة ولا غيرة أو إعجاب، وزايلته مادة الحياة الحاضرة بأسرها. وعسى من يسأل: ولكن ألا يبقى له شىء؟ ألا يحتفظ بصفة واحدة أو شهوة من شهواته كالشهرة والحكم؟ كلا! حتى ولا هذه! لأنها جميعًا ليست إلا مظاهر للتعزى عن الخلود الممتنع فى الحياة بخلود الذكر. وماذا يصنع الإنسان بالشهرة؟ ولماذا يطلبها وليس من يكترت لها أو يفهمها؟ وبأى شىء يريد أن يشتهر؟ الأدب معدومة بواعثه، والعلوم لا ضرورة إلى تحصيلها، والخير ليس خيرًا، والشر لم يعد شرّا ولا شىء هناك ينفع أو يضر. وما يُستطاع من الأعمال التى نعدها الآن أعمال بطولة مستحيل إذا ضمن الخلود. إذ ما هى البطولة الحربية مثلًا؟ هى أن تقوى بشجاعتك وبصرك بفنون القتال على سحق عدوك وإخضاعه لك. والسر فى خضوعه هو هول الفتك به. والآن فتصور جيشين رجالهما خالدون وقل لى كيف يستطيع أحدهما أن يقهر خصمه؟ إن الموت هو نفاد القوة الحيوية، والخالد لا يموت أى لا تنفد قوته ولا يعروه نصب فلا بد أن يظل الجيشان يتحاربان أبد الدهر بلا نتيجة، فأولى ألّا يتحاربا، وعلى أن الباعث على التقاتل يمتنع من تلقاء نفسه مع الخلود. وهب هذا الباعث الطمع أو شهوة التحكم أو غير ذلك، فما محله مع الخلود؟ الطمع لا يشعر به الخالد لأنه بلغ أقصى غاية الطمع وصار فى غنى عن كل ما دونه. وشهوة التحكم يثيرها علم المرء أن فى الناس الخنوع والخوف والجبن ورهبة القوة، والخلود يُعفِّى على هاتيك جميعًا ويقطع الطريق على نشوئها. وإذ كان لا فضل لإنسان على اخر ولا مزية، لأن الخلود سوّى بين الناس، فكيف يمكن أن يلج بالمرء مثل شهوة الحكم ولا قوة له ينفرد بها، ولا فى غيره عجز عما يطيقه ولا من وراء ذلك غاية؟ إذن فالناس إذا خلدوا يتجردون من كل صفاتهم ونزعاتهم وغرائزهم وعواطفهم وإحساساتهم التى نعرفها ونسير بها فى حياتنا وفق طبائعها، ويحولون مخلوقات أخرى يستحيل على العقل الآدمى أن يتصور حالتها وما تكون عليه أو ما تغرى به.. وكل ما يهدينا إليه القياس هو أن كل ما للإنسان مما ذكرنا يصبح باطلًا ومحالًا. ومن هنا كان من السخافة المطبقة أن أتصور أن مثل ما يقع لنا فى حياتنا يمكن أن يكون جائزًا مقبولًا ومحتملًا مع الخلود فى الاَخرة. ولهذا لم يسعنى إلا تمزيق القصيدة إذ كانت فكرتها قائمة على استحالة! ••• ولكن هل كان المتنبى يقصد إلى كل هذه المعانى حين قال: أليس الأرجح أن لو كان يدرك ما ينطوى تحت بيته هذا من المعانى التى استخلصناها لأتى عليها فى بيت أو أبيات أخرى يُصفى فيها المسألة ويبين ما أغفل من الجوانب المتممة للفكرة؟ أليس أقرب إلى الصواب والأرجح فى الرأى أن يكون هذا البيت قد جاء منه عفوًا كالشرارة تطير عن حافر الجواد وهو يعدو على الحصى والحجارة؟ وكما أن الجواد لم يتعمد أن يقدح الشرارة، كذلك المتنبى لعل تدفُّقَ الذهن فى مجرى الكلام على الموت قاده عفوًا إلى هذا الخاطر دون أن يفطن إلى عمق ما كشف عنه. نقول: قد يكون هذا كذلك فما ننكر أن للذهن انتباهات يرى فيها حتى الغيب كما يقول ابن الرومى: ولكن السياق يرجح عكس ذلك، لأنه فى معرض التقدم بالعزاء لسيف الدولة عن يماكه التركى، وقد شاء أن يعزيه عن فقده بأن يبين له ضرورة الموت وفضله وأنه حتم لا مفر منه، فمضى يقول له: لو أن من سبقونا عاشوا أبدًا وخلدوا فى الدنيا لما وجدنا نحن، فإذا كانت الحياة خيرًا فالفضل فيها للموت الذى عصف بسابقينا.. وأراد أن يزيد فى بيان ما للموت من الفضل وما ينتجه من المزايا ويخلقه فى النفس من الخلال الحميدة، فقال بيته الذى جعلناه مدار هذا الفصل.. ولعله تعمد أن يغفل أن الموت سبب الرذائل كما هو علة الفضائل، لأن المقام استوجب منه ألّا يذكر إلا حسنات الموت وأياديه البيضاء على الإنسانية، ليحمل سامعه على الرضا بهذا القدر المر. أو لعله لم يفطن حين قال هذا البيت إلى كل جوانب الفكرة التى ساقها. وما أظن شاعرًا أو كاتبًا لم يجرب ذلك: يخطر له المعنى فيبادر إلى تقييده، ثم يفطن فيما بعد إلى أنه لم يُحط بكل جوانبه. وقد يتيسر له أن ينقح ما كتب أو نظم فيوفى المعنى حقه. وقد تشغله الشواغل عن ذلك فيبقى المعنى ناقصًا وإن كان قد تم ونضج فى ذهن صاحبه. وتجىء ناقد مثلى أو مثلك أيها القارئ فيدرك هذا النقص فى استيفاء المعنى ويفرح بذلك وينعاه على قائله ويطبل ويزمر ويقيم الدنيا ويقعدها كأنما يقول للناس: «تأملوا ذكائى وفطنتى! ما أعظمهما وأكبرهما! وما أشد إرباءهما على ذكاء صاحبكم الشاعر أو الكاتب الذى كنتم تحسبونه بذّ الأوائل والأواخر!».. وصاحبنا الشاعر أو الكاتب — إذا كان معاصرًا وكان واسع الصدر — يضحك ويقول «ما أظلم الدنيا والحظ!». ولعلى بعدُ أخطأت حين مزقت القصيدة. ذلك أن المرء ليس مطالبا بما يفوق طوق الإنسان ويجاوز مدى قدرته. وليس من العيب أن يُعجزه أن يتصور الحياة الخالدة فى الاَخرة أو غيرها إلا على مثال الدنيا. وإنه ليكون من العنت البحت أن يطالب أحد بأن يكون صادق التصوير لنوع من الحياة لا يعلمه ولا هو يتاح له أن يجربه فى مدى عمره أو عمر سواه من الخلق. وأحسب أن لو استطاع أحد أن يصف لنا حقيقة الحياة الخالدة لما وسعنا أن نفهمها نحن أبناء الموت، بل لبدت لنا حافلة بكل ضروب الاستحالات. ولكنى مع ذلك فعلتها! فكنت سخيفًا فى الأولى والثانية! زعموا أن المتنبى بخيل كز، وأنه أهان نفسه الكبيرة — أو التى زعمها كبيرة — فى سبيل المال.. وقالوا إن بخله هذا ودعواه الشجاعة لا يتفقان، واعتمدوا فى ذلك كله على مشهور الاعتقاد دون الانتقاد، وأخذوا فيه بالتقليد لا بالتمحيص والاختبار، وقابلوا أصحاب هذا الرأى بالتسليم والامتثال، ولم يعن واحد ممن قرأنا لهم فى هذا الباب بأن يبين عوار ما رُوى عن الرجل وزلله وعلة الخطأ فيما حكوه عنه وخلله، وليس هذا من النقد الأدبى فى شىء. ولا هو يدل على وجود الاستعداد لفهم الشعر على الوجه الصحيح. ويحسن بنا قبل أن نخوص فى هذه المسألة أن نورد ما يستندون إليه فى دعواهم. حكوا أن أبا الفرج قال: «كان أبو الطيب يأنس بى ويشكو من سيف الدولة ويأمننى على غيبته له، وكان ما بينى وبينه عامرًا دون باقى الشعراء، وكان سيف الدولة يغتاظ من تعاظمه ويجفو عليه إذا كلمه والمتنبى يجيبه فى أكثر الأوقات ويتغاضى فى بعضها — قال أبو الفرج الببغاء هذا — وأذكر ليلة، وقد استدعى سيف الدولة بدرّة فشقها بسكين الدواة، فمد أبو عبد الله بن خالويه طيلسانه فحثا فيه سيف الدولة صالحا، ومددت ذيل دراعتى فحثا لى جانبا، والمتنبى حاضر، وسيف الدولة ينتظر منه أن يفعل مثل فعلنا. فما فعل! فغاظه ذلك، فنثرها كلها على الغلمان.. فلما رأى المتنبى أنها قد فاتته زاحم الغلمانَ يلتقط معهم، فغمزهم عليه سيف الدولة فداسوه وركبوه وصارت عمامته فى رقبته، فاستحيا ومضت به ليلة عظيمة، وانصرف — فخاطب أبو عبد الله بن خالوبه سيف الدولة فى ذلك فقال: يتعاظم تلك العظمة وتنزل تلك المنزلة لولا حماقته؟». هذه هى أشهر القصص التى تروى عن المتنبى، وهى إذن أصبحت أدل على الحماقة منها على البخل — وعلى حماقة لحظة دون حماقة العمر التى تُعيى المداوى. ولكن فيها مواضع للنظر تبعث على الشك فى صحتها وتثير الريب فى صدق راويها. ذلك أن أبا الفرج الببغاء لم يكن يحتاج إلى كل هذه المقدمة فى بيان منزلته من أبى الطيب واطلاعه على سره لو أنه كان حقيقة بحيث يصف نفسه. إذن لكان هذا معروفًا لا يحتاج إلى شرج، ومفهومًا بطبيعة الحال لا يستلزم أن يسوقه توطئة للحكاية، وليلاحظ القارئ كذلك أن أبا الفرج هذا جعل نفسه «شاهد عيان» للحادثة التى يرويها. ولو أنه كان يحكيها على أنه سمعها من المتنبى نفسه لفهمنا منه أن يقول عن نفسه فى مستهلها إن المتنبى كان يأتمنه على غيبته لسيف الدولة، وإن ما بينهما كان عامرًا دون سائر الشعراء. فأما وهو شاهد عيان فلا محل على الإطلاق لهذه المقدمة التى يُخيل لنا أنها دفاع سابق لتهمة مقدرة. ولم يعرف عن المتنبى أنه كان ممن يغتابون الناس، وبخاصة سيف الدولة. وهذا بالبداهة لا يمنع أنه كان يشكو جفوته فى بعض الأحيان، ولكن الغيبة شىء والشكوى شىء اَخر. وما حاجة المتنبى إلى مؤتَمَن على الغيبة وهو يعلن عتبه ويذيعه فى شعره الساتر مسير الشمس حتى قبل أن يفارق سيف الدولة؟ وليس هناك من الشهود على صحة الحكاية غير ابن خالويه، وهذا خصم للمتنبى لا يصدق قوله فيه. وفى الحكاية مبالغة ظاهرة لا يُعقل أن تصدر عمن كان كالمتنبى تعاظمًا وترفعًا. ومن ذا الذى يصدق أن المتنبى يبلغ من حماقته واستهانته بكرامته ألّا يكتفى بمزاحمة الغلمان له على الدنانير حتى يرضى أن يدوسوه ويركبوه؟! وحكوا غير ذلك. أن أبا الطيب دخل مجلس ابن العميد وكان يستعرض سيوفًا، فلما نظر أبا الطيب نهض من مجلسه وأجلسه فى دسته، ثم قال: «اختر سيفًا من هذه السيوف»، فاختار منها واحدًا ثقيل الحلى، واختار ابن العميد غيره، ثم قال كل واحد منهما: «سيفى الذى اخترته أجود»، ثم اصطلحا على تجربتهما فقال ابن العميد: «فبماذا نجربهما؟». فقال أبو الطيب: «فى الدنانير يُؤتى بها فينضد بعضها على بعض ثم تُضرب به فإن قدّها قاطع». فاستدعى ابن العميد عشرين دينارًا ثم ضربها أبو الطيب فقدها فى المجلس، فقام من مجلسه الفخم يلتقط الدنانير المتبددة، فقال ابن العميد: «ليلزم الشيخُ مجلسه فإن أحد الخدام يلتقطها ويأتى بها إليك»، فقال أبو الطيب: «بل صاحب الحاجة أولى». نقول والاختراع فى الحكاية واضح. وحسب القارئ أن ننبهه إلى أنها ناقصة! ماذا فعل ابن العميد بسيفه الذى اختاره؟ لقد عرفنا أن المتنبى جرب سيفه فقدَّ به الدنانير فتبين له ولغيره أنه قاطع. ولكنا لم نعرف شيئا عن سيف ابن العميد. وهذا على الرغم من أن القصة محورها الخلاف على أىّ السيفين أقطع!! ومن هذا النقص يتبين للقارئ أن الراوى — وهو مجهول! — إنما ساق الحكاية للتنديد بالمتنبى، ولهذا نسى أن يتمها على عادة المشنِّعين، ولهذا أيضًا تحرى فيها أن يحمل السامع أو القارئ على ازدراء عمل المتنبى، وذلك بأن يفخم من أمره لتزداد الهوة التى انحدر إليها عمقًا، فجعل ابن العميد يتخلَّى له عن مجلسه. ثم يعرض عليه السيوف دون الحاضرين جميعًا وُيفرده فضلًا عن ذلك باختيار واحدٍ لنفسه. ثم يأبى الراوى المجهولُ إلا أن يجعل المتنبى يختار سيفًا كثير الحلى ثقيلها ليوقع فى روعك أن أبا الطيب نظر إلى الحلى ولم ينظر إلى مهزِّ السيف وفرنده. ثم بعد ذلك يقيم المتنبى من مجلسه ليلتقط الدنانير ويجسم لك الأمر فيصف المجلس — هنا فقط — بأنه فخم! وبعد، فهل بقيت بنا أو بالقارئ حاجة إلى تقصِّى أخبار البخل المرويّة عن المتنبى لنزنها ونحصَّهإ؟ لست أشعر بالحاجة إلى ذلك. وأكبر ظنى أن بالقارئ مثل استغنائى عنه. فإذا شاء المزيد فعليه بالصبح المنبى وأشباهه من كل كتاب لم يتوخ صاحبه إلا مجرد النقل حتى لتحسبها جميعًا لرجل واحد لولا ما تلمحه من قصد هذا إلى الدفاع، ومن تعمد ذلك الزراية والتشهير. ولو أن هؤلاء أو غيرهم من الكتاب المعاصرين الذين رأينا لهم كتبًا فى هذا الباب نظروا إلى شعر الرجل باعتباره صورةً لنفسه وجوانبها المتعددة لنبذوا هذه القصص، ولفطنوا إلى أن المتنبى لم يكن بالرجل البخيل وإنما كإن رجلًا يعرف قيمة المال وما له من الأثر البالغ فى الحياة. ولقد عرف القارئ مما كتبنا عن المتنبى، ومن شعره نفسه، أنه كان «يتعاطى كبر النفس وعلو الهمة وطلب الملك» كما يقول أبو البركات ابن أبى الفرج المعروف بابن زيد التكريسى الشاعر. ولم يكن يخفى على المتنبى أن المال «عضل» المساعى والمطالب الضخمة كما يقولون. أو «زندُها» كما يقول المتنبى. والمال عند المتنبى لم يكن مطلوبا لذاته، ولا لأن له قيمة قاتمة بنفسها، ولا لأن به مرضا يدفعه إلى التماسه وتكديسه، بل لأنه عونٌ على الغايات، وفى ذلك يقول: ويقول لكافور وهو يمدحه ويطلب منه الولاية التى جاءه طامعًا فيها: أى أنه يقول: أشقى الناس من زادت همته وقصر ماله عن مبلغ ما يهمّ به، وينصح لكافور ألّا يُسرف فى العطاء فيذهب ماله كله فى طلب المجد والرياسة، لأن المجد لا يعقد إلا بالمال، فإذا ذهب المال انحل ما كان معقودًا به. وكما أن الضرب لا يكون إلا باجتماع الكف والزند، كذلك المجد والمال قرينان. وصاحب المال بلا مجد فقير زرىٌّ وصاحب المجد بلا مال موشك أن يزول عنه مجده. وقد زعم بعضهم أنه إنما يصف كافورًا بالبخل فى هذه الأبيات لأنه حرمه وضنَّ عليه ببغيته، وأنه سلك فى ذلك مسلك كثيِّر إذ دخل على هشام فمدحه فلم يثبه فقال كثيِّر يخاطبه: فقيل لكثيِّر: ما حملك على أن تعلم أمير المؤمنين البخل؟ فقال: إنه منعنى من رفده، واَلمنى برده، فأردت أن أحبب إليه المال، فيمنع غيرى كما منعنى، فيتفق الناس على ذمه! وهى حكاية مخترعة. والحقيقة الواضحة أن بعض المولعين بالتأليف عثر على هذين البيتين فى قصيدة كثيِّر، فوجدهما غريبين من شاعر يريد أن يمدح ملكًا بالكرم ليستوكف رفده، فنسج حولهما هذه القصة السخيفة. فقد كان هشام بخيلًا بطبعه لا يحتاج إلى أن يعلمه كثيِّر الحرص. ولو كان جوادًا لما بلغ كثيِّر عزة غايته منه ببيتيه هذين. وفرقٌ بين بيتيه وأبيات المتنبى التى يوصى فيها بالحزم وضبط الأموال لغاية مفهومة معقول أن يُضبط لها المال. وقد صارت القضية الآن جلية بعد الذى سقناه. رجل له غاية معينة، يريد أن يوفر لها الوسائل، وأن يحشد لها المال، فى غير كزازة، إذ كان المال أقوى أداة، وأمتن وسيلة.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/16/
تقليد القدماء
ولو كان الناس اعتادوا النقد وألِفوا الصراحة فى القول وتوخى الصدق فى العبارة عن الرأى، لما كانت بى حاجة إلى هذه المقدمة أو ضرورة إلى تبرئة نفسى ودفع ما يرموننى به؟ ولكنت أنشر النقد على ثقة من حسن ظن القراء بى وبخلوص نيتى وبراءة سريرتى مما تصفه الأوهامُ ويصوِّره الجهل. ولكنا لسوء الحظ مضطرون إلى أن نثبت حسنَ القصد فى كل ما ننقدُ كأن المرء لايمكن أن يفعل شيئًا إلا ودافعه الضغائن والأحقاد! ومن سوء حظ الناقد فى مصر أنه يكتب لقوم لا يستطيع أن يركن إلى إنصافهم أو يعول على صحة رأيهم. وليسامحنى القراء فى ذلك فقد رأيت عجبًا أيام كنت أنشر هذا النقد: من ذلك أنى كنت إذا قلت إن حافظًا أخطأ فى هذا المعنى أو ذاك، قال بعضهم «لم يخطئ حافظ وإنما تابع العرب، وقد ورد فى شعرهم أشباه ذلك»، كأن كل ما قال العرب لا ينبغى أن يأتيه الباطل ولا يجوز إلا أن يكون صحيحًا مبرأ من كل عيب! إلى غير ذلك مما يُغرى المرء باليأس ويحمله على القنوط من صلاح هذه العقول! وإذا فرضنا أن العرب أصابوا فى كل ما قالوا، أفترى ذلك يستدعى أن نقصد قصدهم ونحتذى مثالهم فى كل شىء ونحن لا نحيا حياتهم؟ ألسنا الوارثين لغتهم وللوارث حق التصرف فى ما يرت؟ هل تقليدك العربَ وجريك على أسلوبهم يشفعان لك فى خطأ نحوى أو منطقى؟ كلا! إذًا فكيف يشفع لك فى غير ذلك مما لا يصح فى العقول ولا يتفق مع الحق؟ وكيف نتحاكم إلى العقل فى الأولى ولا نستقضيه فى الثانية؟ لا ننكر ما لدراسة الأدب القديم من النفع والفائدة، وما للخبرة ببراعات العظماء، قديمهم وحديثهم، من الفائدة والأثر الجليل فى تربية الروح، ولكنه لا يخفى عنا أن ذلك ربما كان مدعاة لفناء الشخصية والذهول عن الغاية التى يسعى إليها الأديب والغرض الذى يعالجه الشاعر، والأصل فى الكتابة بوجه عام. على أنه مهما يكن فضل القدماء ومزيتهم فليس ثَمَّ مساغ للشك فى أنك لا تستطيع أن تبلغ مبلغهم من طريق الحكاية والتقليد. فإن الفقير لا يغنى بالاقتراض من الموسرين. ولست أقصد إلى نبذ الكتّاب والشعراء الأولين جملة وعدم الاحتفال بهم فإن هذا سخف وجهل، ولكنى أقول إنه ينبغى أن يدرس المرء فى كتاباتهم الأصول الأدبية العامة التى لا ينبغى لكاتب أن يحيد عنها أو يغفلها بحال من الأحوال — كالصدق والإخلاص فى العبارة عن الرأى أو الإحساس — وهذا وحده كفيل بالقضاء على فكرة التقليد. (وبعد) فإنه لا يسع من ورد شِرعة الأدب، وعلم أنه يحتاج إلى مواهب وملكاتٍ غير الكد والدؤوب والاحتيال فى حكاية السلف والضرب على قالبهم والاقتياس بهم فيما سلكوه من مناهجهم، ومن تبسط فى شعر الأولين، لا ليسرق منه ما يبتنى به بيوتا كبيوت العنكبوت ولكن ليستعين بنوره ويستعين به على استجلاء غوامض الطبيعة وأسرارها ومعانيها، وليهتدى بنجوم العبقرية فى ظلمة الحياة وحلوكة العيش، وليتعقب بنظره شعاعها المتغلغل إلى ما لم يتمثل فى خاطر ولم يحلم به حالم — أقول لا يسع من هذا شأنه وتلك حاله إلا أن ينظر إلى حال الأدب العصرى نظرة فى طيها الأسف والخيبة واليأس. وكأنما شاءت الأقدار أن يذيب أحدُنا نفسه، ويعصر قلبه، وينسج اماله ومخاوفه التى هى آمال الإنسانية ومخاوفها، ويستورى من رفات آلامه شهابًا يضىء للناس وهو يحترق، ثم لا يجد من الناس أخًا حنَّانًا يؤازره ويعينه على الكشف عن نفسه وإزاحة حجب الغموض عن إحساسات خياله التى ربما التبست على القارئ لفرط حدتها أو غابت فى مطاوى اللفظ واستسرت فى مثانى الكلام. أليس أحدنا بمعذور إن هو صرخ وبه من سانح اليأس خاطر: «يا ضيْعةَ العمر! أقص على الناس حديثَ النفس، وأبثهم وجد القلب ونجوى الفؤاد، فيقولون ما أجود لفظه أو أسخفه! كأنى إلى اللفظ قصدت!! وأنصب قبل عيونهم مرآة للحياة تُريهم، لوتأملوها، نفوسهم باديةً فى صقالها فلا ينظرون إلا إلى زخرفها وإلى إطارها، وهل هو مفضض أم مذهب؟ وهل هو مستملح فى الذوق أو مستهجن؟! وأفضى إليهم بما يُعيى أحدَهم التماسُه من حقاتق الحياة فيقولون لو قلت كذا بدل كذا لأعيا الناس مكان ندك! ما لهم لا يعيبون البحرَ باعوجاج شطآنه وكثرة صخوره؟! يا ضيعة العمر!!». سيقولون ما فضل مذهبكم الجديد على مذهبنا القديم؟ وماذا فيه من المزية والحسن حتى تدعونا إليه؟ وبأى معنى رائع جئتم؟ وماذا ابتكرتم من المعانى الشريفة والأغراض النبيهة؟ فنقول: قد لا يكون فى شعرنا شىء من هذه المعانى الشريفة والأغراض النبيهة التى تطلبونها وتبحثون فيه عنها ولا تألون (أنتم) جهدًا فى الغوص عليها وفتح أغلاقها والتكلف لها! وقد لا نكون أحسنَّا فى صوغ القريض ورياضة القوافى ولكن خيبتنا لا يصح أن تكون دليلًا على فساد مذهبنا وعقمه، إذا صح أننا خبنا فيما تكلفناه وهو ما لانظنه، بل هى دليل على تخلف الطبع لا أكثر — وعلى فرض ذلك كله فإن لنا فضل الصدق وعليكم عار الكذب ودنيئة الافتراء على نفوسكم وعلى الناس جميعًا، وحسبنا ذلك فخرًا لنا وخزيًا لكم! ليس أقطع فى الدلالة على أنكم لا تفهمون الشعر، ولا تعرفون غاياته وأغراضه، من قولكم إن فلان! ليس فى شعره معانٍ رائعة شريفة، لأن الشاعر المطبوع لا يُعنت ذهنه ولا يكد خاطره فى التنقيب على معنى لأن هذا تكلف لا ضرورة له. أو ليس يكفيكم أن يكون على الشعر طابع ناظمه وميسمه، وفيه روحه وإحساساته وخواطره ومظاهر نفسه سواء أكانت جليلة أم دقيقة، شريفة أم وضيعة؟! وهل الشعر إلا صورة للحياة؟ وهل «كل» مظاهر الحياة والعيش جليلة شريفة رفيعة حتى لا يتوخى الشاعر فى شعره إلا كل جليل من المعانى ورفيع من الأغراض؟ وكيف يكون معنى شريفًا وآخر غير شريف؟ أليس شريف المعنى وجلالته فى صدقه؟ فكل معنى صادقٍ شريفٌ جليل. ألا إن مزية المعانى وحسنها ليسا فى ما زعمتم من الشرف، فإن هذا سخف كما أظهرنا فيما مر، ولكن فى صحة الصلة أو الحقيقة التى أراد الشاعر أن يجلوها عليك فى البيت مفردًا أو فى القصيدة جملة، وقد يتاح له الإعراب عن هذه الحقيقة أو الصلة فى بيت أو بيتين، وقد لا يتأتى له ذلك إلا فى قصيدة طويلة، وهذا يستوجب أن ينظر القارئ فى القصيدة جملة لا بيتًا بيتًا كما هى العادة، فإن ما فى الأبيات من المعانى، إذا تدبرتها واحدًا واحدًا، ليس إلا ذريعة للكشف عن الغرض الذى إليه قصد الشاعر وشرحًا له وتبيينا. وأنتم فما فضل هذا الشعر السياسى الغث الذى تأتوننا به الحين بعد الحين؟ وأى مزية له؟ وهل تؤمنون به؟ وهل إذا خلوتم إلى شياطينكم تحمدون من أنفسكم أن صرتم أصداء تردد ما تكتبه صحف الأخبار؟ وهل كل فخركم أنكم تمدحون هذا وترثون ذاك؟ وأنتم لا تفرحون بحياة الواحد إلا لماله، ولا تألمون موتَ الآخر إلا لانقطاع نواله؟ ما أضيع حياتكم! ليس أدل على سوء حال الأدب عندنا من هذا الشك الذى يتجاذب النفوس فى أولى المسائل وأكبرها. ولقد كتب نقاد العرب فى الشعر، على قدر ما وصل إليه علمهم وفهمهم، ولكنهم لم يجيئوا بشىء يصلح أن يتخذ دليلًا على إدراكهم لحقيقته. ولسنا ننكر أن كتّاب الغرب متخالفون فى ذلك، ولكن تخالفهم دليل على نفاذ بصائرهم وبُعد مطارح أذهانهم ودقة تنقيبهم وشدة رغبتهم فى الوصول إلى حقيقة يأنس بها العقل ويرتاح إليها الفكر، كما أن إجماع كتاب العرب وتوافقهم دليل على تقصيرهم وتفريطهم وأنهم كانوا يقلد بعضهم بعضًا إن لم يكن دليلًا على ما هو أشين من ذلك وأعيب. غير أن هذا القلق والشك المستحوذين على النفوس لعهدنا هذا هما الكفيلان بأن يفسحا رقعة الأمل ويطيلا عنان الرجاء، لأن القلق دليل الحياة، والشك اية الفطنة وما يدرينا لعلنا فى غد نجنى من رياض هذا القلق أزاهير السكينة والطمأنيته!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/17/
الحقيقة والمجاز فى اللغة
«وقد يكون مما يهدينا إلى أصل كل آرائنا ومعارفنا أن نلاحظ مبلغ توقف ألفاظنا على الآراء المحسوسة العامة، وكيف أن الألفاظ التى تستخدم للعبارة عن أعمال وآراء بعيدة عن الحس، مرجعها إليه، ومنشؤها ذلك. «ثم انتقلت بها الحال من العبارة عن المحسوسات، إلى ما هو أخفى دلالة وأعوص، حتى صارت رموز الآراء لا تتناولها المشاعر. مثال ذلك، يتخيل، ويدرك، ويتصور، ويتمسك بالشىء ويبث، والتقزز، والاضطراب، والسكينة، إلى اخر ذلك. فهذه كلها ألفاظ مأخوذة عما يتناوله الحس، ومنقولة إلى أساليب معينة من التفكير. والنَّفْس معناها فى الأصل النَّفَس، وما أشك فى أننا نستطيع — إذا اهتدينا إلى المصادر الأولى فى كل اللغات — أن نرد كل الألفاظ الدالة على غير المحسوسات إلى ما تدركه المشاعر، وبذلك يتيسر لنا أن نحزر إلى حد ما، الخوالج التى كانت تملأ عقول الأولين على عهد حداثة اللغات، وكيف نشأت هذه الخوالج، ونعلم كيف أن الطبيعة — حتى فى تسمية الأشياء — أوحت إلى الناس أصول المعارف ومبادئها، وكيف أنهم لما أرادوا العبارة عما يحسونه فى نفوسهم، وأن ينقلوا الإحساس به إلى سواهم، استعاروا الألفاظ المؤدية للواقع تحت الحس، وبذلك أعانوا غيرهم على إدراك ما يخالجهم، ويدور فى نفوسهم، مما ليس له مظهر خارجى محسوس. ثم لما صارت لهم ألفاظ معروفة مقررة يرمزون بها إلى ما يدور بأخلادهم، استطاعوا أن يعبروا عن كل المعانى الأخرى، إذ كانت هذه المعانى مكونة من المحسوسات أو آرائهم فيها، وهذا إنما كان هكذا، لأن اراءنا كلها، كما أثبتنا مرجعها إلى ما يقع تحت الحبس، أو ما ندركه فى نفوسنا». «وسأورد لفظين أسألكم أن تردوهما إلى أصليهما الدالين على ما هو واقع تحت الحس. أولهما لفظ «أنا» — هذه اللفظة، فيما أعلم، ليست قابلة أن ترد إلى أصل أو أن تحلل إلى عناصر أولية. وليست دالة على فكرة محسوسة، ولا هى تمثل إلا المعنى الذى يفهمه العقل منها، فهى رمز صاف صادق، ليس فيه أدنى إشارة إلى فكرة محسوسة. كذلك لفظ «يكون» أولى ذهنى محض، ولا أعرف لغة يؤدى فيها لفظ «يكون» بكلمة تعبر عن معنى محسوس. ومن أجل هذا لا أرى من الصواب أن الرموز الدالة على ما يقع تحت الحس هى أصول اللغة». «وهب هذا صحيحًا لا مجاز إلى الشك فيه، وهو ما ليس كذلك، فماذا يكون لنا أن نستخلص منه؟ أن الإنسان فى أول الأمر، بفعل كل مداركه، خرج من دائرة نفسه إلى العالم الخارجى. ومن المعقول أن تكون ظواهر العالم الخارجى أول ما يستلفته، ومن هنا كانت هذه الظواهر أول ما سماه الإنسان، وكانت الألفاظ الأولى من نصيبها.. فإلرموز الأولى مستعارة من الأشياء المحسوسة ومصطبغة إلى حد ما بألوانها. ومتى كر الإنسان إلى نفسه بعد ذلك وعنى بالظواهر العقلية — التى لم تزايله وإنما كانت مدركة بصورة غامضة — وأراد أن يعبر عن الظواهر الجديدة لعقله ونفسه، قادته المشابهة إلى وصل الرموز التى يبغيها بالرموز المقررة والمشابهة هى سبيل كل لغة ناشئة، ومن هنا كانت المجازات التى رد تحليلنا إليها أكثر الرموز والأسماء المتخذة للمعنويات». ومنه قولهم «ارتاح فلان لأمته بالرحمة» وهو أن يهتش للمعروف ويهتز له، ويتحرك كما يُراح الشجر والنبات إذا تفطر بالورق واهتز، وقول النابغة: أى يهتز. ومثله الشملة الثوب جاء منها: شملهم الخير أو النعمة، وفلان مشتمل على داهية، أو مشتمل على أخلاق جميلة، ومنها كذلك اشتمل فلانٌ على فلان، وقاه بنفسه. قإل عبيد الله بن زياد للمنذر بن الزبير: «إن شئت اشتملت عليك ثم كانت نفسى فى ون نفسك». وأدرك التى ضربها لوك مثلًا أصل معناه! لحق، ومن هنا جاء قولهم: أدرك حاجته، وتدارك الخطأ بالصواب، وفرس دَرَكُ الطريدة. وصار معنى الدرك أيضًا ما يلحق المرءَ من التبعة، ومن ذلك قول بعضهم «ما أدرَكَه مِن دَرَك فعَلىَّ خلاصه»، وتداركت الأخبار تلاحقت، إلى آخر ذلك مما يطول بنا الكلام إذا نحن أردنا أن نتقصى فيه. وهناك نوعان من المجاز: لفظى وشعرى. فأما اللفظى فذلك الذى ينقل فيه اللفظ إلى أشباه ما وضع له، كالإشراق مثلا يستعمل للشمس والنار والوجه والمعانى. وأما الشعرى فنعنى به أن يعمد القائل مثلًا إلى الشمس فيجعل لها أيديًا يرمز بها للأشعة، أو للسحب فيسميها جبالًا أو يشبهها إذا أمطرت بالإناث، فيقول مثلًا استحلبت الريح السحاب، أو يشبه البرق بالسهم المضىء، أو يجعل الليالى تلد الحوادث، أو تتمخَّض عنها، وذلك كثير فى شعر الأقدمين. وقد لا يروقنا أو يعجبنا، بل قد يتعذر علينا فهمه فى بعض الأحايين، ولكنه لا شك فى أن كل لغة مرَّ بها طور كانت فيه العبارة عما يتجاوز الحياة اليومية الضيقة، لا تتأتى للناس إلا من طريق هذا النوع الساذج من المجاز الشعرى.. ولعل هذه المجازات التى صارت عبارات تقليدية فى عصرنا، يُفهَم المراد منها، ولا تُحَس حقيقتها — نقول لعل الأقدمين كانوا يفهمونها على أن فيها بعض الحقيقة، فقد كان الأقدمون يتصورون كل شىء من ظواهر الطبيعة ويقيسونه على حياتهم. ومن هنا جاء إطلاق اللفظ الواحد على عدة أشياء مختلفة، كاستعمال الإشراق للشمس وللوجه ولديباجة الكلام. ومن هنا جىء كذلك الترادف فى الألفاظ، أى استعمال عدة ألفاظ لشىء واحد، وليس أكثر من هذا فى لغتنا، وحسبك ما فيها من أسماء النياق والسيف والخمر وغيرها، وليست معانى هذه المترادفات واحدة فى الحقيقة وإنما هى أوصاف شتى للشىء. مثال ذلك الشمول، من أسماء الخمر، وهى الباردة، وقد يريدون أن يصفوها بفعلها وسورتها فيقولون الحميا أو برائحتها أو طريقة عملها فيسمونها الخمرة. وكذلك القولُ فى سائر المترادفات، فهى أوصاف مختلفة نعت بها الموصوف فى ظروف شتى ثم صارت بكثرة الاستعمال والعادة فى حكم الأسماء. وأذكر أن رجلًا من علماء اللغة نسيت اسمه سئل: كم اسما للسيف؟ قال: واحد. فعجبوا فبيَّن لهم أن السيف هو اسمه وأن ما عدا ذلك صفات. ومن سوء حظ الباحث فى اللغة العربية أن تاريخها القديم مجهول، وأطوارها الأولى التى لا بد أن تكون مرت بها غير معروفة، وأنه! وصلت إلينا بعد أن استوفت نضوجها وصارت على الحقيقة لغة عصرية وافية تامة التكوين. وليس ينفى ذلك أنه ينقصها بعض زيادات، أو ألفاظ على الأصح تدل على حديث المخترعات وما إليها، فإن هذا نقص غير جوهرى وليس مرجعه إلى مقومات اللغة وتركيبها. وإنما هو نقص من شاء سد فراغه بأيسر طريقة وأقرب حيلة، نعنى بالنقل الحرفى للألفاظ الجديدة. ولو أننا كنا نعلم تاريخ الأدوار الأولى التى مرت بها لغتنا العربية كغيرها من اللغات، أو لو أن من بيننا من عنى بدرس اللغة العبرية وأمثالها مما ينتمى معها إلى أصل واحد، لا ستطاع الباحثون أن يصلوا إلى ما وصل إليه الغربيون. ولكن جهلنا باللغة العبرية وبالتاريخ الأول للغة العربية يحول بيننا وبين الرجوع إلى أقدم من نشوء المجاز. ولا شك فى أن بنا حاجة إلى أن نعرف ماذا كانت حالة هذه اللغة فى أوليات نشأتها قبل العهد الذى ظهر فيه الترادف. كتبنا فصلًا وجيزًا فى المجاز ونشأته فى اللغات على العموم، وإن كنا قد تحرينا أن نورد الأمثلة من لغتنا العربية على الخصوص. وقد قال لنا بعض الفضلاء إن فى مقالنا غموضًا حال دون استجلاء الغرض منه، وذهب آخرون إلى أننا خالفنا ما اشتملت عليه كتب اللغة. ومن أجل هذا لم نجد مندوحة عن العود إلى الموضوع بشىء من البيان نوضح به ما أشكل. ونحب أن ننبه فى فاتحة هذه الكلمة إلى أن موضوعنا فى وادٍ، وما احتوته كتبُ البلاغة فى واد اخر — هذه تتناول اللغة بعد أن استوفت نضوجها وصارت كما ورثناها، ونحن نعالج فى بحثنا هذا أن نرسم خط التطور قبل أن تستكمل اللغة أوضاعها. ولما كانت هذه سبيلنا وتلك وجهة نظرنا، فلا محل فى كلامنا لهذه الكتب، إلا إذا كنا سنشايع أصحابها الذين يقولون — ولا يزال مع الأسف الشديد الأساتذة فى عصرنا يدرسون قولهم هذا — إن اللغة هى ذلك الكلام المصطلح عليه بين الناس. وهو تعريف للغة عفّى عليه الزمن ولم يعد مما نستطيع أن تقبله العقول وتسيغة الأفهام؟ لأن القول بأن الناس اصطلحوا على ألفاظٍ معينة وتواضعوا بالاتفاق فيما بينهم على أن يؤدوا بهذه الألفاظ ما يختلج فى نفوسهم من المعانى والخواطر — هذا القول ينقض نفسه. وحسبك أن تسألى: كيف استطاعوا أن يتفقوا على هذه الألفاظ والتراكيب؟ وبأى لغة تفاهموا قبل أن تكون لهم لغة؟ أليس من الواضح أن اتفاقهم هذا يستوجب أن تكون لهم لغة يتفاهمون بها؟ وإذا كان هذا كذلك، فعلى أى شىء يتفقون؟ ولماذا يصطلحون ويتواضعون، ولديهم لغة تكفيهم وتغنى فى نقل المعنى أو الخاطر أو الإحساس أو غير ذلك من رأس إلى رأس؟ ونحن — فى هذا العصر الذى نملك فيه لغةً وافية ناضجة — ماذا يصنع أحدُنا إذا جال بنفسه معنى جديد أعياه أن يلتمس له لفظًا أو ألفاظا يعبر بها عنه؟ أتراه يحشد الخلقَ مؤتمرًا ويشاورهم فى طريقة العبارة عن هذا المعنى الجديد الذى حاش به صدرُه، ودار بنفسه، وتعاظمه أداؤه؟ أيقول لهم قد خطر لى أيها الناس معنى لا أدرى كيف أصوره لكم وأنقله بالألفاظ إلى رؤوسكم، فاختاروا له اللفظ الذى يؤديه والكلمة التى تخرجه من مطاويه؟ أم يقول: قام بنفسى معنى هو كيت وكيت، ويشرحه باللفظ ثم يسألهم لفظًا له؟ إن كانت الأولى فكيف يعبرون له عن معنى مدفون فى صدره لا علم لهم به؟ أو الثانية فما حاجته إلى لفظ له بعد أن اهتدى إلى العبارة عنه؟ لا. لم تنشأ اللغة دفعة واحدة. ولا تواضع الناس على ألفاظها واصطلحوا على كيفية تعليق الكلام بعضه ببعض، وإنما حدت ذلك شيئًا فشيئًا، ومرت باللغة — بكل لغة — أطوار شتى وانتقلت بها الأحوال من مرحلة إلى مرحلة حتى صارت كما نراها اليوم. وإن أحدنا ليكد ذهنه إذا خطر له معنى جديد — أو معنى يحسبه جديدًا — حتى يعبر عنه التعبير الذى يسعه طوقه، فإما وفق فى ذلك فجاء كلامه مفهوما، وإما أخفق فخرج المعنى ملفوفًا فى مثل الضباب، وقد يبتكر أحدنا لفظًا أو ينحته، فإذا وافق مكان الحاجة إليه استقر فى موضعه وسار على الألسنة وإلا سقط ولم يلتقطه قائل أو كاتب غيره. وقد تعمدنا أن نقول إذا خطر لأحدنا معنى «يحسبه جديدًا»، ولسنا نعنى بذلك أن القدماء سبقونا إلى كل معنى يمكن أن يخطر على البال وأنه لا جديدَ تحت الشمس، فإن هذا يكون أدخل فى باب الهراء منه فى باب الكلام المعقول، وما يسع رجلًا يحترم نفسه وما وهبه الله من المدارك والمشاعر أن يقول هذا. وإنما الذى نعنيه أن كل معنى جديد «مولّد» من معنى اخر أو معان أخرى قديمة أو حديثة اتصل بعضُها ببعض فى الذهن وتزاوجت وأنتجت هذا المعنى «الجديد»، فهو كالابن — مخلوق جديد إلا أنه خلاصة أبوين، لا بل سلسلة اباء وأجداد لا يأخذهم إحصاء — إذ ليس من المعقول بتةً، ولا من الممكن، أن ينشأ فى الذهن معنى لا صلة له على الإطلاق بأى شىء فى هذا الذهن.. وقد يعيينا أن نعرف هذه الصلة ويُعجزنا الإعجاز التام أن نتبين أو هى علاقة بين هذا المعنى الطارئ وبين ما فى الذهن غيره أو ما وجد فيه قبله. ولكن هذا يدل على أى شىء؟ إنه أولًا لا ينفى أن هناك صلةً وإن كانت قد خفيت علينا ثم هو لا يدل بعد ذلك على أكثر من أن هناك معانى أو خواطر، أو ما شئت فسمها، تختفى فيما وراء الواعية. وهذا هو الثابت علميّا. ••• ونعود إلى ما استطردنا عنه، فنقول إن اللغة لا يمكن أن تنشأ إلا بعد أن يقطع الإنسان مرحلة الاستيحاش المطلق، أى بعد أن يأنس الناس بعضهم إلى بعض ويألفوا أن يجتمعوا. إذ كان الاستفراد لا يُحوج الكائن إلى لغة. ومن يخاطب بها وليس إلى جانبه أحد ولا هو يطيق أن يرى إلى جانبه أحدًا؟ وهو حال يعيينا أن نتصوره ولا نكاد نعقله، ولكن المحقق، مهما يكن من الأمر، أن نشوءَ لغة ما، معناه وجود جماعة من الخلق احتاجوا إلى أن يتفاهموا. ويقول «مونكالم» الفرنسى: «ليس أعظم وقعًا فى واعية الإنسان ولا أكفل بسرعة إحداث التفاهم المتبادل، من الأعمال التى يزاولها عدد من الناس معًا لغاية واحدة وبدافع واحد». وهى كلمة حكيمة تصدق على القدماء صدقها على المحدثين.. وأخلق بالناس — قديمًا — وهم ينقبون الغيران، أو يقيمون الأكواخ، أو يذرون الحبوب، أن تتبع عيونهم التطور التدريجى الذى تُفضى إليه جهودُهم المشتركة، وأن تتنقح تبعًا لهذا التطور الأصواتُ أو أنصاف الكلمات التى تندّ عن شفاههم، وأن تحور هذه الأصوات أو أنصاف الكلمات شيئًا فشيئًا حتى تصير ألفاظا عليها طابع الجماعة الخاص. وهذا دور لا وجود للفردية المتميزة فيه. ونقرب هذا لذهن القارئ فنسأله: ألم تشهد قط جماعةً من العمال البنائين أو النوتية أو غيرهم وهم يغنون فى أثناء تأدية عملهم الموكل إليهم؟ إنه منظر قل من لم يشهده، وأكثر ما يراه المرء فى القرى النائية عن الحواضر.. هناك يرى المرء طائفة من الناس يغنُّون. وواحد منهم يقودهم: يبدأ بشطر يرددونه بعده ويعود هو فيرتجل شطرًا آخر وثالثًا ورابعًا وهكذا وهم يكررون، بعد كل شطر أو بيت، الترديدة ا لأولى.. ثم يكل هذا القائد أو الزعيم فينضم إلى المكررين ويحل محله آخرُ يمضى فى الارتجال الذى يُعين عليه الوزنُ وامتلاءُ النفس به وبنغمته، إلى آخر حدود طا قته، وهكذا يتعاقب المرتجلون ثم ينفض القوم وتذهب القصيدة مع الريح.. وهبها لا تذهب، فإنها على كل حال ليست من نظم فرد بل مما أخرجته الجماعة بعملها المشترك ومجهودها المجتمع. لا يعرف أحدٌ ههنا حقوقًا للتأليف، لأن الفردية لا وجود لها أو ليس وجودها على الأصح بارزًا مؤكدًا. وإذا كان هذا يحدث فى القرن العشرين، فما ظنك به قبل مئات من القرون؟ لم يكن فى ذلك الوقت للفردية محلّ على الإطلاق بل كان ما ْيراه الواحدُ يراه الآخرون على منواله، وما ينطق به الواحد ينطق به الجميع. ولا مشاحةَ فى أن شعور الناس يومئذ بأعمالهم هو الأصل فى مدركاتهم الأولى التى لم تزل تلج بهم حتى رمزوا لها بالإشارات ثم بالألفاظ. ويذهب ماكس موللر فى كتابه «أصل الفكر» إلى أن أصول اشتقاق اللغة تعبر عن الإدراك أو الشعور بالأعمال المكررة التى يكون الإنسان فى حداثته أكثر إلفا لها واعتيادًا. يعنى بذلك أن الرموز التى عبروا بها تدل على عمل مكرر.. مثال ذلك «يحفر» ليس معناها أن يضرب المرء الأرض بالفأس مرة واحدة بل أن يفعل ذلك مرات كثيرة متعاقبة. كذلك «شحذ» لا تفيد حكَّ الحجر بالحجر مرة فقط بل الحكَّ المستمر. وهكذا. وهذا الشعور بفعل عمل مكرر، كأنه عمل واحد، هو أول جراثيم التفكير. والآن فلنتصور أن الإنسان وُفق إلى أصول اللغة كلها واستطاع أن يعبر عما تتناوله مداركه الساذجة ويقع تحت حسه، وأن أفق حياته أخذ يتسع بعد ذلك، ورقعة مساعيه ترحب، وأنه أراد أن يؤدى معنى ما يخالجه مما لا يدخل فى باب المحسوسات، فماذا تظنه يصنع؟ أليس المعقول أن يعمد إلى لفظ يقرب معناه مما يريد ليعبر به عن هذا الجديد؟ وهو بعدُ كما أسلفنا ليس جديدًا بالمعنى الصحيح بل مولدًا مما فى رأسه ومن مجموعة خواطره وإحساساته ومدركاته.. فالخطوة قصيرة، أو قل إنها ليست من الطول بحيث تبعد المسافة بين الموجود والمطلوب. نعم إنه لا شك فى أن الإنسان ظل زمنًا طويلًا لا يعرف إلا نوعًا واحدًا من الحياة هو حياته، وليس له إلا لغة واحدة هى التى تعبر عن أعماله وحالاته هو، ولكنه اضطر بعد ذلك إلى أن يلتفت إلى ظواهر الحياة العامة وإلى ما فى الوجود غيره من القوى، وأن يعطى هذه أسماءَها من صفاتها وآثارها، وأن يعزو إليها ما فى حياته هو مقابل له فيقول «طلع النهار» و«زحف الليل» وبذلك ينسب إليهما ما نعلم نحن أنهما عاجزان عنه غير مطيقين له، ولكنه لم يكن يستطيع أن يتكلم عن الليل والنهار والسماء والفجر والصيف والشتاء إلى آخر ذلك إلا بأن يجعل لها صفات الفرد، وأن يجعل منها إناثًا وذكورًا، ثم اندفع فى هذا التمثيل الذى بعثت عليه المشابهةُ إلى اخر مداه، وأضفى ثوبه على عالم تجاربه كلها. ولما كان ناسُ ذلك الزمن الأول لا يستعملون إلا ألفاظا قليلة العدد فقد اضطروا، كلما أرادوا أن يجاوزوا أفق حياتهم اليومية الضيقة، أن ينقلوا اللفظ مما نشأ له فى الأصل إلى غيره مما استجد، وهذا هو أصل المجاز الذى لولاه لما تعدت اللغات العناصرَ الأولى القليلة. وقد قلنا إن هناك نوعين من المجاز، أولهما وأسبقهما فى الوجود هو اللفظى، ونعنى به نقل اللفظ من معناه الذى يقع تحت الحسّ إلى المدركات المعنوية. مثال ذلك العضد والساعد كلاهما فى الأصل معناه الذراع التى تعمل بها، فإذا أردت أن تقول إن فلانًا يؤازرك وينصرك، قلت هو عضدى وساعدى، وليس هو كذلك فى الحقيقة، ولكنك أردت أن تقول إنه يقوم لك مقام الذراع وُيغنى غناءَها. كذلك الضحك، مثلًا، معروف. وقد نقله الإنسان فوصف به الطبيعة وقال إن الربيع جاء يضحك، وإنه ليعلم أنه لا يفعل ذلك غير أنه ألفى شبها بين إحساسات السرور والانشراح وبين انتعاش الطبيعة فى هذا الفصل فنقل الكلمة للدلالة على هذا. ومن العبث أن نحاول الاستقصاء فى التمثيل لذلك فإنه لا آخر له، وما من كلمة فى اللغة إلا استعملت على المجاز وخرجت عن معناها الأول إلى معان شتى متصلةٍ بها. ويكفى القارئ أن يتناول ما شاء من الألفاظ وأن يردها إلى أصلها وأن يتأمل بعد ذلك فى أى معنى تستعمل الاَن ليتحقق صحة هذا الكلام. ولكن الإنسان لم يدع شيئًا عن الطبيعة إلا نفت فيه من عواطفه، وكساه ثوب خواطره، فتراه مثلًا يجعل الشمس آدميةً ويقول إنها مدت أذرعها يعنى بذلك أشعتها التى تصل إليه. وليس هذا من طراز المجاز الذى أسلفنا عليه القول. لأن اليد هنا لم تستعمل فى غير موضعها، ولم تنقل إلى معنى خلاف معناها الأول، كما هو الحال مثلا حين تقول فلان «يدى التى أضرب بها» بل هو استعمل الذراع فى مكانها بعد أن تصوَّر الشمس مخلوقا مثله. وهذا الضرب من المجاز هو الذى نسميه المجاز الشعرى كقول ابن الرومى: وإنما نشأ هذا الضرب من المجاز لأن آباءنا الأولين كانوا يقيسون حياة الطبيعة على حياتهم ويتصورونها قائمة على ما تقوم عليه حياتهم من التناسل وغيره، ومن ههنا أنثوا الشمس فى لغتنا والريح وغيرهما، وذكروا القمر والنجوم. ولنا أن نسأل: أترى كانوا يؤمنون بذلك ويعتقدون أن المسألة كما عبروا عنها؟ هل الشمس كانت فى نظرهم أنثى والقمرُ ذكرًا — أو على العكس كما فى بعض اللغات الأخرى — وهل جاءت الشمس والقمر بالنجوم ولادةً كما يتناسل الناس وغيرهم من الحيوان؟ إن هذا السؤال يستدعى أن نخوض عبابَ الأساطير التى نشأت فى اللغات وأن نعلل نشوءها. وهو باب واسع من الكلام يضيق عنه هذا المقام. وعندنا أن الأقدمين لم يكونوا أصفى ذهنا وأهدى عقلًا وأحكم من أن يعتقدوا ذلك ويؤمنوا به. وإنّ من الناس من يؤمن فى عصرنا هذا بما هو أبعد عن العقل من ذلك، فماذا يمنع أن يكون أباؤنا البسطاءُ السذج قد آمنوا بأن الأمر كما وصفوا والحال على ما تخيلوا؟ ونخشى أن نلج هذا الباب من البحث فنخرج عما قصدنا إليه ويمتد بنا نفس الكلام إلى غير غاية. وعلى أنه موضوع يستطيع كل امرئ أن يسمت فيه لنفسه سمتًا وجيهًا.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/18/
الواجب
تلقيت كتابى الآنسة مى — الصحائف، وظلمات وأشعة — فى ساعةِ نحس! وكنت قد باعدت بينى وبين الأدب وطلقته ثلاثًا، أو على الأصح فترتُ عنه وضعفتْ عندى بواعثه، ثم قلبت القضية وعكست المسألة وحملت الأدب عيبى وزعمته أصل البلاء والداء العياء. وإذن فالنجاء منه النجاء! وفى الكتب، كما فى الناس، المجدود والمنحوس، والموموق من القلوب والبغيض إلى النفوس، وما أصدق قول الرصيف القديم إذا نقلت معناه إلى الكتب. وهى تلقى من تصاريف الأيام وانتقال الأحوال مثلَ ما يلقى كتابها وقراؤها — وغير كتابها وقرائها — سواء بسواء، فكم من كتاب جليل لازمه الخمول فكأنه حين خرج من المطبعة سقط فى جب! وكم من مؤلَّف قيم عبر «هولاكو» على جثته، وأفاض روحه فى وثبته! فليس الناس وحدهم يموتون، ولكن هى الكتب أيضًا تحيا وتموت، وتطول آجالها وتقصر، وتبيت جميعة وتصبح مفرقة. ويارب كتاب أخمل آخر كما يخمل الرجلُ الرجل. قد يجنى الفضل على الكتاب جنايته على الإنسان، وتسىء إليه صراحته، وتكسده رجاحته، ويقعد به ثقل اَرائه المعوصة، وتؤخره دقة أفكاره الممحصة. وامض أنت فى القياس إذا شئت، واعكس الصورة إذا أحببت، فلن تلفَيها إلا طبق الأصل. وقلت لما تلقيت الكتابين: يا لها من ثرثارة! وأحسب أن الواجب يقتضى أن أقرأهما وأعنى بتدبرهما ثم أكتب عنهما! لاشك فى أن هذا هو واجبى — على الأقل فى رأى آنستنا! فما أثقل الواجب! وما أعظم شكى فى إخلاص من لا يفتئون يتغنون بحمده ويشيدون بحسنه وجلاله! من الذى يحب «الواجب» لذاته؟ أين هذا الفنانُ الذى يزاول «الواجب» ويتوخاه إرضاءً لعاطفته الفنية؟ لست أنا به على كل حال! وما أظن بالقارئ إلا أنه مثلى. وإذ كنا من الأوساط فسبيلنا أن يدفعنا الإحساس بالواجب إلى مباشرة أعمالنا والقيام بما هو مفروض علينا، وإلى مجانبة المغريات التى نلاقيها فى طريقنا ومقاومة المفاتن. ونحن إذ نفعل ذلك نعترف بالحاجة التى تحمل على النهوض بعبء الواجب، وبالضرورة التى تحتم الإذعان لأمره، ولكنا لا نحس «الحب» لهذا الواجب وإنما نحس ثقله من الفاتحة إلى الخاتمة! وقد لا نقاوم أو نناهض — بعنف — غير أنّا على هذا نود لو أن الأمر لم يكن كذلك، والحال لم تكن تقتضى ذلك! ويفتح أحدنا كتابًا — قبّح الله الكتب! — فيُلفى «وردزورث» مثلا قد نظم فى هذا «الواجب» قصيدة من أجف ما قرض وأصلبه وأبعده عن الإقناع! فلا يصدق — أو أنا على الأقل لا أصدق — أن هذا الشاعر صافحت عينه ابتسامة على وجه هذه الآلهة القاسية! وينتقل إلى «كانت» فإذا به يقارن الواجب، فى جلاله وروعته، بصفحة السماء المجلوة، ويجد نفسه مكرهًا على الاعتراف بأن هذا الفليسوف قد يجيش صدره بمثل هذه العاطفة الصادقة، فقد كان «كانت» يرى فى الواجب جلالًا ويستشعر له روعة، ولكن «كانت» و«وردزورت» أبعد عن حد الأوساط وأرفع مستوى من أن يصح اتخاذهما مقياسًا عامّا لهذا الناس. ويقلب كتب الفلسفة الحديثة فإذا هى تعالج أن ترد إليه القدرة على الإيمان بالواجب، وتقول له إن الواجب يمكن أن يحبه كل امرئ! ولماذا يا ترى؟ قالوا لأنه مرتبط بالحياة العالية أو هما شىء أحد! فأما من خبروا هذه الحياة العالية وعرفوها فيفضلونها لا محالة على الحياة الواطية! نعم إن «الواجب» يتصارع مع المتع واللذاذات التى هى أحط، ولكن هذا الصراع يفتر فى النهاية ويتطابق الواجب والرغبة. ونقرأ هذا، نحن الأوساط، فلا نرى فيه سوى تلاعب بالألفاظ وشعوذة بما لا يُفهم. والحق أقول إنى ما استطعت أن أسيغ الفلسفة فى يوم من أيام حياتى! وكثيرًا ما اتهمت نفسى بكثافة الذهن وضعف الاستعداد حتى رأيت من يحبون الفلسفة ويعكفون على كتبها يقفون مثلى حيارى أمام من لا أفهم من رجالها مثل هجل وشاجل ممن لا يصلح بعض كلامهم إلاليعزم به المرء على الجن. والرجل من الأوساط محقّ حين يقول: إذا صار الواجب مطلوبًا مرغوبًا فيه، فإنه لا يبقى «واجبًا» لأن الأصل فيه أنه فرضٌ علينا من غير أنفسنا. وأكثر ما يكون الواجب، سلبيّا أو نواهى مفرغة فى مثل هذا القالب «لاتفعل كذا» «وإياك وكذا». حتى حين «نريد» ألّا نعمل إلا طبقا لما يفرضه الواجب، لا يكون هذا منا إلا إيثارًا لأهون الشرين. ولو أن أحدنا استطاع أن يخلق الدنيا على ما يحب ويشتهى، لما أبقى لكلمة «الواجب» أثرا فى معاجمنا، ولعفى عليها هى ونظائرها من مثل يجب وتنبغى وما هو إليهما أو منهما بسبيل، ولما أبقى سوى «أريد»، ومتى خرجت «أريد» من القلب فقد انتسخ آخر ظل للواجب! والواجب يتطلب جهدًا، وطبيعة الحياة تدفع إلى توخى أسهل السبل، وكما أن الماء إذا صادفته فى تحدره الصخورُ يدور حولها ويحفر مجراه فيما هوألين وأقل استدعاء للمغالبة، كذلك المرء فى سلوكه فى حياته اليومية يؤثر أن يوفق إلى أقصى السهولة والسلاسة، وأن يتقى كل جهد متعب. هذا، على الأقل، مطلب. وإن كان الواقع أنه لا سبيل إلى انتفاء الجهود انتفاءً تامّا، ولكن هناك بونا عظيمًا بين الجهد يبذل حين تكون الرغبات الأولية معترفًا بها وكل مطلب آخر لا يُواجه إلا بالمقاومة والخضوع الجبرى، وبينه حين تكون القيمة الحقيقيةُ للحياة العالية مدركة تمام الإدراك. وليس ثم من فضيلة فى الخضوع مع النفور والتكره، كما أنه لا خير فى التعليم الذى يتلقاه المرء كارهًا مضطرّا. وأخلق بالمرء ألّا يفيد شيئًا من درس يُلقى عليه إذا كان يقاوم السعى لتعليمه. ومن الذى صار خيِّرًا بالاضطرار إلى فعل الخير على رغم أنفه؟ ولو أنك ألزمت ابنًا لك بكرهه أن يجود فى كل صباح على متسول بقرش لما صار بذلك كريمًا ولا رحيمًا، ولكان الأرجحُ أن يكف عن هذا التسخِّى متى رفعت عنه يدك التى تقسره على البذل للمساكين. ولا شك فى أنه يجدر بكل امرئ أن يقوِّى فى نفسه عواطف الرحمة، وأن يبث مثلها فى نفوس الصغار، ولكن ذلك لا يتأتى بالقهر. والأنانيةُ الصارخة خير فى النهاية وأقل ضيرًا من الاستمرار على إجبار غير المستعد. وأكثر ما يكون فعلُ الواجب، نزولا على مقتضيات الجماعة التى نعيش فيها. وأكثر ما يكون الباعث على امتثال أمر الواجب أو القعود درجَ نواهيه، الخوفَ من الرأى العام وعدم الرغبة فى معارضة مألوف الجمهور. أى أن الناس، فى الأغلب والأعم، إنما يؤدون الواجب إجابة لمهيب أجنبى منهم غريب عنهم، ولكن الأصل فى الواجب، بأسمى معانيه، أن يكون الداعى إليه من النفس ومن الخارج جميعًا. ويكون من النفس بمعنى ألّا يفعل المرءُ غير ما هو فاعل ولو اتفقت الدنيا كلها على خلاف ذلك؟ وتكون من الخارج لأن هناك دخلًا لما هو فوق الإرادة الفردية والرغبة الشخصية. وعلى هذا لا يكون «الواجب» بغيضًا أو محبوبًا إلا باعتبار هذا العامل الخارجى ومبلغ بعده عن النفس أو قربه منها وقابليته للتطابق مع رغباتها. وعلى أنه مهما بلغ من مسايرته لنفوسنا، يظل واجبًا. وكفى بهذا إشعارًا لها بسلطان عاملٍ أجنبى حتى حين يطيعه وهو جذل، كما أفعل الآن. ••• كذلك كنت أحدِّث نفسى قبل أن أفض الغلاف عن الكتابين. وقد مضت على ذلك أسابيع كنت أقدر أن تكون كلها معاناةً للإحساس بمرارة الإذعان لعامل أو باعث من غير النفس. ولكنى ما كدت أتصفحهما وأقرأ من هذا فصلًا ومن ذاك صفحة حتى شعرت كأن الواجب قد استحال رغبة. وزايلنى انقباضى عن الأدب.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/19/
الكتب والخلود
ماذا يصنع أحدنا إذا قُدمت له صحفةٌ فيها طعام هذا أول عهده به؟ قد يكون هذا اللون الجديد الذى يُطاف به عليه أشهى ما ذاق أو يذوق فى حياته. ولكن جهله به حقيق أن يكون مدعاة للتهيب، فتراه يود لو سمع من إنسان كيف طعمه؟ وما هو؟ ومن أى شىء رُكب؟ ليطمئن ويقبل عليه امنا واثقا من التذاذه جامعًا بين متعة الخيال وحسن الحقيقة. ثم هو — حتى بعد أن يسمع ما ينفى قلقه — لا يملك إلا أن ينظر إليه ويحدق فيه من قريب ومن بعيد. ويمد إليه يده، ولكن فى إشفاق. ولا يتناول ويأكل كما يفعل المجرب العارف بما ينتظر، بل يقلبه ويقدم ويؤخر، فعل الفاحص المتقصى، ويحمل إلى فمه اليسير من هنا وههنا فى حذر وأناة، وتحرص على ألّا يتجاوز النزر الذى لا يملأ الفم، ثم يلوكه ويتذوقه، وعينه ثابتة الحملاق، وعلى وجهه سماتُ التفكير، حتى إذا اطمأن مضى … كذلك أرانى مع الجديد من الكتب: أخشى التغثيةَ وأخاف إضاعة الوقت فيما لا طائل تحته ولا محصول وراءه، أو فيما هو شر من ذلك. ولو أنى لم أكن قرأت شيئًا لما تهيبت جديدًا، ولا أشفقت أن يفسد علىَّ لذةً قديمة أفدتها. ولكن إلفى للجيِّد من براعات الكتاب والشعراء يدفعنى إلى الضن بها أن أنغص على نفسى متعتها بهذا الجديد الذى لا أدريه كيف يكون. ولا يتعجل القارئ فيحسب أنى أُكبر القديم لأنه قديم، وأمقت الجديد لأنه جديد، فما لهذا محل فى نظرى. وليس من فضل أحدنا أن يتقدم به الزمن أو يتأخر. وقد أتردد فى قراءة الكتاب مضى على موت صاحبه مئاتٌ من السنين لأنه يكون جديدًا بالقياس إلىّ وإن كان قديمًا من حيت عمره فى هذه الدنيا.. ومع ذلك هبنى كنت أؤثر كل قديم على كل جديد. فماذا إذن؟ من الذى يستطيع أن يتجرد من المودات والخصومات وما إلى ذلك وأن يُنصف معاصرًا له الإنصاف الواجب؟ من الذى يسعه أن يكون على يقين جازم من أن الزمن سيؤيد رأيه فى معاصره بعد عشرة أعوام أو عشرين أو مائة؟ كتابك يا معاصرى بديع رائع. أعترف بذلك ولا أنكره. ولكن أنفك الضخم يجعل شكلك مرذولا أو مضحكا، فتقل روعةُ آرائك وحسنها كلما تصورت هذا الأنف الذى رُكب على وجهك، وليس يسعنى إلا أن أتصوره وأحضره أمام عينى! وهذا الكاتب الآخر رجل فإضل عظيم المواهب ولكنه صريح جرىء يتقحّم على الناس بآرائه فيهم ولا يبالى من رضى ممن سخط منهم، وأنا من الساخطين أو المزاحمين له فى ميدانه، فليس يروقنى أن أرى كلامه مطبوعًا. ولا سبيل إلى شىء من هذا وأشباهه حين تتناول كتابًا عليه جلالُ القدم وبعيدًا عن عصرك بكل ما فيه من الجلائل والصغائر. ••• وكم كتابا تخرجه المطابع فى العام، لا بل فى الأسبوع أو اليوم؟ ليكن محصول المطابع أو ثمراتها — إن صح هذا التعبير — كثيرًا أو قليلًا، فما من شك فى أن ما تُخرجه فى اليوم أكثر مما يسع أشرهَ الناس أن يقرأ فى اليوم. وما أكثر ما نتلهف ونتحسر لأن الوقت أضيقُ من أن يتسع لقراءة ما نود أن نقرأ! من منا لا تضطره المشاغل أو العلل أو الملل أو غير هذا وذاك إلى طىّ كتاب يريد أن يلتهمه، أوإلى الاكتفاء بواحد من مئات؟ بل من منا لم يخطر له خاطر لم يجد وقتًا لتقييده، ثم كرت الأيامُ واستسرَّ الخاطر فى ظلام النسيان، فكأنه ما مر بالذهن؟ والزمن ماض لا يثقِّل رجلَه ولا يتوقف. والمطابع دائرة لا تكف عن إخراج الكتب ولا تبالى أقرأها كل شراتها، أم أهملوها على رفوفهم. وإذا كان الناس اليوم لا يقدرون أن يقرءوا كل ما يكتب فأحر بهم أن يكونوا فى مقبل الأيام أعجز! ثم بدا لى كأنما أجرى الانتخاب لتأليف لجنة تتولى التحقيق ويوكل إليها أن تراجع مؤهلات كل من فى الجبل للتثبت والتحقق من أنه أهل للخلود، وإعلان كل ساكن بإبراز أوراق اعتماده والمستندات التى يثبت بها حقه، مخافة أن تكون الأغراض الشخصية قد فعلت فعلها وحشرت بين الخالدين من لا يستحقون إلا جحيم تارتاروس التى يقذف فيها بالعاصين! ••• «ومن الكتاب من هو ملخصُ جلسات ومدونُ وقائع. ومنهم «كولمب» جاء لاقتحام البحار وركوب الأخطار واكتشاف عوالم مجهولة». وهذا صحيح. والزمن يؤخر الملخصين والمدونين ويُخملهم، ولا يقدم وتضع تاجَ الخلود إلا على مفارق من يكونون فى عالم الأدب ما كان «كولمب» فى عالم الارتياد. وقد عهدنا الزمن لا يرحم ولا يعرف وسطا، فإما النبوغ فالخلود، وإما الخروج من الشعر العربى، ولكنا مع ذلك نحيل القارئ على جيمية ابن الرومى التى قالها لما قُتل يحيى بن عمر بن حسين بن يزيد بن على، ومطلعها: وفيها يصف طغيان العباسيين وضلالهم فى الفتك بالعلويين واستهتاكهم وضعفهم إلى حدٍّ استباح لنفسه معه أن يقول «لرجالهم»: فإنه فى هذه القصيدة يُشرف على ضعةٍ من مرقب عال يرفع إليه القارئ بقوة روحه وسمو نظرته. وهو يشعرك بمطلع القصيدة أن قتل أبى الحسين هذا قد أثار مسألة تقتضى الفصل، ويرسم لك طريقى الضلال والواجب، ويهيج إحساسك الأدبى بالتمرد على الانتكاس الخلقى الذى أنطقه بهذه القصيدة. ولولا أن المقام يضيق عن ذلك لأوردنا القصيدة كلها على طولها ولتناولناها بيتا بيتا! وغير منكور أن الموضوع الجدى يسمو بنفسه ويساعد الشاعر الذى يتناوله. وليس الحال كذلك حين يعالج الشاعر الفكاهةَ. وأنت حين تجدُّ قد لا يشق عليك أن تحلِّق، ولكنك حين تجنح إلى الفكاهة لا يعود من السهل أن تحافظ على الاستواء الواجب، وأن تتقى الهبوط، وتجنب الإهاجة، وتكبح عواطفك، وترخى العنان لعقلك وأن تشيع الجمال فى موضوعك لتسد نقصه وتملأ فراغه وتعوض تفهه.. ومن هنا قالوا إن غاية الفكاهة هى أقصى ما هو مقدور للإنسان. ويعنون بذلك التحررَ من تأثير العواطف العنيفة، والقدرةَ على التأمل فى سكون واطمئنان، والنظر إلى ما يقع، لا إلى القدر أو الحظ أو الاتفاق، ومنح الحماقات والسخافات والمتناقضات ابتسامةً رضية.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/20/
الطبيعة عند القدماء والمحدثين
«وإذا نزلت بأحدنا نازلةٌ عفَّرت وجهه، خذلته المدنيةُ وعجزت عن الترفيه عنه، فيميل عنها ويستلقى «كالطفل» على صدر الطبيعة الحنَّان، علها تنسيه بثه أو تسلب الذكرى ألمها ولذعَها. ومن ذا الذى لم يشتق، وقد تأوبته الهموم، أن يجتلى وجه أمنا جميعًا، وأن يمتهد الجبال، أو يرقب قطع الغمام تسبح فى الفضاء، أو يصغى إلى تهزم الأمواج وتكسرها على الشطآن — عسى تمتزج حياته بحياتها — وأن يحس دقات قلبها الأبدى ونبض عروقها البطىء وأن ينسى أشجانَه فى أشجان الطبيعة، ويدع شخصيته تغيب فى حركتها الدائمة العظيمة التى لا يدركها حس ولا يتولاها شعور، وأن يفتى فيما منه كنا وإليه نعود». وكنْ ممن تعجبهم أو لا تعجبهم «دقات قلب» الطبيعة و«نبض عروقها» ووصف صدرها «بالحنان» فإن كلام الرجل صادق على علاته وليس من شك فى أن المرء تمر به ساعاتٌ تحرك فيها الطبيعةُ نفسه وتُجيشها، وأن هذا قد لا يكون سببه أنها تُدخل السرور على نفسه أو تقنع عقله وذوقه، فقد يكون الأمر على خلاف ذلك ونقيضه. ولسنا نعنى بالطبيعة الجبالَ والأودية والسماء والبحار وحدها بل الأطفالَ أيضًا والريف وآثار العصور الأولى، أو بعبارة أعم وأشمل: البساطة التى لم يعْدُ عليها الفن، أو الوجود فى ذاته وبكل حريته. كذلك تصطفق أمواجُ العواطف فى صدورنا حين نشهد الأطفال، وأحسب أن ليس هذا لأنا نصوب إليهم، ونلقى عليهم، نظرة من سماء قوتنا ونضوجنا! أو لأن العطف يدركنا عليهم، والمرئية تشيع فى نفوسنا لهم، بل لأنا نرفع، إلى استعدادهم وطهرهم، نظرنا من أعمق أعمادق ضعفنا المرتبط بما صرنا إليه من حالة التحديد، فإن الطفل كله استعداد، أما الرجل فمعنى تام، والأول قوة حرة نقية، وهذه مغلولة مشوبة مرنَّقة. ولا نحتاج إلى أن نقول إن هذا الإحساس الذى يخالجنا حين نجتلى الطبيعة ونتأمل بساطتها لا دخل فيه للشعور الفنى ولا للأشياء نفسها، إذ ماذا فى زهرة أو حجر أو عصفور يغرد؟ إنها ليست هى ذاتها التى تثير فى نفوسنا عواطفها، بل ما هو وراءها: أى الحياة وعملها الباطن أو الوجود الحر فى ظل سنته. ومن هنا تمثل الطبيعة طفولتنا الذاهبة الحبيبة إلينا العزيزة علينا أبدًا. وكالأطفال، الرجالُ الذين يظلون، على الرغم من نضوجهم واكتمالهم، أطفالى القلوب أغرارًا يفكرون أو يعملون على نحو بسيط ساذج فى هذه الحياة المكظوظة بالتكلف. وينسون أنهم فى عالم فاسد موبوء. ويذيعون حولهم كأنفاس الرياض، وينفثون الشجاعة والثقة والقوة، ويضرمون فى الأفئدة ما تخمده عواطف الحياة. ولكن القدماء كانوا يتوجهون إلى الطبيعة بروح غير روحنا نحن أبناء المدنية. فقد كانوا يعيشون فى ظلها، وكانت لذلك أساليب تفكيرهم وتصورهم وإحساسهم، أقرب إلى بساطتها منا نحن الذين لم يبق لنا من بساطتها، إلا الطفولة. ولهذا كان شعرهم مرآة يجتلى فى صقالها هذا التقارب، أو إن شئت فقل التطابق. وكان شعراؤهم أدق منا وأعظم أمانة فى وصف الطبيعة. وقد لا نبالغ إذا قلنا إنهم لم يكونوا يمنحونها من عنايتهم أكثر مما يمنحون غيرها، أو إنهم لم يكونوا يفرقون بينها — أى بين الموجود بذاته — وبين ما هو مدين بوجوده لإرادة الإنسان وفنه من مثل سيف أو درع أو سهم. هذه وتلك كلها كانت سواء لا تستغرق نتيجة الفن من التفاتهم أقلَّ مما تستغرق الشجرة أو البحيرة أو الرعد. ولعل القارئ يعجب ويحسب هذا إما خلطًا منهم وعجزًا عن التمييز، وإما خلطًا منا وتخبطًا فى التقرير. ولكن الأمر ليس فيه ما يبعث على العجب أو يغرى بإساءة الظن بهم أو بنا. فقد كانت حياتهم وحياة الطبيعة شيئًا واحدًا أو ممتزجتين. والمرء إذا ألف شيئًا لم يكن حقيقًا أن يسترعى باله أو يجتذب التفاته الخاص. ومن اعتاد أن يسكن البيوت العالية التى يعرج إليها على سلاليم، كان خليقًا ألّا يستغرب أن تكون البيوت كلها كذلك ولم ير فى هذا ما يدعو إلى طول التحدث به والعجب له. وإنما يعجب ويصدم ويحسن ما يلفته حين تطأ قدمه عتبةَ بيتٍ لا يرفعه عن الأرض سلم وليس له إلا طبقة واحدة. وقد كان الإنسان محورَ الوجود فى تلك الأزمان الغابرة، وكان أهلها يقيسون كل حياة على حياته، ولا يتصورونها إلا على مثالها. فألهوا الطبيعة وعزوا إليها مثل إرادة الإنسان وأعماله، وجردوها من صبغة الضرورة الساكنة التى تروعنا اليوم وتجذبنا. ولم يكن خيالهما يجوب أرجاء الطبيعة إلا ليتخطاها ويجاوزها إلى رواية الحياة الإنسانية ووقائعها وما يجرى فيها من الصروف والغير على تنوعها. وكانوا، عفا الله عنهم، لا يتحرجون من إطلاق العنان لخيالهم، أو لا يسعهم إلا ذلك، فلا يأخذون عليه مذهبه أو يحولون دون متوجهه خوفًا من الزلل وإشفاقًا من العثار، وكانوا من البساطة بحيت يصدق الواحد منهم ما يخترعه خياله، ومن السذاجة بحيث يقيسون — كما أسلفنا — حياة الوجود على حياة الحيوان ويتوهمونها قائمة مثل حياتهم على التناسل ويعزون إليها من المظاهر شبه ما يجتلون فى معيشتهم، ولا ينزهونها عما يقع لهم من الحالات. ولسنا اليوٍم كذلك. وإنَّا لأسمى من الأقدمين مداركَ، وأوسعُ آفاقا وأعمق إجلالا للطبيعة وأسمى نظرًا إليها وأشد تعلقًا بها وأقدر على إحساسها والتفطن إليها وإدراك حقيقتها والتأثر بظواهرها. لأنا لم نعد نجتلبها فى الإنسان أو نواجه بساطتها إلا خارج الدائرة البشرية، إذ كنا قد صرنا أقل من الأقدمين تطابقًا مع الطبيعة، وأشد بعدًا عنها، ومعارضة لها فى أساليب حياتنا وعلاقاتنا وآدابنا. فهل عجيب بعد هذا، إذا استيقظت فى نفس أحدنا غريزةُ الصدق والبساطة، أن يصبو إلى الطفولة ويحن إلى سذاجتها وهى كل ما بقى لنا من بساطة الطبيعة؟ وكان قوام الحياة فى العصور الأولى الإحساس، لا الفكر ولا الفن، حتى أديانهم وعقائدهم كانت مما أنتجته الروح الساذجة والخيال المرح، ولم تكن عيونهم تخطئ الطبيعة فى الإنسان، فلم يدهشوا لها ولم ترعهم. وكانوا أعمق منا إحساسًا وأقوى شعورًا بإنسانيتهم فتعلقوا بها وأدنوا منها كل ما عداها. وأين نحن من هذا الإحساس؟ أترانا نعانى إحساسًا ألحَّ من السخط على ما جربناه من الحياة، والرغبة فى الفرار من جثومها على الصدر وأخذها بالمخنق؟ ألم نعد كالمريض الذى يشتاق الصحة؟ أما هم فكانوا أصحاء معافين فى أبدانهم وأرواحهم فلم يعانوا لحاجة الحنين إلى الصحة والنزاع إلى العافية. «هنا سالت صورُ الكون الهيولية وذابت ذرات الأثير، هنا اجتمعت بلابل أرفيوس لتعيد ذكرى أوريديس ذات القلب الكسير، هنا تنهدت العطورُ تنهداتها الغرامية وتحولت الورود إلى أشعة سحرية، هنا اغتسل قوس قزح فترك فى الماء من ألوانه ألحانًا فضية، ومن دماء الأحلام المتجمدة استخرج قوس قزح ألوانه السرمدية، هنا بعث الأفق بأسراره إلى الأرض مع خيوط من الأثير ذهبية، هنا نامت الأشباح بين أجفان بنات المياه فامتزج النور بالظلام وتلاشت اليقظة بالمنام، هنا ناحت حمائم الشعر وغنت أطيار الأنغام، هنا لثمات النسيم شوق وهيام، ومداعبة الموجة للموجة تبادل نظرة وابتسام، وجمود الشاطئ حقلأ على فتور الليالى ومعاكسات الأيام، هنا ارتعاش الأوراق على الغصون تحية همت من مقل الكواكب وسلام، وتمايل الأفنان ودلالها نجوى ملك الوحى والإلهام، هنا ليلة أنوار وفجر ظلام، وألغاز ملامس وألوان وأنغام، حينما يمر الفجر على قمم الجبال يرى صورته فى هذه المرآة البلورية — يرى رمز الشبيبة مع مايتبعها من الامال النضرة كالأزهار، والميول المتنقلة كالأطيار، ثم يأتى الغروب ساكبا فى أعماقها مرارة أحزانه، مع ما يرافقها من النظرات المتحولة، والابتسامات المتغيبة، والجباه الكئيبة، والشفاه المتحركة بالصلوات، الساكنة بالتأملات». ولو رجل من عصر هومر، أو قبله، عرض له ذكر هذا النهر، لما ساورته كلُّ هذه الخيالات، ولا أحس الدافع إلىِ الاستقصاء، كالخائف أن يفوته شىء، ولا أخذته هذه الرقة! ولما ألقى إليك إلا الكلمة أو الجملة بسيطةً مشتعلة بحرارة الإلهام، وفى رزانة وتؤدة، ولكان الأرجح فى الاحتمال ألّا يزيد على أن يقول: «نهر الصفا الذى يجرى عند سفح الجبل الفلانى». وسنزيد هذا توضيحًا ونمثل له من الشعر القديم والحديث.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/21/
القدماء والمحدَثون
البساطة من مظاهر الصحة والاستقامة فى الإحساس والنظر. خذ لذلك مثلًا: طفل يسمع من أبيه أن جاره، فلانًا، أشفى على الموت جوعًا، فلا يكاد يعلم ذلك حتى يعمد إلى مال أبيه فيقبض منه قبضة ويذهب بها إلى الجار المتضوّر. فهذه بساطة فى الإحساس، تنم عن صحة فى الطبيعة، وسلامة فى الفطرة، واستقامة فى النظر، لأن الطفل هنا لم يتمثل لخاطره سوى أمرين: بؤس الجار، وأسرع طريقة لإنقاذه من ميتة الجوع الشنيعة، ولم يخطر له أن فى هذه الدنيا شيئًا اسمه حق الملك، وأن هذا الحق ليس قاتما على الطبيعة وحدها، وأنه يسمح بأن يموت من شاء جوعًا، على حين ينعم جاره بالتخمة …! وقد يكون فيما أتاه هذا الصبى ما يُسخط أباه، ويثير ثاثرته. ولكن الأب على الرغم من غضبه وحزنه على ماله، لا يملك إلا الإعجاب بابنه، وإكبار مروءف، وصدق عاطفته وغرارتها، وإلا الشعور بعجزه عن إقناعه بأن فى عمله هذا عيبًا أو خطأ أو منكرًا. كذلك عظماء الدنيا يمتازون بالبساطة، ولا يعرفون هذه الأصول المستحدثة التى هى كالإسناد للضعف. وهم كالأطفال فى اعتدال تواضعهم فى غير ذلة، وفى بعدهم عن أدب الرياء، وبراءتهم من المكر والدهاء، وفى إخلاصهم لطبيعتهم وميولهم، وفى جهلهم سرَّ نفوسهم، وفى اجترائهم على الحياة أو انتفاء القلق عنهم، إذ لا علم لهم بمخاوف الطريق الذى تدفعهم الطبيعة فيه. والبساطة فى أسلوب التفكير، تؤدى لا محالة — كما لا يخفى — إلى البساطة فى العبارة. ولست بواجد فى عظماء الأدب وفحولتهم تلك العناية التى يتحراه! العلماء، لاجتناب الأخطاء ولتصفية الألفاظ والمعانى، بسبكها فى نار المنطق والنحو، وملاحظة القارئ التفكير فيه حتى لايصدمه أو يتعبه شىء. كلا! لا شىء من هذا، وإنما يلقى إليك المطبوع ما يخطر له فى عبارة حرة قوية، فلا تكاد ترى الرمز الذى وضعه لمعناه، وإنما تبصر أو تحس المعنى عاريًا سافرًا، لا يطويه شىء، ولا يحجب حسنه أو قوته عن عقلك وقلبك حجابٌ من المّكلف والأناقة. والاَن فلنسق لك الأمثال لتوضيح ما نعنى. وسنورد أولها من هومر، إذ كان أقدم من نعرف ممن انحدر إلينا كلامهم أو شىء منه. وهنا يبغى أن ننبه القارئ إلى أننا لسنا فى مقام المفاضلة بين قديم ومحدث، أو غربى وشرقى، فما إلى شىء من هذا نقصد، وإنما غايتنا أن نبين بعض ما يختلف فيه قديم عن حديث، من حيت الروح ووجهة النظر، وأسلوب التناول ليس إلا. ولم أكن أطيق صبرًا على هومر فى أول عهدى بالأدب، وكان ينفرنى منه، كلما تناولته، جفاؤه، وأنه يقف من موضوعه موقف القصاص أو الراوية الذى لا يعنيه مما يحكى شىء، وأنه يتريث، أو يمسك، حيت أحس الحاجة إلى الانطلاق، أو يمضى على سننه، حين يطيب لى أن أقف أفكر وأعجب، وأنه لا يظهر فى شعره، بل يتوارى وراءه، ولا يحدثنا عن نفسه أو يجلوها علينا، فكأن شعره نبت فى ثرى الأدب بفعل الجو ولم يجر به لسانُ إنسان! «فأنا مضيفك الأمين فى أرجوس، وكذلك أنت مضيفى فى ليسيا، حين أزور تلك البلاد. ولنتحاش أن تلتقى رماحُنا فى ساحة الحرب. أوَ ليس ثم من أبناء طروادة من أقتلهم غيرك حين يرسلهم إلىّ إلهٌ وتبلغنيهم خطاى؟ وأنت يا جلوكوس، أليس يكفيك من تلقى من الآشيين لتضحى بهم حين تشاء؟ فلنتبادل سلاحنا ليرى الناس كذلك أننا نباهى بأن كنا ضيوفًا ومضيفين على عهد آبائنا». كذلك تكلما ثم نزلا عن مركبيهما، وتصافحا وأقسما على الولاء والإخاء. يقرأ أحدنا هذا فيود لو تمهل هنا هنيهة ليطوى الكتاب ويتدبر ويقلب خواطره ويَثنيها إلى نفسه وعصره، ولكن هومر جليد يسوق قصصه ولا يعلق عليها، ولا يكاد يفرغ من هذه الحادثة حتى يخبرك فى بساطة، «أن ابن ساترن» (زحل) أعمى جلوكوس الذى تبادل السلاح مع ديوميد وأعطاه أسلحة ذهبية تساوى ماتة ثور وأخذ منه سلاحًا لا يساوى إلا تسعة ثيران»؟! اقرأ بعد هذا قصة الفارسين المتزاحمين على قلب «أنجليكا» كما رواها «أريوستو» فى الفصل الأول من «أورلندو فيور بوزو»، وهى حكاية ليست دون حكاية هومر دلالة على النخوة ونبل النفس وشرف الفروسية. وخلاصتها أن الفارسين فيرجوس، وهو مغربى مسلم، ورينالدو المسيحى، كانا متنافسين على فتاة، اسمها أنجليكا، وكانت قد فرت، فبعد أن اقتتلا ما شاءا ومزق كل منهما جلد مزاحمه ما استطاع، تصافحا وامتطيا جوادًا واحدًا وذهبا يعدوان به فى إثر أنجليكا. «ما أنبل الفروسية القديمة وأكرم عاداتها! إن هذين المتزاحمين كان الدين يفصلهما وكان كيانُهما يكابد مرارةَ الألم الناشئ عن عراك قاسِ، فتأملهما الآن يركبان معًا فى طريق مظلم معوج دون أن تخاَلج أحدَهما ريبة! ويعدو الجوادُ تستحثه أرجلهما الأربع حتى يبلغ بهما مفترق الطرق!». وكهومر، شكسبير إلى حد كبير، وإن فصلتهما هوة عميقة من الزمن. هذا أيضًا يتناول موضوعه كما يتناول الجراجُ المبضعَ ولا يتحرّج، بدافع من الرقة وطراوة النفس وسقم الذوق، أن يمزج، حتى فى أشجى المواقف كما فى هملت، ويمزجها بهراء مجنون كما فى رواية الملك لير. ومن من الناس يقرأ هملت ولا يستوقفه، فى فاتحة الفصل الخامس، مزاحُ حفارى القبور وهم يُعدون القبر ليتلمَّأ على أوفيليا، ويغنون ويذكرون الحب وحلاوته، والصبا ورونقه وهم يُعملون الفأس وترمون الجماجم! ويسأل هملت أحدهم: ثم يسأل هملت: كم لك فى هذه الصناعة؟ منظر قاس! ولكن الشاعر أعظم وفاءً وأصدق من أن تأخذه رقة أو تنطوى نفسه فيموه الطبيعة الإنسانية. وهذه أبيات لابن الرومى يبكى فيها أوسط أولاده الصغار. والأبيات الثلاثة الأخيرة هى المقصودة. وأخلق بغير المطبوع أن يشعر بما يكبحه عن الإعراب عن هذا الجانب من عاطفة الحزن، أو يخشى أن يوصم بالقسوة والتوحش. وابن الرومى لا يجتزئ بهذا بل يقول أيضًا إن بقاء ولديه لا يعزيه عن فقد ثالثهما ولا يسد الخلة التى أحدثها، ويعلل ذلك بقوله:
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/22/
جيئة وذهوب
الحركة مبنية على التغير، قائمة على التحول، تستطيع أن تلخص حركتها فى أنها جيئةٌ وذهوب. ولا تخش أن نركض بك بين وعوث الفلسفة ووعور ما وراء المادة، فأنا أشد حرصًا على أعناقنا أن تُدوق من أن نغامر فيها، وأعظم جهلًا بمسالكها ومخارمها ومداخلها ومخارجها من أن نفكر فى اعتسافها. وما خامرنا الطمع يومًا أن نقيس بمساطر عقولنا المحدودة هذه المجاهل اللانهائية التى يأبى اللحظ أن يُمَدَّ فيها ويستهول القلبُ أن يتعرّفها. إذن ماذا نريد أن نقول؟ لا شىء سوى أننا نجىء إلى هذا الدنيا من حيت لا نعلم، ثم نحس أننا جئنا إليها وصرنا فيها، ثم نمضى عنها ولا ندرى أننا مضينا!! وليس فى هذا شىء من الفلسفة كما ترى! وإن لم يكن تدبر هذا بأقل إرعابًا منه!! ويقول مترلنك، فيما أذكر فى بعض رواياته، إننا ننحدر إلى دنيانا هذه وفى يمين كل واحد منا حقيبة يحمل فيها المقدور له والمقضى به عليه! ويظهر أن الموكل بتحميلنا هذه الحقائب أشدُّ يقظة من أن يدع واحدًا يهبط إلى الأرض فارغ اليد! أترى لم يحاول أحدُنا أن يفلت ليجىء خالى الوفاض بادى الأنفاض كما يقولون؟ وكيف يا ترى تكون حياته إذا جاء إلى الدنيا كالصفحة البيضاء التى لم يُخط فيها حرف؟ أيبقى كالدرهم المسيح لا تتناوله أيدى الصروف، ولا يتعاقب عليه من الحياة لا خير ولا شر؟ ومن الذى يسعه أن يرسم لنفسه صورة ما قبل الحياة؟ ومن الغريب أن الإنسان فكر فيما يكون بعد الموت وتصوره على وجوه شتى، وأعياه أن يرجع البصر إلى ما كان قبل هذه الوفادة إلى دار التحول! ويذكرنى هذا قول توماس هاردى من قصيدة اسمها «ساعة السنين»: «قال الروح: إنى أستطيع أن أرد ساعة السنين فتكر عقاربها راجعةً، ولكنى لا أستطيع أن أقفها حيث تشاء.» قلت: اتفقنا على هذا. فامض بها راجعة. فإنه خير من أن أتصورها (يعنى حبيبته) ميتة! فأجابنى: «سلام!».. ونشر صورتها كما كانت فى آخر عهدى بها. ثم صارت ترجع أصغر فأصغر حتى عادت إلى يوم عرفتها أول مرة، ناضجة الصبا، ريا الشباب، فصحت: «قف! وكفى — دعها تبقَ هكذا أبدًا!». ولكنه هز رأسه: واأسفاه! لا سبيل إلى الوقوف.. فمضت تعود صيبةً فطفلة، ويتضاءل وجهها شيئًا فشيئًا، حتى صارت لا شىء كأن لم تكن! فتوجعت وقلت: «لقد كان خيرًا من هذا أن تبقى عندى ميتة! إذن لبقيتْ حيةً بذكراها. أما الآن فلا سبيل إلى ذلك». فقال فى جفوة: «إنك أنت الذى اخترتَ أن تُغير المقدور وتفسده». وأحسب أن أول جيئاتنا شرُّها! ومن ذا الذى لا يحس أن ابن الرومى إنما يعبر عما يخالجنا جميعًا حين يقول: ثم هذا البيت الصادق الرائع: «جئنا إلى هنا باكين. وإنك لتدرى أننا لا نكاد ننشق الهواء حتى نصيح: نصيح حين نولد لأننا جئنا إلى هذا المسرح الكبير للمجانين!». ولعل هذه هى الجيئة الوحيدة التى نلقى فيها الحفاوة الحارة! نهبط إلى الدنيا عرايا عاجزين باكين صارخين فى غير أدب أو رفق، فيُحتفل بنا وتزف البشائر بمقدمنا، وتترى التهنئاتُ من أجلنا، وتبذل العنايةُ بر احتنا، وتتوخى مرضاتنا. ويسام الخير من لمحاتنا، وتؤنس آيةُ الرشد من حركاتنا، ويستشف فينا العرف كما يستشف ويقدر حقين الرحيق فى العناقيد: كما يقول ابن الرومى: ثم لا حفاوة ولا احتفال بعد ذلك! أو لا حرارة فى الحفاوة على الأصح. وإنه لمن سوء الأدب، ولا شك! أن نستهل حياتنا بكل هذا الصخب، وأن نعلن مقدمنا بمثل هذه الضوضاء! ولكن عذرنا أن هذا أول عهدنا بالمسرح، وأننا أغرار تعوزنا الدربةُ وينقصنا التهذيب. وإذا كنا لا نحسن الوفادةَ ولا نتحرى آداب الدخول، فحسبنا أننا نكفر عن ذلك حين نخرج، ونعنى بأن يكون خروجنا لا شذوذ فيه، وأن يكون على أسلوب يقبله الذوق وتقرّه الاَداب. وقد يدَّعى بعضنا العجب ممن يُعدون لذهابهم عدته، ويجمعون له أهبته ويحرصون على ما يكلف من نفقة يدخرونها لذلك اليوم الذى يرحلون فيه، ويطلبون أن يكون تشييعهم على أسلوب معين يرسمونه. غير أن الأمر لا محل فيه للعجب، وما يدرينا؟ لعلنا نريد أن نتفادى أن يقال عنا إنه ليس أجدر بنا ولا أمثل من هذا الرحيل! وما أكثر ما نزعم أن الأمر لا يعنينا، وأننا لا نكترث له، وأننا سنذهب، حين يأتى ذلك، بقدم ثابتة. وقد نحب أن نمسح أعشار قلوبنا بالسلوان فنقول إن الموت مسألة تافهة، وإننا نلقى إليه الحياة كما يلقى أحدنا أعقاب السجائر! وإننا مللنا أن نظل ندفئ أيدينا أمام موقد الحياة، وإننا متأهبون للرحيل وسنلبس له أبهى الحلل ونلف فى أزهى الحرائر وأغلاها، وستوضع على أجداثنا الرياحين والأزاهير، ويذكرنا الناس على حين ننساهم ونذهل عنهم! وهذه صفة تميز بها الإنسانُ عن سائر الحيوان، ونعنى قدرته على أن يدعى أنه لا يكترث للموت! وقد كان الرئيس ابن سينا رحمه الله يقول: «اللهم لا أسألك حياةً طويلة ولكن أسألك حياة عريضة». وأحسبها الكلمة الوحيدة التى لا يعيى المرءَ أن يفهمها، من كل ما سح به ذهنه، على وجه من الوجوه. وأفهم منها الجاه والاستغناء وتوافر الوسائل لسد الحاجات وإرضاء الشهوات، أو أفهم منها أن يتيسر للمرء أن يملأ الأجل القصير بالجلائل فكأنه عاش بأعماله وبما أحس وأدرك وتفطن إليه وحصله، أجيالا كثيرة لا سنوات قليلة. وعلى أيهما فالدعاء مما تتصاعد به أنفاس الناس جميعًا، ولست أعرف ما هو أحكم منه. ذلك أن الحياة منتهية على كل حال طالت أم قصرت. وليس أسفُ المعمِّر على فراقها بأقل من أسف الشاب، وإذ كان الأسف واحدًا، والأجل إلى انتهاء، وكل تعز أكذوبة وباطل ومحال، فخير فى الجملة أن تقصر مع الامتلاء من أن تطول مع الفراغ! نعمِ من الاكاذيب ومغالطة النفس أن يدعى أحدٌ الزهد فى الحياة والشوق إلى الرحيل، وأن يتظاهر بالارتياح إلى ذكره بعد ذهابه. حتى التيقن من خلود الذكر ليس فيه سلوان. وتعجبنى قصيدة لتوماس هاردى أيضا يتهكم فيها ويسمخر، عنوانها «أتحفر فوق قبرى؟». وهذا بعضها (والسائل هنا سيدة دفينة). – «أهذا أنت يا حبيبى تحفر فوق قبرى لتغرس غصنًا؟». – «كلا! لقد ذهب أمس وتزوج فتاة صبيحة ربيبة غنى، وقال (عنك) إنها لا يمكن أن يسوءها الاَن ألّا أكون وفيّا!». – «إذن من يحفر فوق قبرى؟ أهو أدنى أقربائى؟». – «كلا! إنهم يجلسون وتقولون: أى جدوى من غرس الأزهار؟ إن العناية بقبرها لا تخلص روحها من شباك الموت». – «ولكن من الذى يحفر فوق قبرى؟ أهو عدوة لى؟». – «كلا! إنها لما سمعت أنك اجتزت الباب الذى يوصد على كل حى، عاجلًا أو اجلًا، لم تركِ بعد ذلك أهلًا للبغض ولم تعد تعبأ بك أو بمرقدك». – «إذن من الذى يحفر فوق قبرى؟ — خبرنى فإنى لم أحسن التخمين!». – «إنه أنا يا سيدتى العزيزة! كلبك الصغير الذى لا يزال يعيش قريبًا منك، وأرجو ألّا تكون حركاتى تزعجك». – آه! نعم أنت تحفر فوق قبرى!.. كيف لم يخطر لى أنى خلفت قلبا وفيا ورائى؟ أى إحساس فى الإنسان يضارع وفاء الكلب؟!». – «سيدتى لقد حفرت فوق قبرك لأدفن عظمةً تكون ذخرًا لى إذا جعت وأنا أطوف بقرب هذا المكان.. وإنى لآسف، ولكنى نسيت أن هذا مرقدك!!».
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/23/
كلمة فى الخيال
كان بودنا لو استطعنا فى هذا الفصل أن نعتاض من كلمة «الخيال» لفظًا اخر لم يخرجه سوء الاستعمال عن معناه، ولم يحطه بحواشى أجنبية منه غريبة عنه. إذن لاسترحنا وأرحنا ولتيسر أن نقيم كل شىء على حدة، وأن ننقذ الأدب من الفوضى التى يعانيها. ولكن خلق لفظ ليس بالأمر الهين الذى يتأتى كلما أراد المرء ذلك أو تمناه. وعلى أن من فضل الله الذى يذكر ليشكر ومن رحمته بنا أن ليس فى مقدورنا أن نستحدث من الألفاظ ما نشاء لما نشاء من المعانى حين نشاء. فإنها قدرة كانت حقيقة أن تفضى إلى فوضى أعم وأشمل تتبلبل بها الألسنة ويمتنع معها التفاهمُ الذى لا معدى عنه فى حياتنا، إذ يصبح لكل واحد لسان يتكلم به، ومعجم يتناول منه لمعانيه ومقاصده. وماذا يفهم الناس من لفظ «الخيال»؟ تسمع من كثيرين قولهم: هذا خيال شاعر! ونعرف بالتجربة الطويلة أنهم يفهمون من الخيال مجافاةَ الحقاتق وتنكبَ التجارب واقتناص شوارد الأوهام والمحالات، وكأنا بهم يحسبون أن المرء على قدر بعده عن مألوف الناس وتجاربهم، يكون نصيبه من الخيال وقدرته عليه، وأن هذا التناسى للحياة وسننها ولحقائقها ولأحوالها يكلف ما لا يكلف تحريها والقناعةُ بميسورها. وهذا كله خطأ فى خطأ وجهل فوق جهل. ومن العسير أن تعالج هذه الأوهام التى قررها الجهل والعادةُ فى الأذهان وعرَّق أصولها. وقد تستطيع أن تقنع الشاب المتطلع إلى مراتب الأدباء ومنازل الشعراء بأن كتابة حوالة مالية بمائة جنيه لا تكلف الإنسان فوق ما تكلفه كتابةُ حوالة أخرى بجنيه واحد، وأن حامل الحوالة ذات الجنيه الواحد قد يجد الجنيه فى المصرف ويرجع به عنه، على حين يذهب حامل الحوالة الكبيرة فيلفيها مزيفة أو لا يجد لصاحبها وديعة أو رصيدًا أو حسابًا يأخذ منه ويذر.. نقول فى وسعك أن تقنع الشاب بهذا ثم تحاول أن تخطو به خطوة أخرى وأن تبين له، قياسًا على هذا المثل الذى تسوقه، أنه ليس بصحيح أن الشطط الذى تحسبه خيالًا يكون أدل على القدرة، وأن من يجيئك، مثلًا، بوصف بستان يغاير كل ما ألفه الناس وعهدوه فى البساتين وارتبطت به آراؤهم وخوالجهم، ليس من اللازمِ أن يكون أشعرَ وأقدر على التخيل ممن لا يعدو أن يسوق إليك وصفَا ساذجًا لا ينكره الحس ولا ينزعج من جرائه العقل — تعالج أن تبين له هذا وتشرحه فيعود إلى رأس أوهامه التى حشا بها رأسه معلموه، ومطالعاته للكلام الزائغ الذى كلف به من نسميهم نحن أهل المذهب القديم. كيف إذن نميط هذه الأوهام وننفى أذاها عن العقول ليتنزه الأدب عنها؟ من سوء الحظ أننا مضطرون فى مصر إلى أن نقيم الدليل حتى على البدائه، وأننا لو خلونا من هذا التكليف وارتفعت عنا مؤونته لاستطعنا أن نضرب بسهم فى ميدان الأدب وأن يكون لنا فيه عملٌ أجل وأضخم، ولكن البلاء فى مصر أنك تجد فيها أناسًا قليلين رفعتهم تربيتهم إلى مراتب الغربيين ونقلهم تهذيبهم إلى مستواهم، على حين ترتع بقية الأمة وتمرج فى بحبوحة الأمية. وعلى هؤلاء القليلين يقع عبءُ التهذيب العام ونشره! ومتى كانت الحاجة هى إلى المكاتب الأولية فمن الخرق أن تبدأ نشرَ التعليم بإقامة الجامعات! وليس هذا سوى مثل.. كذلك نحن. علينا أن نُسفَّ دائمًا إلى البدائه وأن نقص أجنحتنا حتى لا نحلق فى سماء الأدب حيث لا يرانا أحد ولا يحسنا ديَّار! ولا مفر لنا حين نكتب فى الخيال من أن ننحدر عن القمم السامقة إلى السهول المنبسطة التى تأخذها العين بنظرة، وأن نقرر أن الإنسان عاجز عن أن يتخيل ما لم ير ولم يعرف، وأن القدرة الفنية ليست فى الإغراب وتكلف المحال والإتيان بما لا يكون، بل فى حسن اختيار التفاصيل المميزة كما يقول «تين» فى فلسفة الفن، وإنه من أفحش الغلط أن يتوهم المرء أن إلفه الشىء يجعل تناوله إسفافًا ونبذه سموّا. فإن الأشياء موجودة نراها ونحسها كل يوم من أيام حياتنا، والحقائق معروضة على أذهاننا وقلوبنا، غير أن كونها كذلك ليس بمستلزم أن نكون قد انتفعنا بشهودنا إياها ووعيناها وأحطنا بها، وأكثرنا لا يفكر فيها ولا يلتفت إليها أو يعنى بها. وقل من بيننا من يُحضر إلى ذهنه صورة شىء مما يحيا بينه من المشاهد والمناظر. ولما كان الذهن بطبيعته يعييه إلى حد كبير أن يجسِّد لنفسه صورة منظر بجملته وتفاصيله كما هو كائن فى الطبيعة أو الواقع، فإن الأمر يحتاج إلى غريزة دقيقة التمييز يستهدى بها الذهن فى انتقاء التفاصيل وضم بعضها إلى بعض وترتيبها. وما على القارئ إلا أن يجرب! هذه هى الدنيا أمامه، وفيها ما هو أقرب إليه وأمس به وما هو أعرف به وأدرى، فليتناول ما يظن أنه أسهل عليه وأقل مؤونة وليصوره لنفسه وليعرض عليها كل جوانبه وليحاول الإحاطة والاستقصاءَ ليعرف أى عسر يكابد، وليدرك أن تناول المألوف ليس فيه إسفاف، وأن المألوفات، وإن كانت فى طريق كل أحد، لا يفطن إليها كل ذهن ولا تلتقطها كل عين، وليصدق قول «جورج إيليوت» أن بعض الناس حين يرون الشاعر يسبح بين الضباب يحسبون أن مجرد ذهابه فى الجو يُكسبه جلالًا، ويتوهمون أنه صار أقرب إلى السماء لأنه نأى عن الأرض! وهى ملاحظة فى الصميم من حبة الصواب، فما دنا هذا الطائر من السماء ولكن بعُد عن الأرض، وما اكتحلت عينه بقليل ولا كثير بين أجواز السموات بل غابت عن عينه الأرض واستسر كل ما فيها عنه، فلا هو وصل إلى شىء وفاته كل شىء! غير أن الناس يرون الكاتب أو الشاعر يبتّ كل ما يربطه بحقائق الحياة ويلقى إليهم كلامًا شاردًا مما أملته الأوهام المعربدة فيحسبونه سما إلى منزلة من القدرة الفلسفية لا تدرك! أتقول حقائق الحياة؟ إذن فما هذه الشياطين وعرائس البحر والغاب وما إليها مما ابتدعه خيال الغربيين ووصفوه فى شعرهم؟ من أين جاءوا بهاتيك المحالات؟ وكيف عرفوها ووصفوها ولا خير لأحد من أبناء الدنيا بها ولا عهد؟ ولمن يقوم بنفسه هذا الاعتراض بعض العذر، فلعله لا يدرى أن هذه الشخصيات ليست مخلوقة خلقًا وإنما هى، على بعدها وغرابتها، مما استحدثه الخيال النشيط من مألوف بنات الدنيا ولصوصها: فهى أسماء مستعارةٌ لشخصياتٍ مكوَّنة من متفرق ما يلحظ فى ناس هذه الدنيا: وهو خيالى، ولكنه محلق فى سماء الشعر بجناحين من الحقيقة. وليست قدرة الشاعر هنا فى أنه أوجد شيئًا من العدم، فذاك محال، ولكنما قدرته فى أنه استطاع أن يكون صورةً من أشتات صورٍ وأن يُحضر الصورةَ المؤلفة إلى ذهنه إحضارًا واضحًا وأن يمثلها لنا كما ينبغى أن تكون. وليس من فضل فى أن تأتى إلىّ بمعان أو صور كالزئبق لا تتمكن اليد منه، ولكن المزية كل المزية أن تجىء بما يحتمل النقد الصامت للتجربة العامة، وأن تسوق ما لا يضيره بل يزيده إشراقًا وصحة أن تواجهه بالحقائق. ونورد لك مثلًا لما نريد: قول شاعر قديم لا يحضرنى اسمه: فأين فيمن عرفنا وعرف أسلافنا وسيعرف من يأتى بعدنا، إنسان يبكى بعين ولا يبكى بالأخرى؟ ودرجات الحزن لا تُقاس بهذا، حتى إذا أمكن، فيكون المرء حزينا إذا بكت له عين واحدة، وحزينًا جدّا إذا فاضت كلتا عينيه بالدموع! ومبلغ الفجيعة لا يدل عليه هذا التكلف للمحال، وما كانت الدموع مظهر الشجى الوحيد والدليل الفذ عليه، حتى يشط القائل هذا الشطط كله ويخرج عن حدود الطبيعة. ومن شأن الحزن العميق أن يصرف النفس عن التصنع فضلًا عن هذا الإفحاش. فماذا صنج شاعرنا؟ هذا إلى أنه لم يأت بشىء معقول فى ذاته ولا مع التمحل والتكلف له. وأقنعنا أنه كاذب فيما زعم من الحزن والأسى وما أراد أن ينحل نفسه من صفات الرجولة. إذ كان لا ينافى الرجولة أن يبكى المرء، ولا يثبتها أن تجمد العين، لأن جمود العين قد يكون مرجعه إلى البلادة فى الإحساس لا إلى القدرة على ضبط النفس وحكمها. فمن حيت نظرت إلى هذا البيت لم تجد فيه إلا ما يستحق من أجله ألّا يحسب فى الشعر وإن كان موزونًا مقفى مع ما سبقه وتلاه. ولا يتعجل القارئ فيحسب أنا من أنصار «الريالزم» فى الشعر، أى ما يمكن أن نسميه المذهب الحسى، أو تناول الشىء كما هو واقع تحت الحس، ولكى نوضح هذا نقول كلمة صغيرة فى موضوعه. الأصل فى الشعر وسائر الفنون الأدبية على اختلاف أنواعها وتباين مراميها وغاياتها، النظر بمعناه الشامل المحيط.. وعلى قدر اختلاف النظر يكون اختلاف المعانى والأغراض. والشاعر لا يسعه إلا أن يصور ما «يرى» بالمعنى الأوسع، ما يراه الواحد قد لا يراه الآخر، وربما أخذت عين الشاعر منظرًا فأبدع الخيال تنويقه، وأحسن ما شاء تفويقه وتزويقه. واعلم أن رؤية الشىء فى أجل مظاهره وأسمى مجاليه وأروع حالاته هى ما يعبر عنه «بالأيديالزم»، وعلى العكس من ذلك «الريالزم». ومن الضرب الأول قول البحترى يصف الربيع: والأبيات مشهورة، ومنه أيضًا قصيدته البديعة فى إيوان كسرى وفيها يقول: أما الضرب الثانى — أى الريالزم — فإن من الصعب العسير التمثيل له، لأن الخيال لا محالةَ عامل فى كل ما يزعم الزاعمون أنهم أمناء فى تصويره على حاله، شعروا بذلك أم لم يشعروا. والحقيقة التى لا مساغ للريب فيها عندى هى أن هذا المذهب من الأكاذيب، فإنهم يقولون إن الغاية منه هى تصوير الشىء على حقيقته، وتلك لعمرى غاية كل شاعر وكاتب ومصور كائنًا من كان هذا الشاعر أو المصور، وما يستطيع أحد أن يعدل عن هذه الغاية، لأن العدول عنها يخالف كل قوانين العقل الإنسانى، فإن الأصل فى الفنون قاطبة، النظر كما أسلفنا، فإذا ابتكر الإنسان شيئًا فإنما يؤلف من أشتات الصور العالقة بذاكرته، وهذه الصور إنما حصلت بالنظر، فإذا رأيت شاعرًا أقرب إلى الحقائق من شاعر فلا تحسب أن هذا إنما كان هكذا لأن الأول مذهبه حسى والثانى تخيلى، فإن شيئًا من هذا لم يكن، وإنما السبب أن هذا أقدر من ذاك وأقوى ملاحظة. وهذا الذى نراه من الاختلاف فى المناهج بين شاعر وشاعر راجع إلى الاختلاف بين شخصيتيهما: هذا يستمد البواعث على الابتكار من ظواهر الطبيعة، وذاك يستمدها من نفسه.
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/24/
كلمة عن ابن الرومى وحياته
وجدتُ أكثر من ترجم ابن الرومى من الكتاب المتقدمين لم يستقصوا أخباره ولا توخوا الإحاطةَ بها أو ترتيب ما أثروا منها. ومن أين لكاتب أن يوفى القول فيه وكل ما انتهى إلينا لا يبرد الغلة ولا يسد الحاجة؟ وكيف نقتفى معالم سيرته، ونتتبع نمو عقله، ونستقرى أطوار نفسه، ونحن لا نعلم أى أخباره أسبق أو أصح ولا نعرف عن كثير ممن اتصل بهم وصاحبهم وتقلب بينهم إلا أنهم عاشوا وماتوا كسائر الناس؟ ورأيت، كذلك، المؤرخين السابقين رحمهم الله، قد أتحفونا بطائفة غير صالحة! من نوادره وفضائله ورذائله، رواها بعضهم عن بعض بالتواتر، كما هو مألوف العرب وديدنهم، وهو مذهب أشبه بالعمليات الحسابية منه بالتحليل الأخلاقى، وليس فيه تصوير للنفس ولكنه قياس لطول الصورة وعرضها. وشتان بين أن تجمع شتيت الصفات ثم تسردها واحدة واحدة، وبين أن ترسم الخلق الحادثَ من تفاعلها واصطكاك بعضها ببعض! فإن مما لا شبهة فيه أن النفس الإنسانية ليست كخزانة الكتب تُرى فيها الفضائلُ والرذائل مرصوفةً مرتبة لا تعدو واحدة مكانها ولا تتجاوزه إلى سواه، وإنما هى ميدان لتلاقيها وتفاعلها، وعالم صغير تتصادم فيه الغرائز والملكات، تقتتل على الحياة والتغلب كما يحترب الناس فى هذا العالم الكبير ويتنازعون البقاء والغلبة فيما بينهم، وبحر تتسرَّب فيه الطبائع بعضها فى خلال بعض كما تتسرَّب الموجة فى خلال الموجة وتغيب فى أثنائها. الحقيقة أن كتّاب العرب ومؤرخيهم قصّروا أشد التقصير وأسوأه فى ترجمة شعرائهم وكتابهم وعلمائهم وعظماء رجالهم، ولم ينصبوا أنفسهم فى هذا المعنى على كثرة ما ألفوا وصنفوا، ولا جاءوا بشىء يضارع ما عند أمم الغرب منه. تأمل «حيوات الشعراء» لـ«جونسون» مثلًا، أو تاريخ جونسون لـ«بوزويل»، وقس إليه تراجم ابن خلكان وأشباهه، وانظر ما بين هذا وذاك من البون. وإنك لتقرأ للمؤرِّخ من العرب السفر الضخم ذا الأجزاء العديدة والحواشى والتعاليق، وتعانى فى تصفحه من البرح والعنت ما تعانى، ثم لا تظفر إلا بأشياء لا تستحق ما عالجتَ فى سبيلها من الشدة، وبذلت من الجهد، وأنفقت فى طلبها من الوقت والمال والعافية، ولا تجد إلا قصصا وأخبارا لا ترى عليها طابعَ العقل وميسم التفكير، كأن لم يكتبها إنسانٌ وهبه الله عقلا وفهما وفؤادا يتذكر وذهنا يتفكر وقلبا يتدبر، أو كأنما كانوا يكتبونها وهم رقود! حتى ابن خلدون الذى عاب من سبقه من المؤرخين، وفطن إلى مواضع الضعف فيهم ليس خيرًا منهم حالًا. ولسنا نقصد إلى تنقّص مؤرخى العرب، والتسميع بهم، والوقوع فيهم، وتحقير شأنهم، أو إلى تفضيل مؤرخى الفرنج عليهم والتنويه بمفاخرهم، فإن هذا ما لا يسنح لنا فى فكر. وعلى أننا لو قصدنا إلى ذلك التفضيل لا تَّسع لنا فيه نطاق المعذرة ولبرأنا العقلاء من اللائمة، فإن مما لا يخفى على أحد له أدنى معرفة أن مؤرخى العرب لم ينظروا إلا إلى الدولة دون الأمة، وإلى الحكومة دون الشعب، ولم يعنوا إلا بذكر الفتوح والحروب وتعاقب الولاة واختلاف الحكام، ولم يفطنوا إلى عظمة الشعر وجلال الأدب فطنةَ الغربيين لذلك، وهذه أسفارهم فليراجعها من شاء وليحكِّم عقله، وليتجرد من الهوى فإنه لا بد صادر عنها بآماله، وراجعٌ بالخيبة وحبوط المسعى، ولعل للعرب، بعدُ عذرًا من زمانهم وأحوال حياتهم ونحن نلوم! ••• الإنسان وجهة الإنسان، وموضع عنايته، وليس أدلّ على مدنيته واستئناسه من حبه للترجمة والتاريخ وكلفه بهما على الرغم مما يُدلى به لرد ذلك ودفعه، وأى شىء أحلى فى القلب، وأثلج للنفس، وأشرح للصدر، من أن يُساهم أحدنا شعورَ أخيه الإنسان، ويشاطره إحساسه، ويتغلغل نظره إلى قلبه، ويحيط بحركات نفسه، ويقف على ما يضطرب به جنانه، ويدور فى خاطره ويجرى فى ذهنه؟ بل أى شىء أدعى إلى طرب العقل، وأبعث على لذة الفكر ومتعة الذهن، من أن ينظر أحدنا بعين أخيه ويرى العالم كما هو باد فى مرآة عينه؟ تلك لذة لا تعادلها لذة، ومتعة أنعمْ بها من متعة.. فأما من تغيرت قلوبهم على البشر واعتقدوا للنوع البغضَ والعداوة، وطووا أحناء الصدور على الكراهية والمقت والاحتقار — أو بدوا كأنما طووها على ذلك — فلعمرى إن هذا لمظهرٌ من مظاهر حبهم للنوع وإخلاصهم له، وإنما غلبت عليهم السوداءُ واحلو لكت الدنيا فى عيونهم، وتنكرت لهم الحياة فتنكروا لها لا للناس، وان خيل غير ذلك، ثم لم يدروا كيف يجازونها بغضةً ببغضة، ومقتا بمقت، فانقلبوا على الناس إذ لم يصيبوا غيرهم ما يشفون منه غيظهم، فهم صديق فى ثياب عدو! قلنا إن من أظهر الأشياء فى الإنسان حبه للتأريخ والترجمة وكلفه بهما وإنا لا نعرف معنى أجمع لصفات المدنية ولا أدل على جماع الإنسانية، من ميل المرء إلى ذلك، وتقليبه وجوهَ الرأى له، وتصريفه أعنّة الفكر فيه، ونقول إن هذا الميل مركب فى السلائق ومركوز فى الطبائع، وإن كل إنسان مؤرخ ببعض الاعتبارات. فإن أردت دليلًا محسوسًا على ذلك فانظر فيمن حولك وتدبر ما يجرى بينهم من الكلام فى متحدثاتهم ومجالس سمرهم، أليس أكثر ما يرد على السمع منه حكايات وقصصًا وأنباءً؟ فمن ناقلِ إليك ما ترامى إليه من الأخبار، ومن مُسرٍّ إليك بذات نفسه وما لقيهَ من المحنة والبلاء، وكيف عدلت الأيام عنه ثم عطفت عليه: ومن لعب مجّان يتداعب على الناس ويركبهم بالهزل والمزاج، ويروى لكً النادرة المضحكة إثر الطريفة المستملحة، إلى آخر ذلك مما لا حاجة بنا إلى الإفاضة فيه. ثم تأمل الشعر، أليس شعورًا مترجمًا وقصة مروية، وخاطرًا مجلوّا؟ والعلوم بأنواعها، أليست مجموعة تجارب، فهى أيضًا تاريخ للعقل الإنسانى؟ وهل الحياة إلا قصة طويلة يمثل كل منا فيه! دورَه الذى خُص به وقدِّر له، ثم يحدِّت الناس به؟ والمرء مدفوع إلى ذلك بعاملين: أحدهما علمى والثانى شعرى. فأما إنه لا يزال يحاول أن يطَّلع على نفس أخيه الإنسان ويستكشفها، مسوقًا إلى ذلك بدافع علمى، فلأن الطبيعة قد اختصت كلَّ أحدٍ بمسألة من مسائل الوجود هو مطالب أن يحلها على الوجه الذى يبدو له، ولو لم يكن من ذلك إلا كيف وَفَّق بين جسمه وروحه، وكيف عالج هذا فى سبيل ذاك، وأراد ذاك على طاعة هذا، لكان ذلك حسبه دافعًا وسائقًا مستحثّا! إلا أن العامل الشعرى أقوى دفعًا وأشد حملًا للنفس وإغراء لها وحضّا، فإن هذا التنازع بين الإرادة البشرية والحاجة المادية، هو الشعر ولا شعر إلا به. وما زال العنصر الشعرى فى النفس أقوى من العنصر العلمى وأظهر، وإن كانا فى الحقيقة مظهرين مختلفين لشىء هو فى جوهره واحد … وكذلك ينظر أحدُنا بعيون الناس فتكتحل عينه بعوالم متباينة، ويشاطرهم إحساسهم، ويسد النقص فى تجاربه، فيحيا حياتهم كما يحيا حياته، وكأنَّ كل واحد مرآه مجلوةٌ — علمية شعرية — طبيعية سحرية — نود لو أتيح لنا أن نرفع ما أرسل عليها من الحجب لنرى فيه! وجوهنا، ونبصر فى صقالها نفوسنا؟ ونستبين فى نورها أغمض أسرار الضمير وأخفى طوايا الصدر … ولا يحسبن أحد أن الأمر ينتهى عند هذا القدر، ويقف عند هذا الحد، فإنه أكبر من ذلك وأعظم، والمسألة أدق وألطف. وما فى النفس ميل أعرق، ونزعة أثبت من هذه النزعة الإنسانية التاريخية، لأن الإنسان كما قدمنا قبلةُ الإنسان فى كل شىء، ومن أجل هذا تجد عنايته به شديدة، واهتمامه بآثاره كبيرًا، وإجلاله لقدرها عظيمًا. ومن أجل هذا أيضًا لا ينفك أحدنا، وهو ينظر فى قصيدة الشاعر أو رسالة الكاتب، يحاول أن يصور لنفسه روحه التى كانت تحفزه، وعقله الذى أوحى إليه، وقلبه الذى أملى عليه. ومن ذا الذى لم تُذهله عن نفسه قصيدة من الشعر حتى تجرد من نفسه وتعرّى من شخصيته وروحه وعقله؟ وأى معنى فى ظلك لهذا التجرد الوقتى؟ … بل أى متعة ألذ من هذه الغيبة وأشهى وأطيب على رغم أنوف النقاد الذين لا يفتئون يطلبون أن يتجرد المرء من إنسانيته ليتجرد من الهوى وليكون أصح حكمًا وأصدق نظرًا! كأن قيمة الشعر لا تقدر أيضًا على حسب اللذة المستفادة منه! كذب النقاد وصدق الأنسان! ولعمر النقاد لو ان قصيدة ابن الرومى التى يقول فيها: نقول لو إن هذه القصيدة الصادقة لم تكتبها يد الشاعر أو يد سواه من الناس وإنما ارتسمت حروفها على صفحة الطرس من تلقاء نفسها، ونبتت شطورها فى ثرى القرطاس بفعل الهواء وتأثير الجو كما تخضر الأرض جادتها: أكان يكون لها فى تقديرك ما لها من الواقع؟ أم كنت مبوئها أخص موضع بين غيرها من القصائد «البشرية» كما أنت اليوم صانع بها؟ كلا! وبلا نزاع! وتدبر ذلك تدبر من شأنه التوقُ إلى أن يعرف الأشياء على حقائقها، ويتغلغل إلى دقائقها، ويتجافى بنفسه عن مرتبة المقلد الذى يجرى مع الظاهر، ولا يعدو الذى يكون فى أول الخاطر، وعن منزلة المكابر الذى يخطئ كل قول ويعيب كل رأى، فإنه باب كثير المحاسن جم الفوائد يُؤنس النفس ويثلج الصدر بما يُفضى بك إليه من المعرفة ويؤديه إليك من التبيين.. أوَ ما ترى الناس يأتون فى كل عام إلى الأهرام، وما أظنها أروع جلالًا، وأبرع تكوينًا، وأفتن جمالًا، ولا أدل على القدرة من جبال الهملايا؟! ثم ألا ترى كيف تجاوز البحترىُّ جبالَ لبنان وهضبها إلى رِباع الفتح ابن خاقان فى قوله: وكيف أنه وصف الجعفرىَّ والإيوان والكامل والمتوكلية والصبيح والمليح والبزكة وغير ذلك ولم يقل بيتا فى كهف أو جبل؟ وإنما كان هذا كذلك لأن النفس تجد لذة وعزاء فى استجلاء آثار النفس. والناس عن الناس أفهم، وإليهم أصبى وأسكن، وبهم آنس وأشغف، وليس معنى هذا أن الشىء لا يروقك ويقع من قلبك إلا إذا كان صانعه اَدميّا، فإن هذا ما لا نذهب إليه أو نقول به، وإنما نعنى أن الإنسان حبيب إلى الإنسان أى إلى نفسه، وأن أكثر ما يفتنه ويستولى على لبه وهواه ما كان عن الإنسان صدره، وما تبين عليه ميسمه وأثره، وهذا ملموح فى كل حركة، وملحوظ فى كل لفظة. وما تأملتُ قط هذا الأمر إلا أثار لى التأمل واستخرج لى التفرس، غرائب لم أعرفها وعجائب لم أقف عليها، وإلا استيقنت أن الأمر كما ذكرت والحال على ما وصفت، وأن الإنسان لا يزال يتلمس الإنسان ويحاول أن يجتليه فى كل شىء، كأنما هو يستوحش الشىء إذا أحس أنه منه خلاء، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان الإنسان إنسانًا ولا كان على الدنيا طلاوة، ولا للحياة رونقٌ وحلاوةٌ، ولعمرى هل تروقنا الأرض إلا لأنها مسكننا ومثوانا، ومراحنا ومغدانا؟ وهل يملأ الروضُ عينَ مَن نظر إلا إذا أحس أن رياحينه تحييه، وحمامه يغنيه ويلهيه، وغصونه توسوس إليه، وأنه متصل بحاضره وماضيه، وبذكرياته وأمانيه؟ ولعمرى كيف الحياةُ؟ وماذا العيش إذ أنت حرمتنا هذا الإحساس الحلو والأنانية اللذيذة، وسلبتنا هذا الخلق الإنسانى والغريزة التاريخية، وذلك أصل الدين، وأصل الشعر، وأصل العلم؟! وأى شىء يدفع الناس إلى إنفادتى الوقت فى طلب التاريخ، واستنزاف الأيام فى معاناته، والتوجه إلى طلب اللغات الدارسة، والانقطاع لحل الرموز الهيروغليفية مثلًا وإيضاح مشكلها والكشف عن معانيها؟ وماذا يحمل الناس على الغوص على آداب العرب والفرس والهند واليونان والرومان؟ ولماذا يستنفدون الطاقة كلها ويعنون بترجمة هذه الاَداب من لغة إلى لغة؟ أوَ ليس حسب كل أمة ما عندها من ذلك؟ وما السر فى أن أساطير الأمم القديمة وقصص البربر والهمج ربما كانت أخلب للب، وأفتن للنفس، وأسحر للعقل من فلسفة أفلاطون وكانت وغيرهما؟ وماذا يحثث الناس ويسوقهم إلى هذا الكد والتصرف؟ أليس هو أن المرء ينبغى أن يعرف كيف كان الإنسانُ فى العصر الخالى ليعرف أى شىء هو؟ يرى سقراط، ورأيه الحق، أن غاية الفلسفة أن يحيط المرء بنفسه: وأن ذلك أحقُّ بالتقديم وأسبق فى استيجاب التعظيم، وأنه لا عرفان إلا وذلك هو السبيل إليه، ولا علم إلا وهو الدليل عليه، ولا معرفة إلا وهو مفتاحها، ولا حقيقة إلا وهو مصباحها، ولكنه أخطأ السبيل إلى هذه الغاية، وذهب فى مذاهب لا تؤدى إلى هذا العلم، وطرقٍ لا تفضى إلى هذه المعرفة، وما أضلَّه إلا حسبانه أن الإنسان ليس مظهرًا من مظاهر قوة بعينها، ولكنه فرد قائم بذاته، وروح مستقلة بنفسها منفردة عما عداها، فهو أبدًا يحاول أن يفض ختم هذا السر الإنسانى بأن يتدبر ما يجرى فى ذهنه، ويتوسم ما يحصل فى نفسه، ويحلل المعرفة إلى أصولها، ويضع لكل شىء حدّا، وما فاز من ذلك بشىء، ولا عاد إلا بالخيبة، وبقيت الحقيقة عنه مستورة، واستولى الخفاء عليها، واستمر السِّرارُ بها، حتى فطن الناس إلى هذا الغلط الذى دخل عليها، والرأى الفاسد الذى عن له بسوء الاتفاق حتى صار حجازًا بينه وبين العلم بها وسدّا دون الوصول إليها. الإنسان ليس فردًا قائمًا بنفسه، كاملًا فى ذاته، وإنما هو واحد من عشيرة وعضو من فصيلة، لا يتأتى العلم به والوقوف على أمره إلا بالقياس إلىِ أنداده وأشباهه من الناس. وقديمًا حسب الناسُ الأرض جسمًا منعزلَا لا نظير له ولا شبيه، فركبهم فى أمرها جهلٌ عظيم وخطأ فاحش، وسبقت إلى نفوسهم اعتقادات بان فسادُها لما وضح للناس أنها كوكب كبقية الكواكب. وكذلك يختلف اليوم رأينا فى الإنسان عن رأى آبائنا فيه. قد كانت كل أمة تمتهن ما عداها من الأمم وخلاها من الشعوب، وتزدريها وتستخف بها، ولا تعدها إلا فى الهمج والبربر. ومن ذلك زعم العرب أنهم أشرف الأمم. ونحن نرى فيها اليوم إخوانًا صدعت شملهم البحار، وفرقتهم اللغات، وقطعت بينهم العداوات … لهذا يعكف أحدنا على تاريخ آبائه وأجداده فيقرأ فى صفحاته آيات الحكمة الإلهية. ويعبر فى سطوره مظاهر القوة الإنسانية، واجدًا من الروح والخفة، ومن الأنس والغبطة، فى مطالعة أخبار القرون الخالية والأجيال الماضية، ما لا يجده فى أخبار العصر الحاضر.. وكما أن أحدنا، إذ تلقى المصادفة فى يده شيئًا من رسائله القديمة المهجورة، يقلّبها بادئ الأمر وهو غير حافل بها ولا ملتفت إليها، ثم لا يلبت أن يعتاده الذكر، ويلهيه ماضيه عن حاضره، فيترسل فى قراءتها بعد العجلة، ويتمهل بعد المسارعة، ويقف على كل حرف، ويستخبر كل لفظ، كأنما يستبعد أن يكون هذا خطه وتلك مقاطر قلمه، ولايصدق أن هذه الأيام مرت به، وتلك الهموم والمسرات وردت عليه، ثم تنزاح عن الماضى حجبُ الغموض، وتنتفى عنه معتلجات الشكوك، فتدب فى شبحه روح الشباب وتجرى فى عروق طيفه دماؤه، ويعلم أن هذه رسائله من غير شك — كذلك يستغرب أحدنا التاريخ القديم فى أول الأمر، وتخفى عليه نسبته إليه، وقرابته منه، وما هى إلا صفحة أو بعضها حتى تذهب عنه الوحشة، وتنجلى الشبهة، وتحل مكانهما بهجة الأنس وروعة اليقين، ويصبح وكأنه يقرأ تاريخ نفسه ويتصفح ترجمة حياته! ولعمرى ماذا يفيدنا التاريخ إذا هو لم يحرك فى نفوسنا هذا التعاطف، ولم يؤكد العقدة بين الحاضر والغابر؟ إن الحياة قصةٌ طويلة، يمثل كل فيها دورًا. وإذ كان هذا كذلك أفليس ينبغى أن نحيط علمًا بدور من خلا مكانه، وحللنا محله لنكون على بينة من أمرنا؟ وهل ثمةَ شىء من الغرابة فى أن يرجع أحدنا بصره فى الفصل المنصرم؟ أوَ ليس من الضرورى الذى لا معدل عنه فى كل رواية أن تكون الفكرة الأساسية واحدة فى كل الفصول؟ ولا ريب فى أن كثيرًا من فصول هذه الرواية الإنسانية قد استسر خبره، وامَّحى أثره وأصبح عند الله علمه، ولكن ذلك لم يغلل أيدى الناس عن التنقيب والبحث، ولم يحل دون ما يرومون من تفحص أخبار الإنسان والمبالغة فى استخبار اَثاره عنه، وإن كانوا، بعدُ، لم يتمكنوا من الحجة ولم يجدوا رائحة الكفاية، ولا ثلجوا ببرد اليقين.. ألا ترى الناس، على عجزهم الظاهر وقصورهم البادى عن الإفضاء إلى حقيقة الأمر، لا يزالون يجمعون ما تصل أيديهم إليه من آثار أبطال العالم وعظمائه، وإن كانت فى ذاتها تافهة لا قيمة لها ولا وزن، علهم يستشفون منها نفوسهم، ويستجلون أحلامهم وهواجسهم؟ إلا أنا اليوم على قلة الوسائل، ونزارة الذرائع، وضعف الأسباب، أفطن لمعانى العظمة والبطولة فى الإنسان، وأشدُّ إدراكًا لها، وأحسن فى الجملة تقديرًا لها من أسلافنا، فإنهم، وإن كانوا قد رفعوا أبطالهم إلى مراتب الاَلهة ومنازل الأرباب، غير أن الناقد المتأمل ليجد فى عبادتهم هذه شيئًا عن عنجهية حياتهم. ونحن اليوم لا نسكن عظماءنا جبال «أولمب» أو «فلهللا» ولا نعتقد أن الشمس من مظاهر «أورمزد» غير أنا على ذلك ألطف حسّا وأصفى نفسًا وأصح نظرًا وأوسع إدراكًا وأحسن تقديرًا. وليس معنى هذا أن آباءنا كانوا لا يفطنون للعظمة والبطولة — فلعلهم كانوا أحس بها وأسرع إلى الإقرار لها — ولكن معناه أن صلتهم بعظمائهم ونسبتهم إليهم كانتا غير متعددة الجوانب. ولو نحن أردنا أن نثبت ذلك من طريق البرهان القيم والدليل المقنع لأحوجنا إلى التطويل وإلى تكلف ما لا يجب وإضاعة ما يجب. والإنسان مطبوع على الإيمان بالعظيم إيمانه بالحياة، وليس ثمةَ ما يُعين على احتمال الحياة ويجلى من وحشتها مثل هذا الإيمان، لأن العظيم فى كل عصر كوكبه اللامع، ونبراسه الساطع، وبدره الزاهر، وبحره الزاخر، وهل الناس لولا العظماء إلا جبال من النمال أو تلال من الذباب؟ وكما أن الوردة لا يعييها أن تسطعك نفحتها ويتثور إلى أنفك نسيمها، والجميل لا يشق عليه أن يتمثل لعينك حسنه، وترتسم فى قلبك ملاحته، كذلك لا يرهق العظيم أن يسوغك من صفاته ويضفى عليك الإحساس بما أفاض الله عليه وأسنى له وآثره به. ولكن ذلك لا يتهيأ حتى يكون بينه وبين الناس اتصال، وله إليهم انتساب وانتماء، وحتى يحس الناس — وإن أنكروا وكابروا — أنهم واجدون عنده ما يحبون، وبالغون منه ما يطلبون.. فإن من الناس من يسدى إليك ما لا حاجة بك إليه، أو يجيبك إلى ما لم تسأله، وهذا لا طائل وراءه ولا ثمرة عنده ولا خير فيه، وإنما العظيم من فطن إلى حاجة الناس فسدّها، وأدرك مواضع الافتقار والضعف فراشها، ومن عرف موضعه وبلغ الناس ما فى نفوسهم، وأمكنهم مما يطلبون، حتى ولو لم يدرك هو ولا الناس ذلك. وليس يخطئ العظيم موضعه، أو يخفى عنه موقعه، لأنه كالنهر يحفر لنفسه مجراه ويكون له مسيلًا أينما تحدر ويعمقه مع التدفق. وأنت إذا رجعت إلى نفسك ونظرت فى تاريخ العصور التى ظهر فيها العظماء، علمت علمًا يأبى أن يكون للشك فيه نصيب، وللتوقف نحوك مذهب، أن العظيم لا يظهر إلا إذا كانت الحاجة إليه ماسة، والافتقار إلى مثله شديدًا، وأنه لو لم تلد آمنة محمدًا لولده غيرها من نساء العرب، ولو لم يهرب شكسبير من بلده إلى لندن لنبع من غيره مثل هذا الشعر الذى تقرأه له اليوم، ولأيقنت أن العصر الواحد قد لا يسع أكثر من عظيم واحد، أو هو يسعه ويسع نقيضه فى مذهبه وعكسه فى منزعه. وكما أن النبات يحول معادن الأرض غذاء صالحًا للحيوان، كذلك العظيم يتناول الطبيعة فيستخدمها ويجىء الناس منها برجعة صالحة، والطبيعة إذا صادفت كفؤا حقيقا بها، وواليا مطيقا لها، وناهضا مستقلا بأعبائها، أضفت عليه ملابسها، وكشفت له عن نفائسها، وأماطت عن سرها الحجب ونفت عنه معتلج الريب، وكانت له رائدا فيما يطلب، وهاديا حيت يؤم ويذهب، فإنما تفصح الطبيعة عن مضمونها، وتظهر مكنونها، لمن تكون فيه القدرة على فهمها، وتوسمها من معاريض رموزها، واستشفافها من وراء لثامها، ومن تظن فيه الإيفاء فى الوفاء، وتستشعر من الأبرار فى الحفاظ، فإن دقائق الطبيعة وأسرارها وخصائص معانيها ليست مبذولة لكل أحد، ولا مذللة لكل من يبسط إليها كفّا، أو يرفع إليها طرفًا، ولكن لمن إذا نظر كان وما ينظر شيئًا أحدًا، والشىء لا يعرفه إلا شبيهه ولا يحيط به إلا ضريبه أو ما فيه منه شناشن، كما يعرف الحديد الحديد ويجتذبه إليه، والإنسان من طينة الأرض فليس ينسى منبته، أو تخفى عليه طينته وجرثومته، والطبيعة كتاب مطوى تعلق منه فى كل عصر صحائف يتلوها على الناس أناس هدوا إليها، ودلوا عليها، وكشف لهم عنها، ورُفعت الحجب بينهم وبينها. «وكما أن الماء إذا بلغت حرارته المائة، لم يزده إلحاحُ النار شيئًا، واستوى عند هذه الدرجة كل ماء، كذلك لعظمة الإنسان غاية ليس وراءها زيادة لمستزيد، ولا فوقها مرتقى لهمة، يستوى عندها كل من بلغها» مهما تباينوا وتفاوتوا. يظهر فى العصر ثلاثة أو أربعة يحاولون أن يبلغوا هذه الغاية، ويرتقوا إلى هذه النهاية. والناس، من حولهم، يرمونهم بعيونهم ويتبعونهم بإمالهم، وهم مجدون فى الإصعاد، مندفعون فى التوقل، لا يكترثون لمن نظر ولا لمن لم ينظر، ولا يبالون ما يعترضهم فى سبيلهم، حتى تتعاظم أحدهم عقبة فيهن ويتعلل بأن لو كان على الجهد مزيد لبلغه، ويثبط الثانى تعاقب الموانع وتواصل العقل، فينكل عما شمر له، والناس بين مبتئس له عاذر، وضاحك به ساخر، وتمضى الاَخران حتى تكتنفهما السحب ويغيبا عن عيون الناس وترمقهما النسور، ثم يشتد البرد ويعظم الخطب وتثور الرياح وتهيج العواصف ويتوعر المرتقى وتتصدع الأرض فيهوى أحدهما، والمجد خوان وغرار، وينطلق الآخر متخطيًا رقاب الموانع، مذللًا ظهور العوائق، بين بروق السحب ورعودها، وثورة العواصف وهجودها، حتى ينتهى إلى الغاية، ويبلغ النهاية، فيصافح كونفوشيوس وبوذا وموسى وعيسى ومحمدًا وهومر وشمكسبير وملتون والمعرى والمتنبى وجوته وشيللر وتوماس هاردى والفردوسى وغيرهم ممن لا حاجة بنا إلى حصرهم. وهنا شبهة ضعيفة عسى أن يتعلق بها متعلق ممن لا ينظرون إلى أبعد من أنوفهم، ولا يفوتون أطراف بنانهم، وهى أن يدعى أن صاحب هذا الرأى والمثل قد أسرف فى القول وجاوز الحد فيما زعم من أن للعظمة غاية لا مزيد عليها ولا متجاوز وراءها، وأن من بلغها من العظماء متكافئون فى المزية، لا فاضل بينهم ولا مفضول. وهى شبهة سائرة على الأفواه، وإنما دخل الغلط على الناس فيها من جهة حسبانهم أن العظمة تقاس كما تقاس الأرض طولا وعرضا، وتحد كما تحد الدار شرقا وغربا، وخلطهم بين ما يحتمل النسبة والقياس وما لا يحتملها، ونسيانهم أن الشاعر الفحل مثلًا لا يخمل أخاه الفحل إذا أخمل العالم العالم، وأنه وإن كان كل روائى مدينًا لهومر، إلا أن هذا ليس بمانع أن يدرك شأوه أحد من غير أن يزرى به، كما أزرى جاليليو بدائنه متزو، وكما أزرى كيلر بجاليليو، وديكارت بالجميع. وإنما كان هذا كذلك لأن العلم لا يقف عند حد ولا يطمئن إلى حال، فهو أبدًا فى تقدم. ولعل خير الكتب العلمية أحدثها، فالجديد منها ينسخ القديم، والمتأخر من العلماء يبنى على ما أسس المتقدمون ويشيد على ما وضع الأولون، والأصل فى كل شىء أن يزيد ويقوى ويتقدم، ولكن جمال الشعر فى أنه ليس قابلًا لشىء من هذا «النوع» من الزيادة والتقدم لأنه ابن الإرادة والإحساس، ولأن العلم اكتسابى، والشعر وحى وإلهام، وهو صورة من الحياة، والحياة كحجارة النرد لها أكثر من جانب واحد، فإن امتريت فى هذا فأرجع البصر فى القرون الخالية، هل ترى شكسبير غض من دانتى؟ أو دانتى من هومر؟ أو ابن الرومى من المتنبى وإن كان هذا مدينا له بأكثر مما يدرى الناس؟ وليس معنى هذا أن الشعر جامد لا يطرأ عليه تغير ولا يلحقه تحول وإنما معناه أنه يتحول مع الحياة ويتسع أفقه مثلها ولكنه كالبحر لا يزيد ولا ينقص. «إلى كريسباس الذى يعرف كل شىء»!! «لقد عادت النفس فحدثتنى أن أنظم فى قصة «وليم تل» قصيدة، ولست أخشى علىّ من روايتك ولا بأس عليك منى، ولا بأس علىّ منك». وهذا صحيح لأن الشعراء لا يركب بعضهم أكتاف بعض، ولا يدفن بعضهم بعضا ويمشى أواخرهم على هام الأوالى. وليس الأصل فى الشعر التقليد والحكاية والطبع على غرار من سبق، إذ لو كان هذا كذلك لاستوجب ذلك أن يظهر الفحولُ فى آخر العصور ولما ظهر أحد منهم فى أولها، ولكنك ترى الشعر فى جاهلية الأمم وبداوتها كالشعر فى حضارتها، لطف تخيل، ودقة معنى، وسداد مسلك، وقصدًا للغاية، وإن اختلفت وجهه النظر وتباينت أساليب التناول. لأن شاعرية الإنسان لا يلحقها نقصان ولا يعروها فتور، كالبحر، وليس يزيد البحرَ صوبُ الغمام ولا يضيره احتباس الغيث، وكما أن البحر إما جاش يبثك ما فى صدره مرة واحدة، وتفضى لك بجميع سره موجه الملتطم، واَذيه المصطفق، ولجه المربد، وثبجه المغبر، كذلك يستريح إليك الشعراء بمكنون سر النفس الإنسانية وباطن أمرها، ويفرشونك ظهرها وبطنها فى كل عصر، وكتتابع الأمواج تتابع الشعراء.. «تسكن الإلياذة فتثور الرومانسيرو، ويرسب الإنجيل فيطفو القرآن»، وتأتى بعد نسيم النواسى زوبعة ابن الرومى، وبعد صبا البحترى صرصر المعرى. ورب مستفسر يقول: إذا كان هذا كذلك أفليس كل واحد صورة معادة لمن سبقه؟ وهذا خطأ، وهو أيضًا صواب، فإن الشعراء جميعًا أشكال، على أنهم، بعد، يتفاوتون التفاوت الشديد، فالنفس واحد والأصوات مختلفة، والقلوب متطابقة والأرواح متباينة، وكل شاعر يطبع الشعر بطابعه ويسمه بميسمه. كذلك الرياح نسيم وعواصف، وصرصر وحرور، وهى بعد كلها رياح.. والأيام سبت وأحد واثنان، ولكل يوم حوادثه ومميزاته، وهى بعد كلها أيام، والشعراء هومر وشكسبير وفرجيل.. ولكل صفته التى يتميز بها، وهم بعدكلهم شعراء وكلهم هومر وكلهم شكسبير.. وبعد، فإنا — كما رأى القارئ مما أسلفنا عليه القول فى صدر كلامنا — لا نرى رأى كارليل الذى بسطه فى كتابه «الأبطال وعبادة البطولة» حيث يقول: «هذه حقائق كان الأقدمون أسرع إلى إدراكه! منا نحن.. كانوا بدلًا من اللغو واللغط فى شأن الكائنات ينظرون إليها وجهًا لوجه، والروع والإجلال حشو قلوبهم. أولئك كانوا أفهم لآيات الله فى كونه وأدرك لسره فى عبيده. كانوا يعرفون كيف يعبدون الطبيعة، وأحسن من ذلك كيف يعبدون الإنسان!». بيد أنا لم نذهب إلى أن الأقدمين كانوا أضعف منا إدراكًا للعظمة والبطولة، ولا أقل فطنة لمعانيهما ولا أبطأ حسّا. وإنما قلنا إنا أحسن تقديرًا لهذه المعانى منهم وأقل غلوّا وأدق استشفافًا واستبطانًا لكنهها، وهذا ما لا ينكره علينا كارليل فى كتابه الذى أشرنا إليه، فإن الناظر فى كتاب الأبطال يعرف من تبويبه وتنسيق فصوله كيف تطور معنى البطولة واتسعت دائرته كما تطور كل شىء فى العالم، وكيف أن الإنسان كان فى بادئ الأمر يعبد الأبطال ثم عرف أن الألوهية ليست للإنسان، فظهر الأنبياء وصرفوا الناس عن عبادة الناس، وصححوا خطأهم فى ذلك وكسروا من غلوائهم وأقاموهم على طريقة هى لا ريب أمثل وأفضل، ثم أدرك الناس بعد ذلك أن البطولة ليست مقصورة على الأنبياء وأنهم لم يختصوا بها وحدهم دون غيرهم، وأنه رب قسيس كلوثر هو فى المنزلة الأولى بين الأبطال، ثم فطنوا إلى أن الأنبياء والقساوسة ليسوا كل العظماء، وأن الشاعر عظيم، والفيلسوف عظيم، والملك عظيم، فهل يدعى بعد ذلك أحد أنا اليوم لسنا أوسع من الأقدمين مجال فكر وأبعد مطارح نظر؟ وأننا لسنا أفطن للعظمة فى جميع مظاهرها؟ ثم ألست ترى أن الأقدمين كانوا يتوجهون إلى العظماء بقلوبهم دون عقولهم، وأنا نتوجه إليهم بقلوبنا وعقولنا معًا؟! ••• وبعد، ففيم كل هذه المقدمة؟ ألنكتب ترجمةً لابن الرومى؟ وافرحةَ ابن الرومى لو علم أنه سيظهر فى القرن العشرين رجل يخرج به من الظلمات التى أرخاها عليه إهمال المؤرخين السابقين من العرب، وأسبلها على حياته حظه الأعمى وجده العاثر؟ وأن هذا المؤرخ المنصف الطيب القلب سينظمه فى سلك العظماء؟ كلا. فما نطمع أن نؤدى للقارئ ترجمة لهذا الشاعر محكمة الحدود، مدمجة التأليف، واضحة الطريقة، وأنا من ذلك لعلى يأس كبير، فما نعرف رجلًا أصابه ما أصاب ابن الرومى ولا شاعرًا تهاون به الناس حيّا وميتًا وتناسوا ما يجب له إلا هو! بل لست أعرف قومًا هم أشد استصغارًا لكبرائهم، وأقل إجلالا لرجالاتهم، وأعظم تعاونًا بحقوقهم، وأضأل تنبهًا لحقيقة أقدارهم من العرب! وليس يخفى عنا أن هذا القول سيقع من نفوس البعض موقعًا سيئًا ويصادف منهم كل السخط وأشد النفور لأن للقديم روعة وجلالًا وقدرًا فى النفوس، ومهابة فى الصدور، وللجديد المباغت صدمة يضطرب لها الذهن ويتبلد لها العقل، حتى إذا سكنت الطبيعة واطمأن الروع، وثابت النفس، تبين المرء مبلغه من الصواب وحظه من السداد.. ومن أجل ذلك قالوا ينبغى أن يكتب الكاتب على أن الناس كلهم أعداء وكلهم خصوم. بيد أن من راض نفسه على توخى الصدق والتجافى عن قول الزور، ومن شأنه التوق إلى أن تقر ا لأمور قرارها، وتوضع مواضعها، ومن يربأ نفسه عن مرتبة المقلد — سيتابعنا فى رأينا هذا، ويؤاتينا على ما نقوله.. وإن اَلمته الصدمة فإن الحق، وإن كان صادق المرارة، إلا أنه حق، ولنحن خلقاء ألّا تدفعنا العصبية الباطلة والتشرف الكاذب إلى وصف الزور ونسج الإفك وتمويه الحق وتلبيسه بالمين والبهتان. وماذا علينا إن فارت بعض النفوس من الغضب، وثارت بها الحمية المصطنعة والحفيظة الملفقة وشهوة المباهاة الكاذبة؟ — مباهاة المعدم اللاصق بالتراب بأن كان له آباء يزعمهم أغنياء؟ وما نبالى من سخط ممن رضى إذا نحن اخترنا كل ما فيه للتاريخ رضوان؟ وهل ترى غضبهم يغير الحق الصراح المعلوم فى بدائه العقول؟ أم هل ينفى تسخطهم أن مؤرخى العرب مقصرون، وأن تفريطهم قد ألبس ابن الرومى وغيره بردًا كثيف النسج غليظ السرج لا تنفذ العين فيه؟ وليس ينزلنا عن رأينا هذا ما عسى أن يحتج به خصومنا فى المذهب من أن البيت الواحد من الشعر كان يرفع قبيلة أو يحط منها، وأن القبيلة من العرب «كانت إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر وتباشر الرجال والولدان»، وأن أمراء العرب وخلفاءهم كانوا يقربون الشعراء ويملئون أكفهم بالعطيات وأيديهم بالجوائز والصلات، وينزلونهم منهم فى أمرع جناب وأصدق منزل، أو غير ذلك من الحجج والشواهد والنصوص التى لا تدفع قولنا ولا تديل منه، وإن كانت فى ذاتها مما لا يمارى فيه ولا تنكر صحته. وذلك أن الهجاء والتشهير وخبث اللسان أوجع ما يتجرعه المرء وتتوجره النفس، وما زال الناس فى كل عصر يتفزعون من ذلك ويتوقونه بكل ما فى الوسع والطاقة، تارة بالعطاء الجزل والنائل الغمر، وأخرى بالمصانعة والمداراة أو الوعد أو الوعيد. ومن ذا الذى يرضى أن تشتهر له شهرة فاضحة وسمعة قبيحة؟ بل من ذا الذى لا يتقى الذم ولا يحفل بالغضاضة ولا يبالى ما قيل فيه؟ أوَ ما ترى كيف أن الكلمة الواحدة تخرج من فم الرجل قد تعطل تجارة أمة بأسرها وتفقدها ثقة غيرها بها؟ والعرب قوم أولو سذاجة، شأن كل البدو وسكان الخيام، فليس بمستغرب أن يتخذوا من أبسطهم لسانا وأقواهم عارضة وأوراهم زندا وأسمحهم قريحة درعًا يحمون بها أعراضهم، ويذبون بها عن أحسابهم، وسلاحًا يستظهرون به على خصومهم، ويستطيلون به على أعدائهم، كما كانوا يتقنعون فى الحديد لصيانة جسومهم وأموالهم وحريمهم، وكما كانوا يعدون الخيول للملاحم والزحوف. وليس بعجيب أن يبسط الخلفاء أكفهم للشعراء بالنوال والمبرات فإن ذلك أطلق لألسنتهم بالمديح وأكف لها عن القدح والطعن وأصون للملك وأحفظ له من الضياع. هذه حقيقة الحال وواقع الأمر، وليس فى ذلك ما يدل على أكثر من أن الشعراء كانوا بمنزلة الخيول والسيوف والدروع، أو ما يتفكه به على الشراب من النقل، وما تزين به مجالس اللهو من الريحان والورد. أوَ لم يقل ابن رشيق فى كتاب العمدة: «إن العرب كانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ فيهم أو فرس تُنتج»؟! بلى لقد قالها والله! وكفى بذلك هوانًا! مهما قيل فى الاحتجاج للعرب والنضح عنهم والتنصل لهم مما تحدجهم به، فإنه لا ريب عندى فى أن الشعر كان عندهم فى منزلة دون التى هو فيها عند غيرهم من الأمم والشعوب، ولا شك فى أنهم لم يكونوا من سعة الروح بحيت يفطنون إلى جلالة الشعر، ويدركون ماهيته وحقيقته وعظم وظيفة الشاعر، وإلا لكانوا انصرفوا عن هذه السخافات التى أولعوا بها وأمعنا فيها، ولتناولوا من الأغراض الشعرية ما هو أشرف من المدح وأنبل من الهجاء. وهذا باب من القول له اتساع وتفنن لا إلى غاية، ولم نكن نحب أن نفتحه لئلا تستفتح أبوابٌ من اللداد خير لنا أن تظل موصدة، لأن عهد الناس بأمثال هذه المباحث ما زال حديثا، وما زالت عقول السواد الأعظم غضة ناعمة تجرحها خشونة الحقيقة. وليس الداء بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت الإمكان منه مع كل أحد مسعفًا، والسعى فيه منجحًا، فإنك لتلقى الجهد حتى تميل أحدهم عن رأى يكون له، ثم إذا قدته بالخزائم إلى النزول على رأيك والصدور عن فكرك، عرض له خاطر يدهشه فعاد إلى رأس أمره! ولكنا خلقاء ألّا ننكص عن أمر نحن أثرنا غباره وهجنا دفينه، وأحسب أن كثيرًا من الناس تهجس فى صدورهم هذه الآراء وإن كانوا يشفقون من إبرازها والمعالنة بها، والبلاء، والداء العياء، أنهم ربما ماروك ولاجوك بألسنتهم وهم بقلوبهم يطابقونك، جريًا منهم وراء الجمهور، وذهابًا إلى رأى الغوغاء والأسقاط. أظهر عيوب الأدب العربى فى تقديرنا اثنان: فساد فى الذوق وشطط فى الذهن عن السبيل السواء. وليس بخاف أن هذين العيبين متداخلان، وأنك تستطيع أن ترد الثانى إلى الأول، أو الأول إلى الثانى، ولكنهما على تداخلهما واضحا الحدود. وشرح ذلك أن العرب وإن كانوا بطبيعتهم شديدى الإحساس، لطاف الشعور، دقاق الإدراك ككل البدو، إلا أن فيهم جفوة الصحراء وعنجهية البادية فهم يجمعون بين فضائل البوادى ورذائلهم وحسناتهم وسيئاتهم ودماثتهم وتوعرهم، وهم لما ألفوا من الحرية، لا يستطيعون أن يكسروا من غلواء نفوسهم أو يحبسوا من أعنة عواطفهم، ففى كل حركاتهم وانفعالاتهم حدة جامحة بغير لجام وشِرَّة ماضيةٌ بغير عنان. يبكون ويضحكون، ويثورون ويسكنون، وتحبون وتبغضون، فى غير رفق ولا أناة، حتى لتكاد تلمح فى كل أقوالهم وأفعالهم مظاهر الغلو واَيات الحدة ولوائح الطغيان. فكأنهم استعاروا من الشمس وقدتها، ومن الأرض حزونتها وجدبها وشدتها. وكأن شعرهم العود النابت فى الخلاء، لا الزهرة الزهراء فى الروضة العذراء، وكأنما ألفاظهم فهرس للمعانى التى فى نفوسهم تشير إليها إشارة البنان، وكأن قائلهم لجلاج تحتشد فى خاطره المعانى فيجيل بها لسانه فى شدقه ثم يخرجها مزدحمة بعضها فى أثر بعض، وقد تخرج متصادمة، وبينها وقفات يشقى بها صبره. ولشعراء العرب شياطين! وهل تخرج هذه الفيافى غير ذلك؟ وهى لا تألف إلا الرسوم المحيلة، والأطلال البوالى، ولا تغشى إلا الأربع الأدراس. وهل وجدتُ خيرًا منها وصدفت عنها؟ فإذا أراد الشاعر أن يستمد منها الوحى ركب إليها ظهور الإبل ومتن النياق، حتى إذا انثنى عنها، شغله وصف ما رأى فى طريقه إليها من النجوم، وكيف كان اهتداؤه بها، وما هب عليه من الرياح، وأومض من البروق، خلبها وصادقها، وأظله من السحاب، جهامها وماطرها، وكيف أذكره القمر وجه حبيبته المتألق، وجفلةْ السرب فى الظلام نفرتها ليلة السفح، ثم لا يزال يذكره الأمرُ الأمر ويفضى بك من حديث إلى حديث حتى ينسى ما أوحى إليه شيطانه من بنات الشعر فيجتزئ بما قال!! وهذا صحيح لا يدفعه أنا نرمى به إلى الدعابة والمزح، فرب هزل ترجم عن جد.. والناظر فى شعر العرب يجد أن الشعراء جميعًا قد ساروا فى طريق واحد كما كانوا يسلكون فى صحراواتهم طرقا واحدة، وكان المتأخر منهم يقلد المتقدم ويجرى على منهاجه. وأكثر الفرِق إنما هو فى اللفظ والأسلوب لا فى الأغراض، وحسبك ذلك دليلَا على ضيق الروح والحظيرة والعجز عن التصرف. لسنا نحاول الزراية على العرب أو الغض من شعرهم، وإنما نريد أن نقول إن العرب ليسوا أشعر الأمم! ولو أن الله فسح فى البقاء للدولة العربية وزادها نفسا فى أجلها وسعة — ولكنه لم يشأ! وإن أحدنا ليقرأ آثار الغرب فيملك قلبه ما يتبين فيها من سمات الصدق والإخلاص ومخايل النبل والشرف، وما يستشفه من دلائل الحياة والإحساس بالجمال وحبهما وعبادتهما فى جميع مظاهرهما، وما يتؤسمه من ذكاء المشاعر ويقظة الفؤاد وصدق النظر وصفاء السريرة وعلو النفس وتناسيها وتجاوبها مع ما يكتنفها من مظاهر الطبيعة. هذه حقيقة لا موضع فيها للشبهة، وما ينكر أن الشعوب الآرية أفطن لمفاتن الطبيعة وجلالة النفس الإنسانية وجمال الحق والفضيلة إلا كل مكابر ضعيف البصيرة أو رجل أعمته العصبية الباطلة عن إدراك ذلك — ونقول العصبية الباطلة لأن الحق غاية الوجود، وكلنا سواء فى التماسه، فأيما رجل فاز منه بنصيب فهذا السعيد الموفق، وإلا فهو معذور ومشكور، وليس يغض من أحد أنه انصرف عن هذه الدنيا غير مُنجح. وأنت إذا تأملت شعراء العرب وكتابهم وكبار رجالهم لتعرف منازلهم من العظمة، ومواقعهم من العبقرية، وجدت أولاهم بذلك، وأولهم هنالك، وأسبقهم فى استيجاب التعظيم، واستحقاق التقديم، قوما ينتهى نسبهم إلى غير العرب من مثل بشار بن برد، ومروان بن أبى حفصة، وأبى نواس وابن الرومى ومهيار وابن المقفع وابن العميد والخوارزمى وبديع الزمان وأبى إسحاق الصابئ وأبى الفرج الأصبهانى وأبى حنيفة النعمان وغيرهم ممن لا ضرورة إلى حصرهم.. وقد تعلم أن للوراثة أثرًا لا يستهان به فى تركيب الجسم واستعداد العقل، فليس بمستغرب أن يرث مثل ابن الرومى وهو اَرى الأصل — فارسى يونانى — كثيرًا من شمائل قومه وصفاتهم، وأن يكون فى شعره أشبه بهم منه بالعرب. وحسب القارئ أن يقارن بين قصيدة لابن الرومى وأخرى لغيره من صميم شعراء العرب فى أى باب من أبواب المعانى ليعلم الفرق بين المنزعين، وكيف أن ابن الرومى أقرب إلى شعراء الغرب وبهم أشكل، وإن بقى عربيّا فى لغته وموضوعاته. وما ترجمة هذا الرجل؟ قالوا إن اسمه على بن العباس بن جريج، وقيل جورجيوس! حتى جده لم يعن أحد بتحقيق اسمه! وقالوا إن ولادته كانت بمدينة بغداد يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين فى الموضع المعروف بالعقيقة ودرب الختلية فى دار بإزاء قصر مولاه عيسى بن جعفر بن المنصور من نسل العباس بن عبد المطلب. هذا جل ما ذكره المؤرخون من ترجمته «المبسوطة»! فيما وصلت إليه أيدينا من الكتب، وليتنا جهلنا ذلك وأحطنا بغيره مما طووه عنا ودفنوه فى زوايا الغيب! وليت شعرى أى نفع لنا من علمنا أنه وُلد بعد طلوع الفجر أو قبله؟ ولليلتين خلتا من رجب أو بقيتا منه أو من سواه؟ وبالعقيقة أو بغيرها من المواضع التى طمست أشراطها وعفت رسومها؟ وأنه كان مولى عيسى ابن جعفر أو جعفر بن عيسى؟ ما دمنا لا ندرى كيف كان منه أو من غيره من الناس، وكيف كانت مؤالفتهم له ومعاشرته لهم، كأن ابن الرومى لم يكن شاعرًا كالبحترى أو أبى نواس اللذين امتلأت من أخبارهما الأسفار، أو كأنه لا يستحق من عناية المؤرخين مثل ما استحق عمر بن أبى ربيعة وأضرابه المخنثون، من مثل كثير وجميل، أو المجنون الذى ينكره بعضهم وينفى وجوده، أو مثل ما استحق مركوب أبى القاسم!! مولى عيسى بن جعفر! مثل ابن الرومى لا يذكره المؤرخون إلا مقرونًا بأنه كان مولى لهذا المخلوق! وليت المولى مع ذلك تعهده وعنى به وكفله واستحق أن ينسب ابن الرومى إليه!! هذا العيسى بن جعفر هو الذى يقول له ابن الرومى: ولد فى خلافة المعتصم وأدرك الواثق والمتوكل والمنتصر والمعتز والمهتدى والمعتمد والمعتضد، فلم يؤاسوه بأموالهم ولا أسهموا له فى هباتهم، ولا استحيوا أن يكون فى عصورهم شاعر مثله فى الحضيض الأوهد من الفقر والخصاصة ورقة الحال، ولسنا نظن أنه كان من الخمول وغموض الحال بحيت لم ينتشر به الصوت إليهم، فقد كان مولى رجل من العباسيين وكان متصلا بالوزير أبى الحسين القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد. وقد روى المسعودى فى مروج الذهب عن محمد بن يحمى الصولى الشطرنجى قال: «كنا يومًا نأكل بين يدى المكتفى فوضعت بين أيدينا قطائف رفعت من بين يديه فى نهاية النضارة ورقة الخبز وإحكام العمل، فقال: هل وصفت الشعراء هذا؟ فقال له يحيى بن علىْ نعم. قال أحمد بن يحيى فيها: قال: وأنشدت لابن الرومى: فقال: هذا يقتضى ابتداء، فأنشدنى الشعر من أوله، فأنشدته لابن الرومى: فاستحسن المكتفى الأبيات وأومأ إلىّ أن أكتبها له فكتبتها». وفى موضع آخر من الكتاب قال محمد بن يحيى الصولى: «وأكلنا يومًا بين يديه بعد هذا بشهر فجاءت لوزينجة، فقال هل صف ابن الرومى اللوزينج؟ فقلت: نعم. فقال: أنشدنيه. فأنشدته: فحفظها المكتفى فكان ينشدها». وفى مكان اخر من الكتاب عن أبى عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوى المعروف بنفطويه قال: «أخبرنا بن حمدون قال تذاكرنا يومًا بحضرة المكتفى، فقال: فيكم من يحفظ فى نبيذ الدوشاب؟ فأنشدته قول ابن الرومى: فقال المكتفى: قبحه الله ما أشرهه! لقد شوقنى فى هذا اليوم إلى شربه!». وإنما استكثرنا من إيراد هذه الأخبار لتعلم أن اسمه كان مذكورا فى مجالس الخلفاء، وذكره فاشيًا على ألسنة ندمائهم — ولكنه على تصرفه فى كل فنون الشعر المعروفة، وإجادته فى جميع أبوابه، وكثرة ما سار عنه من ذلك، كان من الفاقة وحقارة الشأن وسقوط الجاه بحيث كان يستجدى من إخوانه الكساء فلا يصيب منه قصاصة، وله فى ذلك شعر كثير. فمن ذلك قوله لأبى جعفر النوبختى: وقوله له أيضًا: فهذا وما سبق من مثله خليق أن يريك مبلغ فاقته ورقة حاله وخصاصته، وإذا ذكرت أنه ربما لزم كسر بيته أيامًا لا يخرج فيها ولا يتصرف، وحوله صبية غرثى قد أخذتهم لوعةُ الجوع، يشربون على ريقة النفس وما ثملوا شرابهم بشىء، وهو يخشى أن يبرح بيته مخافة أن يفجأه ما لا يطيق احتماله، والناس لا يرحمون ضعفه ولا يرفقون به، ولا يكفون عن التضاحك منه والعبث به.. فمن هازل يتداعب به وتعيبه بمشيته، ومن لئيم يزعم أنه عنين ويرميه بأنه مخنث، ومن حاسد يعيب شعره ليهيجه وهو ينفسه عليه، وأنه ربما رق له جيرانه وحنوا عليه فبعثوا له بشبعة من طعام وشربة من ماء، وأنه كان يمدح أهل الثراء فلا يفيد سوى الرد، ويستصرخ ذوى الغنى واليسار فلا يغنون عنه قلامة ظفر — إذا ذكرت ذلك لم تستغرب قولنا فى مفتتح هذا الكلام إننا لا نعرف رجلًا أصابه ما أصاب ابن الرومى، ولا عظيمًا تهاون به الناس حيّا وميتًا إلا هو، على أنه لو لم يكن عظيمًا وكان من أجلاف عصره وهمجهم، لعجبنا كيف يجوع ويظمأ، ولاستغربنا كيف يخلو عصره من أهل المروءة والأريحية، فكيف وهو أشعر أهل زمانه والموفى على أقرانه؟ روى أبو إسحق الحصرى فى زهر الآداب قال: «قال على بن إبراهيم كاتب مسروق البلخى، كنت جالسًا بدارى فإذا حجارة سقطت بالقرب منى، فبادرت هاربًا وأمرت الغلام بالصعود إلى السطح والنظر إلى كل ناحية من أين تأتينا الحجارة، فقال امرأة من دار ابن الرومى الشاعر قد تشوفت وقالت اتقوا الله فينا واسقونا جرة من ماء وإلا هلكنا فقد مات من عندنا عطشًا. فتقدمت إلى امرأة عندنا ذات عقل ومعرفة، أن تصعد إليها وتخاطبها، ففعلت وبادرت بالجرة وأتبعتها شيئًا من المأكول ثم عادت إلىّ فقالت: ذكرت المرأة (التى فى دار ابن الرومى) أن البيت مقفل عليها من ثلاثٍ بسبب طيرة ابن الرومى فتعجبت من حديثها». على أن شعره حافل بالشكوى مما لقيه فى حياته من أذى الناس وصرف الأيام وعنت الليالى وإنكار حقه وفضله على الشعر، ولو نحن أردنا استقصاء ذلك لاحتجنا إلى أن ننقل أكثر ديوانه. يُقبل على الأدب فتعرض عنه الدنيا ويدبر عنه المال والنشب، إلا فى حيثما يفهم الناس وظيفة الأدب فهمها، ويكون نظام المجتمع بحيت يوفر لكل ذى كفاية أسباب الظهور والانتفاع بآلته. ولكن الأمر لسوء طالع ابن الرومى قد جاوز الإملاق والفاقة إلى ما هو شر من ذلك وأصعب. قالوا: كان ابن الرومى مفرط الطيرة شديد الغلو فيها. وكان من عادته أن يلبس ثيابه كل يوم ويتعوذ. ثم يصير إلى الباب، والمفتاحُ معه،فيضع عينه على ثقب فى خشب الباب، فتقع عينه على جار له كان نازلًا بإزائه، وكان (أى جاره) أحدب يقعد كل يوم على بابه، فإذا نظر إليه رجع وخلع ثيابه وقال: لايفتح أحد الباب. وفى هذا الأحدب يقول: وقال على بن عبد الله بن المسيب: كان ابن الرومى يحتج للطيرة ويقول إن النبى ﷺ كان يحب الفأل وتكره الطيرة. أفتراه كان يتفاءل بالشىء ولا يتطير من ضده؟ ويقول إن النبى مرِّ برجل وهو يرحل ناقة ويقول: يا ملعونة! فقال: لا يصحبنا ملعون! وإن عليّا رضى الله عنه كان لا يغزو غزاة والقمر فى العقرب. ويزعم أن الطيرة موجودة فى الطباع قائمة فيها، وأن بعض الناس هى فى طباعهم أظهر منها فى بعض، وأن الأكثر فى الناس إذا لقى ما يكرهه قال: على وجه من أصبحت اليوم؟! «فدخل علينا يوم مهرجان سنة ثمان وسبعين (ومائتين) وقد أُهدى إلىّ عدة من جوارى القيان، وكانت فيهن صبية حولاء وعجوزٌ فى إحدى عينيها نكتة. فتطير من ذلك ولم يُظهر لى أمره. وأقام باقى يومه. فلما كان بعد مدة يسيرة سقطت ابنة لى من بعض السطوح فماتت، وجفاه القاسم بن عبيد الله (وزير المعتضد) فجعل سبب ذلك المغنيتين». وكان أبو الحسن على بن سليمان الأخفش، غلام أبى العباس المبرد، فى عصر ابن الرومى شابّا مترفًا، ومليحًا مستظرفًا، وكان يعبث به فيأتيه بسحر فيقرع الباب، فيقال له: من؟ فيقول: قولوا لأبى الحسن «يعنى ابن الرومى» «مرة بن حنظلة»! فيتطير لقوله ويقيم الأيام لا يخرج من داره.. وذلك كان سبب هجائه إياه. ولابن الرومى فى الأخفش أفحاشٌ كثيرة مثبتة فى ديوانه. وكان أصحابه، غير الأخفش، يعبثون به أيضًا فيرسلون إليه من يتطير من اسمه فلا يخرج من بيته أصلًا ويمتنع من التصرف سائر يومه — وأرسل إليه بعض أصحابه يومًا بغلام حسن الصورة، اسمه حسن، فطرق الباب عليه فقال: من؟ قال حسن! فتفاءل به وخرج، وإذا على باب داره حانوت خياط قد صلب عليها ورقتين كهيئة اللام ألف، ورأى تحتها نوى تمر، فتطير وقالى: هذا بشير بألّا تمر.. ورجع ولم يذهب معه. وروى بعضهم قال: بعثت بخادم لى يعرفه وأمرته يجلس بإزائه، وكانت العين تميل إليه، وتقدمت إلى بعض أعوانى أن يدعو الجار الأحدب، فما حضر عندى أرسلت وراء غلامى لينهض إلى ابن الرومى ويستدعيه للحضور، فإنى لجالس ومعى الأحدب، إذ وافى أبو حذيفة الطرسوسى ومعه برذعة الموسوس صاحب المعتضد، ودخل ابن الرومى، فلما تخطى باب الصحن عثر فانقطع شسعُ نعله، فدخل مذعورًا — وكان إذا فاجأه الناظر رأى منه منظرًا يدل على تغير حال — فدخل وهو لا يرى جاره المتطير منه، فقلت له: يا أبا الحسن! أيكون شىء فى خروجك أحسن من مخاطبتك للخادم ونظرك إلى وجهه الجميل؟ فقال: قد لحقنى ما رأيت من العثرة لأنى فكرت أن به عاهة، وهى قطع أنثييه. قال برذعة: وشيخنا يتطير؟ قلت: نعم ويفرط! قال: ومن هو؟ قلت: علىّ بن العباس. قال: الشاعر؟! قلت: نعم. فأقبل عليه وأنشده أبياتًا منها: ثم قال أبو حذيفة وبرذعة معه، فحلف ابن الرومى لا يتطير من هذا ولا من غيره، وأومأ إلى جاره! (وبعد) فإن ما أوردناه من أخبار ابن الرومى على قلتها، وما سقناه من شعره على نزارته، خليق أن يرى القارئ أنه هنا بإزاء رجل غريب ليس كالناس، وإلا فلو أن ابن الرومى كان غير شاذ، وكانت حاله مألوفة، وأمره غير خارج عما عهد أهل عصره، لما أنكروا من أموره شيئًا، ولما وجدوا من أحواله داعيًا إلى العجب، ولا باعثًا على التضاحك واللعب.. وإذا كان هذا هكذا فنحن خلقاء أن نتلمس أسباب هذا الشذوذ لعلنا نهتدى إلى بعض السر إذا لم نُوفق إليه كله.. نقول بعض السر لأن النفس الإنسانية أعمق من أن يسبر غورَها نظر الناظر، وأغمض من أن يحسر عنها ظلالَ الإبهام فكرُ مفكر.. تلك دعوى يقصر عنها باعنا ولا يسعها طوقنا، لأن للحقائق المادية حدّا نقف عنده، وغاية ننتهى إليها، وإنما يقول أحدنا بالأغلب فى الظن إذا قال، وبالأرجح فى الرأى إذا نظر، فإذا أصاب فموفق مجدود، وإن أخطأ فمشكور ومحمود، وليس يعيب أحدًا أنه سعى فخاب، وإنما يعيبه أنه قصر وفرط، لأن دواعى الخطأ أكثر من دواعى الإصابة، إذ كانت الوسائل قليلة محدودة، والغايات لا آخر لها ولا نهاية. على أنه مهما يكن من الأمر، فإن من الحقائق التى صححها القياس وأيدتها كل الدلائل فى هذا العصر، أن العبقرية والجنون صنوان، وأنهما جميعًا مظهران لشرٍّ واحد هو اختلال التوازن فى الجهاز العصبى. وقديمًا أدرك الناس ذلك، فقال العرب: ذكاء المرء محسوب عليه. وفطن أرسطاطاليس إلى ما ينتاب العظماء من المرض ويظهر عليهم من ايات اضطراب الذهن واعتلاله، وفرَّق أفلاطون بين نوعين من الجنون — الجنون العقيم المعتاد، والجنون الذى ينتج الشعراء ويخرج الأنبياء والعظماء، وهذا ليس فى رأيه داءً أو شرّا بل هبة من الاَلهة — وأدرك «سنيكا» و«دريدن» ما بين الذكاء والجنون من الصلات، وسمى لامارتين النبوغ «ذلك المرض العقلى الذى نسميه العبقرية». وقال بسكال: «الجنون المفرط أخو الذكاء المفرط» لأن حالات العقل متشابهة فى العبقرى والمجنون، وذلك أن ذهن العبقرى يفيض بالخواطر ويجيش بمختلف الذكر ويرى من الصلات بين الحقائق والأصوات والألوان ما يعجز الرجل العادى عنه، والمجنون فى كل ذلك قرينه وضريعه، كلاهما يرجع السبب فى أساليب تفكيره وعمله إلى فرط نشاط أو شدة اهتياج أو فتور أو نحو ذلك فى بعض نواحى الذهن، وليس الفرق فى درجة حدة الإحساس، وقد يكون السبب فى الحالين وصول مقدار جم من الدم الفاسد إلى موضع فى الذهن، وقد تكون خلايا هذا الموضع العصبية ووشائجه بطبعها مفرطة الحس. وكثيرًا ما تصير العبقرية جنونًا أو ينقلب الجنون عبقرية. وليس بنا إلى شرح ذلك للقارئ حاجة لئلا نخرج عما قصدنا إليه، وإنما نقول إن الذى غلط الناس فيما مضى من الزمن، وورطهم فيما تورطوا فيه من الجهالات، وأداهم إلى التعلق بالمحالات، هو حسبانهم أن العقل البشرى شىء غير محسوس وأنه جوهر روحانى متصل بالجسم ولكنه غير خاضع لقوانين المادة، وقد أبان العلم الحديث خطأ هذا الظن وفساد ذلك الزعم فليرجع القارئ إلى مصنفات العلماء فى هذا المعنى إذا أراد التحقيق. فأول ما يلفت النظر إليه من ذلك رثاؤه لأبنائه الذين رُزئهم واحدًا بعد واحد، وكان له ثلاثة كما هو ظاهر من قصيدته التى يقول فيها: وهذه القصيدة صريحة فى أن أبناءه كانوا ثلاثة، وأن محمدًا ابنه هذا، كان أوسطهم وأسبقهم إلى القبر فى حداثة السن وطراءة العمر، ولسنا ندرى أى داء أصابه فمضى سابقًا أجله، إذ ليس فى القصيدة ما يشير إلى شىء من ذلك وإن كان فيها وصف ذبوله ولكنه وصف شعرى لا يصح التعويل عليه. وفى رثاء أحد الباقيين يقول: وفى ثالت بنيه، هبة الله، يقول: وليس يخفى أن فقدان أولاده جميعًا فى حدثانهم لا يدع مساغًا للشك فى اعتلاله واضطرابه وأنه لم يكن صحيحًا معافى فى بدنه. ومما هو جدير بالنظر والتأمل فى شعر ابن الرومى لدلالته، فحشُ أهاجيه وإكثاره فيها من ذكر أعضاء التناسل ذكرًا لا نظنه ضربًا من التكلف لمجرد الذم والقدح ولا نحسبه شيئًا لا يستند إلى أصل. لأنه إذا كان هذا كذلك فكيف نؤول اتهام الناس له بالعنة تارة وبالتخنث تارة أخرى؟ وكيف نفسر موت أولاده على هذه الصورة؟ أليس البرهان من ذلك كله لائحا معرضا لكل من أراد العلم به، وطلب الوصول إليه، والحجة فيه وبه ظاهرة لمن أرادها، والعلم بها ممكنًا لمن التمسه؟ وانظر أىّ باطلِ نتكلف إذا نحن زهدنا فى هذه الدلائل على وضوحها وجلائها؟ وأىَ جهل يركبنا إذا اثرنا الجهل على العلم، وعدم الاستبانة على وجودها. وتعجبنى كلمة للعقاد فى شعور ابن الرومى بالعلاقة بين تبرج الأزهار وتبرج النساء، وإحساسه بالصلة بين محاسن الطبيعة ومحاسن المرأة، قال: «وربما كان علة هذا الشعور الغامض اضطرابا فى جهاز التناسل أهاج جميع أجزائه فهز خيوطها ونبه وشائجها القديمة المختلفة، ومنها الإحساس بذلك التبرج كما هو فى قلب الطبيعة». وهذا صحيح لأنه لا بد لذلك من سبب يحور إليه. ولو وقف الأمر عند بيت لقلنا معنى عنَّ له، ولكنه لا يزال يكرره فى حيثما سنحت له الفرصة فكأنه يريد أن يلفتنا إليه. تأمل قوله: وقولًه فى موضع اخر يصف الرياض: وقوله من قصيدة فى وصف العنب: وقوله: وقوله: هذا، وليس أقطع فى الدلالة على ضيق خلق ابن الرومى ونزق طبعه وقصر أناته، من أهاجيه هذه. والظاهر منها أنه كان يندفع فى الشتم والذم وبسط اللسان فى الناس لأهون سبب، ومن أجل أشياء لا تهيج الرجل السليم الرشيد، كأن يعيبه واحد بمشيته أو ينعى عليه صلعه، فيفور فائره ويمتلئ غيظًا على عائبه ويتناوله بكل قبيح ويلصق به كل سوءة شنعاء ومعرة دهماء. وفى ضيق الخلق وتوعره برهان على الاضطراب واختلال توازن الأعصاب. ولا ريب فى أن الناس كانوا يتحككون به ويهيجونه لما يعلمون من ضيق حظيرته وسرعة غضبه، لأن الناس فى العادة لا يستثيرون بالدعابة إلا الطيّاش، لعلمهم أن الحليم الراسخ الوطأة لا تقلقه المجانةُ والمفاكهة. أو لست ترى الأطفال والصبيان فى الطرقات، هل يستفزون إلا المرهّق ومن يعلمون عنه الخفة والحدة وسرعة البادرة؟ ولقد كان أهلُ زمانه يعيبون شعره على إقرارهم بمزيته وحسنه، وإنشادهم له فى المجالس، وإملائه على طلاب الأدب فى حلقات الدروس، فهل تحسب أنهم كانوا يفعلون ذلك إلا ليستثيروه ويضحكوا منه؟ ولقد روينا لك فيما أوردناه من أخبار ابن الرومى أن بعضهم قال: «كان ابن الرومى إذا فاجأه الناظر رأى منظرًا يدل على تغير الحال».. فهل بعد هذا شك فى مرض ابن الرومى واختلال أعصابه؟
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/25/
ديوان ابن الرومى
هذا الكتاب أصغر من عنوانه. اسمه «ديوان ابن الرومى»، وحقيقته أنه مختارات من شعره انتخبها شاب فاضل من أنصار المذهب الجديد فى الأدب، هو كامل أفندى كيلانى، وأهداها إلى روح والدته التى «فقد بفقدها أكبر مصدر من مصادر الحنان والعطف»، وجعلها ثلاثة أجزاء فى مجلد واحد، جملة صفحاته خمسمائة، فيها قريب من سبعة آلاف بيت. وصدَّرها بمقدمة رائعة وضعها صديقنا الأستاذ العقاد فى «عبقرية ابن الرومى» لم يدع فيها شاردةً ولا واردة، ولا ترك شيئًا لسواه يقوله، حتى صار قصارى غيره إذا كتب أن يترسمه ويفصل ما أجمل. وهذه المختارات، فى ذاتها، خير ما كان ينتظر. وإن كانت على هذا مجموعة حيثما اتفق، ومسرودة على غير نسق مفهوم ونظام معلوم، ولم تكن وراءها فكرة ظاهرة أوغرض يطالعك، سوى حشد طائفة من الشعر! ولقد والله آلمنا، ونحن نتصفح الكتاب ونعبر ما فيه من المختارات، أن نرى ابن الرومى مقطَّع الأوصال مبعثر الأشلاء على هذه الصورة! ولعلنا مخطئون أو مبالغون فى إساءة الظن بالمختارات على العموم، وفى عدم الركون إليها والاعتماد عليها. ولكن ابن الرومى ليس كغيره من شعراء العرب، وما فى الوسع أن تقتطع له أبياتًا من هنا، وأخرى من ههنا، ثم تقول هذا هو ابن الرومى. كما لا يسعك أن تختار نخبًا من رواية لشكسبير مثلًا، وأن تزعمها بعد ذلك هملت أو الملك لير أو مكبثَ أو غير ذلك.. إنما كان هذا هكذا لأن ابن الرومى أقربُ إلى شعراء الغرب وبهم أشبه، ولأن البيت فى قصائده يندر أن يكون وحدةً قائمة بنفسها، مستقلة عما قبلها وبعدها إلا من حيت معانى النحو، كما هو فى قصائد العرب. وكثيرًا ما يشذ ويخالف أوضاع العرب فى اعتبار البيت كلامًا تامّا فى ذاته غير متعلق بما يليه على مقتضى أحكام اللغة. ولسنا نطمع أن نضيف شيئًا إلى ما قاله صديقنا الأستاذ العقاد فى مقدمته الجامعة، فأنا من ذلك على يأس كبير، وإنه ليكون حسبنا أن نستطيع أن نصف هذا الشاعر، لا أن نحلله، لمن لا يعرفون عنه إلا اسمه، وإلا بضعة أبيات سارت على الرغم من خمول قائلها، وأن نحبب إليهم، ونغريهم بقراءته والإقبال على مطالعته. وابن الرومى، بعد، أحب شعراء العرب إلينا وأعزُّهم علينا، فليس أعذب ولا أشهى لدينا من أن نقضى ساعة معه ولو كل أسبوع. وكأنّا بابن الرومى قد بدأ النحس يزايله! ففى بضعة أعوام طبع جزء من ديوانه وجمعت له مختارات يستحق جامعها وناشرها أطيب الثناء. وما بالقليل أن يفوز بذلك من خمل فى حياته خمولًا منقطع النظير فى تاريخ الآداب، مع وضوح حقه والإقرار له بالتفرد حتى فى زمانه، ومن خفى شأنه أكثر من عشرة قرون طويلات المدد! وناهيك برجل كان يسح بالشعر سحّا، ويملأ الدنيا بالرائع منه المتداول الذى ينشد فى مجالس الخلفاء والأمراء والوزراء، ويروى فى حلقات العلماء والأدباء، وهو مع ذلك يجوع ويظمأ ويعرى، ولا يجد من يسد خلته، ويستر فاقته، ثم يموت فيطوى معه ذكره وشعره، ويظل مغمورًا كل هذه القرون لا يعرف عنه حتى الخاصة أكثر مما ورد فى تراجم العرب، غفر الله لهم، من أن اسمه على بن العباس بن جريج أو جورجيوس — فإن فى اسم جده شكا واختلافًا!! — وأن ولادته كانت ببغداد يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين فى موضع يعرف، أو كان يعرف، بالعقيقة ودرب الختلية فى دار بإزاء قصر لمولاء عيسى بن جعفر بن المنصور من نسل العباس بن عبد المطلب! ثم كأنه لم يكن!! أما كيف كان يعيش أو ماذا كان يصنع غير الشعر الذى يقولون «إنه كان أقل أدواته» فلا يدرى أحد! فليس أمامنا ما نعول عليه سوى شعره. ويؤخذ منه أنه كانت له ضيعة! نعم ضيعة مغلة أشار إليها فى قوله يعتذر لبعضهم من التخلف والانقطاع عنه: غير أن الله لم يبارك له فيها ولا فى غلتها! كما هو ظاهر من الأبيات التى أوردناها. وكان إذا أخطأه الحريق الذى يتحيف ماله، لا يخطئه الجراد يأتى على زرعه كما يقول: وكانت له دار غير التى مات فيها فغصبتها منه امرأة!! فكاد يجن! واستصرخ الوزير عبد الله بن سليمان بقصيدة يقول فيها: يعنى بحكم قضائى نافذ أو بحيلة لطيفة. فيا له من مسكين! ولم يكن مولاه هذا العيسى بن جعفر يوليه شيئًا من جاهه أو ماله فكثر عتاب ابن الرومى له، ومما قاله: فلم يجده العتاب والتألف، وقضى أكثر عمره فى ضيق ليس أبلغ فى الدلالة على أثره فى نفسه وفى جسمه من قوله: وكان يبلغ من فاقته ورقة حاله وهوان أمره، أن كان يدفع عن الأبواب بفظاظة، وإلى هذا يشير بقوله: بل كان من الفقر بحيث كان يستجدى من إخوانه الكساء فلا يصيب منه قصاصة، وله فى ذلك شعر كثير ومنه قوله: وربما فاز، ولكن بما لا يعد ثوبًا إلا على المجاز! كما يقول فى ثوب عتيق جاء مرة: وكان يمدح أهل الثراء فلا يصيب إلا الرد ويستصرخ القادرين فلا يغنون عنه، بل لا يقرءون كلامه أحيانًا كما يدل على ذلك قوله لصاعد ابن مخلد: ولم يكن أهله على ما يظهر أرفق به ولا أحسن رعاية له كما هو واضح من قوله: وقوله من قصيدة أخرى وهو أوضح وأعم: ولو اقتصر الأمر على ذلك لهان بعض الشىء ولكن شيخنا كان أيضًا يتطير. وكان طياشًا وبه حماقة. أو إن شئت فقل إنه كان لطيف الشعور دقيق الحس عارفا قدر نفسه وأقدار غيره من معاصريه، فأورده ذلك موارد مرة، وكان ربما لزم بيته أيامًا لا يخرج ولا يتصرف، وحوله صبية ونساء جياع ظماء، مخافة أن يبرح الدار فيباغته ما لا قبل له باحتماله مما يتطير منه، وقد كان يتطير من كل شىء! والناس لا يدركهم عليه عطف، ولا تأخذهم بضعفه رحمة، ولا يصدهم إنصاف أو تقدير عن معابثته بما يكره وما يثقل وقعه عليه. فواحد يعيبه بمشيته ويزعمها مثل مشية المخنثين، كما فعل أخو «نضير» وكان ابن الرومى يريد أن يتزوج ابنته. وآخر يقدح فى شعره وهو يستجيده ليهيجه ويدفعه إلى الهجاء، وكان ذلك دأب الأخفش ووكده، وثالت يعيره ببغضه للقلانس والبرانس وإيثاره العمامة على خلاف أهل عصره. ورابع يستفزه بالإيماء إلى صلعته والتضاحك منها. وهو أحس بذلك كله من أن يستطيع الاحتمال والسكوت، حتى لقد كان فى شغل مضن من الرد على عائبيه ممن لا يخفى عليهم مكانه، ولا يقصدون إلا على استثارته ليركبوه بالمزاح. وهكذا عاش ابن الرومى. فقر وغمط وحرب طاحنة الأرجاء بينه وبين مناجزيه به من الجادين والهازلين، ولم يكن ينقصه إلا أن يدس عليه الوزير أبو القاسم من يطعمه فطيرًا مسمومًا لتتم رواية الشؤم التى لا تزال لها ذيول على ما يظهر! فقد كتبت عنه منذ عشر سنين بضع مقالات فلم أكد أفرغ من الأولى أو الثانية حتى كسر رجلى ما لا يكسر! وشرح الشيخ شريف الجزء الأول من ديوانه فأحيل إلى المعاش! وطبع صاحب المكتبة التجارية هذه المختارات من شعره فهيضت ساقه! فعسانا حين نعود للكلام عليه لا تكون قد دقت عنقنا! لم يكن ابن الرومى عربيّا ولا شبيهّا بالعرب وإن كانت العربية لغته التى لم يكن يعرف — أو التى لا نعلم أنه كان يعرف — سواها، ولقد ولد وشب وترعرع بين العباسيين ولابسهم وصار منهم «بقضاء من ختمت رسل الإله به» كما يقول، ولكنه لم يصر بذلك كالعرب، لا فى طبيعته ولا فى فنه ولا فى أساليب تفكيره، بل حتى ولا فى عاداته وأخلاقه. وقد ذهب بعض كتاب العرب إلى أنه سمى ابن الرومى لأنه كان جميلًا فى صباه، وأوردوا ذلك على أنه احتمال معقول وتعليل مقبول. وليس الأمر كذلك ولا هو يمكن أن يكون كما زعموا، وأحسب من يقول بذلك إنما يدل على أنه لم يقرأ شعر ابن الرومى بغير عينيه.. فإن الرجل لم يدع مجالًا للشك فى أنه رومى على الحقيقة لا على المجاز. ومن غريب ما يلاحظ المطلع على ديوان هذا الشعر، أنه ينمى نفسه إلى الروم، ويذكر فى أكثر من موضع واحد أنهم أصله، وإن كان جده لأمه فارسيا كما أن جده لأبيه رومى، وشاهدنا على ذلك قوله فى نونيته الشهيرة التى مطلعها: ولكنه يدع الفرس قوم أمه ولا ينتسب إلا للروم أهل أبيه، حتى حين يفخر بمواليه من بنى العباس ويعتدهم أهله، مع أنه لم يكن يخفى عليه مقدار تغلغل الفرس فى الدولة العباسية وتغلب المدنية الفارسية عليها: ويكرر ذلك حين يمدح الأخفش المعاصر له ويفضله على الأخفش القديم، ويذكر أنه غريب بين الاثنين وأنه لذلك بعيد عن المحاباة، وفى هذا يقول: ويعاتب محمد بن عبد الله فيقول فى آخر القصيدة: لا كأبى نواس الذى كان يخلط فى دعوته وينتسب مرة إلى النزارية، وينتمى مرة أخرى إلى اليمانية، وكان قبل ذلك يتعاجم فى شعره، وإنه ليعلم أن الفرس قد مضوا بأصله وأنهم أحق به إذا أراد أن يدعى لأحد. ويظهر أنه كان شديد الإحساس بروميته والشعور بغربته. والاثنان متلازمان. فتراه يزهو تارة ويباهى بأن اليوم أصله، كما هو ظاهر مما مر بك من كلامه. ويألم تارة أخرى أنه غريب بين العرب، وفى ظلهم، وأنه فقد بذلك وطنه. كما تتبين ذلك من قوله لبعضهم وكان قد بلغه أنه يحسده ويعيب شعره، ولعله الوحيد الذى فرق بين الجنسية الدينية والجنسية القومية وأحس الألم لفقدانه «الوطن»: ولسنا نظن أحدًا سيقول إنه ما جاء بالأوطان إلا من أجل القافية! فليس ابن الرومى من تعييه القافية أو تضطره إلى غير ما يريد أن يقول. وإنك لتقرأ شعره فيخيل إليك أنه يتناول الألفاظ ويقسرها قسرًا على أداء المعانى التى يقصد إلى تبيينها والعبارة عنها. ومن أجل ذلك لم يكن يفخر بقومه كما فعل مهيار الديلمى — وهو فارسى الأصل — حين قال يعنى الفرس: بل كان يقول حتى حين يمدح نفسه ويشيد بكرم أخلاقه: والبيت الأخير هو الشاهد. وهو لفرط إحساسه بغربته دائم الالتفات إلى هذا المعنى. يمدح يحيى بن على المنجم فيقول فيه: فكأنه يعنى نفسه بهذا البيت ويحتاط فى التعبير من أجلها ويصف حاله هو لا ممدوحه. ويهجو إسماعيل بن بلبل فلا يرى إلا أن يشتهر بانتسابه إلى شيبان زورًا ويقول: ويقول فى قصيدة أخرى مشنعًا: ••• وبعد، فلأى غاية نأتى بهذه الشواهد ونستكثر منها؟ أكل ذلك لنقول إنه كان روميّا ولم يكن عربيّا؟ أو لم يكن يكفى أن نذكر اسمه، وأن نقول إنه كان مثله أجنبيا من الأمة التى شب وشاب بينها، ونطق بلسانها وحذق علومها، وتوفر على آدابها، واستظل بمدنيتها؟ وما قيمة ذلك؟ ألم يكن كغيره من الغرباء من مثل بشار بن برد ومروان بن أبى حفصة وأبى نواس ومهيار وابن المقفع وابن العميد والخوارزمى وبديع الزمان وأبى إسحاق الصابئ وأبى الفرج الأصبهانى وغيرهم ممن لا يكاد يأخذهم حصر؟ نقول نعم، كان كهؤلاء من غير الأمة التى نبت فيها، ولكنه يختلف عنهم — أو عن كثير منهم — ويباينهم بأنه احتفظ بطبيعة الجنس الذى انحدر منه، حتى صارت روميته هذه التى يتشبث بها ويعلنها، ولا يكتمها ولا يقشبها بالفارسية — مفتاح شعره ونفسه، وحتى لا سبيل إلى فهمه وتقديره بغير الالتفات إليها والتنبه لها. وإنه ليصلح أن يتخذه المرء شاهدًا على قوة الوراثة وفعلها، على الرغم من كل تأثير مناهض لها مضعف لفعلها. «فالرومية» كما يقول صديقنا الأستاذ العقاد بحق: «هى أصل هذا الفن الذى اختلف به ابن الرومى عن عامة الشعراء فى هذه اللغة، وهى السمة التى أفردته بينهم إفراد الطائر الصادح فى غير سربه وربما بذَّهم فى أشياء، وقصر عنهم فى أشياء غيرها، ولكنه لا يشبهم ولا يشبهونه فى تفوقه وتقصيره على السواء، فلهذا انقطع ما بينه وبينهم من نسب الأدب وجرثومة الفن، لا لأنه أفضل منهم جميعًا ولا لأنهم جميعًا أفضل منه». وسنحاول فى المقال الآتى أن ندير هذا «المفتاح» فى القفل، وإنها لفرصة نغتنمها لنستأنف ما حاولناه منذ عشر سنين من تعريف الناس بهذا الشاعر الفذ، فلعلنا نوفق فإن المهمة شاقة، وحبل الكلام طويل، وشعبه كثيرة. عاش ابن الرومى، ما عاش، ساخطًا على الحياة ناقمًا على العصر وأبنائه، مضطغنًا على الزمن وصروفه، طافح النفس بالمرارة والألم إلى حد لم يعرفه أحد من الشعراء المعاصرين. وشعره الذى قيد فيه كل حالة من حالات نفسه، وأودعه ما استطاع من التفاتات ذهنه، حافل بالشواهد على ذلك. وعذره من هذا التمرد عذْر كل حساس مصقول النفس مثقف العقل، تصطدم عنده الآراءُ والعقائد بمظاهر الحياة وواقع الحال. وليس أقسى من أثر ذلك فى النفس ولا أوجع. ولسنا نحتاج أن نرجع إلى عصره بصفة خاصة. فإن الحياة كانت قديمًا وما زالت إلى الساعة، وستظل إلى آخر الزمن، إن كان له اخر، صراعًا دائمًا وجهادًا متواصلًا. وما نظن الحياة الإنسانية خلت قط من بواعث السخط ودواعى التذمر. وما كان المرء ليهتدى إلى الشعور بنفسه ولينطق بقوله «أنا» لولا ذلك، ولولا إحساسه إلى جانب هذا — أو قبله — بحدود قدرته، وباحتكاكه بما يجاوز هذه الدائرة، ويحدد هذا المجال، وقد يعين الجهل أو البلادة أو كلاهما على الرضا وإشعار النفس الراحة الحيوانية، فلا يرى المرء فيما يحيط به ويضيق عليه، إلا عدلًا مقنعًا وضرورة لا مهرب منها، ولا خير فى التبرم بها. وليس كذلك المثقف الذكى المشاعر الذى كأنما يحس الحياة بأعصابه العارية. مثل هذا لا يسع طوقه أن يغمض عينيه وينيم أعصابه حتى لا يرى ولا يحس ما فى الدنيا من الظلم والغبن والخلط والفساد والتناقض. ومهما كانت وجوهُ الاختلاف ومواضع التباين بين عصرنا هذا، مثلًا، وعصر ابن الرومى، فإن مساوئ الحياة ومتاعبها واحدة. وما كان سخط ابن الرومى على مظهر عارض أو عيب طارئ، فنحتاج إلى أن نصف هنا ما كان عليه زمانه، ولكنه كان على ما يخلو منه عصر ولا يبرأ من مثله زمن. ومن الذى يقرأ قوله مثلًا: نقول من الذى يقرأ هذه الأبيات — وإن كان ما حذفناه أضعاف ما أثبتناه — ولا يحس ما فيها من الصدق، ولا يذكر بها كثيرين ممن يرفلون فى حلل السعادة، وهم لم يمدوا إليها يدًا، ولا سدت بهم فى سبيل اكتسابها قدم ولا استحقوها إلا بأن الحظ أورثهم إياها، وإن لم يكونوا خير الناس ولا أكفأهم ولا أفضلهم؟ وعسى من يعترض فيقول إن هذا أشبه بأن يكون حسدًا لا سخطًا على جور الحظ، ودليل ذلك قوله بعد أبيات: نقول كلا! ليس هذا فى شىء من الحسد. وإنما الذى يغلّط المعترض أن ابن الورمى يعرف قدر نفسه ولا يخفى عليه مكانه من الفضل وا لاستحقاق، وأن إحساسه بثقل القيود المحيطة به، وشعوره بعرفها وحزها، وإدراكه لمبلغ تعويقها، كل هذا قد أبرز «أنا» فى شعره وفى حياته إلى المكان الأول من الواعية. ونظن أننا فى غنى عن الإطالة فى تبيين أن الذاتية إنما يُبرزها إدراكُ حدودها والتصادمُ بما هو خارج عنها، إذا صح هذا التعبير. ومن الجلى أن الرجل الذى تتدفق حياته فى مجرى لين لا يعوقه شىء، يختلف إحساسه بذاتيته عمن تعترضه العقبات فى كل خطوة. وقد كان ابن الرومى يريد أن يحيا حياة فنية: أى حياة تكون أقرب إلى مُثُله العليا التى كان ينشدها، وأخلق بما يفهمه من وظيفة الشاعر وأليق بمنزلته، كما هى فى نظره، فبغى ذلك وعجز عنه ولم يظفر به، وعزَّه أن يكيف نفسه على مقتضى الظروف والأحوال التى تحيط به، ومن هنا حفل شعره بذكر نفسه، واكتظ بالمقابلة بين الرغبة والإمكان، وبين الأمل والواقع. ونرجع إلى القصيدة التى سقنا منها هذه الأبيات، فنقول إن ابن الرومى بعد أن أفاض فى صفة هؤلاء الناس وما ينعمون به استطرد إلى ذكر رجل راة أحق بهذه النعم الجزيلة منهم وأسِف لما هو فيه ولعدم انتفاعه بفضله وعلمه، فقال: وليس ابن عمار هذا الذى عدا عليه الدهر وسلبه كل ما كسا الناس إلا اللحم والجلد — نقول ليس هو بالذى كتبت إليه القصيدة بل ذاك غيره. فليس بابن الرومى حسد، وإنما هو سخط على ظلم الحظوظ ويؤكد ذلك، وإنه لا يقصد إلّا إظهار ما فى الدنيا من التخليط والغبن، إنحاؤه بعد ذلك فى القصيدة عينها على الشرط وهم الأعوان الذين يوكل إليهم حفظ الأمن: ولا ينبغى أن يفوت القارئ وهو يقرأ هذه القصيدة وغيرها من مثيلاتها التى قد تتخذ دليلًا على ما انطوت عليه نفس ابن الرومى من الحسد أو الحقد، نقول لا ينبغى أن يفوته أن الرجل كان دقيق الحس لطيف الشعور، وأنه كان من قوة الخيال بحيت يستطيع أن يحضر لذهنه ويتمثل أمامه ما يتخيله، ويجسده لنفسه كأنه واقع يحس ويلمس. ومن هنا تراه إذا وصف أفاض واسترسل، وتوخى الاستقصاء والتصفية ولم يدع شيئًا. ودفعه إلى الاسترسال وأغراه به، لا الحسد ولكن لطفُ الحس الذى يتناول أدق الأشياء وأخفاها، ومراحُ الخيال القوى الذى يجسد الصورة وُيشعر صاحبه اللذة والمتعة المستفادتين من استقصاء الجوانب وإتمام النواحى. وقوة الخيال تغرى أبدًا بمثل هذا وتبعث عليه. وقد يبدأ المرء غير معتزم إطالةً، حتى إذا استولت عليه قوةُ ما يتخيل، سحره ذلك وتملكته روح الفن، فالدفع على غير قصد ومضى ولم يكن فى حسبانه أن يمضى … فليس ما به حسدًا ولكنه قوة الخيال ودقة الشعور وبروز الإحساس بالنفس، ومع ذلك هبه كان حسدًا وحقدًا، أو ما شئت فسمه، فماذا إذن؟ أليست هذه طبيعة الناس؟ ألسنا قد خلقنا الله كذلك؟ فأى بأس فى أن نكون كما برئنا؟ «وأين عن طينتنا نعدى؟»، كما يقول ابن الرومى. ونرد المسألة إلى أصلها الأول، فنقول إنه لم يستطع أن يتكيف على مقتضى الأحوال التى يعيش فى ظلها كما استطاع ويستطيع أكثر الناس. وأكثرهم بلا مراء أوساط عاديون، ومرد هذا العجز إلى حالة الأعصاب، ولا يخفى أن الدافع إلى التكيف هو الرغبة فى سد حاجة عضوية أو اتقاء متعبة. ومعنى هذا بعبارة أخرى، أن المرء يسعى إلى التكيف ليحس الارتياج ولينفى أو ينقص المتاعب. فإذا لم يستطع ذلك ولم يقو عليه ولم ينل ما يناله مَنْ وَسِعه ذلك من الارتياح، ولم يتق ما اتقاه غيره من الإحساسات المنغصة. ولا مفرَّ له بعد ذلك من أن تثقل وطأة الحياة والناس عليه، ومن هنا يأتى سخطه على الحياة، ونقمته على المجتمع، وتبرمه بأنظمته وأحواله، وقلة صبره على ما يسوءه مما يحتمله الأكثرون أو لا يلتفتون إليه، وسرعة تهيجه وغضبه على معاشريه والمحتكين به والذين يلتقى بهم فى طريقه. ومن هنا أيضًا تنشأ الأوهام وتصير عنده حقائق ثابتة لا سبيل إلى طردها أو التفطن إلى أنها ليست إلا مما يحدث فى جوفه ويجرى فى نفسه لا مما تحدثه إرادة خارجية. ومن هنا كذلك تتولد فكرة الاضطهاد المتوهم والإشفاق من العالم الخارجى ومن ساكنيه وتوقع الأذى من ناحيتهما. وهذا كله ظاهر ينطق به شعر ابن الرومى. كان ابن الرومى فى صباه فتى غرانقًا، كما يقولون، وسيم الطلعة، مقدود القوام قدّ السيف، كما يقول: خفيفَ الروح أنيس المحضر، مزهوّا بملاحته مغرورًا بشبابه، مدفوعًا بحرارته وبقوة إحساسه إلى اغتنام فرصة الحياة، فلبس هذا البرد «لبسَ ابتذال» كما يقول، وأخلقه ولم يصنه ولا ادّخر منه شيئًا للكبر، وفعل بصباه فوق ما يفعل الناس فى العادة. ولعل الذى أعجزه عن القصد وعدل به عن الاعتدال، وقدةُ إحساسه مع الشباب من جهة، ووسامته من جهة أخرى، ولم يكن ابن الرومى يخفى عليه أنه جميل، وأن جماله يصبى النساء كما يصبيه حسنهن، ولا كان يتحرج أن يذكر ذلك فى شعره ويباهى به، حتى بعد أن شِينت ديباجته، وتقوست قناته، فتراه مثلًا يقول وهو يستسقى عهد الشبيبة ويتلهف عليها: وقد أورده ذلك ما يورد، فاغتال اللعبُ بأول الدهر شِرَّته «بأخرى حقود، والجرائم تحقد» وتضعضع كبانه ودب الكلال فى عظامه وتوكأ على العصا: وفقد شبابه بسرعة ولم يفقد لباناته وأوطاره فصار كما يقول: وناهيك بهذا من عذاب! وقد يحب أن يتعزى فيقول: ولكنه لم يستطع عزاءً، ورزح شيئًا فشيئًا على مرّ الليالى، وانتابته الأسقام واصطلحت عليه العلل والأمراض، وصار كما يقول: ولم تسلم حتى عيناه، فقد كانتا كثيرًا ما ترمدان، وفى ذلك يقول لعبيد الله بن عبد الله: يعنى بالملحود القبر، وقد لازمته علته هذه شهرًا وتكررت ثم انتهى الأمر به إلى ضعف البصر كما يقول فى دالية له يندب فيها شبابه: وله فى قصيدة أخرى: وأخلق به أن يضعفه ويصيره إلى هذا المصير استهتارُه فى صدر أيامه، وإدمانه القراءة والاطلاع، فقد أحاط ابن الرومى بكل ما يحاط به من العلوم والمعارف والآداب فى عصره، كما يدل على ذلك ما فى شعره من الإشارات التى يحتاج المرء فى فهمها إلى العلم بتاريخ العرب والفرس جميعًا والوقوف على كل ما كان لهم فى كل باب. وقد ذكرنا لك أن أحد مؤرخى العرب قال عنه إن الشعر كان أقل أدواته، ويقول ابن الرومى نفسه للقاسم بن عبيد الله: وليس بغريب بعد ذلك ألّا تسلم أعصابه، وأن تضطرب ويختل توازنها. ومهما يكن من الأمر فإن من المحقق أنه لم يكن سليم الأعصاب، وأن جهازه العصبى كله كان غير منتظم. يدل على ذلك موتُ أبنائه الثلاثة واحدًا بعد واحد، وفى غير السن التى يكون فيها الإهمال من أسباب الوفاة، ومراثيه لهم، وبخاصة داليته فى رثاء أوسطهم، لا يفوقها شىء فى لغة العرب أو غيرها من اللغات التى اطلعنا على آدابها. وقد كان إلى جانب ذلك أحمق طياشًا سريع الغضب، وكان إحساسه الجنسى حادّا ليس فيه شىء من الاعتدال البته، وهنا لا يسعنا بكرهنا إلا أن نذكر أن معاصريه كانوا يستفزونه بقولهم عنه إنه عنين، وكانت ثائرته تثور لذلك فيهجوهم أفحش الهجاء وأقذعه، وينكر التهمة، ويعنى بدفعها، ولكنه مع ذلك قال وهو يتحرق على شبيبته: والبيت الأخير هو الشاهد. والاعتراف فيه صريح لا يحتاج إلى تعليق، فكأن ما قيل عنه حق، أو هو إلى الحق أقرب وبه أشبه. ثم لا تنس أنه فى هجائه قلما يفوته أن يبسط لسانه تسطًا شنيعًا فى أعراض من يهجوهم من الرجال والنساء أحيائهم والأموات. على أنه ليس أقطع فى الدلالة على اضطراب أعصابه من طيرته. وكان مفرطًا فيها، وبلغ من غلوه أنه كان كلما أراد الخروج من البيت «يتعوَّذ» بعد أن يلبس ثيابه ثمِ يمضى إلى الباب وفى يده المفتاح، ولكنه لا يديره فيه، بل ينظر أولَا من ثقب هناك فى خشب الباب لأن له جارًا أحدب يتطير من رؤيته ويخشبى أن يلقاه، فإذا رآه من الثقب عاد أدراجه، وخلع ثيابه، وأقام فى بيته لا يبرحه، ولعل حاجته إلى الخروج شديدة، وكثيرًا ما كان يصبر على الجوع والظمأ هو ومن معه من الأولاد والنساء ويغلق الأبواب عليهم، ويؤثر ذلك على الخروج والتصرف بعد أن رأى أو سمع ما يتطير منه. وقد وصف جاره الأحدب أبدع وصف، أو رسمه على الحقيقة، فقال: وكان إخوانه يعرفون ذلك منه ويعابثونه، فيبعثون إليه من يقرع بابه فإذا قيل له من؟ قال: «مرة بن حنظلة» فيتشاءم ويستعيذ بالله ويقيم فى بيته لا يبرحه. وكان على بن سليمان الأخفش أجرأ الناس عليه بذلك. وبلغ من تطيره أنه كان يقلب الأسماء فيقول مثلًا «حسن مقلوبة على نحس. ويتشاءم إذا رأى نوى تمر فى الطريق، ويقول إن النوى الفراق، وإن هذا يشير بأن لا تمر. وإذا أصابه هو أو سواه شىء، عزاه إلى أمر من هذا القبيل. وحدث مرة أن صاحبًا له بعث إليه بغلام جميل يعرفه ابن الرومى ويطمئن إليه فجاء به فلما تخطى باب الصحن فى دار صديقه عثر فانقطع شسع نعله فدخل مذعورًا وعلل هذه العثرة بأن الغلام به عاهة وهى قطع أنثييه. وأقام اخر مهرجانا وكان من بين الجوارى فى ذلك اليوم صبية حولاء وأخرى فى عينها نكتة، فتطير ابن الرومى. ثم إنه حدث بعد مدة أن سقطت ابنة الرجل من بعض السطوح فماتت، وأنْ جفا القاسمُ بن عبيد الله ابنَ الرومى فرد هاتين المصيبتين إلى الجاريتين، وكتب بذلك إلى والد الفتاة يقول: وأخذ فى هذه القصيدة يثبت أن الطيرة معقولة، ويدفع قول من قال إن النبى نهى عنها: وهجا مرة كاتبا اسمه أبو طالب فحذر الناس من شؤمه: وكان ينفى عن نفسه أنه نحس ويهجو من يزعمه كذلك كما قال فى ابن موسى: ويقول عن نفسه إنه ميمون مبارك، كما فعل فى همزية طويلة وجّه بها إلى القاسم بن عبيد الله الوزير: إلى أن يقول مخاطبًا القاسم: ولقد طلب إليه فى هذه القصيدة أن يتخذه «عوذة» لمجلسه فقال: ويقول فى بائية له إنه يخاف: ولو وقف الأمر عند حد التطير لهان بعض الشىء، ولكنه كان يكابد ما هو أدهى. ذلك أنه كان مصابًا بتوهم الاضطهاد واقعا عليه من الناس ومن الطبيعة نفسها. فأما من الناس فلا نحتاج إلى أن نورد من شعره شيئًا، فقد عرف القراء أنه حافل بما ينم على ذلك. وأما من الطبيعة فقد يكون مما له دلالة، قوله فى يائيته التى مدح بها أحمد بن ثوابة: ولعل ذلك راجع على اقتداره على التشخيص وإلباس المعانى صورَ الأحياء، ولكنا نعود فنسأل: لماذا يعد نفسه مقصودًا بالذات؟ الطفل، إلى حد كبير، صورة مصغرة من الجنس الإنسانى يمر به، باختصار، ما مرّ بجنسه من الأطوار، وينتقل شيئاً فشيئًا من الذاتية غير المدركة، إلى الذاتية المدركة، ثم إلى التفطن لما هو خارج عنها. أول ما يحسه هو ما يجرى فى جوفه، كما تنم على ذلك حركاته التى يسعه أن يقوم بها، وصيحاته — وهى أيضًا حركات عضلية — وكما يدل على ذلك ما يبديه من الشعور بالحالات العامة من مثل الجوع والظمأ وما إليهما. هذا هو الطور الأول، وهو طور ليس فيه وعى. فلا المخ يهيمن على المراكز الدنيا، ولا ما يتولاء الحس يمكن ترتيبه وتوليد فكرة منه، ولا للإرادة دخل فى الحركات. ثم يأتى طور آخر تقوى فيه المراكز العليا على الأيام، فيعنى الطفل بما يأخذه حسه ويكوّن من ذلك فكرة إلى حد ما، وتصدر عنه حركات يبغى بها غاية. وهذا الدور هو مولد الإرادة، وبه يرتبط الشعور بالذاتية والتنبه إلى أنه فرد. غير أنه حتى فى هذا الدور تظل واعيتُه غاصةً على الأكثر بحالات نفسه، ويبقى هو أكثر اشتغالًا بما يجرى فى جوفه منه بالعلم الخارجى. فهو مثال بارزٌ للأنانية إذ كان لا يكترث إلا لما له اتصال مباشر بنفسه وحوائجه وميوله. ثم يترقى فينضج رأيه فى علاقته بغيره وبالطبيعة، ويتزن إحساسه بذلك، وتتضاءل عنايته بما يجرى فى كيانه العضوى، إلا إذا ألحت عليه ضرورة، ويعظم التفاته إلى ما يتناوله حسه، فتتراجع ذاتيته إلى ما وراء ما عداها، وتملأ صورة العالم الخارجى أكثر جوانب الواعية. ويصبح الطفل رجلًا من الأوساط العاديين الذين هم السواد الأعظم من الناس الذين تتمثل فيهم أسمى درجات الذاتية باشتمالها على ما عداها، أى بإدراك العالم، ويقهر الأنانية، أى بالانتقال إلى ما يسمونه «الألترويزم» وهو الاهتمام بالغير بدافع من العطف أو سواه مما يجرى مجراه، لا رضاء لحاجة جسمية ملحًة، ولا إشباعًا لعضو من جوع وقتى، كما هو الشأن فى الجوع وفى الغريزة التناسلية ومن الواضح أنه لا سبيل إلى الحياة المدنية العادية بغير ذلك أى بغير الألترويزم. وكيف تكون الحياة الإنسانية إذا كان الناس لا يستطيعون أن يحضروا لأنفسهم إحساسات سواهم وأن يمثلوها لخواطرهم أيشعر بالعطف من لا يسعه أن يتصور آلام الناس؟ أيكترث للناس مخلوقٌ لا يقوى على تخيل الأثر الذى يحدثه ما يعمل أو ما يُغفل أن يعمل؟ — هذا ولا بد للمرء أن يدفع عن نفسه سوءَ فعل قوات الطبيعة، وأن يستخدمها لخيره ولفائدته، وذلك ما لا سبيل اليه ما لم يعرف هذه القواتِ معرفتها، وما لم يستطع أن يتصور فعلها. وهذا كله يستوجب من المرء أن يكون أكثر التفاتا إلى ما عداه. وذلك مظهر الرجل العادى فى الأغلب والأعم. عنايته بما يقع فى نفسه من الخارج، أشدُّ وأعظم استغراقًا له من عنايته بما يأتى من ناحية نفسه، وواعيته أغص بصور العالم الخارجى منها بنشاط كيانه وأعضائه، وليس له من الذاتية أكثر من القدر اللازم للاحتفاظ بفرديته. وليس كذلك الرجل الشاذ الذى يخلق على غير طراز الأوساط، والذى يظل طولَ عمره أشبه بالطفل من حيت علاقة الذاتية بما عداها. ومن هنا تكون المبالغة فى تقدير العمل الشخصى والغلوُّ فى أهميته. وما من شك مثلًا فى أن الأدب من لوازم الحياة الإنسانية، ولكن تاريخ العالم لا يدور على محوره وحده، وهب الأمر كذلك فهو على التحقيق ليس رهنًا بشعر شاعر واحد معين. ولا ريب فى أن كل امرئ يعتز بعمله ويكبره، ولكن الفرق بين الرجل العادى وبين الشاذ، هو أن الأول لا يغالى بعمله ولا يعدو به قدره، وأن الثانى يجاوز الحد المعقول، ولا يستطيع أن يتصور أن واحدًا من الناس قد يخالفه فى ذلك ولا يرى رأيه فيه، فإن فعل، فهو خصم وعدو. وقد كان ابن الرومى لسوء حظه — أو لحسنه ولحسن حظنا على الأصح — واحدًا من هؤلاء الشواذ. فنه الشعر. فالشعر عنده أحق ما فى الحياة بالعناية والإكبار، وقائله أولى الناس بأن توفر له أسباب الحياة التى يتطلبها فنه. وهو (ابن الرومى) بصفة خاصة أحق مخلوق أو شاعر بذلك، فمن حقه على الناس أن يرزقوه إذا لم يستخدموه: وهى صرخة مؤلمة! — ثم يجب بعد ذلك، أى بعد أن يوفر له رزقه ولو من غير طريق الاكتساب، أن يمكن من السماع لأن أذنه حساسة واعية تحن إلى السماع الجميل، ومن إرضاء حواسه الأخرى أيضًا لأنها قوية مُلحة فى طلب الإرضاء: ولماذا: وليس هذا، على صحته بالسبب الموجب على القاسم أن يجعله أدنى جلسائه! لأن القاسم قد يكون كهؤلاء الجفاة الذين لا يميزون بين الضوضاء والغناء الجيد، وقد لا يحب أن يؤلم نفسه بحضور من هو أفطن منه وأدق حسّا. وقد يحتاج إلى أن يتزوج فيخطب لنفسه فتإة ويعين يوم الزفاف فيطالب صديقًا له بأن يعينه على زفافها: وما ذنب صاحبه إبراهيم هذا؟ قال لأنى: نقول نعم جائز! وقد كانت له أرض كما قلنا وكان عليه أن يؤدى عنها الخراج، فكتب إلى وهب بن سليمان يستعفيه من ذلك: ولكن غيره قد يستعفون مثله، فماذا يكون العمل؟ وهكذا. فما ثم داع للإطالة فإنه هو القائل: كذلك لم يكن بينه وبين الناس ما ينبغى من التعاطف بل حتى ما يجعل الحياة ممكنة. وقد لا يكون هذا ذنبه إلا من ناحية أعصابه المضطربة، وذلك ما لا حيلة له فيه. أما الناس فواضح من شعره أنهم لم يكونوا يقدرون حاجات نفسه، أو يدركون مبلغ إلحاحها عليه، وعذره فيها واضطراره إليها، فلم يستقم الأمر بينه وبينهم. ومهما يكن من الأمر فهذا هو الواقع على كل حال. وما أكثر ما ترى فى شعره مثل قوله أو قريبًا منه: أو قوله: فما ظنك بغير الثقاة؟ وهذا يدعونا إلى الكلام على هجاء ابن الرومى. كلمة فى السخر أولًا: ما هو السخر، إذا ذهبنا نعتبره من فنون الأدب؟ إن هذه الوجهة هى — بالبداهة — كل ما يعنينا. وهو بهذا الاعتبار، العبارة — بما يناسب ذلك من الكلام — عما يثيره المضحك أو غير اللائق، من الشعور بالتسلى أو التقزز، على أن تكون الفكاهة عنصرَّا بارزًا والكلام مفرغًا فى قالب أدبى. ولسنا نظن أننا أحطنا فى هذا التعريف بكل ما ينبغى أن يُحاط به، أو أقمنا كل المعالم والحدود. ولكنه على هذا كاف فى رأينا للدلالة على المراد، فهو حسبنا إلى مدى بعيد. فالشاعر حين يسخر، يتناول بُعد ما بين الأشياء والطبيعة، ويركض فى حلبة يتقابل عند طرفيها الواقع من ناحية ومُثُلُ الكمال من ناحية أخرى. وقد يفعل ذلك جادّا أو متفكها مداعبًا، أى أنه قد يستوحى إرادته ومشاعره أو يستملى عقله. فإن كانت الأولى فهو هاج منتقم، وإن كانت الثانية فهو ساخر يركب ما بدا له بالدعابة. وإلى هنا لا يكون هذا أو ذاك أدبًا أو من الأدب فى شىء. وعسى من يخونه الصبر فيسأل: وكيف يكون هذا كذلك؟ أتريد أن تُخرج من الأدب كلَّ ما قاله العرب مثلًا فى باب الهجاء والتهكم؟ ألا يُعَدّ من الشعر ما نظمه فى هذه المعانى جريرٌ والفرزدق أو دعبل وبشار وابن الرومى والمتنبى مثلًا؟ إذًا فماذا أبقيت؟ نقول: كلا يا سيدى القارئ! هوِّن على نفسك! فما نقصد إلى شىء مما قام فى وهمك. وما أردنا سوى أن نقول إن الشعر ليس أداةَ انتقام ولا هو عبثُ يتلهى به الفارغون من قالته وقرائه. ومن الصعب على المرء ألّا يفسدَ الصورةَ الشعرية حين يهجو جادّا مستطيلًا، وألّا يفجع الشعرَ فى حرية الحركة، وهى من أغلى ما فيه ومن ألزم لوازمه. وهو حين يتفكه كثيرًا ما يخطئه روح الشعرَ وتذاد ألحاظه عن اللانهاية.. فالأمر معضل كما ترى فكيف نشير؟ نشير يا سيدى القارئ بهذا: بأن تخلع فى الحالة الأولى على كلامك خلعة من الجلال، وبأن تُضفى عليه فى الحالة الثانية حلة من الجمال. وأحسبك ستقول: فنقول أى نعم والله ياصاحبى! ولكن المسألة أبسط مما نظن فلا ترع! وما عليك إلا أن تنفى عن ذاكرتك — إذا استطعت — ما فيها من «ضوضاء» الهجاء القارص والطعن المقذع، وما كوّنته على أثر هذه الجلبة من الرأى الذى لعله عنَّ لك بسوء الاتفاق. ثم هلمَّ نتفاهم: وما أيسر ذلك إذا أخليت رأسك من هذه الضوضاء، وتفضلت فتناولت رأيك ووضعته إلى جانبك لحظة. وفى وسعك أن ترده إلى مكانه من دماغك إذا لم يعجبك كلامنا! نحن متفقان — فيما أظن — على أن السخر على العموم مبعثه مقابلة الواقع باعتبار ما فيه من النقص، بصورة الكمال باعتبارها أسمى الحالات التى ينبغى أن يكون عليها الواقع. كثيرًا ما تكون صورةُ هذا الكمال غامضةً ملتاثة، بل لعلها لا تعدو هذا الغموض أبدًا، ولا تخلص من ظلامه قط إلى نور الوضوج والبيان. وعلى أنه يكفى الإحساسُ العام بها؟ ولما كان المرء قلما يتهيأ له — أو لا يتهيأ له قط — أن يتمثل صورَ الكمال واضحة مشرقة، فأكثر ما يسعه هو أن يلفتنا إليها ويوقظ فى نفوسنا مثل إحساسه العام بها. وهذا هو ما ينبغى أن يجعله وكده: أى أن ينبه فينا هذا الإحساس الذى لا يستطيع أن يصوره لنا على وجه الدقة. والى هنا نرى أن كلامنا أوضح من أن نحتاج معه إلى إفاضة فلنخط خطوة أخرى لها أيضًا ما بعدها. ينفر المرء من شىء واقع أو يتقزز أويشمئز منه أو ما شئت غير ذلك من هذه المترادفات التى لا أحسن أن أرصها رصّا. فتثور عليه نفسه. ولكن لماذا؟ الآن الشىء فى ذاته، ومن حيت هو، من شأنه أن يبعث فى النفس الإحساس بالتقزز ويثيرها عليه؟! لا نحسب أحدًا سيذهب إلى ذلك. وشبيه بهذا أن يقول قائل إن كلمةً معينة من الكلمات رديئة، وإن حروفها التى تتألف منها ثقيلة بغيضة، وإنها كيفما كانت، وفى أى كلام وردت، لا تكون إلا قبيحة كريهة الورود على الأذن — وهو ما لا نظن عاقلا يقول بمثله. فالشىء فى ذاته لا يبعث على سخط أو رضا، ولا يكون غرضًا لذم أو حمد، وإنما يكون هذا أو ذاك حين تقيسه إلى المثل العليا، وتجريه على صورها، وتقرنه بها. وهنا محل التنبيه إلى خطأ كثيرًا ما يؤدى إلى الخلط. ذلك أن المرء قد تلجّ به حاجة من حاجات جسمه أو نفسه. ويلقى شيئًا مما هو كائنٌ، عقبةً فى سبيل إرضائها فيسخط، ولكن لا على العراقبل التى تأخذ على رغبته مذهبها، بل على الجماعة، وربما تجاوزها إلى الجنس الإنسانى كله، وإلى الحياة على الإطلاق، لما يتعلق به وهمه من أن مصادر هذا الإحساس عامة، ولما يعزوه إليه من البواعث الأدبية السامية. وهذا هو دأب الضعاف والمتخلفين. على أن غيرهم قد لا يسلمون من هذا الخلط، لأن القدرة على تحريك النفوس تخدعهم وتغرّهم. ومهما يكن من الأمر فإن هناك فرقًا بين أن يؤثر الشاعر بإهاجة العواطف وبترك القلب تستغرقه الإحساسات المؤلمة، وبين أن يثير فى النفس الإحساس بالاستقلال الأدبى إحساسًا يبقى العقلُ حرّا فى اللجاجة فيه على الرغم من الاهتياج. ولا عبرة بسمو الموضوع أو ضعته، بضخامته أو ضؤولته، وإنما العبرة بالقاعدة التى يضع الشاعر عليها الأمرَ الواقع، وبقدرته على تهيئة النفوس لقبول ما يُلقى إليها وينفث فيها، وبالمنزلة التى يشرف منها على غرضه. وما دامت هذه ساميةً رفيعة فلا اعتداد بعد ذلك بالموضع. وبعبارة أخرى يكفى أن يكون لنظرة الشاعر حظّ كبير من الجلال والسمو. ومن العسير التمثيل لذلك من الشعر العربى، ولكنا مع ذلك نحيل القارئ على جيمية ابن الرومى التى قالها لما قُتل يحيى بن عمر بن حسين بن يزيد بن على، ومطلعها: وفيها يصف طغيان العباسيين وضلالهم فى الفتك بالعلويين واستهتاكهم وضعفهم إلى حدٍّ استباح لنفسه معه أن يقول «لرجالهم»: فإنه فى هذه القصيدة يُشرف على ضعةٍ من مرقب عال يرفع إليه القارئ بقوة روحه وسمو نظرته، وهو يشعرك بمطلع القصيدة أن قتل أبى الحسين هذا قد أثار مسألة تقتضى الفصل، ويرسم لك طريقى الضلال والواجب، ويهيج إحساسك الأدبى بالتمرد على الانتكاس الخلقى الذى أنطقه بهذه القصيدة. ولولا أن المقام يضيق عن ذلك لأوردنا القصيدة كلها على طولها ولتناولناها بيتًا بيتًا. وغير منكور أن الموضوع الجدى يسمو بنفسه ويساعد الشاعر الذى يتناوله. وليس الحال كذلك حين يعالج الشاعر الفكاهةَ. وأنت حين نجدُّ قد لايشق عليك أن تحلِّق، ولكنك حين تجنح إلى الفكاهة لا يعود من السهل أن تحافظ على الاستواء الواجب، وأن تتقى الهبوط، وتجنب الإهاجة، وتكبح عواطفك، وترخى العنان لعقلك وأن تشيع الجمال فى موضوعك لتسد نقصه وتملأ فراغه وتعوض تفهه، ومن هنا قالوا إن غاية الفكاهة هى أقصى ما هو مقدور للإنسان. يعنون بذلك التحررَ من تأثير العواطف العنيفة، والقدرةَ على التأمل فى سكون واطمئنان، والنظر إلى ما يقع، لا إلى القدر أو الحظ أو الاتفاق، ومنحَ الحما قات والسخافات والمتناقضات ابتسامةً رضية لا عبرة متحدرة، وكبحَ جماح الغضب عند شهود لؤم الإنسان ومعاناته. ولعل خير من يذكر على سبيل التمثيل فى هذا الباب هو «هينه» الألمانى. أتقول الألمانى؟ كلا والله! فما تستأثر بهينه أمة ولا زمان ولا مكان! ولقد طلق ألمانيا ولم يصر فرنسيّا، ونبذ اليهودية ولكنه لم يصبح مسيحيّا، وزعمه «تيك» فى قصة رمزية شيطانًا قزما متقلبًا مسيئًا! ولكن أغانيه أحلى وأعذب، واستيلاءه على ينابيع الضحك والبكاء أعظم مم! شاء «تيك» أن يعترف. ولا ينبغى للقارئ أن يتوهم مما أسلفنا الكلام عليه أن العبث جائز فى الشعر لأن الشاعر يتناول المضحكإت أحيانًا ويمزح ويسخر وتركب الأشياء والناس بالهزل، فإن هزله أبدا مبطنٌ بالجد، وهو لا يقصد إلى الهزل فى ذاته حين يريك الهزل ويصوره لك. ولقد كان «لوسيان» و«أرستوفانيز» يتعاقبان سقراط بالنكات القاسية ولم يكن غرضهما أن يمزحا فحسب، بل كانا يريدان أن ينتقما للحقيقة من السفسطة فى رأيهما، وأن يبرزا إلى المكان الأول ما يلقى به الناس وراء ظهورهم من المثل العليا. ثم ما أجمل وأبهر الصور الهزلية التى رسمها قلم «سرفانتس» فى قصة دون كيشوت! وفولتير؟ ذلك الذى لم يشهد العالم ساخرًا مثله؟ ذلك الذى كان سخره عاملًا كبيرًا فى إحداث انقلاب ضخم لا يزال أثره محسوسًا إلى هذه الساعة! من الذى يفوق هذا الأستاذ ويبذه؟ من الذى يشبهه فى أسلوبه؟ إن الحكم على فولتير حكمًا فنيّا بحتًا يستدعى قبل كل شىء تجريدَه — إذا أمكن ذلك — من صفته القومية الحادة، إذ بغير ذلك لا يستقيم الحكم عليه ولا يتأتى إنصافه وإنصاف الأدب معه. وما من شك فى أن صدق سريرته وبساطة طبيعته تلمحان هنا وههنا فى خارجيَّاته، وتحركان فى نفس القارئ العواطفَ الشعرية حين يتوخى البساطة فى تمثيل الطبيعة وتصويرها، كما فعل فى «الأنجينى» أو حين يبغيها ليقتص لها كما فعل فى «الكانديد» وغيرها. وهو فيما عدا ذلك يسلينا ويسرنا بملحه الطريفة، ولكن — نعم ولكنً لا يصل إلى قلوبنا. وهذا قول قد يسخط كثيرين من المعجبين به مثلنا، والمغالين بقدره غيرنا. غير أنه قد يسمح لنا أن نتهجم قليلًا! ومن الذى لا يتهجم؟! من الذى يلزم حده أبدًا فلا يتقدم عنه ولا يتأخر؟ أين فى الناس من لا يتطاول به الغرور؟ وإن لنا لحظّا من الغرور قسمه الله لنا فلنقتحم إذًا!! ولنقل إنا لا نلمح المقدارَ الكافى من الجد وراء تهكمه فى كثير من المواطن. ولن يفوتك أبدًا أن تلتقى بذكائه وبراعته وحذقه، ولكنه يعييك أن تهتدى إلى إحساسه، وأن تطَّلع على شعوره وعواطفه، وأن تلمس قلبه. وهو دائم الحركة، لا يفتر ولا يكل، غير أنه ليس هناك شىء ثابت وراء هذه الحركة المتواصلة، أو نجم قطبى يصمد إليه ويتجه نحوه، وقد أسبغ على كتابائه مئات من الكسى، وصبها فى أشكال لا يأخذها حصر، ولى يوفق إلى شكل واحد يضع عليه طابع قلبه ويسمه بميسم نفسه. فهو غنى الذكاء فقير القلب، خصب المادة سخى المظهر، ولكنه كان يمشىِ فى هذه الدنيا، ويخرج فيها من درب إلى درب، ويعرج يمينا وشمالَا، وينثر براعاته فى كل مكان، ويسح بملحه وطرائفه سحّا، وفى جوفه صحراء لا تونس وحشتها واحة واحدة! من الصعب على الناقد الذى تأخر به الزمن مثلنا أن يُجرى أحكامَ ما يأخذ به من الآراء فى الأدب عامة والشعر خاصة، على قوم طوتهم الأيامُ بخيرهم وشرهم، وتغيرت الدنيا بعدهم، فلو أُنشر والأنكروها وما عرفوها. لأن الناقد لا يأمن، إذا هو فعل ذلك، ألّا يظلم أولئك الأقوام حتى حين يريد إنصافهم وتبيين أقدارهم. ومن أجل ذلك يخيل لنا بعد الذى قلناه عن السخر أننا نوشك أن نظلم ابن الرومى، وأن نحمله جريرة أحوال لم تكن مما جنى، وظروف لا يد له فيها ولا حكم عليها. أو على الأقل هذا ما نرجح أن سيعتقده عامةُ القراء من عارفى هذا الشاعر أو السامعين به. ولكنا مع ذلك سننصفه من حيث يبدو أننا خفناعليه وغمطناه. لم يكن الشعر على عهد ابن الرومى فنّا يزاول لذاته، أى للترفيه عن النفس وإدخال السرور عليها من طريق الجمال. ومعلوم أن الباعث الأول على الشعر هو حدةُ إحساس المرء ودقة شعوره، وذلك لأن كل مؤثر قوى يثير فى المرء حركات تتعلق بها المداركُ فى صورة عاطفة أو انفعال نفسى لا يزال يبغى مخرجًا ويلتمس متنفسا حتى يصيبه فى حركة عضلية أو نحو ذلك، فإذا كان المرء من أوساط الناس العاديين كان ذلك حسبه للترجمة عن عواطفه وانفعالاته. وصار قصاراه أن يبكى إذا حزن، وأن يضحك إذا فرح، وأن يثور ويتوعد إذا غضب، حتى تفنى العاطفةُ نفسها ثم يثوب إلى نفسه. ولكن دقيق الشعور لا يكفيه هذا المتنفس لأنه أحسُّ من غيره بما تطلع عليه نفسه من الظواهر، وأعمق مع دقة الحس شعورًا. وليس يخفى أن دقة الإحساس وعمق الشعور يطيلان أجلَ العاطفة، ويمدان فى عمرها، ويفسحان فى مدتها وبقائها. فإذا استولت عليه عاطفة لم تزل تجيش وتضطرم حتى تقر وتنتظم، ثم تتحول فكرة قاهرة تظل تجاذبه وتدافعه حتى ينفس عنها عمل يناسبها — هذا هو الفن لذاته فحسب. ولو أنك أردت أن تجد لهذا ضريبًا فى عصرنا يقرب إليك المسألة ويصورها — على قدر الإمكان — لكان بك أن تبغيه بين جدران المدارس. ولقد قدمنا لك فى مقال سابق أن خصائص الآباء تظهر فى الطفل، وأنه يعيد فى شخصه تاريخ التطور النوعى كله. فاذهب إلى المدرسة إذن فماذا تجد؟ تجد هناك فى ذلك الركن من «الفصل» — كما يسمون مكان الاجتماع لتلقى الدروس — تلميذا مكبّا على غلاف الكتاب، وفي يده قلم يرسم به خطوطًا قليلة ساذجة يطالعك منها شىء كالوجه. وأظهر ما فيها شاربان ضخمان طويلان مفتولان لا نسبة بينهما وبين بقية الصورة، إذا جاز أن تسمى هذا التخطيط صورة. فماذا تظنه يعنى؟ ما الغرض الذى صار أمثل فى خاطره وأحضر فى ذهنه حتى فعل ذلك؟ لا ندرى! ولعله هو أيضًا لا يدرى على وجه الدقة. غير أن الأرجح فى الرأى والأقرب إلى الاحتمال أن يكون قد قصد أن يرمز إلى الرجولة التى يتطلع إليها ويحلم بها، فزاد فى الشاربين وبالغ فيهما على نسبة عكسية لتجرده منهما، إذ هو لا يزال أمردَ لم يطرّ له شارب ولا نبت فى عذاريه شعر. والشوارب أدل على الفتوة، وأدنى إلى معانى القوة من اللحية. وتلميذنا إنما يريد أن يرمز إلى سن القوة والفحولة التى تأنس إلى الشوارب ولا تُطيق اللحى التى لا يطمئن إليها المرءُ إلا مع فتور الحيوية. وثم فى مكان آخر من «الفصل» تلميذ ثان يحفر على غطاءِ «درجه» يدًا ممسكة عصا ضخمة، فماذا ترى جرى بباله حين حفر خطوط هذه وتلك بعبراته؟ لعل معلمه أذاقه طعمَ العصا فخامره الإحساسُ بها، ولم تزل تدور فى نفسه رهبةُ هذا السلطان الذى يدل عليه وقعُ العصا، فأجرى مبراته على الخشب بهذه الخطوط التى تمثل له المظهر المؤلم البارز لهذا السلطان. وهناك فى مكان ثالت صبىّ آخر يدنو منه المعلم فتتحرك يده فى خفة وسرعة لتخفى فى جيبه ورقةً، ويلمحه المعلم فينزعها منه فإذا فيها صورة أنف كبير كخرطوم الفيل! فماذا يا ترى فى هذا أيضًا؟ مإذا يريد فتانا بهذا الأنف الذى كأنما عناه ابن الرومى بقوله: لعل هذا الأنف رمزٌ لمعلم يتضاحك به التلاميذ، ولا يقوى هو على حكمهم لضعف فيه أو قلة حزم أو لأن شكل أنفه على وجهه أغرى للتلاميذ، بالضحك من أن تجدى معهم شدة أو حيلة! وثم، فى مكان آخر من «الفصل» أيضا، تلميذ ناهز الثالثة أو الرابعة عشرة يتناول المدرس كشكوله — كراسة الأعمال اليومية — فإذا هو قد ملأه بما يشبه أن يكون صورَ أجسام عارية: فى صفحة صورة فتاة أظهر ما فيها شعرها المنسدل على كتفين يبرز من تحتهما ثديان ناهدان، وفى صفحة أخرى رسمٌ أبرز ما فيه ضخامة الردفين وانسجام الساقين تحتهما، وفى صفحة ثالثة من كشكول تلميذنا رسم قدمين صغيرتين فى حذاءين جميلين. وهكذا.. فإلى أى شىء يرمز هذا الصبى الجرىء؟ ماذا يعنى بهذه الرسوم وبالاشتغال بها عن الدروس؟ لعله هو نفسه لا يفهم السر ولا يستطيع أن يشرح لك الدافع. ولكن المدرس، إذا كان لبيبًا فطنًا، يدرك أن هذا التليمذ أكبر من زملائه قليلًا، وأنه لا يبعد أن يكون قد بدأ يبلغ مبالغ الرجال، وأنه يعبر بما يخطط عن إحساسه الجنسى الغامض الذى أخذ يدب فى جسمه ويتمشى فى نفسه ويلفته كرهًا إلى المرأة ومواضع الملاحة فيها وبواعث الافتتان بها ودواعى الرغبة فيها.. فلماذا يفعل التلاميذ ذلك؟ نظن أنه لا خلاف فى أنهم إنما يرمزون بما يخطون — إذ كان لا يسعنا أن نقول بما «يصورون» — لكل ما له فى نفوسهم وقع وأثر. ولا يفعلون ذلك طلبًا للثناء، أو التماسًا لحسن الأحدوثه وخلود الذكر، لأن دأبهم أن يخفوا هذا الذى يصنعونه، ولا يدعوا عينًا أجنبية تطلع عليه. وكل ما فى الأمر أنهم دلوا بما خططوا على ما له تأثير فى نفوسهم أو ما يشغل خواطرهم. فكانوا بذلك مثالًا مصغرًا لمزاولة الفن لذاته. وهناك طور آخر يتلو هذا ويكون الشاعر فيه قوامَ النظام الاجتماعى، ونصير الدين أو الملك أو الرئيس أو الوطن أو لسان العصبية. وهو طور خلا به فى الواقع عصرُ القبائل عند العرب، أيام كان الشاعر عضدَ القبيلة ونصيرها وفارسها وحاجبها وجلادها والداعى إلى خوفها وخشية بأسها، والمشيد بذكرها والمدونَ لمفاخرها وأيامها، أو بعبارة أخرى أيام كان العرب «لا يهنئون إلا بمولود يولد وفرس تنتج وشاعر ينبغ»: بالمولود ليشب منه فارسٌ يذود عن القبيلة، ويحمى حقيقتها، وتدفع عن بيضتها، وبنتاج الفرس ليركب فى الحرب، وبالشاعر ليذيع محامد القبيلة، ويهجو عداتها «ويدون تاريخها ويسجل أيامها. ولم يكن الأمر كذلك على عهد ابن الرومى. نعم، كان الشاعر لا يجد سوقًا تنفق فيها بضاعته إلا بين الملوك الحكام والأمراء والأشراف والموسرين، إذ كان هؤلاء وحدهم القادرين على تنويله وصلته، والإحسان إليه جزاء إحسانه إليهم وإلى فنه. وما كان هؤلاء ليلقوا بأموالهم من النوافذ، فإذا وصلوه وأجدوا عليه فإنما يفعلون ذلك ليخلدهم فى شعره، ولينتقم لهم من خصومهم ومنافسيهم وحسادهم. ولكن حالات الاجتماع كانت قد تغيرت قليلًا، وتبدلت مراتبُ الناس وعلاقاتهم ومساعيهم غير ما كانت. والشعر كغيره ظاهرة اجتماعية، فكيف ينجو من هذا التطور الذى طرأ على ظروف الاجتماع؟ كان قضاةُ الكلام وفياصله، الشيوخ والرؤساء أو الملوك والوزراء والأمراء، فظل هؤلاء، ولكن ظهر إلى جانبهم العلماء والأدباء والرواة والنقاد، وبدأ الجمهور يبرز بعد الخفاء، ولم يكن ينقص الشعرَ إلا أن تظهر المطابعُ ووسائل النشر التى جدت بعد ذلك، وفى غير ذلك الزمن، وفى أمم أخرى، ليستقل هذا الفنُّ عن الملوك والأمراء والرؤساء، وتدول دولة تحكمهم فى الشعر وأغراضه ومناحيه، وليتحرر الشعراء ويخلو لهم الجو، ولتصبح الصلةُ بينهم وبين الجمهور مباشرةً لا يعترضها شىء كما هى الآن مثلًا. وهو ما لم يشأه الله للشعر القديم. إذن فقد كان ابن الرومى فى طور انتقال؟ نعم. وبذلك يشهد شعره. وليس فى عزمنا أن ننقل هنا كل ما يدل على ذلك وسنجتزئ بأمثلة قليلة. منها قصيدته الرائعةُ لما اقتحم الزنجُ البصرةَ وأعملوا فى أهلها السيفَ، وفى مساكنها ومساجدها النارَ، فقال ميميته الفريدة فى لغة العرب، واستنفر فيها «الناس» — الناس أى الجمهور لا الخليفة ولا زراءه ولا الأمراء. وجعل يستفز نخوتهم فيها بوصف البصرة وعزها وفرضتها (مينائها) ثم بالأهوال التى حلت بها من غارة الزنوج، والفظائع التى اجترحوها، والحرمات التى استباحوها، ثم بتصوير الخراب الذى حل بها، والهوان الذى أصابها؟ ثم بتصوير الموقف فى الآخرة حين يلتقى الضحايا والقأعدون عن نجدتهم «عند حإكم الحكام» وتأنيبه سبحانه لهم على خذلانهم إخوانهم؛ ثم بإهابته «بالناس» أيضًا أن يمثلوا لأنفسهم النبى ﷺ ولومه أمته؟ ثم استنفارهم بعد كل هذه المثيرات والحوافز إلى إدراك الثأر وإنقاذ السبى. وهى قصيدة فى الطبقة الأولى من الشعر، لو غيرت ما فيها من الأسماء والمحليات لخيّل إليك أنها مما قال بيرون فى سبيل استقلال اليونان أو توماس هاردى فى إبان الحرب العظمى. وإنه ليؤسفنا أنها أطول من أن تنقل، وأنها لا تحتمل الاختيار ولا تقبل الاختصار. فليرجع إليها القراء فى الديوان ليروا كيف عدل بالخطاب عن سياقه المألوف فى ذلك العصر، ولم يعبأ لا بالملوك ولا الأمراء، ولم يفرض أنهم هم وحدهم المطالبون بالدفاع والنجدة، بل اتجه إلى جمهور الناس بصفته فردًا يقدر ما عليه وما على الأفراد مثله من واجب قومىّ دينىّ لا يخليه هو أو سواه منه شىء. وإنه لعجيب أن تخلو القصيدة من كل ذكر أو إشارة، صريحةٍ أو خفية، للحكام. وليس يسع القارئ إلا أن يذكر بها ما كان يستفز به الكتابُ والشعراء والجماهير فى أممهم فى إيان الحرب العظمى الأخيرة. ومن الأمثلة أيضا أسلوبه الروائى الذى يطالعك من أكثر قصائده، وعدم اقتصاره فى الوصف على الظواهر المحسوسة، ومحاولته الإفضاء إلى البواطن وتصويرها، وتتبعه لحالات نفسه ولما يتقلب عليه ويمر به، حتى غلب ذلك على شعره على الرغم من الأغراض الأخرى التى كان ينظم فيها الشعرَ من مثل المدح والهجاء والعتاب والاستعطاف وغير ذلك. وليس يخفى علينا أن هذه من خصائصه هو، ومميزاته التى انفرد بها، ولكن من الذى يستطيع أن ينكر أن ما تبتكره الشخصياتُ الممتازة يكون من عوامل التطور التى لا يمكن إغفالها؟ وبعد، فإذا كان فى أهاجى ابن الرومى كلام لا يعد من الشعر الصحيح بمعناه الأسمى، فذلك على الاكثر ذنب عصره الذى كان يقبل ذلك ويتسع له وُيغرى به فى الواقع، كما هو الشأن فى أفحاشه وعرره التى لا تطاق فى عصرنا الحاضر مثلا. ونقول على الأكثر، لأن ابن الرومى كان حادَّ المزاج سريع الغضب متمرد الطبع. فعصره، من ناحية، كان يُبيح له أن يُفحش وأن يأتى بالشناعات، ويخرج بالشعر عن سبيله، ويعدل به عن غايته، ويتخذه فى بعض الأحايين أداة انتقام شخصى فظيع. ولكنه لا يعيبك، حتى فى أفحاشه، أن تلمح باعثًا خلقيّا ساميًا يُخرجه عن طوره. فقد كان الرجل على كثرة أضاحيكه جادّا فى حياته وفى النظر إليها. ولم يكن لهوه وعبثه إلا لفرط إحساسه بمرارة الجد فى هذه الحياة، ويشعرك بذلك قوله، وهو حسبنا شاهدًا مغنيًا عن كثير أمثاله: وهو على كثرة ما فى شعره من الفحش، صحيح الإدراك من حيت الآداب والأخلاق. ومن شاء أن يقدر مبلغ ما رُزق ابن الرومى من صحة الإدراك الأخلاقى فما عليه إلا أن يدع ما يراه فى كلامه من التنزى إلى المقابح وأن يبحت عن البواعت التى دفعته، والأسباب التى أغرته، فإنه لا يلبث أن يتوسم من معاريض كلامه، ويستشف من وراء لفظه، صحة مبادئه وعظم نصيبه من سمو النفس وجلالة الروح. أما أهاجيه الفكاهية فمن أبدع ما له. وهو فى أكثرها مصور كعادته «لا تنقصه إلا الريشة واللوحة. بل لا تنقصه هاتان لأنه استعاض من الريشة بالقلم، ومن اللوحة بالقرطاس، فاكتفى بهما وأثبت فى النظم البديع ما لا تثبته الألوان والأشكال»، كما يقول صديقنا الأستاذ العقاد. فمن ذلك قوله فى بعضهم: ولو غيره من الضعاف لعدل عن «المصلوب» إلى ما هو دون ذلك. ومنه وصفه للأحدب، وقد تقدم، وقوله فى أبى حفص الوراق وكان قصيرًا: وقوله فى بخيل: إلى كثير من وصفه للأقفاء واللحى والعثانين والمواقف المضحكة كقوله: وشبيه بهذا الموقف المضحك قوله فى متفلسف دعىٍّ يتسقرط وتزعم نفسه فارسًا كميّا: وقوله فى بخيل أو من يزعمه ابن الرومى بخيلَا: وليلاحظ القارئ أنه لا يخلط بين مجال المصور ومجال الشاعر، ولا يحاول أن يجعل قلمه ريشةً، فإن ذلك لا خير فيه ولا ثمرة له، ولكن يجىء لك بما هو حرى أن يعينك على تصور ما يريد. وآية ذلك أنه حين أراد أن يصف قِصَر أبى حفص وضعه على يفاع أو مرتفع ليساعدك على تقدير النسبة، وذكر لك أن «صرح» رأسه مجلوّ، وأنه من الصلع بحيت لا يوارى بيض قملة، لأنه لا شعر هناك، وأن صفع الدهر له قمع طوله! وتأمل كذلك تصويره معنى البخل بقوله إن اليد مخلوقة خلقة القفل! ولعمرى ماذا يسع المصور بريشته فى مثل هذا؟ إن البخل ليس مما ينطق به الوجه، ورسمُ اليد مُطبقه لا يدل عليه ولا يفيد الناظر شيئًا. فهو كما ترى مصور، ولكن فى حدود فنه وفى الدائرة التى تعينها قدرةُ الألفاظ. هل لابن الرومى فلسفة تستخلص من شعره الذى كان يهضب به ويسح؟ أو إن شئت، وكنت مثلنا لا تقوى أضراسك على مضغ الجلاميد التى يطلقون عليها اسمَ الفلسفة أحيانًا، فقل هل له مذهب فى هذه الحياة؟ وكيف كان إدراكه لسنتها، وإحساسه بصروفها، ومجاوبته لوقعها، وملابسته لحالاتها؟ وهل أركض عقله فى ميدانها وأطلق خياله فى سمائها؟ وفى الجواب على ذاك، الحكمُ على ابن الرومى. فإذا كان الجواب نعم، وكان الرجل عندك صاحبَ نظرة خاصة إلى الحياة، فقد سلكته مع الفحول. وإن كان لا، وأرجح ألّا يكون كذلك، فقد هبطت به إلى منزلة الظرقاء الذين يلتمسهم المرءُ أحيانًا وينضو عند عتبتهم الجد والتفكير، وتحاضرهم محاضرة المترفِّه المتلهى، كما يداعب الشيخ الوقور فتاه الحدث، ويمسح له جبينه، ويلمس كفه صباحة محياه الجديد ونضارة متوسمه القشيب، ويجرى معه لسانه بالكلام الخفيف، ويضاغيه ويلاثغه ويمتع سمعه وعينه بسذاجته وبجهله الحلو وغفلته اللذيذة! ونعتذر إلى ابن الرومى من هذا السؤال — لو أنه يعى اعتذارنا أو يحفل ما نقول فيه! — وأكبر الظن أنه لو كان حيّا، ورانا نسأل أَلهُ مذهب أو رأى فى الحياة، لأخبّت إلينا وأوضعت أهاجيه النارية: فالحمد لله الذى أماته قبل أن يُحيينا! فما نظنه كان يشفع لنا عنده أنا نُشيد بذكره وننشر مطويه وننصف عبقريته. كلّا! لا مراء فى أن ابن الرومى من كبار الفحول، وأنه كان يحس الحياة بكل جارحة فيه، بل يقبل على الحياة وينشد الإحساس بها ويعرِّى أعصابه لها، ليتملى من الشعور بها يلابسها بروحه، ويدير عينه ويقلبها تارة فى نفسه وتارة أخرى فيما حوله، ولا يمل التأمل، ولا يفتر عن التدبر، ولا يكف عن المقايسة والمقابلة، وعن إرسال النظر رائدًا وإجالة الفكر حاصدًا. وبماذا خرج؟ قد لا يرضيك ما انتهى إليه واستقر عليه. ولكن ما قيمة ذلك؟ إن الشاعر ليس مطالبًا بأن يقدم لك مذهبًا فلسفيّا جامعًا مفصل الحدود واضح المعالم، ولا بأن يحسر لك ظلالَ الإبهام عن مشكلات الحياة، ويزيح حجبَ الظلام عن أسرار الوجود. بل حسبنا منه أن تكون له فكرة عن الحياة بخيرها وشرها، وسعودها ونحوسها، وقوانينها ومظاهرها، وأن يفضى إليك بوقعها الذى لا مهرب منه ولا متحول عنه، والحياة، بعد، لها أكثر من وجه واحد ومظهرَّ واحد وليست صفحتها الغامضةُ السوداء التى يفتحها لك الشاعر بأقل فتنة أو أضأل نصيبًا من الصواب، من صفحتها الواضحة البيضاء التى ينشرها لك الفلاسفة والعلماء. فإذا كان لا يروقك ما خطه ابن الرومى فى صفحته، وأطلعك منه على جانب من تاريخ الإنسانية، فإن فى الحياة كثيرًا مما لا يروق ولا يعجب، وهو مع ذلك من لوازمها. ولقد سبق من ابن الرومى الاعتذار من ذلك بأن سأل: «أما ترى كيف رُكب الشجر؟». وكان ابن الرومى يرى أن الأدب فن يُزاول ويتعهد ويكون المرءُ له «أعتى الخدم» وتنقطع له ويتوفر عليه وينحرف بسببه عن كل كسب، ويبيت «يمرى فكره تحت الظلم» وأن للأديب من أجل ذلك حقّا على الناس وحرمة واجبة الرعاية، وقدمًا تستحق أن تثاب، وأن من تناسى حقه فقد ظلم. فليس الشعر عنده عبثًا ولا لهوًا، بل هو غاية الجد، وليس مطلبه بالسهل الهين بل هو مغاص فى درك اللجة «من دون درها الخطر». وهو فن حى ينشأ ويشب ويهرم ككل حى آخر: ولا نكران أنه قال فى آخر حياته: ولكن ذلك لم يكن لزراية على الأدب، أو اغتماض لقدره بل هى لهفة على سوء حظه المادى. وكيف تعقل منه الزراية على فنه وهو فى القصيدة عينها يقول: ومن أين جاءته «الدولة» وصار له «زمن» بغير شعره؟ وحسبك شعوره هذا بأن له دولة وزمنًا، دليلًا على إكباره فنه. وليس هذا بالخاطر العارض، فإنه المتسائل فى معرض هجاء لأبى إسحادتى البيهقى: ولم يكن يقول كالعرب إن أمتهم أشعر الأمم، وحكمتها أعظم الحكم، بل كان يقول: وصهيب هذا، ابن سنان، صحابى أصله رومى وأسلم، وفى نظرته هذه اتساع وإنصاف وخلو من عصبية كانت تكون منه متكلَّفة غير سائغة: وهو كما أسلفنا رجل متشائم. وعنده أن الطفل إنما يبكى «لما تُؤذن الدنيا به من صروفها»، وإنه لذلك: ويعلل ذلك بأن للنفس أحوالًا «تشاهد فيها كلَّ غيب سيشهد» وكأنه يريد أن يقنعك بأن هذا الرأى هو ثمرة التجربة، وأنه لا يرمى به جزافًا، ولا يلقيه على عواهنه، ومن أجل هذا يمهد له بأنه إنما يذهب إلى ذلك بعد أن شابت رأسه، وقوست قناته، ودب الكلال فى عظامه، وتوكأ على العصا. ولا غرابة بعد ذلك أن الدنيا عنده: والمرء منذ يولد إلى أن يوارى فى التراب «رهن النوائب» وحسبه من هذه النوائب فقدُ شبابه: وما دام المرء يموت فليس فى العيش مغتبط، وكل لهو مشغلة عن ذكر ما يلاقيه المرء من الأحداث. وكيف يطيب العيش للإنسان وهو موقن بأن طيبه سيذهب كالحلم؟! وكر الأيام انتقاصٌ من القُوى. حتى الأبناء تخوُّن وتنقص من المرء يُزاد فى «الأبد»، ويضاف إليه وهم عبارة عن قوى تستجدها الحياة بَأن تنقصها من الآباء، والمرء يسر بمولوده وهو لا يدرى أن الزمان يهده بشد أبنائه منه. ولكن هذا ليس بعجيب، إذ لولاه لما طلب الناس الذرية. والمرء إذا أمل أن يعيش مثل ما عاش «فيا ويحه إن خاب أو أدرك الأمل» لأنه إذا طالط عمره اكتهلت همته ولم يعد يجد ابتهاجًا بما كان يبتهج به، أو قدرةً عليه أو بشاشة له: وإذا فاتت المرءَ متعةٌ فهو غير مغبون فى الواقع، لأن من يدرك شيئًا لا يزال قلقًا خائفا يترقب افتقاده. أما من فاتته متعة فهو مطمتن وقد أمن أن يُرزأها: ومتى كان الأمر كذلك: وسليم الزمان كمنكوبه، وموفوره كمحروبه، والممنوح مثل الممنوع، والمكسوُّ مثل المسلوب: فإذا غصبك الزمان حظك فاستر نفسك فإن هذا الستر لا يغصب. ولا مفر على كل حال من القدر، فطامن حشاك فإن ما تحب وما تكره واقعان بك لا محالة: والسعادة والشقاوة حظوظ. والحظ يأتى صاحبه وادعًا، ويُعيى سواه ساعيًا: والذى يسعى ليدرك حظه «كسار بليل كى يسامت كوكبا». ولا يحسبن أحد أن ابن الرومى راض عن ذلك. وكيف يرضى عنه وهو لا يرى مطلب الدنيا يهون إلا للجهلاء والحمقى؟ وهل يعد راضيًا من يقول: «وطلابُها مثل الكلاب النواهس»! وأنه لا محل لتفاضل الناس «بتفاضل الأحوال والأخطار»، فإن هذا جور. وإذا كانت الدنيا كذلك، وكان الشر فيها غالبًا، فالحذر واجب والحزم فرض، ليقل التجنى على المقدور. وعلى المرء إذا ظن شرّا أن يخافه! فرب شرٍّ يقينُه مظنونه. ولا تبيتن آمنا من أحد، فآمن ما يكون المرء إذا لبس الحذَر من الخطوب. ومن أمْن النفس أن تخاف، وأن تستشير الحزم، والعدو مستفادٌ من الصديق. ومن الحكمة أن لا يقذع المرء الحاكم فى أيامه، خوفًا لسطوته بل حتى إذا أصابه الزمن بصرفه، حذرًا من رجعته. واعلم أن الناس من طينة خسيسة «يصدق فى الثلب لها الثالب». وأديم الإنسان من أديم الأرض، فهو مثلها خسيس، والنفس تلؤم رجوعًا إلى طينتها، واللؤم مركوز فى الطبع البشرى، مركب فى الجبلات: حتى النفس الكريمة لا مفر لها من رجعة إلى هذا الحمأ المسنون «ثم تكرم». والشر بين الناس عام مشترك، وهو الأصل، أما الخير فيهم فغير مشترك. والضعيف فى الدنيا موطّأ مهين، والقوى محترم مرهوبة شِرته. والخيِّر المسالم أو المقلم الأظفار لا يعبأ به أحد أو يحسب له حسابًا. ولهذا كان الحلم ضعفًا، وكانت رقابُ أهله مقصودة بالهوان، فلابد من ادِّراع الجهل فوق الحلم، وإلا اعتُمد المرء بالإساءة واستخف به الناس واستطالوا عليه. وأكثر الناس يتسخَّون طلبًا للحمد ونفاقًا، ويتكلفون الندى ولكن الكريم ليس الذى يعطى عطيته عن ثناء أو التماسًا للذكر. ومن كان هذا شأنه فهو لا يبذل العرف ليصيد به محمدةً ولا يمنُّ على من يقلده منته. والإحسان الذى من هذا الضرب آنسُ للقلوب، والنفس إذا تذكرت أياديَها الخالصة لوجه الله «أفاقت من معالجة الكروب». والنعمى قيد، ولكنها إذا قوبلت بالشكر زال القيد، وتكافأ المنعم والشاكر، لأنه إذا كان المنعم قد جاد بماله أو جاهه، فقد جاد الشاكر من فؤاده. ولا ينبغى أن تكون الفضائل باعثها الرغبة أو الرهبة. والحلف الكاذب جائز عنده مع الاضطرار وضيق الحال: والحشمة محبوبة بين الصديقين لتحجز بينهما وبين العقوق، أما التبسط الذى يؤدى إلى بخس واجبات الحقوق فلا حبذا هذا وأقبح به! قد بلغنا، ولا حمدَ، أعوصَ مسائل ابن الرومى. ونعنى بها نظراته فى فلسفة الجمال. وليس وجهُ الاعتياص أن فى شعره غموضًا أو التباسا أو اضطرابًا يدفعك إلى الشك فى تأويل نظرته، أو التردد فى حملها على ما يغريك به بعضُ كلامه. كلا! فإن ابن الرومى شاعر مشرق الديباجة، ناصع الأسلوب، واضعٍ المحجة، وهو غوّاص لا يستخفه ما يعن له فى أول الخاطر، ومصف يأبى أن يدع ذرة تتفلت، ودقيق دوَّار العين يطلب الإحاطة بجوانب ما يتناول، وملحاح لا يجتزئ بأن يدفع إليك الفكرة ناضجة تامة ويدعك وشأنك معها، بل يبرزها لك كلما عرضت مناسبةٌ ليقسرك على الالتفات إليها والعناية بها، حتى كأنه لا يطمئن الى ذكائك وقدرتك على الالتقاط والتفطن. وإنما وجه العسر والمشقة هو كيف نتناول الموضوع؟ ومن أى ناحية نطرقه؟ وماذا نأخذ وماذا نذر؟ ومما يضاعف المشقة أننا لا نحب أن نظل نكتب عن ابن الرومى إلى اخر العمر! وأحر بألّا نفرغ منه إذا أردنا الاستقصاء. إذ كان معنى الاستقصاء أن نضع نحن كتابًا ضخمًا له أولٌ وليس له آخر فى فلسفة الجمال، وأن نعتسف من أجل ابن الرومى وإكرامًا لخاطره ولسواد عينيه — إن صح أنهما كانتا سوداوين! — تلك الوعورَ التى زحم بها الطريقَ أفلاطون وأرسططاليس وبلوتيناس من القدماء، وكانت وشلنج وهيجل وشوبنهور وهربارت ولسنج وجيته وشيللر ومئات غيرهم من الألمان، وبيربوفييروتين وليفيك وسواهم من الفرنسيين، وهتشنسون وشفتسبرى وريدورسكن وهوم وبيرك وإليزون وبين وسبنسر من الإنجليز؟ وأن نحاول أن نقامس فى ذلك اليم الطامى كلَّ هاتيك الحيتان الفظيعة! لا ياسيدى القارئ عفوك! فإنى كابن الرومى لو ألقيت فى هذا البحر «صخرةً، لوافيت منه القعرَ أول راسب!». وكما كان أيسرُ إشفاقه من الماء أن يمر «به فى الكوز مرَّ المجانب» كذلك أيسر إشفاقى من مباحث أصحابنا هؤلاء ألّا أقرب الرفَّ الذى فيه كتبهم! وإذا كتب الله لى أن أفتحها أغمضتُ عيني! ولقد كنت فى بعض ما سلف من عمرى جريئًا، وكنت لا أتهيب كل التهيّب أن أفتح واحدًا من هذه الكتب، ولكنى كنت لا أكاد أعبر بضعَ صفحات حتى أحسّ كأنى مُطلّ من زحلوقة على هاوية سحيقة، فتنفرج شفتاى عن صوت كهذا «بورررر!» فأرفع رأسى فزعًا، وأمسك بجوانب ا لكرسى حتى تطمئن نفسى ويذهب عنى الروعُ وأحمد الله على السلامة! إذن فما العمل؟ وكيف تتم — على أى وجه — ما بدأناه من الكلام عن ابن الرومى؟ الحق أقول لك، أيها القارئ، إنى لا أدرى! وقد بدأت أشعر لابن الرومى بغيظ واضطغان لدفعه إياى إلى هذه المآزق المرعبة. ولقد حدثتنى نفسى أن أبتر الكلام مكتفيا بما سبق، وأن أجعل الختام هجاءً له! — لكنى ذكرت قوله: فعضضت شفتى وعدلت! وبدا لى أن أضرب صفحًا عن الشواهد على قدر الإمكان، لأنها آلاف مبعثرة لا يتسع لنقلها المقام، وأن أورد ما يدل عليه شعره، أى أن أقدم للقارئ صورة عامة مجملة عن اراء ابن الرومى وأن أدع له رسمَ الخطوط التفصيلية إذا شاء. ولماذا لا يتعب القارئ قليلًا؟ ما الذى يوجب على الكاتب أن يتكلف كل ضروب العناء حتى لا يحوجه حتى ولا إلى «هضم» الفكرة؟ ماذا يصنع القارئ برأسه هذا الذى فوق كتفيه؟ أليس أجدى عليه أن يحتاج إلى التفكير بنفسه ولنفسه حتى لا يعتاد الكسل، وحتى لا يعود رأسُه حملًا على كتفيه؟ هذا أصلح ولا شك! فإن كان لا يعجبه هذا، ولا ترضيه طريقتنا الجديدة، فما عليه إلا أن يقف عند هذا الحد ولا يمضى فى قراءة المقال! والاَن فلنبدأ: من أول ما يستلفت النظر فى شعر ابن الرومى نوعُ إحساسه بالطبيعة. فهو لا يحسها ولا يتأملها إلا إحساسًا شعريّا؟ ونعنى بذلك أن خياله ينشط، وأنه حين يتدبر قواتها ومباهجها وحالاتها المتنوعةَ، يفيض من حياته عليها، وتعيرها من إحساسه وخوالجه حتى تعود فى نظره حية نابضة مثله، لها حسٌّ وروح وذاكرة، بل إرادة. نعم إرادة! وحسبك أن تقرأ له هذا البيت من جيميته التى يرئى بها أبا الحسين العلوى. فإنك على أى محمل حملته، وكيفما أولت صدر البيت، لا تستطيع أن تهرب من الشعور بأن هذه الأرض — التى «تسمى الأرض أحيانًا» — ليست مادةً خالية من الحياة ولا صورة ميتة. على أن الطبيعة عنده مسخر للحياة، فهى دونها وبعضها، ووسيلة إلى تحقيق غاياتها، وليست نوعًا من الحياة قائمًا بذاته مستقلّا عن حياة الإنسان. وهذه نظرة واضحة العلة، لأنه بعد أن يريق عليها من فيض حياته هو، لا يسعه إلا أن يشتمل عليها أويجعل الحياةَ نفسها مشتملةٌ على الطبيعة معه. وقد تراه، أحيانًا، حين يصف منظرًا، لا يكتفى بأن يعزو إليه الحياة والحس، بل يكاد بخياله يتسرَّب فى خلال هذا المنظر ويغيب فى أثنائه، لا من الوجهة المادية بل من حيث الإحساس. ونظن أن هذا الكلام يحتاج إلى مثل يُضرب ويستعين به القارئ على فهم المراد فنقول: هبك تتدبر هيكلًا من الهياكل المصرية القديمة مثلًا فإنك إذا كنت قوى الخيال أو نشيطه، وأرقت على هذا الهيكل بعض حياتك أمكنك أن تتصور أن هذه العمد ليست حجارة مرفوعة يستوى فوقها سطحٌ ويتزن، بل هى مثلًا حركة صاعدة مستمرة، أو قوى حية تعالج أن تقاوم الضغطَ الواقع عليها الذى يريد أن يهبط بها. وليست تستطيع أن تتصور ذلك دون أن يخالجك إلى حد كبير نفس الإحساسات التى تفيضها على هذه العمد وما فوقها — وابن الرومى حين يصف الطبيعة يعيرها روحه، ويضع نفسه موضعها، ويفضى إليك بإحساسه معزوّا إلى الموصوف. ولكنه مع هذا لا يفقد شعوره بنفسه وبالعالم، ولا يكون كالمسحور، بل يظل متفطنا إلى حقائق الدنيا اليومية، فكأن شعوره مزدوج: بقبل تصوير خياله للحقيقة، ويتعلق به، ويكبحه عن الغلو والاستغراق المفرط الإقرارُ الباطن للحقيقة الملموسة وراء ذلك. وليس يخفى أن الأمر فى هذين يتوقف على عنصر النشاط الخيالى الذى يختلف باختلاف الناس، وعلى مقدار الاختلاف فى التجارب السابقة، وعلى طبيعة المزاج وغير ذلك مما يدفع إنسانًا إلى إيثار المرئيات، وآخرَ إلى التعلق بالأصوات، وهكذا.. مما يجعل مجال الخيال وعمله فيما يتناوله الحس، مختلفًا باختلاف الناس. وواضح من شعر ابن الرومى أن إحساسه بالجمال فى الطبيعة وفى الإنسان لم يكن من طريق النظر والسمع وحدهما، بل كان لحواسه الأخرى، ولا سيما اللمس والشم، حظّ وافر من القدرة على إفادة الاستمتاع بالجمال. فكان إذا نظر مثلًا إلى زهرة يكاد «يلمسك» غلائلها من وصفه لها، ويشمك أريجها ويشعرك كأنه يمسحها بكفه فى رفق، ويدنيها من أنفه فى سكر، وكان حظُّ الشم عنده عظيمًا أيضًا. غير أن أوفر الحظوظ للسمع والعين ومن حقهما ذلك ولا سيما عند ابن الرومى الذى «يكاد» يدور كل إحساس له بالجمال فى الطبيعة وفى الإنسان على «الغريزة النوعية» وذلك لأن النظر والسمع، لكونهما يستطيعان أن يتناولا المرئى والمسموع عن بُعد، يسمحان بأن يشترك فى المنظور أو المسموع، خلق كثير — وذلك أيضًا ما تستطيعه حاسة الشم إلى حد كبير. ومن هنا كانت حاستا النظر والسمع، ثم حاسة الشم، حواسّا اجتماعية، أى أن بها — ولا سيما با لأوليين — يتمكن أكثر من فرد واحد من الاشتراك فى التأثر بالجمال، ولذلك كانتا هما الحاستين الفنيتين، لأنهما وسيلة مشتركة للإحساس بالجمال، ولمضاعفة هذا الإحساس وتقويته بتأثير التعاطف. وإذا شئت دليلًا محسوسًا على ذلك من عصرنا الحاضر فالتمسه فى نجاح المسارج التمثيلية ودور الغناء والرقص والصور المتحركة وما إليها. أضف إلى ذلك أن الإحساس من طريقهما أصفى وأسمى، إذ كانا أبعد أخواتهما عن وظائف الحياة الضرورية وحاجاتها الملحَّة ومطالبها المقلقة. وهما يحضران إليك الأشياء المادية فى أقل حالاتها إزعاجًا. لأن الأشكال والألوان الأصوات، إذا قيست بما يلمس ويتصل من طريق اللمس بأجسامنا، أشبه بصورٍ للأشياء المادية أو رموزٍ بعيدة لها، ومن أجل ذلك كانت هاتان الحاستان أصلحَ من غيرهما لأن يكونا أداةً إلى الاستمتاع الفنى بالجمال. وقد كان ابن الرومى كما أسلفنا يرى الطبيعة مسخرةً للحياة ومعوانًا على حياة الفرد وحياة النوع أيضًا. فهو القائل: والقائل فى وصف روضة: وتأمل إلى جانب هذا البيت قوله فى نسوة. فالروضة كأنها الفتاة تميس فى برد مفوّف، والفتاة كأنها الروضة فى وشيها المطرف؟ وكما أن المرأة تتجمل وتتزين وتتعطر وتتدهن لتملك قلبَ الرجل وتستولى على هواه حين تبرز له، كذلك الطبيعة فى الربيع: والمرأة إنما تتجمل وتتحلى للرجل، لا حبّا فى الزينة ولا طلبًا للتجمل من حيث هو وباعتباره غرضًا فى ذاته. وإنما تفعل هذه لأنه بعض سلاحها الذى تقنص به الرجلَ لتؤدى وظيفتها التى خلقت لها، وهى المحافظة على النوع. وكذلك الحياء، عنده، سلاح جنسى، لا تتكلفه المرأة ولا تتصنعه، ولكنه من الصفات التى تضيف إلى جمالها وتجعله أفتن للب وأسحر للقلب. والمرأة حين تفوز بإرضاء عاطفتها الجنسية لا تعبأ بالتجمُّل ولا تحرص على زينتها أو حيائها أو دلالها، أو غير ذلك من أدوات قنصها، إذ لم يبق لها من محل أو عمل. وله فى ذلك أبيات ليس أعمق منها ولا أصدق، وإن كان فيها فحش كثير، ومنها: وليس الجمال عنده شكلًا فحسب، بل هو أيضًا «تعبير» وهو فوق هذا يأبى أن يكون له حدود ينحصر فيها ويقتصر عليها ويسهل تعديدها، ثم هو، إلى هذا، صفة يتعذر التفريق الدقيق بينها وبين ما هو إليها من الصفات. وما عليك إلا أن تقرأ له داليته فى وحيد المغنية، وكان مشغوفًا بها. وفيها يقول: وفى صوتها يقول: ثم يقول مستغربًا مجيبًا: وبهذا البيت الأخير يفطن إلى ما فطن إليه شيللر الشاعر الألمانى، وتابعه عليه سبنسر الإنجليزى، من العلاقة بين الإحساس الفنى بالجمال وبين اللهو الذى هو نتيجة الفائض من النشاط العضوى. وقلَّ من بين شعراء العرب أو غيرهم من يقارب ابن الرومى فى دقة إحساسه بالجمال فى جميع مظاهره وأشكاله، ولقد فقد شبابه وبكاه فى عدة قصائد، فكان أكثر ما بكى منه أن فقد به القدرةَ على التمتع بالجمال. اقرأ له قصيدته التى مطلعها: وتأمل قوله فيها: فماذا تراه فى ظنك يبكى بهذا البيت؟ الموت فى الحياة؟ وماذا يكون هذا إلا ما ذكرنا؟ ثم قوله بعده: إلى أن يقول فى انصراف نبل الغانيات عنه: ثم صرخته:
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/69469697/
حصاد الهشيم
إبراهيم عبد القادر المازني
«حصاد الهشيم» هو كتاب للأديب الكبير والناقد الفذ إبراهيم عبد القادر المازني، يضم مجموعة من المقالات في موضوعات شتَّى، كُتبت في أوقات متفاوتة وفي ظروف مختلفة. وقد صال المازني في هذا الكتاب وجال بين كبار الأدباء والمفكرين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حيث كتب عن شكسبير في اللغة العربية، وعن العقاد في عالم الشعر، وعن رأي ماكس نورداو في مستقبل الفنون والآداب، كما تطرَّق إلى موضوعات أخرى كالتصوُّف ومن كتبوا تبعًا لنهجه مثل عمر الخيَّام وغيره، وذهب بنا بعيدًا نحو الماضي حيث حدَّثنا عن أبو الطيب المتنبي وابن الرومي. كما تناول بعض الإشكاليات النقدية كإشكالية الحقيقة والمجاز في اللغة. باختصار نستطيع أن نقول أن المازني قدَّم لنا بذلك عملًا متميزًا وفريدًا، احتوى عصارة ذهنه وثمرة اطلاعه ومجهود أعصابه.
https://www.hindawi.org/books/69469697/0.2/
خاتمة
أخطأ حسابى وحسابُ الناشر، فجاوز الكتاب ما كنا نتوقع له، وما كان العزم أن نقصره عليه، فمعذرة إذا كنا قد أسأنا بالإطالة، وضاعفنا بها بواعث الملالة! والكتاب، كما هو الاَن فى يد القارئ، يمثِّل منزعَ الناشر أكثر مما يمثل نفسَ الكاتب. فقد أبى إلا أن يخليه من نقد المعاصرين ليريح نفسه من حماقات المعاتبين! وحسنًا فعل، أو شرّا فعل، كما تريد! ومن الذى يستطيع الراحة ولا يستريح؟ غير أن الكتاب بهذه الصورة يعرض منى جانبًا وتطوى جانبًا، ويصور للقراء لين ملمسى ويستر أظافرى، ويبدينى مفترَّ الثغر منزوع النيوب مقلوع الضروس! ولست أبالى كيف أبدو للقارئ! وما كنت لأعنى بجمع هذه أو تلك من مقالاتى ونشرها، بعد أن طويت مع الصحف التى ظهرت فيها، لولا أنى فرَّجت بذلك أزمة كانت مستحكمة! وما أرانى أنقذتها أو أحييتها، بل بعثتها من قبورها لتلقى حسابها! ولعله كان خيرًا لها أن تظل ملفوفة فى أكفانها! وأحسبنى بعد أن صارحت القارئ بهذا الذى لم يكن يعلمه، لا أحتاج إلى أن أقول إنى لا أكتب للأجيال المقبلة، ولا أطمع فى خلود الذكر. وهل ترى ستكون هذه الأجيالُ المقبلة محتاجةً — كجيلنا — إلى هذه البدائه؟ أليست أحق بأن يكتب لها نفرٌ منها؟ أَمِنَ العدل أم من الغبن أن نكلَّف الكتابة لجيلنا ولما بعده أيضًا؟ تالله ما أحق هذه الأجيال المقبلة بالمرثية إذا كانت ستشعر بالحاجة إلى ما أكتب!! ليتهمها غيرى بالعقم إذا شاء! ويرى القارئ فى كتابى هذا مقالًا كان فى الأصل مقدمة لكتاب جمعتُ فيه ما نقدتُ به شعر حافظ منذ أكثر من عشر سنين. وللقارئ الحق أن يستغرب أن أنقل مقدمة كتابٍ مطبوع وأن أدسها هنا. ولهذا سبب لا أرى بأسًا من إيضاحه: جمعت فيما مضى نقدى لشعر حافظ وطبعته ونشرته، وبعت منه عددًا ليس بالقليل، ثم أخذ الشراةُ يبطئون علىّ، فضقت ذرعًا بما بقى من نسخه، فحملتها إلى بقال رومىٍّ اشتراها منى بالأقة! وعزيت نفسى عن ذلك بقولى لنفسى إن جبن الرومى وزيتونه أحق بهذا النقد!! ثم مضت عشرة أعوام وبعض عام وشرعنا نطبع «حصاد الهشيم» هذا، وإنا لماضون فى ذلك إذ جاءنى صديق يعودنى، وكنت مريضًا، وأطلعنى على صحيفة ينشر فيها بعضهم نقدًا لشعر حافظ، وأكثره مسروق من قديم نقدى!! وسألنى الصديق: «أأنت الكاتب؟» قلت: «كلا». قال: «إذن فهى سرقة يحسن التنبيه إليها». وألحّ علىّ فى ذلك، فقلت له «اسمع! زعموا أن لصّا تسلل إلى بيت فألفاه أفرغ من فؤاد أم موسى! وعز عليه أن ينقلب صفر اليدين، أو كما يقول العربُ رحمهم الله، أو ما شاء فليصنع بهم، خالى الوفاض بادىَ الأنفاض، فواصل البحث وهو مغيظ محنق، فما راعه إلا رجل فى بعض الغرف مختبئ فى ركن، ووجهه إلى الحائط. فلما ثابت إليه نفسه بعد الدهشة، قال لعله لص مثلى وضحك! ودنا منه فلم يتحرك، فوضع يده على كتفه فى رفق وسأله: «من أنت يا هذا؟ وماذا تصنع هنا». فاستدار الرجل وقال، ووجهه إلى الأرض: «أنا صاحب البيت!! وقد شعرت بدخولك وأدركت غرضك فتواريت منك خجلًا!!». وأنا يا صديقى كصاحب هذا البيت العارى! أستحيى أن أنبِّه إلى سطو صاحبنا المتلصِّص على نقدى، مخافة أن يتنبَّه الناس إلى ما أرجو مخلصًا أن يكونوا قد نسوه من أنى أنا كاتب ذلك الهراء القديم! ومن أجل ذلك أهب للصِّنا ما عدا عليه وبزَّنى إياه، وما أسهل أن يهب المرءُ غير شىء!! فضحك صاحبى وانصرف! وخطر لى بعد أن وهبت النقد لسارقه أن أستنقذ المقدمة. ولم يبق مما أريد أن أقوله فى هذه الخاتمة سوى كلمة واحدة: هى أنى مستغن عن رضا النقاد المتحذلقين عن كتابى هذا، وقانعٌ باستحسان أمثالى من الأوساط المتواضعين وهم بحمد الله كثيرون فى هذا البلد الأمى! بل أكثر مما يلزم لى!
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م. إبراهيم عبد القادر المازني: شاعرٌ وروائيٌّ وناقدٌ وكاتبٌ مصريٌّ مِن رُوَّادِ النهضةِ الأدبيةِ العربيةِ في العصرِ الحديث. استَطاعَ أن يجدَ لنفسِه مَكانًا مُتميِّزًا بين أقطابِ مُفكِّري عَصرِه، وأسَّسَ معَ كلٍّ مِن عباس العَقَّاد وعبد الرحمن شُكري «مدرسةَ الديوانِ» التي قدَّمتْ مفاهيمَ أدبيةً ونَقديةً جديدة، استوحَتْ رُوحَها مِن المدرسةِ الإنجليزيةِ في الأدَب. وُلدَ «إبراهيم محمد عبد القادر المازني» في القاهرةِ عامَ ١٨٩٠م، ويَرجعُ أصلُه إلى قريةِ «كوم مازن» بمُحافظةِ المُنوفية. تخرَّجَ مِن مَدرسة المُعلِّمين عامَ ١٩٠٩م، وعملَ بالتدريسِ لكنه ما لبثَ أنْ ترَكَه ليَعملَ بالصحافة، حيثُ عملَ بجريدةِ الأخبار، وجريدةِ السياسةِ الأُسبوعية، وجريدةِ البلاغ، بالإضافةِ إلى صُحفٍ أُخرى، كما انتُخبَ عُضوًا في كلٍّ مِن مجمعِ اللغةِ العربيةِ بالقاهرةِ والمجمعِ العِلميِّ العربيِّ بدمشق، وساعَدَه دُخولُه إلى عالمِ الصحافةِ على انتشارِ كتاباتِه ومقالاتِه بينَ الناس. قرَضَ في بدايةِ حياتِه الأدبيةِ العديدَ من دواوينِ الشعرِ ونَظْمِ الكلام، إلا أنه اتَّجهَ بعدَ ذلك إلى الكتابةِ النَّثريةِ واستغرقَ فيها، فقدَّمَ تُراثًا غَزيرًا من المقالاتِ والقصصِ والرِّوايات. عُرِفَ ناقدًا مُتميِّزًا، ومُترجِمًا بارعًا، فترجمَ مِنَ الإنجليزيةِ إلى العربيةِ العديدَ مِن الأعمالِ كالأَشعارِ والرواياتِ والقصص، وقالَ العقادُ عنه: «إنَّني لمْ أَعرفْ فيما عرفتُ مِن ترجماتٍ للنَّظمِ والنثرِ أديبًا واحدًا يفوقُ المازنيَّ في الترجمةِ مِن لغةٍ إلى لغةٍ شِعرًا ونثرًا.» تميَّزَ أُسلوبُه سواءٌ في الكتابةِ الأدبيةِ أو الشِّعريةِ بالسخريةِ اللاذعةِ والفكاهة، واتَّسمَ بالسلاسةِ والابتعادِ عَنِ التكلُّف، كما تميَّزتْ موضوعاتُه بالعمقِ الذي يدلُّ على سعةِ اطِّلاعِه، ولا ريبَ في ذلك؛ فقد شملَتْ قراءاتُه العديدَ مِن كُتبِ الأدبِ العربيِّ القديم، والأدبِ الإنجليزيِّ أيضًا، هذا بالإضافةِ إلى قراءتِه الواسعةِ في الكُتبِ الفلسفيةِ والاجتماعية. وعمَدَ المازنيُّ في مدرستِه الأدبيةِ إلى وصفِ الحياةِ كما هي، دونَ إقامةِ معاييرَ أخلاقية، فكانَ في بعض كتاباتِهِ خارجًا عن التقاليدِ والأَعرافِ السائدةِ والمُتداوَلة. وقد رحلَ المازنيُّ عن عالَمِنا في شهرِ أغسطس من عامِ ١٩٤٩م.
https://www.hindawi.org/books/95291970/
عفاريت اللصوص
كامل كيلاني
قصة شيقة تدور حول فرار مجموعة من الحيوانات (حمار وكلب وقط وديك) من بيت مربيها بعد أن كبر سنها وأراد أربابها التخلص منها، وفي طريقها للهرب تجد الحيوانات بيتًا أرادوا أن يسكنوه، ولكنهم يكتشفون أنه بيت لصوص، فيقررون عمل حيلة لإخراج اللصوص، فهل ينجحون في ذلك؟
https://www.hindawi.org/books/95291970/1/
عفاريت اللصوص
كَانَ حِمارُ الزَّارِعِ نَشِيطًا، لا يَتْعَبُ مِنَ الْعَمَلِ، وَلا يَعْصِي لِسَيِّدِهِ الزَّارِعِ أَمْرًا. وَكانَ الزَّارِعُ مُعْجَبًا بِنَشاطِهِ. فَلَمَّا كَبِرَ الْحِمارُ، وَأَضْعَفَتِ الشَّيْخُوخَةُ قُواهُ، وَأَصْبَحَ عاجِزًا عَنِ الْعَمَلِ، كَرِهَهُ سَيِّدُهُ، وَعَزَمَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُ. وَنَسِيَ كُلَّ ما أَدَّاهُ لَهُ حِمارُهُ النَّشِيطُ مِنْ مُعاوَنَةٍ (أَيْ: مُساعَدَةٍ) فِي أَيَّامِ شَبابِهِ. وَكانَ الزَّارِعُ يُحَدِّثُ بَعْضَ أَصْدِقائِهِ — ذاتَ يَوْمٍ — أَنَّهُ عازِمٌ عَلَى قَتْلِ حِمارِهِ. فَسَمِعَ الْحِمارُ كَلامَ سَيِّدِهِ — لِحُسْنِ حَظِّهِ — فَخافَ عَلَى نَفْسِهِ، وَفَكَّرَ فِي الْهَرَبِ مِنْ بَيْتِ سَيِّدِهِ إِلَى إِحْدَى الْغاباتِ، لِيَقْضِيَ فِيها أَيَّامَهُ الْباقِيَةَ آمِنًا مِنْ شَرِّ النَّاسِ وَغَدْرِهِمْ. وَما كادَ حِمارُ الزَّارِعِ يَسِيرُ بِضْعَ خُطُوَاتٍ حَتَّى لَقِيَ فِي طَرِيقِهِ صَدِيقَهُ الْكَلْبَ الْأَمِينَ نائِمًا، وَعَلَيْهِ آثارُ التَّعَبِ وَالْحُزْنِ. فَأَيْقَظَهُ مِنْ نَوْمِهِ وَحَيَّاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ حُزْنِهِ. فَقالَ لَهُ الْكَلْبُ الْأَمِينُ مُتَأَلِّمًا: «لَقَدْ كَرِهَنِي سَيِّدِي، لِأَنَّنِي كَبِرْتُ وَعَجَزْتُ عَنْ خِدْمَتِهِ. وَقَدْ سَمِعْتُهُ — أَمْسِ — يُحَدِّثُ أَحَدَ أَصْدِقائِهِ أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى قَتْلِي، فَهَرَبْتُ مِنْهُ. وَلَكِنَّنِي فَكَّرْتُ كَثِيرًا فَلَمْ أَهْتَدِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ أَعِيشُ فِيهِ. ثُمَّ أَجْهَدَنِيَ التَّعَبُ فَنِمْتُ.» فَقالَ لَهُ الْحِمارُ: «لا تَحْزَنْ يا صَدِيقِي، وَهَلُمَّ (أَيْ: تَعالَ) مَعِي إلَى الْغابَة، لِنَتَعَاوَنَ مَعًا عَلَى الْعَيْشِ.» فَفَرِحَ الْكَلْبُ الْأَمِينُ بِذَلِكَ أَشَدَّ الْفَرَحِ، وَسارَ الْكَلْبُ الْأَمِينُ مَعَ صَاحِبِهِ فِي طَرِيقِهِما إلَى الْغابَةِ. وَما كادَ الْحِمارُ وَالْكَلْبُ يَسِيرانِ خُطُوَاتٍ قَلِيلَةً حَتَّى قابَلَهُمَا الْقِطُّ الْأَنِيسُ، فَرَأَياهُ مُتَأَلِّمًا مَحْزُونًا. فَسَلَّمَا عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِما التَّحِيَّةَ. ثُمَّ سَأَلَهُ الْحِمارُ عَنْ سَبَبِ حُزْنِهِ، فَأَجابَهُ الْقِطُّ: «لَقَدْ كَبِرَتْ سِنِّي (أَيْ: مِقْدارُ عُمْرِي)، وَعَجَزْتُ — يا صَدِيقِي — عَنْ صَيْدِ الْفِيرانِ، فَكَرِهَتْنِي سَيِّدَتِي، وَمَلَّتْ بَقائِي، أَعْنِي: سَئِمَتْنِي وَضَجِرَتْ مِنِّي. وَعَزَمَتْ عَلَى أَنْ تَتَخَلَّصَ مِنِّي وَتُلْقِيَنِي فِي الْبَحْرِ، فَهَرَبْتُ مِنْها. وَلَسْتُ أَدْرِي: كَيْفَ أَعِيشُ؟ وَإلَى أَيْنَ أَقْصِدُ؟» فَقالَ لَهُ الْحِمارُ: «تَعالَ مَعَنَا إلَى الْغابَةِ، لِنَعِيشَ فِيها مُتَعاوِنِينَ عَلَى الْحَياةِ.» فَفَرِحَ الْقِطُّ بِذَلِكَ، وَسارَ مَعَهُما، وَهُوَ مُبْتَهِجٌ أَشَدَّ الِابْتِهاجِ. وَما زالُوا سائِرِينَ — فِي طَرِيقِهِمْ — حَتَّى وَصَلُوا إلَى دَسْكَرَةٍ (أَيْ: مَزْرَعَةٍ). فَرَأَوْا فِيها صَدِيقَهُمُ الدِّيكَ الصَّائِحَ، وَعَلَى وَجْهِهِ أَماراتُ الْكَآبَةِ وَالْحُزْنِ، فَسَأَلَهُ الْحِمارُ عَنْ سَبَبِ تَأَلُّمِهِ، فَقالَ لَهُ الدِّيكُ: «ماذا أَصْنَعُ يا صَدِيقِيَ الْعَزِيزَ؟ لَقَدْ كُنْتُ فِي هَذا الصَّباحِ مُبْتَهِجًا أَشَدَّ الِابْتِهاجِ. وَكُنْتُ أَشْعُرُ بِنَشاطٍ وَفَرَحٍ. وَلَكِنَّنِي سَمِعْتُ سَيِّدَتِي — رَبَّةَ الْبَيْتِ — تَقُولُ لِبِنْتِها: «سَنَذْبَحُ هَذا الدِّيكَ غَدًا، لِنُهَيِّئَ بِهِ غَداءً فاخِرًا لِعَمِّكِ الَّذِي سَيَحْضُرُ مِنَ السَّفَرِ». فَضاقَتْ بِيَ الدُّنْيا، وَلَمْ أَدْرِ ماذا أَصْنَعُ؟ وَإلَى أَيِّ مَكانٍ أَقْصِدُ؟» فَقالَ لَهُ الْحِمارُ: «اهْرُبْ مَعَنا إلَى الْغابَةِ، حَيْثُ تُطْرِبُنا بِصَوْتِكَ الْجَمِيلِ، وَنَعِيشُ آمِنِينَ مِنْ شَرِّ النَّاسِ.» فَفَرِحَ الدِّيكُ بِذَلِكَ، وَسارَ مَعَهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ إلَى الْغابَةِ. وَسارَ الْحِمارُ وَالْكَلْبُ وَالْقِطُّ وَالدِّيكُ حَتَّى وَصَلُوا إلَى الْغابَةِ، عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَبَقُوا مُدَّةً طَوِيلَةً فَرْحانِينَ بِنَجاتِهِمْ، واجْتِماعِ شَمْلِهِمْ، حَتَّى جاءَ وَقْتُ النَّوْمِ؛ فَنامَ الْحِمارُ وَالْكَلْبُ، تَحْتَ شَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ، وَتَخَيَّرَ الْقِطُّ فَرْعًا مِنْ فُرُوعِها، فَنامَ فَوْقَهُ، وَقَفَزَ الدِّيكُ (أَيْ: وَثَبَ وَنَطَّ) إلَى الشَّجَرَةِ، وَوَقَفَ عَلَى فَرْعٍ آخَرَ مِنْ فُرُوعِها. وَرَأَى الدِّيكُ نُورًا يَلْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ، فَقالَ لِرِفاقِهِ (أَيْ: لِأَصْحابِهِ): «إنَّنِي أَرَى ضَوْءًا يَلُوحُ لِي فِي الْغابَةِ، فَهَلُمُّوا (أَيْ: تَعالَوْا) بِنا نَتَعَرَّفْ مَصْدَرَهُ، لَعَلَّنا نَجِدُ فِيهِ مَأْوًى (أَيْ: مَسْكَنًا) خَيْرًا مِنْ هَذا.» فَفَرِحَ الْحِمارُ بِذَلِكَ الرَّأْيِ، وَقالَ لَهُمُ الْكَلْبُ: «أَسْرِعُوا بِنا أَيُّها الرِّفاقُ (أَيِ: الْأَصْحابُ)، لَعَلِّي أَظْفَرُ فِي ذَلِكُمُ الْمَكَانِ بِقِطْعَةٍ مِنَ اللَّحْمِ — أَوِ الْعَظْمِ — آكُلُها، فَإِنِّي جائِعٌ جِدًّا.» وَسارُوا جَمِيعًا حَتَّى وَصَلُوا إلَى مَصْدَرِ الضَّوْءِ، فَوَجَدُوا بَيْتًا مُنْفَرِدًا فِي الْغابَةِ. وَكانَ ذَلِكَ الْبَيْتُ مَأْوَى جَماعَةٍ مِنَ اللُّصُوصِ يَعِيشُونَ فِيهِ، فَاقْتَرَبَ الْحِمارُ مِنَ النَّافِذَةِ، فَرَأَى اللُّصُوصَ جالِسِينَ حَوْلَ مائِدَةٍ فاخِرَةٍ، فَأَخْبَرَ الْحِمارُ أَصْحابَهُ بِما رَآهُ، فَقالَ لَهُ الدِّيكُ: «يَجِبُ أَنْ نَتَعاوَنَ جَمِيعًا عَلَى دُخُولِ هَذا الْبَيْتِ وَطَرْدِ مَنْ فِيهِ». فَقالَ لَهُ الْحِمارُ: «وَكَيْفَ نَدْخُلُهُ وَنَأْمَنُ شَرَّ أَهْلِيهِ (أَيْ: سَاكِنِيهِ)؟» فَوَقَفُوا يُفَكِّرُونَ جَمِيعًا فِي الطَّرِيقَةِ الَّتِي يَسْلُكُونَها لِلْوُصُولِ إلَى غَرَضِهِمْ، حَتَّى اهْتَدَوْا — بَعْدَ تَفْكِيرٍ طَوِيلٍ — إلَى حِيلَةٍ ناجِحَةٍ. فَوَقَفَ الْحِمارُ عَلَى رِجْلَيْهِ الْخَلْفِيَّتَيْنِ، وَوَضَعَ رِجْلَيْهِ الْأَمامِيَّتَيْنِ عَلَى نافِذَةِ الْبَيْتِ. وَقَفَزَ الْكَلْبُ عَلَى ظَهْرِ الْحِمارِ، وَالْقِطُّ عَلَى ظَهْرِ الْكَلْبِ، وَالدِّيكُ عَلَى ظَهْرِ الْقِطِّ. ثُمَّ بَدَءُوا فِي الْغِناءِ؛ فَنَهَقَ الْحِمارُ، وَنَبَحَ الْكَلْبُ، وَمَاءَ الْقِطُّ، وَصاحَ الدِّيكُ. فَتَأَلَّفَتْ مَنْ أَصْواتِهِمْ مُوسِيقَى مُزْعِجَةٌ — فِي سُكُونِ اللَّيْلِ — تَمْلَأُ الْقُلُوبَ رُعْبًا وَهَلَعًا (أَيْ: خَوْفًا شَدِيدًا وَفَزَعًا). ثُمَّ اقْتَحَمُوا النَّافِذَةَ — مَرَّةً واحِدَةً — فَحَطَّمُوا (أَيْ كَسَرُوا) زُجاجَها، وَانْطَفَأَ الْمِصْباحُ الَّذِي كانَ يُضِيءُ الْغُرْفَةَ، فامْتَلَأَتْ قُلُوبُ اللُّصُوصِ رُعْبًا، وَفَرُّوا هارِبِينَ، وَظَنُّوا أَنَّ بَيْتَهُمْ قَدِ امْتَلَأَ بِالْجِنِّ وَالْعَفارِيتِ. وَفَرِحَ الْحِمارُ وَالْكَلْبُ وَالْقِطُّ وَالدِّيكُ بِنَجاحِ حِيلَتِهِمْ وَأَكَلُوا، وَشَرِبُوا. ثُمَّ نامَ الْحِمارُ فِي فِناءِ الدَّارِ (أَيْ: فَضاءِ الْبَيْتِ الَّذِي لا بِناءَ فِيهِ). وَنامَ الْكَلْبُ خَلْفَ الْبابِ. وَنامَ الْقِطُّ بِجِوارِ الْمُوقَدِ. وَنامَ الدِّيكُ عَلَى سَطْحِ الْبَيْتِ. وَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، وَرَأَى اللُّصُوصُ أَنَّ الْبَيْتَ هادِئٌ لا صَخَبَ (أَيْ: لا ضَجَّةَ وَلا صِياحَ) فِيهِ، وَلا ضَوْضَاءَ، حَسِبُوا أَنَّهُمْ تَعَجَّلُوا بالْفِرارِ (أَيْ: أَسْرَعُوا بِالْهَرَبِ) مِنْ غَيْرِ داعٍ، وَظَنُّوا أَنَّ الْهَواءَ فَتَحَ النَّافِذَةَ بِعُنْفٍ، فَخَيَّلَ إلَيْهِمْ مِنَ الذُّعْرِ (أَيْ: صَوَّرَ لَهُمْ مِنَ الْخَوْفِ) أَنَّهُمْ رَأَوْا أَشْباحًا (أَيْ: أَشْخاصًا) لا وُجُودَ لَها. وَتَشَجَّعَ شَيْخُ اللُّصُوصِ، فَتَسَلَّلَ إلَى الْبَيْتِ فِي الظَّلامِ. وَأَحْضَرَ شَمْعَةً، وَأَرادَ أَنْ يُوقِدَها، أَيْ: يُشْعِلَها. فَلَمْ يَجِدْ عُلْبَةَ الْكِبْرِيتِ. وَلَمَحَ عَيْنَيِ الْقِطِّ، فَظَنَّهُما جَذْوَتَيْنِ (أَيْ: جَمْرَتَيْنِ مُلْتَهِبَتَيْنِ) مِنَ النَّارِ. فاقْتَرَبَ مِنَ الْقِطِّ، وَأَدْنَى الشَّمْعَةَ (أَيْ: قَرَّبَها) مِنْ عَيْنِهِ لِيُوقِدَها، فاسْتَيْقَظَ الْقِطُّ مَذْعُورًا (أَيْ: خائِفًا). وَلَمْ يَفْهَمْ هَذَا الْمِزاحَ الثَّقِيلَ، فَقَفَزَ (أَيْ: نَطَّ) فِي وَجْهِهِ، وَضَرَبَهُ بِمِخْلَبِهِ (أَيْ: بِظُفْرِهِ) ضَرْبَةً عَنِيفَةً، وَخَمَشَهُ (أَيْ: خَدَشَهُ)، أَعْنِي: مَزَّقَ جِلْدَهُ. فَحَسِبَهُ اللِّصُّ عِفْرِيتًا يُرِيدُ أَنْ يَفْتِكَ بِهِ (أَيْ: يَقْتُلَهُ). فَجَرَى مُسْرِعًا إلَى الْبابِ، فَعَثَرَ بِالْكَلْبِ. فَهَبَّ الْكَلْبُ (أَيْ: ثارَ وَهاجَ) مَذْعُورًا، وَعَضَّهُ فِي رِجْلِهِ، فاشْتَدَّ ذُعْرُ اللِّصِّ، وَخَرَجَ هارِبًا إلَى فِناءِ الْبَيْتِ، فَعَثَرَ بِالْحِمارِ، فَرَكَلَهُ الْحِمارُ (أَيْ: رَفَسَهُ) بِرِجْلِهِ. واسْتَيْقَظَ الدِّيكُ — حِينَئِذٍ — فَمَلَأَ الْبَيْتَ صِياحًا، فامْتَلَأَ قَلْبُ شَيْخِ اللُّصُوصِ ذُعْرًا. وَما كادَ يَصِلُ إلَى أَصْحابِهِ، حَتَّى ارْتَمَى عَلَى الْأَرْضِ، لِشِدَّةِ ما أَصابَهُ مِنَ الْخَوْفِ وَالتَّعَبِ. وَلَمَّا سَأَلَهُ أَصْحابُهُ عَمَّا حَدَثَ لَهُ، قَصَّ عَلَيْهِمْ ما أَدْهَشَهُمْ، وَمَلَأَ قُلُوبَهُمْ ذُعْرًا، فَقالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ جِنِّيَّةً (أَيْ: عِفْرِيتَةً) — فِي الظَّلامِ — تُرْسِلُ مِنْ عَيْنَيْها نارًا مُتَّقِدَةً (أَيْ: مُشْتَعِلَةً)، وَقَدْ قَفَزَتْ عَلَى كَتِفِي، وَأَدْخَلَتْ أَصابِعَها الصُّلْبَةَ فِي وَجْهِي. وَلَمْ أَكَدْ أَفِرُّ هارِبًا، حَتَّى ضَرَبَنِي جِنِّيٌّ آخَرُ — كانَ مُخْتَفِيًا خَلْفَ الْبابِ — بِمُدْيَةٍ (أَيْ: سِكِّينٍ) حادَّةٍ. ثُمَّ ضَرَبَنِي مارِدٌ آخَرُ بِعَصًا غَلِيظَةٍ كانَتْ فِي يَدِهِ. وَخُيِّلَ إلَيَّ (أَيْ: تَصَوَّرْتُ) أَنَّنِي سَمِعْتُ جِنِّيًّا رابِعًا يَصِيحُ (أَيْ: يَصْرُخُ) مِنْ أَعْلَى الْبَيْتِ صَيْحاتٍ مُزْعِجَةً: «أَخْرِجُوا هَذا الْخَبِيثَ مِنَ الْبَيْتِ». وَلَمْ يَكَدِ اللُّصُوصُ يَسْمَعُونَ مِنْ شَيْخِهِمْ هَذِهِ الْقِصَّةَ الرَّاعِبَةَ (أَيْ: الْمُخِيفَةَ)، حَتَّى امْتَلَأَتْ قُلُوبُهُمْ خَوْفًا. وَلَمْ يَجْرُؤْ أَحَدٌ مِنْهُمْ — بَعْدَ ذَلِكَ — عَلَى الِاقْتِرابِ مِنَ الْبَيْتِ، حَتَّى لا تُهْلِكَهُ الْعَفارِيتُ الْجَدِيدَةُ الَّتِي سَكَنَتْهُ. أَمَّا أَصْحابُنا الْأَعِزَّاءُ، فَقَدْ عاشُوا — فِي بَيْتِهِمُ الْجَدِيدِ — أَسْعَدَ عَيْشٍ. وَلَوْ ذَهَبْتَ — أَيُّها الْقارِئُ الصَّغِيرُ — إلَى بَيْتِهِمْ، لَرَأَيْتَهُمْ فِيهِ مَسْرُورِينَ. ••• وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَذْكُرَ لَكَ اسْمَ تِلْكَ الْغابَةِ — الَّتِي عاشُوا فِيها — لِتَراهُمْ بِنَفْسِكَ، وَلَكِنَّنِي نَسِيتُ اسْمَها الْآنَ. وَسَأُحاوِلُ أَنْ أَذْكُرَهُ بَعْدَ قَلِيلٍ، لِتَرَى صِدْقَ ما قَصَصْتُهُ عَلَيْكَ. انْتَهَتِ الْقِصَّةُ
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/0/
أبطال الرواية
null
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/1/
في وكالة الصابون
استولى على مصر بعد الخلفاء الفاطميين كثير من السلاطين، ظلت تحكم باسمهم إلى أن آل أمرها إلى المماليك، فاستبدوا في أحكامهم، وضج أهلها بالشكوى منهم. واستمر الحال على هذا المنوال حتى غزاها الخليفة التركي السلطان سليم، في عهد سلطانها الغوري، فتم له فتحها ودخلها بعد قتله في وقعة مرج دابق، حيث شنق خليفته طومان باي، فصارت مصر منذ ذلك الحين تابعة لتركيا. على أن البكوات المماليك لم يقنعوا بالسلطة الكبيرة التي مُنحت لهم، فما لبثوا قليلًا حتى عادوا إلى الاستبداد. وكان من بينهم «شيخ البلد» المنوط به حكم القاهرة والسهر على استتباب الأمن والنظام فيها كما هو شأن محافظها الآن. غير أنه لم يكن يقنع بما دون السلطة المطلقة، ولم يكن للباشا التركي بجانبه من السلطة إلا مظاهر جوفاء، لا أثر لها على الإطلاق. فلما كانت سنة ١٧٦٣، وآلت مشيخة البلد إلى علي بك الكبير، كان أكثر المماليك شهامة وأعظمهم همة وأشدهم بطشًا. ولكنه طمع في الاستقلال بمصر، وحدثته نفسه بافتتاح البلاد المجاورة لها أيضًا. ولم تكن القاهرة في تلك الأيام على ما هي عليه الآن من اتساع العمران وكثرة السكان. فالأحياء المعمورة فيها حينذاك لم تكن تزيد على أحياء: الحمزاوي والغورية والجمالية والنحاسين وما جاورها. أما الفجالة وشبرا والعباسية والإسماعيلية والجزيرة وغيرها من الأحياء الحديثة فلم تكن قد أُنشئت بعدُ. وكان للمدينة سور منيع به أبواب عدة ضخمة تُغلَق عقب غروب الشمس كل يوم، فلا يستطيع أحد بعد ذلك أن يدخل المدينة أو يخرج منها إلا بإذن خاص، وما زالت بعض هذه الأبواب وآثار السور باقية حتى اليوم. أما أغنى هذه الأحياء كلها وأكثرها سكانًا وروادًا، فكانت هي الأحياء الواقعة في منطقة الجمالية وما جاورها من الغورية وخان الخليلي؛ حيث تقوم مختلف المتاجر وقصور الأغنياء. وهناك في الجمالية كانت توجد وكالة الصابون، وهي يومئذٍ مجتمع كبار التجار وأصحاب الثروة، فلا تخلو ساحتها الرحيبة من مئات منهم طول النهار، بين بائعين ومشترين ومتفرجين. وكان من بين تجار تلك الوكالة، في العهد الذي جرت فيه وقائع روايتنا هذه، تاجر يُقال له «السيد عبد الرحمن». اشتهر رغم ضخامة ثروته واتساع تجارته بالتواضع الجم والاستقامة والبر بالفقراء، مع رجاحة العقل والاتزان. وقد تعوَّد أن يقضي نهاره في الوكالة يشرف على حركة البيع والشراء في متجره الكبير، فإذا جاء المساء عاد إلى منزله في شارع الكعكيين في الغورية، حيث زوجته وولده الوحيد منها، وبعض السراري الشركسيات والحبشيات. ولولا ما كان يقاسيه هو وغيره من استبداد المماليك وجورهم، وكثرة الضرائب التي يطلبونها من وقت لآخر لكان له من ثروته الضخمة وتجارته الرابحة وحياته المنزلية الهادئة ما يجعله أسعد السعداء، ولاسيما أن ولده الوحيد السالف الذكر، واسمه حسن، كان قد أتم تعليمه في الجامع الأزهر، ثم التحق بالبيمارستان المنصوري القائم في شارع النحاسين أمام الطريق المؤدي إلى بيت القاضي؛ حيث أبدى تفوقًا في دراسة الطب على يد أستاذ مغربي فيه، واشتهر بين زملائه وعارفيه بالاستقامة والذكاء والاتزان كأبيه. فلم يكن يغشى مكانًا غير البيت والمدرسة، ولا يمل المطالعة للاستزادة من المعارف والعلوم. ••• أمضى السيد عبد الرحمن نهاره حتى العصر مشرفًا على العمل في متجره بوكالة الصابون كعادته. وكان ذلك في يوم من أيام سنة ١٧٧٠. فلما سمع أذان العصر، أشار إلى خادمه فجاء بسجادة فرشها على دكة في ركن من المتجر ليصلي عليها العصر بعد أن توضأ لهذا الغرض. ولم يكد السيد عبد الرحمن يبلغ الدكة وهو يتمتم ببعض الأدعية ويحمد الله على ما أولاه إياه من النعم والخيرات، حتى لحق به أحد الكتبة في المتجر، وأنبأه بأن بعض موظفي الحكومة جاءوا يطلبون مقابلته. فاستعاذ بالله من ذلك، لعلمه بأن هؤلاء الموظفين لا يأتون إلا لطلب ضريبة أو إعانة أو توقيع عقوبة مالية بغير ذنب ولا جريرة. وحدثته نفسه بأن يرجئ مقابلتهم حتى يصلي، لكنه خشي أن يهيِّج ذلك غضبهم وانتقامهم، فرفع طرفه إلى السماء وتنهد، ثم عاد أدراجه إلى مجلسه المعتاد في المتجر ليستقبلهم هناك ويرى ما وراء هذه الزيارة. وكان هؤلاء الموظفون ثلاثة: أحدهم الجابي، وهو في زي المماليك المؤلف من السراويل الفضفاضة الطويلة المشدودة فوق الكعبين، والعمامة فوق القاووق، وحول وسطه مَنْطِقة عريضة عُلق بها خنجر من الأمام، وعلى منكبيه جُبة تدلى على جانبها الأيمن سيف معقوف، وقد تغضن وجهه وشاب شعر رأسه. والثاني جندي يحمل في يده دفترًا كبير الحجم كُتبت فيه أسماء التجار وغيرهم من الملاك والعمال، وبيانات عن الضرائب المطلوبة من كل منهم. أما الثالث فهو الكاتب، وعلى رأسه عمامة كبيرة، وفي منطقته دواة مستطيلة من النحاس. فلما دخل عليهم السيد عبد الرحمن، بالغ في تحيتهم والترحيب بهم. وأسرع في مشيته للقائهم متكلفًا البشاشة والابتسام، ثم أمر لهم بالقهوة والغليون — أداة تدخين التبغ في ذلك العهد — ثم جلس بين أيديهم يكرر التحية والملاطفة اجتذابًا لرضاهم عنه. وقلبه يخفق بين جوانحه مخافة أن يكون مجيئهم لأمر من ورائه خسارة له. وضاعف من خشيته وريبته أن الجابي، لم يزده ذلك كله إلا غلظة وغطرسة، وبقي صامتًا يرمقه شزرًا في ازدراء ملحوظ، وقد جلس جلسة الكبرياء واضعًا إحدى ساقيه فوق الأخرى. فلما جاء الخادم بالقهوة وبدأ بتقديمها له متأدبًا. أشاح عنه بوجهه، والتفت إلى السيد عبد الرحمن. وقال له غاضبًا: «إننا لم نأتِ لنشرب قهوتك، ولا حاجة لنا بها. وإنما جئنا نطلب حقوق الدولة!» فأجفل السيد عبد الرحمن، وتحقق وقوع ما كان يحذره، لكنه كظم ما به متجلدًا وقال متظاهرًا بالبشاشة: «أهلًا وسهلًا ومرحبًا بالسادة الأجلاء، مُروا بما شئتم، فما نحن إلا عبيد مولانا علي بك ورهن أمره في كل وقت!» فقال الجابي: «مطلوب منك أن تدفع ألف نصف، مساعدة للحملة الذاهبة لنجدة شريف مكة بعد أيام.» فاستكثر عبد الرحمن هذا القدر المطلوب من ماله، رغم دفعه ضرائب باهظة منذ عهد قريب، لكنه لم يجرؤ على إظهار ذلك، واكتفى بأن قال: «هل هذا المال مطلوب دفعه فورًا؟» فنهض الجابي مغضبًا حانقًا وصاح به قائلًا: «ما شاء الله! ومتى تظن أن تدفعه إذن؟ أتريد أن يكون ذلك بعد عودة الحملة أو هلاكها؟ أم لعلك استكثرت أن تدفع ألف نصف من الآلاف المؤلفة التي تحصل عليها عفوًا بلا تعب من أموال الناس وأنت جالس على وسادتك في أمان واطمئنان، بينما نحن نتجشم الأخطار والأسفار لحماية بلادكم والدفاع عنها؟ كلا يا سيدي ثم كلا. يجب أن تدفع ألفين اثنين لا ألفًا فقط. فهل فهمت؟!» فندم عبد الرحمن على تعجله بإلقاء ذلك السؤال، ووقف وقد امتقع لونه وارتجفت أطرافه، وخشي أن يضاعف الجابي قيمة الضريبة المطلوبة مرة ثانية، فمد يديه نحوه إشارة التوسل والخضوع وقال: «العفو يا سيدي الجاويش، إني ليسرني أن أقوم بالواجب عليَّ وزيادة، وإنما أردت بالاستفهام أن أعرف هل هناك فرصة لتأجيل الدفع أم لا، فالحالة التجارية كما تعلمون ليست في هذه الأيام على ما يُرام، وسبق أن تفضل جناب الخازندار بمثل هذا التأجيل مراعاة لظروف مماثلة.» فازداد غضب الجابي، وانتهر السيد عبد الرحمن بشدة، وقال: «أتشكو الفقر وأنت قد ابتلعت أموال الناس، وعشت من الأرباح الطائلة في رغد ونعيم، بينما نحن في شقاء دائم وتعب لا يُطاق، ونلقي بأنفسنا إلى الهلاك دفاعًا عنكم وعملًا على راحتكم وطمأنينتكم؟ أم نسيت أن تظلمك للخازندار يعني أننا ظلمناك ولم نعدل في تقدير المال المطلوب منك؟!» فأخذ السيد عبد الرحمن يستعطف الجابي ويحاول استرضاءه واتقاء غضبه بكل وسيلة. ثم نادى كاتب المتجر وأمره بأن يَعُد ألفي نصف ويحضرها فورًا، فحنى الكاتب رأسه سمعًا وطاعة ومضى لتنفيذ ما أُمر به. ثم عاد بالمبلغ المطلوب بعد قليل فسلَّمه للسيد عبد الرحمن، وقدَّمه هذا للجابي فتناوله منه متظاهرًا بعدم المبالاة، وسأله: «كم نصفًا دفعت؟» قال: «دفعت الألفين اللذين طلبتموهما.» فقذف الجابي بالكيس الذي به النقود إلى الأرض، ثم نهض مغاضبًا، وصاح بالسيد عبد الرحمن محتدًّا يقول: «لقد أبطرتكم النعمة. أإلى هذا الحد بلغ جهلكم وغروركم وقلة إنسانيتكم؟ أم حسبت أننا عبيد لك أو خدم عندك؟» فارتعدت فرائصه، وازداد امتقاع وجهه، وابتلع ريقه بصعوبة لجفاف حلقه، ثم دنا من الجابي وقال في خشوع: «العفو يا سيدي … لقد أطعت أمركم. ولي الشرف بهذه الطاعة الواجبة. فماذا أغضبكم؟» فقال الجابي: «هل عميت عن حق الطريق؟» ففطن التاجر إلى أنه لم يدفع للجابي بعض المال لنفسه فوق الضريبة كما هي العادة. وكان الخوف قد أنساه ذلك، فبادر بالاعتذار والاستغفار، مؤكدًا أنه لا يمكن أن يغفل أداء مثل هذا الواجب المقدس، وإنما وقع ذلك سهوًا منه ومن كاتبه. فقال الجابي: «حقًّا إنكم جهلة متأخرون، لا تحترمون موظفي حكومتكم وتتجاهلون حقوقهم. وكان يجب أن تدفع حق الطريق قبل دفع الإعانة نفسها.» فأخذ السيد عبد الرحمن يتضرع إليهم أن يغفروا له ذلك الخطأ غير المقصود، مبديًا استعداده لدفع ما يأمر به الجابي، فقال هذا: «لا تطل الكلام، ادفع مائة نصف.» قال: «سمعًا وطاعة.» ثم انطلق إلى خزانته وجاء بالمال المطلوب في إحدى يديه، وفي الأخرى مثله لكل من الكاتب والجندي حامل الدفتر، ثم سلم كلًّا منهم نصيبه من حق الطريق، وتنهد دلالة على الارتياح، ووقف بين أيديهم متأدبًا، وفي نفسه أنه أرضاهم جميعًا وتخلص من شرهم، ولا يلبثون قليلًا حتى ينصرفوا فيعود إلى أداء صلاة العصر قبل أن يفوت وقتها. وشد ما كان عجبه وجزعه حين رأى الجابي يشير إلى الكاتب الذي معه، ويأمره بمراجعة الدفتر لعل هناك ضرائب أخرى لم تُسدد بعدُ. فنظر الكاتب في الدفتر قليلًا ثم التفت إلى الجابي وقال: «إن له أرضًا في الشرقية يدفع عنها كيسين كل سنة عشورًا. والمطلوب أن يدفع الآن عشور ثلاث سنوات سلفًا؛ لأن الديوان محتاج إلى نفقات كثيرة.» فوجم السيد عبد الرحمن ثم تمالك نفسه وقال للجابي: «عفوًا يا سيدي. إن هذه الأرض لم تعد ملكًا لي؛ إذ إنني بعتها منذ سنة.» وظن أن الجابي سيقتنع بهذه الحجة ويعفيه من العشور المطلوبة. ولكن هذا بدلًا من الاقتناع وضع يده على مقبض سيفه ورد عليه بقوله: «أتريد اختلاس أموال الديوان بالكذب والبهتان؟ أم تريد أن نكذب دفتر الحكومة ونصدق دعواك … لا بد من دفع العشور المطلوبة الآن وإلا كنت الجاني على نفسك.» فتلعثم التاجر ولم يستطع جوابًا؛ لعلمه أن ليس أسهل على الجابي من قتله ونهب كل ما في متجره. ثم نادى كاتب المتجر وسأله أمامهم: «هات ستة أكياس.» فقال الكاتب: «ليس في الخزانة الآن إلا كيسان اثنان، فهل آتي بهما؟» وعبثًا حاول السيد عبد الرحمن أن يستعطف الجابي ليمهله إلى اليوم التالي ريثما يدبر بقية المال المطلوب، فاستأذنه في الخروج لاقتراضه من أحد التجار، فلما أذن له خرج يطوف بمتاجر زملائه في الوكالة، حتى وفِّق إلى مَن أقرضه الأكياس الأربعة الباقية، فعاد بها إلى متجره يتنازعه عامل الأسف على ما تجشم من خسائر مالية فادحة، وعامل الشكر لله على أن نجاه من القتل بيد الجابي المتكبر الجبار. وما بلغ المتجر حتى وجد كاتبه جالسًا يبكي وينتحب بالباب، والدم يسيل من جرح في رأسه. فسأله: «ما هذا، وأين الجابي ومَن معه؟» قال: «لم تكد تخرج حتى نادوني وأخذوا الكيسين طالبين أن أحضر لهم الأكياس الباقية في الحال؛ لأنهم لا يستطيعون الانتظار أكثر مما انتظروا. فلما كررت لهم الاعتذار بخلو خزانة المتجر، اعتدوا عليَّ بالضرب ونهبوا ما استطاعوا نهبه من السلع المعروضة في المتجر، ثم انصرفوا حانقين متوعدين!» فاستعاذ السيد عبد الرحمن بالله من ذلك الظلم المبين، وراح يندب سوء حظ مصر ونكبة أهلها بحكم المماليك المستبدين، وجلس في المتجر مطرقًا مفكرًا، ثم رفع رأسه بعد قليل، ومسح دمعة انحدرت من عينه على خده، وعزَّى نفسه قائلًا: «الحمد لله على أن الخسارة لم تتعدَّ الأموال، ولو أنهم قتلوني ما طالبهم بدمي أحد.» ثم نهض ومشى إلى الدكة التي فُرشت عليها السجادة للصلاة، فصلَّى في خشوع وإيمان، ودعا الله أن يقيه شر أولئك اللصوص الطغاة غلاظ القلوب والأكباد. ••• جلس السيد عبد الرحمن في متجره بعد أن أدى صلاة العصر، يفكر في الظلم الذي حاق به من الجابي وصاحبيه. وفيما هو في ذلك، دخل عليه رجلان في زي كتبة الديوان وفي يد كل منهما دفتر، فوقع الرعب في قلبه وعاد إليه اضطرابه أشد مما كان. على أنه جاهد نفسه حتى لا يظهر عليه شيء من ذلك، وخف إلى استقبالهما والترحيب بهما ودعاهما إلى الجلوس بجانبه. ثم أمر لهما بالقهوة والغليون، وأخذ يلاطفهما معربًا عن اغتباطه بتشريفهما إياه بالزيارة. ومع أنهما كانا أقل خشونة من الجابي وصاحبيه، وكان هو على يقين من أنه دفع أكثر من قيمة الضرائب التي يحصلانها باسم عوائد الوالي والأغا (رئيس الشرطة)، والمحتسب (ملاحظ المكاييل والموازين والأسعار). بقي خائفًا يترقب شرًّا من وراء زيارتهما؛ لعلمه في الوقت نفسه بأنهما وأمثالهما ليس لهم رواتب من الحكومة، بل هم يفرضون لأنفسهم ضرائب شهرية على التجار وأصحاب الحرف، يقدرونها حسبما يتراءى لهم، وربما أخذوها مرتين أو ثلاثًا في الشهر، بغير رحمة ولا شفقة. ولم يطُل به الانتظار حتى وقع ما كان يحذره، فنظر أحد الكاتبين في الدفتر الذي يحمله والتفت إليه قائلًا: «مطلوب منذ الآن مائة نصف من عوائد الحسبة، ومثلها من عوائد الوالي والأغا.» فقال: «إنني أذكر أني دفعت هاتين الضريبتين منذ بضعة أيام فقط.» وهنا صاح الكاتب الآخر في وجهه قائلًا: «كيف تقول مثل هذا الكلام وأنت تاجر كبير تربح الكثير؟ وهل جئنا إذن لنختلس أموالك؟ … ها هو الدفتر أمامك، وقد سُجل فيه ما دفعت وما يجب أن تدفعه. وهو مال الحكومة كما تعلم، ولا سبيل إلى التهرب من دفعه!» فاستعاذ السيد عبد الرحمن بالله من شر ذلك اليوم، وقال: «العفو سيدي. إني لم أقصد شيئًا من ذلك، وإنما ذكرت ما اعتقدت أنه الحقيقة، ولعلي واهم. وجنابك أصدق على كل حال. فمعذرة.» ثم نهض وقدم لهما المال المطلوب، وفوقه «حق الطريق» لكل منهما، وقال: «أرجو قبول معذرتي مع خالص احترامي وشكري على أن شرفتموني بهذه الزيارة الكريمة.» فضحك الكاتب الأول متطرفًا وقال له: «أنت رجل لطيف يا سيد عبد الرحمن.» ثم نظر إلى قطعة من الحرير الثمين كانت بين السلع المعروضة في المتجر وقال: «بكم تبيع هذه القطعة؟ … إنها تصلح قباء (قفطانًا) لي.» فقال: «هي لك يا سيدي وقد وصل ثمنها.» ثم أمر بعض عمال المتجر بإحضار قطعة مماثلة، وقدم القطعتين للكاتبين متأدبًا وهو يقول: «إنه لشرف عظيم أن تحوز بضاعتي إعجاب رجال الحكومة.» فأخذا القطعتين وانصرفا مشيعين بكل احترام. وكانت الشمس قد أوشكت أن تغرب، فعجَّل السيد عبد الرحمن بإنجاز ما لديه من أعمال ضرورية مثل كتابة الخطابات للعملاء ومراجعة حساب البيع والشراء في ذلك اليوم. كما أعاد ترتيب السلع في المتجر. ثم همَّ بإغلاق المتجر والعودة إلى منزله قبل أن يسود الظلام، ويتعرض لأخطار الطريق؛ إذ كانت الطرقات والأسواق في ذلك الحين لا تضيئها سوى بعض المصابيح الضعيفة الخافتة الضوء، معلقة على أبواب الحارات وبعض المنازل. وفيما هو يغلق المتجر، جاءه بواب الوكالة مهرولًا يقول: «لقد عاد الجابي يا سيدي!» فأجفل واستعاذ بالله من شر هذه العودة، وأخذ يلعن سوء الحظ الذي جعله يحترف التجارة وأطمع فيه أولئك الحكام الذين لا يرحمون. وبعد قليل وصل الجابي، فإذا به يترنح من فرط سكره، وقد أمسك خنجره بيده. ومن خلفه رفيقاه في مثل حاله. فهمَّ السيد عبد الرحمن بالفرار من وجوههم، لكنه خشي أن يدركوه ويقتلوه، فآثر البقاء وترامى على يد الجابي يهم بتقبيلها متذللًا متضرعًا، فدفعه هذا بقوة وانتهره قائلًا: «أهكذا تهرب من دفع مال الميري يا خائن؟» وأخذ يكيل له أفحش ألفاظ الشتم والسباب، ويهدده بالخنجر الذي في يده. فجثا السيد عبد الرحمن بين يديه، وهمَّ بتقبيل قدميه وقال: «إني عبدكم يا سيدي، وهذا هو حانوتي بين أيديكم فخذوا منه كل ما تريدون، فأنا رهن إشارتكم.» فقال الجابي وهو ما زال يترنح: «حسنًا، إذن هيا ادفع المطلوب منك، وإياك أن تعود إلى مثل ذلك التهرب.» فسارع إلى إحضار الأكياس الأربعة التي اقترضها، ودفعها له ومعها «حق الطريق» لكل منهم. وهو يدعو لهم بطول العز والبقاء. فقهقه الجابي الثمل مغتبطًا وقال: «حسنًا. حسنًا. يلوح لي أنك رجل عاقل حسن التصرف.» ثم أغمد الخنجر وأعاده إلى موضعه في مَنطِقته، وهمَّ بالانصراف. وفيما كان التاجر يشيعه بكلمات الشكر والدعاء، دنا منه الجندي حامل الدفتر، وهمس في أذنه قائلًا: «إن الديوان أمر بتجنيد ولدك وأخذه إلى الحرب في الحجاز مع الحملة الذاهبة إلى هناك بعد أيام؛ وذلك لأن جنود المماليك لا يكفون لهذا الغرض، ولا بد من إمدادهم بجنود آخرين من سكان البلاد المصريين والأتراك والمغاربة والشوام.» فبُغت السيد عبد الرحمن، وكاد قلبه يقف لهول هذا النبأ المرعب، وشعر بأن كل ما لحقه من الظلم والإهانة والخسائر المالية الجسام لا يُعد شيئًا يستحق الذكر بجانب أخذ ولده الوحيد إلى الحرب. وأدرك الجندي ذلك منه، فاقترب منه وهمس إليه مرة أخرى قائلًا: «اطمئن يا سيدي. واشكر الله على أن هيأ لك ولولدك مخرجًا من هذا المأزق، فإن جناب الجابي — جزاه الله خيرًا — قد رثي لحالكما، وأعمل نفوذه وحيلته لإعفاء ولدك من ذلك التجنيد. وأظن أنه استحق بذلك أن تشكره وتكافئه على معروفه هذا ببعض المال!» فتنهد التاجر، وذهب عنه الروع، وشعر بأنه مدين بسعادته لمعروف ذلك الجابي المستبد السكران، فهمَّ بيديه يقبلهما والدموع تطفر من عينيه. ثم نادى خادمه وأرسله إلى التاجر الذي اقترض منه الأكياس الأربعة في العصر، ليقترض له مثلها على أن يردها كلها في الغد. ثم جلس مع الجابي وصاحبيه في انتظار عودة الخادم، ولسانه يلهج بشكرهم والثناء على أريحيتهم ومروءتهم. وانتهز ثلاثتهم هذه الفرصة، فأخذوا في انتقاء ما خف حمله وغلا ثمنه من السلع الموجودة في المتجر وأخذها لأنفسهم وهو لا يستطيع أن يمنعهم، بل كان يعرب لهم عن اغتباطه بذلك. فلما عاد خادمه بالأكياس الأربعة المقترَضة، تناولها منه، وأعطى الجابي كيسين، وكلًّا من الجندي وكاتب الجابي كيسًا. فأخذوها وانصرفوا بها وبما انتقوه من السلع. وما كادوا يخرجون من الوكالة حتى سارع السيد عبد الرحمن إلى إغلاق المتجر، وغادرها هو الآخر عائدًا إلى منزله، وقد سدل الليل نقابه. وفي يده مصباح من الورق يستعين به على تبين الطريق. ••• كان من عادة السيد عبد الرحمن أن يمر في طريق عودته إلى المنزل كل مساء بالبيمارستان المنصوري الذي يدرس فيه ابنه حسن، فيصطحبه من هناك إلى المنزل. ولما وصل إلى البيمارستان، وجد أبوابه مغلقة، فأدرك أنه تأخر عن الموعد الذي تعوَّد المرور به فيه لاصطحاب ابنه. وتذكر ما وقع له في متجره ذلك اليوم من الإهانات والخسائر. ولكنه حمد الله على أن نجَّى ولده الوحيد من خطر التجنيد. وواصل سيره حتى وصل إلى شارع النحاسين، فسمع وقع أقدام خلفه من بعيد، فأوجس في نفسه خيفة، وانزوى في منعطف هناك، حتى مر القادمون، وتبين من كلامهم أنهم جماعة من الجند، بينهم الجابي وصاحباه. فبالغ في الانزواء حتى بعدوا، وأمن شرهم، ثم عاد بمصباحه إلى الشارع، وواصل سيره، وهو لا يكاد يرى ما أمامه لضعف الضوء، وشدة قلقه واضطرابه. ولما بلغ شارع الكعكيين، واقترب من الحارة التي بها منزله، لاحظ أن باب الحارة مفتوح على غير العادة؛ إذ كانت أبواب الحارات تُغلق كلها عقب الغروب. فاشتدت وساوسه وأسرع في مشيته ليقف على سبب إبقاء الباب مفتوحًا، وأخذ يدعو الله بقلبه ألا يكون السبب ما يسوء. وقبل أن يبلغ الباب، سمع شخيرًا عميقًا بالقرب منه، ولمح على ضوء مصباحه الخافت جسم إنسان ممددًا على الأرض، فدنا منه وقرَّب المصباح من وجهه فتبين أنه البواب، وأنه جريح يسيل الدم من رأسه ووجهه، وبجانبه الخشبة الغليظة التي توضع خلف باب الحارة من الداخل ويدخل بعضها في الحائط لتكون بمثابة المزلاج. وكانوا يطلقون عليها اسم «الدقر». وقد لُوثت بالدم السائل من جرح المسكين. وأخذ السيد عبد الرحمن ينادي البواب باسمه، فلم يستطع هذا جوابًا، واستمر في شخيره وهو يئن أنينًا خافتًا متقطعًا. فأدرك أنه في غيبوبة الموت، واشتد خفقان قلبه وارتعدت فرائصه لهول ذلك المنظر المروع. وحدثته نفسه بأن يبلغ الأمر إلى رجال الشرطة في مقرهم الخاص بالمنطقة. ثم خشي ما قد يجره عليه هذا من الظلم والإهانة. كما رأى أن بقاءه بجانب البواب الصريع قد يوقعه في تهمة قتله وهو بريء منها. فغادر المكان مسرعًا ودخل الحارة ملتمسًا الطريق إلى منزله فيها. وما كاد يخطو بضع خطوات حتى سمع وقع أقدام كثيرة خلفه، فالتفت فإذا برجلين كأنهما ماردان، يرتديان ملابس قصيرة وفي يد كل منهما عصا غليظة طويلة، وصاح به أحدهما قائلًا: «قف مكانك يا مجرم، أتظن أن التخلص من جريمة القتل سهل إلى هذا الحد؟!» فوقف السيد عبد الرحمن، وقد امتلأ قلبه رعبًا، ولم تعد ساقاه المتخاذلتان المرتعدتان تقويان على حمله، ولاسيما بعد أن رأى أحد الرجلين رفع عصاه وهمَّ بأن يهوي بها على رأسه. على أنه تحامل على نفسه متجلدًا، وقال للرجلين في صوت متهدج: «لست والله مجرمًا، ولا أنا ممن يستطيعون قتل هرة.» وكان جوابهما أن انقض عليه أحدهما وقبض على عنقه بيد من حديد حتى كاد يزهق روحه خنقًا، بينما أطفأ الآخر المصباح، وراح يجرِّد التاجر من كل ما يحمله من نقود وثياب وأوراق وحلي وغيرها. ثم ألقياه بقوة على الأرض وتركاه ذاهلًا يئن من فرط الألم ولاذا بالفرار، بعد أن هدداه بالقضاء على حياته إن هو فتح فمه بكلمة واحدة! ولم يسعه إلا الامتثال، فبقي صامتًا ساكنًا حتى ابتعدا، ثم نهض ومشى إلى منزله بما بقي عليه من الملابس الداخلية، وهو عاري الرأس حافي القدمين. فلما اقترب من المنزل سمع فيه صراخًا وعويلًا فازداد اضطرابه. وطرق الباب طرقًا شديدًا، فأطل بعض الخدم من نافذة تشرف على الباب ولم يستطيعوا معرفته لتغير هيئته وملابسه ولضعف ضوء المصباح المعلق بالباب، وحسبوه لصًّا أو محتالًا فانهالوا عليه بالشتائم والحجارة. لكنه صاح بهم مهددًا متوعدًا، وأخذ يدعوهم بأسمائهم حتى عرفوه ففتحوا له الباب واستقبلوه معتذرين باكين. ورأى الجواري محلولات الشعر يلطمن وجوههن نادبات معولات. وعلم منهن أن زوجته وحدها في غرفتها، وأنها تكاد تكون غائبة الوعي كأنما أُصيبت بالذهول أو الجنون؛ وذلك لأن عساكر المماليك جاءوا إلى المنزل منذ قليل وهم سكارى، وقبضوا على ولدهما حسن وساقوه إلى الديوان تمهيدًا لتجنيده وإرساله إلى الحرب!
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/2/
في قلعة القاهرة
أدرك السيد عبد الرحمن أن الجابي هو الذي اقتحم منزله وأخذ ولده، رغم الأكياس والسلع التي أخذها منه في المتجر هو ومن معه، فطفرت الدموع من عينيه حنقًا وحزنًا. ومضى إلى زوجته في غرفتها فوجدها قد حلت شعرها وشقَّت ثيابها وتورَّم خداها واحمرت عيناها من شدة اللطم والبكاء. وما وقع نظرها عليه حتى صاحت قائلة: «لقد أخذوه … أخذوا حسنًا إلى الحرب والقتل.» واستأنفت اللطم والعويل. ولم يستطع مغالبة تأثره الشديد بهذا المنظر، فأخذ هو الآخر يلطم وجهه وأطلق لدموعه العنان. وشاركهما في ذلك كل مَن في المنزل من الخدم والجواري. وأخيرًا، اقتربت منه زوجته وهي على تلك الحال وقالت له: «ألا تخرج للبحث عن حسن والوقوف على ما تم في أمره، عسى أن توفَّق إلى إنقاذه بأي ثمن؟» فقال: «لو قبلوا أن أفتديه بكل ما أملك، وفوقه حياتي نفسها ما أحجمت عن افتدائه. وقد بذلت للجابي كل ما طلب وزيادة، على أمل أنه أعفاه من التجنيد رحمة بنا. لكنه — لعنه الله — أبى إلا أن يفجعنا في مالنا وولدنا.» فقالت: «سينتقم الله منه ومن كل ظالم عما قريب. لكن كيف نصبر على فراق وحيدنا وفلذة كبدنا، ونتركهم يأخذونه من الدار إلى النار؟» فتنهد السيد عبد الرحمن، وصرَّ بأسنانه غيظًا من ذلك الظلم، ثم قال لزوجته: «وماذا أصنع وأنا لا أستطيع الخروج من المنزل الآن؟» فأبدت دهشتها وقالت: «وما الذي يمنعك من الخروج؟» قال: «يمنعني أن على باب الحارة قتيلًا مضرجًا بدمائه، وقد كادوا أن يقبضوا عليَّ ويتهموني بقتله، لولا أن كتب الله لي النجاة من أيديهم بعد أن اعتدوا علي بالضرب وسلبوني ثيابي وكل ما كان معي.» فبُغتت كما بُغت جميع الحاضرين، وأدركوا سبب مجيئه إلى المنزل عاري الرأس حافيًا ليس عليه إلا الملابس الداخلية. ثم سألته زوجته: «ألم تعرف مَن ذلك القتيل؟» قال: «عرفته. هو بواب الحارة المسكين!» فقالت: «تبًا لهم من ظلمة أشرار! ذهب المسكين ضحية الإخلاص والوفاء والدفاع عن الحق، فقد سمعته يستمهلهم حتى تحضر، وهم يهمون بأخذ حسن.» وعادت إلى البكاء قائلة: «تُرى أين أنت الآن يا ولدي؟ وهل يقدر لنا أن نراك بعد الآن؟» فلم يتمالك السيد عبد الرحمن عن البكاء معها، وأخذ يندب حظه وولده قائلًا: «آه يا حسن! كيف نتركك تذهب إلى الموت وليس لنا في الحياة سواك؟» فقالت له زوجته: «ألا نشكو أمرنا ونتظلم عسى أن ترقَّ لنا قلوبهم أو يطلقوا سراح ولدنا بأية وسيلة؟» فهز رأسه أسفًا وحزنًا وهو يتنهد، ثم قال: «ولمن نشتكي يا سالمة؟ هل نشتكي إلى المماليك وهم أنفسهم الذين ظلمونا … ليس أمامنا إلا الله وحده نشكو إليه بثنا وحزننا، وهو القادر على أن يكشف عنا هذا البلاء الذي غطى كل ما سبقه من ويلات ونكبات.» فقالت سالمة: «أليس من وسيلة إلى مقابلة الباشا واستعطافه، لكي يوصي علي بك برد ولدنا إلينا لأنه لا يستطيع الحرب؟» فقال: «إن الباشا نفسه يشكو مثلنا ظلم المماليك، عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا … لا. ليس لنا إلا أن نشكو إلى الله.» ثم رفع يديه ورأسه إلى السماء وأخذ يتضرع إلى الله قائلًا: «يا رافع السموات وباسط الأرض، يا عالمًا بكل شيء، وقادرًا على كل شيء، نسألك بحق ذلنا وانكسارنا، أن تلطف بنا فيما جرت به المقادير، وتنتقم لنا من الظلمة الغاشمين بجاه خاتم الأنبياء والمرسلين.» ••• لبث السيد عبد الرحمن وسالمة زوجته يبكيان ولدهما حسنًا، ويشاركهما في البكاء كل مَن في منزلهما من الخدم والجواري حتى مضى الليل كله في ذلك دون نوم ولا طعام. على أن السيد عبد الرحمن ما كاد يسمع أذان الفجر، حتى نهض وتوضأ وأدى ما عليه لله من فرائض للصلاة. وكان قد فاتته صلاة المغرب والعشاء بسبب ما تراكم عليه من الأحداث والأحزان. ولما فرغ من الصلاة والدعاء إلى الله أن يكتب السلامة لولده العزيز الوحيد، جالت بخاطره فكرة رأى في تحقيقها ما قد يحقق رجاءه. فنهض ومضى إلى زوجته في غرفتها حيث كانت تواصل البكاء وقد خارت قواها واحمرت عيناها، وقال لها: «قد رأيت أن أمضي إلى السيد المحروقي في داره لأخاطبه في أمرنا، وهو من السادة الأشراف المقربين إلى علي بك، وما أظن أنه يرفض التوسط لنا عنده ليأمر بإطلاق سراح ولدنا.» فقالت: «حسنًا تفعل، وما أظن أن علي بك يرد مثل هذا الطلب لصديقه الشريف الكبير. فهيا عجِّل بتنفيذ هذه الفكرة، وعلى الله التوفيق.» ثم رفعت يديها إلى السماء والدموع في عينيها ورفعت صوتها المتهدج قائلة: «يا رب، أنت أعلم بحالنا فارحمنا يا أرحم الراحمين.» وبعد قليل، كان السيد عبد الرحمن قد استعد للخروج، فارتدى جبة وقباء (قفطانًا) ووضع على رأسه العمامة، واحتذى نعلًا جديدة بدل التي سلبه اللصوص إياها مع بقية ملابسه ودراهمه بالأمس. ثم همَّ بالنزول من دار الحريم في الطابق العلوي من المنزل، داعيًا الله بقلبه ولسانه أن يوفَّق في مهمته. وفيما هو كذلك إذا به يسمع ضجة كبيرة أمام المنزل، ثم طرقات عنيفة على الباب، فتسارعت دقات قلبه ووقف شعر رأسه وجحظت عيناه دهشة ورعبًا، ثم خطر بباله أن الطارق ربما كان ولده أو رسوله أو بشيرًا بقدومه، فعاودته همته وشهامته، وخفَّ إلى نافذة قريبة فأطل منها على باب المنزل. وشد ما كانت خيبة آماله؛ إذ رأى جماعة من العساكر والإنكشاريين وبينهم رجال موثقون بالقيود والأغلال، فعاوده رعبه وفزعه وتخاذلت ساقاه فلم يعد يستطيع الوقوف فضلًا عن المشي، فارتمى على مقعد بجانب النافذة حيث اعتمد رأسه بيديه وغرق في لجة من الوساوس والهموم. وكان مَن في المنزل قد رأوا ما رآه فأخذهم ما أخذه من الخوف وتوقُّع الشر واجتمعوا حوله خافقة قلوبهم معقودة ألسنتهم، حتى سالمة زوجته إذ تحوَّل صراخها إلى أنين خافت مكبوت. ومضت لحظة رهيبة علت بعدها ضجة المزدحمين بباب المنزل، واشتدت الطرقات عليه، وصحب ذلك صوت معالجة فتح الباب بالعنف، فرفع السيد عبد الرحمن رأسه وأشار إلى بعض الخدم الملتفين حوله أن ينزلوا لفتح الباب وإدخال العساكر القادمين قاعة الاستقبال (المنظرة) في الطابق الأرضي لتقديم القهوة لهم وسؤالهم عما يريدون. ففعلوا ما أشار به. وبعد قليل صعد إليه أحد أولئك الخدم وقد ازداد وجهه صفرة، وأنبأه بلسان متلعثم أن القادمين هم رجال الشرطة المنوط بهم حفظ الأمن والنظام بالمنطقة، وأنهم قبضوا على كثير من سكان الحارة وغيرهم للتحقيق معهم في أمر مصرع بواب الحارة، ويريدون أن يخرج معهم لسماع أقواله أمام الوالي (رئيس الشرطة) في القلعة. ولا تسل عن فزع السيد عبد الرحمن بعد أن سمع هذا الكلام، على أنه خشي أن يكون في تأخره عن النزول إليهم والخروج معهم إلى القلعة ما لا تُحمد عقباه، فتحامل على نفسه وودَّع أهل منزله ثم تزوَّد بقدر كبير من الدراهم لعله يحتاج إليها في الطريق. وهبط من دار الحريم إلى المنظرة فحيا العساكر في أدب واحترام وقدَّم لهم نفسه، فسرعان ما أوثقوه ثم خرجوا به مع المقبوض عليهم الآخرين آخذين طريقهم إلى القلعة. ••• وصل السيد عبد الرحمن إلى القلعة وقد أنهكه التعب والحزن وما قاساه من إهانات العساكر في الطريق. وهناك أوقفوه مع بقية المتهمين أمام رئيس الشرطة، فأخذ يهددهم بالقتل ويُسمِعهم أفحش السباب، وكلما تراموا على قدميه مؤكدين براءتهم مما اتُّهموا به، لج في طغيانه وأصم أذنيه عن سماع توسلاتهم. وأخيرًا، أمر العساكر بأن يزجوا بهم في السجن ريثما ينظر في أمرهم، فهمَّ هؤلاء بتنفيذ الأمر، وهمس جاويش منهم قائلًا للمتهمين الموثقين: «إن جناب الوالي (رئيس الشرطة) لا يبالي تظلمكم، ولا تهمه دعواتكم له بطول العمر والسلامة، ولكن إذا دفع كل منكم نصف كيس مساهمة في دية القتيل، فقد يقبل إعادة النظر في أمركم ويعفو عنكم!» فاستبشر السيد عبد الرحمن وقال في نفسه: «هذا طلب هين يسير.» ثم دفع للجاويش نصف كيس للوالي ونصف كيس له. واقتدى به مَن استطاع الدفع من المتهمين، فأخذ الجاويش ما دفعوه من المال وعاد إلى الوالي فتحدث معه هنيهة، ثم جاءهم يقول: «قد عفا جناب الوالي عنكم.» فصاحوا جميعًا شاكرين داعين. وحسبَ المتهمون — وفي مقدمتهم السيد عبد الرحمن — أن المسألة انتهت عند هذا الحد. ولكن العساكر ما لبثوا أن ساقوهم في قيودهم وأغلالهم إلى مقر الأغا (محافظ المدينة) في القلعة بحجة إتمام التحقيق! وكان هذا الأغا إنكشاريًّا طويل القامة هائل الحجم، على رأسه عمامة بيضاء هرمية الشكل، وعلى كتفيه العريضتين فرو سمور، وهو كث اللحية عريضها، تدل نظراته الشزراء على أنه فظ غليظ القلب. فلما دخلوا عليه أمر بجلدهم قبل أن يسمع أي شيء عن أمرهم. فأخذوا يتضرعون إليه ويستعطفونه مترامين على قدميه يحاولون تقبيلهما، فركلهم وقال لهم محتدًّا: «إما أن تذكروا مَن القاتل وإما كنتم القاتلين وحق عليكم أشد العقاب!» وبعد اللتيا والتي، كتب الله لهم الخلاص من شر الأغا. بعد أن جمعوا من بينهم ما تيسر من المال ودفعوه له ولمعاونيه، فأمر بحل وثاقهم وإطلاق سراحهم، فخرجوا من عنده وهم لا يكادون يصدقون أنهم نجوا. ولاح للسيد عبد الرحمن أن ينتهز فرصة وجوده في القلعة فيذهب لمقابلة الباشا في مقره هناك، ويقص عليه حكايته، فإن لم يجد فائدة منه ذهب إلى السيد المحروقي كما قرر من قبل. ثم تردد في تنفيذ هذه لفكرة؛ لأنه لا يعرف اللغة التركية، والباشا لا يتكلم إلا بها ولا يعرف العربية. لكنه تذكر أن الباشا لا بد أن يكون لديه مترجم خاص أو أكثر، فزايله تردده ومشى في طرقات القلعة حتى وصل إلى قصر الباشا فهاله عِظم بابه، وكثرة الحجاب الأتراك الواقفين به وعلى كل منهم سراويل قصيرة، وقد تقلد بندقية. ودنا من أحد أولئك الحجاب واستأذنه في الدخول، فسأله الحاجب: «ما حاجتك؟» قال: «لي قضية مهمة أريد أن أعرضها على أفندينا الباشا.» فقال الحاجب: «انتظر قليلًا حتى نعرض أمرك على جناب الكتخدا نائب الباشا.» ثم دخل الحاجب وغاب دقائق عاد بعدها وقال له: «قد أذن جناب الكتخدا بدخولك عليه فتعالَ نفتشك أولًا لئلا يكون معك شيء من السلاح.» وبعد أن فتشه وتحقق أنه لا يحمل سلاحًا، قاده إلى الداخل حيث مضى به إلى غرفة الكتخدا، وأزاح له الستارة الموضوعة على بابها فدخل وقلبه يخفق هيبة، فوجد الكتخدا جالسًا في صدر القاعة بالملابس التركية، فحياه باحترام. وأشار إليه الكتخدا أن يجلس على مقعد بالقرب منه وكلَّم الحاجب بالتركية آمرًا إياه بدعوة الترجمان إليه. فجلس السيد عبد الرحمن مطرقًا ويداه على ركبتيه. وبعد هنيهة جاء الترجمان وسأله بالعربية عما يريد، فأخذ يقص عليه حكايته من أولها إلى آخرها، وهذا يترجمها فقرة فقرة للكتخدا، فيهز رأسه مبديًا دهشته وأسفه. والتفت الكتخدا أخيرًا إلى السيد عبد الرحمن وفي نظراته ما يدل على الرثاء له والرأفة به، ثم قال له بوساطة الترجمان: «قد فهمت قضيتك وأدركت أنك على حق فيما شكوته من الظلم. وسأذهب بنفسي لرفع هذا الظلم عنك ورد ولدك إليك.» فلم يتمالك السيد عبد الرحمن عن الوقوف ودموع الاستبشار بقرب الفرج تطفر من عينيه، ثم همَّ بتقبيل يد الكتخدا، فمنعه من ذلك، وأشار إليه أن يجلس كما كان. فعاد إلى مقعده ولسانه ما زال يلهج بالشكر والدعاء. وأخذ الكتخدا يتبسط في الحديث بوساطة الترجمان مع السيد عبد الرحمن، إلى أن استطلع رأيه فيما يُقال من اعتزام علي بك الاستقلال بحكم مصر وإخراجها من يد الدولة العلية، فأجاب بقوله: «قد سمعت يا سيدي شيئًا عن ذلك. وأكبر الظن أن الغرض الأول لعلي بك من إرسال الحملة إلى الحجاز ليس مساعدة شريف مكة ضد منافسه فقط، بل غرضه إخراج تلك البلاد من يد دولة الخلافة أيضًا. ولهذا أكثر من الجنود في تلك الحملة حتى لم يبقَ أحد من الشبان المقيمين بمصر إلا ألحقه بها، لا فرق بين المصريين منهم والمغاربة والشوام والأتراك والأروام. وقد شاءت المقادير أن يكون ولدي الوحيد بين أولئك المجندين، مع أنه من المتخرجين في الأزهر ومدرسة السلطان حسن، ولم يكتفِ بما حصَّله من علوم الدين واللغة وغيرهما فالتحق بمدرسة البيمارستان المنصوري ليدرس الطب على يد أحد الأطباء المغاربة فيه.» فقال الكتخدا: «إن هؤلاء المماليك قد أمعنوا في طغيانهم وتمردهم على مولانا السلطان، ولا شك في أن جلالته لا يُقِر هذه الأعمال، لما عُرف عنه من الميل إلى العدل والحلم والبر برعاياه. ولا بد من وضع حد لهذه المظالم. فطِب نفسًا وقر عينًا، وثق أن حاجتك مقضية، ولا يلبث ولدك أن يعود إليك سالمًا بإذن الله.» فوقف السيد عبد الرحمن، وحاول مرة أخرى تقبيل يد الكتخدا ولكن هذا منعه أيضًا، ثم ودعه مطيبًا خاطره مكررًا وعده بالسعي العاجل بنفسه في سبيل رد ولده إليه. فخرج من عنده وقد أنساه ذلك كل ما عاناه من نصب وعذاب. ••• ما كاد السيد عبد الرحمن يهم بالخروج من القلعة، حتى بصر بموكب قادم إلى قصر الباشا، يتقدمه شيخ ذو لحية طويلة راكبًا على حمار، وعلى رأسه عمامة غريبة الشكل. فسأل بعض الجنود عمن يكون هذا الشيخ، فقال له أحدهم: «ألا تعرفه؟ إنه أبو طبق، لعنه الله ولعن مَن أرسلوه!» فتذكر ما كان يسمعه عن الأوضه باشي الذي تعوَّد المماليك أن يرسلوه إلى الباشا الذي يقررون عزله، لتبليغه هذا القرار. وكان العامة يسمونه أبا طبق، نظرًا إلى أن عمامته متخذة من لبادة سوداء تنتهي عند حافتها بدائرة واسعة مصنوعة من نسيج من الأسلاك الرفيعة، تجعلها أشبه بالقبعات الإفرنجية الواسعة الحوافي. ولم يكن يذهب لأداء مهمته هذه إلا راكبًا على حمار، ومن خلفه بعض أمراء المماليك. فقلق السيد عبد الرحمن، وأوجس في نفسه خيفة من أن يكون الرجل قادمًا لإعلان الباشا بعزله، فتحبط مساعيه لإطلاق سراح ولده. وبقي واقفًا حتى مر عليه الموكب فاختلط به، وعاد معه إلى قصر الباشا ليرى ما يكون. فلما وصل الأوضه باشي أو أبو طبق إلى باب القصر، ترجَّل عن حماره، وهمَّ بالدخول فتنحى كل مَن كانوا خلفه في الموكب، ولم يدخل معه إلا بعض أمراء المماليك. فدخل السيد عبد الرحمن في أثرهم، ولم يمنعه الحراس لأنهم رأوه في القصر منذ قليل. ووقف الأوضه باشي أمام قاعة كبيرة أدرك السيد عبد الرحمن من ضخامة بابها وفخامة الستارة المرفوعة عليه أنها غرفة الباشا، فأصلح الأوضه باشي وضع عمامته الغريبة وجلبابه الفضفاض المزرر من الأمام، ثم دخل دون استئذان وخلفه أتباعه، فدخل معهم وأدار عينيه في القاعة فإذا الباشا قد جلس مطرقًا في صدرها على سجادة ثمينة وعلى رأسه عمامة فوق القاووق، وعلى جبته فرو سمور، وبيده مذبة من ليف النخل. فلما شعر بدخولهم رفع وجهه وبدت الدهشة في نظراته وبقي ساكنًا. بينما اقترب منه الأوضه باشي، ثم همَّ بيديه فقبلهما، ثم تأخر قليلًا وثنى طرف السجادة التي يجلس الباشا عليها، ورفع صوته وهو ينظر إليه قائلًا: «انزل يا باشا.» ثم مد يده فأخرج من ثوبه كتابًا أخذ يقرؤه، فإذا هو قرار أصدره المماليك بعزل الباشا، وبأن يكون قصره بما فيه وكل حراسه تحت إمرتهم منذ ذلك الحين! ولم ينبس الباشا ببنت شفة، ولكن وجهه بدا شديد الصفرة كوجوه الأموات، وكادت المذبة تسقط من يده؛ لما اعتراه على أثر سماعه نبأ عزله من الرعدة والارتجاف. وانصرف الأوضه باشي على أثر ذلك مزهرًا بأداء مهمته، فركب حماره وانطلق بموكبه عائدًا من حيث أتى. ولم يتمالك السيد عبد الرحمن عن البكاء أسفًا على حبوط مساعيه بسبب ذلك العزل المفاجئ، ثم تجلَّد وغادر القلعة آخذًا طريقه إلى دار السيد المحروقي عسى القدر الذي كتب له الفشل هنا، يكتب له التوفيق هناك …
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/3/
السيد المحروقي
وصل السيد عبد الرحمن إلى دار السيد المحروقي وهو يدعو الله أن يأتيه بالفرج على يديه، فوجد باب الدار مغلقًا، والسكون يخيم عليها على غير العادة. وكان يعهدها حافلة بالقصاد. فتشاءم، وبحث عن البواب فيما جاور الدار فلم يجد له أثرًا، فعاد إلى الباب وطرقه هائبًا، فسمع صوتًا من الداخل يسأل: «مَن الطارق؟» فتشجع ورد على صاحب الصوت وهو لا يراه ذاكرًا اسمه وأنه جاء لمقابلة السيد في شأن خاص. وسكت مرهفًا أذنيه ليسمع الجواب، فلم يسمع شيئًا. ولما ملَّ الانتظار همَّ بإعادة طرق الباب، لكنه سمع وقع أقدام قادمة من الداخل، ثم فتح الباب وأطلَّ منه أحد الخدم داعيًا إياه إلى الدخول، فلما دخل أغلق الخادم الباب كما كان، ثم تقدمه إلى حجرة الجلوس، وكان بابها مفتوحًا على مصراعيه. فلمح السيد المحروقي جالسًا على وسادة في صدر الغرفة وفي يده كتاب يقرأ فيه، والدخان يتصاعد من غليونه، فأسرع السيد عبد الرحمن في مشيته حتى بلغ باب الغرفة فخلع نعليه وتركهما مع عصاه خارج الباب، ثم دخل محييًا في أدب واحترام وقبَّل يد السيد، فهمَّ هذا بالوقوف لاستقباله مرحبًا به، فأمسكه السيد عبد الرحمن ليحول دون ذلك وهو يقول: «أستغفر الله … أستغفر الله.» وأشار إليه السيد المحروقي بالجلوس على وسادة بجانبه، وأمر له بالقهوة والغليون، مكررًا عبارات الترحيب به، وكان قد عرفه من قبل، وكثيرًا ما التقيا في الأزهر وغيره من المساجد الجامعة، ثم بدأ الحديث معتذرًا من إغلاق باب الدار قائلًا: «إن الأحوال الحاضرة اضطرتنا إلى إغلاق الباب، فالجنود كما تعلم يتأهبون للسفر إلى الحرب في الحجاز، ومن عادتهم أن يجوسوا خلال الديار للنهب والسلب والتحرش بالسابلة كلما هموا بالخروج للقتال. ولسوف يزدادون عتوًّا وفسادًا في هذه المرة؛ لأن الديوان قرَّر اليوم عزل الباشا، فمتى علموا بذلك أمعنوا في تمردهم واعتداءاتهم على السابلة والمتاجر والبيوت.» فقال: «قد شهدت بعيني عزل الباشا منذ قليل، وقد جئتكم من القلعة عقب انصراف أبي طبق منها.» وروى له حكايته من أولها إلى آخرها إلى أن قال: «ولم يبقَ لي بعد الله ملجأ سواكم، وإني لأرجو أن ينفعنا الله ببركتكم فأنتم سلالة الشرف والمجد، وقاصدكم لا يخيب بعون الله.» ولم يتمالك السيد عبد الرحمن عواطفه التي هاجها تذكُّر ولده الوحيد، وما هو فيه من خطر، فأخذت دموعه تجري على خديه ولم يعد يستطيع الكلام. فتأثر السيد المحروقي، ووضع كتاب الحديث الذي كان يطالع فيه جانبًا، ثم التفت إليه وقال: «صبرًا يا أخي، فالعقبى للصابرين، ولا تحسبن الله غافلًا عن ظلم هؤلاء القوم واستبدادهم، وكأني به — جل شأنه — قد سلطهم علينا لنثوب إليه ونعلم ألا ملجأ إلا إليه.» ثم تنهد وهز رأسه أسفًا وواصل حديثه فقال: «ومن عجبٍ أنهم يدَّعون الإسلام، والإسلام بريء منهم ومن أعمالهم التي لم يأتِ مثلها الفراعنة والمجوس. وقد طالما نصحنا لهم ورجونا إصلاحهم فما ازدادوا إلا طغيانًا وفسادًا. وبلغ من قحتهم وكفرانهم بأنعم الله أن صرَّحوا بالخروج من طاعة مولانا السلطان، منتهزين لذلك فرصة اشتغاله بمحاربة روسيا. وقد رأيت اليوم كيف عزلوا الباشا، ليخلو لهم الجو، وليفسدوا في الأرض ما شاء لهم الظلم. وصحيح أن الباشوات الأتراك قصرت أيديهم في الزمن الأخير، وصارت الكلمة العليا في البلاد لهؤلاء المماليك، على أننا مع ذلك لم نكن نحرم من مساعدة على يد الباشا.» فقال السيد عبد الرحمن: «هل ترى أنهم يستطيعون تحقيق مطامعهم وإخراج مصر من حوزة الخلافة؟ وهل لا يخشون قوة الدولة وشدة بطشها؟» قال: «إنهم لجهلهم أحوال الدنيا يظنون أنها في متناول أيديهم، وأنهم سينالون مرامهم من أيسر سبيل. ومما جرأ علي بك على هذا فيما علمت أن كاتبه (المعلم رزق) زعم له أن علم التنجيم دلَّه على نجاح مساعيه في سبيل الاستقلال بمصر. ومنذ ذلك الحين وعلي بك لا يعمل عملًا إلا بمشورة ذلك الكاتب القبطي، ويسارع إلى قبول كل وساطة له في شأنهم.» فهزَّ السيد عبد الرحمن رأسه أسفًا وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! أبعد أن كان خلفاء المسلمين وولاتهم لا يعتمدون في مشوراتهم إلا على العلماء والفقهاء يأتي علي بك في آخر الزمان فيقلب الأوضاع ويتخذ النصارى أولياء ومستشارين من دون المؤمنين؟!» فقال السيد المحروقي: «وهناك شاب نصراني آخر من أهل البندقية. اسمه «روزتي» قرَّبه علي بك إليه وجعله من خاصة مستشاريه، ولاسيما بعد أن نجح روزتي هذا في عقد معاهدة بين أهل بلده وبين علي بك تقضي بأن يكونوا حلفاء وأنصارًا له يمدونه بالعساكر وغيرهم عند الحاجة.» قال: «سمعت أن معاهدة التحالف التي عقدها علي بك كانت مع المسكوف.» فقال: «هذه معاهدة أخرى، عُقدت بين علي بك وبين الكونت ألكسيس أورلوف أميرال الأسطول الروسي في البحر الأبيض المتوسط، وقد تمت بوساطة رجل أرمني من مستشاري علي بك اسمه يعقوب. وقد كان هذا وذاك مما أغرى علي بك بالمضي في خطة الخروج على الخلافة ومحاولة توسيع نطاق سلطانه والاستقلال بمصر. وها أنت ترى أنه بذلك قد خرَّب البلاد، وسلب أهلها أملاكهم وأرزاقهم.» فعاد السيد عبد الرحمن إلى تذكر مصائبه وأفدحها أخذ ولده الوحيد إلى حرب لا غاية لها إلا مناوأة دولة الخلافة وتمكين السلطة للمماليك الظلمة المفسدين، فتنهد وكفكف دمعة انحدرت على خده وقال: «ألا يرى السيد أن هناك أملًا في إطلاق سراح ولدي المظلوم. إنه وحيد أبويه كما تعلم، ولم يجاوز العشرين بعد، ولا معرفة له بالحرب والقتال، فهو قد أمضى طول عمره حتى الآن في الدرس والتحصيل ونسخ الكتب القيمة النادرة من المكتبات. وأعتقد أنه إن مضى إلى الحرب فهو هالك لا محالة. كما أني وأمه لن ننتفع بحياتنا بعده؛ إذ هو كل آمالنا في الحياة.» قال ذلك وعاد إلى البكاء. فأخذ السيد المحروقي يخفِّف عنه وقال له: «إن علي بك كما تعلم رجل غضوب، اشتهر بأنه أشد بطشًا من أسلافه جميعًا، وكنا نحسب في أول عهده أنه أقرب إلى العدل والرفق بالرعية، مما كان يصرح به حينذاك، لكنه ما لبث قليلًا حتى عاد إلى ما طُبع عليه هو وأسلافه من الجور والإرهاب وأكل أموال الناس بغير الحق، وقتلهم بالجملة دون أي ذنب اقترفوه. حتى صارت رؤيته وحدها كافية لإدخال الرعب والفزع إلى قلوبهم. ولعلك سمعت بالمساكين الذين ماتوا في مجلسه منذ حين، حين رأوه لأول مرة فأرعبتهم هيئته التي تظهره أقرب إلى الأسد منه إلى الإنسان!» قال: «نعم سمعت بذلك، غير أني أعلم كما يعلم غيري أنه يجل منزلتك ويحترم كلمتك. وأرجو أن تزول شدتي بفضل وساطتك في قضيتي عنده إن شاء الله.» فقال السيد المحروقي وهو يمشط لحيته بيده: «حقَّق الله رجاءك، وسأسارع إلى مقابلته الآن لأخاطبه في هذا الشأن، وعسى الله أن يرقِّق قلبه فيكرم شيبتي هذه ولا يردني خائبًا.» ••• صفَّق السيد المحروقي بيده، فجاء أحد خدم الدار ووقف متأدبًا، فقال له: «سأخرج بعد ساعة في مهمة إلى القلعة، فأبلِغ السائس ليسرج البغلة.» فحنى الخادم رأسه سمعًا وطاعة وانصرف لتنفيذ ذلك الأمر. وبينما السيد عبد الرحمن يهم بالنهوض مستأذنًا في الانصراف وهو يكرر الشكر للسيد المحروقي على كرم وفادته ومبادرته بإجابة ملتمسه، جاء إلى القاعة خادم آخر وقال: «إن سرَّاج علي بك (سائس جواده) بالباب.» فقال السيد: «دعه يدخل.» ثم التفت إلى السيد عبد الرحمن ونظر إليه كأنه يستبقيه حتى يعلم فيم أرسل علي بك يدعوه إليه. فبقي جالسًا حتى عاد الخادم ومعه السراج، ثم وقف هذا متأدبًا بباب القاعة وقال: «إن مولانا علي بك يدعو سيادتكم إلى منزله الليلة للمفاوضة في بعض الشئون.» فسأله السيد المحروقي: «وأين هو الآن؟» قال: «هو في القلعة لاستعراض الجنود المسافرين الليلة إلى الحجاز، وقد تركته جالسًا في قصر الباشا هناك بعد أن عزل هذا وتم الاستيلاء على القلعة وما فيها.» فقال السيد المحروقي: «أبلغ تحياتي إلى البك، وسأكون في شرف مقابلته بعد ساعة إن شاء الله.» فحنى السرَّاج رأسه إجلالًا، وتقهقر خطوات ثم خرج من الدار وركب جواده المنتظر بالباب ومضى عائدًا إلى القلعة. وعلى أثر ذلك نادى السيد المحروقي خادمه الأول، وأمره بإحضار ملابس الخروج الرسمية. فأحضرها له بعد قليل. وهي مؤلفة من فروة سمور تُلف حول العنق ويُرسل طرفاها على الكتفين. وعمامة كبيرة ملفوفة حول قاووق طويل تبدو قمته ظاهرة في أعلاها. وكان السائس قد أسرج البغلة ووقف بها عند الباب استعدادًا لخروج سيده عليها، فهمَّ السيد عبد الرحمن بيد السيد المحروقي وقبَّلها، وسار معه حتى ركب البغلة ومضت به في الطريق إلى القلعة. فعاد هو إلى منزله ليبشر مَن فيه بما أشرق في قلبه من الأمل في إنقاذ ولده الوحيد العزيز. وفي طريقه إلى المنزل، سمع المنادين يصيحون في الشوارع والحارات قائلين: «ليكن معلومًا لديكم يا أهل مصر أن الجنود سيخرجون اليوم من القلعة بأمر مولانا علي بك ذاهبين إلى الجهاد، فادعوا الله أن ينصرهم ويعيدهم إلى البلاد سالمين غانمين.» وكان الناس يسارعون إلى إغلاق دورهم ومتاجرهم، توقيًا لما تعودوه في مثل هذه الحال من قيام الجنود بالسلب والنهب والاعتداء على الآمنين والآمنات دون خوف ولا حياء. فلما وصل إلى المنزل، كانت زوجته قد سمعت نداء المنادين. فأمرت الخدم بإحكام إغلاق الباب مخافة اعتداء الجنود، ثم استأنفت العويل والنحيب جزعًا على ولدها الذاهب معهم إلى الحرب. وما كاد الخدم يسمعون طرقه الباب بشدة حتى أجفلوا، وساد الذعر كلَّ مَن في البيت حتى خفتت أصوات زوجته والجواري. فلم يجد بدًّا من رفع صوته مناديًا الخدم بأسمائهم ليعلموا أنه هو الطارق، فعرفوا صوته وسارعوا إلى فتح الباب وقد زايلهم الذعر والرعب، وبادرته زوجته سائلة عما تم في أمر مساعيه، فقص عليها ما كان من ركوب السيد المحروقي لمقابلة علي بك والتوسط لديه في شأن تسريح حسن من الجندية، وكتم عنها نبأ عزل الباشا. وما سمعه من السيد المحروقي عن شدة سطوة علي بك وغلظته حتى لا يقطع خيط أملها، وأخذ يهوِّن عليها، ويتظاهر بالاطمئنان إلى انفراج أزمتهما، حتى عاودها بعض الاطمئنان وسكتت عن الصراخ والعويل. لكن قلبها لم يطاوعها على الصبر، فقالت له: «إن قلبي غير مطمئن، فلم يبقَ على سفر الجنود إلا قليل، وأرى أن تمضي أنت لتلحق بالسيد المحروقي، وتبقى معه حتى يخاطب علي بك في أمر ولدنا، وإذا اقتضى الإفراج عنه التضحية بكل ممتلكاتنا وأموالنا فيجب أن نضحي بها دون أي تفكير.» وهمَّ بأن يصارحها بخشيته اعتداء الجند عليه في الطريق؛ لأن علي بك موجود في القلعة بعد أن عزل الباشا وحل محله فيها. لكنه آثر أن يكتم عنها ذلك، ونهض متحاملًا على نفسه، وغادر الدار مسرعًا، بعد أن أوصى الخدم بأن يعودوا إلى إحكام إغلاق الباب، والتيقظ لكل طارئ حماية لهم ولمن فيه من أي عدوان.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/4/
في مجلس علي بك الكبير
كان أهل القاهرة قد التجئوا جميعًا إلى منازلهم وأحكموا إغلاق أبوابها، بعد أن أغلقوا متاجرهم وتركوا أعمالهم، ريثما يتم سفر الجنود. ولم يعجب السيد عبد الرحمن لخلو الطريق من المارة حتى الحوذية والمكاريين، لعلمه بخشية الناس اعتداء الجنود، وما تعودوه هؤلاء من اغتصاب كل دابة يصادفونها في طريقهم بدعوى حاجتهم إليها في الجهاد. فمضى في طريقه إلى القلعة وقلبه يخفق بشدة مخافة أن يلقاه بعض الجنود ويسلبونه ثيابه وما معه من المال. وما زال سائرًا وهذا حاله حتى بلغ القلعة، وهمَّ بدخولها من «باب العزب» فإذا به يلمح شيخًا يدخل منه راكبًا جوادًا، وتأمله جيدًا فإذا هو السيد المحروقي نفسه، فعجب لتأخره عن الوصول إلى القلعة حتى تلك الساعة، ولم يدرك سر ركوبه جوادًا بدلًا من البغلة التي رآه ممتطيًا إياها، ولاسيما أن المماليك لم يكونوا يسمحون لغيرهم بركوب الجياد. فأسرع في مشيته حتى اقترب منه وناداه فالتفت إليه وعرفه، فأوقف جواده حتى لحق به وسأله عما أتى به، فقص عليه ما حدث منذ فارقه. وأخذ ينظر إلى الجواد كأنه يستفهم عما دعا السيد إلى ركوبه بدلًا من بغلته، فأدرك هذا غرضه وقال له: «إن بعض الجنود الأجانب — قبحهم الله — اعترضوا طريقي، وأبوا إلا أخذ البغلة بما عليها، ولم أنجُ منهم إلا بمعجزة، وبعد أن أبلغ الخادم الأمر إلى واحد من المماليك اتفق مروره في ذلك الوقت … وأخبره بذهابي إلى القلعة لمقابلة علي بك بدعوة منه، فجاء المملوك وانتهر مَن وجدهم من الجنود وهددهم بالقتل ففروا هاربين، وكان زملاؤهم قد فروا قبلهم بالبغلة وما عليها، فجاءني المملوك بهذا الجواد وهو من جياد علي بك فركبته وواصلت المضي في طريقي حتى جئت كما ترى.» فهنأه السيد عبد الرحمن بالسلامة، واعتذر إليه مما لحق به من الإهانة بسبب خروجه في مثل ذلك اليوم لإنجاز المهمة الخاصة به، فقال السيد المحروقي: «هكذا قدر الله. ولا رادَّ لما قدره، ولا ذنب لك في الأمر. فقد كان عليَّ أن أحضر إلى هنا تلبية لدعوة علي بك. وعلى كل حال نحمد الله على اللطف فيما جرت به المقادير. ولعل الخير في هذا التأخير.» ثم أشار إليه أن يتبعه عسى أن يستطيع الدخول معه إلى مجلس علي بك، ويعرض عليه بنفسه مظلمته، وحينئذٍ يتدخل هو في الأمر، ويلتمس إنصافه. فوافق على ذلك شاكرًا. ولما وصلا إلى الساحة الداخلية في القلعة، وجداها قد امتلأت بجماعات من الجند، من مختلف الأجناس والأزياء، وقد علت ضوضاؤهم وهم يتأهبون للخروج. فأخذ السيد عبد الرحمن يتفقدهم لعله يرى ولده بينهم. ولكنه لم يستطع الاهتداء إليه بين جموعهم المختلطة بين مماليك وأتراك ومغاربة ومصريين وأروام وشوام وغيرهم، ولكل جماعة منهم عَلَم خاص، وقائد من جنسهم، وأبرزهم المغاربة بطراطيرهم المصنوعة من جلد السمور، وعباءاتهم المزركشة بالذهب، والإنكشارية بطراطيرهم المدلاة أطرافها على ظهورهم. وفي مقدمتها فوق الجبهة ريشة تنتهي عند أعلاها بشعبتين، وقد تمنطق كل منهم فوق قبائه (قفطانه) بحزام عريض. والمماليك في زيهم المعروف، المؤلَّف من القباء المزركش، والمنطقة العريضة يتدلى السيف من جانبها الأيمن، ويبدو الخنجر تحتها من أمام، والعمامة الأنيقة ملفوفة على قاووق طويل. ••• ما كاد حراس القصر الجدد يلمحون السيد المحروقي قادمًا على جواده حتى خفوا إلى استقباله بتحيات الإجلال والتعظيم، لعلمهم بمكانته الممتازة عند مولاهم علي بك، فضلًا عما عرفوا من علمه وفضله وتقواه. وبعد أن عاونه بعضهم على الترجل، ساروا بين يديه حتى اجتاز الباب وخلفه السيد عبد الرحمن وقد حسبوه تابعًا للسيد المحروقي فتركوه يدخل معه. ولما وصلا إلى باب القاعة الكبرى حيث مجلس علي بك، أدرك السيد عبد الرحمن أنها القاعة التي قابل فيها الباشا في الصباح، فقال في نفسه: «سبحان محول الأحوال.» ثم رأى الستر المسدل على الباب قد رفعه أحد الحاجبين الواقفين هناك، فدخل السيد المحروقي لا يلوي على شيء وعاد الحاجب فسدل الستر كما كان. فهاب الدخول خيفة أن يمنعه الحاجب، وخشي في الوقت نفسه أن يطيل الوقوف بالباب فيدعو هذا إلى الريبة في أمره وربما أُوذي بسبب ذلك، فكرَّ راجعًا حتى بلغ الباب الأول، ووقف مع خادم السيد المحروقي المنتظر بالجواد هناك. وتشاغل بالحديث معه. وعلم الخادم من حديثه أنه راغب في حضور مجلس علي بك، وأن السيد المحروقي نفسه هو الذي أشار عليه بذلك، فقال له: «إن هذا أمر ما أسهله يا سيدي، وما عليك إلا أن ترضي الحاجبين ببضعة أرباع من النقود، فتجد الستر مرفوعًا وتدخل بكل اطمئنان.» وسرعان ما وافق السيد عبد الرحمن على هذه الفكرة فعاد إلى باب القاعة. حيث حيا الحاجبين ووضع في يد كل منهما بعض المال، فردَّا تحيته بأحسن منها، ورفع أحدهما الستر فدخل القاعة بسلام، ثم تمهل في سيره وهو يجيل عينيه في المجلس. فإذا به يرى علي بك جالسًا على متكأ مرتفع في صدر القاعة، مرتديًا الجبة والعمامة ذات القاووق. وقد تمنطق بحزام عريض برز منه على الصدر خنجر مقبضه من الذهب المحلَّى بالجواهر. فهاب منظره لطول شاربيه ولحيته، واتساع صدره وجبهته، ولما يبدو في نظراته من دلائل الجرأة والذكاء وغلظة القلب. وكاد يهم بالرجوع لولا أن رآه مشغولًا بالحديث مع الجالس عن يمينه وفي إحدى يديه سبحة طويلة يقلب حباتها بأصابعه. وفي يده الأخرى مذبة من شعر الخيل. وأدرك السيد عبد الرحمن أن هذا الجالس عن يمين علي بك هو صهره محمد بك أبو الذهب قائد الحملة الذاهبة إلى الحجاز، وكان في مثل ملابسه. ثم تأمل بقية من في المجلس، فعرف أكثرهم، وبينهم المعلم رزق كاتب علي بك ومدير حسابات حكومته، وكثير من أمراء المماليك، والسادة الأشراف يتوسطهم السيد المحروقي. لكنه لم يعرف شابًّا رآه جالسًا إلى يسار علي بك مرتديًا ملابس فخمة غريبة تشبه ملابس الإفرنج، ثم تذكر ما سمعه من السيد المحروقي عن المستشار الذي اتخذه علي بك لنفسه من أهل البندقية واسمه روزيتي، فقال في نفسه: «لا بد أن يكون هو هذا الشاب.» وما تقدم السيد عبد الرحمن خطوات وهو يختلس النظر إلى علي بك حتى رفع هذا رأسه فخُيل إليه أنه ينظر إليه ولا يلبث أن يرتاب في أمره فيأمر بقتله أو سجنه، فارتجفت ركبتاه خوفًا، وحدثته نفسه مرة أخرى بالرجوع، ثم تذكَّر ولده الوحيد والخطر الذي هو فيه، فهانت عليه الحياة، وسرعان ما خلع نعليه، ثم نزع عمامته وأمسكها بيده وتقدم مسرعًا حتى جثا بين يدي علي بك وصاح قائلًا: «أمان أفندم أمان. مظلوم وحياة رأس مولانا العادل علي بك.» فبُهت مَن في المجلس، والتفت إليه علي بك متفرسًا في هيئته وسأله: «ماذا جاء بك إلى هنا؟ ومم تتظلم؟» قال: «إني يا مولاي تاجر في وكالة الليمون، وليس لي غير ولد واحد تعبت في تربيته حتى أتم تعليمه في الأزهر، والتحق بالبيمارستان المنصوري لدراسة الطب. لكنهم أخذوه وتركوني وأمه في حياة خير منها الممات!» فقال له علي بك: «مَن هم الذين أخذوه؟ ولماذا؟» فرفع السيد عبد الرحمن رأسه وقال بصوت مختنق والدموع تنهمل من عينيه: «لا أدري يا مولاي مَن أخذوه، ولكني علمت أنهم ساقوه إلى القلعة ليسير مع الجند الخارجين للحرب. وهو لا يقوى على القتال والأسفار.» فالتفت علي بك إلى مَن في المجلس كأنه يستطلع رأيهم، فسارع السيد المحروقي إلى الكلام وقال: «إني أعرف هذا التاجر، وهو رجل طيب مخلص للحكومة، وابنه من طلبة العلم النجباء.» فقال علي بك: «كيف أخذوه وقد أمرت بألا يُجند أحد من طلبة العلم؟» فقال السيد المحروقي: «لعل أمره التبس عليهم؛ لأنه بعد أن درس علوم الدين واللغة في الأزهر التحق بالبيمارستان المنصوري لدراسة الطب كما ذكر أبوه الآن.» ففكر علي بك هنيهة ثم قال: «على أي حال لا وجه للتظلم من تجنيده، فالجهاد في سبيل الحرمين الشريفين واجب على جميع المسلمين. وهم أولى بهذا الأمر من الجنود الغرباء الذين تطوعوا للذهاب في حملة الحجاز.» فقال السيد المحروقي: «لقد نطق مولانا بالصواب، ولكني أرجو أن تسع رحمته هذا التاجر المسكين؛ إذ ليس له ولد آخر.» فبدأ الغضب في وجه علي بك وقال محتدًّا: «ما هذا؟! هل كل أهل هذه البلاد مساكين ضعفاء لا يقوون على الجهاد؟ لا. لا. لقد رفضت عشرات من أمثال هذه الدعوى، ولا يمكن أن أستثني أحدًا من القيام بواجب الجهاد للدفاع عن شريف مكة.» فعاد السيد عبد الرحمن إلى البكاء والتوسل، والتفت السيد المحروقي إلى علي بك وقال: «لا أشك في صواب رأي مولانا، ولكني ألتمس من فضله وحلمه إكرام شيبتي هذه بإطلاق سراح ذلك الغلام، وأنا كفيل بأنه يقوم لمولانا بخدمات نافعة أخرى إن شاء الله.» فقال علي بك: «قلت لك إنني قررت ألا أستثني أحدًا من أهل هذه البلاد؛ لعلمي بأنهم يتهربون من الجهاد. لكني إكرامًا لك سأطلق سراح ذلك الولد على أن يحل أبوه محله في الحملة ويدفع عشرين كيسًا.» فخشي السيد المحروقي أن يراجعه في ذلك فيثور غضبه من جديد ويعدل عن هذا الاستبدال، وقد يأمر بأخذ الولد وأبيه معًا إلى الحرب. فالتفتَ إلى السيد عبد الرحمن وهو لا يزال جاثيًا بين يدي علي بك وقال له: «انهض وقبِّل يد الأمير جزاه الله خيرًا، ثم سارعْ إلى إعداد عُدتك للسفر مع الحملة الليلة، وهات معك العشرين كيسًا المطلوبة. لإطلاق سراح ولدك.» فلم يسعه إلا الطاعة، ونهض فقبَّل يد علي بك، ثم انصرف عائدًا إلى منزله، حيث أخبر زوجته بما كان، ففرحت بنجاة ولدهما، وجزعت لحلول أبيه محله في الحملة، لكن السيد عبد الرحمن هوَّن عليها الأمر، وأسرَّ إليها أنه سيعمل على التخلف عن الحملة حالما تصل إلى الشام، وهناك يقيم بعكا في انتظارها ومعها ولدهما حسن بعد أن يبيعا ما بقي من ممتلكاتهما في مصر، دون أن يُشعِرا بذلك أي إنسان غير خادمه الخاص. فخفَّ جزعها ووافقته على هذا الرأي، ثم نادى خادمه الخاص وأسرَّ إليه ما تم الاتفاق عليه، موصيًا إياه بأن يبذل جهده في إتمام ذلك ثم يصحب زوجته وولده إلى عكا، فقبَّل الخادم يده باكيًا واعدًا بتنفيذ الوصية. ثم حمل الأكياس المطلوبة وسار خلفه بعد أن ودَّع مَن في المنزل إلى القلعة حيث سلَّم الأكياس، وتسلَّم ولده، ثم ودَّعه وحل محله في الحملة، وعاد حسن مع الخادم إلى المنزل، لتنفيذ وصية أبيه في الخفاء. ••• لبث حسن مقيمًا مع أمه بالمنزل يومين بعد سفر الحملة وفيها أبوه. ثم أخذ بعد ذلك يتردد إلى متجر أبيه في وكاله الليمون، متظاهرًا بحلوله محله في البيع والشراء، لكنه في الحقيقة كان يبيع كل ما استطاع بيعه، دون أن يشتري شيئًا، حتى كاد أن ينتهي من بيع كل ما في المتجر. وفي الوقت نفسه أخذت أمه في بيع أمتعة المنزل إلا ما خفَّ حمله وغلا ثمنه من الحلي والملابس وغيرها. كما باعت المنزل نفسه لأحد الجيران. وسافر الخادم إلى الريف ومعه توكيل من السيد عبد الرحمن ببيع كل ممتلكاته هناك، فأخذ في بيعها معتزمًا التعجيل بذلك ليعود بثمنها إلى القاهرة ويصحب حسنًا وسالمة أمه في الفرار إلى عكا للحاق بسيده هناك. وفيما كان حسن جالسًا في غرفته بالمنزل بعد أيام وهو يطالع بعض الكتب المخطوطة في الطب، وأمه مشغولة بإعداد حليها وبعض الأمتعة الثمينة الخفيفة في صندوق صغير استعدادًا لمغادرة مصر، سُمع طرقٌ عنيفٌ على باب المنزل، ثم توالى الطرق وتعالت الضوضاء في الخارج، وجاء بعض الخدم يهرعون إلى حسن في غرفته وقالوا: «إن الطارقين جماعة من العساكر المماليك وهم يسُبُّون ويلعنون ويهددون بحرق المنزل بمن فيه.» فبُغت حسن وامتلأ قلبه رعبًا وفزعًا، وكذلك كان شأن أمه، وكل مَن في المنزل من الخدم والجواري. ثم ازداد فزعهم؛ إذ سمعوا صوت مقذوف ناري أطلقه أحد المماليك الهاجمين على المنزل، وأعقبه صوت مطارق تهوي على الباب لتحطيمه واقتحام المنزل بالقوة، فلم يجد حسن بدًّا من فتح الباب واستقبال القادمين لعل في ذلك ما يخفف من حدتهم وشرهم. فما كاد الخدم يفتحون الباب حتى تدفقت منه جموع العساكر شاهرين السيوف والخناجر والعصي والمسدسات، وأخذوا في نهب كل ما فيه، وشد وثاق مَن يصادفهم من الرجال والنساء مع الضرب والإهانة. ولم تمضِ ساعة حتى كان المنزل قد أقفر وساده الخراب، وساق المماليك حسنًا وأمه ومَن معهما من الخدم والجواري إلى القلعة موثَّقين مهانين، كما حملوا كل ما كان فيه من الأمتعة والآنية وغيرها إلى هناك بعد أن استبقوا لأنفسهم ما وجدوه من المال والحلي وما إليهما من الأشياء الثمينة النادرة. وهناك في القلعة سيق الجميع إلى مجلس علي بك في القصر الذي اتخذه مقرًّا لمجلسه منذ عزل الباشا، فلما وقعت عينه عليهم وهم يبكون ويستجيرون به مما لحقهم من العدوان، صرخ فيهم غاضبًا وقال: «هكذا يجب أن يكون جزاء الخونة والأنذال، وإذا كان كبيرهم قد فرَّ هاربًا من المعسكر بعد أن رأفنا به وقبلناه في الحملة بدلًا من ولده، فعما قريب يُقبض عليه وينال ما يستحقه من القتل بعد أن نُنزِل به أشد العذاب!» ثم أمر ببيع الجواري والأمتعة والآنية بالمزاد، وبأخذ الخدم إلى السجن ريثما يَبُت في أمرهم، وأشار إلى حسن وسالمة وقال لأعوانه المحيطين به: «أما هذان فجزاؤهما بعد الضرب والإهانة وبيع ممتلكاتهما على مشهد منهما، أن يُؤخذ هذا الولد الخائن فيوضع في كيس ومعه حجر ثقيل فيه ثم يُلقى في النيل ليهلك غرقًا. وأما أمه هذه فتُؤخذ لتُسند إليها أحقر أنواع الخدمة وأقساها، كي تقضي بقية حياتها في تعب وشقاء!» وهنا ضجت سالمة والجواري بالندب والعويل، وجثا حسن وأمه بين يدي علي بك، وهمَّا بتقبيل قدميه، وهما يستغيثان به ويتضرعان إليه أن يرثي لحالهما ويشفق عليهما من ذلك المصير الرهيب؛ لأنهما لا ذنب لهما في فرار السيد عبد الرحمن من المعسكر. فلم يكن من علي بك إلا أن نظر إليهما وعلى فمه ابتسامة التشفي والغبطة بالانتقام، ثم أعرض بوجهه المخيف عنهما، وأمر أعوانه بأن ينفِّذوا ما أمر به. فبادروا إلى تنفيذه في الحال.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/5/
الحرب بين روسيا وتركيا
خرجت الحملة التي أعدها علي بك الكبير من القلعة، يتقدمها البكوات أمراء المماليك على جيادهم المطهمة وهم في أزيائهم الفخمة، وعلى رأسهم محمد بك أبو الذهب قائد الحملة وصهر علي بك. وخلف هؤلاء الفرسان المماليك الجنود بأسلحتهم الكاملة. وعددهم حوالي خمسة آلاف، وفي ركاب كل منهم تابعان يرتديان السراويل القصيرة، وفي يد كل منهما عصا. ووراءه جموع غفيرة من الجنود غير النظاميين بين مصريين وأتراك وهنود وشوام وسودانيين وأحباش ويمنيين وغيرهم من مختلف الأجناس والألوان، تتبعهم أرتال من الجمال والبغال والحمير تحمل المؤن والذخائر والمدافع والخيام. وضمت الحملة غير هؤلاء جميعًا حوالي ألفين من السرَّاجين الذين يقومون بتدبير شئون خيل البكوات المماليك، كما ضمت مئات من باعة الأطعمة والطبالين والزمارين، والمرتزقة. وودعها علي بك باحتفال ليلي كبير، دعا إليه كبراء البلاد وعلماؤها، وعرضها فيه أمامهم بين دق الطبول والنفخ في الأبواق، وإضاءة المشاعل، وما إلى ذلك من ضروب الزينة والتكريم. وأمضت الحملة بقية ليلتها في منطقة المطرية بالقرب من مسلتها الأثرية المشهورة. ثم استأنفت سيرها بعد الفجر بقليل، وما زالت سائرة بمعداتها وأحمالها بين حِل وترحال، حتى بلغت مدينة الصالحية، فأمر محمد أبو الذهب بك بالاستراحة هناك يومين. وكان السيد عبد الرحمن منذ خروج الحملة من حدود القاهرة لا يفتأ يفكِّر في الوسيلة التي تكفل خلاصه منها، وقد رأى في عدم انتظام الجند الذين يسير معهم فيها ما قوَّى أمله في ذلك الخلاص. فلما حطت الحملة رحالها في الصالحية وجد الفرصة سانحة لتنفيذ ما اعتزمه، انتظر حتى انتصفت الليلة الثانية للحملة هناك وأوى زملاؤه في الخيمة إلى فراشهم بعد أن أمضوا السهرة في ضجة وصخب، ثم تسلل خارجًا من المعسكر وظلام الليل يستره. فلما جاوزه دون أن يشعر أحد به، تنفس الصعداء وشعر بأن حملًا ثقيلًا قد أُزيح عن كاهله. ثم انطلق في الطريق الذي جاء منه مع الحملة حتى بلغ حظيرة مهجورة كان أصحابها قد أخلوها خوفًا من أن ينهب الجند دوابهم وماشيتهم، فلجأ إليها بما يحمل من متاع وزاد، وبقي فيها خائفًا يترقب حتى سمع أذان الفجر، ثم تلاه صخب الجند وضجتهم استعدادًا للرحيل، فاشتد خفقان قلبه مخافة أن ينكشف أمر فراره، ولم يعاوده الاطمئنان إلا بعد أن أخذت ضجة الحملة تخفت وتتضاءل حتى لم يعد يصل إلى سمعه المرهف شيء منها. فغادر مخبأه ومشى على حذر في عكس الاتجاه الذي سارت فيه، حتى وصل إلى أحد مضارب الأعراب في تلك المنطقة، فاشترى منهم هجينًا ركبها وجعل في رحله عليها ما يكفيه أيامًا من الزاد والماء، ثم انطلق بها قاصدًا بلدة العريش؛ حيث أقام بها بضعة أيام حتى علم بأن قافلة ستخرج من هناك قاصدة عكا في اليوم التالي، فاندمج فيها راكبًا هجينه. ••• وصلت القافلة وفيها السيد عبد الرحمن إلى عكا، فأخذ يبحث عن منزل يقيم به في انتظار وصول أسرته، وفيما هو في ذلك علم أن حاكم المدينة واسمه الشيخ ضاهر العمري متحالف مع علي بك، وقد تعاهدا على الخروج من طاعة الدولة العلية. فخشي إن هو بقي في عكا أن يقبض عليه الشيخ ضاهر ويعيده إلى حليفه علي بك في مصر. ولم تكن عكا إذ ذاك سوى قلعة كبيرة محكمة التحصين، وسكانها قليلون أكثرهم من حاميتها. ولم يكن لديه علم بأن أمر فراره قد انكشف وبلغ إلى علي بك في مصر، فكان من أمره مع ولده وزوجته وسائر أهل منزله ما كان. واستقر رأيه أخيرًا على أن يبقى في عكا متنكرًا في زي المغاربة الذين يمارسون الطب الروحاني والتنجيم وكتابة الأحجبة والتعاويذ. وبقي على تلك الحال أشهرًا، وهو يتفقد القادمين إلى المدينة برًّا وبحرًا عسى أن تكون أسرته بينهم. ولكنها لم تأتِ، ولم يقف على أي نبأ عنها. وفي ذات يوم، خرج إلى الميناء كعادته يترقب القادمين إليه. فإذا بسفن شراعية كبيرة يبدو من هيئتها أنها سفن حربية قد ملأت الميناء، وعلم ممن لقيهم من أهل المدينة هناك أن الملكة كاترينة قيصرة الروس هي التي أرسلت هذه السفن للتجول في البحر الأبيض المتوسط وتقديم المساعدة لعلي بك في مصر والشيخ ضاهر في عكا؛ تشجيعًا لهم على نبذ طاعة الدولة العلية والخروج عليها؛ نظرًا إلى أنها في حرب مع روسيا. فعاد إلى الخان الذي يقيم به وهو يفكر في وسيلة مأمونة تمكنه من الرجوع إلى مصر والوقوف على ما أخر قدوم أسرته إليه حسب الاتفاق. وفي صباح اليوم التالي توجَّه إلى سوق المدينة لشراء ما يحتاج إليه في رحلته إلى مصر، فإذا بجماعة من الجنود الروس الذين رآهم بالأمس في السفن القادمة إلى الميناء قد ملئوا السوق، وهم جميعًا يرتدون السراويل الإفرنجية والواسعة، وعلى رءوسهم قبعات عالية من الفرو وما يشبهه، ومعهم أسلحتهم من البنادق والمسدسات والخناجر، فهاب منظرهم لضخامة أجسامهم وارتفاع هاماتهم واكتناز وجوههم، وأراد التحول من طريقهم، لكنهم سرعان ما التفوا حوله مبدين دهشتهم من زيه المغربي المخالف لأزياء أهل المدينة، وكلَّمه بعضهم بلغته الروسية فلم يفهم كلامه، ثم جاءه رجل كان بينهم يرتدي ملابس الإفرنج المدنية فكلَّمه بالعربية قائلًا: «لا بأس عليك منهم، فهُم قد أعجبهم زيك ويريدون معرفة ما تبيعه مما تحمله في جرابك.» فقال له: «ليس في الجراب ما يُباع، ولكنَّ فيه كتبًا سحرية أستعين بها على قراءة الطوالع ومعرفة ما يخبئه المستقبل، وهذه صناعتي التي ورثتها عن آبائي وأجدادي.» وكان الترجمان من أهل قبرص، وسمع بالمغاربة الذين يزاولون التنجيم والطب الروحاني وضرب الرمل وما إلى ذلك، فأخبر الجنود الروسيين بذلك، وشد ما كانت دهشتهم، ثم أعربوا للترجمان عن رغبتهم في مشاهدة شيء من السحر الذي يقوم به هذا المغربي، فنقل إليه رغبتهم. وسرعان ما جلس السيد عبد الرحمن وأخرج من جرابه أوراقًا وجلودًا مختلفة الألوان والأحجام نشرها أمامه، وفي بعضها رسوم غريبة، كما أخرج صرة بها بعض الرمل وفتحها، ثم أخذ بأنامله رسومًا وأشكالًا مختلفة على الرمل، وأعقب ذلك بأن أخرج من مَنطِقته دواة نحاسية مستطيلة، تناول قلمًا من خزانة متصلة بها، وغمس طرفه في الدواة ثم كتب به كلمات بلغة غير معروفة على ورقة بيضاء في حجم الكف، متظاهرًا بأنه يكتب ما علمه من أوراقه ورمله. وأخيرًا رفع وجهه والتفت إلى الترجمان وقال: «إذا صح ما علمته بوساطة العلوم التي حذقتُ أسرارها بالوراثة والرياضة الروحية، فهؤلاء أتباع ملكة عظيمة تحكم بلادًا بعيدة واسعة، وسيُكتب لها النصر بوساطتهم على عدو خطير لها.» فأُعجب الترجمان القبرصي بهذا الجواب وعدَّه دليلًا على حذق المنجم وبراعته، وما كاد ينقله إلى البحارة الروسيين حتى كانوا أشد إعجابًا به، ثم أجزلوا مكافأة السيد عبد الرحمن ورغبوا إليه بوساطة الترجمان أن يصحبهم إلى سفنهم الراسية في الميناء لِيطَّلع زملاؤهم من الضباط والجنود على غرائب علمه وفنه. فوعد بأن يوافيهم إلى الميناء في اليوم التالي ومعه بقية الأدوات اللازمة له. ثم غادر السوق عائدًا إلى الخان وفي عزمه أن يحتال للبقاء في تلك السفن حتى تقلع وتصل إلى أحد السواحل المصرية التي تعتزم السير إليها، فينزل هناك، ويسهل عليه الذهاب إلى القاهرة لمعرفة ما تم في أمر أسرته. وفي صباح اليوم التالي غادر الخان ولم يترك فيه من أمتعته إلا ما ليس في حاجة إليه، ثم أخذ طريقه إلى الميناء، فما كاد يبلغه حتى بصر به بعض الجنود الذين لقيهم في السوق فعرفوه بزيه المغربي والجراب الذي يحمله على كتفه، فنادوه وصعدوا به إلى سفينة الأميرال أورلوف قائد أسطولهم، وقدموه له ولمن معه من الضباط، فكان سرورهم عظيمًا بما تنبأ به لهم من الأمور العامة والخاصة، وما زال هناك موضع إكرام الضباط والجنود حتى اعتزم الأسطول الرحيل، فرغبوا إليه في البقاء معهم لينفعهم بعلمه وفنه، فقبِل على أن يتركوه ينزل بأي مدينة يمرون عليها. ••• أقلعت الحملة الروسية من ميناء عكا في جوٍّ هادئ جميل، فمضت سفنها تشق عباب البحر باسطة أشرعتها، ووقف السيد عبد الرحمن في زيه المغربي على ظهر السفينة التي ركب فيها يتأمل الساحل السوري حينًا، والأفق الممتد على مدى النظر من الجهة الأخرى حينًا، ثم يطلق لفكره العنان فيتخيل أنه وصل إلى داره في القاهرة ولقي ولده وزوجته فلم يعرفاه أول الأمر؛ لتنكره في ذلك الزي الغريب، ثم ما كادا يعرفانه حتى غمرهما السرور مثله، وراحوا جميعًا يبكون من فرط فرحتهم باللقاء بعد طول الغياب. على أنه كان لا يلبث أن يتذكر تأخرهما عن موافاته في عكا، فتتقاذفه الهواجس، ويكاد قلبه يثب من صدره خشية أن يكونا قد أُصيبا بسوء، ثم تنهَلُّ الدموع من عينيه على غير إرادته فيسارع إلى مسحها بمنديله، مستعينًا على بلوغ غايته بالتزام الكتمان. وبعد خمسة أيام، كانت سفن الأسطول تسير خلالها مجتمعة حينًا ومتفرقة حينًا آخر، لاحت سواحل مصر من بعيد. فوقف السيد عبد الرحمن على حافة السفينة التي هو فيها يتشوق إليها وقلبه شديد الخفقان، وودَّ لو أن جناحين يطير بهما إلى القاهرة لرؤية ولده وزوجته. وخطر بباله أنهما قد يكونان في هذا الوقت في طريقهما إلى عكا حيث تواعدوا على اللقاء، فندم على تعجله الرجوع إلى مصر، لكنه تجلَّد وصبر حتى يصل ويقف على الحقيقة. وحانت منه التفاتة إلى السفينة القريبة من السفينة التي يركب فيها، فوجد على ظهرها جنودًا من الأرناءوط — الألبانيين — وقد عرفهم بأزيائهم التي يرتدي مثلها مواطنوهم في مصر، وهي مؤلفة من القباء (القفطان) الأبيض القصير، ويسمونه «التنورة»، وسيقانهم مكسوة بالجلد، وعلى أكتافهم عباءات قصيرة، وفوق رءوسهم طرابيش طويلة مثنية إلى الخلف وتتدلى منها «أزرار» طويلة. فعجب من وجود هؤلاء بين الأسطول الروسي، ثم علم من الترجمان القبرصي أن الأسطول يضم حوالي أربعة آلاف منهم، جيء بهم لاستخدامهم في الحرب البرية إذا اقتضى الأمر ذلك. وبعد قليل وصلت السفن إلى ميناء دمياط وقد طوى البحارة أشرعتها استعدادًا لرسوها هناك. وشاهد السيد عبد الرحمن أفواجًا من الدمياطيين على الساحل يتطلعون إلى السفن الغريبة القادمة في دهشة واضطراب. ثم ما كادت السفن تلقي مراسيها، حتى جاء كتخدا سردار المدينة (وكيل المحافظ) لتحية أميرال الأسطول، بالنيابة عن علي بك، وإبداء الاستعداد لمده بما يحتاج إليه من المؤن والماء وغيرهما من المعدات. وعقب انصراف الكتخدا، ذهب السيد عبد الرحمن إلى الأميرال فقبَّل يديه مودعًا مستأذنًا في النزول إلى البر، فأذن له ومنحه مكافأة أخرى، كما منحه مثلها كثيرون من ضباط الأسطول وجنوده.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/6/
الست نفيسة المملوكية
أخذ أعوان علي بك حسنًا من القلعة على مشهد من أمه وهم يضربونه ويسُبونه، وساروا به إلى مصر العتيقة لإغراقه في النيل هناك؛ تنفيذًا لأمر مولاهم، فلم تطق المسكينة صبرًا على رؤية وحيدها يُساق إلى ذلك المصير الرهيب، وأُغمي عليها بعد أن قطعت شعرها وشقَّت ثوبها وجرحت خديها وعينيها من شدة اللطم والعويل، فحملها بعض الجنود ومضوا بها إلى قصر علي بك عند بركة الأزبكية، حيث سلموها لقيِّمة القصر، وأبلغوها أمر علي بك بأن تُلحَق بالجواري الخادمات. وكانت تلك البركة حينذاك تشغل مكان حديقة الأزبكية وما يحف بها من الأبنية الآن، فكان يحدها من الشرق حارة النصارى، ومن الغرب بساتين وغياض — هي التي صارت حي الإسماعيلية فيما بعد — ومن الجنوب منطقة المقس؛ حيث يقع الآن حي التوفيقية وما بعده، ومن الشمال منطقة العشماوي؛ حيث محافظة القاهرة، وهناك كان يقوم قصر علي بك الكبير. وكانت المياه تأتي البركة من النيل عبر منطقة المقس السالفة الذكر، وتزداد في أيام الفيضان، مارة بقنطرة يُقال لها قنطرة الدكة ما زال مكانها معروفًا حتى الآن، فتنعكس على تلك المياه أضواء القصور المشيدة حول البركة لسكنى الأمراء والأعيان، وتكسبها جمال رونق وحسن منظر وبهاء، ولاسيما في ليالي الصيف والخريف؛ إذ يطيب السهر والسمر في تلك القصور وتزداد أنوارها، فتنعكس في الإبداع. ولما أفاقت سالمة من إغمائها، ووجدت نفسها بين عشرات من جواري الخدمة بالقصر، تذكرت ما نزل بها من الفواجع والنكبات فعادت إلى البكاء، متضرعة إلى الله أن يعجِّل بموتها كي تلحق بوحيدها الذي أخذوه ليغرقوه في النيل. وعبثًا حاول الجواري تعزيتها وتوصيتها بالصبر في محنتها، فأمضت النهار دون أن تذوق شيئًا من الطعام والشراب ولم تنقطع عن الندب والعويل، غير مبالية ما يتهددها بسبب ذلك من التعذيب والإمعان في التشفي والانتقام. وكان لعلي بك في ذلك القصر زوجة رائعة الجمال اسمها نفيسة، وقد اشتهرت بكمال العقل وحسن الرأي، والبر والرحمة بالفقراء والضعفاء (وهي التي تزوجها مراد بك فيما بعد وبقيت حية إلى ما بعد الحملة الفرنسية، وأشارت الصحف الإفرنجية بمكانتها ومبراتها، ولاسيما حمايتها لكثير من الإفرنج وإيواؤهم في دارها خلال الاضطرابات). فلما سمعت بقصة سالمة، أرسلت تدعوها إلى مقابلتها في إحدى حجراتها الخاصة بالقصر، وأحسنت استقبالها، ثم أشارت إليها بالجلوس على وسادة بجانبها، وقالت لها: «علمت أنك ممتنعة عن الأكل مستغرقة في الحزن، وأنت فيما أرى سيدة عاقلة مؤمنة، فكيف تلقي بنفسك إلى الهلاك بالاستسلام للحزن واليأس؟» فبقيت سالمة ساكتة مطرقة والدموع تنحدر من عينيها، وأدركت نفيسة أن المسكينة لا تقوى على التجلُّد. فازدادت حنوًّا عليها ودنت منها ومرت بيدها على رأسها مترفقة، وقالت لها: «اصبري يا أختاه، فالصبر مفتاح الفرج، والله لا يضيع أجر الصابرين.» فتنهدت سالمة تنهدًا عميقًا، ومسحت دموعها، وقالت: «مَن لي بالصبر يا سيدتي وقد أخذوا ولدي الوحيد من بين يدي ليلقوا به في النيل، ومن قبل ذلك أخذوا أباه إلى الحرب، فهرب وهام على وجهه في الطرقات، ولا أدري أحي هو أم ميت؟ ولو أنه بقي على قيد الحياة فلن يتورعوا عن إلحاقه بولدنا دون رحمة ولا إشفاق!» قالت ذلك وعادت للبكاء. فتأثرت الست نفيسة ولم تتمالك نفسها عن البكاء معها، ثم أخذت تعزيها وتحاول تخفيف مصائبها والترفيه عنها بما جُبلت عليه من رقة العاطفة وطيبة القلب وحب الخير. ولم يسع سالمة رغم فداحة خطبها إلا أن تستأنس بلطف هذه السيدة ونبلها وسمو خلقها، وهمَّت بيديها لتقبِّلهما شاكرة، فلم تمكنها من ذلك وقالت لها: «هذا أقل ما يجب يا أختي، وإني أدعو الله أن يوفقني إلى ما يخفف كربك، فهو مفرج الكروب ورحمته وسعت كل شيء.» فقالت سالمة: «جزاك الله خيرًا يا سيدتي، ولا أراك مكروهًا في عزيز لديك.» وعادت إلى إطراقها وقد أخذها العجب من أن تكون مثل هذه السيدة الفاضلة الكاملة الحنون قرينة لجبار عنيد غضوب مثل علي بك، ولكنها قالت في نفسها: «كل شيء نصيب، ولله في خلقه شئون.» وكانت الست نفيسة في ذلك الوقت مرتدية ملابس البيت المؤلفة من ثوب حريري رقيق مشقوق من أعلى الصدر، وفوقه قباء من المخمل مشدود إلى خصرها بمَنطِقة من الحرير الدمشقي الثمين، وفوقه معطف فضفاض واسع الكمين يتدلى منهما طرفا كمي قميصها الشفاف، وقد تحلت بعقود وأساور من مختلف اللآلئ والجواهر، وتدلى من أذنيها قرطان هما جوهرتان كبيرتان. وهي مكتنزة الجسم ناصعة البياض مع حمرة خفيفة، واسعة العينين رقيقة الشفتين مستقيمة الأنف وضَّاحة الجبين، ذهبية الشعر قد ضفرته ضفيرتين أرسلت إحداهما على صدرها والأخرى على ظهرها، وغطت أعلاه بإكليل مرصع، فبدت غاية في الجمال والجلال. ولاح لسالمة بصيص من الأمل في إنقاذ ابنها من الموتة الشنيعة التي حكم عليه بها علي بك، فهمَّت بأن تترامى على قدمي الست نفيسة وتتضرع إليها أن تتوسط لتحقق لها هذا الأمل، ولكنها رأتها تنهض من مجلسها وتصفِّق منادية جاريتها الخاصة (منورة)، فنهضت سالمة ووقفت بين يديها ساكنة حتى جاءت الجارية، وتلقت من سيدتها كلمات أسرَّت بها إليها، ثم انصرفت حانية رأسها سمعًا وطاعة. ••• كانت السيدة نفيسة قد علمت بما أمر به زوجها علي بك من إلحاق سالمة بخدمة القصر وإلقاء ولدها في النيل، فاستنكرت الأمر فيما بينها وبين نفسها. ثم ازداد تأثرها حين علمت بامتناعها عن الطعام والشراب وانقطاعها للبكاء والعويل، فلما قابلتها بعد ذلك ورأت بنفسها ما هي عليه من سقم واكتئاب وزهد في الحياة، حدثتها نفسها بأن ترسل من عندها رسولًا إلى الجند الذين كلفوا إغراق ابنها، آمرة إياهم بالعدول عن ذلك، ولكنها رأت الانتظار حتى يعود علي بك إلى القصر وتتوسط لديه في الأمر، مخافة أن يغضب لإقدامها على ذلك دون إذنه، وقد يؤدي به الغضب إلى الانتقام منها بذبحها أو إلقائها في النيل، أو طردها من القصر مطلقة مهانة على أهون تقدير. ولم يكن لديها شك في أنه يحبها ويؤثرها على كل نسائه وجواريه، ولكنها كانت — مع ذلك — لا تأمن حدة غضبه، وتعلم أنه سريع الانتقام لا يطيق أن يخالف أحد أي أمر يصدره. هذا إلى علمها بأن المماليك جميعًا لا يرعون حرمة النساء ولا شيء عندهم أسهل من الطلاق. على أنها خشيت كذلك أن تتأخر عودته إلى القصر فتضيع فرصة إنقاذ الفتى البريء المظلوم، وتذهب نفس أمه المسكينة حسرات عليه، فنادت خادمتها الخاصة الأمينة (منورة)، وأسرَّت إليها أن تسارع إلى إرسال مَن يلحق بالجنود ويبلغهم رغبتها في العفو عن الفتى وإطلاق سراحه ومعاونته على الفرار من مصر إلى سوريا أو غيرها من البلاد المجاورة في الحال. وفيما هي تتحدث مع سالمة عقب انصراف منورة وتكرر النصح لها بالصبر وألا تيأس من الفرج بعد الشدة، وصل إلى سمعها وقع أقدام تقترب من الغرفة، فأجفلت الست نفيسة وامتقع لون وجهها، وطالعت سالمة في نظراتها وحركاتها معاني القلق والاضطراب والخوف، فأدركت أن القادم علي بك، وأن زوجته الرحيمة الطيبة القلب تخشى غضبه لسماحها لها بدخول غرفتها، فهمَّت بالخروج تفاديًا لشره، لكنها ما كادت تصل إلى باب الغرفة حتى دخل منه علي بك، فلم تتمالك قواها لهول المفاجأة وسقطت على الأرض مغمى عليها. وعرفها علي بك حين وقعت عينه عليها، فحمي غضبه والتفت إلى زوجته التي خفَّت إلى ملاقاته محاولة ملاطفته، وقال: «ما هذا يا نفيسة؟ ما الذي جاء بهذه الخائنة إلى هنا وقد أمرت بأن تُسند إليها أحقر أنواع الخدمة؟» فتكلفت الابتسام، وتجلَّدت لتخفي اضطرابها، وقالت له: «إنها يا مولاي لم تأتِ إلا بطلب مني؛ إذ سمعت بأنها كادت تقتل نفسها حزنًا على ما آل إليه أمرها، وامتنعت عن تناول الطعام، فدعوتها لأخاطبها في ذلك.» فنظر إليها شزرًا، وقال محتدًّا: «كادت تقتل نفسها؟ ما شاء الله! لعلها اشتاقت إلى ولدها المدلل الجبان حسنًا. سأرسلها إليه الآن!» ثم أشار إلى بعض الجواري أن يُخرِجن سالمة من الغرفة ويسلمنها إلى بعض حرس القصر ليُلقوا بها في النيل، فسارعن إلى تنفيذ الأمر. ••• أفاقت سالمة من إغمائها، فوجدت نفسها محمولة على أيدي بعض جواري القصر الحبشيات والتركيات، وما علمت بما أمر به علي بك حتى صاحت قائلة: «مرحبًا بالموت ما أعذبه وأحلاه! ولاسيما أنه سيقربني من ولدي وفلذة كبدي العزيز.» وتذكرت ما لقيته من لطف الست نفيسة وحنانها ولطف مواساتها، فخشيت أن تكون قد نالها سوء بسببها، وسألت الجواري في ذلك، فلما اطمأنت إلى نجاة السيدة الفاضلة من شر غضب زوجها، تنهدت تنهد الارتياح، وقالت للجواري وهن ينظرن إليها راثيات لحالها باكيات: «أشكركن يا أخواتي العزيزات على عواطفكن الرقيقة النبيلة، وكل ما أرجوه الآن أن تسرعن بي إلى النيل حيث ينتظرني ولدي العزيز، وأن تبلغن سيدتكن الكريمة أني لن أنسى فضلها ونبلها حتى ألقى الله، فأضرع إليه أن يجزل مكافأتها ويكتب لها السعادة في الدارين.» وكان لكلامها أكبر الأثر في نفوس الجواري، فلم يستطعن إمساك دموعهن رثاء لحالها وإعجابًا بوفائها الدال على طيب عنصرها، فعرجن بها إلى إحدى الغرف المخصصة لهن في القصر، وجئن إليها ببعض الطعام راجيات منها أن تتناوله، فاعتذرت من عدم استطاعتها إجابة طلبهن، وكررت لهن الشكر. وأخيرًا مضت إحداهن إلى قيِّم القصر، فأبلغته أمر علي بك بإلقاء سالمة في النيل، وروت له قصتها باختصار. فلما رأت التأثر باديًا في وجهه، انتهزت هذه الفرصة، وتضرعت إليه أن يعمل على إنقاذ تلك المسكينة المظلومة، ولاسيما أن الست نفيسة تعطف عليها وترثي لما أصابها في ولدها وزوجها ومالها، ولا شك في أنها تُسَر بإنقاذها من ذلك المصير. فوعدها ببذل جهده في هذا السبيل، ثم نادى بعض الحرس ممن يثق بهم، واتفق معهم على التظاهر بأخذ سالمة من القصر لإلقائها في النيل خارج القاهرة، ثم إطلاق سراحها هناك والنصح لها بالفرار إلى الريف أو الاختفاء في أي مكان منعزل، وألا يُشعِروا بذلك أي إنسان. فقالوا: «سمعًا وطاعة.» ثم خرجوا بها من القصر، وهي لا تكاد تقوى على السير لفرط ضعفها وحزنها، ولا تعلم شيئًا مما اتفق عليه قيِّم القصر مع أولئك الجنود. ولما بلغوا مصر العتيقة، كان الليل قد سدل نقابه، ولكن سالمة أدركت أنهم يسيرون بحذاء النيل هناك، من انعكاس ضوء النجوم على صفحة الماء، فتذكرت ابنها ولم تملك عواطفها فانفجرت باكية، وكانت قد بقيت صامتة مطرقة طول الطريق، فحسب الجنود أنها تبكي خوفًا من إغراقها تنفيذًا لأمر علي بك، وهمس كبيرهم في أذنها قائلًا: «لا تبكي يا سيدتي ولا تخافي، فإننا لن نمسك بأي سوء، وسنطلق سراحك عما قليل لتمضي إلى أي مكان شئت وتختفي فيه.» فصاحت سالمة قائلة: «تطلقون سراحي؟ مَن قال لكم هذا؟ كلا يا سيدي، لست راغبة في الحياة، فهيا عجِّلوا بموتي ولكم الشكر!» فبُغت الجنود، وعجبوا لإيثارها الموت ورغبتها في التعجيل به بدلًا من أن تطير فرحًا بالنجاة، وعاد كبيرهم فقال لها: «لعلك لا تصدقين أننا سنطلق سراحك ولا نغرقك في النيل؟» فقالت: «سواء عندي أكنتم صادقين أم ساخرين، وليس أحب إليَّ من أن أغرق الآن لألحق بولدي الذي أغرقتموه هنا قبلي ولم ترحموا شبابه، ولا اتقيتم الله في قتله ظلمًا وعدوانًا بلا أي ذنب جناه!» فأدرك الجنود أنها أم الفتى الذي سمعوا بأن علي بك أمر بإغراقه في الصباح، وازدادوا رأفة بها ورثاء لمصابها، ثم أخذوا في تعزيتها متنصلين من تبعة إغراق ابنها، وأكدوا لها أنهم سيطلقون سراحها ويعاونونها على الاختفاء تنفيذًا لرغبة الست نفيسة، فلما سمعت ذلك صدقتهم وازدادت تقديرًا لفضل السيدة البارة الكريمة الرحيمة، لكنها قالت لهم: «جزاها الله وجزاكم أحسن الجزاء، غير أني لا أريد الحياة بعد قتل ولدي وفقد أبيه، فأرجو منكم أن تقتلوني أيضًا وتريحوني من العذاب الذي أنا فيه!» ••• ما زال الجنود سائرين بسالمة وهم يحاولون تعزيتها وإقناعها بالتزام الصبر والرضوخ لمشيئة القدر، حتى وقفوا بها أمام بناء هناك في مصر العتيقة، ثم مضى كبيرهم إلى باب صغير مصفَّح بالحديد، يُوصَل إليه من ممر منحدر، فطرقه طرقًا عنيفًا متواليًا، أعقبه صوت ضعيف مرجف منبعث من الداخل يسأل: «مَن الطارق؟» ما كادوا يجيبونه بأنهم من الجنود حتى سارع إلى فتح الباب وفي يده مصباح زيتي خافت الضوء، فدخلوا وسالمة وراءهم، وهي تعجب من أمر ذلك المكان، وبابه الحديدي الضيق ذي المفتاح الخشبي الغليظ، وما زالوا سائرين في زقاق ضيق على جانبيه أزقة أخرى مثله، والبواب الشيخ العجوز يتقدمهم بمصباحه، حتى بلغوا بابًا صغيرًا آخر طرقوه ففُتح لهم ودخلوا وهي معهم، ثم سمعت كبير الجنود يسأل البواب الجديد: «أين الرئيس؟ إننا نريد مقابلته في أمر خاص.» فمضى البواب وغاب قليلًا ثم عاد ومعه رجل في مثل لباسه وسنه. وبعد أن تبادل الرجل مع كبير الجنود بضع كلمات لم تتبينها، ولكنها أدركت من إشارتهما إليها أنها خاصة بها، عاد الرجل من حيث أتى، ثم أقبل بعد حين ومعه سيدة استقبلتها مرحبة، ثم قادتها إلى حجرة صغيرة خالية إلا من فِراش بسيط ومصباح زيتي صغير، وأشارت إليها أن تستريح فيها حتى الصباح. وبعد أن جاءتها ببعض الطعام وإناء به ماء، تركتها راجية لها نومًا طيبًا هانئًا، وأغلقت باب الحجرة وانصرفت. فبقيت سالمة ساعة تتقاذفها الهواجس والأفكار، ولم تجد في نفسها قابلية لتناول الطعام رغم أنها لم تذق شيئًا منذ وقت طويل، فاكتفت بجرعة من الماء، وتمددت بثيابها على الفراش الموضوع في الحجرة، فما لبثت قليلًا حتى أخذها النعاس، ولم تستيقظ لفرط ما قاسته من الجهد والحزن وعديد المفاجآت إلا قرب ظهر اليوم التالي. ولم تكن هذه الحجرة إلا إحدى حجرات دير كنيسة مار جرجس، ورهبانه جميعًا من اليونانيين. ولليونان يومئذٍ امتيازات كثيرة في مصر لكثرة جاليتهم فيها، ولحاجة المماليك إليهم في الطب وتجارة الرقيق وغيره، وصُنعِ السفن وقيادتها. ولم يكن بالدير راهبات سوى راهبة جاءت من اليونان لتمضية بضعة أشهر في مصر، هي التي استقبلت سالمة ومضت بها إلى تلك الحجرة. وبجانب هذا الدير تقوم أديار أخرى كثيرة للأقباط والأروام، ومن بينها دير أبي سرجة، ودير المعلقة، ويحيط بها جميعًا سور أشبه بأسوار الحصون؛ إذ كان ذلك البناء كله حصنًا فيما مضى، وفيه حاصر العرب أقباط مصر حين جاءوا لفتحها بقيادة عمرو بن العاص. أما الجنود الذين جاءوا بسالمة، فانصرفوا عائدين أدراجهم بعد أن أوصوا بها رئيس الدير خيرًا، وطلبوا إليه أن يبقيها في مأمن عنده؛ لأن حياتها مهددة بالخطر، فلم يسعه إلا القبول. ولما وصلوا إلى الباب الخارجي وجدوه مفتوحًا، والبواب ليس في مكانه هناك. فعلموا أنه فرَّ خوفًا منهم كما فعل أكثر الرهبان الذين صادفوهم داخل البناء، وأوجسوا خيفة من أن يكون أحد هؤلاء قد ظن أنهم آتون للنهب والسلب، كما كان يحدث في ذلك الحين، فذهب ليشكوهم إلى المعلم إبراهيم الجوهري أو المعلم رزق، وهما يومئذٍ ملجأ القاصدين وذوي الحاجات من أقباط مصر، لتوليهما الكتابة عند علي بك، وحصولهما بسبب ذلك على كثير من سعة النفوذ والسلطان، فضلًا عن الثراء الوفير. وكان أن تسلل الجنود خارجين من الباب، ثم أغلقوه وراءهم وعادوا إلى القصر دون أن يشعر أحد من أهله بشيء مما قاموا به.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/7/
الشيخ المجذوب
بقي السيد عبد الرحمن أيامًا في دمياط بعد وصوله إليها مع الأسطول الروسي، ثم وجد سفينة نيلية تستعد للسفر منها إلى القاهرة حاملة مقادير كبيرة من الأرز، فاتفق مع أصحابها على أن يأخذوه معهم. وفي الموعد المحدد لإقلاع السفينة كان قد صعد إليها بأمتعته، وبينها طبل صغير وعصا مصبوغة، وعدد من الأجراس الصغيرة، وصرة بها قطع مختلف ألوانها من الملابس القديمة، ثم اختار لنفسه مجلسًا في أحد جوانب السفينة وقبع فيه وبجانبه أمتعته بعد أن خلع عنه الزي المغربي الذي كان متنكرًا فيه، معتزمًا التنكر في زي آخر. وما أقلعت السفينة حتى انطلقت بها الريح في الاتجاه المطلوب، وسُرَّ بذلك ملاحوها، فاجتمعوا على ظهرها بعمائمهم الكبيرة المرسلة أطرافها على أقفيتهم، وبسراويلهم الفضفاضة المشدودة على القدمين، وأخذ بعضهم في الغناء بمصاحبة المزمار والنقر على الدفوف. كما أخذ بعضهم يتلهون بتسلق سارية الشراع أو حمل الأثقال، بينما التجار يتلهون بمشاهدة هؤلاء وهؤلاء، أو الاستمتاع بمناظر السفن الأخرى وما يحف بالشاطئين من زروع وأشجار وفلاحين يعملون في الحرث والري وغيرهما من أعمال الحقول. أما السيد عبد الرحمن فكان في شغل عن ذلك كله بالتفكير في أمر ولده وزوجته، فتارة تحدثه نفسه بأنهما أُصيبا بعد سفره بسوء على أيدي المماليك، وتارة يُخيل إليه أنهما ذهبا إلى عكا بعد مغادرته إياها. وأخيرًا نهض ومضى إلى حافة السفينة فتوضأ ثم عاد إلى ركنه المختار فصلى ودعا الله أن يقيه وأسرته الضر ويجمع شملهم في أمان واطمئنان. ثم عكف على إعداد الزي الجديد الذي رأى أن يتنكر فيه بدلًا من زيه المغربي، فرفع جبته بالقطع الملونة الصغيرة، وثبت فيها الأجراس الصغيرة والجلاجل، ثم ارتداها واستعاض عن العمامة بطرطور طويل بعد أن نفش شعر رأسه وأرسله على وجهه فاختلط بلحيته، وعلَّق الطبل الصغير على صدره. ثم نهض فغادر مكانه والعصا الملونة في يده، وأخذ يتجول في أنحاء السفينة وهو يقرع الطبل، والأجراس والجلاجل تصلصل متأثرة بحركته، فلم يبقَ على ظهر السفينة مَن لم يلفته منظره العجيب، وراحوا جميعًا يتسابقون إلى التبرك به والإصغاء إلى الكلمات المبهمة التي يتمتم بها؛ إذ اعتقدوا أنه من المجاذيب المكشوف عنهم الحجاب! وما أتم السيد عبد الرحمن جولته الأولى حتى كان قد اطمأن إلى إتقان تنكره، ثم استمر يقوم بمثل هذه الجولة على السفينة مرات في اليوم والتجار والبحارة يزدادون تيمنًا به ويتنافسون في العمل على مرضاته، حتى رست السفينة في ميناء بولاق، فغادرها وهو على تلك الهيئة، وانطلق يتجول في الأسواق والأزقة متظاهرًا بالانجذاب، فلم تمضِ ساعة حتى كان يسير وخلفه جمهور كبير من الصبيان والمتعطلين والمارة على اختلافهم، وهم بين ساخر منه، ومتبرك به، وما زال سائرًا حتى بلغ الحارة التي بها منزله، فجلس ببابها متظاهرًا بالرغبة في الاستراحة، وهو إنما يريد صرف الجمهور السائر خلفه؛ ليتفرغ بعد ذلك لتفقد أهل منزله والوقوف على حقيقة حالهم. ومر به أحد الفقهاء، فرثى لحاله وأمر الناس فانصرفوا عنه، ثم مد يده إليه ببعض الدراهم فلم يقبلها، وقال له متظاهرًا بالبله والانجذاب: «لا حاجة بي إلى دراهم، ولا آخذها حتى لا تغضب أمي وتضربني!» فابتسم الفقيه واعتقد أنه من أهل الصلاح والتقوى، فطلب إليه أن يرافقه إلى بيته، فهز رأسه إشارة الرفض. وعرض عليه الفقيه أن يأتيه ببعض الطعام، فرفض أيضًا، لكنه أشار إليه بوضع يده على فمه أنه يريد ماء، فانطلق الفقيه إلى أبواب الحارة، وجاءه من عنده بقلة ملأى بالماء، فاكتفى برشفات منها وأعادها إليه، ثم تظاهر بأنه يريد النوم، ولكنه خشي على طبله أن يخطفه الصبيان، فطلب الفقيه من البواب أن يخلي له مكانًا بجانبه وراء الباب لينام فيه آمنًا، وبادر البواب بإجابة الطلب وهو فرح فخور. ومضت ساعات والسيد عبد الرحمن متظاهرًا بالنوم خلف باب الحارة، وكلما سمع وقع أقدام خارجة أو داخلة اختلس النظر نحو الباب لعل القادم ابنه أو أحد خدم المنزل، فلما لم يمر به أحد منهم عاوده قلقه، ولم يُطِق صبرًا بعد ذلك، فهبَّ من مرقده فجأة، وأخذ يقفز ويتمتم بكلمات غير مفهومة، ثم همَّ بطبله فعلَّقه على صدره فوق مرقعته، وأحكم وضع طرطوره الطويل على رأسه، وتناول عصاه الملونة، ومشى في الحارة وهو يقرع الطبل فيختلط دويه بصليل الأجراس والجلاجل التي في مرقعته، وما زال سائرًا بهذه الحالة حتى وصل إلى منزله وقد أوشكت الشمس أن تغرب، فوجد الباب مغلقًا، وسمع أصواتًا منبعثة من الداخل لا عهد له بها، فاشتدت به الوساوس والهواجس، وهمَّ بطرق الباب، لكنه آثر الانتظار بعض الوقت، فجلس بقربه مستمرًّا في قرع طبله والصلصلة بأجراسه، وأهل الحارة يمرون به ضاحكين منه متيمنين بوجوده فيها، وهم يحسبونه من المجاذيب أهل الكشف. وبعد قليل فُتح الباب وخرج منه شيخ وقور عرف السيد عبد الرحمن أنه زميل قديم له من التجار في وكالة الليمون، وهمَّ بأن يناديه، فإذا بالتاجر يقصده من تلقاء نفسه ويحاول إعطاءه بعض الدراهم، فرفض أخذها متظاهرًا بالغضب، وأفهمه بالإشارة أنه في حاجة إلى الطعام والنوم، فأخذ التاجر بيده وعاد به إلى المنزل حيث أدخله حجرة الجلوس في الطابق الأرضي، وأمر الخادم بأن يأتيه بالطعام ويهيئ له منامة، ثم استأذن في الخروج سائلًا إياه أن يذكره بدعواته الطيبات، وانصرف بعد أن أوصى الخادم بالسهر على خدمة الشيخ المبارك وتلبية كل ما يطلبه. ••• ما كاد السيد عبد الرحمن يدخل منزله مع زميله التاجر الذي وجده ساكنًا فيه حتى أدرك أن نظام المنزل قد تغير إلى حد كبير، ولم يجد في طريقه إلى حجرة الجلوس أي أثر لأحد من أهله أو خدمه، فتسارعت دقات قلبه، وكاد يجهش بالبكاء، لكنه تجلَّد حتى لا يفتضح أمره، وصبر إلى أن انصرف زميله التاجر، ثم جاءه الخادم بالطعام، فتظاهر بالغضب، وأمر بإعادته، ثم همَّ بحمل طبله وعصاه وطرطوره، ورفع صوته قائلًا وهو يتظاهر بأنه يحدِّث نفسه: «لا. لا. هذا مستحيل.» فوجم الخادم، وخشي أن يترك المجذوب يغادر المنزل فيغضب سيده، فاقترب من السيد عبد الرحمن وهمَّ بتقبيل يده قائلًا: «ما الذي أغضبك؟ اطلب ما شئت فإني في خدمتك.» فقال له: «أنا لا آكل طعامًا، ولا أنام في منزل خلا من أصحابه.» ففهم الخادم أن الشيخ المجذوب عرف بالإلهام قصة الظلم الذي أوقعه المماليك بأصحاب المنزل الأولين، فمال على يده وقبَّلها في خشوع وإجلال وقال: «رحمهم الله يا سيدي، ورحمنا جميعًا من الظلم والاضطهاد.» ثم تضرع إليه ألا يغادر المنزل، وأن يطلب الطعام الذي يريده فيحضره له في الحال؛ حتى لا يغضب سيده ويطرده. فتكلَّف السيد عبد الرحمن الضحك ساخرًا، وقال للخادم: «كيف يطردك؟ أهو الذي طرد مَن كانوا في المنزل من قبل؟» فقال الخادم: «كلا يا سيدي، إن علي بك هو الذي طردهم، وجرَّدهم من أملاكهم؛ لأن عميدهم خالف أمره وهرب من الحملة التي أرسله فيها إلى الحجاز.» قال: «ألم تعلم أين ذهبوا بعد ذلك؟» فتنهد الخادم أسفًا وحزنًا وقال: «لم يكن للرجل إلا ولد واحد، أخذوه وأغرقوه في النيل!» فأجفل السيد عبد الرحمن وخارت قواه فجأة، فجلس متهالكًا وقد سقط الطرطور عن رأسه، وانفجر باكيًا، والخادم يعجب من أمره ولا يعلم أنه إنما يبكي ولده الوحيد، ثم اعتدل في جلسته متجلِّدًا وسأل الخادم: «وماذا صنعت المسكينة أم ذلك الغلام؟» فقال الخادم: «أمر علي بك بأخذها إلى قصره لتعمل فيه مع الجواري الخادمات، وأحسب أنها ما زالت هناك حتى الآن.» فشعر السيد عبد الرحمن بأن الأرض تدور به، ولم يعد يقوى على الكلام، فتظاهر بأنه رضي المبيت في المنزل وطلب من الخادم ترك الطعام في الحجرة ليأكله متى شاء، فقبَّل الخادم يده وخرج. وما خلا السيد عبد الرحمن إلى نفسه في الحجرة حتى أطلق لعينيه عنان البكاء، وأخذ يندب ولده وزوجته، وبقي كذلك وقد أغلق باب الحجرة من الداخل حتى سمع أذان الفجر، ففتح باب الحجرة وأيقظ الخادم النائم أمامه، وأخبره بأنه يريد الخروج للصلاة في المسجد، فأوصله حتى الباب الخارجي وفتحه له، ثم قبَّل يديه وودعه راجيًا أن يتفضل بتشريف المنزل بزيارته من حين لآخر؛ لتحل بركته على مَن فيه، فوعده بذلك وانصرف لا يلوي على شيء. وما زال سائرًا ووجهته قصر علي بك، فبلغه وقد أشرقت الشمس وانعكست أشعتها على بِركة الأزبكية، فبدا منظرها بديعًا يجذب القلوب والأبصار، لكنه كان في شغل عن ذلك بما هو فيه من المصائب والنكبات. وما وقعت عليه أعين حرس القصر وخدمه حتى دعوه إليهم ملتمسين بركته ودعواته، وحاول بعضهم نفحه ببعض المال فرفض أخذه طبقًا للخطة التي اتخذها لنفسه، فجاءوه بالطعام راجين منه أن يأكل منه إكرامًا لخاطرهم، فتناول قليلًا منه، ثم أخذ يتردد إليهم أيامًا فيجد منهم الإكرام والاحترام، وهو يتلطف ويحتال لاستطلاع ما تم في أمر زوجته، حتى علم أخيرًا بأن علي بك أمر بأن تُلحَق بولدها غرقًا في النيل، وأن الجنود ساقوها من القصر إلى مصر العتيقة؛ حيث نفذوا ذلك الأمر، وكان هذا في مساء اليوم الذي أُغرق فيه ولدها هناك! ••• ضاقت الدنيا كلها في وجه السيد عبد الرحمن، بعد أن فشلت آماله وتحقق مصرع ولده وزوجته، ففكر في الانتحار تخلصًا من حياته الشقية المعذبة، لكن نفسه التقية لم تطاوعه على ارتكاب هذه المعصية، فسلَّم أمره لله، واعتزم أن يقضي ما بقي من عمره هائمًا على وجهه، وهو بملابس المجاذيب، يسد رمقه بما يجود به عليه الناس من الطعام كلما جاع، وينام في المكان الذي يتفق وجوده فيه حين يشعر بحاجة إلى النوم. وبقي كذلك في القاهرة أسابيع، حتى أصبحت شخصيته الجديدة معروفة في جميع أحيائها، وأهلها كلهم يتيمنون بطلعته ويلتمسون بركته ودعواته، والسعيد منهم مَن يُتاح له أن يقدِّم له طعامًا فيتناول قليلًا منه، أو يحظى بنومه بالقرب من منزله؛ إذ إنهم علموا بالتجربة أنه لا يقبل مالًا من أحد، ولا ينام إلا في الطريق! وكثيرًا ما كانت قدماه تقودانه إلى شاطئ النيل في مصر العتيقة، فيجلس هناك بالقرب من مينائها الذي ترسو فيه المراكب التجارية كما هو الشأن في ميناء بولاق، فإذا رآه التجار المجتمعون هناك تفاءلوا بوجوده خيرًا، وتسابقوا إلى خدمته التماسًا لبركته، وفيهم كثيرون من زملائه في وكالة الليمون لكنهم كانوا لا يعرفونه؛ لتغير هيئته ولعلمهم بأن زميلهم قد غادر البلاد المصرية كلها فرارًا من ظلم المماليك. أما هو فكان يعرفهم وتذكره رؤيتهم ما كان فيه من نعمة سابقة ومكانة تجارية مرموقة، فتتجدد أحزانه وتهيج أشجانه، ولا يعزيه إلا أن يسرح بصره في النيل الممتد أمامه متخيلًا أن زوجته وولده لا يلبثان أن يخرجا إليه من أعماق النهر؛ حيث ألقى بهما الجنود، ويقضي الساعات الطوال مناجيًا طيفيهما وهو يضحك تارة ويبكي تارة أخرى، ولا يزال كذلك حتى ينال منه التعب فيتمدد على الشاطئ متوسدًا طبله محتضنًا عصاه ويسلِّم عينيه للنوم؛ حيث يستأنف تلك المناجاة فيما يراوده من الأحلام! وفيما هو هناك ذات يوم وقد أخذته سِنة من النوم، إذا به يستيقظ على صوت رجل يناديه قائلًا: «يا سيدي الشيخ. يا سيدي الشيخ.» فلما تطلع إلى الرجل الذي يناديه وجده مرتديًا جلبابًا مهلهلًا، وعلى رأسه عمامة ملفوفة حول «لبده»، وعلى وجهه آثار الجهد والإعياء، فأدرك أنه من أهل الصعيد الذين يعملون في شحن البضائع ونقلها، وسأله عما يريد، فقال الرجل: «سألتك بالله يا سيدي أن تقرأ الفاتحة وتدعو الله أن يجمعني بمَن فُرِّق بيني وبينهم.» فتأثر السيد عبد الرحمن بما بدا من اللهفة والأسى في لهجة الرجل، وتذكَّر أنه يشكو مثل شكاته، فجلس وأخذ في قراءة الفاتحة والدموع تنهمل من عينيه، فتشاءم الرجل وانتظر حتى فرغ من القراءة ثم سأله: «هل على الغائبين من بأس يا سيدي الشيخ؟» وخُيل إلى السيد عبد الرحمن أن صوت الرجل ليس جديدًا عليه، فمسح دموعه بطرف مرقعته وتفرَّس في وجهه؛ فإذا هو علي خادمه الخاص، فعجب من ارتدائه ملابس أهل الصعيد، ومن تغير هيئته إلى حد كبير، وهمَّ بأن يناديه باسمه، لكنه لم يتمالك عواطفه فانفجر باكيًا. وفهِم علي أن بكاء الشيخ المجذوب دليل على أنه أُلهم ألا أمل في عودة الغائبين الذين خاطبه في شأنهم، فلم يتمالك عن البكاء هو الآخر، وقال له: «لماذا تبكي يا سيدي الشيخ؟ إذا كنت قد تحققت ألا أمل في اجتماعي بمَن فقدتهم فأخبرني.» فأجابه وهو ما زال يبكي قائلًا: «إن الموتى لا يعودون يا علي.» ثم نهض وهمَّ به يعانقه وقد ازداد نشيجه وعلا نحيبه، ولما وجده ذاهلًا لم يعرفه بعدُ أمسك بيده وأجلسه بجانبه، وقال: «ألم تعرفني بعدُ يا علي؟ إن حسنًا ووالدته قد أُغرقا هنا في هذا النيل.» وهنا تحقق علي أن الشيخ المجذوب ليس سوى سيده عبد الرحمن نفسه، فارتمى عليه وأخذ في تقبيل يديه وكتفيه باكيًا معولًا وهو يقول: «سيدي عبد الرحمن … سيدي عبد الرحمن.» فطلب منه ألا يرفع صوته لئلا يفطن أحد إلى أمرهما، ثم نهضا وانطلقا إلى مكان منعزل بعد الميناء، وجلسا يتحادثان، فروى علي أنه سافر إلى الريف بأمر سيده حسن ووالدته؛ حيث باع الأرض التي كانت لسيده عبد الرحمن هناك، واستغرق ذلك أسابيع، وفيما هو في طريق عودته إلى القاهرة للسفر معهما إلى عكا طبقًا لما تعاهدوا عليه، علم بأن المماليك اعتقلوهما واستولوا على المنزل وكل ما فيه، فتنكر في زي أهل الصعيد وجاء إلى القاهرة ليرى ما تم في أمرهما، وفيما هو خارج من الميناء بعد مغادرته السفينة التي جاء فيها، سمع التجار والملاحين يتحدثون عن شيخ مجذوب صاحب كرامات مشهورة، وعلم منهم أن هذا الشيخ موجود بالقرب من الميناء على شاطئ النيل، فوافاه هناك ليتبرك به ويسأله في أمر سيده حسن ووالدته، لعله يكشف له عما انتهى إليه أمرهما. فأخبره السيد عبد الرحمن بما كان من أخذهما إلى مجلس علي بك في القلعة، ثم إغراقهما بأمره في النيل بعد الإهانة والتعذيب، ثم قال له: «والآن لم يعد يحلو لي العيش بعد أن فقدت أهلي ومالي، هذا إلى أني لا آمن إذا بقيت في القاهرة أن ينكشف أمري، ولو كنت أعلم الغيب لبقيت في حملة الحجاز، أو بقيت في عكا ولم أرجع إلى هذه البلاد التي عاث فيها المماليك الفساد، ولم يتقوا الله في العباد.» وأمضيا ساعات وهما يتبادلان الحديث ويبكيان، ثم قال علي: «أرى أن نبقى في القاهرة متنكرين كما نحن الآن، وما دام كل منا لم يعرف الآخر أول الأمر، فلن يستطيع أحد من المماليك وأعوانهم كشف حقيقة أمرنا، وهذا هو المال الذي بعت به أرضك التي كانت في الريف، فتصرف فيه كما شئت.» قال هذا وأخرج من ثيابه صرة فيها ذلك المال ومد بها يده إلى سيده، فرفض هذا أخذها وقال: «ما حاجتي إلى المال يا علي؟ إنني لولا خوف الله لألقيت بنفسي في قاع النيل لألحق بحسن ووالدته.» فقال علي: «معاذ الله يا سيدي أن يرتكب مثلك جريمة الانتحار، وإن قلبي ليحدثني بأن الله — جل شأنه — أكرم وأرحم من أن يجزيك بغير الخير على تقواك وبرك بعياله الفقراء وصبرك على عنت أولئك الحكام الظالمين. ومَن يدري فلعل سيدي حسنًا ووالدته ما زالا على قيد الحياة، فإننا لم نتحقق قتلهما بعد، فلنصبر ونواصل البحث، وإني خادمك المطيع لا يمكن أن أتركك لحظة حيثما تتوجه، سواء أبقيت هنا في القاهرة، أم آثرت الرحيل عنها إلى أي بلد آخر.» فهمَّ به السيد عبد الرحمن وقبَّله شاكرًا له حسن وفائه وإخلاصه، ثم نهضا وانطلقا إلى المدينة فبلغاها وقد آذنت الشمس بالمغيب، وما زالا سائرين حتى بلغا الجامع الأزهر، فجلسا بالقرب من أحد أبوابه، وتبلَّغا بما تيسر من الطعام، ثم تدثَّر السيد عبد الرحمن بمرقعته وتوسَّد طبله، وتمدَّد علي بالقرب منه على الأرض، وما لبثا قليلًا حتى راحا في النوم، ولم يستيقظا إلا على أذان الفجر تنطلق به أصوات المؤذنين من الجامع الأزهر والمساجد القريبة منه ملعلعة في الفضاء. ••• مضى السيد عبد الرحمن وعلي خادمه يتجولان في الشوارع المحيطة بالأزهر، وكانت الشمس قد أشرقت منذ ساعة، لكنهما وجدا الشوارع مقفرة من المارة، وجميع المتاجر والمنازل فيها مغلقة الأبواب، فقال السيد عبد الرحمن: «لا يمكن أن تقفر الشوارع من المارة وتُغلق أبواب المتاجر والمنازل حتى هذه الساعة إلا لأمر خطير، وأكبر ظني أن الجنود خارجون من القلعة اليوم لسبب من الأسباب.» وما أتم جملته حتى رأيا بعض الأهلين قادمين نحوهما مهرولين مذعورين، فلما وقعت أنظارهم على السيد عبد الرحمن وهو في زي الشيخ المجذوب صاحوا به قائلين: «ادعُ الله ينقذنا من هذا الكرب.» ثم مضوا في طريقهم لا يلوون على شيء، ووجهتهم الجامع الأزهر. فتحقق أنهم ذاهبون إلى الجامع الأزهر للاحتماء فيه من جنود المماليك، ولم يجد مَن يسأله عن سبب خروج الجنود من القلعة، فقال لعلي: «يحسن أن نعود إلى الأزهر نحن أيضًا، لنعلم ممن سبقونا إليه فيم خروج الجنود اليوم.» فوافقه علي، وما كادا يدخلان الجامع حتى وجداه قد امتلأ بمئات من الناس أكثرهم من أصحاب الحرف والباعة والمكاريين ومعهم حميرهم، وعلما أن الجنود خارجون في حملة جديدة لفتح الشام. وبعد قليل، أقبل جماعة من الجنود الإنكشاريين، فدخلوا الجامع الأزهر وأخذوا في ضرب اللاجئين إليه وسلبهم ما معهم من الأموال والأمتعة والسلع، ولم يتركوا دابة من دواب المكاريين إلا أخذوها، مدعين أنهم يحتاجون إليها في جهادهم. ولبثوا هناك ساعة يعتدون على أولئك المساكين الآمنين ثم انصرفوا، فأغلق اللاجئون أبواب الأزهر؛ مخافة أن يعودوا أو يجيء غيرهم من الجنود فينالهم على أيديهم اعتداء فظيع آخر. ولبثوا هناك خائفين مترقبين حتى غربت الشمس، وعلموا بأن الجنود غادروا القاهرة في حملتهم الجديدة، ففتحوا أبواب الجامع وخرجوا للاطمئنان على متاجرهم ومنازلهم وأهلهم، وبقي منهم في الجامع كثيرون أغلبهم من العلماء والطلاب ومشايخ الطرق. فقال السيد عبد الرحمن لخادمه: «لا داعي لخروجنا فلنبقَ ليلتنا هنا، وعند الصباح يفعل الله ما يشاء.» فقال علي: «لقد نطقت الصواب يا سيدي.» ثم انتحيا ناحية في صحن الجامع، وجلسا يتحدثان حتى صُليت العشاء، وجاء جماعة من الفقهاء والطلبة فالتفوا حول السيد عبد الرحمن وراحوا يشكون إليه ظلم المماليك للناس، ويسألونه أن يدعو الله أن يكشف الضر عن عباده ويأخذ الظالمين بذنوبهم، فكان يجيبهم بما يُدخِل الاطمئنان إلى قلوبهم، ويذكِّرهم بأن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون، ولكنه يؤخرهم ليوم يأخذهم فيه أخذ عزيز مقتدر. وفي الصباح همَّ السيد عبد الرحمن وخادمه بالخروج من الأزهر؛ فإذا بالسيد المحروقي يدخله في جماعة كبيرة من العلماء والأشراف، فتذكَّر السيد عبد الرحمن ما كان من أمر توسط صديقه الشريف الكبير لدى علي بك للإفراج عن ولده حسن، فلم يتمالك عواطفه وهطلت الدموع من عينيه فعاد إلى الجلوس في الأزهر، معتزمًا أن يقابل ذلك الصديق على حدة، وأن يكشف له عن حقيقة أمره، ويستشيره فيما ينبغي أن يصنع بعد أن استولى علي بك وجنوده على أمواله وأملاكه وقتلوا ولده وزوجته. ولم يمضِ إلا قليل، ثم إذا بالسيد المحروقي يرسل في طلبه من تلقاء نفسه، وذلك أن بعض الفقهاء الذين جاءوا معه حدَّثوه حين رأوا الشيخ المجذوب في الجامع بما عرفوا من كراماته وأحواله، فرغب في استطلاع أمره بنفسه. فنهض السيد عبد الرحمن، ومضى إلى حيث كان السيد المحروقي جالسًا بين أولئك العلماء والأشراف يتشاورون فيما ينبغي اتخاذه لوقف المماليك عن ظلمهم. ولما وصل إلى هناك وقف قريبًا من مجلسهم بحيث يرونه، فدعوه إلى المجيء إليهم، ولكنه هز رأسه إشارة الرفض، ثم أشار بيده إلى السيد المحروقي ليخاطبه على حدة، فنهض هذا من المجلس، وانتحى به ناحية، وأصغى لما سيقوله فإذا به يقول: «إني لست بشيخ مجذوب، ولا شيء لي بالانجذاب، وإنما أنا صديقك القديم عبد الرحمن التاجر السابق في وكالة الليمون، وقد تنكرت في هذا الزي خوف الظلم والعدوان.» ثم روى له حكايته باختصار والدموع تنهمل من عينيه، فبكى السيد المحروقي تأثرًا، ثم قال: «لا تيأس يا صديقي، فقد علمت أن ولدك لم يُقتل، وأن الله قيَّض له الست نفيسة زوجة علي بك فأنقذته من المصير الرهيب الذي حكم به عليه زوجها، وعاونته على الفرار إلى سوريا أو غيرها من البلاد المجاورة، أما والدته فعلمت أن علي بك أمر بإغراقها في النيل، ولكنني علمت أيضًا أن الست نفيسة زوجته كانت قد أرسلت في طلبها قبل ذلك وأحسنت استقبالها ومواساتها، ولعلها أن تكون قد عملت على إنقاذها أيضًا.» فتجدد الأمل في صدر عبد الرحمن، وشكر صديقه السيد المحروقي على هذه المعلومات، ثم حياه وانصرف عائدًا إلى خادمه علي فزف إليه تلك البشرى، وقررا السفر إلى سوريا في أقرب وقت للبحث عن حسن هناك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/8/
رسول من عكا
تركنا حسنًا وقد أخذه بعض الجنود المماليك من حرس علي بك، على مشهد من أمه في القلعة، ليمضوا به إلى النيل ويغرقوه فيه، تنفيذًا لأمر مولاهم. فلما وصلوا به إلى مصر العتيقة، استولوا على قارب وجدوه راسيًا على الشاطئ هناك قرب الميناء، وأنزلوه فيه وهو يبكي ويتوسل إليهم دون جدوى، ومعه كيس كبير من الخيش وحجر ثقيل أرغموه على حمله في الطريق، لكي يضعوه معه في الكيس حتى لا يطفو بعد قذفه في الماء. وفيما هم يهمون بحل القارب، لاحت منهم التفاتة إلى إحدى السفن الراسية في الميناء، فوجدوا العمال يُنزِلون منها براميل أدركوا من هيئتها أنها ملأى بالنبيذ أو الزبيب، وزيَّف لهم الشيطان أن يستولوا على شيء مما فيها ليحتسوه في القارب احتفالًا بتنفيذ أمر علي بك. ومضى أحدهم لإنجاز هذه المهمة، فلما عاد بعد قليل إلى القارب وجد فيه مع زملائه مملوكًا من الحرس الخاص بقصر علي بك، فظن أنهم رأوه اتفاقًا هناك، فدعوه إلى مشاركتهم النزهة والشراب. ثم ركبوا جميعًا في القارب وانطلقوا به في عرض النيل، وما زالوا في شرب ولهو، وحسن قابع في ركن من القارب وقد مل انتظار الموت، وتمنى أن يعجلوا بقذفه في النيل. إلى أن سمع كبيرهم ينهض فجأة ويصدر أمره بالاتجاه نحو الشاطئ الشرقي، فلم يخالجه شك في أن لحظة إغراقه قد حانت، ونطق بالشهادتين، ثم تجلَّد وتطلع إليهم؛ ليريهم أنه لا يهاب لقاء الموت ويؤثره على الحياة في عهد حكمهم الفاسد الظلوم. وشد ما كانت دهشته إذ رآهم منصرفين عنه إلى ما هم فيه من سكر وضحك وغناء، ثم ازدادت دهشته حين وصل القارب إلى الشاطئ فأنزلوه أمامهم منه، ثم ابتسم كبيرهم وقال: «لقد كُتب لك عمر جديد، وهذا هو جبل المقطم أمامك، فعليك أن تدور حوله حتى تبلغ الطريق المؤدي إلى سوريا فامضِ فيه قدمًا دون أن تلوي على شيء، وإياك أن يشعر بفرارك أحد!» ولم يصدِّق حسن سمعه، بل لم يصدِّق عينيه حين سارع كبير الجنود على أثر ذلك بفك قيوده وأغلاله وإعطائه صرة من المال يستعين بها في رحلته، وبقي واقفًا في ذهول حتى دفعه الرجل بقوة في الطريق الجبلي الممتد أمامه، فاندفع يعدو فيه وصوت الرجل يلاحقه وهو يحثه على زيادة العدو، حتى انقطع الصوت بعد قليل، فخفف من عدوه والتفت فلم يجد أحدًا غيره في تلك المنطقة الجبلية المقفرة، وقد زاد في وحشتها ما سادها من ظلام المساء، وما اعتمل في صدره من شتى الهواجس والانفعالات. على أنه لم يجد بدًّا من مواصلة السير، وما زال يعدو تارة ويمشي الهوينى تارة حتى نال منه الجهد والإعياء، وسمع نباح الكلاب من بعيد، فخشي أن يتقدم نحوها فيكون هناك خطر عليه، وآثر المكث حيث هو حتى الصباح، فارتمى على الأرض، وحاول النوم فلم يستطعه لفرط خوفه وقلقه، وبقي كذلك حتى لاح ضوء الفجر فنهض واستأنف سيره حتى مر عند الظهر بمضارب لبعض الأعراب، فعرَّج عليها وحصل على حاجته من الماء والطعام، كما حصل على ثياب عربية استبدل بها ثيابه للتنكر، ثم مضى في طريقه حتى وجد أعرابيين يقودان جملين، وعلم منهما أنهما في طريقهما إلى الصالحية ليصحبا من هناك قافلة ذاهبة إلى سوريا، فانضم إليهما وهو يحمد الله على هذا التوفيق؛ لأنه كان يخشى السير منفردًا، فضلًا عن أنه لا يعرف الطريق. وفي الصالحية، اشترى لنفسه جملًا وما يحتاج إليه من الزاد خلال الرحلة، ثم انضم إلى القافلة، وقد اطمأن إلى النجاة. ولكن القافلة ما كادت تخرج من البلدة حتى دهمها جماعة من فرسان المماليك، فاستولوا على ما فيها من الجمال والأحمال بحجة أن علي بك يحتاج إليهما فيما هو قائم به من الجهاد. وعبثًا حاول التجار أن يثنوا العساكر عن هذا الأمر؛ إذ هددهم هؤلاء بالقتل، واضطروهم إلى العودة إلى الصالحية؛ تمهيدًا لإرسالهم إلى القاهرة. ••• كان همُّ حسن بعد أن رأى ما حل بالقافلة أن ينجو بنفسه؛ حتى لا يعود إلى القاهرة فينكشف أمره هناك، فانتهز فرصة اشتغال الفرسان المماليك بإحصاء السلع التي كان التجار في القافلة ذاهبين بها إلى الشام، وترك جمله بما عليه واختبأ وراء أكمة هناك حتى انتهى الفرسان من إحصاء تلك السلع، وساقوا القافلة عائدين بها إلى الصالحية. فلما ابتعدوا نهض من مخبئه ومشى في طريق الشام الذي كانت القافلة سائرة فيه. وما زال يجد في سيره وليس معه سلاح ولا طعام ولا ماء حتى ولَّى النهار وبدأ الظلام ينشر جناحيه على الصحراء الممتدة أمامه، وكانت قواه قد خارت من فرط ما عاناه من الخوف والاضطراب مع العطش والجوع، فجلس على أكمة من الرمل ونظر إلى ما حوله فلم يجد سوى الرمال ينطبق عليها الأفق من جميع الجهات، فازداد قلقه وندم على مسيره وحده، وتذكَّر ما اضطره إلى ركوب هذا المركب الوعر، وما لحق بأسرته من الظلم والإهانة والتشريد والتعذيب، فأخذ يندب حظه مجهشًا في البكاء. ولما اشتد الظلام، ازداد شعوره بالخطر المحدق به، حتى نسي عطشه وجوعه، وخُيل إليه أن ما حوله من السهول التي سادها الظلام والسكون قد امتلأت بوحوش كاسرة قادمة لافتراسه، فاقشعر بدنه وأخذته الرعدة وتسارعت دقات قلبه، وحاول النهوض فلم تقوَ ساقاه على حمله، فتمدد في مكانه، وأخذ يتلو ما تيسر من آيات القرآن ويبتهل إلى الله أن يقيه السوء، ويبعد عنه الهواجس. وفيما هو كذلك، وصل إلى أذنه الملتصقة بالأرض صدى وقع أقدام مسرعة، فهبَّ من مرقده مذعورًا، وتلفت إلى مصدر الصوت ممعنًا النظر على ضوء النجوم، فلاح له شبح قادم من بعيد، وما لبث الشبح أن اقترب منه فإذا هو هجين مسرع فوقه راكب لم يتبين هيئته، ثم لاح له بضعة أشباح أخرى مماثلة كأنها تطارد ذلك الهجان. وما هي إلا لحظة حتى كان الجميع عند سفح الأكمة التي يجلس فوقها حسن، وتبين أن هؤلاء المطاردين يرتدون ملابس الأعراب، فأدرك أنهم من اللصوص قاطعي الطريق، ثم تحقق هذا؛ إذ سمع أحدهم يصيح بهم قائلًا بعد أن لحقوا بالهجان الأول: «هيا لقد وقع الكلب فاقتلوه واستولوا على ما معه!» فانبطح على الأرض وعيناه تحملقان في اتجاه المعركة ليرى ما تنتهي إليه، وقلبه يخفق خوفًا من أن يشعر بوجوده أحد اللصوص. ولم يطل انتظاره؛ فإن الهجان الأول ما لبث أن سقط عن ظهر هجينه، فهمَّ به مطاردوه واستولوا على سلاحه وملابسه ما عدا القميص والسروال، ثم تركوه ممددًا على الأرض وساقوا هجينه أمامهم بما عليه من أمتعة وغيرها، وعادوا من حيث أتوا، وحسن يتابعهم بنظراته حتى ابتعدوا وابتلعهم الظلام. وهنا نهض من مخبئه وهو يحمد الله على نجاته، وهمَّ بالابتعاد عن هذا المكان الذي قتل اللصوص فريستهم فيه، لكنه سمع أنينًا صادرًا من جهته، فعلم أنه ما زال فيه رمق من الحياة، وتحركت في نفسه عاطفة الشفقة ولاسيما بعد أن تصور أنه كان معرضًا لمثل ذلك المصير، فزايله خوفه وسارع إلى المصاب المحتضر، لعله أن يخفف عنه آلام الاحتضار، أو يعلم مَن هم أهله فيعمل على إبلاغهم وصيته إن أراد أن يوصي إليهم بشيء. ولما وصل إيه، وجده قد كف عن الأنين فظن أنه مات، ولم يتمالك عواطفه فبكى تأثرًا بمصرع الرجل بعيدًا عن أهله في ذلك القفر الموحش، ومال على جثمانه يفحصه ليتحقق موته قبل أن يواريه التراب كما قرر بينه وبين نفسه. وشد ما كان اغتباطه؛ إذ وجد أن الرجل ما زال حيًّا، لكنه مصاب بجرح في رأسه يسيل منه الدم، فسارع إلى إخراج منديله وأخذ يمسح ذلك الدم، ثم عصب له رأسه، وأخذ يحرك جسمه ويربت وجهه حتى أفاق من غشيته وتحرك وعاد إلى الأنين، فاستمر في تنبيهه ومواساته سائلًا إياه عن موضع ألمه. وما زال كذلك حتى استطاع الرجل أن يتكلم وعلم منه أنه يشكو من الألم في ساقه، فقال له: «لا بأس عليك يا أخي، ولسوف تُشفى عاجلًا بإذن الله.» ثم حل حسن عمامته، وبحث عن خشبة ليجبر له ساقه بها، فوجد في مكان المعركة عصا مكسورة، وسرعان ما أخذ منها ثلاث قطع جعلها حول ساقه المكسورة متوازية، ولف العمامة عليها لفًّا محكمًا، وكان قد تعلم صنعة التجبير في البيمارستان المنصوري، ثم أمسك بيد المصاب وأجلسه برفق مسندًا رأسه إلى صدره، وراح يشجعه ويطمئنه على نفسه، والرجل يعجب لصنيعه ويتمتم بشكره وهو ما زال بين الغيبوبة والصحو. وأشرقت شمس اليوم التالي، وحسن مستمر في إسعاف الرجل والترفيه عنه بالعبارات الرقيقة، وقد استأنس به وإن يكن جريحًا، واعتزم ألا يفارقه حتى يطمئن إلى نجاته. وبعد قليل استطاع الرجل أن يسترد بعض قواه، ونظر إلى حسن في ضوء النهار وإلى الجبيرة التي صنعها له، فاطمأن إليه وذهب عنه الروع، وهمس وعيناه تدمعان تأثرًا بما رأى من مروءته وأريحيته قائلًا له: «جزاك الله عني خيرًا يا سيدي، إني مدين لك بحياتي.» فقال له حسن: «إنني ما قمت لك إلا بأقل ما يجب علي، وأنت الآن في حاجة إلى الراحة، وثق بأنني لن أتركك حتى تبلغ مأمنك إن شاء الله.» ثم نهض حسن وبحث فيما حولهما من السهل حتى وجد موضعًا مستويًا عند سفح أكمة قريبة، فحمل صاحبه إلى هناك وفرش له عباءته وأرقده عليها، وأشار عليه بأن يستريح قليلًا ريثما يجد وسيلة ينقله بها إلى الصالحية، فقال الرجل: «لن أنسى فضلك ما حييت، وإن اسمي عماد الدين، وقد جئت من عكا حاملًا رسالة من حاكمها الشيخ ضاهر الزيداني إلى علي بك حاكم الديار المصرية، والحمد لله على أن هذه الرسالة بقيت معي ولم يستولِ عليها اللصوص الذين سلبوني مطيتي وسلاحي وأمتعتي وما كان معي من مال، فهل لي أن أتشرف بمعرفة اسم سيدي، وكيف ساقك الله لإنقاذي من الموت في هذا القفر بالليل؟» فقال: «إني من أهل مصر واسمي حسن، وكنت عازمًا على السفر إلى عكا في مهمة خاصة، فخرج عليَّ لصوص آخرون كثيرون واستولوا على راحلتي وأمتعتي، ولم أنجُ بحياتي من بين أيديهم إلا بمعجزة، وكأنما نجاني الله لكي أشهد ما وقع لك هنا، وأسارع إلى إسعافك بالعلاج عقب انصراف المعتدين الآثمين، فنحن إذن شريكان في الغربة والبأساء، ولكن لا بأس عليك إن شاء الله.» فعجب عماد الدين من أمر هذا الاتفاق الغريب، وقال له: «هذه إرادة الله، وإنه ليسعدني أن ألقاك في عكا لعلي أستطيع أن أرد لك هناك بعض جميلك، وأكون أكثر سعادة إذا لم يكن لديك ما يمنع ذهابنا إليها معًا، بعد أن نمضي إلى القاهرة وأؤدي الرسالة إلى علي بك.» فسكت حسن ولم يدرِ بم يجيب؛ إذ تذكر ما أصابه وأسرته على يد علي بك، فهاجت أحزانه ولم يستطع إخفاء الدموع التي تسابقت تجري على خديه. ولم يخفَ ما به على عماد الدين، فاشتد عجبه وسأله: «أهذه أول مرة قصدت فيها إلى عكا أم لك معرفة بها من قبل؟» وكان حسن في هذه اللحظة يفكر في أبيه، وفيما وعده وأمه به من أنه سينتظرهما في عكا، فتلاحقت دموعه على غير إرادة منه، ثم تجلَّد ولاح له أن عماد الدين قد يكون لديه نبأ عن أبيه، فقال له: «الواقع أنني كنت قاصدًا عكا لأول مرة، وقد سبقني إليها أبي، وتواعدنا على أن ألحق به.» قال: «وكيف تذهب وحدك في طريق لا تعرفه؟» فسكت حسن حائرًا، وخاف أن يكشف حقيقة أمره فيقع في مصيبة أخرى، وزاد هذا في شوق عماد الدين إلى استطلاع الأمر، فقال له: «إنني صرت لك أخًا بل خادمًا منذ أنقذت حياتي، ولا شك أن ما يهمني يهمك، ولعلي أوفق إلى القيام لك بخدمة.» ولم يجد حسن بدًّا من النزول على رغبة الجريح الصديق، فتنهد وقال له: «إن حكايتي يبكي لها الصخر الأصم!» ثم رواها له من أولها إلى آخرها. فتأثر عماد الدين كل التأثر وقال له: «حقًّا، إن حكايتك تدعو إلى الأسى والأسف، ولكن لا حيلة فيما وقع، اللهم إلا الصبر. فاصبر وكن على يقين من أن الله سيثيبك على صبرك، ولك عليَّ عهد الله وميثاقه لأكونن في خدمتك ما حييت.» فشكره حسن، وتفقد جروحه فوجد ألا خطر منها، كما علم منه أنه ارتاح قليلًا من الآلام التي كان يشعر بها في ساقه، فحمد الله على ذلك، وبشَّره بعاجل الشفاء. وما زال يسامره بالأحاديث والأماني حتى لاح لهما جمل قادم من بعيد، وفوقه راكب بملابس الأعراب، فاستعاذ عماد الدين بالله من أن يكون القادم لصًّا قاطع طريق، وبدا عليه الاضطراب، فابتسم حسن في وجهه مطمئنًا وقال له: «إن الذي نجانا فيما مضى قادر على أن ينجينا فيما هو آتٍ.» ثم نهض وصعد إلى الأكمة التي كان جالسًا عليها بالأمس، ثم خلع ثوبه وأخذ يلوِّح به في الهواء ليراه الجمَّال القادم. وبعد قليل كان الجمَّال قد رأى الثوب الملوَّح به، فحوَّل عنان جمله إلى جهته وما زال يحثه حتى وصل إليهما، فترجَّل وسلَّم ثم سألهما: «ما خطبكما أيها الصديقان؟» فاطمأن كل منهما لحسن لهجته وأدبه، وقال له حسن: «إننا من القاهرة، وكنا في عكا نحمل إلى حاكمها رسالة من علي بك حاكم مصر، وفي عودتنا من عكا قطع علينا الطريق هنا بعض لصوص البدو، واعتدوا على أخي هذا وجرحوه. فإذا تفضلت بنقله على جملك إلى أقرب قرية من هنا، كنا لك من الشاكرين.» فقال الأعرابي: «إني رهن أمركما، ومنزلي غير بعيد من هنا، فأنا أحق بشرف الضيافة.» ثم اقترب من عماد الدين وتأمل الضماد على رأسه والجبيرة على ساقه، وقال متعجبًا: «إن مثل هذه الإسعافات لا يحذقها إلا طبيب.» فاحمرَّ وجه حسن خجلًا، وبادر عماد الدين إلى الإجابة قائلًا: «من فضل الله ونعمته أن أخي درس الطب في البيمارستان المنصوري على يد طبيب مغربي كبير.» فالتفت الأعرابي إلى حسن وهش في وجهه وقال: «الحمد لله. نحن إذن أهل وإخوان، فإن جدي — رحمه الله — كان طبيبًا ومغربيًّا أيضًا.» ثم أناخ الجمل وتعاون مع حسن على حمل عماد الدين إلى متنه وشدَّاه إلى الرحل مستلقيًا على ظهره، ثم عاد ثلاثتهم إلى قرية الأعرابي، فبلغوها بعد ساعات، ونزل حسن وعماد الدين بمنزل الرجل ضيفين مكرمين إلى أن التأم جرح عماد الدين، والتأمت عظمة ساقه المكسورة، أو كادت بفضل العلاج الذي قام حسن به، فاستأذنه عماد الدين في أن يركب هجينًا يذهب عليها إلى القاهرة فيؤدي الرسالة إلى علي بك، ثم يعود إليه بعد ستة أيام على الأكثر. فاستحسن الفكرة، وودَّعه والأعرابي مضيِّفهما، سائليْن له السلامة في الذهاب والإياب. أمضى حسن الأيام الستة الأولى بعد ذهاب عماد الدين إلى القاهرة، يغالب الهواجس وتغالبه، فلما كان اليوم السابع أخذ ينتظر عودته منذ طلعت الشمس حتى غروبها، فلما لم يعد في موعده، قلق وتعاظمت هواجسه وظنونه ومخاوفه، وعبثًا حاول مضيِّفهما الأعرابي تخفيف قلقه، فلم يتناول في العشاء إلا لقيمات رغم أنه لم يتناول أي طعام طول النهار، ثم جفا النوم عينيه طول ليلته. فلما أصبح تجدد أمله في عودة عماد الدين، وبقي ينتظره عند مدخل القرية نهاره كله وجانبًا من الليل، لكنه لم يأتِ أيضًا، فيئس حسن وخاف أن يكون صاحبه قد وقع مرة أخر في أيدي قاطعي الطريق فأعدموه، وقرر أن ينهض عند الفجر فيمضي إلى القاهرة متنكرًا ليقتفي أثر عماد الدين ويقف على جلية أمره، وأفضى بما اعتزمه إلى صاحب المنزل، فوافقه وأعد هجينًا خفيفة ليستقلها، وجلس معه بعد العشاء ليسامره كعادته ثم يودِّعه. وفيما هما في ذلك، أقبل عماد الدين، فتعانقوا وتصافحوا وكان اغتباطهم جميعًا باللقاء عظيمًا. ثم روى عماد الدين ما أخَّره فقال: «لقد علمت حين وصولي إلى القاهرة أن علي بك غادرها في حملة إلى الصعيد لمحاربة قبيلة الشيخ همام، فاضطررت إلى انتظاره حتى رجع وأديت إليه الرسالة، فأكرم وفادتي وغمرني بالعطايا والهبات، ثم حمَّلني رسالتين: إحداهما للشيخ ضاهر حاكم عكا ردًّا على رسالته، والأخرى لأسلمها للأميرال لسمبيكو قائد الأسطول الروسي الموجود الآن في ميناء الإسكندرية؛ وذلك لظن علي بك أنني سأعود عن طريق البحر؛ إذ هو أقرب. وقد رأيت أن آتي إليك أولًا حتى لا تقلق، ولكي أعرض عليك أن نسافر إلى عكا بحرًا من الإسكندرية، فالطريق البحري أكثر أمنًا، فما قولك؟» فوافق حسن على ذلك الاقتراح؛ حبًّا في صحبة عماد الدين؛ وتفاديًا لخطر اللصوص في الطريق الصحراوي؛ ولتأخره عن الموعد المضروب للقائه بأبيه هناك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/9/
في الإسكندرية
كان عماد الدين قد جاء معه من القاهرة بالعطايا والهبات التي نفحه بها علي بك، فنزل للأعرابي مضيِّفهما عن بعضها ردًّا لجميله، ثم اشترى هجينتين ركب إحداهما وركب حسن الأخرى، وما زالا يجدان السير في الحوف الشرقي حتى أتيا الفرع الشرقي للنيل، فقطعه إلى الدلتا، فالفرع الغربي للنيل وما وراءه حتى وصلا إلى الإسكندرية أخيرًا، فباعا الهجينتين لبعض الأعراب هناك، ثم نزلا بفندق قرب الميناء، على أن يبيتا فيه ليلتهما، فإذا أصبحا مضيا إلى الميناء وزارا الأسطول الروسي لتسليمه رسالة علي بك، ثم بحثا عن سفينة ذاهبة إلى الشام فركباها إلى عكا. ولم تكن الإسكندرية في ذلك الحين سوى مدينة صغيرة، أهم ما فيها أنها على البحر، وإن فيها مرفأين: أحدهما للمسلمين وتقف فيه السفن العثمانية والمصرية، وموضعه المكان المعروف برأس التين، والآخر للنصارى في الموضع المعروف بالمينا القديمة. فلما كان صباح اليوم التالي مضى عماد الدين وحسن إلى الميناء الجديد؛ حيث قيل لهما إن الأسطول الروسي فيه، فلم يجدا هناك أية سفينة، وعلما بأن هياج البحر بسبب النوء الشديد اضطر السفن إلى الابتعاد إلى عرض البحر خوفًا من الغرق في الميناء، ولاسيما أن سفنًا كثيرة تحطمت وغرقت فيه منذ أيام، وسألا: متى يُنتظر أن يهدأ البحر وتعود سفن الأسطول إلى الميناء، فقيل لهما: «إن هذا لا يُنتظر قبل يومين.» فعادا إلى الفندق آسفَين وأمضيا يومهما في تفقد المدينة. وفي صباح اليوم التالي رأى عماد الدين أن يترك حسنًا في الفندق ريثما يمضي هو إلى الميناء للسؤال عن الأسطول، وفيما هو واقف هناك يتطلع إلى سفن الأسطول الراسية في عرض البحر، وهو يرتدي الملابس السورية المؤلفة من القباء (القفطان) الحريري وفوقه الجبة، وعلى رأسه الكوفية والعقال، وفي يده غليون طويل يدخن فيه التبغ، دنا منه بحار من الإسكندرية يرتدي السروال الفضفاض المشدود على الساقين، وعلى رأسه عمامة أرسل طرفها على قفاه، وسأله قائلًا: «أراك تكثر من التطلع إلى سفن المسكوف، فهل يهمك الوصول إليها؟» فقال عماد الدين: «إن معي رسالة أريد تسليمها إلى أميرال الأسطول.» قال: «وممن هذه الرسالة؟» فقال: «من علي بك الكبير.» فبُغت البحار، وتأدب في وقفته بعد أن كان يكلم عماد الدين ويداه خلف ظهره وغليونه في فمه، وقال له: «إذا كان إبلاغ الرسالة لا يحتمل التأجيل إلى غد فإني على استعداد لإبلاغها الآن!» فعجب عماد الدين وقال: «وكيف تستطيع ذلك والبحر ما زال هائجًا كما ترى!» قال: «إن أمواج البحر تعرفني وتعرف قاربي، فلست أخافها مهما تكن غاضبة ثائرة، ولكني لا أذهب في هذه المهمة إلا إذا نقدتني عليها كيسًا كاملًا (خمسمائة قرش)!» فضحك عماد الدين وقال: «كيس كامل؟ هل حسبت أنني علي بك نفسه حتى أستطيع دفع هذا الأجر؟!» قال هذا وغادر الميناء عائدًا إلى الفندق مؤثرًا الانتظار حتى اليوم التالي، ودخل الغرفة التي ترك حسنًا فيها فلم يجده هناك، وعلم أنه خرج منذ قليل، فقال في نفسه: «لعله استبطأ عودتي فخرج ليروِّح عن نفسه عناء الانتظار بالتنزه على شاطئ البحر.» ولبث ينتظره في الفندق حتى حان موعد الغداء دون أن يرجع، فأوجس خيفة عليه؛ لعلمه بحكايته وبأنه لا يعرف أحدًا في المدينة، وخرج يبحث عنه هنا وهناك، فلما لم يجده بعد ساعات من البحث، عاد إلى الفندق لعله سبقه إليه من طريق آخر، فعلم أنه لم يأتِ إليه بعدُ، وخاطب في شأنه صاحب الفندق فقال له هذا: «لا خوف عليه إلا أن يكون قد سار إلى جهة قلعة رأس التين؛ لأن فيها بعض الجنود المماليك والإنكشارية وهم لا يتورعون عن إنزال الأذى بأي إنسان، بل لا يتورعون عن القتل إذا كان لهم من ورائه نفع بسيط!» ••• انتظر عماد الدين في الفندق على نار حتى صباح اليوم التالي، ثم خرج من الفندق قاصدًا إلى الجمارك لمقابلة مديرها وطلب مساعدته في البحث عن حسن. وكان صاحب الفندق هو الذي أشار عليه بذلك؛ لأن مدير الجمارك يومئذٍ شامي مثله واسمه أنطون فرعون، ولا يقل نفوذه عن نفوذ أعظم الأمراء، ولاسيما أنه — فضلًا عن كبر منصبه — ذو ثروة طائلة، وقصره الفخم الجميل على الشاطئ لا يخلو من الحفلات التي يدعو إليها الكبراء من الأجانب والوطنيين. فلما وصل إلى إدارة الجمارك، علم أن المدير لم يحضر بعدُ، فوقف ينتظر قدومه هناك، وبعد ساعة رأى موظفي الإدارة وعمالها في هرج ومرج، ثم اصطف أكثرهم عند مدخلها ووقفوا متأدبين، فعلم أن المدير قادم، وانتظم في جملة المستقبلين. وما لبث المدير أن أقبل في زي فخم تحفه الهيبة والأبهة والوقار، فهمَّ كبار الموظفين بتقبيل يده، ففعل عماد الدين مثلهم، ثم تبعه حتى بلغ حجرته الخاصة وهمَّ بدخولها، فناداه عماد الدين بلهجته الشامية قائلًا: «سيدي المدير.» فالتفت إليه وسأله «ما حاجتك؟» فقال: «أرجو أن يتنازل السيد بدقيقة أروي له فيها ما دفعني إلى المجيء هنا.» فأشار إليه بأن يتبعه إلى الحجرة، وإذن له في الجلوس وطلب له قهوة، ثم لم يكد يسمع حكايته عن فقد زميله وخوفه أن يكون الإنكشارية قد نالوه بسوء، حتى طمأنه وقال له: «هذه مسألة بسيطة، وسأرسل الآن نائبي إلى قلعة رأس التين، فإذا كان الجنود الذين فيها قد اعتقلوا صاحبك طمعًا في ماله أو في أن يفتديه أهله بالمال، أخرجه النائب من السجن وجاءنا به معززًا مكرمًا.» فوقف عماد الدين وقبَّل يد المدير قائلًا: «جزاك الله أحسن الجزاء، وهكذا المروءة والشهامة.» فقال: «هذا أقل ما يجب.» ثم صفَّق، فلما جاء الحاجب أمره بأن يبلغ النائب أمره بالذهاب إلى قلعة رأس التين، والسؤال عن شاب اسمه حسن يظن أن الجنود اعتقلوه هناك، فإذا وجده أبلغ الأغا رئيس الجنود أنه من أتباعه، وجاء به. فحنى الحاجب رأسه سمعًا وطاعة وانصرف. والتفت المدير إلى عماد الدين وسأله: «كيف حال الشام الآن؟ وهل الشيخ ضاهر الزيداني ما زال حاكمًا في عكا؟» قال: «نعم يا سيدي، وهو الآن بسبيل الاستيلاء على بلاد الشام كلها؟» فهز المدير رأسه عجبًا وقال: «ما شاء الله! الشيخ ضاهر يحكم بلاد الشام كلها؟ هل تعرف تاريخه جيدًا؟» فقال عماد الدين: «سيادتكم أدرى.» قال: «لقد أخبرني أبي بأنه عرفه منذ كان غلامًا يعيش مع أبيه الشيخ عمر الزيداني وقبيلته البدوية في جهة بحيرة طبرية، ولما تُوفي أبوه آلت إليه رياسة القبيلة، وحاربه أولاد العظم حكام دمشق لما رأوه يحاول توسيع سلطانه، لكنهم لم يستطيعوا قهره، وأخذ في التجارة مستعينًا بأعوانه الكثيرين من البدو، فجمع ثروة كبيرة، وما لبث أن استولى على عكا وانتزعها بلا حرب سنة ١٧٤٩ من يد الأغا الذي كان يحكمها باسم والي صيدا، ثم حصنها وبنى له شمالها قصرًا أشبه بالحصن، ولم تجد الدولة العلية بعد ذلك بدًّا من منحه سنة ١٧٦٨ لقب «شيخ عكا وأمير أمراء طائفة المتاولة وقومندان الناصرة وطبرية وصفد وشيخ الجليل»، ولم أعد أسمع عنه شيئًا منذ ذلك الحين.» فقال عماد الدين: «إنه فتح مدينة صيدا، وأقام عليها واليًا اسمه «الدنكزلي». ولما نشبت الحرب بين الدولة العلية وروسيا انحاز إلى الروسيين متحدًا في ذلك مع علي بك هنا في مصر، ولا يخفى عليكم أن الأسطول الروسي في ميناء الإسكندرية الآن. ولست أخفي عليكم أني جئت من عكا برسالة من الشيخ ضاهر إلى علي بك، وقد كلفني هذا حين قابلته في القاهرة منذ أيام حمل رسالة منه إلى أميرال الأسطول الروسي هنا.» فقال المدير: «يلوح لي من هيئتك ولهجتك في الحديث أنك من الدروز اللبنانيين، فما الذي أدخلك خدمة الشيخ ضاهر؟» قال: «إن أسرتي ملت كثرة المنازعات بين الأمراء الشهابيين حكام لبنان، فانضمت كغيرها إلى الشيخ ضاهر.» وما زالا في مثل هذا الحديث حتى عاد النائب ومعه حسن، فنهض عماد الدين وقبَّل يد المدير، وكذلك فعل حسن، ثم استأذنا في الانصراف شاكرين، فأذن لهما وانصرفا. ••• سار حسن مع عماد الدين إلى الفندق، وقصَّ حسن في الطريق قصة اعتقال المماليك إياه، ذاكرًا أنهم استولوا على كل ما كان يحمله من النقود وطمعوا في المزيد، فسألوه عن أهله ليرسلوا إليهم لكي يفتدوه من السجن، فلما أخبرهم بألا أهل له في الإسكندرية ولا في غيرها من الديار المصرية لم يصدقوه، وأبقوه في السجن حتى يرشد عن أهله وهددوه بالقتل إن لم يفعل. فلبث في السجن خائفًا يترقب حتى جاء نائب مدير الجمارك وخاطب الأغا في شأنه فأفرج عنه في الحال. وباتا ليلتهما في الفندق، ثم سارا إلى الميناء في الصباح فوجدا السفن الروسية قد عادت إليه، فاكترى عماد الدين قاربًا أوصله إلى سفينة الأميرال حيث سلمه رسالة علي بك، ثم عاد إلى حسن وأخذا في البحث عن سفينة ذاهبة إلى السواحل السورية إلى أن وجدا سفينة تجارية كبيرة تعتزم الذهاب في الغد إلى بيروت رأسًا، فحجزا لهما مكانًا فيها، على أن يقطعا المسافة القريبة من بيروت إلى عكا برًّا، ثم عادا إلى الفندق فأعدَّا أمتعتهما للسفر، وما أشرقت شمس اليوم التالي حتى كانا في السفينة وهي تمخر عباب البحر ناشرة أشرعتها، ومرت قبل مغادرتها المياه المصرية بميناء دمياط فحملت منه مقادير كبيرة من الأرز، ثم استأنفت رحلتها قاصدة إلى بيروت فأشرفت عليها بعد بضعة أيام.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/10/
في جبل لبنان
أُعجب حسن حين أشرفت السفينة على بيروت بسلسلة جبال لبنان الشامخة المكسوة بالثلوج والأشجار، ولاحظ أن مدينة بيروت تحيط بها تلال مرتفعة عنها، فقال لعماد الدين: «إن هذه التلال المرتفعة خطر على المدينة؛ إذ يستفيد بها العدو الذي يغزوها برًّا ويتسلط عليها بسهولة.» فقال عماد الدين: «صدقت يا أخي، ولكن المدينة بها — عدا القلاع البحرية، كقلعة الميناء الداخلة في البحر، وقلعة الخارجية، وقلعة شويخ — برج هائل شرقيها، هو الذي يبدو أعلى أبراجها جميعًا، ويُقال له «برج الكشاف»، وهو يشرف على كل الجهات، وبجانبه برج آخر صغير ليست له أهمية كبيرة، كما أن بها من الغرب برجين كبيرين هما: برج أم دبوس، وبرج طاقة القصر. وكان للمدينة فيما مضى سور تهدَّم بمضي الزمن، لكن أبوابه ما زالت سليمة وفيها مراكز دفاعية لا بأس بها.» ولمح حسن غربي المدينة تلًّا مرتفعًا داخلًا في البحر وعليه الأشجار والزروع، ووراءه سهل ممتد من الرمال، فلما سأل عنه عماد الدين أجابه هذا بقوله: «هذا رأس بيروت، وهو يمتد إلى مدينة صيدا.» ثم أشار إلى تل في الجهة الشرقية وقال له: «هذا تل الأشرفية، وهو أكثر أغراسًا، وليس وراءه إلا الجبل كما ترى.» فأشار حسن إلى أبراج متفرقة بين البساتين والغياض على رأس بيروت وتل الأشرفية وقال: «أليست هذه الأبراج للدفاع أيضًا؟» فقال عماد الدين: «إنها أبراج، لكنها للسكنى وليست للدفاع، وقد بناها بعض الأمراء والأعيان في عهود متفرقة ليسكنوها في فصل الشتاء، وقلما يسكنها غير القادرين لوقوعها خارج المدينة وتعرضها للغزو وسطو اللصوص وقاطعي الطريق.» وكانت السفينة قد ألقت مراسيها، فغادراها إلى المدينة حيث طافا ببعض أسواقها الضيقة، وأُعجب حسن برصف شوارعها ونظافتها. وبعد أن وضعا أمتعتهما في فندق قرب سوق الحدادين، أخذ عماد الدين حسنًا وأراه قيسارية الأمير حاكم لبنان السابق وغيرها من القيساريات. فقال حسن: «هل الشيخ ضاهر هو حاكم بيروت الآن؟» فقال عماد الدين: «لا، بل هي تابعة للأمير يوسف شهاب الدين، ومثلها طرابلس وصيدا وصور، على أن الأمير يوسف والشيخ ضاهر متفقان في الخفاء على محالفة الروسيين. ومما يُذكر أن والي المدينة الذي يحكمها باسم الأمير يوسف الآن هو أحمد بك الجزار الذي كان فيما مضى من أمراء علي بك في مصر، ثم وقع بينهما نفور، ففرَّ إلى الآستانة خوفًا على حياته من علي بك، ثم جاء إلى هذه البلاد فرتَّب له الأمير منصور نفقة من جمرك بيروت، وبقي كذلك حتى جاء الأسطول الروسي الذي رأيناه في الإسكندرية فخرَّب المدينة وهدم أسوارها، ونهب جنوده متاجرها ومنازلها بتحريض من الشيخ ضاهر؛ طمعًا في إخضاع الأمراء الشهابيين لسلطانه أيضًا، وظلوا يحاصرونها حتى بعث الأمير منصور إلى الشيخ ضاهر يوسِّطه لدى الروسيين في فك الحصار عنها في مقابل أن يدفع لهم مبلغًا كبيرًا من المال، فتم الصلح بينهم على ذلك، ثم جاء الأمير يوسف فولَّى الجزار على بيروت، وأحسب أن هذا لا يلبث قليلًا حتى يخرج عليه؛ فقد تركته حين سافرت من عكا والأمير متغير عليه؛ لما بلغه من أنه يبني الحصون ويُعِدُّ معدات الدفاع في المدينة، ويسخِّر الناس في تلك الأعمال.» فقال حسن: «أسأل الله ألا تنشب الحرب بينهما ونحن هنا، ويا حبذا لو نعجل بالرحيل إلى عكا؛ لتفادي الأخطار؛ ولكي أبحث عن أبي هناك.» فوافقه عماد الدين على ذلك، ثم انطلقا عائدين إلى الفندق. وفي الطريق تفرَّج حسن على الغياض المحدقة بالمدينة من الجنوب، وفيها أغراس التين والمشمش واللوز وغيرها، وعلى باب الدركاه، وبرج الكشاف، وباب المصلَّى المؤدي إلى قصر الحكومة؛ حيث يقيم أحمد بك الجزار. فلما اقتربا من القصر قال عماد الدين: «يحسن أن نعجل بالابتعاد عن هذه المنطقة؛ فإن الجزار قد يأمر بقتلنا لأدنى شبهة تخالجه في أمرنا، وقد أسرف في سفك الدماء حتى صار له من اسمه أكبر نصيب، وتُروى عنه في ذلك أحاديث تقشعر لها جلود الأسود، أذكر منها أنه داعب إحدى سراريه مرة بقطع أذنها بخنجره! وما أحسبه إن علم بأني من رجال الشيخ ضاهر إلا معجلًا بالفتك بي.» ثم جدَّا في السير حتى وصلا إلى الخان ودخلا غرفتهما؛ حيث أخذا يُعدَّان أمتعتهما للرحيل، وبعد أن استراحا قليلًا قال عماد الدين: «سأذهب إلى صاحب الفندق لأخبره باعتزامنا السفر، وأستعين به على اكتراء جملين نركبهما إلى عكا.» فقال حسن: «حسنًا تفعل، وأسأل الله التوفيق.» وطال انتظار حسن رجوع عماد الدين من هذه المهمة، فقلق وغادر الغرفة قاصدًا إلى غرفة صاحب الفندق ليبحث عن عماد الدين هناك، فوجدهما جالسين على دكة فيها يتهامسان، وما وقع نظر عماد الدين عليه حتى ناداه وأشركه معهما في الحديث، فإذا بصاحب الفندق يقول: «ما أظن أن الخروج من المدينة ممكن في هذه الأيام، فالأحوال مضطربة، والأمير يوسف في طريقه إلينا على رأس حملة قوية من جنوده لتأديب أحمد بك الجزار، وقد أمر هذا بإغلاق أبواب المدينة ومنع الدخول إليها والخروج منها.» فبُغت حسن، وانقبضت نفسه، وبدت على محياه علائم التذمر والاستياء، فقال له صاحب الفندق: «لا تتذمر يا بني، واحمد الله على أنكما لم تحاولا الخروج من المدينة قبل علمكما بهذا النبأ الخطير.» ثم ناوله غليونه وفيه تبغ مشتعل، وقال له: «إن الأمر لله يفعل ما يشاء، وهذه الدنيا لا يدوم فيها حال، وقد مضى عليَّ أربعون سنة أعمل في هذا الفندق، ومر عليَّ كثير من الأهوال التي يشيب لها الولدان، فكم غزا اللبنانيون وأهل البلاد المجاورة هذه المدينة من البَر! وكم سطا عليها القرصان والجنود الأجانب من البحر! وما أكثر الحكام الذين استبدوا في حكم أهلها من مسلمين ونصارى! وقد تولى حكمها مرة رجل نصراني يُقال له «أبو عسكر الجبيلي»، فعاث فيها الفساد وأسرف في القتل والتعذيب والإرهاب، وغرَّه شيطان الظلم والقوة، فظن أن لن يقدر عليه أحد، وأمعن في طغيانه وتجبره، فقاسينا منه الأمرين، وأصابني من اضطهاده وعنته بلاء كثير، ثم ذهب كما ذهب قبله وبعده كثيرون من أمثاله، وسبحان من له الدوام!» فقال حسن: «وما ظنك بمسألة الجزار هذه؟ هل يطول أمرها؟» قال: «إن نبأ قدوم الأمير يوسف وجيشه لم يصل إلى المدينة إلا منذ ساعات، وقد علمت به قبل أن يعلم به الجزار نفسه؛ إذ سمعته من الرسول الذي حمله عند مروره بالفندق في طريقه إلى قصر الحكومة، وعما قريب نرى ما يكون من شأن الفريقين.» ••• في صباح اليوم التالي، استيقظ حسن وعماد الدين على ضجة كبيرة في الفندق وخارجه، فنهضا مذعورَين وهما يحسبان أن الحرب نشبت بين الأمير يوسف والجزار، ولكنهما ما لبثا قليلًا حتى تبيَّنا من أصوات المنادين في الطرقات أن الأمر انتهى بالمصالحة، وأن الجزار خارج في موكبه لمقابلة الأمير يوسف في السهل الرملي المعروف باسم «المصطبة» وكتابة عهد الصلح، فقال حسن: «الحمد لله الذي كشف عنا الضر.» ثم التفت إلى عماد الدين وقال: «ألا ترى أن نخرج لمشاهدة مجلس الصلح؟» فقال عماد الدين: «إنني طوع إرادتك، ولكننا تأخرنا عن الوصول إلى عكا كثيرًا، فلنذهب إلى صاحب الفندق لعله يستطيع أن يكتري لنا جوادين نركبهما في رحلتنا، ثم نعجِّل بالرحيل، فأبوك لا بد قد سئم طول الانتظار في عكا، كما أني لا آمن أن يغضب عليَّ الشيخ ضاهر.» فقال حسن: «لقد نطقت الصواب، فهيا بنا إلى صاحب الفندق.» ولما بحثا عن صاحب الفندق علما أنه ذهب إلى المصطبة لمشاهدة الصلح، فاستقر رأيهما على اللحاق به ومباحثته في أمر اكتراء الجوادين هناك. وفيما هما سائران بالقرب من قصر الحكومة، سمعا ضجة صادرة من جهته، وشهدا كثيرين من الأهلين يَعدُون في طريقهم إليه، فأدركا أن الجزار خارج في موكبه، ووقفا حتى مر الموكب بجماعة من الجنود المغاربة يتقدمونه لإفساح الطريق، ويعقبهم كوكبة من الفرسان، يتوسطهم الجزار على جواد أصيل سرجه من الديباج المذهب، وهو يلبس سراويل فضفاضة من الجوخ السميك، وعلى كتفيه الجبة، وعلى رأسه القاووق المملوكي الطويل تحت العمامة، وفي مَنطِقته خنجر، وإلى جانبه سيف معقوف، وفي يده مذبة من شعر الخيل مقبضها من العاج، ومن خلف هؤلاء الفرسان فرقة صغيرة من الجنود الأتراك المشاة، ومعهم الطبول والأبواق. فلما مر الموكب تبعه عماد الدين وحسن حتى جاوز المدينة وساحة السور ووصل إلى المصطبة، وهي أرض رملية بها بعض الأشجار من الصنوبر والصبير، وفيها أُقيمت خيمة الأمير يوسف تحيط بها خيام الحاشية والجنود. وترجل الجزار حينما اقترب من خيمة الأمير، ومشى مسرعًا حتى دخلها، وحيا الأمير في أدب واحترام، ثم همَّ بيده فقبَّلها، وكان هذا جالسًا على وسادة في صدر الخيمة، وهو يرتدي الجبة والقباء وعلى رأسه العمامة، فلما رأى الجزار جاءه معظِّمًا مستعطفًا، خفَّت حدة غضبه عليه وقال له: «لماذا لم تكفَّ عن ترميم الحصون؟» فقال: «حاش لله أن أخالف أمر الأمير، ولكن البنائين كانوا قد أوشكوا أن ينتهوا من ذلك قبل وصول الأوامر.» فقال الأمير يوسف: «على كل حال، أريد أن يقف كل عمل من هذا القبيل، وأن تخلي المدينة.» فقال الجزار: «سمعًا وطاعة، وأرجو أن يتفضل الأمير بإمهالنا بضعة أيام للقيام بما يريد.» قال: «إننا نمهلك أربعين يومًا، على أن تتم خلالها إخلاء المدينة والخروج منها.» فحنى الجزار رأسه موافقًا، ثم مال على يد الأمير فقبَّلها، وغادر الخيمة متأدبًا، ثم عاد بموكبه إلى القصر. ولما عاد عماد الدين وحسن إلى الفندق، اجتمعا بصاحبه، وطلبا إليه أن يعاونهما على اكتراء دابتين تحملانهما إلى عكا، فوعدهما بذلك، لكنه لم يستطع تحقيق مطلبهما إلا بعد يومين؛ إذ وجد مكاريًا لديه جوادان، واستطاع أن يقنعه بحمل حسن وعماد الدين عليهما إلى عكا لقاء أجر كبير. ••• ودَّع حسن وعماد الدين صاحبَ الفندق، وسارا يقصدان الخروج من باب الدركاه، والمكاري خلفهما ومعه الجوادان يحملان أمتعتهما، فلما اقتربا من الباب وجداه مغلقًا، وسألا البواب عما دعا إلى إغلاقه فقال لهما: «لا أدري، ولكن الأمر صدر بذلك من مولانا الوالي.» فوقفا مبهوتَين، ثم سألا البواب: «هل أبواب المدينة كلها أُغلقت؟» فقال: «نعم.» ثم حانت من عماد الدين التفاتة إلى يمين الباب فوجد العمال عاكفين على ترميم السور، فقال لحسن: «إن الجزار يستعد للدفاع، وما أحسبه إلا قد اعتزم البقاء في المدينة.» فقال حسن: «علينا إذن أن نحتال للخروج منها قبل أن تنشب الحرب بينه وبين الأمير، فكيف نستطيع ذلك؟» فأخذ عماد الدين بيد حسن، وانتحى به ناحية وأسرَّ إليه قائلًا: «لا حيلة لنا في الخروج بالجوادين والأمتعة، والرأي عندي أن نكتفي بما خفَّ حمله، ومتى صرنا خارج المدينة دبَّرنا وسيلة للركوب.» فقال: «لكن كيف نخرج من المدينة؟» فأشار إلى بناء كبير بالقرب من باب يعقوب وقال له: «إن هذا البناء دير لجماعة من القسس يُقال لهم المرسلون الكبوشيون، والسور وراء الدير مباشرة، فإذا نحن دخلنا الدير وقصصنا على رئيسه قصتنا فقد يسمح لنا باجتياز السور من هناك.» قال: «افعل ما تريد، فإني لا أخالفك في شيء.» فعادا إلى المكاري، وطلبا إليه أن يعود بالأمتعة إلى الفندق ويسلمها لصاحبه، ونفحاه ببعض المال فعاد لتحقيق طلبهما شاكرًا، ومضيا هما إلى الدير عبر الزقاق الضيق الذي يؤدي إليه، فلما بلغا بابه طرقاه، فأطل أحد الرهبان برأسه من فتحة فوق الباب وسأل: «مَن الطارق؟» فقال عماد الدين: «غريبان من المساكين يريدان الالتجاء إليكم.» فغاب الراهب قليلًا ريثما استأذن رئيس الدير، ثم عاد وفتح الباب ودعاهما إلى الدخول، ثم أغلقه كما كان وقادهما إلى حجرة وجدا فيها قسيسًا يرتدي قباء من الجوخ شُد وسطه فوقه بحبل، وعلى رأسه «طاقية» صغيرة سوداء مستديرة، وفي قدميه نعل شُدت أصابعهما إليها بسيور من الجلد. فهمَّ عماد الدين بيد القس فقبَّلها بأدب واحترام وهو يقول: «أسعد الله صباحك يا حضرة البادري.» وكان هذا هو اللقب الذي يُطلق على رهبان تلك الطائفة. فرد البادري تحيته بمثلها، بلغة عربية سقيمة، وأشار إليهما بالجلوس على وسادتين في الحجرة فجلسا وهو يفحصهما بنظراته؛ مخافة أن يكونا قد جاءا بدسيسة من الجزار. وقبل أن يسألهما عما دعاهما إلى الالتجاء إلى الدير، قال عماد الدين: «جئنا لنتضرع إليك؛ كي تنقذنا من هلاك محقق، فنحن غريبان جئنا من عكا، وأردنا الرجوع إليها فوجدنا أبواب المدينة مغلقة بأمر واليها، وفي تأخرنا عن العودة إلى بلدتنا خطر كبير علينا وعلى أهلنا فيها، فضلًا عن خطر بقائنا في هذه المدينة.» فقال البادري: «وماذا نستطيع أن نصنع، والوالي لا يمكن أن يقبل فتح الأبواب ما دام قد أمر بإغلاقها؟» فأخذ عماد الدين يشرح له المساعدة التي يطلبانها محاولًا اجتذاب قلبه بما عُهد فيه من اللباقة والإجلال والتعظيم، فتأثَّر البادري بتوسلاته وقال له: «لا بأس، سأدخلكما إحدى الغرف المطلة على خارج السور، لتنجوا من نافذتها حينما ينتصف الليل ويسود الظلام.» فقبَّلا يده شاكرين، وظلا يسامرانه بالأحاديث بعض الوقت، ثم مضيا إلى الغرفة التي اختارها لهما فدخلا وأغلقا عليهما الباب بعد أن زودهما البادري ببعض الطعام والشراب، ولبثا ينتظران حتى ينقضي النهار ويسود الظلام؛ ليفرا إلى خارج السور.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/11/
حصار بيروت
انتظر عماد الدين وحسن في غرفة الدير حتى انتصف الليل، ثم نهضا فقفزا من نافذتها إلى سطح سور المدينة، ولم يكن بينه وبينها أكثر من متر، فلما استقرَّا فوقه بقيا حينًا لا يتحركان، وقد أرهفا السمع وراحا يتأملان السهل الممتد خارج السور في ضوء النجوم، فلما أطمأنا إلى أن ليس هناك مَن يشعر بهما، همس عماد الدين في أذن حسن قائلًا: «إن السور مرتفع عن الأرض كثيرًا، وفي الوثوب من هنا خطر كبير.» فخفق قلب حسن جزعًا وسكت حائرًا، على أن عماد الدين سرعان ما عمد إلى كوفيته فنزعها عن رأسه وكتفيه، كما نزع مَنطِقته وطلب إلى حسن أن ينزع عمامته ففعل وناوله إياها، فوصل بعضها ببعض بحيث صارت حبلًا طويلًا، ربط أحد طرفيه بمَنطِقة حسن، ثم طلب إليه أن يدلي نفسه من فوق السور إلى الأرض خارجه، بينما أمسك هو ببقية الحبل وأخذ يرخيه قليلًا قليلًا حتى وصلت قدما حسن إلى الأرض في الوقت الذي أفلتت يد عماد الدين الطرف الآخر من الحبل، فبُغت وجزع؛ لأنه كان يعتزم بعد ذلك أن يثبت ذلك الطرف بأعلى السور ثم يتدلى ممسكًا بالحبل حتى يصل هو الآخر إلى الأرض. على أنه حمد الله على وصول صديقه إلى الأرض بسلام، ولم يشأ أن يضيِّع الوقت في التردد والتفكير، فأخذ يزحف فوق السور وهو يتطلع إلى الأرض حتى وصل إلى موضع رأى الأرض أقرب إليه لارتفاعها نسبيًّا، فأمسك بصخرة ناتئة في السور، مدليًا جسمه نحو تلك الأكمة المرتفعة، ثم أفلت الصخرة تاركًا جسمه يسقط عموديًا فوق الأكمة، فأحدث ارتطامه بها صوتًا مدويًا أيقظ الحراس النائمين بباب يعقوب، فخفوا إلى مصدر الصوت ليروا ما هناك، وسرعان ما انقضوا عليه كالذئاب، وحملوه إلى داخل السور وهو يئن من الألم؛ إذ كانت السقطة قوية لم تتحملها ساقه التي كُسرت من قبل في المعركة التي دارت بينه وبين قاطعي الطريق، وما وصلوا به إلى مقرهم خلف الباب حتى كان قد وقع في إغماء عميق، فأخذوا يرشون وجهه بالماء حتى أفاق، وراح يصرخ من فرط الألم لكسر ساقه، لكنه أدرك وهو يجيل نظره بينهم أنهم لم يشعروا بهرب حسن، فكان هذا أكبر عزاء له، وما زال يستنجدهم ويستثير شفقتهم حتى رثوا لحاله ورضوا أن يبعثوا بأحدهم في طلب طبيب لتضميد جروحه وتجبير ساقه المكسورة. وكان البادري رئيس الدير قد شعر هو ووكيله بالضجة التي حدثت عند باب يعقوب، فأدركا أن الضيفين اللذين هربا إلى خارج السور من الدير وقعا في أيدي الحراس، وفيما هما يتداولان في ذلك، سمعا طرقًا على الباب ثم جاءهما البواب وأخبرهما أن أحد الحراس يطلب طبيب الدير لإسعاف رجل وقع على الأرض من فوق السور فانكسرت رجله، فنهض الوكيل ومضى إلى الباب فأطل من الكوة التي فوقه على الحارس المنتظر وسأله متجاهلًا: «لمن تريدون طبيب الدير؟» فقال الحارس: «نريده لإسعاف رجل قبضنا عليه خارج السور بعد أن سقط من فوقه وهو يحاول الخروج من المدينة.» فأدرك الوكيل أنهم لم يقبضوا إلا على أحد الضيفين، وأراد أن يحتال لإنقاذه، ولإنقاذ الدير في الوقت نفسه من غضب الجزار، فقال للحارس: «إن هذا الخائن الذي قبضتم عليه لا يستحق الشفقة، فهو من خدم الدير الذين نرسلهم لابتياع المؤن من لبنان، وكان الرئيس قد غضب عليه لخيانته وحبسه في غرفة بأعلى الدير، فحاول الفرار من النافذة، لكنه وقع في شر أعماله.» فجازت حيلة الوكيل على الحارس واعتقد أن المصاب المقبوض عليه من خدم الدير، فقال: «على كل حال، إنه الآن يئن من فرط الألم؛ إذ كُسرت ساقه، ولا بأس بأن يسعفه طبيب الدير، ثم نبعث به في الصباح إلى مقر الوالي فيلقى جزاءه كما يريد رئيس الدير.» فقال الوكيل: «إذا لم يكن بدٌّ من تطبيبه، قيامًا بواجب الإنسانية، فالأفضل أن نعيده إلى الدير، وسأستأذن الرئيس في ذلك، فإذا قبل لحقت بك لإحضار ذلك الخائن المصاب.» ثم أغلق الكوة وعاد إلى رئيس الدير، فأخبره بالحيلة التي عمد إليها؛ إنقاذًا لذلك الغريب المسكين؛ ولإبعاد الشبهات عن الدير، فاغتبط الرئيس بذلك وقال: «لقد حاولنا إنقاذه أولًا حبًّا في عمل الخير، ولا شك أن إنقاذه الآن أوجب لأنه جريح.» وكان الحارس قد عاد إلى زملائه، وأنبأهم بما علمه من أن المصاب كان محبوسًا في الدير لخيانة ارتكبها فيه، ثم جاءهم وكيل الدير بعد قليل، وأكدَّ لهم صحة تلك الرواية، ثم طلب منهم معاونته على حمل المصاب وإعادته إلى الدير، فقال الجاويش رئيس الحراس: «لكننا لا بد لنا من تبليغ أمره إلى حضرة الوالي؛ لأننا اعتقلناه خارج السور بعد صدور الأمر بعدم الخروج من المدينة أو دخولها.» فقال وكيل الدير: «إننا أشد رغبة منكم في الانتقام من هذا الخائن، وسنتولى إبلاغ الأمر إلى الوالي فيما بعد.» وما زال يحاورهم ويموِّه عليهم حتى أقنعهم بإعادة المصاب إلى الدير، فتعاون بعضهم على حمله، ومضوا به والوكيل معهم حتى أدخلوه الدير وأرقدوه على وسادة في إحدى الغرف ثم انصرفوا. وخشي وكيل الدير أن يبلغوا الأمر إلى الجزار، فعاد إلى جاويشهم وانتحى به ناحية، ثم شكره على همته ويقظته، ومد إليه يده بصرة من النقود قائلًا: «إن رئيس الدير بعث بهذا إليك تقديرًا لشهامتك، ويرجو أن تقبله بركة منه.» فتناول الجاويش الصرة ووجهه يفيض بالغبطة والابتهاج، وصافحه الوكيل مودعًا وهو يقول: «وقد طلب مني الرئيس أن أبلغك رجاءه ألا يبلغ أمر ذلك الخادم الخائن إلى جناب الوالي؛ لأنه يرغب في محاكمته بحسب قوانين الدير.» فقال الجاويش: «حسنًا، ليكن جناب الرئيس مطمئنًا، فسأحقق طلبه هذا إكرامًا لإنسانيته.» فعاد الوكيل إلى الدير مغتبطًا بنجاح مسعاه، ولم يكن رئيس الدير بأقل منه اغتباطًا بذلك، ثم أشرفا على علاج عماد الدين من جروحه وكسر ساقه، وأعدَّا غرفة لإقامته بالدير حتى يتم شفاؤه. ••• كان حسن بعد أن وصل إلى الأرض خارج سور المدينة، قد شعر بإفلات الحبل الذي تدلى بوساطته من عماد الدين، فوقع في حيرة، ولم يدرِ ماذا يفعل، ثم لاح له أن يربط حجرًا بأحد طرفي الحبل ويقذف به إلى عماد الدين فوق السور، ولكنه لم يستطع أن يرفع صوته لينبئه بهذه الفكرة مخافة أن يسمعه الحراس. وفيما هو في حيرته هذه، رأى عماد الدين في ضوء النجوم قد دلَّى جسمه محاولًا الهبوط من فوق السور، ثم سمع صوت اصطدامه بالأرض وصرخته متألمًا، فخفَّ إلى مكانه لنجدته، لكنه ما لبث أن سمع ضجة الحراس وهم يفتحون الباب، وأيقن بأن عماد الدين لن يفيده شيئًا أن يبقى بجانبه حتى يُقبض عليهما معًا، فاستقر رأيه على النجاة بنفسه من أيدي الحراس، وابتعد مسرعًا من ذلك المكان، وهو لا يدري أين يتوجه، ولا يكاد يتبين الطريق. وما زال مجدًّا في سيره حتى نال منه التعب والخوف بعد حوالي نصف ساعة، فوقف ليستريح، وأخذ يتفرس فيما حوله فوجد أنه في أرض رملية مرتفعة، وقمم جبال لبنان الشامخة تبدو إلى الشرق، تتخللها أضواء متفرقة كأنها فصوص من الماس أو نجوم ترصع الفضاء، ثم رأى القمر بازغًا في ربعه الأخير فاستأنس بضوئه، ولبث في جلسته قليلًا حتى ارتفع القمر في الأفق، فأدرك على ضوئه أنه بالقرب من المصطبة التي حدثت فيها المقابلة بين الأمير يوسف والجزار، وذكرته الأكمة التي جلس عليها بالليلة التي التقى فيها بعماد الدين قرب الصالحية فساوره القلق عليه وهاجت أحزانه ولم يتمالك عن البكاء. وبعد قليل، تجلَّد ونهض فولَّى وجهه شطر الأضواء المنبعثة من المنازل والمغارات القائمة فوق الجبال الشاهقة الممتدة أمامه، وما زال سائرًا في تلك السهول الرملية حتى صادف تلًّا مرتفعًا فصعد إلى قمته وتفرس فيما حواليه، فرأى نورًا يبدو قريبًا منه، فهبط من التل واتجه إلى مصدر ذلك النور، فلم يبلغه إلا بعد ساعة، فأدرك أنه قرب من البحر؛ إذ سمع هديره، ثم تأمل البناء المنبعث منه ذلك النور، فإذا هو منعزل والسكون يخيم عليه، فدار حوله حتى وجد بابًا صغيرًا، فدنا منه وقرعه ويده ترتعش قلقًا وخوفًا، فسمع صوتًا من الداخل يقول: «مَن بالباب؟» فقال: «رجل غريب.» وبعد قليل، فتح الباب، وظهر خلفه شيخ عجوز في زي القسس وقال له: «مرحبًا بك.» ثم أدخله وأغلق الباب وتقدمه إلى غرفة صغيرة بها مصباح زيتي خافت الضوء، وليس فيها من الأثاث سوى حصير فوقه وسادة صغيرة، فترامى عليها متهالكًا من فرط التعب، وقال للقس: «عفوًا يا سيدي، فأنا في تعب لا مزيد عليه.» فقال القس: «لعلك في حاجة إلى الطعام.» فسكت عن الجواب، ولكن القس فهم أنه جائع، فغاب عنه قليلًا ثم عاد إليه ومعه ما تيسر من الطعام وقلة بها ماء، ثم انصرف وتركه وحده في الغرفة، فأكل وشرب وتمدد على الحصير، فما لبث أن أدركه النوم ولم يستيقظ إلا وقد طلع النهار. وعلم بعد ذلك أن البناء الذي أوى إليه هو مغارة النبي إيليا، وهي بمثابة كنيسة يؤمها كثير من النصارى اللبنانيين للصلاة والتبرك، والوفاء بالنذور.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/12/
فتح بيروت
تركنا السيد عبد الرحمن وقد اعتزم مغادرة القاهرة قاصدًا إلى عكا ومعه علي خادمه الخاص، للبحث عن حسن هناك. وكان قد عرف الطريق إليها من قبل، فقال لعلي: «إن الطريق لا يخلو من خطر ومشقة، ولكني أعرفها جيدًا منذ كنت أذهب إلى الشام للتجارة، وقد قطعتها في المرة الماضية بسلام عقب فراري من حملة الحجاز.» فقال علي: «إني رهن إشارتك وعلى استعداد لأن ألقي بنفسي في البحر أو النار فداء لك، فهيا بنا إلى هناك على بركة الله.» قال: «بورك فيك من صديق مخلص، وأرى أن نذهب إلى عكا متنكرَين، فأعود أنا إلى زي الطبيب المغربي الذي عُرفت به هناك، وتتنكر أنت في زي مساعد لي يحمل الجراب الذي به أدوات التنجيم والتنبؤ وضرب الرمل وما إليها؛ ولكي تقوم بمعاونتي حين أضطر إلى فتح المندل.» فقال: «لقد نطقت بالصواب يا سيدي.» ثم انطلقا حتى بلغا أول بلدة في الطريق وهي مدينة بلبيس، فابتاعا منها ما يحتاجان إليه من الملابس والأدوات لذلك التنكر، ثم اشتريا هجينين ركباهما إلى العريش، ومن هناك أخذا طريقهما إلى سوريا، فالتقيا بالحملة التي كان علي بك قد أرسلها بقيادة صهره محمد بك أبي الذهب لفتح غزة، ووجدا أن الحملة قد حاصرتها من جميع الجهات تمهيدًا لذلك الفتح. فقال السيد عبد الرحمن: «أرى أن نعدل إلى طريق آخر نصل منه إلى يافا، حتى نكون بمأمن من أن يكشف أمرنا أحد من رجال أبي الذهب.» فاستحسن علي هذا الرأي، وتحولا بهجينيهما إلى طريق آخر يؤدي إلى يافا، وما زالا في حل وترحال حتى بلغاها بسلام، فوجدا أهلها يستعدون للدفاع وهم في خوف من مجيء الحملة المصرية. وبعد أن استراحا قليلًا في يافا، واصلا رحلتهما إلى عكا، فأقاما بها أسبوعين، وهما يبحثان عن حسن في كل مكان يظنان أنه يقصد إليه، فلم يقفا له على أثر. وعلما وهما في عكا أن حاكمها الشيخ ضاهر الزيداني أرسل كثيرًا من الجند مزودين بالأسلحة والمؤن، وعلى رأسهم بعض أولاده لمساعدة الحملة المصرية في غزواتها، وفقًا للمعاهدة بينه وبين علي بك. فقال السيد عبد الرحمن: «لا أرى أن نبقى هنا بعد الآن؛ إذ لا فائدة من البقاء، وفيه علينا خطر، ولعل الأوفق أن نذهب إلى بيروت.» قال: «كما تريد.» ثم سارا من هناك قاصدَين إلى بيروت، ومرَّا ببلدتي صور وصيدا؛ حيث بحثا عن حسن فيهما أيضًا فلم يجداه، وما كادا يصلان إلى قرب بيروت حتى وجدا السفن الروسية قد ملأت ميناءها، وأخذت تطلق عليها مدافعها إجابة لطلب الشيخ ضاهر، وكان الأمير يوسف قد أرسل إليه يستنجده لإخراج الجزار من المدينة، واتفقا على الاستعانة بالأسطول الروسي الذي كان مرابطًا في قبرص حينذاك، في مقابل خمسة وعشرين ألف قرش، وجعل الأمير موسى ابن الأمير منصور شهاب رهنًا عند الأميرال الروسي حتى يدفع ذلك المبلغ. وكان الجزار قد أتم بناء السور المتهدم، وأحكم تحصين المدينة، فأخذ الأسطول الروسي يضربها من البحر حتى هدم جانبًا كبيرًا من السور والأبراج، ثم نزل جنوده وحاصروها من البر، ولكن الجزار صمد في دفاعه فبقي الحصار بضعة أشهر حتى مل الروسيون، وعادوا يضربون المدينة بمدافعهم من البحر. وفي ذلك الحين وصل السيد عبد الرحمن وخادمه إلى بيروت، فلما وجداها على هذه الحال، قال السيد عبد الرحمن: «ماذا نصنع الآن؟ وهل تظن أن حسنًا يمكن أن يكون داخل المدينة مع من فيها من المحصورين؟» فقال علي: «عِلم ذلك عند الله، وإذا كان سيدي حسن محصورًا فيها فإن الله قادر على أن يحفظه سالمًا.» فقال السيد عبد الرحمن: «إني عرفت أميرال الأسطول الروسي منذ جئت عكا للمرة الأولى، وأرى أن نذهب لمقابلته لعلنا نفيد من ذلك شيئًا.» قال: «هذا رأي حسن.» ثم سارا إلى معسكر الروسيين خارج المدينة، ورفعا علمًا أبيض دليل المسالمة، فلما قبض عليهما الجند وسألوهما عما يريدان، طلب السيد عبد الرحمن مقابلة الأميرال، فساقوهما إلى خيمته. وما كاد الأميرال يرى السيد عبد الرحمن في زي الطبيب المغربي حتى عرفه فرحَّب به وسأله: «أين كنت منذ فارقتنا؟» فقال: «قمت بجولة في الديار المصرية لمزاولة مهنتي، ثم عُدتُ إلى بيروت فإذا بكم تحاصرونها ومعسكركم قريب مني، فجئت لأؤدي لكم واجب التحية وأكون أنا وتابعي في خدمتكم وحمايتكم.» فتنبه الأميرال إلى وجود تابع مع السيد عبد الرحمن، وقال مداعبًا: «يلوح لي أن مهنة التنجيم رائجة في مصر؛ لهذا عُدتَ من هناك ومعك تابع!» فضحك السيد عبد الرحمن وقال: «يكفيني أن أنال رضاءكم السامي.» ثم أخذ في ملاطفة الأميرال وإطرافه بالمُلَح والفكاهات إلى أن قال الأميرال: «لقد جئنا في المرة الماضية ونحن في نزهة بحرية لطيفة، أما في هذه المرة فنحن في حرب وضرب، وعما قليل نضرب المدينة الضربة الأخيرة، فإما أن يخرج منها الجزار وإما أن ندكها على رأسه.» فضحك السيد عبد الرحمن وقال: «ما دمتم تحاربون جزارًا فالأمر أهون من أن يحتاج إلى إطلاق المدافع ودك الحصون، ويكفي أن تهددوه بالذبح فيستسلم في الحال!» فأُعجب الأميرال بهذه المداعبة وحسبها تلميحًا من الطبيب المغربي إلى قرب استسلام الجزار، فمضى يجاذبه أطراف الأحاديث، والسيد عبد الرحمن يضمِّن كلامه ما يُدخِل السرور والأمل في النصر القريب إلى قلب الأميرال. وفيما هو في ذلك، جاء بعض الجنود الروسيين ومعهم رجل عربي قالوا إنه من أهل المدينة وقد هرب منها وقصد إلى المعسكر الروسي، مدعيًا أن لديه رسالة يريد تبليغها إلى الأميرال نفسه. والتفت الأميرال إلى الرجل وأخذ يتأمله مليًّا، ثم قال له على لسان الترجمان: «يلوح لي أني رأيتك قبل الآن.» فقال الرجل: «نعم يا مولاي، لقد تشرفت بمقابلتكم في الإسكندرية حين كان أسطولكم راسيًا في مينائها، وقد …» فقاطعه الأميرال وقال: «نعم، نعم … قد تذكرت الآن، فأنت الرسول الذي حملت إلينا هناك رسالة من علي بك في القاهرة، أليس كذلك؟» قال: «نعم يا مولاي.» قال: «وماذا جاء بك إلى بيروت إذن؟» قال: «إني من رجال الشيخ ضاهر الزيداني في عكا، واسمي عماد الدين، وقد أرسلني إلى مصر برسالة منه إلى علي بك، فلما بلغتها وتسلمت الرد عليها، كلفني علي بك حمل رسالته إليكم في الإسكندرية، وحينما أردت الرجوع إلى عكا لم أجد سفينة ذاهبة إليها، فركبت سفينة وجدتها قادمة إلى هنا على أن أقطع المسافة من بيروت إلى عكا على جواد أو جمل، وما وصلت إلى بيروت ودخلتها حتى أغلق الجزار أبوابها ومنع الخروج منها والدخول إليها، فبقيت هذه الفترة الطويلة في خطر القتل بنيران مدافعكم من جهة، وبيد الجزار من جهة أخرى إذا هو علم بأني من رجال الشيخ ضاهر.» فعجب الأميرال من هذا الاتفاق العجيب وقال لعماد الدين: «وكيف استطعت الاختفاء كل هذا الوقت الطويل؟» فقال عماد الدين: «يرجع الفضل في ذلك إلى جماعة من الرهبان المسيحيين، يقيمون بدير لهم على سور المدينة عند باب يعقوب، فقد آووني في الدير وتكلفوا بأمري منذ لجأت إليهم محتميًا من ظلم الجزار وغدره، وما خاطرت بحياتي اليوم وخرجت من المدينة إلى هنا إلا لكي أرد لهم بعض جميلهم علي، وذلك أني وجدتهم يبحثون عن رسول يبعثون به إليكم كيلا تضربوا ديارهم بمدافعكم؛ لأنهم ليسوا من الأعداء، فتطوعت لإبلاغ هذه الرسالة.» فأُعجب الأميرال بشهامته وسأله: «أين يقع دير القوم؟» فقال: «هو هذا البناء الظاهر من هنا قرب باب يعقوب.» وأشار بيده إلى الدير. فأصدر الأميرال أمره إلى قائد مدفعيته بأن يجتنبوا ضرب ذلك الدير، ثم أمر بأن تُعدَّ خيمة ينزل بها عماد الدين والطبيب المغربي وتابعه، وأن يُصرف لهم ما يكفيهم من الطعام والشراب وكل ما يحتاجون إليه إلى أن يقضي الله في أمر المدينة بما يشاء. ••• كان عماد الدين منذ وقعت عيناه على السيد عبد الرحمن قد لاحظ شدة التشابه بينه وبين صديقه حسن، فخفق قلبه حزنًا على فراق ذلك الصديق وانقطاع أخباره عنه. كما تذكر ما علمه منه من أن أباه سبقه إلى عكا، فرجح عنده أن هذا الطبيب المغربي ليس سوى السيد عبد الرحمن والد حسن الذي يبحث عنه. وما استقر المقام به في الخيمة مع الطبيب المغربي وتابعه وجلسوا لتناول الطعام معًا، حتى التفت إليهما وقال: «هل لي أن أسأل من أين جاء السيدان إلى هذه المدينة؟» فقال السيد عبد الرحمن مقلدًا لهجة المغاربة في كلامهم: «جئنا من المغرب، وصناعتنا التطبيب والتنجيم.» فقال عماد الدين: «أي تطبيب؟ وأي تنجيم يا أخي؟ لقد أكلنا معًا عيشًا وملحًا فلا ينبغي لنا أن يموِّه بعضنا على بعض.» فاستعاذ السيد عبد الرحمن بالله من شر هذه الأسئلة المحرجة، ولاسيما بعد أن سمع محدِّثه يذكر للأميرال أنه من رجال الشيخ ضاهر، وأنه حمل رسالة منه إلى علي بك في مصر، وحمل من هذا رسالة إلى الأميرال، على أنه تجلَّد حتى لا يفضحه خوفه وقال: «لم أذكر لك إلا الحق يا سيدي، فإذا لم تصدقني فاسأل الأميرال فهو يعرفني منذ بضعة أشهر، وقد صحبته في سفينته من عكا إلى دمياط.» فابتسم عماد الدين، ورجح لديه أن ظنه في محله، ثم أراد أن يمضي في امتحان محدِّثه، فقال له: «أكنت في دمياط؟ حسنًا … لقد وضح لي الآن سر المشابهة بين سحنتكما ولهجتكما في الحديث بسحنة أهل مصر ولهجتهم رغم محاولتك تقليد اللهجة المغربية.» فازداد خوف السيد عبد الرحمن، ولكنه جاهد ليخفي خوفه وقال: «إن تابعي هذا أقام في مصر زمنًا طويلًا، وكانت أمي من مصر، فضلًا عن ترددي إليها كثيرًا لمزاولة مهنتي.» فضحك عماد الدين ساخرًا وقال: «أليس غريبًا أن تغادرا مصر لمزاولة مهنتكما في غيرها في حين أنها أوسع رزقًا، وأهلها أكثر حاجة إلى الكحل وغيره مما في جرابكما.» فأخذ السيد عبد الرحمن يبتلع ريقه بصعوبة لجفاف حلقه من إحراج محدِّثه إياه بأسئلته، وخشي أن يطول سكوته فيزداد الرجل ريبة فيه، فقال له: «إن الله هو الرزاق، وقد تعودنا التنقل من بلد إلى بلد، والحل والترحال بيد الله.» فضحك عماد الدين وقال: «نعم كل شيء بيد الله، ولكنه — جل شأنه — جعل لكل شيء سببًا، فما هو السبب الذي جعلك تترك مصر إلى مدينة محاصرة من جميع الجهات؟!» وهنا لم يُطِق علي خادم السيد عبد الرحمن صبرًا على هذه الأسئلة المحرجة المتلاحقة، فقال لعماد الدين: «ما هذه الأسئلة كلها يا سيدي؟ هل رأيتنا طلبنا منك رزقًا أو سألناك أي سؤال؟» فضحك عماد الدين ساخرًا وقال له: «إن كنت قد أكثرت من الأسئلة فما ذلك إلا لأنني من رجال الشيخ ضاهر حليف علي بك حاكم مصر، وقد يكون في خروجكما منها بلا سبب معقول ما يضر بمصلحتهما، فأسئلتي قانونية كما تريان.» فاغتاظ السيد عبد الرحمن من خشونة خادمه وإغلاظه القول لعماد الدين، وبادر إلى انتهاره ترضية لهذا قائلًا: «ومن أقامك محاميًا عني؟ إن أسئلة السيد كلها من حقه أن يسألها، وإذا صح ظني فهو إنما يريد أن يستفزنا ليحفزنا إلى أن نُظهِر له ما نعرف من فنون التنجيم وغيرها.» وهنا كان عماد الدين قد انتهى من تناول الطعام، فالتفت إلى السيد عبد الرحمن وقال له: «أما فنون التنجيم فما أحسب أن في الدنيا مَن هو أعلم مني بأسرارها وخفاياها، مع أني لا أحمل جرابًا، وليس معي كتاب ولا أنا مغربي، فهل تريد أن أقدم لك دليلًا عمليًّا على ذلك؟» فسبق علي إلى الرد على عماد الدين وقال متحديًا: «هذا هو الجراب، وفيه كل أدوات التنجيم ومعداته، فأرنا فنك لعلنا منك نستفيد!» قال هذا ونهض، فجاء بالجراب ووضعه بين يدي عماد الدين، ولكن هذا نحَّى الجراب جانبًا وقال: «لا حاجة بي إلى مثل هذه الأدوات.» ثم التفت إلى السيد عبد الرحمن وقال له: «هل أقول ما علمته بفني عنك؟» فأوجس السيد عبد الرحمن خيفة من هذا التحدي، لكنه لم يسعه إلا أن هز رأسه موافقًا وقال: «قل ما عندك.» فقال عماد الدين: «إن اسمك عبد الرحمن، فهل هذا يكفي أم أقول أيضًا؟» فأجفل السيد عبد الرحمن وعلي، وأخذ كل منهما ينظر إلى الآخر، وفي نظراتهما دلائل العجب والاضطراب، فتجاهل عماد الدين واستأنف كلامه فقال: «وقد تركت مصر يا سيد عبد الرحمن في جمع كبير من مختلف الأجناس والألوان، ثم تخلفت عنهم في الطريق واتجهت إلى جهة أخرى للقاء بعض الأعزاء، وبينهم ابنك حسن!» وهنا كان السيد عبد الرحمن وعلي خادمه قد بلغت دهشتهما أشدها فوقفا ينصتان ذاهلَين، وبينما مضى عماد الدين في الكلام قائلًا: «ولكنك لم تجد الأعزاء الذين ذهبت للقائهم، فرجعت إلى مصر متنكرًا في زي طبيب مغربي، وكان رجوعك من طريق البحر.» فلم يتمالك السيد عبد الرحمن عواطفه بعد ذلك وانفجر باكيًا، ثم همَّ بيدي عماد الدين يحاول تقبيلهما وهو يقول له: «كفى كفى يا سيدي، وما دمت مطلعًا على حقيقة أمرنا فأتوسل إليك بحق مَن تحب أن ترثي لحالنا ولا تفضحنا.» فبدا التأثر في وجه عماد الدين وقال له: «طب نفسًا وقر عينًا يا سيد عبد الرحمن، واعلم أن ابنك حسنًا بمنزلة أخي، بل هو أعز كثيرًا؛ لأني مدين له بحياتي.» فصاح السيد عبد الرحمن قائلًا: «ابني … ابني حسن … هل رأيته يا سيدي؟ بالله أخبرني أين هو؟» ثم رمى بنفسه عليه وأخذ يقبِّل كتفيه وهو يبكي وينتحب، وكذلك فعل علي خادمه، فبكى لبكائهما عماد الدين، ثم أخذ في مواساتهما والتخفيف عنهما، وروى لهما حكايته مع حسن من أولها إلى آخرها، فلما انتهى من ذلك قال له السيد عبد الرحمن: «ألا تظن أن حسنًا بعد أن هرب من بيروت قد ذهب إلى عكا ليبحث عني فيها؟» فقال: «هذا ما أرجِّحه، وعلى كل حال ثق بأني لن يهدأ لي بال حتى يجمع الله شملنا به سواء أكان في عكا أم في غيرها.» وفيما هو في ذلك؛ إذ وصل إلى أسماعهم صوت الأبواق تدوي في المعسكر، ثم ما لبثوا أن سمعوا أصوات المدافع منطلقة من البر والبحر على المدينة، فخُيل إليهم أن السماء ستنطبق على الأرض وخرجوا من الخيمة مهرولين؛ فإذا الجو قد امتلأ بالدخان والغبار، فأدركوا أن الأميرال قد نفذ ما توعد به من ضرب المدينة ضربته الأخيرة، فلم يسعهم إلا الرجوع إلى الخيمة والانتظار فيها حتى تنجلي المعركة ويروا ما يكون. وفي صباح اليوم التالي وقف عماد الدين ومعه السيد عبد الرحمن وعلي خادمه أمام خيمتهم ينظرون إلى بيروت ويأسفون لما نالها من الهدم والتخريب. وفيما هم كذلك شاهدوا هجانًا قادمًا من الجهة الغربية قاصدًا إلى المعسكر، فلما مر بخيمتهم عرف عماد الدين أنه من زملائه رجال الشيخ ضاهر فناداه، وما كاد الرجل يراه حتى بُغت وترجل عن هجينه وراح يعانقه ويقبِّله قائلًا: «أين كنت يا أخي؟ لقد أقلقتنا بطول غيابك.» فقال عماد الدين: «إن حكايتي يطول شرحها، وسأقصها عليك في وقت آخر، فقل لي أنت فيمَ قدومك الآن؟» فقال الرجل: «إن الجزار كتب إلى الأمير يوسف شهاب بأنه مستعد لتسليم المدينة على أن يُؤذن له بالخروج منها بأصحابه وأمواله آمنًا. فكتب الأمير إلى الشيخ ضاهر راجيًا أن يتوسط لدى الأسطول الروسي كي يكفَّ عن ضرب المدينة ويرفع عنها الحصار، فأجاب الشيخ ضاهر طلبه، ثم أرسلني برسالة إلى الأميرال؛ ليبعث معي بفرقة من الجنود لتسليم المدينة إلى الأمير يوسف.» ثم مضى الرسول إلى خيمة الأميرال فأبلغه رسالة الشيخ ضاهر، فأمر هذا بتنفيذ ما جاء فيها. ولم تمضِ ساعة حتى خرج الجزار وأعوانه من المدينة، وقد كسا وجوههم الخجل لما أصابهم من الفشل والانكسار، ورغم الخراب الذي عمَّ المدينة أخذ أهلها في الاحتفال برفع الحصار عنها وخروجها من حكم الجزار. وفي مساء اليوم نفسه عاد جميع الجنود الروسيين إلى سفينتهم في البحر، معتزمين الرحيل بعد أن أدوا مهمتهم، وعرض الأميرال على السيد عبد الرحمن أن يصحبه في سفينته كما صنع في المرة الماضية، فاعتذر شاكرًا، ثم سار هو وعلي خادمه ومعهما عماد الدين إلى صيدا فوصلوا إليها بعد مسير حوالي عشر ساعات على شاطئ البحر بالهجين، وهناك ودَّعهما عماد الدين على أن يسير هو جنوبًا قاصدًا إلى عكا، بينما يسيران هما شرقًا قاصدين إلى دمشق عبر جبال لبنان؛ وذلك كي يبحثوا جميعًا في تلك المناطق، ثم يكون لقاؤهم جميعًا في عكا بعد شهر.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/13/
فتح دمشق
ركب السيد عبد الرحمن وعلي خادمه الخاص هجينهما وسارا من صيدا وهما لا يزالان في زيهما المغربي قاصدَين إلى دمشق. وبعد المسير ثلاثة أيام قاصدَين تارة على رُبى لبنان، وهابطَين تارة في سهوله وأوديته، وصلا إلى سهل البقاع المشهور بخصبه، وهو واقع بين جبل لبنان من الغرب وجبل الشيخ من الشرق، فمكثا هناك يومًا للاستراحة، ثم استأنفا رحلتهما فقطعا وادي الحرير، ثم وادي القرن المشهور يومئذٍ بكثرة مَن فيه من اللصوص وقاطعي الطريق. وأخيرًا دخلا دمشق من باب الجابية، ونزلا بأحد فنادقها حيث باتا فيه ليلتهما واستراحا قليلًا من عناء رحلتهما الشاقة، وفي الصباح غادرا الفندق وأخذا يطوفان بأسواق المدينة وشوارعها، وأمضيا في ذلك طول النهار وهما يمعنان النظر في كل غريب يصادفهما لعله أن يكون ضالتهما، ثم عادا إلى الفندق في المساء فتناولا فيه عشاءهما، وأمضيا بعض الوقت يرسمان الخطط ويختاران أحسنها للبحث عن حسن. وفيما هما جالسان في اليوم التالي بأحد المقاهي، يحتسيان القهوة وأمام كل منهما نارجيلة يدخِّن فيها التمباك، اقترب منهما أحد أهل المدينة وقد لفت نظره زيهما المغربي وحياهما في أدب ولطف، ثم بدأهما بالحديث قائلًا: «لعل دمشق أن تكون قد أعجبت السيدين الكريمين.» فقال السيد عبد الرحمن: «الحق أنها مدينة عامرة جميلة، وقد وجدنا من لطف أهلها وكرم أخلاقهم ما أنسانا مشاق الأسفار والشوق إلى الوطن والأهل.» فقال: «ومتى كان وصولكم إليها؟» قال: «وصلنا منذ يومين.» فقال: «أهلًا وسهلًا ومرحبًا بكما، لقد شرفت المدينة كلها بزيارتكما لها، ويا حبذا لو أن هذه الزيارة كانت ودمشق في ظروف عادية، إذن لطابت لكما الإقامة بها و…» فقاطعه علي وقال: «هل المدينة الآن في ظروف غير عادية؟» فتنهد الدمشقي، وهز رأسه أسفًا وقال: «ليس هناك إلا الخير بإذن الله.» وسكت. فقلق السيد عبد الرحمن وقال: «إنك رجل كريم الأخلاق يبدو عنصرك الطيب في ملامح وجهك وحديثك، ونحن غريبان عن المدينة كما ترى، فهلا صرحت لنا بما طرأ على المدينة لنكون على بينة من الأمر؟» فقال الدمشقي: «لقد كانت دمشق إلى ما قبل سنوات مدينة آمنة مطمئنة ينعم نزلاؤها جميعًا بالراحة والهدوء والسعادة، ثم تبدَّل الحال بعد ذلك غير الحال، ولكن الله قادر على أن يعيد الأمور إلى نصابها.» فازداد قلق السيد عبد الرحمن وقال: «قد سمعنا أن أولاد العظم ولاة هذه البلاد من أحرص الحكام على إقامة العدل والسهر على الرعية، وكان هذا مما حملنا على المجيء لزيارة دمشق، فهل ما سمعناه ليس حقًّا؟» فعاد الدمشقي إلى التنهد وهز رأسه أسفًا واكتفى بأن قال: «إن ما سمعتموه هو الحق يا سيدي، فالباشا — والحمد لله — لا يدخر جهدًا في سبيل أمن البلاد وسعادتها.» فقال السيد عبد الرحمن: «إذن ماذا هناك؟ لعل الوفاق ليس تامًّا بين الباشا وبين الأمير يوسف، أو لعل الشيخ ضاهر الزيداني قد امتدت أطماعه إلى هنا؟» فقال الدمشقي: «لا هذا ولا ذاك، ولكن النكبة جاءتنا من الخارج، ولعلك تسمع بالمماليك الذين يحكمون الديار المصرية وكبيرهم الآن علي بك؟» فأجفل السيد عبد الرحمن عند سماعه اسم علي بك، وتذكر ما ناله من النكبات على يديه، فقال وهو يشرق بدموعه: «نعم سمعت بأولئك المماليك وكبيرهم المذكور، ولكن ما علاقتهم بهذه البلاد؟» فقال الدمشقي: «لقد أرسل علي بك هذه الحملة لفتح هذه البلاد والاستيلاء عليها، وسمعنا أن هذه الحملة كثيرة العدد والعدة، ويتولى قيادتها محمد بك أبو الذهب صهر علي بك، وقد استولت على سواحل سوريا وما فيها من السفن بمساعدة الشيخ ضاهر الزيداني، كما سمعت بأنها فتحت طبريا ونابلس وغيرهما، وبأنها الآن في طريقها إلى هنا؛ ولهذا فالباشا وأهل المدينة كلهم في قلق عظيم، ولعلكما مررتما بأسوار المدنية وشاهدتما ما يجري فيها من أعمال الترميم والتحصين استعدادًا للدفاع.» ••• استعاذ السيد عبد الرحمن بالله من شر هذا الخطر الجديد، وتذكَّر هو وعلي خادمه تلك الليلة التي قضياها في الجامع الأزهر مع اللاجئين إليه فرارًا من الجنود الخارجين في تلك الحملة، ثم أراد معرفة الأسباب التي أدت إلى إرسالها، فقال لمحدثه الدمشقي: «وما الذي دعا علي بك إلى مد عدوانه إلى هذه البلاد، هل وقع خلاف بينه وبين الباشا هنا؟» فقال الدمشقي: «لم يحدث أي شيء يدعو إلى هذا العدوان، ولكن ذلك المملوك الجبار الطاغية تمرَّد على الدولة العلية وطرد الباشا ممثلها من مصر، ثم لم يكفه هذا فبعث بصهره هذا القادم إلينا لفتح الحجاز بحجة الانتصار لشريف مكة وتأديب الخارجين عليه. وعلى كل حال ما أرى إلا أن الدوائر ستدور على الباغي بإذن الله، وسوف ندافع عن بلادنا تحت راية مولانا الخليفة المعظم، وما النصر إلا من عند الله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.» وتحقق السيد عبد الرحمن من بعد ما سمعه من الدمشقي في المقهى، أن في بقائه في دمشق أكبر الخطر على حياته، ولكنه قال لنفسه: «كيف أغادر هذه المدينة قبل استكمال البحث عن ولدي فيها؟» وبقي صامتًا يفكر في هذا الأمر وكله حيرة وقلق واضطراب. ولم يسع خادمه الوفي إلا أن يشاركه حيرته فبقي صامتًا هو الآخر، وإن استقر رأيه على أن يتبع سيده كظله إلى كل مكان يحل فيه، ليكون عونًا له في كل ملمة، ويفديه بحياته إذا اقتضى الأمر ذلك. أما الدمشقي فأدرك ارتباكهما، وحسب أنها خائفان لأنهما غريبان، فمال على السيد عبد الرحمن وربت كتفه متلطفًا وقال: «لا تخف يا سيدي؛ فأنت وصاحبك في حمانا، وثق بأن كل دمشقي لا يتأخر عن تقديم حياته وكل ما يملك فداء لضيفه، وإذا تنازلتما بترك الفندق الذي تنزلان به لتقيما معي بمنزلي حتى يقضي الله بما شاء في أمر الحرب المنتظرة، فإني أَعُد ذلك شرفًا لي وحسن حظ.» فأُعجب السيد عبد الرحمن بمروءة الرجل وشهامته ولطف عباراته مما يدل على طيب عنصره وكرم أخلاقه، وشعر كأنما أُزيح عن صدره حمل ثقيل، فالتفت إليه وعيناه مغرورقتان بدموع التأثر وقال: «بُورك فيك يا سيدي وفي أهل دمشق جميعًا، إنكم حقًّا لأهل لكل كرامة وفخار، وأعتقد أن الله ناصركم على أولئك الباغين.» ثم نهض مستأذنًا في الانصراف بعد أن شكر له أريحيته وكرمه وعرَّفه اسمه واسم علي، كما عرف أن اسمه هو سليمان، فألحَّ عليهما في قبول دعوته إياهما إلى الإقامة بمنزله، ولما رأى إصرارهما على البقاء في الفندق أعطاهما عنوان منزله ليقصدا إليه في أي وقت، ثم نهض ليوصلهما إلى الفندق ويطوف بهما خلال ذلك بعض أسواق المدينة وشوارعها. وما زال الثلاثة سائرين وهم يتبادلون الأحاديث حتى وصلوا إلى باب توما، فخرج بهما سليمان إلى ما هنالك من غياض وبساتين، وداروا حولها حتى نهر بردى، فما كادوا يشرفون عليه حتى شاهدوا أهل القرى في تلك المنطقة يَعدُون متصايحين وهم يسوقون أمامهم ماشيتهم ووجهتهم المدينة، وسمعوا بعضهم يقولون: «جاء المماليك … جاء المماليك.» فعلم السيد عبد الرحمن أن جيش أبي الذهب وصل إلى حدود المدينة، ولم يسعه إلا الرجوع هو وخادمه مع صديقهما الدمشقي إلى المدينة؛ حيث أُغلقت أبوابها بعد قليل، وخرج جنود حاميتها إلى الأماكن المعدة للدفاع فوق الأسوار، وفي الأبراج والحصون، وتحصن كثيرون في القلعة، ولجأ الأهلون إلى المنازل خائفين مترقبين. وباتت دمشق تلك الليلة ساهرة تتقلب على أحر من الجمر، وما أصبح الصباح حتى دوت المدافع، وتسامع الناس بأن المدينة توشك أن تسقط في أيدي الغزاة الفاتحين؛ فقد جاءوها بجنود لا قِبل لها بهم، مزودين بأقوى الأسلحة المعروفة في ذلك الحين، وانضم إلى الحملة المصرية جنود كثيرون من المتاولة والزيادنة والصفديين بقيادة أولاد الشيخ ضاهر. ولم تمضِ بضعة أيام حتى دخل الفاتحون المدينة وانتشروا في أنحائها للنهب والسلب، وكانت قلعتها ما زالت صامدة للحصار، ولكنها ما لبثت أن سلَّمت هي الأخرى بعد قليل. ••• لجأ السيد عبد الرحمن وخادمه إلى إحدى الحجرات في الفندق الذي نزلا به، وهما بملابس المغاربة. فلما مضت ساعات بعد فتح المدينة، وخفَّت حدة النهب الذي قام به الجنود والفاتحون، قال علي لسيده: «ألا تأذن لي في الخروج لتفقد الحالة خارج الفندق، عسى أن نجد فرصة مواتية لمغادرة هذه المدينة؛ حتى لا نقع في يد أبي الذهب؟» فقال السيد عبد الرحمن: «لا أرى أن تخرج الآن، فالجنود ما زالوا يملئون الطرقات، وقد يصيبك شيء من شرهم وطغيانهم، كما أني لا أستطيع أن أغادر دمشق إلا بعد أن أجد حسنًا فيها أو أتحقق أنه ليس هنا.» وبعد ساعة أخرى، لم يطق علي صبرًا على الانتظار في مخبئهما، فنهض وأتم ارتداء ملابسه المغربية وحمل الجراب على كتفه؛ تأهبًا للخروج وهو يقول: «ما أظن الجنود يطمعون في أسلاب مغربي في مثل هيئتي هذه.» ثم خرج من الفندق على أن يستكشف الحالة ويعود بعد قليل. وما كاد أن يصل إلى الشارع حتى وجد أكثر المتاجر قد حُطمت أبوابها ونهب الجنود ما كان فيها، كما وجد أن سكان المنازل ما زالوا في قلق وخوف واضطراب، فحدثته نفسه بالرجوع، لكنه خجل من أن يكون جبانًا إلى هذا الحد، وواصل السير حتى بلغ منعطفًا إلى يمينه في ذلك الطريق، فوقف مترددًا بين الدخول في هذا المنعطف وبين المضي في الطريق الذي هو فيه. وفيما هو كذلك سمع صوت رجل يدعوه باسمه، فأجفل وخفق قلبه بشدة؛ مخافة أن يكون مناديه جنديًّا من جنود المماليك، ثم زايله بعض خوفه؛ إذ تذكر أنه متنكر في زي مغربي فلا يمكن أن يعرفه لأول وهلة أي أحد من عارفيه. وقبل أن يلتفت ليرى مَن ناداه، كان هذا قد وصل إليه وألقى عليه التحية، فإذا به سليمان الدمشقي الذي تعرَّف إليه هو وسيده في المقهى يوم مجيء الحملة، فرد تحيته بمثلها معربًا عن سروره بلقائه. فقال سليمان: «أين السيد عبد الرحمن؟» قال: «هو في الفندق.» قال: «هيا بنا إليه، فعندي له أنباء سارة.» فانبسطت أسارير وجه علي، وقال له: «سرَّك الله يا أخي دائمًا، ما هي هذه الأنباء؟» فقال: «ستعلمها عما قليل حين نصل إلى الفندق.» فلم يسعه إلا السكوت وانطلق عائدًا إلى سيده في الفندق، لكن الفضول غلب عليه بعد بضع خطوات فعاد يقول لسليمان: «هل هذه الأنباء خاصة بالمماليك الذين فتحوا المدينة اليوم؟» فقال له: «اصبر يا سيد علي، وستعرف كل شيء بعد حين.» وكان السيد عبد الرحمن ما برح جالسًا في الحجرة والهواجس تدور في رأسه، فلما وقعت عيناه على سليمان وهو داخل عليه مع علي، نهض مستبشرًا بقدومه وابتسامه، وبعد أن تبادلا العناق والقبلات، أجلسه بجانبه، وراح ينظر إلى وجهه مندهشًا مما يلوح عليه من دلائل الغبطة والابتهاج، وأراد أن يسأله عن السبب لكنه خجل، وأدرك سليمان ذلك منه، فقال له: «لماذا لا تسألني عما دعاني إلى الابتهاج في مثل هذه الظروف؟» فقال: «خشيت أن أكون طفيليًّا فأُثقِل عليك، ولا شك في أنك صاحب فضل وهمة، فهات ما عندك، بارك الله فيك.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/14/
أثر الحبيب
قال سليمان الدمشقي لصديقه عبد الرحمن: «لقد علمت بأمر لم يعلمه أحد من أهل المدينة بعدُ، ولو علموه لتبدَّل كدرهم واضطرابهم سرورًا واطمئنانًا.» فأراد عبد الرحمن استطلاع هذا الأمر واستبشر بمنظر صديقه؛ إذ كان يتكلم وأمارات الابتهاج تلوح على وجهه، فقال له: «هل لك أن تتكرم بإطلاعي على هذا الأمر.» فقال: لما فتح المماليك المدينة وتسلموا القلعة، فرَّ الوالي ولم يَعُد يستطيع الإقامة خوفًا على حياته، ثم بعث إلى محمد أبي الذهب قائد الحملة المصرية يطلب إليه الاجتماع لعقد شروط التسليم حسب المعتاد، فأجابه إلى ذلك، وكنت ممن ذهبوا مع الوالي إلى مكان الاجتماع، وكان محمد أبو الذهب جالسًا هناك متعجرفًا منتفخًا نفخة النصر، وبين يديه أصحاب مجلسه من الأمراء المماليك، فلما دخل عليه الباشا وقف له تأدبًا، غير أن مخايل الكبرياء كانت تلوح على وجهه. وكان لي صديق حميم بين رجال الباشا الذين وقفوا في انتظاره خارج الباب بعد أن ترجل عن جواده، فأسررت إليه أن ينتبه لما يدور بين الأميرين؛ لنرى شروط التسليم، ولبثت بعيدًا أنتظر ارفضاض المجلس، وبعد قليل رُفع الستر وخرج جميع الأمراء المماليك الذين كانوا في مجلس محمد أبي الذهب، ولم يبقَ إلا هو والباشا، فاستغربت ذلك وقلت: «لعل في الأمر شيئًا.» وما خرج الباشا من عند أبي الذهب وركب جواده حتى سارعت إلى صاحبي وسألته عما كان، فقال لي: «أبشر يا سليمان، لقد فرجها الله.» فقلت: «وكيف كان ذلك؟» قال: «إن عثمان باشا سأل أبا الذهب بعد أن خلا إليه: باسم مَن نكتب معاهدة التسليم؟» فقال أبو الذهب: «نكتبها باسم علي بك صاحب مصر.» فضحك عثمان باشا، وقال: «أتفتح البلاد وتتجشم خطر الحروب والأسفار ويكون الفخر لذلك الجالس على عرشه في القاهرة؟! وهبْ أنه أمير البلاد وأنت من قواده، فكيف تخرج من طاعة خليفة رسول الله سلطان البرين وخاقان البحرين لتكون في طاعة بعض أمرائه النابذين طاعته؟! إن مولانا السلطان مصطفى خان لأجدر بالطاعة، ولاسيما أنه لم يأتِ معك ولا من الأمير ما يدعو إلى غير ذلك، وسيان عندي أن تكتب شروط التسليم باسمك أو باسم علي بك، ولكني أرى أن ليس من مصلحتك في شيء أن تذعن لأمر علي بك وتخالف أمر السلطان، في حين أن علي بك لا يفضلك بشيء، وقد فتحت له الحجاز والشام وهو جالس في القاهرة بين سراريه ومماليكه وخدمه وحشمه، وليس يخفى عيك أن فخر الفتح لا يعود على أمثالك من القواد العظام بقدر ما يعود عليه هو دون أن يتجشم في سبيل ذلك أي عناء، وهكذا يذهب كل تعبك أدراج الرياح، ثم تكون في الوقت نفسه عرضة لغضب مولانا السلطان وانتقامه، فضلًا عن مخالفة الشرع؛ لأنكم إنما تحاربون لتنصروا الإفرنج على المسلمين، وإنما ساعدتكم ملكة المسكوف، لكي تنال بغيتها وتنتصر على المسلمين في بلاد الروملي. وهبْ أنكم فتحتم الشام والحجاز، فأين هذه البقعة الصغيرة من المملكة العثمانية الواسعة الأطراف؟ وأين جنود الحجاز والشام من الجيوش العثمانية المظفرة التي فتحت العالم بسطوتها وبطشها وشجاعة قوادها؟» فمال محمد أبو الذهب إلى الإذعان، واستشار الباشا فيما يفعل، فأشار عليه بأن يُقلِع عن الانقياد إلى علي بك ويعود إلى طاعة خليفة رسول الله وظل الله على الأرض سلطان البرين وخاقان البحرين، وبذلك ينال فخرًا عظيمًا وينجو من الأخطار ومشاق الأسفار. فصمت أبو الذهب قليلًا وأطرق مفكرًا، ثم رفع رأسه وقال: «لقد نطقت بالصواب.» ثم طلب إليه عثمان باشا أن يُقسِم على السيف والكتاب ليكونن مخلصًا للدولة العلية ويكف عن حربها، ففعل. فقال عبد الرحمن لسليمان الدمشقي: «وماذا تم في الأمر بعد ذلك؟» قال: «إنني عُدتُ إلى معسكر المصريين على أثر هذا الذي سمعته، فرأيت خيمة الأمير مغلقة، والجنود المصريين في هرج ومرج، لكنهم قد كفوا عن الأذى. ثم دنوت من خيمة محمد أبي الذهب، واسترقت السمع دون أن يشعر بي أحد، فسمعته يخاطب أمراءه قائلًا: «إنكم تشكون مشقة الأسفار وأخطار الحروب، وما أرى إلا أن علي بك يريد إعدامنا بهذه الكتب التي يبعث بها إلينا لكي نقذف بأنفسها في أتون الحرب، وكأنما جُبِلنا من تراب وجُبِل هو من تبر؛ ولذلك لا يشفق على حياتنا ولا على نسائنا وأولادنا الذين تركناهم في مصر لنسير في بلاد الله، بينما هو يعيش منعمًا بين حريمه وسراريه.» ثم استطلع رأيهم، ففوضوا الرأي إليه فقال: «أرى أن نعود إلى بيوتنا ونكف عن الحرب وعن نبذ طاعة مولانا السلطان، وها أنا ذا أقسم لأحافظن على هذا العهد.» فردد هذا القسم، ولم يسعني بعد هذا إلا أن أسجد شكرًا لله على نجاتنا من حكم المماليك، ثم أسرعت لأطلعك على ذلك.» ••• كان سرور عبد الرحمن عظيمًا بما سمعه من صاحبه الدمشقي، ولم يتمالك أن رفع يديه إلى السماء وقال: «تباركت يا رب، ولك الحمد. ها قد انقلب الظالمون على أعقابهم وستقوم الفتن بينهم فيبيد بعضهم بعضًا.» ثم التفت إلى سليمان وقال له: «إنكم من أهل هذه المدينة، ونجاتها تهمكم أكثر مما تهمني، ولكني أؤكد لك يا أخي أن فرح أهل دمشق كافة لا يوازي فرحي بحبوط مسعى هؤلاء المماليك!» وسكت وقد ملأت الدموع عينيه، فلم يجرؤ سليمان على مخاطبته وبقي صامتًا يتأمل حركاته، ثم عاد عبد الرحمن إلى الحديث فقال: «اعذرني يا أخي إذا رأيت فيَّ هذا الضعف؛ لأن هؤلاء المماليك نغَّصوا عيشي وشتتوا شملي واغتصبوا أملاكي وأموالي وأبعدوا عني ولدي.» واغرورقت عيناه بالدمع. فتعجب سليمان، وود لو يقف على تفصيل ذلك فقال: «لا شك في أن هؤلاء القوم قد أمعنوا في الظلم والفساد، ولسوف ينالون جزاء أعمالهم، ولكن هلا أطلعتني على تفصيل أمرهم معك لعلي أستطيع مساعدتك؟» فأراد عبد الرحمن الكتمان، ثم رأى أن في الإدلاء بقصته إلى صديقه الدمشقي ما قد يفرج كربه، فتنهد وقال: «آه يا أخي! لقد كنت أوثر كتمان هذا الأمر، ولكنني آنست منك مروءة وإخلاصًا فملت إلى الشكوى إليك؛ تمثلًا بقول القائل: وقصَّ عليه حكايته من أولها إلى آخرها، فلما انتهى من ذلك قال سليمان: «والله إن حكايتك لمما يتفطر له القلب، فهل أنت مؤمل أن تجد ولدك هنا؟» قال: «لولا الأمل ما تجشمت الأخطار ومشاق الأسفار.» قال: «إذن هيا ننزل إلى المدينة لعل الله أن يفتح لنا باب الفرج أو يأتينا بأمر من عنده.» فنهضوا وخرجوا إلى الأسواق وإذا بأهل المدينة قد غمرهم الفرح؛ إذ سمعوا مناديًا ينادي بالأمان وعودة الناس إلى أعمالهم؛ لأن جند المماليك عائدون من دمشق. فتحقق عبد الرحمن صحة رواية صديقه، فقال له: «أرى أن نذهب خارج المدينة حيث يجتمع الناس لمشاهدة عودة الجنود المصريين، فلعلي أجد ولدي بينهم»، فوافقه على ذلك، وسارا حتى خرجا إلى حيث معسكر أبي الذهب، فإذا بالمماليك والمغاربة يقوضون الخيام ويحملون الأثقال، وأهل دمشق ينظرون إليهم ويعجبون لهذا الانسحاب السريع. ولم يأتِ الغروب حتى سارت الحملة عائدة من حيث أتت. أما عبد الرحمن فكانت عيناه شائعتين في الجماهير لعله يشاهد ولده حسنًا، ولكنه لم يقف له على أثر. ولبث بضعة أيام في المدينة يواصل البحث عنه حتى يئس من لقائه، فودَّع صديقه الدمشقي وأخبره بأنه اعتزم السفر، فتأثر هذا وحزن لحبوط مسعاه، ثم قال له: «إني والله لن يهدأ لي بال حتى أعلم بوجود ولدك، وقد عرفت شكله وملامحه وسأراقب مَن أراهم من الغرباء، فلعلي أقف على خبره فأبلغك ذلك، ولكن أين تكون؟» فقال عبد الرحمن: «إني ذاهب إلى عكا الآن، ولا أعلم أين تسوقني المقادير.» قال: «ألا ترجو أن تعود إلى مصر بعد ذلك؟» قال: «لا أدري.» قال: «إن الله يدبر الأمر كيف شاء، وهو لطيف بعباده رحيم خبير.» وعلى أثر ذلك سار عبد الرحمن مع خادمه على جملين في قافلة كانت سائرة إلى صيدا على أن يسيرا من هناك إلى عكا. ••• ما زالت القافلة تواصل سيرها وعبد الرحمن وخادمه فيها، وبعد أن قطعت القافلة بضع مراحل قال خادم عبد الرحمن له: «أتأذن لي في كلمة؟» قال: «قل ما بدا لك يا علي.» فقال: «إننا أينما نتوجه نجد عدونا أمامنا، وقد تركنا مصر فرارًا من ظلم علي بك، فإذا جئنا عكا كنا في خوف من الشيخ ضاهر العمر؛ لأنه حليفه، وعلى هذا لا نستطيع الظهور هناك، ثم إن العثور على سيدي حسن أمر لا نقوى عليه إلا بمساعدة الحكومة، فهلا فكرنا في وسيلة نتقرب بها إلى الشيخ ضاهر هذا.» فقال عبد الرحمن: «إني إذا ذهبت إليه بنفسي وأطلعته على أمري، أخشى أن يأمر بقتلي.» فقال علي: «خطرت لي فكرة إذا أذن لي مولاي أطلعته عليها.» قال: «قل ما بدا لك.» قال: «أرى أن تلتمس مساعدة الأميرال الروسي قائد السفن الروسية في البحر المتوسط، فقد آنست منه ميلًا إليك يوم كنا في ضواحي بيروت، ولو أنك سألته أن يعطيك توصية إلى الشيخ ضاهر العمر ما أظنه يأبى ذلك، ولا شك في أن الشيخ ضاهر يعمل بها لما بينهما من التحالف، فما رأيك؟» فتهلل وجه عبد الرحمن استبشارًا بهذه الفكرة وقال: «بُورك فيك يا علي. لقد نطقت بالصواب، وليس أفضل لنا من هذه التوصية لدى الشيخ ضاهر، لكن كيف نعرف مكان العمارة الآن؟» قال: «إذا وصلنا إلى مدينة صيدا نستفهم عن مكانها ونسير إليها والاتكال على الله.» قال: «حسنًا.» ثم تذكر فقدَ ولده فعاد إليه قلقه وقال: «آه يا حسن! هل يُقدَّر لي أن ألقاك؟» فقال علي: «صبرًا يا سيدي، إن قلبي يحدثني بأننا لا نلبث أن نلتقي به؛ إذ قد تحقق لدينا من ذلك الشهم عماد الدين أنه لا يزال على قيد الحياة، ولعله الآن في عكا؛ لأننا لم نجده في دمشق، وإذا كان هناك فسيلتقي به عماد الدين ويخبره بأمرنا فيبقى هناك في انتظارنا.» فقال عبد الرحمن: «كل شيء بيد الله. وأرى أن هذه القافلة بطيئة السير وأحمالها ثقيلة، فالأفضل أن نسبقها.» قال: «لا يا سيدي؛ لأننا لا نأمن المسير وحدنا في الطريق، فاللصوص فيه كثيرون من البدو وغيرهم، ولا بد لنا من مرافقة القافلة؛ إذ نكون في أمن معها.» قال: «حسنًا، ولكنَّ هناك أمرًا آخر قد أهمني كثيرًا.» قال: «ما هو؟» قال: «رأيت في الحلم يوم خروجنا من دمشق كأني لقيت سيدتك في ثياب سوداء، فقالت لي عبارة لا أزال أذكرها وهي «إني لا أزال حية أنتظرك، فمتى تأتي إليَّ؟» فتذكرت ما وعدني به السيد المحروقي بمصر من أنه سيطلعني على أمرها إذا لم يتحقق قتلها، فكيف نستطلع حقيقة ذلك؟» فقال: «إذا شئت فإني أذهب إلى مصر، متى وصلنا إلى عكا، وأسأل السيد المحروقي في ذلك الأمر، عسى الله أن يحقق أملك.» قال: «بُورك فيك يا علي، ولعل الله قد قضى بجبر قلوبنا بعد ما قاسيناه من العذاب.» وبعد مسيرة بضعة أيام وصلا إلى صيدا، فدخل عبد الرحمن المدينة وسار توًّا إلى البحر، فإذا بالعمارة الروسية راسية في الميناء، فاكترى قاربًا وقصد إلى دارعة الأميرال وطلع إليها، فسُرَّ الأميرال بلقائه وبش في وجهه، أما هو فأظهر الانقباض، فسأله الأميرال عن أمره، فطلب أن يخاطبه على انفراد، فخلا إليه في غرفة هناك، حيث قص عليه عبد الرحمن قصته وطلب إليه أن يوصي به الشيخ ضاهر العمر، فرد عليه قائلًا: «هذا أمر هين، وسأعطيك كتابًا آخر إلى علي بك.» ثم أمر بأن يُكتب له كتابان: أحدهما إلى الشيخ ضاهر، والآخر إلى علي بك يؤكد فيهما التوصية به، ثم ختم الكتابين بخاتمه وسلمهما لعبد الرحمن قائلًا: «مهما يصبك من ضيق فإنا نفرجه عنك.» فقبَّل عبد الرحمن يده وخرج شاكرًا. ثم ركب في قارب وعاد إلى صيدا فإذا بعلي ينتظره على الشاطئ، فلما رآه أسرع إليه وسأله عما تم، فأخبره بما كان فسُرَّ كثيرًا، ثم عاد إلى الخان وباتا تلك الليلة على أهبة السفر. وفي صباح اليوم التالي ركبا من صيدا يريدان عكا. ••• استيقظ حسن من نومه في تلك الحجرة الصغيرة على صوت الناقوس يدعو الناس إلى الصلاة، فنهض وخرج من الدير إلى حيث وقف على مرتفع، وأخذ ينظر إلى ما حوله فإذا هو محاط بسهول من الرمال يحدها من الغرب البحر الذي لا ينفك يدمدم ليلًا ونهارًا، ومن الشرق جبل لبنان وما في سفحه من الغياض والبساتين والقرى. ولما عاد الراهب من الصلاة قال لحسن: «هيا بنا لأريك المغارة التي كان يبيت بها النبي إيليا؟» ثم قاده إلى باب صغير فتحه، ونزل به بضع درجات إلى مغارة صغيرة فيها صورة صغيرة على قماش، فقبَّلها الراهب قائلًا: «هذه هي صورة النبي إيليا صاحب العجائب والمعجزات.» فقال حسن: «إنه — عليه السلام — مشهور بالكرامات والعجائب.» ثم حانت منه التفاتة إلى ركن من أركان تلك المغارة، فشاهد رجلًا مضطجعًا، فقال: «مَن هذا النائم؟» فأشار إليه الراهب أن يسكت، فسكت وقد استولت عليه الرهبة من منظر تلك المغارة ومنظر ذلك الراهب المسن بما عليه من اللباس الخشن. ولما خرجا قال له الراهب: «إن ذلك الرجل الذي رأيته نائمًا مصاب بروح شريرة، وقد جاء ونام في هذه المغارة لتخرج منه تلك الروح.» ثم عادا إلى مسطبة مشرفة على البحر، وجاء الراهب بغليون ملأه تبغًا وأشعله له، فأخذ حسن يدخن ثم قال للراهب: «ألا تستغرب مجيئي إليكم وأنا لست مسيحيًّا؟» قال: «إن هذا المكان يا ولدي يأتيه الزائرون من سائر الطوائف والملل بغير استثناء.» قال: «وكم تبعد مدينة صيدا من هذا المكان؟» قال: «مسافة يوم تقريبًا، والطريق على شاطئ البحر ومعظمها في الرمال.» قال: «وهل يستطيع الرجل أن يسير منفردًا؟» قال: «قد يستطيع ذلك، ولكن الطريق لا يخلو من الخطر ولاسيما في هذه الأيام.» فقال: «ما الداعي لزيادة الخطر الآن؟» قال: «الداعي إلى ذلك كثرة خطايانا وعدم سيرنا على مقتضى أوامر الله سبحانه وتعالى، حتى اختلف حكامنا وقام الخصام بينهم ونشبت الحروب؛ فإن صيدا تابعة لحكومة لبنان ولكنها دخلت في حوزة الشيخ ضاهر العمر الزيداني والي عكا، وهذا الرجل قد نبذ طاعة الدولة العلية وطمع في السلطة، وقامت بين رجاله ورجال الأمير يوسف حاكم لبنان حروب كثيرة في أماكن مختلفة، وفي السنة الماضية جاء ذلك الأمير الشهابي بجند من لبنان ومن عسكر الدولة لفتح صيدا، فأخرج منها الدنكزلي حاكمها من قبل الشيخ ضاهر، وبعد حصار أسبوع جاءت المراكب الروسية التي هي في هذا البحر بإيعاز من الشيخ ضاهر وضربت جنود الأمير يوسف بالقنابل وشتتتها. أما هذه السفن — ومن بينها خمس سفن كبار — فإنها مرسلة من كترينة ملكة المسكوف لمساعدة الشيخ ضاهر في كل ما يريد؛ وذلك لأنها حليفته ضد الدولة العلية.» فقال حسن: «إذن الطريق خطر ولا يستطيع المرء أن يسير وحده فيه؟» فضحك الراهب حتى اهتزت لحيته ثم قال: «بل لا يستطيع نفر من الناس أن يسيروا في هذه الأصقاع آمنين من الخطر، وترانا لذلك في ضيق شديد.» فقال حسن: «حقًّا إن هذا لمما يضيق عليكم؛ إذ يقل عدد الوافدين من الزوار وغيرهم.» فقال الراهب: «ليس ذلك فقط ما نشكوه، ولكن من عاداتنا ومثلنا في ذلك جميع الأديرة، أن نبعث كل سنة وفدًا من الرهبان يطوفون البلاد المجاورة والبعيدة لجمع النذور التي ينذرها أصحابها باسم صاحب هذا الدير — قدس الله سره — لكننا في هذه الأيام لا نستطيع إرسال أحد، وقد مضت علينا بضع سنين لم نرسل أحدًا إلى أن كانت هذه السنة فبعثنا بعض رجالنا يطوفون البلاد لجمع النذور، وقد مضى عليهم بضعة أشهر دون أن يرجعوا، فترانا من أجل ذلك في قلق عظيم عليهم لئلا يكونوا قد أُصيبوا بسوء من اللصوص في الطريق بعد نهب ما جمعوه من هذه النذور.» فقال حسن: «لقد أخطأتم إذن يا سيدي بإرسالهم.» قال الراهب: «إننا لم نرسلهم إلا بعد أن رأينا إرسالهم ضروريًّا؛ لأننا نرسلهم أيضًا للأديرة الأخرى في الأقطار البعيدة لجمع المساعدات، وللطائفة الأرثوذكسية أديرة عديدة في أماكن مختلفة فيساعد غنيها فقيرها.» فقال حسن: «ولكن ألا تخافون وأنتم في هذه البرية من أن يسطو عليكم اللصوص أو قاطعوا الطرق؟» فقال: «قلما خفنا ذلك؛ لأن الله يحرس أماكن العبادة.» فقال حسن: «وهل للمسلمين مكان مثل هذا في هذه الأنحاء؟» قال: «إن لهم مقامًا قديم العهد جدًّا على مقربة منا، يُقال له مقام الشيخ الأوزاعي، وقد مرَّت عليه أجيال عديدة، والزائرون من المسلمين يقصدونه كما يقصدون هذا الدير.» فتاقت نفس حسن لزيارة ذلك المقام؛ لأنه كان يقرأ كثيرًا عن كرامات الشيخ الأوزاعي، فقال: «هل هو بعيد من هنا؟» قال: «لا … فهو لا يبعد إلا مسافة تدخين غليون.» قال: «هل يمكنني الذهاب إليه؟» قال: «نعم إذا مشيت على هذا الرمل مشرقًا، فإنك تشرف عليه حالًا، وهو قائم في قرية يُقال لها قرية منتوش.» فقال: «ألا ترسل معي أحدًا من خدم الدير.» قال: «لك ذلك.» ثم نادى أحد الخدم فجاء وسار مع حسن حتى أشرفا على قرية صغيرة في وسط تلك الرمال، ثم وصلا إليها، فإذا هي غاية في الصغر، وفي جانب منها قبة فيها ضريح، فسار حسن توًّا إلى المقام وقرأ الفاتحة، ثم تذكر ما جاء من أجله إلى تلك الديار فانقبضت نفسه وتذكَّر أباه ووالدته، فأخذ يصلي ويتضرع إلى الله تعالى ألا تحبط مساعيه. وبعد أن أتم الصلاة والدعاء، أعطى خادم الضريح بعض المال، ثم عاد وقد انبسطت نفسه وتجددت آماله بلقيا والديه، رغم ما كان يظن من قتل والدته، وأحس كأنه أصبح في عالم غير الذي كان فيه. فلما عاد إلى الدير رأى عند بابه جمالًا كأنها قادمة من سفر طويل، فتوسم الخير وأسرع إلى الدير، فلقيه وكيله منبسط الوجه قائلًا: «نحمد الله يا ولدي، أنَّ وفدَنا قد عاد من سفره بخير.» وقاده إلى غرفة من غرف الدير ليريه إياهم، فوجدهم جالسين والشمس قد لوحت وجوههم والأسفار قد أنهكتهم، ورأى بين أيديهم كيسًا علم أن فيه التحف التي أتوا بها. فجلس إليهم وأخذ يسألهم عن الأمن في الطريق فقال أحدهم: «إن أشد الطريق خطرًا ما بين مصر والشام.» فقال: «هل وصلتم إلى مصر؟» قال: «نعم ذهبنا إليها، وعدنا منها بخير.» فقال: «وهل أهل مصر ينذرون لهذا الدير أيضًا؟» فقال الوكيل: «قلت لك يا ولدي إننا نرسل هؤلاء ليس لجمع النذور فقط، ولكن لجمع المساعدات من الأديار الأخرى، وهناك بقرب القاهرة دير يوناني، وبعض الأديار القبطية تعوَّدنا تلقي المساعدة منها.» فتأوه حسن لتذكره تلك البلاد التي فقد فيها والديه، وقال: «عسى أن تكونوا قد نلتم ما أردتم؟» فقال أحد الرهبان القادمين: «إننا لقينا في دير مار جرجس أكثر مما نلناه من سواه، وقد وقع لنا فيه اتفاق غريب مع راهبة من راهباته، وذلك أننا نزلنا هناك، وبعد أن أتتنا الرئيسة بالمساعدة المعتادة، جاءتنا راهبة يظهر أنها ليست يونانية مثل بقية الراهبات هناك؛ إذ كلمتنا باللغة المصرية، ولما علمت بأننا قادمون من الشام بكت ثم أخرجت من جيبها عقدًا من الكهرمان الثمين وقالت: «إني أقدِّم هذا العقد لمقام النبي إيليا، وإذا وجدت ضالتي فسيكون علي نذر آخر كبير.» فتعجبنا من قولها، وأردنا الاستفهام منها، فأومأت الرئيسة إلينا ألا نسألها فسكتنا، ثم لما خلونا إلى الرئيسة أسرَّت إلينا أمرًا لا يمكننا ذكره، ولكننا صلينا من أجلها صلاة خاصة وتضرعنا إلى الله أن ينيلها مرامها؛ لأننا رأيناها منكسرة القلب، عسى أن يستجيب الله دعاءنا.» فأحس حسن بانقباض، وصمت. أما الراهب فأخرج من جيبه عقد الكهرمان وقدَّمه لوكيل الدير لينظر إليه، فما رآه حسن حتى خفق قلبه، وتأمله فإذا هو عقد والدته بعينه، وظهرت على وجهه أمارات الدهشة، فتعجب الحاضرون من ذلك ولبثوا ينظرون إليه وهو يتأمل العقد ويقبِّله، ثم رفع رأسه إلى الراهب وقال له وقد شرق بدموعه: «هل رأيت صاحبة هذا العقد في ذلك الدير؟» قال: «نعم.» فقال حسن: «هل تحققت وجهها جيدًا؟» قال: «لم أتحققه تمامًا، ولكنني علمت من مجمل ملامحها ومن الوشم الذي على صدغها أنها من أهل مصر.» فقال حسن وقد وثب من مكانه: «هل عاينت الوشم الذي على صدغها؟ أهو ثلاث نقط متوازيات؟» فنظر الراهب إلى حسن متعجبًا وقال: «إن الوشم الذي على وجهها كان على هذه الصورة حقيقة، فكيف عرفت ذلك؟» قال حسن: «هي والدتي.» ثم أخذ في التأوه والبكاء، فبُهت الجميع، ثم قص حسن على الرهبان قصته، فعلموا أن أباه هو ضالة تلك السيدة، وأنها تعتقد أن ابنها قُتل وليس على قيد الحياة. فدنا أحد الرهبان من حسن وطلب الانفراد به، فلما انفردا قال له: «بما أني قد عرفت أن تلك السيدة هي والدتك، فأخبرك بأن السر الذي أسرَّته إلى الرئيسة إنما هو حكاية فقدكما، وقد أوصتني بأن أبحث لها عن أبيك وأخبرها، فهل تعرف عنه شيئًا؟» فقال حسن: «وهل ذكرت لك شيئًا عن ولدها؟» قال: «لا.» قال: «ذلك لأنها قد تحققت قتلي.» ثم أخذ في البكاء. فقال له الراهب: «خفف عنك يا ولدي وأخبرني بما تعرفه عن أبيك؟» قال: «لا أعرف عنه سوى أنه جاء إلى عكا هاربًا من وجه حكامنا المماليك، وأنا الآن لم أصل إلى تلك المدينة، وقد كنت عازمًا على المسير إليها منذ أيام، ولكن خطر الطريق حال بيني وبين ما أريد.» ثم صمت وأطرق مفكرًا في ذلك الاتفاق العجيب، وبعد قليل رفع رأسه وقال: «مَن لي بأن أطير إلى القاهرة وأشاهد تلك الوالدة المسكينة وأُعلِمها بأني لا أزال على قيد الحياة، لا شك أنها حالما تراني تقع في دهشة وربما أصابها جنون؛ لأنها رأت بعينها الجلادين يقودونني بحبل ليغرقوني في البحر، وكيف تحلم بأني لا أزال حيًّا وهي لو علمت ذلك لطارت إليَّ بأجنحة الشوق، فكل همها الآن لقاء أبي.» ثم رفع يديه نحو السماء ودعا الله قائلًا: «يا رب العالمين، أسألك بجاه سيد المرسلين ألا تحرمنا من الاجتماع مرة ثانية في بيت واحد، إنك جابر قلوب المستضعفين.» فقال الراهب: «آمين يا رب آمين.» ثم خرجا إلى حيث كان الباقون. وعلم حسن أن لا بد من الانتظار حتى تمر قافلة فيصحبها إلى هناك؛ لأن الطريق لا يخلو من الخطر، فلم يسعه إلا الانتظار على نار. ••• خرج عبد الرحمن من صيدا مع خادمه برفقة جماعة يريدون عكا، فمروا بمدينة صور التي كانت منذ القدم أعظم مدن سوريا قوة وثروة، ومكثوا فيها يومًا ثم ساروا منها يريدون عكا، فمروا بالناقورة وهي جبل صخري مرتفع واقع على شاطئ البحر، يخترقه طريق يصعب سلوكها؛ لوعورتها وتعرضها لهجمات اللصوص، وإذا نظر المار فيها إلى أسفل الجبل هاب ارتفاعه عن البحر وسمع صوت الأمواج تلطم قاعدته، وإذا نظر فوقه خُيل له أن الجبل سيسقط عليه. فقطعوا ذلك الجبل بسلام وما زالوا يجِدُّون السير ليصلوا إلى المدينة قبل الغروب؛ مخافة أن تغلق أبوابها قبل وصولهم. لكنهم أمسى عليهم المساء قبل أن يدخلوها، وكانوا بقرب بابها الشرقي فقال التجار: «نخشى إذا سرنا إلى المدينة أن يكون الباب مغلقًا، فلنبت الليلة هنا، وفي الغد ندخل المدينة.» فنصبوا خيامهم وباتوا ليلتهم ساهرين؛ مخافة أن يعتدي عليهم أحد. وكان عبد الرحمن وخادمه أكثر الجميع حذرًا، فقضوا معظم الليل جالسين، ولما أصبح الصباح دخلوا المدينة جميعًا، فسار عبد الرحمن توًّا إلى الخان الذي كان قد نزل به في المرة الأولى، فتلقاه صاحبه بالترحاب وأخلى له غرفة من غرفه، فمكث بها ذلك اليوم للاستراحة والاستعداد لمقابلة الشيخ ضاهر وعرض كتاب الأميرال عليه، وكان يخاف حبوط مسعاه، فكان تارة يفضل كتمان أمره حتى يقابل صديقه عماد الدين، وطورًا تحدثه نفسه بالمسارعة إلى مقابلة الشيخ ضاهر، فلبث في المدينة وهو بلباس المغاربة أسبوعًا، وأخذ يجول في أسواقها ويسير إلى مقر الحكومة لعله يلقى عماد الدين، لكنه لم يقف له على أثر، فاعتزم الانتظار حتى يلقاه ويستشيره في أمر الكتاب. ثم سمع أن الشيخ ضاهر خرج في فرقة من رجاله لمحاربة بعض اللبنانيين في بعض الجهات، فلبث ينتظر عودته وهو يسعى جهده في البحث عن عماد الدين وحسن، فمضى شهر ومعظم الشهر الثاني دون أن يعلم شيئًا جديدًا حتى كاد ييأس، ثم ذهب يومًا إلى قصر الشيخ ضاهر وقد التف ببرنسه وخادمه يحمل له الجراب إيذانًا بأنه طبيب مغربي يكتب الحجاب ويكتب الكتاب … إلخ. فلما أشرف على القصر عند الزاوية الشمالية لسور المدينة تعجَّب لهول منظره؛ لأنه رآه أشبه بالقلاع لعلو أسواره ومتانة بنائه، وفيما هو يتأمل ذلك البناء وقد همَّ بالدخول رأى أحد الجند قادمًا وعرف أنه الهجان الذي ذهب إلى بيروت برسالة الشيخ ضاهر إلى الأميرال الروسي، وكذلك عرفه الجندي فحيَّاه وسأله عن أمره فقال: «إني أزاول مهنة الطب هنا.» وأخذ علي يطنب للجندي في مدح مهارة سيده في تلك المهنة، وسأله عبد الرحمن عن عماد الدين فقال: «إنه سار برفقة الشيخ ضاهر ولا يلبث أن يعود.» فمكث عبد الرحمن في المدينة أسبوعًا آخر، وفي الأسبوع التالي سمع الناس يتحدثون بقرب مجيء الجند، وخرجت الموسيقى والعساكر لملاقاتهم إلى خارج المدينة، فمكث هو في الخان حتى تحقق عودتهم، فخرج مع خادمه إلى قصر الشيخ ضاهر لعله يلقى صديقه عماد الدين، وهناك لقيه الهجان، فأخبره أن عماد الدين مصاب بجرح ويقيم بمنزله على السور، فقال: «أذهب إليه لعلي أطببه فأكافئه بعض المكافأة على فضله.» وسأل الرجل عن بيته فسار به إلى طابية من الطوابي المبنية على السور، وهناك دخل غرفة شاهد فيها عماد الدين ممددًا في الفراش، لكنه ما كاد يراه حتى نهض كأنه لا يشكو ألمًا وسلَّم عليه وأجلسه بجانبه، أما علي فبقي خارجًا. ولما استتب بهم المقام سأله عبد الرحمن عن حسن فقال: «لقد مررت بكل السواحل ولم أقف له على خبر، فلعله أبطأ في الطريق. وأنت ماذا فعلت؟» فقص عليه القصة من أولها إلى آخرها. فقال: «وهل أتيت بتوصية إلى الشيخ ضاهر؟» قال: «نعم، ولكنني لا أزال خائفًا منه.» قال: «وهل تستطيع التطبيب حقًّا؟» قال: «نعم.» فقال: «إني مصاب بجرح خفيف، ولكنني سأشيع أني تألمت منه كثيرًا، وأنك قد شفيتني بمهارتك، وعند ذلك تتقرب من رجال الشيخ ضاهر، وأنا أعلم أن ولده ناصيف مصاب بجرح خفيف أيضًا في ساعده، وقد قتل طبيبه هذه المرة، فإذا شفي على يدك نلت حظوة في عينيه وربما عينوك طبيبًا للقصر، وعند ذلك تتمكن من استخدام الشيخ ضاهر في البحث عن ولدك.» ثم أفهمه الكثير من عادات ناصيف وطباعه، وأعطاه مقدارًا من مرهم البيلسان في قارورة لكي يستعمله في تطبيبه. وأخذ منذ ذلك الحين يتظاهر بتثاقل المرض عليه، وأشاع في القلعة أنه ظفر اتفاقًا بطبيب مغربي أظهر في تطبيبه مهارة كبرى حتى شُفي، فذاع ذلك بين الجند والأمراء في القلعة والقصر حتى بلغ الشيخ ضاهر وأولاده، فبعث ناصيف وهو في فراشه إلى عماد الدين، فلما ذهب إليه سأله قائلًا: «سمعت بطبيب مغربي قد شفاك من مرضك بعد أن ثقلت وطأته عليك، فهل ذلك صحيح؟» قال: «نعم يا سيدي.» وأخذ يطنب في مدح مهارة طبيبه وفراسته إلى أن قال: «وهو ليس طبيبًا فقط، ولكنه عالم بالفراسة ويعالج الداء بدواء واحد فقط وتظهر النتائج بسرعة.» فطلب منه أن يدعوه إلى مقابلته. فذهب عماد الدين وأتى بعبد الرحمن بعد أن أخبره بكل شيء، فدخل وحيا، فقال له الشيخ ناصيف: «قد سمعنا بمهارتك في الطب، فجئنا بك لتطبيب جرحنا، فهل أنت واثق بنفسك.» قال: «إن الشفاء من عند الله، وأرى أني بمعونته تعالى أستطيع شفاءك.» فأعجبه كلامه فقال: «هذا ساعدي وهذا جرحي، فما هو الدواء عندك للجروح؟» قال: «إن البلسم أحسن الأدوية له، وعندي منه قارورة أحضرتها معي من بلاد الغرب لم أستخدمها في شفاء جرح غير جرح عماد الدين، فإذا أذن لي مولاي طببته بها.» قال: «افعل.» فنادى عبد الرحمن خادمه عليًّا فجاءه بالقارورة ففتحها، وأخرج من الجراب ريشة صغيرة من ريش النعام غمسها في المرهم ومسح بها الجرح بعد غسله، ثم لفَّه بعصابة وقال: «يشفيك الله يا سيدي بإذنه تعالى.» وما زال يتردد عليه حتى شُفي تمامًا وقال له: «إني معجب بك أيها الطبيب، فهل أنت في هذه الديار من قديم؟» فقال: «لم آتِ إليها إلا حديثًا، ولكني طببت كثيرين وشُفوا على يدي بإذن الله؛ لأنه هو الشافي، وقد رافقت أمير المراكب الروسية مدة وسرت معه في السنة الماضية من هنا إلى مصر، وقد أُعجب بي وأعطاني كتاب توصية للأمير الجليل الشيخ ضاهر.» فقال: «وأين كتاب التوصية هذا؟» قال: «هو في جيبي.» وأخرجه وناوله إياه، فأخذه وقرأه فسُرَّ جدًّا وقال: «إن لهذا الأمير صداقة وطيدة مع أبي، ولا أشك في أنه حالما يقرأ كتابه، ويسمع مني عن مهارتك في الطب سيعينك طبيبًا في القصر؛ لأن طبيبنا قُتل في الحرب هذه المرة.» فهمَّ عبد الرحمن بيد ناصيف وقبَّلها وقال: «إني على كل حال من عبيد مولانا.» فأخذ ناصيف الكتاب، وطلب منه أن يعود إليه في الغد، فلما جاء في الموعد قال له: «إن أبي يريد أن يراك.» قال: «سمعًا وطاعة.» وسار خلفه إلى القاعة التي يجلس فيها الشيخ ضاهر، فوجده جالسًا في صدرها بعمامته وجبته وقفطانه، وكان طاعنًا في السن أشيب الشعر عريض اللحية غليظ الحاجبين متجعد الوجه، واسع العينين حادهما سريع الحركة مع كبر سنه؛ لأنه كان إذ ذاك في نحو التسعين من العمر، ولكنه كان في نشاط الشبان يركب الخيل كأحسن الفرسان، وكان ذا هيبة ووقار. وقد جلس على وسادة ثمينة بقرب نافذة مشرفة على البحر، وإلى جانبه وزيره إبراهيم الصباغ المسيحي في أفخر ما يكون من اللباس، وهو يقرب سنًّا منه، وإلى كل من الجانبين بقية أعضاء المجلس من الأمراء والمشايخ. وكانت القاعة مفروشة بالبُسط والسجاد، وفي يد الشيخ ضاهر «شبق» طويل مرصع بالقصب، حُلِّي طرفه الأعلى بقطعة من الكهرمان، وقد أخذ يدخِّن ما فيه من التبغ وينفخ الدخان في الغرفة، وكذلك كان يفعل الصباغ. فعجب عبد الرحمن لعظم هيبة ذلك الرجل التي زانها الشيب وحدة النظر، وهمَّ بيده فقبَّلها وقبَّل يد الصباغ، وكان قد سمع عن تقربه من الشيخ ضاهر ونفوذه لديه حتى أصبحت أَزِمَّة الأحكام في يديه وأصاب مالًا طائلًا، ولم تبقَ فوق يده في الحكومة يد؛ لأن الشيخ ضاهر لم يكن يأتي عملًا إلا بمشورته، ثم وقف أمامهما متأدبًا، فأشار إليه الشيخ ضاهر أن يجلس فجلس. فخاطبه الشيخ ضاهر قائلًا: «أأنت الذي جاء بكتاب الأميرال أورلوف؟» قال: «نعم يا سيدي.» فقال: «وكيف وصلت إليه؟ وماذا كنت تعمل في معيته؟» قال: «كنت في عكا منذ سنة أو أكثر، فسار بي بعض رجاله إليه، فلبثت في معيته وقتًا أضرب له الرمل وأستخرج له الأسرار والمغيبات.» قال: «وهل لك اطلاع على ضرب الرمل والتنجيم؟» قال: «نعم يا سيدي.» قال: «أريد أن أمتحنك بسؤال، فإذا عرفته نلت مقامًا رفيعًا وكنت من حاشيتي، وإذا أخطأت جُوزيت جزاءً صارمًا لا يقل عن القتل، فما رأيك؟» فخفق قلب عبد الرحمن وخاف أن يقع في مكروه؛ لأنه لم يكن قد مارس من ضرب الرمل شيئًا غير أنه كان يشاهد الرمالين في مصر مذ كان تاجرًا، وكان يلاحظ أعمالهم، وقد قرأ شيئًا عن تلك الصناعة حتى أحب ممارستها. وكأن الله قدَّر له ذلك إذ ذاك حتى ينتفع به في هذا الوقت، ولما خاطبه الشيخ ضاهر في هذا الأمر لم يمكنه إلا إجابة طلبه؛ لأن رفضه يثبت كذبه على أهون سبيل، بينما إجابته قد يترتب عليها نجاح مشروعه. فتشدد وقال: «نعم يا سيدي بإذن الله تعالى.» فصمت الشيخ ضاهر برهة وكل مَن في مجلسه شاخص إلى ما يريد الاستفهام عنه، وعبد الرحمن مختلج القلب ومرتعد الفرائص، ولكنه أسلم أمره إلى الله وقال في نفسه: «إما أن أعوم وإما أن أغرق، والاتكال على الله.» فنظر إليه الشيخ ضاهر قائلًا: «يهمني أن أعرف سبب رجوع محمد بك أبي الذهب عن دمشق بعد فتحها بغير داعٍ يوجب ذلك، وهذا أمر قد شغل قلوبنا في هذه الأيام، فهل يمكنك معرفته؟» فاستبشر عبد الرحمن بالفرج؛ لأنه كان يعرف سبب ذلك الانسحاب معرفة جيدة، فاشتدت عزائمه وأشرق وجهه ونظر إلى الشيخ ضاهر وقال: «إن استخراج ذلك السر يحتاج إلى مندل، والأسرار عند الله يهبها مَن يشاء من عباده.» فقال الشيخ: «اضرب لنا مندلًا الآن وأنت جالس بيننا.» وأراد بذلك أن يبقيه ويتحقق صدقه. فقال عبد الرحمن: «أفي هذه القاعة يا سيدي؟ إن ضرب المندل يحتاج إلى أوعية كثيرة وإلى نار وبخور ومياه.» قال: «لا بأس، اطلب ما تريد فنأتيك به.» قال: «أعطوني وعاء كبير واملئوه ماء نقيًّا.» فجاءوه به، ثم طلب كانونًا به نار، وشيئًا من البخور النقي فجاءوه بكل ذلك، فقال: «لا ينقصني إلا غلام لم يبلغ رشده، ولكنني قد صحبت خادمًا تدرَّب على مساعدتي في هذا الفن، وهو يستطيع ما لا يستطيعه الغلام الحدث غير البالغ الذي اعتاد ضاربو المندل استخدام مثله في هذه الأحوال؛ لأنني وجدت بالاختبار أن الأحداث يُتعِبون ضارب الرمل بما يستولي عليهم من الخوف مما يشاهدونه أثناء العمل من المناظر الغريبة، أما خادمي فقد اعتاد هذا.» فقال الشيخ: «وأين هو خادمك؟» قال: «في منزلي، فَأْذن لي في أن أسير لإحضاره وجلب بعض المواد اللازمة في هذا العمل.» فأذن له وكلَّف عماد الدين أن يسير برفقته لئلا يفر أو يتواطأ مع خادمه، فسار الاثنان حتى أتيا المنزل، فقال عماد الدين: «ها أن باب الفرج قد فُتح لك بإذن الله.» ثم أفهم عبد الرحمن عليًّا ما يفعله عند فتح المندل، وعادوا جميعًا إلى قاعة الشيخ ضاهر، فجلس بجانب الكانون، وفتح كتابه وألقى في النار قطعة من البخور وأخذ في القراءة والدعاء كما يفعل المنجمون، ووقف علي بجانب وعاء الماء، والشيخ ضاهر ورجاله شاخصون بأبصارهم وكأن على رءوسهم الطير. وبعد أن أتم القراءة قال لعلي: «ما ترى يا غلام في هذا الماء؟» فتأمل علي في الوعاء ثم تراجع كأنه رأى شيئًا مخيفًا، فقال له عبد الرحمن: «لا تخف وقل ما تراه.» قال: «أرى يا سيدي خيامًا عديدة منصوبة في سهل خارج المدينة عالية الأسوار، وأعلامًا عديدة مختلفة الأشكال، وأرى في وسط تلك الخيام خيمة كبيرة أمامها رجلان بسلاح كامل كأنهما حاجبان.» فقال عبد الرحمن: «أدخل الخيمة وانظر ما فيها.» فأمعن علي نظره كأنه يدقق في البحث عن شيء وقال: «أرى بساطًا كبيرًا مفروشًا في أرض الخيمة، وعليه رجلان: أحدهما لابس قاووقًا عليه عمامة ولباسه فاخر كأنه أمير كبير، والآخر يظهر من ملابسه أنه والٍ كبير، وعلى رأسه عمامة وعلى كتفيه فروة سمور، وأرى بينهما سيفًا وكتابًا أظنه المصحف الشريف، وقد جعل الرجل الأول يده فوقهما.» فقال عبد الرحمن: «اسمع ما يقول وأخبرنا به.» قال: «اسمعه يقول: «أقسم بالله العظيم والنبي محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وبرأس مولانا السلطان خليفة رسول الله، أن أنبذ طاعة علي بك وأعصي أوامره، وأعود إلى طاعة مولانا أمير المؤمنين الخليفة الأعظم وأحارب بسيفه وأذب عن حقوقه، ولا أعرف سلطانًا سواه، وإن حنثت في هذا اليمين، كنت مخالفًا للشريعة مجردًا من الذمة والشرف، وأستحق القتل بهذا السيف!» …» فبُغت الشيخ ضاهر وارتجفت لحيته في وجهه، وكذلك كان شأن جميع رجاله، ولم يعد يستطيع صبرًا فقال: «تبًّا له من خائن!» ثم جعل يده على حسامه وهزه كأنه يهدده. فأومأ إليه عبد الرحمن وقال: «اصبر قليلًا يا سيدي لعلي أرى شيئًا آخر.» ثم التفت السيد عبد الرحمن إلى علي وقال له: «وماذا ترى أيضًا؟» فتظاهر علي باشتداد خوفه واضطرابه وقال: «أمهلني قليلًا يا سيدي، ريثما يهدأ روعي وأستطيع التثبت من المناظر التي تبدو لي.» فقال له: «هدئ من روعك، ولا تخف من شيء ما دمتُ بجانبك، ثم أمعِن نظرك فيما أمامك وأخبرني بما ترى.» قال وهو يرتعد متظاهرًا بأنه ما زال خائفًا: «أرى يا سيدي أن الرجل الذي يرتدي الفرو قد نهض ثم خرج وركب منصرفًا.» فقال: «حسنًا، وماذا ترى غير ذلك؟» قال: «أرى جماعة من الكبراء، على رءوسهم العمائم، ويتدلى السيف إلى جانب كل منهم فوق جبته، وها هم أولاء قد دخلوا الخيمة الكبيرة التي خرج منها الباشا.» فقال السيد عبد الرحمن: «أدخل معهم في الخيمة وانظر ماذا يصنعون.» قال: «أرى الرجل الأول ما زال جالسًا وأمامه المصحف والسيف، وقد أشار إلى الداخلين بالجلوس فجلسوا وأخذ يحدثهم.» فقال: «وماذا يقول لهم، أصغِ جيدًا لكلامه، واحذر أن يفوتك منه شيء.» قال: «أسمعه يقول لهم: «ما زال علي بك يبعث إلينا بأوامره المتشددة، كي نواصل الأسفار والحروب وتكبد المشاق والأخطار، وهو ناعم بالعيش في قصره بين حريمه وسراريه، ويستأثر وحده بثمرة جهادنا وتعبنا، فما قولكم؟» …» ثم تململ علي في مجلسه متظاهرًا بالتعب، فقال له السيد عبد الرحمن: «امضِ في الاستماع لما يدور بين القوم من الأحاديث، وأخبرنا بم أجابوه.» فتنهد علي، ثم استأنف تفرسه في الإناء وقال: «لقد تشاوروا فيما بينهم، ثم فوضوا الرأي له مؤكدين أنهم أطوع له من بنانه في كل شيء، ثم عززوا ذلك بأن وضعوا أيديهم على المصحف والسيف اللذين أمامه، وأقسموا ليكونن رهن إشارته، وهذا هو يثني على همتهم ويقول لهم: «إن علي بك يريد أن تذهب أعماركم في الحروب والفتوحات في سبيل تحقيق مطامعه التي لا تقف عند حد؛ ولهذا أرى أن نرجع إلى مصر وكفى ما قاسيناه من الغربة وأخطار الحروب حتى الآن، فإذا لم يعجبه ذلك فليس له عندنا إلا هذا.» وأشار إلى السيف الذي أمامه.» وكان الشيخ ضاهر مرهفًا سمعه لتتبع كل ما يقوله علي، فلما سمع عبارته الأخيرة على لسان أبي الذهب، لم يتمالك عواطفه وأخذ ينتفض من شدة التأثر، ثم نهض وجرَّد سيفه وراح يهزه بقوة قائلًا: «ويل لك يا أبا الذهب! ويل لك يا خائن!» وهنا تظاهر كل من علي والسيد عبد الرحمن بأن الجهد قد نال منهما، وطلبا ماء للشرب فجيء لهما به، وبعد أن شربا جلسا يمسحان عرقهما وهما يلهثان تظاهرًا بالتعب والإجهاد. ودنا الشيخ ضاهر من السيد عبد الرحمن وسأله: «أأنت واثق من صحة ما رواه غلامك؟» فأجابه بقوله: «نعم يا سيدي، إنني واثق بصدقه كل الثقة؛ فهو لم يروِ لي إلا الصدق منذ استخدمته حتى الآن، ثم إني أضع نفسي رهنًا عند مولاي حتى يتحقق الأمر بالوسيلة التي يراها.» فقال الشيخ ضاهر: «الحق أني جد معجب ببراعتك في الطب والتنجيم؛ ولهذا ستكون من حاشيتي منذ الآن، للانتفاع بعلمك في أي وقت.» فهمَّ السيد عبد الرحمن بيد الشيخ ضاهر وقبَّلها وقال: «إني عبد مولانا، ولا شيء أحب إليَّ من هذا الشرف العظيم.» ثم أمر الشيخ ضاهر بأن يُخصص له مسكن خاص في القلعة، وأن تُخلع عليه أثمن الخلع، ويُجاب كل طلب له، وسُرَّ السيد عبد الرحمن بهذا لعله ينفعه في البحث عن ولده وزوجته، لكنه خشي أن ينكشف أمره إذا لاح للشيخ ضاهر أن يمتحنه بفتح مندل آخر، وأخيرًا لم يسعه إلا الرضا بما كان مسلمًا أمره لله فيما يكون، ثم التمس من الشيخ ضاهر أن يأذن له في إبقاء خادمه معه، فأذن له في ذلك.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/15/
خروج علي بك من مصر
أمضى السيد عبد الرحمن وعلي خادمه أيامًا في القلعة وهما موضع الإكرام والاحترام من كل مَن فيها، ثم جاء عماد الدين بعد ذلك فاجتمع بهما وأخذوا يتجاذبون أطراف الحديث في مختلف الشئون، إلى أن قال عماد الدين للسيد عبد الرحمن: «يجب أن تنتهز الحظوة التي نلتها لدى الشيخ ضاهر للبحث عن حسن.» فقال السيد عبد الرحمن: «إن هذا أهم ما يشغل بالي، ولكني أخشى أن أخاطب الشيخ ضاهر في ذلك فتقل ثقته بي وتحدِّثه نفسه بأني لو كنت بارعًا في التنجيم حقًّا لاستطعت الاهتداء إلى مقر ولدي، فما رأيك أنت؟» قال: «ولماذا تخاطب الشيخ ضاهر نفسه في هذا الأمر؟ يكفي أن تتصل بحراس أبواب المدينة، وتكلِّفهم أن يبلغوك أمر أي شخص غريب صفته كذا وكذا يدخل المدينة أو يخرج منها، وتذكر لهم أوصاف حسن.» فقال: «هذا رأي صائب، وسأعمل به في أقرب وقت.» وفي صباح اليوم التالي خرج السيد عبد الرحمن وعلي من القلعة. وطافا بكل أبواب المدينة موصيين حرَّاسها بإبلاغهما في القلعة أمر أي غريب تنطبق عليه أوصاف حسن، وذكراها لكل منهم بالتفصيل. ثم تذاكرا أمر سالمة، فقال علي لسيده: «أرى وقد داخلنا شيء من الاطمئنان على سيدي حسن، أن تبقى أنت هنا حتى يأذن الله بلقائه عما قريب، وأمضي أنا إلى مصر فأبحث هناك أمر سيدتي والدته.» فقال السيد عبد الرحمن: «لقد نطقت صوابًا، وغدًا أستأذن في سفرك على أنك ذاهب إلى مصر لإحضار بعض الأدوات والمعدات والعقاقير اللازمة لإتقاننا مهنة التنجيم والطب.» وكان الشيخ ضاهر عند حسن ظن السيد عبد الرحمن وزيادة؛ فإنه ما كاد يعلم منه برغبته في إيفاد خادمه إلى مصر لذلك الغرض حتى وافق وأظهر ارتياحه التام، ثم نادى كاتب سره وأمره بأن يبلغ أمره بتزويد خادم الطبيب بكل ما يحتاج إليه في سفره من مئونة ومال، وأن تسير في ركابه كوكبة من الفرسان لحراسته في الطريق ذهابًا وإيابًا، مع إعطائه كتاب توصية إلى علي بك صاحب مصر لتسهيل مهمته باعتباره من حاشيته وأتباعه. ولم يسع السيد عبد الرحمن إلا أن يقبِّل يد الشيخ ضاهر شاكرًا، ثم خرج من عنده فقابل عليًّا وبشَّره بما كان. وفي اليوم التالي كانت معدات السفر كلها قد أُعدَّت فودَّعه طالبًا له التوفيق، وعاد إلى القلعة ينتظر ما تأتي به الأقدار. أما علي فما زال يَجِدُّ السير ليل نهار حتى وصل إلى يافا مع ركبه، فاستراحوا فيها يومًا، واشترى من هناك ملابس شامية استبدل بها ملابسه المغربية، ثم واصلوا رحلتهم إلى غزة فالعريش فالصالحية، وكان السفر قد أجهدهم فقرر الاستراحة هناك يومين أو ثلاثة ثم يواصلون السفر إلى القاهرة. وفيما هم في الصالحية، شاهدوا عند العصر غبارًا عاليًا إلى الغرب منها قد حجب الأفق وكاد يحجب الشمس، ثم ما لبثوا أن علموا بأنه غبار جيش المماليك أعوان علي بك، وقد خرج به من مصر هاربًا من وجه صهره أبي الذهب، ووجهته عكا للاحتماء فيها بالشيخ ضاهر حليفه. فقال علي لنفسه: «هذا ما كان متوقعًا منذ عاد أبو الذهب من دمشق حانقًا معتزمًا التمرد والغدر.» ثم مضى رفقاؤه فوقفوا لمشاهدة موكب الحاكم الهارب المطرود، فإذا بالموكب يضم أخلاطًا من الرجال والنساء والأولاد، بين مشاة وركبان، وعلي بك في مقدمتهم على جواده، وقد ازداد وجهه عبوسًا وتجهمًا، ولكن الذل والانكسار غالبان على هيئته، فقال علي: «هذه نهاية كل جبار عنيد، وسبحان المعز المذل!» ثم تذكَّر كتاب التوصية الذي يحمله إليه من الشيخ ضاهر، فرأى أن يسلمه له وإن لم يكن في ذلك ما يفيده شيئًا بعد أن أصبح الأمر في مصر لأبي الذهب، فدنا من علي بك ولوَّح له بالكتاب، فأوقف هذا جواده وتناول الكتاب منه سائلًا: «ما شأنك وماذا تريد؟» فقال: «إني من أتباع الشيخ ضاهر الزيداني في عكا، وهذا كتاب منه إلى مولاي.» ففض علي بك الكتاب وقرأه ثم طواه وجعله في منطِقته، وأشعل غليونه وأخذ ينفث الدخان من فيه في غضب يحاول كبته فلا يستطيع، ثم أخذ يسأل عليًّا عن أحوال الشيخ ضاهر ومدى قوة جنده وما إلى ذلك، وأخيرًا قال له: «إني ذاهب إلى عكا للقاء مولاك، وستجد في القاهرة ما تريد إن شاء الله.» ثم همز جواده واستأنف الموكب سيره، فعاد علي إلى رفقائه، وأقنعهم بأن ينضموا إلى موكب علي بك عائدين معه إلى عكا، ثم واصل هو سيره إلى القاهرة للبحث هناك عما تم في أمر سيدته. ••• لبث حسن مقيمًا بكنيسة النبي إيليا في ضواحي بيروت منتظرًا مرور قافلة ذاهبة إلى عكا ليصحبها إليها، ولكن انتظاره طال حتى ملَّ الإقامة بتلك المنطقة، كما ضعف أمله في بقاء أبيه في عكا حتى ذلك الوقت، ولاسيما أنه لا يستطيع الظهور فيها وحاكمها الشيخ ضاهر متحالف مع علي بك في مصر، فلن يتأخر عن القبض عليه وإرساله إليه إن هو وقف على حقيقة أمره. وكانت هواجسه تشتد كلما تصور أن أباه راجع إلى مصر ليرى ما أخَّره ووالدته عن اللحاق به إلى عكا، وأنه علم هناك بما أمر به علي بك من إغراقه في النيل وأخذ والدته للخدمة في قصره. وفيما هو جالس يقطع الوقت بالتحدث مع قسيس الكنيسة، علم منه بما كان من قدوم أبي الذهب لفتح دمشق ثم رجوعه إلى مصر واستيلائه على مقاليد الحكم فيها بعد طرد علي بك منها، فكان سروره بذلك النبأ عظيمًا وقال: «هذه عاقبة الخيانة والظلم، ولسوف يلقى علي بك ما هو أمر وأدهى.» فقال القسيس: «على كل حال، ما أظن أن أبا الذهب يكون أعدل حكمًا من علي بك.» قال: «هذا رأيي أيضًا، فأبو الذهب قد نشأ في بيت علي بك، وتلقى عليه مبادئ الظلم والاستبداد وسفك الدماء والدسائس، وبرع في كل هذا إلى أن أولاه مولاه كل ثقته وزوَّجه بابنته، ولكن الله — جل شأنه — يسلط بعض الظالمين على بعض، وكما دالت دولة علي بك على يد أبي الذهب، تدول دولة هذا على يد آخر قريبًا بإذن الله.» فقال القسيس: «نسأل الله أن يمحق الظالمين جميعًا، على أني ما زلت أوجس خيفة على أبي الذهب من علي بك نفسه؛ لأن مجيء هذا إلى الشيخ ضاهر حليفه في عكا إنما هو للاستنجاد به وبالأسطول الروسي المتحالف معهما، وأكبر الظن أنهما سيسارعان إلى نجدته ومعاونته على استرداد حكم مصر من يد أبي الذهب، وهذا لن يقوى على دفعهم مجتمعين.» فقال حسن: «نسأل الله أن يبيد دولة المماليك جميعًا؛ فإن التاريخ لم يشهد حكامًا في مثل جبروتهم وظلمهم.» فأمَّن القسيس على دعائه وقال: «إنه لا يهد أركان الممالك كالظلم والانغماس في اللهو والفجور، ولعل حكم علي بك كان أقل جورًا وفسادًا من حكم أسلافه الذين سبقوه من المماليك.» فتنهد حسن وقال: «كان هذا صحيحًا في أول أمره، لكنه ما لبث قليلًا حتى فاق بظلمه كل مَن سبقوه، فكم خرَّب من بيوت كانت عامرة! وكم سفك من دماء، وانتهك من حرمات!» ثم غلبته عواطفه فأخذ في البكاء حزنًا على ما أصابه وأسرته من ظلم علي بك. فأخذ القسيس يعزيه ويحاول الترفيه عنه إلى أن قال له: «لعلك راغب في السفر إلى عكا، وقد علمت اليوم من قريب لي أنه ذاهب إليها بعد يومين في صحبة وفد من اللبنانيين بعث به الأمير يوسف شهاب إلى الشيخ ضاهر، فإذا شئت فإني أوصي قريبي هذا بأن يهيئ لك مكانًا معهم.» فهمَّ حسن بيد القسيس وقبَّلها شاكرًا. وفي اليوم التالي مضى به القسيس إلى قريبه السالف الذكر، وأوصاه به خيرًا، فهيأ له هذا جوادًا وزادًا، وألحقه بقافلة الوفد اللبناني، فسارا فيها آمنًا حتى وصل إلى عكا بعد العصر بقليل. ••• ما كاد حسن يدخل المدينة من الباب الشرقي حتى استوقفه حارس الباب وأخذ يتفرس فيه، ثم سأله عن اسمه وإلى أين هو ذاهب، فارتبك حسن ولم يدرِ كيف يجيب، فقال له الحارس: «إن لدي أمرًا بحجزك وإرسالك إلى مولانا الشيخ ضاهر في القلعة.» فأجفل حسن ومُلئ قلبه رعبًا وفزعًا؛ لعلمه بتحالف الشيخ ضاهر مع علي بك، ثم تجلَّد قليلًا وقال للحارس: «إني غريب عن هذه المدينة، وليس فيها مَن يعرفني أو أعرفه، فلعل شخصًا غيري هو المطلوب.» فقال الحارس وهو يشير إليه بالجلوس بجانبه قرب الباب: «كلا، بل أنت الشخص المطلوب نفسه، ولا شك عندي في ذلك؛ إذ تنطبق على هيئتك جميع الصفات التي ذكروها لي.» فلم يبقَ لدى حسن أدنى شك في أن أمره قد انكشف، وأن الأمر بالقبض عليه ليس سوى تمهيد لتسليمه إلى علي بك، فلم يتمالك عن البكاء حزنًا وأسفًا على سوء حظه الذي أوقعه في يد ذلك الظالم من جديد. ورقَّ الحارس لحالته ولم يدرِ سبب بكائه، فقال له: «لا داعي للبكاء والجزع يا سيدي؛ فإن رسول الشيخ ضاهر الذي أبلغني وصفك وهيئتك وطلب حجزك وإرسالك إلى القلعة أوصى بإرسالك إليها معززًا مكرمًا، وأعتقد أنك ستكون هناك أكثر حظًّا من الإعزاز والإكرام.» فقال حسن: «أي إعزاز وأي إكرام يا سيدي؟! إنني أتوسل إليك بكل عزيز لديك أن تطلق سراحي لأرجع من حيث أتيت؛ فإني لم أقترف أي ذنب، ولا رغبة لي في الذهاب إلى القلعة.» فقال الحارس: «لو أنني خليت سبيلك، لقبض عليك غيري، فقد علمت أن الأمر الذي صدر في شأنك أُبلغ إليهم جميعًا، واعلم أن الشيخ ضاهر ورسوله ليسا في القلعة الآن؛ إذ خرجا للقاء علي بك القادم إلينا من مصر، ولن يعودا إلا غدًا، وستكون عندي في ضيافتي معززًا مكرمًا حتى يرجع الجميع إلى القلعة، ولن يكون إلا ما تحب إن شاء الله.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/
استبداد المماليك
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. ركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «استبداد المماليك» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتشتمل الرواية على سرد لأخبار علي بك الكبير، ومَن عاصره من مماليك مصر وأمراء الشام آنذاك، كما تروي وقائع الحرب التي قامت في ذلك الوقت بين تركيا وروسيا، ويتخلَّل الرواية وصف للأوضاع السياسية والاجتماعية التي عاشتها كل من مصر وسوريا في أواخر القرن الثامن عشر، كما تتناول ظاهرة استبداد الحكام والدور الذي تلعبه المؤامرات والدسائس في السيطرة على الحكم.
https://www.hindawi.org/books/92031406/16/
اجتماع الشمل
وصل علي خادم السيد عبد الرحمن إلى القاهرة، وقد استبدل بملابسه الشامية ملابس مصرية حتى لا يستغشه أحد، وقد وجد الناس فيها بين شامت بعلي بك ومتوجس خيفة من أبي الذهب. وأخذ طريقه عقب وصوله إلى دار السيد المحروقي رأسًا؛ إذ رأى أنه خير مَن يسأله في شأن سيدته دون أن يكون في ذلك خطر عليه، فلما بلغ الدار وطرق الباب فتح له أحد الخدم وسأله عما يريد، ثم أخبره بأن السيد مسافر إلى خارج القاهرة منذ حين ولن يعود قبل شهرين. فسقط في يد علي، لكنه لم يجد بدًّا من الانتظار حتى يرجع السيد من سفره، على أن يبحث هنا وهناك خلال ذلك، عسى أن يعلم شيئًا عن مصير سيدته. ولم يسفر بحثه عن نتيجة، فبقي في حيرة وقلق إلى أن عاد السيد المحروقي فخف إلى مقابلته، وما كاد يكشف له عن حقيقة أمره ومهمته حتى قلَّب السيد كفيه عجبًا وأسفًا وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لقد وقفتُ على المخبأ الذي لجأت إليه سيدتك بعد أن أنقذت الست نفيسة زوجة علي بك حياتها، وكانت مختبئة في بعض الأديار، فلما قامت الثورة بين علي بك وصهره أبي الذهب، انتهزتُ هذه الفرصة وسعيتُ إلى إخراج سيدتك من الدير، وأرسلتُها مع بعض رجالي الأمناء إلى عكا للبحث عن السيد عبد الرحمن زوجها هناك، وقد بشرتُها بأن ابنها قد نجا أيضًا بفضل الست نفيسة، وفر إلى سوريا.» فعجب علي لهذا الاتفاق، وقال: «جزاكم الله خيرًا يا سيدي على كل حال، وهو القادر جل شأنه على أن يجمع شملهم ويسعدهم بالأمن والطمأنينة بعد كل هذا الذي نالهم من ظلم علي بك الذي نال جزاء ظلمه وخروجه من طاعة السلطان، فأُخرج من مصر مذمومًا مدحورًا.» فهز السيد المحروقي رأسه أسفًا وقال: «حقًّا، لقد طغى علي بك وتجبر ولم يقف في مطامعه عند حد، ولكنه مع هذا كان خيرًا من أبي الذهب، فهذا وإن تظاهر بإعادة البلاد إلى حوزة الدولة العلية دولة الخلافة، يسعى في الخفاء لكي يأخذها لنفسه، وليس في مصر مَن يحبه؛ لما عُرف عنه من الميل إلى الغدر والخيانة.» فقال علي: «وماذا يرى السيد في استنجاد علي بك بالشيخ ضاهر حاكم عكا والأسطول الروسي الموجود فيها الآن، وهو يضم ثلاثة آلاف من الجنود الألبانيين (الأرناءوط) للهجوم من البر، عدا مَن فيه من الجنود البحريين؟» فقال السيد المحروقي: «مهما يكن من أمر، فلا شك في أن الدولة الروسية لا تعاون هؤلاء الجهلة حبًّا في معاونتهم، ولكنها تفعل ذلك، لتحارب بهم الدولة العلية وتشغلها بما يقومون به من فتن ودسائس وثورات داخلية.» قال: «وهل ترون أن أبقى في القاهرة أم أعود إلى عكا لأخبر سيدي بما كان والبحث عن سيدتي هناك؟» فقال: «إن سفرك وحدك لا يخلو من الخطر، فانتظر هنا إلى أن تصحب قافلة أو حملة ذاهبة إلى هناك.» ثم أمر بإعداد غرفة خاصة له في منزله يقيم بها، ودعا الله أن يختم مأساة أسرة صديقه السيد عبد الرحمن بما يسعدها وينسيها ما قاسته من شقاء وعذاب. ••• عاد السيد المحروقي إلى داره بعد أيام، فدعا إليه عليًّا خادم السيد عبد الرحمن وقال له: «لقد جاءت الأنباء بقدوم علي بك إلى الصالحية في جيش كبير من الألبانيين التابعين للأسطول الروسي ومن جنود الشيخ ضاهر حليفه، وقد تغلبوا هناك على جنود أبي الذهب، ودخلوا البلدة فاتحين، وقد جند أبو الذهب جيشًا كبيرًا واعتزم الخروج به إلى الصالحية لصد علي بك. وعلمت أن هذا عاد من عكا مريضًا لا يستطيع الإشراف على المعارك.» قال: «وكيف أُقدِم على المجيء للحرب وهو مريض؟» قال: «لم يكن راغبًا في المجيء قبل أن يُشفى، ولكن أبا الذهب احتال لاستقدامه وهو في هذه الحالة من المرض والضعف ليسهل عليه صده، وكانت الحيلة التي استخدمها لذلك أن كتب إليه على لسان المعلم رزق الذي كان كاتبًا لحساباته ومن خاصة مستشاريه، وبقي في مصر بعد خروجه منها، مستمرًّا في الدعاية له ومكاتبته سرًّا. وقال أبو الذهب لعلي بك في هذا الكتاب الموقع عليه بإمضاء المعلم رزق: «عليك أن تعجِّل بالقدوم لمحاربة أبي الذهب، فلا شك في أن أهل القاهرة وجميع أحزابها يودون عودتك وينتظرونك بفارغ الصبر»، إلى غير ذلك مما يحبب إليه القدوم. وقد نجحت الحيلة، وجاء علي بك إلى الصالحية وأخذها، ولكني لا أدري عاقبة الأمر على كل حال؛ فإن أبا الذهب مسافر غدًا في حملة لمحاربة علي بك في الصالحية، فإذا أفقت الحملة إلى قرب الصالحية فيمكنك التحول من هناك إلى حيث تشاء؛ إذ تكون قد وصلت إلى مأمنك، والرأي لك.» فقال علي: «وكيف يمكنني مرافقة الحملة وأنا لست منها، فقد يستغشونني؟» قال: «يمكنك مرافقتها بصفتك بائع مأكولات.» فاستحسن علي الرأي، وأخذ يُعدُّ ما يلزم لسفره، واشترى طبقًا كبيرًا من خشب جعل عليه بعض أنواع المأكولات، وتزيا بزي الباعة وانخرط في سلك الحملة، وساروا يريدون الصالحية. ••• بقي حسن في ضيافة حارس باب عكا، في انتظار عود الشيخ ضاهر. وفي صبيحة اليوم الثالث وصلت البشائر بقدومه مع علي بك ورجالهما، فخرج الناس بالطبول للاحتفال بملاقاة القادمين، وجلس حسن إلى نافذة مطلة على السهل خارج القلعة لعله يشاهد الاحتفال؛ فإذا بالغبار يتكاثف عن بُعد، ثم انقشع عن خيالة يتقدمهم اثنان عرف أنهما الشيخ ضاهر وعلي بك؛ لما في لباسهما من الزخرف وما أحدق بهما من الحاشية، وكل منهما على جواده كأنه أسد، ثم تذكر أنه محجور عليه بأمر الشيخ ضاهر وربما حُكم عليه بالقتل أو الحبس، فانقبضت نفسه، ولكنه اشتغل بمشاهدة الموكب وهو يدخل القلعة. فدخل أولًا الأميران وحاشيتهما على خيولهم، ثم تقاطر الناس أفواجًا، وفيهم الرجال والنساء والأولاد في الزي المصري، فتذكر والدته وهاجت أشجانه واشتد اشتياقه إليها، وأخذ ينظر إلى النساء لعله يستأنس بمنظرهن لمشابهتهن لها بالزي. وفيما هو يتأملهن وقع نظره على واحدة منهن تشبهها قامة ومشية، فخفق قلبه لها واستأنس بها، وجعل يمعن نظره فيها، وكانت كلما اقتربت من الباب ازداد استئناسه بها حتى ترجح لديه أنها هي بعينها، فازداد خفقان قلبه وطارت عيناه شعاعًا تطلعًا إليها، وود لو أنها ترفع نظرها إليه لعله يتحقق ظنه ويعرفها من وراء الإزار واليشمك، ولكنها كانت مطرقة كئيبة وإلى جانبها رجل عرف أنه من خدم السيد المحروقي، فأخذ يتردد بين الشك واليقين حتى دخلا الباب، فحدثته نفسه أن ينزل لملاقاتهما، وهمَّ بذلك ثم خاف أن يمنعه الحراس، ولكنهم كانوا في شغل بملاقاة القادمين، فنزل حتى أتى الباب وأمعن نظره في المرأة والرجل، أما الرجل فحالما رآه عرفه لكنه لم يتحققه جيدًا لما هو فيه من اللباس المغربي. فتقدم إليه حسن وأمعن نظره فيه وفي المرأة حتى كاد يتحقق أنها والدته، أما هي فحالما وقع نظرها عليه رمت نفسها عليه وصاحت «ولدي.» وأُغمي عليها، فهمَّ بها وأمسك يدها وأخذ يخفف عنها ويقبِّل يديها ويدعوها باسمها، حتى أفاقت فضمته إليها وجعلت تقبِّله وتشكر الله على مشاهدتها إياه، والناس وقوف قد أدهشهم ذلك المنظر، خصوصًا الحارس لما رأى من بكائهما ولهفتهما، ثم دخل بهما إلى غرفته وهما متعانقان والدموع تتساقط على خديهما، فلما جلسا أخذت سالمة تسأل حسنًا عن أمر أبيه، فذكر لها أنه لا يعلم مقره، وقد جاء للبحث عنه ظنًّا منه أنه في عكا، وأخبرها أنه محجور عليه هناك لسبب لا يعلمه. فسألت الحارس عن سبب ذلك القبض، فقال: «لا أعلم يا سيدتي، ولكني أُمرت من أحد رجال سيدي الشيخ ضاهر أن أقبض عليه.» فتذكر حسن صديقه عماد الدين فقال في نفسه: «لعلي إن وجدته أنتفع به في هذه المسألة.» وكان حسن لا يعلم عن مكان عماد الدين شيئًا بعد أن غادره في بيروت، فسأل البواب عنه فقال هذا: «ومن أين لك معرفته؟» قال: «هو صديقي، عرفته منذ أشهر، فهل هو في المدينة؟» قال: «نعم هو هنا، وقد أوصاني هو أيضًا وشدد الوصية في القبض عليك.» فانبسط وجه حسن ونهض واقفًا من الفرح وقال: «إذن فالقبض علي لخير والحمد لله؛ لأن الرجل صديق وبيننا عهود وثيقة تقضي بمساعدة أحدنا الآخر.» ثم التفت إلى البواب قائلًا: «وأين عماد الدين الآن؟» قال: «لا بد من أنه قدم مع القادمين، وعما قليل أسأل عنه وأستقدمه إليك.» وبعد قليل، مضى الحارس فغاب قليلًا ثم عاد ومعه عماد الدين، فما وقع نظر هذا على حسن حتى همَّ به وعانقه وأخذ يقبِّله ودموع الفرح تتساقط على خديه، ثم حانت منه التفاتة إلى أم حسن وهي جالسة هناك، فسأله عمن تكون، فقال: «هي والدتي، ولم يبقَ إلا أن يكتب الله لنا الاجتماع بأبي.» فقبَّل عماد الدين يد السيدة سالمة وهنأها بالسلامة ولقاء حسن، ثم قال لهما: «إني أهنئكما وأهنئ نفسي بأن السيد عبد الرحمن في خير وأمان، بل هو الآن من أكابر المقربين إلى الشيخ ضاهر، وقد خصص له مسكن إلى جواره في هذه القلعة.» فلم يتمالك حسن ووالدته من البكاء فرحًا بهذه البشرى، ثم أشار عليهما بالذهاب معه إلى منزله والانتظار هناك حتى يأتي إليهما بالسيد عبد الرحمن، بعد أن يمهِّد لديه لهذا اللقاء حتى لا تضره المفاجأة. فنهضا وصحباه إلى منزله بعد أن ودَّع حسن حارس الباب وشكره على حسن ضيافته. ••• كان السيد عبد الرحمن قد أوى إلى حجرته عقب عودته إلى القلعة، فلما دخل عليه عماد الدين وجده مطرقًا يفكر وعلائم القلق بادية في محياه. فقال له: «فيم تفكر يا صديقي؟ ألا تحمد الله على ما نلت من حظوة لدى حاكم المدينة؟» فقال السيد عبد الرحمن: «آه يا عماد الدين! إني لو أُعطيت ملك الدنيا كلها ما أنساني ذلك حزني لفراق حسن ووالدته وانقطاع أخبارهما، وإني لأضرع إلى الله أن يعجل برجوع علي خادمي من مصر عسى أن يكون قد وقف على شيء عنهما هناك؛ فقد كاد اليأس من لقائهما يستولي على قلبي.» فقال عماد الدين: «ولمَ اليأس يا سيدي؟ أليس الله بقادر على أن يجمعك بهما قبل رجوع علي من مصر؟» قال: «إن الله قادر على كل شيء، ولكني أخشى أن يذهب عمري وأنا لا أزال أبحث عنهما.» وأخذت عَبراته تتساقط على خديه. فتأثر عماد الدين لبكائه وقال له: «لقد صبرت طويلًا يا سيدي، والصبر مفتاح الفرج، وقد جئتك الآن مبشرًا بنبأ فيه ما يسرك.» فهبَّ السيد عبد الرحمن واقفًا وقال له: «ما هو هذا النبأ؟ قل يا ولدي، بشَّرك الله بكل خير.» قال: «قد علمت الآن من مصدر وثيق الاطلاع أن حسنًا جاء إلى عكا.» فهمَّ به السيد عبد الرحمن وقبَّله باكيًا وهو يقول: «وأين هو؟ هل عرفه حراس أبواب المدينة فاحتجزوه؟» قال: «نعم، عرفه أحدهم وهمَّ بإرساله إلى هنا في القلعة تنفيذًا لأمرك، ولكن …» فقاطعه سائلًا: «ولكن ماذا؟ هل عليه من بأس؟» فقال: «لا بأس عليه، لكنه شاهد بين القادمين من مصر مع علي بك جماعة من خدم صديق لكم هناك اسمه السيد المحروقي، وعلم منهم أنهم قادمون للبحث عنك وعنه ومعهم سيدة يهمها أمركما.» فازداد بكاء السيد عبد الرحمن من شدة الفرح وقال: «لعلها سالمة، أليس كذلك؟» فضحك عماد الدين وهمَّ بالسيد عبد الرحمن فعانقه وقبَّله وقال: «نعم … إنها هي بعينها يا سيدي، فهل أيقنت بأن الله قادر على كل شيء، وأنه لا يضيع أجر الصابرين؟!» فسجد السيد عبد الرحمن شكرًا لله، ثم نهض وعاد إلى معانقة عماد الدين وتقبيله وهو يقول: «لقد نفد صبري، فاعذرني يا ولدي، فأين هم الآن؟» فقال له: «هيا بنا نذهب لمقابلتهم.» ثم اصطحبه إلى منزله فإذا بحسن وأمه ينتظران بالباب، وأخذ الجميع يتبادلون العناق والقبلات وهم لا يكادون يصدقون اجتماع شملهم بعد طول الفراق. ••• اتفق الجميع بعد ذلك على أن يبقى حسن وأمه في منزل عماد الدين، ويعود السيد عبد الرحمن إلى مسكنه في القلعة إلى أن يرجع علي خادمه من القاهرة. وبعد أيام، قام علي بك بالعودة إلى مصر على رأس ذلك الجيش العرمرم الذي أعده له الشيخ ضاهر من بين رجاله ورجال الأسطول الروسي حليفهما، ثم جاءت الأنباء بهزيمة هذا الجيش على حدود مصر، ثم معاودته الكرة حتى دخل الصالحية فاتحًا، وهناك خف إلى لقائه محمد بك أبو الذهب على رأس جيش عظيم، واستطاع أن يرده مرة أخرى، بعد أن أُصيب علي بك وهو مريض في خيمته بطعنات عدة، فنُقل إلى القاهرة أسيرًا حيث مات متأثرًا بجروحه، وخلا الجو لأبي الذهب. وكان علي خادم السيد عبد الرحمن قد عاد إليه في عكا، وأنبأه بأن أبا الذهب في طريقه إليها للانتقام من الشيخ ضاهر الزيداني حاكمها، ثم لم تمضِ أيام حتى جاءت الأنباء بموت أبي الذهب فجأة في الطريق، ففرح بموته الجميع. وكان السيد عبد الرحمن قد جمع ثروة طائلة من عمله في خدمة الشيخ ضاهر، فقرر العودة بأسرته إلى مصر، وودَّعهم عماد الدين متعاهدًا وإياهم على التزاور وتبادل المكاتبات. واستطاع السيد عبد الرحمن بعد أشهر من عودته أن يسترد أملاكه ومكانته التجارية في وكالة الليمون، كما عاد حسن إلى إتمام دراسته الطبية في البيمارستان المنصوري، وعاش الجميع في سعادة واطمئنان.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/96959796/
عُمَارَة
كامل كيلاني
عمارة ولد شديد الكسل، يعيش مع أمه الفقيرة التي كانت تعمل لتكسب قوت يومهما، من أجل أن يستمر عمارة في المدرسة. ولكن لشدة كسله أُخرج من المدرسة، فهددته أمه أنه إذا لم يجد عملًا فسوف تطرده من البيت، وبالفعل يبدأ عمارة بالعمل في أماكن كثيرة ولكن نتيجة كسله تحدث له مشاكل كثيرة يتعلم منها الكثير.
https://www.hindawi.org/books/96959796/1/
عُمَارَة
كانَ «عُمارَةُ» وَلَدًا شَدِيدَ الْكَسَلِ. وَكانَ يَعِيشُ مَعَ أُمِّهِ الْفَقِيرَةِ الَّتِي تَكْسِبُ قُوتَها وَقُوتَ وَلَدِها بَعْدَ تَعَبٍ شَدِيدٍ. فَقَدْ كانَتْ أُمُّ «عُمارَةَ» تَخِيطُ الْمَلابِسَ لِلْجِيرانِ، وَتَقْتاتُ — هِيَ وَوَلَدُها «عُمارَةُ» — بِما تَأْخُذُهُ مِنَ الْأَجْرِ الْقَلِيلِ عَلَى عَمَلِها الْكَثِيرِ. ••• وَكانَ «عُمارَةُ» لا يَعْمَلُ شَيْئًا طُولَ النَّهارِ، بَلْ يَقْضِي أَكْثَرَ وَقْتِهِ فِي النَّوْمِ وَالْجُلُوسِ فِي الْبَيْتِ. وَكانَ يُهْمِلُ دُرُوسَهُ، وَلا يَحْفَظُ مِنْها شَيْئًا. وَكانَ إذا خَرَجَ — لِشِراءِ شَيْءٍ مِنَ السُّوقِ — غابَ طُولَ النَّهارِ، ثُمَّ عادَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا. ••• وَكانَتْ أُمُّهُ تُوَبِّخُهُ عَلَى كَسَلِهِ، وَتُعاقِبُهُ عَلَى إِهْمالِهِ، فَلا يَنْفَعُ فِيهِ تَوْبِيخٌ، وَلا يُؤَثِّرُ فِيهِ عِقابٌ؛ حَتَّى يَئِسَتْ أُمُّهُ مِنْ إصْلاحِهِ. وَما زالَ «عُمارَةُ» يَكْسَلُ فِي دُرُوسِهِ، وَيُهْمِلُ حِفْظَها، وَيَتَأَخَّرُ — فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَيَّامِ — عَنْ مَوْعِدِ الْعَمَلِ فِي الْمَدْرَسَةِ، حَتَّى أُخْرِجَ مِنْها لِكَسَلِهِ وَإهْمالِهِ. وَلَمَّا جاءَ مَوْعِدُ الْمَدْرَسَةِ فِي الْيَوْمِ التَّالِي، وَلَمْ يَذْهَبْ إلَيْها، سَأَلَتْهُ أُمُّهُ غاضِبَةً: «لِماذا لَمْ تَذْهَبْ إلَى الْمَدْرَسَةِ فِي هذا الْيَوْمِ؟ وَما بالُكَ تَتَثاءَبُ أَيُّها الْكَسْلانُ؟» فَقَصَّ عَلَيْها ما حَدَثَ لَهُ. فاشْتَدَّ غَضَبُها عَلَيْهِ، وَقالَتْ لَهُ مُتَوَعِّدَةً: «لَقَدْ حَذَّرْتُكَ عاقِبَةَ التَّهاوُنِ وَالْكَسَلِ، فَلَمْ تَسْمَعْ نَصِيحَتِي. وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْكَ — بَعْدَ أَنْ أُخْرِجْتَ مِنَ الْمَدْرَسَةِ — إلَّا أَنْ تَذْهَبَ لِتَتَعَلَّمَ أَيَّ صِناعَةٍ، أَوْ تَعْمَلَ أَيَّ عَمَلٍ لِتَكْسِبَ قُوتَ يَوْمِكَ بِنَفْسِكَ. وَإلَّا طَرَدْتُكَ مِنَ الْبَيْتِ، كَما طَرَدُوكَ مِنَ الْمَدْرَسَةِ.» فَلَمْ يَجِدْ «عُمارَةُ» أَمامَهُ غَيْرَ الْعَمَلِ، خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الطَّرْدِ، فَخَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ — فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ — وَظَلَّ يَعْمَلُ مَعَ زارِعٍ طُولَ النَّهارِ. فَأَعْطاهُ الزَّارِعُ قِرْشًا أَجْرًا لَهُ عَلَى عَمَلِهِ. فَسارَ «عُمارَةُ» فِي طَرِيقِهِ عائِدًا إلَى بَيْتِهِ — وَالْقِرْشُ فِي يَدِهِ — فَرَأَى قَناةً فِي طَرِيقِهِ، فَقَفَزَ — بِكُلِّ قُوَّتِهِ — لِيَعْبُرَ الْقَناةَ، فَسَقَطَ الْقِرْشُ مِنْ يَدِهِ فِي الْماءِ، وَبَحَثَ عَنْهُ كَثِيرًا فَلَمْ يَجِدْهُ. فَعادَ إلَى بَيْتِهِ مُتَأَلِّمًا حَزِينًا. وَلَمَّا قَصَّ عَلَى أُمِّهِ ما حَدَثَ لَهُ، قالَتْ لَهُ مَدْهُوشَةً: «كانَ عَلَيْكَ أَنْ تَضَعَ الْقِرْشَ فِي جَيْبِكَ حَتَّى لا يَسْقُطَ مِنْ يَدِكَ!» فَقالَ لَها: «سَأَعْمَلُ بِنَصِيحَتِكِ مُنْذُ الْغَدِ، فَلا تَغْضَبِي عَلَيَّ يا أُمِّي.» وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَعْطاهُ الزَّارِعُ قَدَحًا مِنَ اللَّبَنِ. فَوَضَعَهُ «عُمارَةُ» فِي جَيْبِهِ. وَلَمْ يَكَدْ يَمْشِي قَلِيلًا، حَتَّى سالَ اللَّبَنُ عَلَى مَلابِسِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْقَدَحِ. وَلَمَّا عَلِمَتْ أُمُّهُ ما حَدَثَ لَهُ قالَتْ لَهُ مَدْهُوشَةً: «وَيْحَكَ! لِماذا لَمْ تُغَطِّ الْقَدَحَ، حَتَّى لا يَسِيلَ مِنْهُ اللَّبَنُ؟» فَقالَ لَها: «سَأَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ التَّالِيَةِ، فَلا تَغْضَبِي عَلَيَّ يا أُمِّي.» فَلَمَّا جاءَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ أَعْطاهُ الزَّارِعُ دَجاجَةً صَغِيرَةً، أَجْرًا لَهُ عَلَى عَمَلِهِ. فَوَضَعَها فِي عُلْبَةٍ، وَأَحْكَمَ غِطاءَها. فَلَمَّا وَصَلَ إلَى الْبَيْتِ فَتَحَ الْعُلْبَةَ، فَوَجَدَ الدَّجاجَةَ مَيِّتَةً. فَوَبَّخَتْهُ أُمُّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقالَتْ لَهُ مَدْهُوشَةً: «وَيْحَكَ! أَما تَعْلَمُ أَنَّ الْهَواءَ ضَرُورِيٌّ لِحَياةِ الْإِنْسانِ وَالْحَيَوانِ وَالنَّباتِ؟ فَكَيْفَ تَعِيشُ الدَّجاجَةُ بَعْدَ أَنْ غَطَّيْتَ الْعُلْبَةَ وَحَرَمْتَها أَنْ تَتَنَفَّسَ الْهَواءَ؟ لِماذا لَمْ تَحْمِلْها بِيَدِكَ؟» فَقالَ لَها مُتَضَرِّعًا نادِمًا: «سَأَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ التَّالِيَةِ، فَلا تَغْضَبِي عَلَيَّ يا أُمِّي.» وَفِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ ذَهَبَ «عُمارَةُ» إلَى خَبَّازٍ، فَكَافَأَهُ الْخَبَّازُ — عَلَى عَمَلِهِ — بِقِطٍّ أَبْيَضَ. فَفَرِحَ بِهِ «عُمارَةُ»، وَحَمَلَهُ بِيَدِهِ عائِدًا — فِي طَرِيقِهِ — إلَى الْبَيْتِ. وَما كادَ يَمْشِي خُطُواتٍ قَلِيلَةً حَتَّى خَمَشَهُ الْقِطُّ بِمَخالِبِهِ (أَعْنِي: خَدَشَهُ بِأَظافِرِهِ)، وَفَرَّ هارِبًا مِنْهُ. فَلَمَّا وَصَلَ «عُمارَةُ» إلَى بَيْتِهِ قَصَّ عَلَى أُمِّهِ ما حَدَثَ لَهُ، فَقالَتْ لَهُ مَدْهُوشَةً: «ما أَعْجَبَ أَمْرَكَ يا «عُمارَةُ»! لِماذا لَمْ تَرْبِطِ الْقِطَّ بِحَبْلٍ، وَتَجُرَّهُ إلَى الْبَيْتِ؟» فَقالَ لَها: «سَأَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ التَّالِيَةِ، فَلا تَغْضَبِي عَلَيَّ يا أُمِّي.» وَلَمَّا جاءَ الْيَوْمُ الْخامِسُ ذَهَبَ «عُمارَةُ» إلَى قَصَّابٍ (أَيْ: جَزَّارٍ) فَكافَأَهُ عَلَى نَشاطِهِ بِفَخِذِ خَرُوفٍ. فَرَبَطَها «عُمارَةُ» بِحَبْلٍ، وَما زالَ يَجُرُّها حَتَّى وَصَلَ إلَى الْبَيْتِ. فَرَأَتْ أُمُّهُ فَخِذَ الْخَرُوفِ مُلَطَّخَةً بِالْوَحَلِ وَالْأَقْذارِ. فَرَمَتْها غاضِبَةً، وَقالَتْ لَهُ: «وَيْحَكَ — يا عُمارَةُ — أَما كانَ خَيْرًا لَكَ أَنْ تَحْمِلَ هَذِهِ الْفَخِذَ عَلَى كَتِفِكَ؟» فَقالَ لَها: «سَأَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ التَّالِيَةِ، فَلا تَغْضَبِي عَلَيَّ يا أُمِّي.» وَفِي الْيَوْمِ السَّادِسِ ذَهَبَ «عُمارَةُ» إلَى راعِي غَنَمٍ، وَظَلَّ يَرْعَى الْغَنَمَ أَكْثَرَ النَّهارِ. فَأَعْطاهُ الرَّاعِي جَحْشَهُ لِيَرْكَبَهُ وَيَعُودَ بِهِ فِي صَباحِ الْيَوْمِ التَّالِي. وَكانَ «عُمارَةُ» قَوِيَّ الجِسْمِ، فَحَمَلَ الْجَحْشَ عَلَى كَتِفَيْهِ، وَسارَ فِي طَرِيقِهِ عائِدًا إلَى الْبَيْتِ. وَمَرَّ «عُمارَةُ» عَلَى قَصْرِ «سَيِّدَةِ الْحِسانِ» بِنْتِ «سُلْطانِ الزَّمانِ». وَكانَتْ واقِفَةً فِي شُرْفَةِ الْقَصْرِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ — وَهُوَ يَحْمِلُ الْجَحْشَ عَلَى كَتِفَيْهِ — عَجِبَتْ أَشَدَّ الْعَجَبِ، وَظَلَّتْ تَضْحَكُ مِنْ مَنْظَرِهِ. وَكانَتْ «سَيِّدَةُ الْحِسانِ» مَرِيضَةً، مُنْقَبِضَةَ الصَّدْرِ؛ فَلَمَّا ضَحِكَتْ شُفِيَتْ مِنْ مَرَضِها. فَابْتَهَجَ السُّلْطانُ بِشِفائِها، وَكافَأَ «عُمارَةَ» عَلَى ذَلِكَ أَجْزَلَ مُكافَأَةٍ، لِأَنَّهُ كانَ سَبَبَ شِفائِها. وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي أَرْسَلَ السُّلْطانُ إلَى «عُمارَةَ» وَأُمِّهِ، وَأَسْكَنَهُما قَصْرَهُ، وَأَكْرَمَهُما أَحْسَنَ إكْرامٍ. وَوَكَّلَ بِعُمارَةَ مُدَرِّسًا يُعَلِّمُهُ. فَأَقْبَلَ «عُمارَةُ» عَلَى دُرُوسِهِ — مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ — بِنَشاطٍ عَجِيبٍ، وَتَرَكَ الْكَسَلَ. وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْهِ زَمَنٌ قَلِيلٌ، حِتَّى بَرَعَ فِي الْعُلُومِ، وَأَصْبَحَ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي النَّشاطِ وَالذَّكاءِ، بَعْدَ أَنْ كانَ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْكَسَلِ وَالْغَباءِ. وَأُعْجِبَ السُّلْطانُ بِأَدَبِهِ وَنَشاطِهِ، فَزَوَّجَهُ بِنْتَهُ. وَبَعْدَ أَعْوامٍ ماتَ السُّلْطانُ، فَخَلَفَهُ «عُمارَةُ» عَلَى الْمُلْكِ، وَصارَ — مِنْ بَعْدِهِ — سُلْطانًا، فَحَكَمَ البِلادَ بِالْعَدْلِ. وَعاشَ «عُمارَةُ» وَزَوْجُهُ وَأُمُّهُ فِيِ نِعْمَةٍ وَسُرُورٍ، طُولَ الْحَياةِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/0.1/
أبطال الرواية
null
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/0.2/
مراجع رواية شجرة الدر
هذه المراجع هي التي اعتمد عليها المؤلف في سرد حوادث الرواية، وكان شديد الحرص على أن تكون وقائعها الرئيسية صحيحة. حسن المحاضرة للأسيوطي. تاريخ ابن إياس. الهلال مجلد ١٩. تاريخ الفخري. سيرة الملوك. معجم ياقوت. تاريخ ابن جبير. تاريخ مصر الحديث لجرجي زيدان.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/1/
فذلكة تاريخية
فرغنا من رواية صلاح الدين وقد دخلَت مصر في حوزته، وبنى بها قلعة القاهرة وجعلها كرسي ملكه، ثم توارثها السلاطين من أولاده وإخوته وأولادهم وأحفادهم، واقتسموا فيما بينهم مُلك مصر والشام، حتَّى أفضت السلطنة بمصر سنة ٦٣٧ﻫ إلى الملك الصالح بن الكامل، فأكثرَ من اقتناء المماليك الأتراك، وجمع منهم نحو ألف مملوك، بنى لهم قلعة في جزيرة الروضة أسكنهم فيها، وجعلها سرير ملكه بدلًا من قلعة القاهرة، ونقل إليها أهله وحاشيته ومماليكه. وفي أيامه حمل الصليبيون على مصر بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، وكان الملك الصالح مريضًا فما علم بأمر هذه الحملة حتَّى أمر بالتجنيد والاستعداد للحرب، لكن الصليبيين استولوا على دمياط بخيانة بعض أهلها وفرار بعض أمرائها، وتوفي الملك الصالح على أثر ذلك، وخَلَفَه ابنه غياث الدين طوران شاه، الذي لقب بالملك المعظم، ولكن النفوذ كان لشجرة الدر؛ إحدى جواري الملك الصالح، وهي التي دبرت أمور الدولة بعده، وكتمت موته حتَّى جاءوا بابنه غياث الدين من سورية وبايعوه سنة ٦٤٧ﻫ. وعاد المصريون لمحاربة الصليبيين، ففازوا وردُّوهم على أعقابهم بعد معارك شديدة، وأَسَروا الملك لويس التاسع وكثيرًا من ضباطه وجنده. ووقع الخلاف بعد ذلك بين رجال الملك المعظم غياث الدين ومماليك أبيه الملك الصالح، فخرج هؤلاء المماليك عليه، فخاف وأراد الفرار، ولكنهم قبضوا عليه وقتلوه شر قتله قرب فارسكور، ثم أجمعوا أمرهم على مبايعة شجرة الدر، وهي أول امرأة تولت الملك في الإسلام. وقام التنازع على السيادة بينها وبين بعض الأمراء المماليك وبين بقية الدولة الأيوبية وغيرهم من طلاب السيادة، وأفضت السلطة أخيرًا إلى المماليك الأتراك وتوارثوها، وفي أيامهم سطًا التتر على بغداد بقيادة هولاكو، وقتلوا الخليفة المستعصم، وانتقلت الخلافة إلى مصر مما سترى تفصيله في هذه الدولة إن شاء الله.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/2/
في جزيرة الروضة
– ما أجمل ضوء القمر يا شوكار! – إنه جميل يا سيدتي، وليس أجمل منه إلا الجلوس بين يديك والتمتع بحديثك. – إنكِ تتملقينني يا شوكار ولا تقولين الحق. مَن منا أكثر تمتعًا بصاحبتها: أَأَنا وليس في حديثي إلا المتاعب والمشاكل السياسية، أم أنت وقد وهبكِ الله كل ما تتطلبه الغانيات من الجمال والذكاء ورخامة الصوت ولطف العشرة؟! وأنت في مقتبل العمر وأنا في حدود الكهولة، وقد أناخ عليَّ الدهر بأثقاله ومشاكله. فخجلت شوكار من هذا الإطراء وبادرت إلى الجواب قائلة: «العفو يا سيدتي، إنك تخجلينني بهذا الإطراء، ومن أكون أنا حتَّى أعد شيئًا مذكورًا بجانب مولاتي شجرة الدر، محظية الملك الصالح — رحمه الله — وأم والده؟! وقد خصك الله بمواهب لم يخص بها أحدًا من البشر سواك. ليس في النساء يا سيدتي امرأة تطمع في بعض ما نلتِه. زادك الله رفعة و…» فبادرت شجرة الدر إلى قَطْع حديث جاريتها شوكار بأن وضعت يدها على فمها بلطف وهي تبتسم لها، وفي ابتسامها انقباض، وقد أبرقت عيناها من عظم التفكير، ثم تنهدت تنهدًا عميقًا وقالت: «تحسدينني على ما تتوهمينه فيَّ من رفعة القدر؟ من هنا يأتي سبب شقائي.» قالت ذلك وأطرقت وهي مقطبة الوجه، فتهيَّبَت شوكار النظر إليها، ولم تجبها. وكانت شجرة الدر جالسة على مقعد من الأبنوس، في شرفة بأحد قصور الملك الصالح التي بناها في جزيرة الروضة، تطل على مجرى النيل إلى مسافة بعيدة. وجزيرة الروضة من أجمل جزر النيل بين مصر القديمة والجيزة، وطالما اتخذها الملوك متنزهًا، وقد جعلها مولاها الملك الصالح سريرًا لمُلكه بدلًا من القلعة حيث كان أسلافه يقيمون. وأنشأ في هذه الجزيرة قلعة فخمة عُرفت بقلعة المقياس، نسبة إلى مقياس قديم للنيل، وسموها أيضًا قلعة الروضة أو القلعة الصالحية. وكان في موضع هذه القلعة أبنية كثيرة فيها القصور والمساجد والمعابد، ودور الصناعة لبناء السفن، والهودج الذي بناه الآمر بأحكام الله الفاطمي لجاريته، واشتهر أمره، فهدم الملك الصالح كل هذه الأبنية، وبنى القلعة مكانها، وأنفق عليها أموالًا طائلة، وفي جملة ما بناه قصور ومسجد، نقل إليها العمد والأساطين الصوان والجرانيت والرخام من الهياكل القديمة، وغرس فيها الأشجار والرياحين، وبنى فيها ستين برجًا شحنها بالأسلحة وآلات الحرب وما يحتاج إليه من الغلال والأقوات؛ خوفًا من محاصرة الإفرنج؛ لأنهم كانوا على عزم غزو مصر. وبالغ في إتقان تلك الأبنية حتَّى قيل إن الحجر الواحد من أحجارها كلفه دينارًا. وكان يقف بنفسه ويرتب العمل، فلما تم بناؤها نقل إليها أهله ونساءه وجواريه، وفرَّق فيها مماليكه، وعددهم نحو ألف مملوك. وأنشأ خارج القلعة بناءً عظيمًا جَمَعَ فيه أصناف الوحوش من الأسود والنمور وغيرها. وكانت شجرة الدر في جملة جواريه، وقد أنجبت ولدًا اسمه خليل، فقربها منه، كما كانت هي على جانب عظيم من الدهاء والذكاء، فنالت نفوذًا عظيمًا عنده، فلما مات في المنصورة سنة ٦٤٧ﻫ. كتمت أمره، وقامت بأمور الدولة، وكانت توقع على الأوامر بتوقيعه خوفًا من الفشل وهم في حرب مع الصليبيين، لكنها أسرَّت الخبر إلى كبار الأمراء، ولا سيما عز الدين أيبك التركماني، وكانت بينه وبينها مودة، فبعث أعيان الأمراء إلى غياث الدين بن الملك الصالح، فاستقدموه من حصن كِيفا وولَّوه عليهم وواصلوا محاربة الصليبيين. أما شجرة الدر فإنها عادت إلى تلك القلعة وأقامت فيها، وفي خاطرها أشياء لم تُطْلع عليها أحدًا، ورغم ثقتها العظيمة بشوكار لم تفاتحها بشيء منها. وفي تلك الليلة المقمرة جاشت أشجانها وأَرِقت لسبب تعلمه هي ولا يعلمه سواها. وكانت كثيرة الاستئناس بشوكار جاريتها؛ وهي جميلة الطلعة، رخيمة الصوت، تتقن العزف على العود. فلما أرقت دعتها إليها للاستئناس بها واللهو بصوتها. واتَّشحت شجرة الدر بثوب بسيط، والتفَّت بمطرف من الخز، وجلست على الشرفة وأطلت على مجرى النيل، وقد سكنت الطبيعة وهدأ النسيم إلا ما يعبث منه بشعرها المرسل على ظهرها وقد ضمته وأرسلته بلا اعتناء. ولم تحسن ارتداء مطرفها، حتَّى لَيُخيَّل إلى الناظر إليها أنها في شاغل مهم، ناهيك بما في عينيها من دلائل القلق حتَّى يكاد الشرر يتطاير منهما لفرط ما جاش في خاطرها من البلبلة. وهي امرأة ليست كسائر النساء؛ فلها قلب الرجل ومطامع كبار الرجال، إذا عزمت على أمر فلا تبالي ما يقف في سبيلها من العقبات؛ لأنها تذللها بأية وسيلة كانت، كما يفعل عظماء الرجال وأرباب المطامع. وكانت شوكار جاريتها الخاصة فتاة تركية مثلها، ما زالت في مقتبل العمر، فأحبتها واتخذتها مستودع أخبارها وأسرارها، وإن كانت لفرط دهائها لا تفتح قلبها لأحد أو تأمنه على أسرارها المهمة؛ ولذلك كان كبار المماليك يهابونها ويحسبون لها حسابًا، وقد استولت على قلوبهم تهيبًا وإعجابًا. ••• خرجت شجرة الدر تلك الليلة من قصر الملك الصالح أجمل قصور تلك الجزيرة وأثمنها رياشًا وزخرفًا، ومعها جاريتها شوكار، ومشت في ممر مسقوف يؤدي إلى شرفة تطل على النيل، فجلست على أريكة مغشاة بالديباج المزركش، وجاريتها تعزف على العود وتغني لها أصواتًا تعوَّدت أن تطلب إليها إنشادها، وهي مستغرقة في هواجسها تنظر إلى النيل وهو يبدو كالفضة اللامعة من تكسُّر نور القمر على سطحه، ولولا ما يتخلل بياضه من التموج والارتعاش لم تشكَّ أنه فضة خالصة، أو أنه مرآة صافية، وكانت مراياهم تصنع من الفضة المصقولة بدل الزجاج اليوم. وكأنها أحست بطول سكونها واشتغالها عن غِناء شوكار، فأجالت بصرها في الفضة المقابلة من النيل في بَرِّ الجيزة، وقد بدت فيها النخيل صفوفًا أرسلت رءوسها في الفضاء كأنها أسراب من العذارى يحملن المظلات وقد وردن الماء، فلما أشرفنَ على ضفاف النيل تهيَّبْن فوقفن خاشعات ينظرن إلى مجراه، وبانت ظلال النخيل في الماء، وأكسبها النيل حركة اهتزازية كأن أولئك العذارى نزلن للاغتسال فارتعدت أجسامهن من البرد أو من الحياء. ووراء النخيل تراءى الهَرَمان كأنهما جبلان وقد انتصرا على طوارئ الحدثان، فأرادت شجرة الدر أن تُوهِم جاريتها أنها سكتت تهيبًا للطبيعة الجميلة فقالت لها: «ما أجمل ضوء القمر يا شوكار!» فسُرَّت شوكار لأن سيدتها قد سُرِّيَ عنها، وزادت امتنانًا لمَّا سمعت إطراءها صوتها. لكنها ما لبثت أن رأتها عادت إلى الانقباض وأخذت تشكو من حالها، وإن ما تغبطها عليه من النعيم إنما هو سبب شقائها. فانقبضت نفس شوكار، وألقت العود من يدها، وتقدمت حتَّى جَثَتْ عند قدمي سيدتها، وقبلت ركبتها وقالت: «ما الذي يشغلك يا سيدتي؟ وهل أنت لا تثقين بي، مع أني مستودَع أسرارك، وليس لي شاغل سواك؟» وشرقت بِرِيقِها من عظم التأثر، فابتسمت شجرة الدر لها ووضعت يدها على رأسها وجعلت تعبث بشعر الفتاة وبوجهها كأنها شاب يداعب فتاة يحبها، وشوكار مُطرِقة يلذ لها ذلك؛ لأنه دليل ارتياح مولاتها إليها، وهان على شجرة الدر أن تصارح جاريتها ببعض هواجسها، وهي تحسبها خالية الذهن من أمرها، وتحسب سرها مكتومًا عنها كل الكتمان، وذلك من الأوهام الشائعة عند أصحاب الأسرار. يكتم المحب حبه، ويلذ له كتمانه، لتوهمه أنه لا يعلم به أحد سوى حبيبه، وقد يكون ذلك الحب حديث الجيران والخدم ليل نهار، وقِسْ على ذلك أكثر الأسرار ولا سيما ما كان منها يتعلق بالعامة، فإنه لا يخفى عليهم، لكنهم يسكتون عنه فيتوهم صاحبه أنه سر مغلق على الناس كافة. وهب أنه يخفى على الجيران، فهو لا يخفى على الخدم والجواري؛ لأن هؤلاء لا شاغل لهم غير استطلاع الأسرار والتوسع فيها والتكهن بما يكون من أمرها، لكنهم في الغالب يشوهون الحقيقة بما تُصوِّره لهم أفكارهم وميولهم. فكانت شوكار على بينة من هواجس سيدتها وإن لم تُصِبِ الحقيقة تمامًا، لكنها تجاهلت وطلبت إلى شجرة الدر أن تكاشفها بِسرِّها، فقالت لها شجرة الدر: «لستُ أخفي عليك سرًّا كما تعلمين، لكن ما أكتمه ليس مما يهمك الاطِّلاع عليه.» فقالت: «لا أطلب الاطِّلاع عليه لأنه يهمني، لكنني أطلب ذلك لعلمي أن الإنسان إذا اشتكى ما يكابده لشخص يحبه ويثق به، فإن وطأة ذلك السر تخفُّ عنه.» فضحكت شجرة الدر على سبيل المداعبة وقالت: «يظهر يا بنية أنك قد جربت الأسرار ولذة المكاشفة.» فأطرقت خجلًا وقالت: «وليس عندي أسرار أكتمها أو أبوح بها، وليست أسراري مما يصح الاهتمام به. لكني أعرف ذلك عن سواي، فهل أنا مخطئة يا سيدتي؟» قالت: «كلا، إنك تقولين الصواب. ولكن دعينا من ذلك الآن وأطربينا بشيء من غنائك الرخيم.» لم تعتبر شوكار ذلك الرفض مقصودًا لأنها قرأت عكسه في عينَي سيدتها شجرة الدر — والعينان أصدق من اللسان — فاستأنفت الكلام قائلة: «إني طوع إرادتك يا سيدتي، لكني أحب تخفيف قلقك.» فأحبَّت شجرة الدر أن تكون جاريتها البادئة بالحديث، فقالت لها: «ماذا تظنين سبب قلقي؟» قالت: «من أين لي أن أعلم ذلك؟ ليس فيما أعلمه من أحوالك إلا ما يوجب السرور والفخر، حتَّى فيما له علاقة بالقلب، أعلم أنك قد نلتِ منه ما لم ينله سواك. إن الأمراء كافة يتمنون رضاك، ويعدُّون الْتفاتك نعمة، ويكفي لاكتساب قلب أحدهم أن تنظري له نظرة رضًا، على أنك في غنًى عن ذلك بموقعك الجميل من قلب مولاي عز الدين أيبك، وهو كبير الأمراء، ويتمنى لفتة منك و… فلما سمعت شجرة الدر اسم عز الدين تصاعد الدم إلى وجنتيها، وقطعت كلام جاريتها وهي تُظهر عدم الاهتمام وقالت: «ليس هذا الأمر مما يهتم له أمثالي يا شوكار، وإنما هو للفتيات أمثالك.» ••• وأظهرت شوكار أنها صدَّقَت سيدتها، مع أنها تعلم حق العلم بما بينها وبين عز الدين أيبك التركماني كبير الأتراك من صلات المحبة، ثم حولت كلامها إلى موضوع آخر وقالت: «اصفحي يا مولاتي عن جرأتي واغفري لي خطئي، فلعل شواغلك تتعلق بأحوال الدولة، على أثر وفاة سيدي الملك الصالح، رحمه الله.» فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «نعم، نعم؛ إنها تتعلق بما نحن فيه من الخطر، والحرب قائمة بيننا وبين الإفرنج في المنصورة وفارسكور.» فقالت: «ولكن الأخبار الواردة علينا حسنة على ما أعلم. ألم يأتنا الطائر مبشرًا بالنصر، ثم حمل إلينا الرسول خبر انتصار جنودنا على الفرنسيس، وأنهم قتلوا منهم ثلاثين ألفًا، وأسروا ملكهم لويس، وحبسوه في دار ابن لقمان … ثم جاءنا رسول يحمل رسالة أخرى، وعليه ثوب ملك الإفرنج نفسه، وهو المخمل الأحمر بفرو سنجابي وقلنسوة من ذهب. وقد زينت له القاهرة زينة لم يسمع بمثلها؟ أم أنت تظنين ذلك غير الواقع؟» قالت: «بل هو الواقع عينه.» قالت: «إذن ما الذي يقلقك يا سيدتي؟» فتنهدت وقالت: «لقد أحرجتِني يا شوكار، فلا بد من إطْلاعك على بعض الخبر؛ إن قلقي ليس خوفًا من الإفرنج، فإن جندنا كلهم أشداء — ولا سيما هؤلاء الأتراك الذين بنى لهم مولانا الملك الصالح هذه القلعة — وقد ظهرت بسالتهم في الحرب التي ذكرتِها، ولكنني أخاف الانقسام بين جندنا من سوء تصرف الملك المعظم طوران شاه!» قالت ذلك وهزت رأسها هز الأسف. فقالت شوكار: «هل تأذن مولاتي بكلمة، وإن كنت لا أفهم شيئًا من أحوال الدولة ولا شأن لي بتدبير المملكة؟ أظنكم أخطأتم باستقدام هذا السلطان من حصن كيفا وتوليته السلطة، وعندكم من الأمراء من هو أكفأ منه.» فقالت: «ولكن الناس لا يذعنون للسلطان إلا إذا كان من الأسرة المالكة، أسرة آل أيوب، ولولا ذلك لَهَانَ الأمر. ولو كان طوران شاه هذا عاقلًا لاستقام الأمر، ولكنه غلام جاهل أحمق يشرب الخمر، فإذا سكر فعل ما لا يفعله الأطفال؛ بلغني أنه يصفُّ الشموع في الليل أمامه، ويأخذ السيف بيده ويضرب به تلك الشموع ويقول: «هكذا أفعل بالمماليك البحرية»، يعني مماليكنا الأتراك. وما برح منذ جاءنا — ولم يمضِ عليه شهران — يفضِّل مماليكه الأكراد الذين أتوا معه على مماليكنا، ويعرض بذلك في مجالسه، مع أن النصر في حروب الإفرنج إنما كان بفضل أبطالنا، ولا سيما عز الدين وركن الدين بيبرس وسيف الدين قطز وأمثالهم. فأخاف أن يطول النزاع ويغتنم العدو تفرُّقنا فيكرَّ علينا!» وسكتت لحظة وهي مُطْرقة، ثم بلعت ريقها واستأنفت الحديث قائلة: «ولكنني دبرت تدبيرًا إذا أفلح سَلِمْنا من الخطر!» ثم نهضت، وأظهرت أنها في شاغل خوفًا من أن تستزيدها شوكار بيانًا وهي لا تريد كشف التدبير لها. أدركت شوكار غرض سيدتها، لكنها تشاغلت بإصلاح العود وهي تنظر إلى النيل، لكنها ما لبثت أن لحظَتْ عن بعدٍ اضطرابَ صفحة الماء، فتطلعت فإذا هي ترى شبحًا كبيرًا سابحًا قادمًا من الشمال، ولم تتمالك حين تبيَّنَتْه أن صاحت: «هذه سفينة قادمة إلينا، لا بد لقدومها في هذا الليل من أمر مهم!» وكانت شجرة الدر تتشاغل بإصلاح شعرها، فلما سمعت صيحة شوكار التفتت نحو السفينة وصاحت: «هذه عشارية عز الدين، ما الذي جاءنا به يا ترى من الأخبار؟» قالت ذلك وهرولت وهي تلتفُّ بالمطرف، وتبعتها شوكار في مثل دهشتها نحو المرفأ.» وكان للروضة مرفأ جميل تقف عنده السفن منذ كانت فيها دار الصناعة، ومن هذا المرفأ إلى داخل القلعة طريق مختصر. لكن شجرة الدر — بعد أن دفعتها الدهشة إلى طلب المرفأ — عادت إلى رشدها وتراجعت، وأظهرت أنها ذاهبة إلى الإيوان الكبير الذي كان الملك الصالح يستقبل فيه الوفود والأمراء والوزراء. كان ذلك الإيوان من أفخر الأبنية، بَذَلَ الصالح جهده في إتقانه وزخرفته، وهو قاعة كبيرة قائمة على أساطين الرخام، وقد زين سقفها بالصور المذهبة والنقوش من النوع المعروف بالمقرنص، وعلى جدرانها كتابة جميلة بصفائح الذهب والرخام الأبنوسي والكافوري والمجزع، مما يبهج النفوس ويستوقف الأبصار. ولم تدخل شجرة الدر هذا الإيوان منذ شهرين وبعض الشهر بعد أن توفي الملك الصالح، فاضطرت لإخفاء اضطرابها أن تنزل إليه، فأمرت بعض الخصيان أن يفتحه ودخلت وشوكار وراءها وقد أدركت قلقها وتوهمت أنها تريد الخلوة هناك، فتراجعت عند الباب وقالت: «أستأذن في الانصراف يا سيدتي.» قالت: «إلى أين؟» قالت: «إلى حيث تأمرين. وإنما أخاف أن يكون في وجودي ما يثقل عليك.» فأشارت إليها أن تدخل وقالت: «تعالي يا شوكار، لا ينبغي أن أخفي عليك شيئًا.» فدخلت، وجلست شجرة الدر على سرير من الذهب في صدر الإيوان كان يجلس عليه الملك الصالح، وأشارت إلى شوكار فجلست على كرسي مذهَّب بين يديها، وقد أضيءَ الإيوان بالشموع وظهرت نقوشه الجميلة. وتأملت شوكار في سيدتها وهي جالسة على سرير الملك وضحكت، فلحظت شجرة الدر ضحكها وسألتها: «ما بالك تضحكين يا شوكار.» قالت: «إني مسرورة يا سيدتي من جلوسك هنا، وقد استبشرت به خيرًا. إن هذا المجلس لائق بك!» فخفق قلب شجرة الدر لهذه البشرى؛ لأنها كانت راغبة في السيادة، وهي أهل لها، لكنها أنكرت ذلك على شوكار، وأظهرت أنها تستبعد هذا الأمر وأنها ليست أهلًا له، وشغلت نفسها باستدعاء قيِّم تلك الدار. فلما حضر أَمَرَته أن يذهب إلى المرفأ، وإذا جاء أحد برسالة فليأتِ بها إليها في ذلك الإيوان. وجلست وهي تظهر الجَلَد، لكنها كانت على مثل الجمر من القلق. وجلست شوكار بين يديها تُشاغلها بالحديث عما في تلك القاعة من التحف، وما أنفقه الملك الصالح في تلك الأبنية، وهذه تظهر الاهتمام بالموضوع وتقص عليها ما رأته من عناية الملك الصالح بإتقان ذلك البناء. وبينما هما في ذلك، إذ سمعت شجرة الدر صوت نفير من بعيد، فعلمت أنه إشارة وصول السفينة إلى المرفأ، فخفق قلبها وظهر القلق في وجهها ولحظت شوكار ذلك ولكنها تجاهلته. ولم يمضِ وقت يسير حتَّى جاء الغلام يقول: «إن الأمير ركن الدين بيبرس بالباب.» فقالت شجرة الدر: «ليدخلْ.» فدخل شاب طويل القامة، قد تزمل بعباءة تغطيه كله، ثم نزع العباءة فإذا هو جميل الخلقة صبوح الوجه عليه هيبة الشيوخ ونضارة الشباب، لم يتجاوز عمره يومئذٍ ٢٣ سنة، وعليه الدرع والخوذة كأنه في ساحة الحرب التي قَدِمَ منها. فلما دخل حيَّا شجرة الدر تحية لم تُحَيَّ بمثلها من قبل، ففهمت ما عناه لكنها تجاهلت وقالت: «ما وراءك يا ركن الدين؟» فالتفَتَ يمينًا وشمالًا كأنه يحاذر أن يسمعه أحد. فأدركت أنه يحمل سرًّا لا يحب أن يفوه به جهارًا، فأشارت إلى الخدم بالخروج واحتفظت بشوكار، وأشارت إليه أن يتقدم نحوها، فتقدم فقالت: «ما وراءك أيها الأمير الشاب؟ قل ولا بأس من وجود عزيزتي شوكار، بل لا بد من وجودها، فهي التي طالما أعجبت بشهامتك. قل، ما وراءك؟» فاستغربت شوكار ما روته شجرة الدر عنها من أنها معجبة بركن الدين، ولم تجد باعثًا على ذلك في تلك الساعة فسكتت، واتجهت بكلتيها لسماع ما يلقيه ركن الدين. أما هو فلما سمع قول شجرة الدر عن إعجاب شوكار به التفت إليها فوجدها في غاية الجمال واللطف، وفي عينيها معنًى جمع بين الذكاء والسحر. وكان يسمع برخيم صوتها لأن ذلك كان شائعًا في القصر. لكنه توجه نحو شجرة الدر وقال: «إن ورائي أمرًا ذا بال وخبرًا مهمًّا لا أدري أيَسُرُّ مولاتي أم يسوءها.» فأجفلت ونظرت في عينيه باهتمام وقالت: «قل ما هو، ولا يهمك ساءني أم سرني، فإني لا أتوقع من هذه الدنيا سلامة.» فقال: «إن الملك المعظم طوران شاه بن مولانا الملك الصالح قد لاقى أجله في هذا الصباح، وبعثني مولاي الأمير عز الدين أيبك لأنقل هذا الخبر إليك ريثما يصل هو إلى هنا في صباح الغد، ولم يشأ أن يرسله مع الطائر مبالغة في الكتمان، لكنه دفع إليَّ هذه البطاقة الصغيرة مختومة، وأمرني أن أدفعها إليك يدًا بيد.» قال ذلك واستخرج من جيبه بطاقة دفعها إليها. فلما سمعت شجرة الدر بموت طوران شاه بانت الدهشة في عينيها، لكنها تجلدت وتناولت البطاقة وفضتها، واقتربت من المصباح وقرأتها فإذا فيها: «أما بعد، فإني مسرع في إرسال البشارة بذهاب ذلك الشاب المغرور إلى سبيله، على كيفية يقصها عليك الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري حامل هذه البطاقة إليك. وقد كان لهذا الأمير النصيب الأكبر من العمل في هذا السبيل وهو يستحق الْتفاتك. وعندي خبر آخر سأتلوه عليك في الغد شفاهًا، إن شاء الله.» قرأت البطاقة لنفسها وعادت إلى مخاطبة ركن الدين كأنها لم تقرأ شيئًا فقالت: «أنت على ثقة من قتل الملك المعظم؟» قال: «نعم يا سيدتي، كل الثقة.» قالت: «هل قتل سرًّا؟» قال: «كلا يا سيدتي، إنه قتل جهارًا.» قالت «مَن قتله؟» قال: «نحن قتلناه؛ لأنه لم يترك للصالح مكانًا، وقد بالغ في الطيش والهوج، وكرر مغاضبتنا وأسمَعَنا الإهانة، ولم يعجبه المماليك البحريون، مماليك أبيه الملك الصالح، وكلما ذُكروا أمامه استخفَّ بهم، مع أنهم أصحاب السيف حماةُ هذه الدولة، وهم الذين ردوا الإفرنج عن هذه البلاد. وقد صور له طيشه أنه الفاعل لما يريد، وأننا حشرات لا يُعتد بنا، حتَّى بلغنا أنه كان يصف الشموع ويأخذ رءوسها بالسيف ويقول إنه هكذا سيفعل بنا، وقد صبرنا على ذلك، حتَّى بلغنا أن هذا لا يرضي مولاتنا أم ولد الملك الصالح، رحمه الله، فأضمرنا له السوء، فلما كان صباح اليوم جلس في موكبه والأمراء والأكراد وأصحابه بين يديه، ورءوس النواب واقفون أمامه بعصي كُسِيَت بالذهب، كأنه يقول لنا: «إني سلطانكم رغم أنفكم»، فصبرنا عليه حتَّى مضى الموكب وبقي وحده وحضر السماط فجلس عليه على العادة، فتقدم إليه جماعة منا بأيديهم السيوف وضربوه على أصابعه فقطعوها، فقام وهرب ودخل البرج الخشبي، وأغلق عليه بابه، فأطلقنا النار على البرج، فخرج منه وألقى نفسه في البحر وصار يسبح فيه والنشاب يأخذه من كل ناحية وهو يقول: «خذوا ملككم ودعوني أرجع إلى حصن كيفا»، فلم يُغِثْه أحد. وما زال على ذلك حتَّى قُتل، فكأنه مات حريقًا غريقًا قتيلًا، فأخرجناه من البحر وتركناه على الصعيد وسيبقى كذلك حتَّى لا يعرف له قبر.» ••• كان ركن الدين يقص خبر مقتل طوران شاه، وشجرة الدر مصغية لا تبدي حراكًا، لكن الاهتمام بادٍ في عينيها، فلما فرغ من كلامه قالت: «مات طوران شاه! رحمه الله، إنه أخطأ في تصرفه ولم يحسن سياسة المُلك الذي أعطيناه إياه. وكل من لا يسوس الملك يخلعه!» ثم نظرت إلى ركن الدين وقالت: «وهل عندك خبر آخر غير هذا؟» قال: «عندي خبر سيتلوه عليك مولاي الأمير عز الدين أيبك في صباح الغد.» قالت: «لعله خبر مهم؟» قال وهو يبتسم: «أظنه كذلك.» فأدركت شيئًا من مراده لكنها حولت الحديث وقالت: «لم تخبرني عن القُواد الأبطال الذين فتكوا بالملك المعظم. هل أنت منهم؟» قال: «نعم، إني أصغرهم شأنًا، وقد فعلت ذلك بأمر مولاي الأمير عز الدين.» فأعجبها تواضعه واحتشامه، فقالت: «أراك تتنصل كأنك تعدُّ هذا العمل جريمة وعارًا، إنه عمل عظيم يحق لك الافتخار به، وقد نجيت البلاد من الخراب؛ لأن هذا المَلِك لم يكن أهلًا للسلطة، ولو طال مكثه في هذا المنصب لجرَّ علينا الدمار، فلا تخف. وقد أنبأني عز الدين ببلائك، وأنا طالما توسمت فيك البسالة والإقدام، وسيكون لك شأن عظيم، فإذا صدق توسُّمي فيك أهديتك أثمن ما عندي.» قالت ذلك ونظرت إلى شوكار وضحكت، فأدركت شوكار غرضها، فغلب عليها الحياء لأنها لم يخطر ببالها حب أحد. وقد كفاها من نعم المولى أن تكون حائزة رضا سيدتها شجرة الدر، فلما سمعت تلميحها تصاعد الدم إلى وجنتيها وأطرقت، وودَّت لو أنها بالنقاب لتغطي وجهها، ولكنها لم تكن تنتقب بين أيدي الأمراء. أما ركن الدين بيبرس فأعجبه إطراء شجرة الدر شجاعته، وكان يسمع بحسن شوكار ولطفها وجمال صوتها، ولم يكن يتوقع أن يأتي يوم ينالها فيه، فلما رأى شجرة الدر اشترطت في نيلها أن يصدق توسُّمها فيه، لم يدرِ بماذا يجيب، فقال أخيرًا: «أشكر لمولاتي حسن ظنها بعبدها، وأرجو أن أكون أهلًا لثقتها، وفي كل حال إني رهين إشارتها وما تأمرني به، وأفديها بروحي.» ففرحت شجرة الدر بهذا التصريح؛ لأنها إنما أرادت أن يكون طوع إرادتها لتستخدمه في أغراضها لِمَا رأته فيه من البسالة ورباطة الجأش. ولما سمعت شوكار جواب ركن الدين أحسَّت بشيء لم تحسَّ بمثله قبلًا، وبأن التأثر في عينيها، وخفق قلبها خفقانًا لم تعرفه من قبل. لكنها أطرقت وظلت ساكتة. وأما شجرة الدر فقد سَرَّها ما وُفِّقَت إليه من مقتل الملك المعظم؛ إذ هي التي أمرت المماليك أن يقتلوه، ولولا ذلك لم يجسروا على قتله. وقد أغراهم على ذلك عز الدين أيبك حبيبها، وهو كبير قواد المماليك. وكان لركن الدين بيبرس اليد الطولى في هذا العمل، وكانت قد سمعت من عز الدين عن بسالته وتفانيه في طاعته وطاعتها، فأرادت أن تزيد إخلاصه في طاعتها فوعدته بشوكار. فلما لحظت تعلق آماله بها تحركت في مجلسها كأنها أرادت استئناف الحديث، فقالت: «ومتَى يصل إلينا الأمير عز الدين؟» قال: «أظنه يصل في صباح الغد، وسيأتي معه سائر الأمراء والعسكر، وسيحدث تغيير عظيم في أمور الدولة. وقد حفظ الأمير عز الدين حق هذه البشارة لنفسه وهو كبيرنا ومولانا.» فضحكت شجرة الدر وهي تنهض عن السرير وقالت: «أظنك نلتَ جائزة حسنة، وإنما أرجو أن تحقق ظني فيك يا ركن الدين.» فأدرك أنها تصرفه، فتَحوَّل وهو يلتفت إلى شوكار لفتة الوداع وهي لا ترفع بصرها إليه، لكنها رأته ورآها وتفاهم النظران وتناجى القلبان. وما أسرع تناجيهما إذا توافقت الطباع! خرج ركن الدين وقد شغله ذلك الوعد عن دهشة الخبر الذي حمله من فارسكور إلى القاهرة، وما يرجى أن يحدث من التغيير في أمور الدولة بسببه، سار توًّا إلى برج من أبراج القلعة كان يقيم فيه مع بعض المماليك من رفاقه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/3/
عز الدين أيبك
مشت شجرة الدر — بعد أن توارى ركن الدين — نحو شوكار وهي تجر مطرفها وراءها، فنهضت لها احترامًا، وأطرقت شكرًا، وهي لا تدري أَأَحسنت إليها بذلك الوعد أم أساءت. ولم تستقر أفكارها لتحكم في الأمر، فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «أرجو أن تكوني مسرورة من هذا النصيب يا شوكار.» فرفعت بصرها والخجل يغشاه، فرأت شجرة الدر تنظر إليها نظر المداعب فأجابتها: «يظهر أن سيدتي ملَّت رفقتي؟» وضحكت. فقالت شجرة الدر: «لا، لكنني نظرت إلى مستقبلك، فمن كانت في مثل ما أنت فيه من الجمال والعلم ورخامة الصوت يجب أن تنال نصيبًا حسنًا، وأنا على ثقة أن هذا الشاب الباسل من خيرة الشبان، وله مستقبل مجيد، فإذا أخطأ ظني فيه ولم يكن الرجل الذي أرضاه لك لا أزوجك به. لا تخافي؛ إني شديدة الغيرة على مصلحتك لأنك بمنزلة ولدي كما تعلمين. والآن ينبغي لنا أن نطلب الرقاد فقد تعبنا.» فقالت شوكار: «ولكن التعب جاء بنتيجة تَرضَيْنها يا سيدتي؛ إن الرجل الذي كنا نشكو منه قد مضى لسبيله وعادت الأمور إلى مجاريها. فمن يا ترى سيتولى هذه السلطنة؟ أرجو ألا يعودوا إلى بيت أيوب مرة أخرى. إن هؤلاء قد مضت أيامهم ولكل أيام دولة ورجال.» فأظهرت شجرة الدر أنها خالية الذهن من أمر المستقبل، وأنها تتوقع أن تعرف الحقيقة في الغد بعد مجيء عز الدين. فأكبت شوكار على يد سيدتها وقبلتها للوداع، فقبلت شجرة الدر رأسها. وحالمَا خلت شجرة الدر بنفسها انصرفت من باب سري في الإيوان إلى قصرها وقد توسط الليل، فلما صارت في غرفتها كان الخدم قد أناروها، وهي في أجمل ما يكون من الرياش، وعلى جدرانها ستائر الديباج عليها الأبيات الشعرية أو الصور والنقوش بأزهى الألوان. وما كادت تدخلها حتَّى استلقت على سريرها واستغرقت في هواجسها، وجعلت تناجي نفسها قائلة: «قتلوا طوران شاه — لا أقامه الله — وقد قُتل بسعي عز الدين حبيبي.» ولما ذكرت اسمه تنهدت وقالت: «هو حبيبي لكنه سرير لا أظنه أمينًا في حبه. وهؤلاء الرجال لا يؤمَن جانبهم. ما لي وله؟! فليكن كما يشاء. ألم يخدمني في هذا الأمر؟ ليس بعد قتل طوران شاه إلا أن يعود المُلك إلى يدي. هكذا وعدني عز الدين، فهل تراه قد بر بوعده؟ فإذا صرت ملكه فأنا أول ملكة في الإسلام، وسأجازي عز الدين خيرًا لأنه أخلص في خدمتي.» قضت هزيعًا من الليل في مثل هذه الهواجس، ولما نامت حلمت أنها تولت الملك وقبضت على صولجانه، وذلك لفرط رغبتها في الملك مهما يكلفها الوصول إليه، فأنها من طلاب السيادة بأية وسيلة كانت، وقد نبت ذلك في خاطرها منذ وَلَدَت للصالح ابنها خليلًا؛ لعلمها أنه سيكون وسيلة إلى تحقيق مطامعها، أو أنه يكون هو السلطان وهي الوصية عليه، لكنه توفي طفلًا. وفي صباح اليوم التالي جاءتها الجارية الموكلة بتدبير غرفتها وقالت: «إن الأمير عز الدين أيبك ينتظر في الإيوان يا سيدتي.» فنهضت وأصلحت من شأنها، وبذلت جهدها في الزينة لتظهر بين يدي حبيبها في أجمل حالاتها. وهذه طبيعة النساء على الإجمال، فكيف بمن تعلِّق على ذلك الحب غرضًا سياسيًّا مهمًّا؟ لبست ثوبًا مخططًا معتم اللون، وضفرت شعرها ضفائر قليلة أرسلت منها اثنتين إلى جانب وجهها، وغطت رأسها بغطاء مرصع بحجارة كريمة فوق الجبين له ذيل مزركش يغطي العنق من القفا حتَّى يسترسل على الظهر. وقد تقلدت عقدين أحدهما من اللؤلؤ والآخر من العقيق وغيره، وتمنطقت بمنطقة مشبكها من الذهب المرصع، وهي مع كونها على أبواب الكهولة لا يزال ماء الشباب يتلألأ في محياها، ولا تزال عيناها ترسلان السحر إلى قلوب الناظرين، فتتملكهم الهيبة والقوة، لا اللطف والوداعة، كما ينبعثان من عينَي شوكار. وكان عز الدين أيبك يشعر بقوة تلك المرأة وسيطرتها على قلبه ويحبها حب تهيُّب واحترام لا حب شغف وتلهف. وزاده رغبة فيها ما كان يعلمه من منزلتها عند الملك الصالح وتقدمها في داره ونفوذها عنده. فتودد إليها وبادلته هي حبًّا بحب، ووافق ذلك هواها لأنها مع مطامعها الواسعة لا حول لها، وهي امرأة لا تطمع في قيادة جند تستعين بهم في نيل أغراضها، فرأت في ارتقاء عز الدين إلى منصب كبير أمراء المماليك فائدة لها، فأعانته على نيل ذلك المنصب في زمن الملك الصالح، وهو لم ينسَ هذا الجميل لها. ولما سنحت فرصة أخرى يخدمها فيها بقتل طوران شاه لم يضيعها، وإن كان قد فعل ذلك لمصلحته أيضًا. فلما أتم عمله أمس أنفذ بعض الخبر مع ركن الدين واحتفظ ببقيته لنفسه ليتلذذ بسماع الإطراء والإعجاب بدهائه وبسالته. وجاء في ذلك الصباح على جواده مع جماعة من حاشيته وقواده، ولم يسترِحْ إلا قليلًا ثم جاء إلى الإيوان، وبعث إلى شجرة الدر لتوافيه. ••• لم تمض هنيهة حتَّى دخل الغلام يعلن قدومها، فوقف لها عز الدين، ثم أكب على يديها كأنه يقبلهما، فأجفلت وأشارت إليه أن يجلس، وجلست هي على السرير وجلس هو بين يديها، وأمرت الخدم بالخروج، ولما خلت به قالت: «أهل بك يا عز الدين، قد بلغَنَا بلاؤك في إنقاذ البلاد من ذلك الغلام، جزاك الله خيرًا، إنها خدمة للمسلمين.» قال بلهفة المحب الولهان: «إنما فعلت ذلك خدمة لسيدتي وحبيبتي شجرة الدر وطوعًا لأمرها.» فأثَّر كلامه في خاطرها لأنها تحبه، فهاجت أشجانها وقالت: «إني أعرف هذا الجميل لك يا عز الدين، وليست هذه هي المرة الأولى التي برهنتَ فيها على صدق مودتك، فأنا أسيرة ودادك.» قال: «يكفيني منك لفتة رضًا يا سيدتي، ولا سيما الآن بعد أن صرت ملكة المسلمين.» فتظاهرت بالاستغراب وقالت: «ملكة المسلمين، ماذا تقول؟» قال: «أنت الآن ملكتي والقابضة على قلبي وستصبحين غدًا ملكة المسلمين وعصمة الدنيا والدين.» قالت: «وكيف ذلك؟ أفصِح.» قال: «لما قُتل الملك المعظم أمس اجتمع الأمراء ودار الحديث على من يتولى السلطة بعده، واختلفت الآراء، فقلت لهم: إننا لا نحب أن نستقدم أحدًا من آل أيوب، وقد رأينا مصيرنا معهم، وشدد آخرون في أن يكون السلطان من البيت الأيوبي، فقلت لهم نعمل عملًا وسطًا؟ نحن إنما نحترم من الأيوبيين مولانا الملك الصالح — رحمه الله — ولا نأمن أحدًا من أهله، وهذه أم ولده خليل كانت من أعز الناس عنده، وهي عاقلة مدبرة، ومن أبناء جلدتنا وتغار علينا، فأرى أن نوليها هذا المنصب. فرضي القوم بذلك، واتفق رأيهم على أن تكوني ملكة مصر. ألا يحق لي أن أقبِّل يدك وأطلب رضاك؟» قالت: «معاذ الله. أستغفر الله. إنك حبيبي وصاحب الفضل عليَّ؛ لأني لولاك لم أحصل على هذا المنصب. فإذا تم لي الملك فأنت صاحب النفوذ الأول فيه، فأدعوك مدبر الملكة. ومن هو أولى به منك؟» فانشرح صدر عز الدين لهذا الوعد، وهو ما كان يتمناه وقد حصل عليه على أن يتدرج منه إلى ما هو أعظم. فأظهر الشكر وأنه لا يستحق هذا الالتفات ونحو ذلك من أسباب المجاملة. أما هي فإنها عرفت لصديقها فضله، وأخذت تثني على علوِّ همته وغيرته، وأنها لا تثق إلا به، وقالت له: «إني لا أستغني عنك في تدبير المملكة.» فقال: «أنتِ في غنًى عن تدبيري لكنني طوع إرادتك وما تأمرين.» وقَضَيا ساعة في الحديث، وكلٌّ منهما قد طار قلبه فرحًا بما ناله، ثم قالت: «ومن الحكمة أن نفرق المناصب على أصحابنا الذين معنا من الجند لتتأيد هذه الدولة، فماذا ترى؟» قال: «دبرت كل شيء، ولا يخفى على سيدتي شجرة الدر أن جندنا مؤلف من أتراك وجركس وروم وأكراد وتركمان، وأكثرهم من المماليك المبتاعين. وإنما يهمنا نحن أن نقوي الأتراك؛ لأنهم جندنا الأصليون فنقدمهم في مناصب الدولة، وهم كما تعلمين طبقات من حيث المناصب، وفيهم أمراء المئين وأمراء الألوف، وكلهم من الفرسان الأشداء، وهم عضد الجند وقوته، فنفرق هذه الوظائف على كبار الأمراء الذين أخذوا بناصرنا في هذا العمل. ومناصب الدولة غير الجندية عديدة، أعظمها منصب أمير السلاح الذي يتولى حمل السلاح للسلطان في المجامع الجامعة، والداودار الذي يُبلغ الرسائل عن السلطان ويرفعها إليه ويستقبل من يحضر ويقدم البريد ويأخذ خط السلطان على جميع المناشير والتواقيع والكتب، والحاجب الذي يقف بين الأمراء والجند، وأمير جاندار الذي يسلم الزردخانة ويقتل من أراد السلطانُ قتله، والأستاذ دار وإليه أمر بيوت السلطان كلها، وغير ذلك من المناصب. فما الذي ترينه من أمر هذه المناصب؟ ثم لا بد من إرضاء الجند بالعطايا.» قالت: «إني تاركة أمر ذلك كله إليك لأنك ستكون مدبر المملكة، فتُولِّي هذه المناصب من تثق بهم من رجالك وترى فيهم الإخلاص لنا، لكنني أطلب أمرًا واحدًا؛ وهو أن تنظر في أمر ركن الدين بيبرس الشاب الذي بعثت رسالتك معه. إنه من خيرة الأمراء فولِّهِ منصبًا بحيث يكون قريبًا منا.» فلما سمع إطراءها ركنَ الدين أحس بالغيرة، ورغم ثقته به حدثته غيرته أن يطعن فيه — والغيرة تُعمي وتُصم — ولكنه رجع إلى صوابه ودهائه وقال: «إن ركن الدين من خيرة الأمراء، صدقتِ، وأرى أن توليه الداودارية، وبذلك يكون قريبًا منا.» أحسَّت شجرة الدر بغيرة عز الدين — والمرأة أرق شعورًا من الرجل، ولكنها تجاهلت وأغضت لأنها لم يكن لها مطمع في حب أحد، وإنما هي تحب العُلى وتهوى السلطة وتبذل كل شيء في سبيلها، ثم قالت: «ومتَى يأتي الأمراء من المنصورة؟» قال: «أظنهم يكونون هنا غدًا ليحتفلوا بتولية شجرة الدر ملكة على هذه الديار. ما أجمل هذا الاسم في فمي! وما ألطف وقعه في قلبي! فهل لِاسمي شيء من ذلك في قلبها؟» قال ذلك ونظر إليها نظرة عتاب. فنظرت إليه وقد أدركت مراده وقالت: «سترى ثقتي وحبي، وستعلم مركزك بالفعل لا بالكلام. أراك تلمح وتستطلع كأنك تشكُّ في صدق مودتي. سامحك الله يا عز الدين.» وبان العتب في عينيها. فاعتقد صدق قولها وقال: «معاذ الله يا سيدتي …» فابتدرته قائلة: «لا تقل سيدتي، أنت حبيبي، أنت سندي، أنت موضع ثقتي وعليك اتكالي. كن واثقًا بذلك …» قال: «إني واثق ولكن المحب كثير …» فقطعت كلامه وقالت: «دعنا من ذلك فإنه مفهوم بيننا، وهلم إلى تدبير شئوننا، إني أسمع لغطًا في الدار.» فأسرع عز الدين وهو يقول: «أظن الأمراء قد وصلوا من المنصورة، ولعلهم يطلبون تقديم تحياتهم لكِ.» قالت مبالِغة في اكتساب قلبه: «وهل ترى أن أستقبلهم؟» قال: «لا أرى بأسًا من استقبالهم إذا طلبوا ذلك؛ لأنهم أصحاب فضل في هذا الأمر، وقد رأيتُ منهم إذعانًا سريعًا لمَّا اقترحتُ أن تصير السلطنة إليكِ. ولكن، طبعًا سترسلين الستر بينك وبينهم، ولا سيما أنت الآن ملكة المسلمين.» فنظرت إليه بطرف عينها وهي تبتسم وقالت: «إن عز الدين غيور، ولكن يسرني ذلك؛ لأن الغيرة دليل المحبة، على أني لم أكن أحتاج إلى تنبيه، وأنت تعلم أني لا ألقى أحدًا كما ألقاك.» قالت ذلك وأشارت إلى الخصي الواقف في خدمتها أن ينزل الستر. ولم يكد يفعل حتَّى جاء الحاجب يقول: «إن كبار أمراء الجند يلتمسون التشرف بمقابلة السيدة الجليلة.» وذكر الحاجب أسماء الأمراء بلباي الرشيدي وفارس الدين أقطاي وبيبرس ركن الدين البندقداري وسنقر الرومي. فقال عز الدين بالنيابة عنها: «فليدخلوا.» دخل كبار الأمراء وحيَّوْا تحية طيبة، فاستقبلهم عز الدين بلطف، ثم تكلم الفارس أقطاي عنهم قائلًا: «إن الأمراء قادمون لرفع واجب التعزية إلى السيدة أم خليل في القضاء الذي نزل بطوران شاه، ولإبلاغها أن اختيارهم قد وقع عليها لتتولى أمور المسلمين، فعسى أن يقع ذلك لديها موقع الرضى.» فأجاب عز الدين عنها قائلًا: «أن مولاتنا السيدة الجليلة قد بلغها بلاؤكم الحسن أيها الأمراء في سبيل مصلحة الدولة، وقد وقع القضاء على ذلك الملك فأسفت لما أصابه، ولكنه جنى على نفسه، رحمه الله.» فقال الأمير سنقر الرومي: «إنه أَلْجَأَنا إلى ما أتيناه لأنه لم يجعل لنا يدًا في شئون الدولة، وإن مولاتَنا زوجَ مَلِكِنا المرحوم الملك الصالح أَوْلى الناس بهذا الأمر.» فأجابتهم من وراء الحجاب: «إني شاكرة مروءتَكم وحُسْن ظنكم، ولا يسعني إلا الانصياع لما تم اتفاقكم عليه، وأنتم نخبة الأمراء أصحاب السيوف، وإنما أقبل هذا المنصب اعتمادًا عليكم وثقة بكم؛ لأني لا أستطيع عملًا إن لم تأخذوا بيدي.» فصاحوا بصوت واحد: «نحن طوع أمر مولاتنا نفديها بأنفسنا، وغدًا نحتفل بتوليتها في القلعة، إن شاء الله.» ثم تحولوا للخروج فرافقهم عز الدين وهو يقول لهم: «إن مولاتنا شجرة الدر كانت تحدثني قبل وصولكم مُثْنِيَةً على بسالتكم وشجاعتكم، وقد أعدَّت الهدايا للأمراء والرجال، وقالت لي إنها إنما ترضى بالسلطنة لأنكم اخترتموها لها.» وقد صدقوه، وسَرَّهم ما سينالونه من الهدايا — وهي العطايا يعطيها السلطان عند توليته — وقد اعتزمت شجرة الدر أن تجعلها كبيرة؛ لعلمها بما يَعْتَوِر سلطنتها من العقبات؛ لأنها أول امرأة تولت ذلك في الإسلام. وخرج عز الدين لوداعهم وهو يثني على هممهم ويمنيهم، ثم عاد إلى شجرة الدر يلفتها إلى الهدايا وقيمتها، ثم افترقا على أن يمضي لتهيئة الاحتفال. ••• لم تطلع شمس ذلك النهار حتَّى علم أهل جزيرة الروضة بما نالته شجرة الدر، وأنها أصبحت سلطانة مصر. وقد وقع الخبر موقع الاستغراب عند كثيرين، وموقع الغيرة والحسد عند زميلاتها جواري الملك الصالح — وكل ذي نعمة محسود — وكانت أشدَّهن غيرة جارية كردية الأصل اسمها سلافة، كانت تفاخر سائر الجواري بأنها من قبيلة الملك الصالح، وكان هو يقربها حتَّى جعلها قيِّمة قصره، لكنها لم تلد منه كما ولدت شجرة الدر، فأصبحت هذه أقرب جواريه إليه. وكانت سلافة بارعة الجمال، لكنها قليلة الدهاء شديدة الغيرة سريعة النقمة. وكانت مشهورة بجمالها الفتان، يتحدث أهل الروضة والقاهرة بحسنها وإن لم يرها منهم إلا القليلون. ومن بين الذين أتيح لهم رؤيتها تاجر بغدادي اسمه سحبان، كان يتردد إلى مصر ومعه الأقمشة الفارسية والهندية، وكان الملك الصالح يدعوه إليه ويبتاع منه ما يختاره لنسائه من الأنسجة الجميلة، ويطلب منه إحضار ما يحتاج إليه من مصنوعات العراق وفارس وغيرهما. فاتفق له وهو يعرض عليه بعض المنسوجات النسائية، وكانت سلافة حاضرة لتختار نوعًا منها، أن وقع بصره عليها فأخذت بمجامع قلبه، لكنه تَجلَّد وتَهيَّب، وشعرت هي بما جال في خاطره، وتجاهلت أنه أصبح بعد تلك المقابلة يغتنم الفرص لإبلاغها ما يكنه فؤاده من الحب لها بهدايا يبعث بها إليها على أيدي بعض الخصيان دون أية إشارة، فيظهر ذلك منه مظهر الإكرام للملك الصالح؛ لأنها قيِّمَة داره ورئيسة جواريه. فلما توفي الملك الصالح ضعف شأن جواريه، فتوسَّم سحبان بابًا للنظر إلى سلافة نظر المحب الطامع بالقرب، فاحتال يومًا ببضاعة حَمَلَها إلى القصر كعادته، فلقيه أستاذ الدار وتَسَاومَا، ولم تتأتَّ له مشاهدة سلافة ولا مخاطبتها، وقد علمت هي بمجيئه وتجاهلت، وفي خاطرها أن تراه ولكنها لم تكن تعرف سبيلًا إلى ذلك، ولا حاجة لها إليه لأنها لم تشعر بالميل إليه. فلما علمت بما صارت إليه شجرة الدر في ذلك اليوم، وأنهم سيحتفلون في الغد بتوليتها ملكة، وأن ذلك إنما جرى بسعي عز الدين أيبك — ولم تكن تخفى على سلافة علاقته الودية بشجرة الدر — هبَّت نيران الغيرة في قلبها، وأصبحت تتقلب وتتعذب كأنها على قطع الجمر، وأخذت تفكر في إيقاع الأذى بشجرة الدر، لا لسبب غير الغيرة، فإنما لذَّتها أن ترى تلك النعمة قد زالت عنها. ذلك هو داء الحسد العضال، وبين مَرْضَاه من يفضِّل أن يشترك هو نفسه في الأذى الذي ينوي إيقاعه بمحسوده على أن يراه رافلًا في نعمته. ضاقت سلافة ذرعًا بطول التفكير وهي جالسة في غرفتها، فأرادت التشاغل ببعض الشئون، فتنقَّبَت والْتَفَّت بملاءة من الحرير، وخرجت من قصر النساء من ممر يؤدي إلى حديقة تابعة لذلك القصر، فيها الأشجار والجداول والرياحين والأزهار، كان الملك الصالح قد تعوَّد أن يقعد فيها صباحًا. وجاءها أحد خصيان القصر مسرعًا يعدو وهو يقول: «إن الشيخ سحبان جاء بأنسجة جديدة.» فلما سمعت اسمه أجفلت، لكنها أحست بانفراج كربها قبل أن تفكر في كيفية ذلك — وهو تنبؤ نسائي مبني على مجرد الشعور بلا برهان؛ فإن المرأة تأتيها الفكرة أولًا ثم تفكر في برهانها. فالتفتت سلافة إلى الغلام وقالت: «أين هو؟» قال: «هو في فناء القصر، وقد ذكرك بالتخصيص، وقال إن بين أقمشته أشياء تسرك.» فقالت: «لا أرى أن أعود إلى هناك، دعه يدخل إلى هذه الحديقة من بابها الخارجي لأرى بضاعته.» قالت ذلك وأصلحت من شأنها وتنقبت بطرف الملاءة، وأصبح قلبها يخفق، ولم تكن تشعر بشيء من ذلك في مقابلاته السابقة. وبعد هنيهة دخل الغلام من باب الحديقة وهو يقول: «هذا الشيخ سحبان يا سيدتي»، ورجع. وكانت جالسة على كرسي بين الأزهار فالتفتت نحو الباب فرأت الشيخ سحبان كما كانت تراه قبلًا بقلنسوته الفارسية وجبَّته السوداء ولحيته القصيرة الخفيفة وعينيه البراقتين، لكنها تفرست فيه هذه المرة فرأت في وجهه معنًى لم تلحظه من قبل، فلما دخل حياها فردَّت بمثل تحيته، وأشارت إليه أن يتقدم وقالت: «أين الأقمشة؟» فتقدم وقال: «إنها لا تزال في القصر مع الجمال، فإذا أَذِنْتِ باستجلابها إلى هنا فعلتُ.» قالت: «لا بأس، دعها الآن هناك، تفضل اجلس.» وأشارت إلى حجر منحوت كالكرسي، فجلس عليه وهو يصلح قلنسوته، فقالت له: «لم تكن عادتك إذا جئتَ بأقمشة أو نحوها أن تطلب سلافة باسمها.» قال: «وهل ساءك ذلك يا سيدتي؟» قالت: «كلا، لكني لم أفهم السبب لتغيير عادتك معي.» قال: «غيرت عادتي جريًا مع التغييرات الكثيرة التي انتابت أهل هذا القصر في هذا العام.» فتصاعد الدم إلى وجنتيها، وبانت البغتة في عينيها، وتذكرت ما هي فيه فقالت: «صدقتَ، إن التغيير كثير. رحم الله الملك الصالح، إنه كان حرزًا لهذه الدولة، فلما مضى اضطربت أحوالها.» وظهرت في مآقيها دمعة أوشكت أن تسقط. فقال سحبان: «نعم، رحمه الله، ولكن ما العمل؟ هذا قضاء مبرم يا سيدتي، والدنيا دول.» قالت: «أعلمتَ ماذا جرى؟» قال: «إذا كنتِ تعنين ما صارت إليه شجرة الدر، فقد علمتُ.» قالت: «نعم، إياه أعني، وكيف تراه يا سحبان؟» فاستأنس بمناداتها له باسمه بلا لقب وقال: «أرى؟ ماذا أرى؟ أرى أمرًا أقل ما يقال فيه أنه لم يسبق له مثيل في الإسلام.» فابتسمت وقد أشرق وجهها، وقالت: «أرأيت مثل هذه البدعة قط؟» قال: «لا. لكنني …» وبلع ريقه كأنه يحاذر أن يبدي رأيه. فقالت بلهفة: «قل، ولكن ماذا؟ قل.» قال: «ولكن، كيف توصلتْ هذه الجارية إلى هذا المنصب؟ لا أدري.» قالت: «ألا تعرف عز الدين أيبك التركماني أمير الجيش؟» قال: «نعم أعرفه، قد فهمتُ مرادكِ يا سيدتي، نعم فهمت الآن. عرفت الفرق بين السيدة سلافة الكردية والمحظية شجرة الدر التركية.» فتوسمت من عبارته ما يوصلها إلى الموضوع الذي تريد الخوض فيه فقالت: «وما هو الفرق؟» قال: «الفرق أن هذه وفت بالأمانة في حق مولاها، وأن تلك أشركت سواه في حقه.» فأظهرت أنها تعارضه وقالت: «لا، لا تقل ذلك، إنها أم ولده خليل. لا، لا تقل ذلك.» فأدرك سحبان أنها تتظاهر بالاعتراض، فقال: «قد قلت يا سيدتي. إني أتردد على هذا القصر منذ عدة أعوام، وقد رأيتُ سلافة مرارًا وعيناي شاخصة إليها، وفي كل مرة أحاول أن أكسب منها لفتة فلا تفعل، ولم أرَ غيرها يحرص هذا الحرص. أستأذنك يا سيدتي في هذا التصريح. وأما سواك فمع كونها أم ولده فإن علاقتها مع عز الدين أيبك مشهورة، ومع ذلك فهي الآن ملكة المسلمين، ولا بد لكلٍّ منا أن يصدع بأمرها.» فصاحت فيه: «أنها لن تكون ملكة وإذا صارت فإلى أجل قصير.» ثم رأت أنها قد تورطت بالتصريح بما في نفسها، فتراجعت والتفتت إلى ما يحيط بها، وتشاغلت بزهرة قطفتها من شجرة إلى جانبها وهي مُطْرِقة وقد علت الحمرة محيَّاها. فتوسم سحبان في ذلك المنظر فرجًا، فقال بصوت منخفض: «يا سيدتي لا ينبغي لنا أن نطيل الحديث بلا جدوى. إذا كان لا بد لامرأة من أهل هذا القصر أن تحكم فأنت أَوْلى من سواك؛ لأنك أرقى درجة من سائر نسائه، وأنت من عصبة الملك الصالح، رحمه الله، ولكن …» فقطعت كلامه قائلة: «لا، لا أريد أن أحكم. إن النساء لم يُخلقن للحكومة يا سحبان؛ ولذلك قلتُ لك إن شجرة الدر لا ينبغي أن تبقى في السلطة طويلًا، والآن أقول لك لا ينبغي أن تبقى أبدًا.» قالت ذلك وبان الغضب في عينيها. وأدرك هو أنها تستحثه على مساعدتها في هذا الأمر فقال: «إذا كنت ترين فيَّ مكانًا لثقتك فإني رهين إشارتك. أفصحي لي عمًّا ترينه.» فغلب عليها الحياء، والوردة في يدها، فجعلت تتشاغل بنشر أوراقها بين أناملها كما يفعل المضطرب الأفكارِ وهو لا يدري، فابتدرها سحبان قائلًا: «إذا كنتِ لم تفهمي مرادي بعد فإني أتجاسر وأفصح عما يكنه ضميري لك يا سيدة الملاح … إني أسير هواك منذ عرفتك، وكلما زدت إعراضًا عني أيام الملك الصالح ازددتُ إجلالًا لأخلاقك الفاضلة. وأما الآن وقد مضى ذلك الملك إلى سبيله، فهل ترين في سحبان ما يستحق التفاتك وثقتك؟» فازدادت حياءً، وتوردت وجنتاها، وشعرت بخفقان قلبها، وأوشكت أن تنسى الأمر الذي كان شغلها الشاغل في ذلك الصباح. ثم التفتت إلى ما حولها فلم تَرَ غير الأشجار والرياحين، ولم تجد ما تتشاغل به عن الجواب ريثما تعمل فكرتها. وأدرك سحبان ما دار في خَلَدها فتَحفَّز كأنه يريد النهوض، فمدت يدها نحوه وأشارت إليه أن يمكث، وظلت ساكتة وهي تعض شفتيها وتمسح جبينها وتُصلح نقابها، فقال لها: «دعيني أنصرف الآن، فربما كان وجودي معك سببًا للقيل والقال.» فنظرت إليه نظرة اخترقت أحشاءه وقالت: «وأيُّ قيل وقال؟ إني لا أخاف أحدًا، وأما وجودك هنا فإنه لازم لي.» فهش لها وضحك كأنه نال أمرًا لم يكن يتوقع الحصول عليه وقال: «إذا كان وجودي هنا لازمًا لك فإني رهين أمرك.» ••• اعتدلت سلافة في مقعدها والجد بادٍ في عينيها، ولو كشفت عن وجهها لظهرت دلائل العزم والإصرار حول شفتيها، وقالت: «هل أنت صادق فيما تقول؟» قال: «جربي يا سيدتي. بعد أن تُسمعيني كلمة منك يطمئن لها قلبي. ألا ترين فيَّ الرجل الذي يستحق رضاك؟» فأشارت برأسها وعينيها وقالت: «بلى! والدليل على ذلك أني سأعرض عليك أمرًا خطيرًا لا يجوز أن يطَّلع عليه أحد على وجه الأرض.» وسكتت. فقال: «تفضلي يا سيدتي.» قالت: «وسأكلفك بمهمة لا تخلو من الخطر.» قال: «روحي فداك. لا أبالي أن أموت في سبيل رضاك.» فقالت: «أنت من أهل بغداد تسافر إليها كل عام، أليس كذلك؟» قال: «أسافر إليها متَى شئت.» قالت: «ولماذا لا تمكث هناك؟» قال: «لا بد من الجواب عن هذا السؤال؟» قالت: «نعم.» قال: «إن هذه الجلسة التي سمح الزمان بها على قصرها جعلتني أشعر أن قلبينا متَّحدان من عهد بعيد. فأْذني لي أن أخاطبك بجسارة وصراحة.» قالت: «هذا ما أريده منك.» قال: «لا أقيم في بغداد لأني شيعي، والخلفاء العباسيون يكرهون الشيعة ويطاردونهم، ولا سيما في بغداد، فإنه لا تمضي سنة لا يقاسون فيها تعديًا أو اضطهادًا أو نهبًا أو قتلًا، ففضلت الرحيل عن ذلك البلد، وإن كنت في غنًى عن التجارة، ولكنني جعلتها سبيلًا للأسفار. وإذا سافرت إلى بغداد فلا أمكث فيها إلا ريثما أبتاع البضاعة وأعود.» قالت: «هل تعني أن الخليفة المستعصم الحالي يطارد الشيعة؟» قال: «أكثر الخلفاء العباسيين فعلوا ذلك، والمستعصم هذا من أشدهم وطأة علينا، فقد قاسينا في أيامه الأمرَّين.» قال ذلك والغضب يتجلى في وجهه. فأطرقت وبان التردد في عينيها وسكتت، فقال: «ما لي أراك تترددين؟ قولي ما يخطر لك.» قالت: «أخاف أن يكون في قولي تعب عليك.» قال: «لا لذة في الحب إن لم يرافقه التعب.» ولمَّا ذكر الحب اختلج قلبها في صدرها وقالت: «أنت تطلب ذلك باسم الحب يا سحبان؟» قال: «إذا كنت تأذنين.» قالت: «نعم. انظر يا سحبان، إن هذه الجارية التركية لا ينبغي أن تبقى ملكة إلا ريثما تصل أنت إلى بغداد وتعود منها.» ففهم مرادها وقال: «لك عليَّ ذلك. وهل تريدين أن أذهب بهذه المهمة من عند نفسي أم أكون رسولًا منك؟» قالت: «بل تكون رسولًا تحمل كتابًا مني إلى بغداد، ولا يصل الكتاب حتَّى يأتي الجواب بخلعها لا محالة.» قال: «لمن تريدين أن يسلَّم الكتاب؟» قالت: «سلمه إلى قيِّمة قصر النساء هناك، إنها صديقتي، ولي معها مودة. هل تفعل ذلك؟» فنهض وقال: «أفعله الساعة. هاتي الكتاب.» ومد يده إلى منطقته واستل منها دواة مغروسة فيها واستخرج القلم منها ودفعه إليها، وأخذ من جيبه ورقة بيضاء دفعها إليها، فتناولت الورقة والقلم وهي تتفرس في وجه سحبان وهو ينظر في عينيها. بقيا لحظة على هذه الحال كأنهما يتفاهمان بالعيون، ثم قالت سلافة: «إن هذه هي المرة الأولى التي تَخَاطَبْنا فيها، ألا تَعدُّ ذلك تسرعًا مني؟» قال: «جسي قلبك، فمن القلب إلى القلب دليل. وإذا كنت في ريب من صدق خدمتي، أقسمتُ لك بما تريدين.» وهمَّ أن يقسم ولكنها أمسكت بيده وقالت: «لا حاجة إلى اليمين.» وكانت هذه هي المرأة الأولى التي تلمس فيها يدها يده منذ تعارفا، فأحس كلاهما بالقشعريرة وهي دليل التَّحابِّ، ولا تحدُث عند كل تلامس بين الجنسين، وإنما تقع بين اثنين في قلبيهما استعداد إلى الاتحاد. أو بالتعبير العلمي «بين كهربائيتهما تجاذب» ويزيد هذه القشعريرة ظهورًا قلةُ الاختلاط بين الجنسين والمبالغة في التحجب، ويلوح للباحث في نواميس الحب وظواهره أن أسبابه تقوى أو تضعف على حسب الأمزجة والأشخاص، أو كان الواحد متمم للأخر، فإذا التقى اثنان من هذا النوع شعرا بالتجاذب لأول مرة، على أن للجمال المادي والمعنوي قواعد أجمعَ الناس عليها، يغلب في أصحابها أن يلفتوا أنظار الناس ويجتذبوا قلوبهم. فلما أحسَّت سلافة بتلك الرعشة اتخذتها دليلًا على صدق مودة سحبان، وتناولت الورقة وأخذت تكتب، وكانت بارعة في الخط والإنشاء؛ لأن السلاطين كانت لهم عناية في تعليم الجواري الكتابةَ واللغةَ والأدبَ. ولما فرغت من الكتابة أقفلت الكتاب ودفعته إليه وقالت: «هذا سري قد عهدت به إليك، إذا أفلحت فقد برهنت لي على ما تقول.» فتناوله وقال: «أستودعكِ الله.» ومشى وهو يلتفت إليها حتَّى خرج من الحديقة، وظلت هي بعده واقفة تفكر فيما فعلته، فخالج ذهنها ندم على تسرعها، لكنها راجعت ما رأته وشاهدته منه، وتذكرت تاريخ معرفتها به، فلم تجد ما يوجب الحذر.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/4/
أول ملكة للمسلمين
أصبحت القاهرة في اليوم التالي وأهلها في هرج، والناس يزحم بعضهم بعضًا نحو القلعة، بين راكب وماشٍ، رجالًا ونساءً، حتَّى أصبحت ساحة الرميلة تحت القلعة غاصَّةً بالناس من كل الطبقات، وقد اختلط بهم الباعة يحملون أنواع الكعك والفاكهة والثمار والمملحات والحلوى والمأكولات الجافة. وبينهم حملة الودع وكُشَّاف البخت وفاتحو المندل، ينادي كل واحد على بضاعته على اختلاف الألحان وطبقات الأصوات، وقد علت ضوضاء الناس وأصوات الحيوان. ولو أشرفت على الرميلة من سور القلعة لرأيت الساحة بقعًا، يشغل كل بقعة جماعة متشابهون لباسًا وشكلًا، أكثرهم قاعد القرفصاء، يلهو الواحد منهم بشيء يمضغه أو عود ينكت به الأرض أو أداة يلاعب بها أصابعه. وهناك جماعات الْتفَّت على رجل يلاعب دبًّا أو قردًا، ثم يدور عليهم بدفِّه يجمع ما يجودون به من الدوانق، وجماعات هدأ جوهم لاشتغالهم بحديث يقصه عليهم شيخ منهم يبذل جهده في اجتذاب قلوبهم ونيل إعجابهم، وهم يتطاولون بأعناقهم نحوه، وقد أخذهم الاستغراب. ولو أتيح لك حضور تلك المجالس لرأيت عجبًا وأخذتك الدهشة من أخلاق العامة وسرعة تصديقهم للغرائب؛ لأنك قد تسمع حديثًا أنت أعلم الناس به فتجده تَشوَّه واضطرب حتَّى انقلب إلى غير ما تعرفه، وقد تُنكره وتظنُّه حديثًا آخر. ويزداد تحريفهم للأحاديث بنسبة ما تحويه من الغرابة عن مألوفهم، فما ظنك في موضوع ذلك اليوم، وهو تنصيب امرأة ملكة على المسلمين، مما لم يسبق له مثيل في تاريخهم. فتضاربت أقوالهم في ذلك، واخترعوا الأسباب الباعثة عليه، وافترضوا الأسرار، وتكهنوا بمصير هذه الحال، وزعم بعضهم أنهم صاروا في آخر الزمان، وسوف تنقضي الدنيا؛ لأن ذلك من دلائل الفناء. وبينما هم في ذلك إذ سمعوا نفخ الأبواق وقرع الطبول، ثم رأوا موكب أمراء المماليك البحريين متوجهًا نحو القلعة، وفي مقدمته كبراء الفرسان بالملابس المذهبة تتلألأ في شعاع الشمس حتَّى يكاد بريقها يذهب بالإبصار، وبعدهم هودج شجرة الدر تحمله البغال وقد تجلل بالحرير المزركش، وأحاطت به الفرسان في أزهى الملابس وأجملها وفيهم حَمَلَة الأعلام، ووراءهم كوكبة من الفرسان أصحاب المزاريق، ثم كوكبة من حملة الرماح، ووراءهم جماهير الناس مشاة على أقدامهم يموجون كالبحر الزاخر، وفيهم من تبطل وأوقف عمله لمشاهدة موكب الملكة، وهو لا يرجو شيئًا من وراء تلك الخسائر، وإنما يساق العامة إلى ذلك بفطرتهم الساذجة وميلهم الطبيعي إلى مشاهدة الغرائب، فهم يؤخذون بالظواهر ويتبعون كل ناعق؛ ولذلك كان إجماع العامة على أمرٍ ما لا يدل على صوابه. وصل الموكب إلى باب القلعة الكبير المواجه للقاهرة، ويقال له الباب المدرج، وكانت طائفة من الجند قد وقفت هناك بالسلاح لتمنع الناس من الدخول. وللقلعة باب آخر نحو القرافة أقفلوه في ذلك اليوم لئلا تتزاحم الأقدام في ساحة القلعة، وهي ساحة كبيرة في وسط القلعة تنتهي بمصطبة وراءها باب كبير هو الباب الداخلي المؤدي إلى الأبنية الخاصة بسكنى السلطان والأمراء والأجناد، وفيها الجامع والإيوان. دخل الموكب القلعة من بابها المدرج، وظل العامة خارجها يكتفون بما يسمعونه من قرع الطبول ونفخ الأبواق. وقَطَع الموكب الساحة حتَّى وصل إلى الباب الداخلي المذكور ففتحوه، ولم يأذنوا لغير الخاصة بدخوله، ولا سيما الأمراء وأرباب المناصب ونحوهم، وخلفوا في الساحة جمعًا من الخاصة اكتفوا بأنهم امتازوا عن سائر العامة بدخول القلعة. ودخل الموكب من ذلك الباب إلى ممر فسيح تحفُّ به الأبنية وهناك تَرجَّل الفُرسان، واعتنى جماعة بشجرة الدر فأنزلوها عن الهودج، وبينهم وبين الإيوان الكبير ممرات وأبواب لا بد من اجتيازها، وكانوا قد فرشوها بالسجاد وعلقوا على أبوابها الرياحين والأعلام، ومشى عز الدين أيبك وسائر الأمراء — وهم بملابسهم الفاخرة — بين يدي شجرة الدر، وهي في ذلك اليوم في أبهى ما يكون من اللباس، وكانوا قد أعدوا لها قبة من الحرير المطرز قائمة على أربعة أعمدة يحملها نفر من القواد، وقد أُريخِت ستائرها، وشجرة الدر في داخلها، ومعها جاريتها شوكار وبعض الوصيفات. لم يصل إلى الإيوان الكبير إلا الخاصة وكبار الموظفين، وهم أصحاب المطامع وطلاب السيادة، يسخِّرون العامة لأغراضهم ويسوقونهم كالأنعام لا يدرون مصيرهم، وربما اكتسبوا رضاهم بأكلة يطعمونهم إياها، أو بصلاة يتلونها بين أيديهم، أو دعاء لوَلِي أو قديس يعرفون أنهم يعتقدون كرامته. ظل أصحاب القبة سائرين حتَّى وصلوا إلى صدر الإيوان، وكانوا قد نقلوا إليه سرير السلطنة الذهبي، فجعلوا القبة فوق السرير وأرخوا ستائرها حوله، فقعدت شجرة الدر على السرير وبين يديها شوكار والوصائف يأتمرن بأمرها ولا يراها أحد من الحضور. ثم دخل قاضي القضاة، فقعد إلى يمين القبة، ووراءه صاحب بيت المال وناظر الحسبة، وإلى يساره كاتب السر وغيره من كبار أرباب المناصب وذوي السن وأمراء المشورة، وجلس بين يدي القبة في وسط الإيوان الأمير عز الدين أيبك أمير الجند، وكبار أمراء المماليك وبينهم ركن الدين بيبرس، ووراء القبة والسرير صفان من حملة السلاح، ووراءهم الحُجَّاب ونحوهم، وأتوا في جملة ذلك بجماعة من أسرى الإفرنج عليهم ألبسة الأسرى مبالَغةً في الاعتزاز. وبعد أن استقر بهم الجلوس على هذه الصورة، وقف عز الدين أيبك ووجَّه خطابه إلى الجمع وقال: «أيها الأمراء والقواد، لا يخفى عليكم ما أصاب المَلِك المعظم طوران شاه، إنه أساء السيرة وأراد التنكيل بجند هذا البلد البحريين، الذين عرفتم بلاءهم في زمن الملك الصالح، رحمه الله، في حرب الإفرنج وغيرهم، فوقع القضاء عليه. ولما خلا كرسي السلطنة ممن يسوسها، لم نجد مَن هو أَوْلى بها من أصحاب الحق فيها إلا مولاتنا الصالحة شجرة الدر والدة خليل وصاحبة الملك الصالح؛ لِمَا نعلمه من ثقة مولانا المرحوم بها، وهي أم ولده، فأجمع رأي الأمراء والنواب والقضاة على اختيارها ملكة تتولى شئون الدولة بمساعدتهم. وقد تعهَّد أصحاب السيوف بطاعتها لإحقاق الحق وحماية بيضة الدين. ونحن الآن نحتفل بتنصيبها، وسندعو لها على المنابر بعد مولانا أمير المؤمنين المستعصم بالله، وسننقش اسمها على الدنانير والدراهم، فادعوا لأمير المؤمنين.» فضج الجميع بالدعاء للخليفة وهم وقوف، ثم تقدم قاضي القضاة فدعا لشجرة الدر قائلًا: «واحفظ اللهم ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية، صاحبة السلطان الملك الصالح.» فقال عز الدين أيبك: «وقد عهدَت إليَّ في تدبير المملكة باسمها، وولَّت الأمير ركن الدين بيبرس الداودارية الخاصة، وأمرتني أن أثبت أصحاب المناصب الموالين لنا في مناصبهم من أصحاب الأقلام وأصحاب السيوف.» ثم أشار إلى صاحب الستر الواقف بجانب القبة، فأزاح الستر، فبان داخلُ القبة، فإذا هي مبطنة بأطلس أصفر مزركش، وفي صدرها شجرة الدر جالسة على السرير قد أرخت النقاب وعلى رأسها العصائب السلطانية، وهي صُفر عليها ألقاب المملكة مطرزة بالذهب. فعاد الناس إلى الدعاء لها، ثم أرخوا الستر وعاد عز الدين إلى الكلام فقال: «وعمَّا قليل نحتفل بقراءة المرسوم الذي سيَرِدُ علينا من أمير المؤمنين المستعصم بالله يؤيد سلطنة مولاتنا حفظها الله.» وكان الناس في أثناء الاحتفال سكوتًا كأنَّ على رءوسهم الطير، وقد أخذتهم الدهشة لأنهم لم يسمعوا بمثل هذه الولاية، وفيهم الغاضب والعاتب والمعترض، ولكن لم يجسر أحد منهم على الكلام؛ لعلمهم أن هذه السلطنة إنما كانت بتواطؤ المماليك البحريين أصحاب القول في ذلك العهد. وقبل الفراغ من الاحتفال أشار عز الدين إلى بعض الوقوف من الداودارية، فمضى وعاد ومعه الأطباق عليها صُرَر النقود، فأخذوا يوزعونها على الحضور، وعلى كل صرة اسم صاحبها. ولما هَمَّ الحضور بالانصراف، وقف عز الدين أيبك وقال: «أيها الأمراء، إن مولاتنا ملكة المسلمين اقتضت إرادتها أن تنقل دار السلطنة من جزيرة الروضة إلى هذه القلعة، وستكون هذه القلعة مقر أرباب المناصب بدلًا من قلعة الملك الصالح في الروضة؛ لأن السبب الذي من أجله جعلها الملك المرسوم كرسيًّا للسلطنة قد زال.» فكان لهذا التغيير وقع حسن عند بعض السامعين ووقع سيئ عند آخرين، ولكن لم يجسر واحد على إبداء رأي أو ملاحظة. وانقضت الحفلة وانصرف كلٌّ إلى مكانه، وانتقلت شجرة الدر إلى قصر خاص بالسلطنة هناك، وأخذوا في نقل الرياش وغيره من جزيرة الروضة، ولم تَعُد تلك الجزيرة كرسيًّا للسلطنة من ذلك الحين، وأخذوا في تعريتها من زخرفها ونقوشها، ولا سيما لمَّا صارت السلطنة إلى عز الدين أيبك، فإنه أمر بهدمها ونقل ما كان فيها من الأعمدة والنوافذ والسقف والأخشاب لبناء مدرسة باسمه في القاهرة. وكانت شوكار في أثناء الاحتفال مع شجرة الدر في الهودج كما تقدم، فلما رفع الستر انزوت في مكان ترى الحضور منه ولا يرونها، وكان نظرها لا يتحول عن ركن الدين وهو بلباسه الرسمي، على رأسه القلنسوة الجندية ولباسه مزركش بالقصب وقد زانه شبابه، وسرَّها على الخصوص ما سمعت من أنه صار داودارًا لسيدتها؛ لعلمها أنه أصبح أقرب إليها؛ إذ يكثر تردده إلى قصر الملكة لقضاء مهام منصبه، فخفق قلبها فرحًا وتحققت قرب السعادة؛ لأنها ستكون زوجة لداودار السلطنة. ••• انتقلت شجرة الدر بعد انقضاء الاحتفال إلى قصر السلطنة، وقد أعدوا لها فيه غرفة فرشوها بأحسن الرياش، ودخلت الغرفة يحيط بها الجواري والوصائف وفي مقدمتهن شوكار، فأخذن في تبديل ملابسها، ثم أمرت الخدم بالانصراف، فلما خلت بنفسها أخذت تفكر فيما صارت إليه مما لم تكن تحلم به في صباها، وتذكرت صباها وكيف كانت تنظر إلى السلاطين والملوك، وما كانت تراه بينها وبينهم من المسافات البعيدة، وكيف أصبحت اليوم ملكة المسلمين تطأطئ لها الرءوس وتعنو لها الرقاب. فلما تصورت ذلك انشرح صدرها وانبسطت نفسها، لكنها ما لبثت أن فكرت فيما يعتور ذلك المنصب من المشاقِّ، وما في مصر يومئذٍ من المشاكل والحروب مع الصليبيين، عدا الأحزاب المختلفة بين رجال الدولة والجند، فانقبضت نفسها، لكنها لم تذكرت عز الدين مدبر المملكة ومن معه من الأمراء الذين يأخذون بناصرها للعصبية أو للعطاء، هان الأمر عليها، وإن بقي الانقباض ظاهرًا في وجهها. وبينما هي في ذلك، إذ دخلت عليها جاريتها شوكار والفرح يتجلى في وجهها، وأكبت على يد سيدتها تقبلها وهي تقول: «الحمد لله على نعمه يا سيدتي، أنت ملكة المسلمين، ألم أقل لك عندما رأيتك على ذلك السرير إنه لائق بك؟ ما لي أراك منقبضة النفس؟ هل ساءك مجيئي الآن؟ هل تأمرين بانصرافي؟» فطوقت عنقها بيديها وضمتها إلى صدرها وقبَّلتها وهي تقول: «كيف تنصرفين يا شوكار؟! لا، لا، لست منقبضة من شيء، إني شاعرة بالسعادة التي أنا فيها والحمد لله، ولكنني أفكر في المهام الكثيرة التي بين يدي. كنت قبل الآن أتمنى أن يتم هذا الأمر لي، فلما تم ذهبَت شهوة ذلك الميل، وتَبيَّن لي المنصب بما يحف به من المشاكل والمسئوليات.» فأرادت شوكار مداعبتها لتشغلها عن تلك الهواجس، فقالت وهي تضحك: «إذا كنتِ قد كرهتِ هذا المنصب فأنا آخذه منك وأخفف عنك مهامه.» فابتسمت شجرة الدر وقبَّلت شوكار ثانية وقالت: «لم أكره هذا المنصب يا عزيزتي، فإني لم أذُق منه شيئًا بعد، لكن لا ينبغي لي أن أتغاضى عما يحيط به من أسباب العَنَاء.» قالت: «إن هذه الأسباب لا بد منها، وهذا مولانا عز الدين مدبر المملكة يحمل عنك كل أثقالها، وهذا ركن الدين، إنه بطل.» ولما ذكرته خجلت وأطرقت حياءً. فضحكت شجرة الدر من قولها ومدت يدها إلى جبينها تمسحه وقالت: «إن ركن الدين بطل، وإذا شئت أن تَرَي ذلك وتختبريه، فإني سأكلفه بمهمة ذات بال لا أرى بين الأمراء من أثق به وأعوِّل عليه في قضائها غيره، هل تأذنين في ذلك؟» فخجلت شوكار من هذا الاستئذان وقالت: «مَن أكون أنا ليؤخذ الإذن مني؟ ألسنا جميعًا عبيدًا نصدع بالأمر؟!» فلما سمعت هذا التعبير — وهو مما يقال للملوك — عظم الأمر عندها، لكنها كانت عاقلة تنظر في الأمور إلى حقائقها، ولا يهمها الزخارف فقالت: «كلنا عبيد يا شوكار، وإنما سألتك لأن ركن الدين يهمك الآن، أليس كذلك؟ فقالت وقد تورَّدَت وجنتاها من الخجل: «هَبِي أنه لي، فأنا لم أكن لأحصل عليه لولاكِ.» قالت: «ليس هذا هو المهم في الأمر يا شوكار، ولكنني أحب قبل أن يعقد له عليك أن يأتي عملًا يوجب له الفخر على أقرانه، فإذا تزوجك بعد ذلك زاد افتخارك به.» قالت: «الأمر لك في كل حال.» لكنها في الحقيقة لم يسرها هذا الأمر؛ لأن ركن الدين من الأمراء المعروفين، وإذا لم يكن بد من زيادة أسباب شهرته، فليكن ذلك بعد العقد. وقد أصبحت لفرط غبطتها بذلك النصيب تخاف أن يؤخذ منها، لكنها لم تستطع إظهار غير الرضا. أما شجرة الدر فإنها لحظت ترددها وما خامر ذهنها من هذا الأمر، فتنهدت ونهضت وقالت: «اتبعيني يا شوكار.» فتبعتها وهي تفكر في غرضها من هذا النهوض، فإذا هي قد مشت في ممر إلى غرفتها الخاصة، وهي غرفة أعدوها لها بأثمن الرياش، فدخلت واستلقت على سريرها بلا كلفة وهي تقول: «آه يا شوكار، لقد تعبت من التفكير، وشعرت بثقل العمل الذي أخذته على عاتقي، أطربيني بصوتك الرخيم لعلي أروِّح عن النفس قليلًا.» فسَرَّها هذا الاقتراح، وأمرت بعض الغلمان بإحضار العود، فتناولته وأخذت تضرب عليه بإتقان، وتغني أغاني تَعْلم أن شجرة الدر تطرب لها، فآنست منها استحسانًا كثيرًا وهي تضحك لها وتعجب بها، وشوكار تائهة الفكر في ركن الدين، وتودُّ لو يكون حاضرًا لتراه لعلها تتحقق منه شيئًا؛ لأنها لم تملك فرصة تسمع منه فيها قوله إنه يحبها، وأحست هي أنها أحبته وخافت ألا يكون قد بادلها حبًّا بحب، وبانَ انقباضُ قلبها في وجهها، وظهر أثر ذلك في ضربها وغنائها، فقالت لها شجرة الدر: «ما بالك يا شوكار؟» فانتهبت لنفسها وقالت: «لا شيء يا سيدتي.» ثم ابتسمت لتخفي ما بها وقالت: «شكرًا يا مولاتي، إني محاطة بكل أسباب السعادة والحمد لله.» وسكتت وفي سكوتها شبه إنكار. فلحظت شجرة الدر شيئًا مما اعترى جاريتها شوكار فقالت: «لا شيء يا سيدتي!» ثم ابتسمت لتخفي ما بها وقالت: «شكرًا خاطرك شيئًا تكتمينه. هل ساءك ما قلته عن ركن الدين من أمر السفر؟» قالت بلهفة: «كلا يا سيدتي، إن ما تأمرين به لا يكون فيه غير أسباب الراحة والسعادة ولكن …» وأطرقت حياءً. قالت: «ولكن ماذا؟ إن هذا الإطراق يعجبني من الفتاة في مثل هذه الحال، يظهر أنك تشتاقين رؤية ركن الدين قبل سفره، ولعلك تحبين أن تعرفي رأيه فيك. إني سأدعوه الساعة يجالسنا بحجة عزمي على تكليفه بتلك المهمة.» وصفَّقَت، فجاء بعض الغلمان فأمرته أن يدعو الداودار ركن الدين، وعادت إلى مشاغلة شوكار، فقالت لها: «لا يمضي كثير حتَّى يأتي ركن الدين. غنِّي شيئًا من عندك.» فأخذت تغني، وقد فرحت بقرب قدوم ركن الدين، لكنها أحسَّت بخفقان قلبها فتشاغلت بالضرب والغناء. وبعد قليل جاء الغلام يقول: «إن الأمير ركن الدين بالباب.» فقالت: «يدخل.» وأشارت إلى شوكار أن تسكت. فدخل وألقى التحية، فابتسمت له، وقد ألقت النقاب بعض الشيء على رأسها، وفعلت شوكار مثل فعلها، وقالت شجرة الدر: «مرحبًا بالبطل ركن الدين، تفضل.» وأشارت إلى كرسي بين يديها، فجلس عليه وهو يتأدب في نظراته ويفكر في سبب تلك الدعوة، فقالت شجرة الدر: «أتعلم يا ركن الدين لماذا دعوتك؟» قال: «لا يا سيدتي، وإنما أعلم أني سيف من أسياف مولاتي ترمي بي حيثما شاءت.» فقالت: «بارك الله فيك. لكن هل تفعل ما تفعله إكرامًا لي وحدي؟» فلما سمع قولها علم أنها تداعبه وتشير إلى علاقته المستقبلة بشوكار، فسَرَّه أنها بادرته بالحديث فقال: «نعم يا سيدتي؛ لأنك أنت صاحبة الأمر والنهي من كل وجه.» والْتفت إلى شوكار وابتسم. فخجلت شوكار وبان الخجل في عينيها وأطرقت، فقالت شجرة الدر: «أرى شوكار قد خجلت، ويعجبني الحياء منها، لكنني أحب أن تُسمعنا لحنًا آخر يشاركنا ركن الدين في سماعه، ما رأيكِ؟» فقالت: «إني رهينة أمرك يا سيدتي.» قالت: «أسمعينا أو أسمعيه، لعله يسمعنا ما يطرب من غير لحن أو نغم.» فتناولت شوكار العود وأخذت تضرب عليه وتغني حتَّى أخذت بمجامع قلب ركن الدين، فطرب طربًا كثيرًا وهاجت عواطفه، وكان قد سمع عن صوت شوكار ولم يسمعه، أَمَا وقد سمعه فازداد إعجابًا به وتعلقًا بزواجها، وعلم مقدار النعمة التي وهبته إياها شجرة الدر لما وعدته بتلك الغادة المطربة. وكانت شوكار تضرب وتغني وعيناها تراقبان حركات ركن الدين، فرأته قد هاجت أشجانه وبان الطرب والهيام في وجهه، ولولا تهيُّبه من وجود الملكة لقال أشياء كثيرة. ولحظت شجرة الدر أيضًا ذلك وسَرَّها ما لحظته؛ لأنها كانت تريد أن تقبض على قلب ركن الدين لتستخدمه فيما تريد من الأمور؛ إذ أصبحت — بعد أن صارت ملكة — تخاف من الدسائس والمناظرين من الداخل والخارج. وقد توسمت في ركن الدين همة عالية وبسالة، فأرادت أن تملك قلبه ليكون طوع إرادتها فيما قد تعتزم فعله؛ لأنها كانت سيئة الظن فيمن حولها، حتَّى عز الدين أيبك صديقها، كانت ترى أنه غير أمين لها، وأنه إنما يظهر الطاعة موقتًا. فلما رأت هيام ركن الدين بشوكار قالت له «هل أعجبك صوتها يا ركن الدين؟» فتحرك احتفاءً بذلك الاستفهام وقال: «تسألينني عن صوتها؟ ألا يكفي أنه يعجب ملكة المسلمين؟ ومَن لا يطرب لهذا الصوت الرخيم؟» قالت وهي تضحك: «أرجو ألا يكون الصوت وحده الذي أطربك.» فالْتفتَ خلسة إلى شوكار وسكت. فقالت شجرة الدر: «أراك تستشيرها في ذلك، هل تشكُّ في أنها تعجب بك؟» قال: «إذا كانت ترى فيَّ شيئًا حسنًا فإنما تراه بناءً على رضا مولاتي الملكة عني.» قالت: «لا أنكر أني وسيلة التعارف بينكما، لكنها تسمع عن البطل ركن الدين من قبل، ويكفي ما تسمعه مني عن بسالتك، ويعجبني منها أنها لا يعجبها غير رجال الحرب المستبسلين في الدفاع عن الدولة؛ ولذلك سألتك حين دخولك هل تعلم لماذا دعوتك فأجبتَ جوابًا وقع من نفسي موقعًا حسنًا، ولا شك أنه وقع مثل هذا الموقع عند شوكار، وقد لحظتُ ذلك في عينيها، وبدلًا من أن أُتِمَّ حديثي معك، طلبت إليها أن تسمعك صوتها، وقد فَعَلَت، وإني في غاية السرور من تقارب قلبيكما. فلنعد إلى ما كنا فيه، قل لي هل تعلم لماذا دعوتك، ونحن فيما نحن فيه من أمر الإفرنج في دمياط وحولها؟» قال: «إنك تريدين أن أكفيك أمرهم، وهذا هين.» قالت: «سيَعهد إليك الأمرَ عزُّ الدين غدًا في ذلك، ولكنني أحببت أن أطمئنك أن هذا العمل يرضي شوكار، وأنها تحب الشجعان البواسل. ومن الجهة الأخرى لحظتُ من شوكار أنها …» وضحكت وهي تنظر إليها، ثم قالت: «لحظتُ أنها تحب أن تتحقق رأي ركن الدين فيها.» فغلب الحياء على ركن الدين وقال: «هل لركن الدين رأي بعد أمر مولاتنا الملكة؟» قالت: «هي لا تريد أن يكون حبك لها طوعًا لأمر الملكة.» قال: «إن أمر الملكة كان فاتحة الكلام، ولكنني أحبها الآن طوعًا لأمر قلبي، ويكفيني أن يكون عندها نصف ما عندي.» قال ذلك ونظر إلى شوكار فأطرقت خجلًا، وتكلمت عيناها بما يعجز اللسان عن الإفصاح به.» ••• لما وثقت شجرة الدر من ترابط قلبَي ركن الدين وشوكار، التفتت إليه قائلة: «والآن يا ركن الدين كن رجلًا مثل عهدي فيك، إن نجاحك في هذه المهمة ضامن لوصولك إلى الرتب الرفيعة. سِرْ بحراسة الله، ولكن قبل ذهابك صافح شوكار وضع يدك في يدها، إني أسمح لكما بذلك.» فتَقدَّم ركن الدين ومد يده ومدت شوكار يدها وتصافحا، وهي أول مرة تلامست فيها يداهما، فكأنهما تفاهما وتعاقدا. ثم انحنى ركن الدين أمام شجرة الدر وودعها وخرج، فأحست شوكار كأن قلبها قد خلع من صدرها وسار معه. فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «ألم أقل لك إنه يتفانى في حبك، وسيزداد حبك له عندما ترينه عاد ظافرًا من ساحة الحرب. إنه سيناضل ويحارب باسمك، فأهنئك يا عزيزتي بهذا البطل.» فأطرقت وقلبها يخفق طربًا، ثم أذنت لها بالانصراف لتتفرغ لمهام الدولة. وما كادت تخرج من عندها حتَّى جاءها الحاجب ينبئها بقدوم عز الدين نائب السلطنة، فقالت للحاجب: «قل له ينتظرني في الإيوان.» وكان عز الدين قد جاء إلى الإيوان لملاقاة حبيبته على حدة ليهنئها بما نالته، وهو يتوقع أن تُكثر من الثناء عليه عند المقابلة على انفراد؛ لأنه كان السبب في نيلها ذلك المنصب الذي لولاه لم تكن لتناله، فلمَّا لم يجدها هناك، قصد إليها في غرفتها، ولكنه رأى ركن الدين خارجًا من عندها، وعلى وجهه أمارات الهيام، ودهش ركن الدين عند مشاهدته وحيَّاه وقد ظهرت البغتة في كلامه. أما عز الدين فإن الشك تسرب إلى فكره، وشبَّت الغيرة في قلبه، فلم يَزِدْ على رد التحية، وعزم على استطلاع سبب وجود ركن الدين هناك حالما يلاقي شجرة الدر في غرفتها. فلما عاد إليه الحاجب بأن ينتظر شجرة الدر في الإيوان، زادت وحشته وعظمت غيرته، وخُيل إليه أن شجرة الدر غلبت الكبرياء على قلبها حتَّى أصبحت تستنكف من ملاقاة صديقها وسبب نعمتها في غرفتها. لكنه أخذ يغالب شكوكه وتجلَّد وذهب إلى الإيوان في انتظارها. واتفق أنها تباطأت في الوصول ريثما بدلت ثيابها، ثم جاءت وهي تجر ذيل ثوبها الملكي والوصيفات بين يديها. فلما دخلت وقف لها ورحب بها، فحيَّته وأشارت إليه أن يجلس وصرفت الخدم. فلما رآها تهش له تغير ما في نفسه وأغضى عما سبق إلى ذهنه وقال: «جئت لأهنئ مولاتي بمنصبها، وأرجو أن تتأيد دولتها.» فابتسمت ابتسامة الشكر وقالت: «إني لا أنسى فضلك في ذلك يا عز الدين، ولا بد لي من الاتكال عليك في فض المشاكل التي تنتاب الدولة.» قال: «إني رهين الإشارة يا سيدتي.» قالت: «أنتَ تعلم ما يحيط بنا من الحسَّاد وما يهددنا من الأعداء، ولا سيما الإفرنج؛ فإنهم لا ينامون من مناوأتنا.» قال: «لا يشغلك شاغل من أمر هؤلاء؛ فإني مدبر أمرهم.» قالت: «بارك الله فيك، غير أني رأيت ركن الدين يليق بهذا العمل، وقد سمعتك تثني على بسالته، وقد اتفق أني رأيته اليوم وذكرت أمر الإفرنج بين يديه، فرأيت منه ارتياحًا إلى الخروج إليهم، غير أني أحببت أن يكون ذلك برأيك.» فلم يعجبه قولها إنها رأته اليوم، وكيف تراه إن لم يكن ذلك على موعد بينهما؟ وكيف يكون ذلك في غرفتها لا في الإيوان؟ لكنه تجاهل وقال: «إن ركن الدين أهل لثقتك، لا بأس من أن يُعهَد إليه في ذلك بأمر منك رأسًا.» فمدت يدها إلى جيبها واستخرجت ورقة ملفوفة وقالت: «إليك ما كتبته له في ذلك.» من ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين ذات الحجاب الجليل، والدة المرحوم خليل، زوجة الملك الصالح رحمه الله؛ إلى القائد الباسل الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري. نظرًا لثقتنا الكبرى ببسالتك وعلوِّ همتك، ولِمَا ظهر من بلائك في دفع الإفرنج عن بلادنا، ولمَّا كان هؤلاء الملاعين لا يزالون يناوئوننا في جهات دمياط، عَهِدْنا إليك بعد مشورة مدبر مملكتنا الأمير عز الدين أيبك أن تَخرج إليهم برجالك الذين تختارهم وتكفينا أمرهم. وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. فلما قرأ الأمر أعجبه قولها إنها فعلت ذلك بمشورته، فطوى الكتاب وبعث به إلى ركن الدين، وعاد إلى محادثتها في شئون الدولة، وهي تبذل جهدها في مجاملته ليطمئن قلبه لها، ولا يزال الشك يخامره — والمحب كثير الشكوك — لكنه كان يطرد تلك الشكوك من خاطره، فلما انصرف من عندها وخلا إلى نفسه عادت إليه الشكوك. أما ركن الدين فإنه لما جاءه كتاب شجرة الدر بادر إلى تنفيذه، وقد اتسعت آماله فيما تطمح إليه نفسه من الارتقاء في مناصب الدولة، وهو يرى نفسه أهلًا لأكبر المناصب؛ فإنه كان كبير المطامع عالي الهمة، والدولة في اضطراب، وقد خطر له أن الدولة التي تستطيع امرأة أن تصير ملكة فيها لا يعجز فيها عن نيل ذلك مثله، ولكنه يعلم أن مطلبه عسير وعز الدين أمامه، وهو صاحب النفوذ الأقوى عند الجند وعند شجرة الدر نفسها. على أن ما آنسه من ملاطفة في ذلك اليوم بعث في نفسه بعض الشجاعة، فكتم مطامعه هذه عن الجميع لعلمه بما يعتور ذلك من الخطر. ومع ذلك فإن حبه شوكار هوَّن عليه كل عسير وصار من أقوى الدوافع له على طلب العلا. أما شوكار فإنها أصبحت بعد سفر ركن الدين إلى دمياط شديدة الميل إلى سماع أخبار الحرب واستطلاع ما جرى، وهي تصبِّر نفسها، وكلما طال انتظارها ازدادت شوقًا ولهفة. وأما هو فكان يغتنم قدوم بعض خاصته للسؤال عنها وتتبع أحوالها. ومضى على ذلك ثلاثة أشهر لم يأتِ إلى القاهرة خلالها إلا مرتين، فاجتمع فيهما بشوكار على علم شجرة الدر وسمع غناءها. وفي المرة الثانية تواعدا على العقد بعد رجوعه، فمكثت تنتظر ذلك بفارغ الصبر كأن قلبها دلها على سوء سيصيبها. ••• مشى عز الدين بعد خروجه من الإيوان إلى المنزل الخاص به في القلعة، ودخل غرفة فيه تطل على القاهرة، وقد تعمد الخلوة ليفكر في تلك الظنون التي غزت قلبه، وهو لا يزال في أول هذا الدور الجديد، وجلس على مقعد بجوار النافذة، فوقع بصره على القاهرة وما وراءها من الفسطاط إلى النيل وفيه جزيرة الروضة، فتذكر الملك الصالح، وأيامه هناك مع شجرة الدر، فمر في مخيلته تاريخ علاقته بها، فلم يجد ما يوجب شكًّا، فعاد إلى حسن الظن. وبينما هو في ذلك، إذ جاءه غلام ينبئه بمجيء امرأة منقبة تريد مقابلته، فسأل الغلام من هي تلك المرأة، فقال: «لم أستطع تمييزها لأنها منقبة وقد غطت وجهها.» فنهض وهو يفكر فيمن عساها أن تكون، وسار إلى غرفة خاصة بمقابلة القادمين، فوجد تلك المرأة جالسة على المقعد وقد التفَّتْ بملاءة ثمينة، ويدل مجمل حالها على أنها لم تأتِ لطلب صدقة، فدخل وحياها فردَّت التحية وهي تتحفز للنهوض، فأشار إليها أن تقعد فقعدت، وقعد هو بين يديها وقال لها: «من أنتِ وماذا تريدين؟» فأزاحت النقاب عن وجهها ولم تُجِبْ، فإذا هي سلافة قيِّمَة قصور الملك الصالح، وكان معجبًا بجمالها، وله معها مواقف كانت هي الظافرة فيها؛ نظرًا لما كان لها من المنزلة عند الملك الصالح، وكان يحترمها من أجل ذلك، ولم يكن يتوقع أن يراها آتية إليه على هذه الصورة. فحالما كشفت وجهها بادر إلى الترحيب بها فقالت: «لم آتِ إليك لضيافة، ولكنني جئت ألتمس منك شيئًا أنت صاحب الأمر فيه.» فقال: «وما هو؟» قالت: «علمت اليوم أن أمور الدولة صارت إلى صديقتك شجرة الدر، وأنا كما تعلم قيِّمَة قصور الملك الصالح، والملك الصالح مات، وقصوره نهبت، وأثاثها نقل إلى هذه القلعة، وصارت الحكومة إلى إحدى جواريه، لا تؤاخذني على هذا التعبير. إنها جارية ولكنها صديقة عز الدين أيبك، وهو الذي رفعها إلى مقام الملك. أنت رفعتها إلى ذلك المقام لأنها صديقتك، ولك الخيار فيما فعلت، هنأها الله بهذا المنصب. وإنما جئت الآن أطلب منك أن تُطْلِق سراحي من الخدمة، ولم يبقَ لي عمل في هذه القصور؛ إذ لم يبقَ فيها دور للحريم، بعد أن صارت ملكتنا من الحريم، فاصرفني، أم أنت لا تقدر أن تفعل ذلك من تلقاء نفسك بدون أن تشاور ملكة المسلمين؟» وكان لكلام سلافة وقع شديد في نفس عز الدين وهو في تلك الحال من التردد والشك، وكان يجل قدرها ويحب التقرب منها، ولكن لم تكن تسنح له فرصة في حياة مولاها. ولما جاءته في تلك الحال وقع في حيرة، وتنبهت فيه عوامل كثيرة؛ أهمها احتقار نفسه لأنه خضع لامرأة لم ترضَ امرأة مثلها أن تخضع لها، وتنبَّه في خاطره حب كان كامنًا فهاجه لقاؤه لسلافة، ولم يسعه السكوت مع ذلك عن الدفاع عن شجرة الدر حفظًا لكرامته فقال: «إن شجرة الدر لم تصل إلى هذا المنصب إلا لأنها أم ولد السلطان كما تعلمين.» قالت: «صدقت، بارك الله فيكم، لم تبايعوها إلا لأنها أم ولد السلطان. ما شاء الله! وأين ذلك الولد؟ لقد مات. وإذا كان الغرض المحافظة على نسب السلاطين الأيوبيين في هذه السلطنة أفلم يكن الأَوْلى أن تولوا عليكم أيوبيًّا يكون الأمير عز الدين وصيًّا عليه؟ إن الأمير عز الدين الآن مدبر المملكة، ولكن هل الأمر بيده؟ أنا أعرف جنس النساء، إنهن لا يحفظن الوداد، لا أقول هذا عن شجرة الدر وحدها، لكن هكذا طبيعتنا نحن النساء، ويؤيد ذلك ما جاء عنهن في كتب الدين، وعلاوة على ذلك فإن هذه السلطنة لا تثبت إن لم يأتِ كتاب أمير المؤمنين العباسي راضيًا عن هذا الاختيار.» فقال: «وهل تظنين أمير المؤمنين يعترض على هذا التعيين؟» قالت: «لا شك عندي في ذلك.» قال: «أظنك مخطئة يا سلافة؛ لأن شجرة الدر حكيمة عاقلة، وقد اختارها الأمراء والقواد، فلا أظن أمير المؤمنين يخالفهم.» قالت: «أؤكد لك أن أهل بغداد سيغضبون لهذا العمل وليس الخليفة فقط، وسوف ترى، إني أعرف هذه الأمور من قبل. ما لنا ولذلك، إنما أطلب منك الآن أن تصرفني وتطلق سراحي، ولكن دون مشورة أحد.» قال: «وإلى أين تذهبين إذا أطلقت سراحك؟» قالت: «أذهب في هذه الدنيا.» وغُصَّتْ بِرِيقِها وتساقطت دمعتان على خديها فمسحتهما، وأظهرت أنها خجلت من الضعف الذي ظهر عليها وسكتت. فأثر منظرها في قلبه وقال: «بدلًا من ذهابك في هذه الدنيا، امكثي عندنا.» قالت: «أين أمكث، وقد ذهبت القصور والنساء، وحيثما مكثت سأكون أسيرة سجينة، أو رهينة رضا ملكة المسلمين أو غضبها؟! وهذا لا صبر لي عليه مثل صبركم أيها الرجال العظام والقواد البواسل، فإني امرأة ضعيفة.» فأحس بالتهكم الذي يتخلل أقوالها ووجدها مصيبة فيما تراه، وأُعجب بجسارتها حتَّى تقول ذلك له، فقال لها: «يا سلافة، كفى تأنيبًا وتعنيفًا، ما حدث قد حدث، وأنا أعرف قدرك، ولا أحب أن تخرجي على هذه الصورة، فامكثي عندي و… فقطعت كلامه قائلة: «أمكث عندك؟! مسكين! وما الذي يصيبك لو علمت شجرة الدر بوجودي هنا؟» فوجد الحقَّ معها، لكنه كبر عليه أن يعترف بهذه الحقيقة فقال: «ما لها ولمن عندي؟! أنا لا أتعرض لما عندها.» قالت: «وما هو الفرق بين الملوك وسواهم؟ هل يجوز لنا ما يجوز للملوك؟ هل يُخيَّل إليك أنك لو رأيت رجلًا خارجًا من غرفة شجرة الدر صديقتك الحميمة — وأنت الذي وضعتها في هذا المنصب — يحق لك أن تسأل عن سبب وجوده هناك؟ أمَّا هي فلها أن تعدَّ أنفاسك وتحاسبك على كل خطوة.» فتذكَّرَ رؤيته ركن الدين في ذلك الصباح خارجًا من عندها وما خامره بسبب ذلك من الشكوك، فأطرق هنيهة يفكر، لكنه خاف أن يدل ذلك على ضعف فيه، وهو لا يريد أن يُظهر ذلك، خصوصًا بين يدي سلافة بعد ما أسمعته إياه من اللمز والتعريض، فقال: «أنت تعتقدين إذن أن وصول شجرة الدر إلى هذا المنصب أبعد ما بينها وبيني، فحق لها أن تتصرف كما تشاء، فما الذي يمنعني من أن أفعل أنا ما أريده ولا ألتفت إلى ما يرضيها أو يغضبها؟» فقالت: «لا، لا أشير عليك بذلك، إنه يكون سببًا لتنغيص العيش، ولا أحب أن يكون ذلك بسببي.» قال: «هل تظنين وجودك عندي يغضبها؟ ومع ذلك لا أرى حاجة إلى إطْلاعها على وجودك عندي.» فهزت رأسها وقالت: «أنها جرأة عظيمة منك يا سيدي؛ إذ أحببت أن أكون تحت ظلك، ولكني لا أرى أن أقيم معك في منزلك، بل أقيم في مكان آخر، وأنا في كل حال صديقتك، وسأبقى على ودادك ولو صرتُ ملكة المسلمين، على أني لا أضمن ذلك؛ لأن الإنسان عرضة للتغير.» وضحكت. فقال: «ما الذي يجول بخاطرك وتخافين أن يتغير؟» قالت: «يجول بخاطري أن النساء لا يصلحن للحكومة، وأن السلطنة لا تليق إلا بك، فأنت قائد الجند، وأنت حاربت الإفرنج وقهرتهم، وأنت دبرت كل شيء؛ هذا ما أراه الآن ولا أغير فكري فيه.» فكان لهذا الإطراء وقع جميل في قلبه. والإنسان تخدعه ميوله حتَّى تريه الأَسْود أَبْيض والخُرافة حقيقة، ومن فطرته أن يعتقد صدق مادحه وإخلاصه ويميل إليه بقلبه، وقد عرف هذه الطبيعةَ أصحابُ التدبير الذين يحتاجون إلى مصانعة الناس في التجارة أو غيرها فاتخذوا مدح عملائهم وإطراء مناقبهم وسيلة للتقرب إليهم واكتساب ثقتهم، واتخذ هذه الخلة أيضًا طلاب رضا النساء، وجعلوا إطراء جمالهن وسجاياهن وسيلة لاكتساب قلوبهن؛ ولذلك قال أمير الشعراء: والحقيقة أن الثناء لا يغر الغواني فقط، بل هو يغر كل إنسان، ويندر أن ينجو عاقل من الوقوع فيه. فلما سمع عز الدين عول سلافة اعتقد صدقها وأنها مصيبة فيه، وتوهم ألا غرض لها غير تقرير الحقيقة، وتَمكَّن اعتقاده في إخلاصها وصدق مودتها، وكان ذلك باعثًا على التباعد بينه وبين شجرة الدر بدون أن يشعر. وافترقا على أن تقيم سلافة في قصر خاص بها وتكون تحت رعايته. وبعد ذهابها أخذ يفكر فيما قالته فوجدها على صواب؛ إذ كان يجب أن يتولى السلطنة أحد غلمان بني أيوب، على أن يكون هو مدبرًا للمملكة ولا يكون هناك باب للاعتراض، وذلك أفضل من أن تتولى الدولةَ امرأة.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/5/
خلع شجرة الدر
أصبح أهل القاهرة يتهامسون عن رسولٍ قادم من عند أمير المؤمنين العباسي وقد نصب فسطاطه خارج القاهرة، وأخذوا يتكهنون فيما عسى أن يكون كُنْهُ رسالته؛ إذ يندر أن تأتي رسالة من الخليفة العباسي، إلا إذا كان هناك أمر مهم من عزلٍ أو تولية. وكان الرسول حين أشرف على القاهرة قد بعث أحد رجاله ينبئ القواد والأمراء بقدومه ليرسلوا مَن يستقبله كما هي العادة احترامًا للرسالة التي يحملها من خليفة الرسول. ولم يمضِ كثير حتَّى ضجت المدينة وغُصَّت الشوارع بالمارة والوقوف، ولا سيما في الشوارع الممتدة من باب النصر إلى القلعة حيث يمر الرسول. واستعد الأمراء والقواد في القلعة للاجتماع وسماع الرسالة عند تلاوتها، وأكثرهم يظن أنها تتعلق بسلطنة شجرة الدر، والأرجح عندهم أنها تثبيت لها في المنصب كما تعودوا فيمن ولوهم من السلاطين. وتقاطر الأمراء والقواد إلى الإيوان، وفي مقدمتهم عز الدين أيبك وغيره من الأمراء البحرية، إلا ركن الدين؛ لأنه كان غائبًا في دمياط. أما شجرة الدر فقد كانت على سريرها في صدر الإيوان، وعليها ثوبها الملكي الذي لبسته يوم الاحتفال بتوليتها منذ ثلاثة أشهر ومعها شوكار، وكانت هذه حزينة لغياب ركن الدين، فإنها كانت تود حضوره. أما سلافة فكانت أعلم الناس بفحوى تلك الرسالة؛ إذ جاءها رسول خاص من قيِّمَة قصر الخليفة المستعصم بالله كان مرافقًا لرسول الخليفة، وقد أنبأها أن الرسالة تضمنت خلع شجرة الدر عن سلطنة مصر، فكاد قلبها يطير فرحًا، وأحبت إبلاغ ذلك إلى عز الدين، وكان يتردد عليها في أثناء هذه المدة، وقد تحابَّا وبلغ خبرهما إلى شجرة الدر فاستاءت، لكنها كظمت غيظها، فلما علمت سلافة بقدوم رسالة الخليفة، بعثت إلى عز الدين فجاءها، فقالت له: «بلغني أنه جاءكم رسول يحمل كتابًا من أمير المؤمنين، ما هو فحواه يا ترى؟» قال: «لا أعلم.» قالت: «وما ظنك أن يكون فحواه؟» قال: «قلت لك إني لا أعلم، فهل أنت تعلمين؟» فضحكت وقالت: «نعم أعلم، وقد قلت لك عن فحواه منذ ثلاثة أشهر، ألا تذكر؟» فأطرق وهو يفكر، فتذكر حديثها الأول معه يوم جاءته إلى القلعة، وذكرت له يومئذٍ أن الخليفة لا يسلم بسلطنة شجرة الدر، فقال: «أظنك تعنين حديثنا عن شجرة الدر؟» قالت بتهكم: «نعم عن ملكة المسلمين!» قال: «أذكر أنك تنبأت أن الخليفة لن يوافق على توليتها، فهل جاء الرسول بهذه المهمة؟» قالت: «نعم جاء بهذه المهمة، وفحوى رسالته خلْع هذه المرأة عن المُلك.» فأدهشته هذه المفاجأة لأنه لم يكن ينتظرها، واستغرب اطِّلاع سلافة على ذلك الخبر قبل كل إنسان، والرسول لم يدخل القلعة بعد، والكتاب ما زال في حقيبته، فقال لها: «كيف عرفت ذلك؟» فضحكت وقالت: «عرفته وتنبأت به قبل حدوثه، لعلمي أن تلك التولية لا ترضي أمير المؤمنين. والآن كن حازمًا، واعلمْ أن الرأي الذي ذكرته لك منذ ثلاثة أشهر هو الرأي الصواب. هل تذكره؟» فظهرت الدهشة على عز الدين، فشعر بضعفه بين يدي تلك المرأة، وفكَّر فيما تطلبه منه، فتذكر أنها أشارت إليه يومئذٍ أن يولي أحد أبناء الأيوبيين ويكون هو مدير المملكة والوصي على العرش، ثم يغتنم الفرصة ويستقل بالسلطنة بعد أن تستقر قدمه فيها فقال: «نعم أذكره، لكن ما هو السبيل إلى إتمامه؟ ومن هو الغلام الأيوبي الذي يمكننا تنصيبه؟» قالت: «متَى بلغتم إلى هذا الأمر، فأنا أدلك على من يصلح لذلك.» قال: «قولي الآن فربما لا تسنح الفرصة بإعادة النظر.» قالت: «صدقت. أتعرف موسى بن صلاح الدين بن مسعود بن الكامل؟» قال: «نعم أعرفه، لكنه غلام لم يجاوز الثامنة من عمره.» قالت: «لو كان في الخامسة لكان أصلح لما نريده. هذا الغلام هو أَولى الأيوبيين بهذه السلطنة، ومتَى كنتَ أنت الوصي عليه كان كل شيء إليك.» قال: «ولكن من يضمن لي الوصاية عليه؟» قالت: «أنا أضمنها لك، بشرط ألَّا تُظهر ضعفًا، وأن تكون أنت المقترح لسلطنة موسى هذا، وإتمام ذلك عليَّ.» قال: «وهل تحضرين الاحتفال معنا؟» قالت: «أحضر مع النساء من وراء الستر.» فودعها وخرج من عندها وقد ملكت عقله بعد أن ملكت قلبه. ولما وصل إلى القلعة، وجد الأمراء في انتظاره وكانت شجرة الدر أكثرهم قلقًا على غيابه، فقد علمت بغيابه وهي وراء الستر، وكان قلبها دلها على تنافر بينهما. ومكثت تنتظر وصول الرسول وتلاوة الكتاب وهي لا تعلم ما هو مخبوء لها. ••• كانت الجماهير تموج في ساحة القلعة منذ صباح ذلك اليوم، وجاء الخبر بوصول الرسول، فتقدم الحاجب لاستقباله حتَّى دخل الإيوان، ووقف الأمراء على الجانبين، وشجرة الدر فوق سريرها وراء الستر ومعها شوكار. وقد لحظت هذه اضطراب سيدتها وخوفها فأخذت تخفف عنها وتطمئنها وتداعبها وهي تتجلد وتصغي لما يدور من الحديث في الخارج، ثم سمعت عز الدين يقول: «أيها الأمراء، هذا رسول مولانا الخليفة أمير المؤمنين المستعصم بالله حفظه الله، ومعه كتاب من الخليفة سيتلوه علينا، فاسمعوا له وأضمروا الطاعة لما يحويه؛ لأنه من خليفة الرسول ﷺ.» فصاح الجميع: «نحن مطيعون للرسول وخليفته.» من أبي أحمد عبد الله المستعصم بالله بن المستنصر بالله أمير المؤمنين إلى أمراء الجند والوزراء في مصر، السلام عليكم، وبعد، فقد بلغنا أنكم ولَّيتم أمركم شجرة الدر، جارية الملك الصالح، وقلدتموها أمور الدولة، وجعلتموها سلطانة عليكم، فإذا لم يكن عندكم رجال يصلحون للسلطنة فأخبرونا لنرسل إليكم من يصلح لها، أما سمعتم في الحديث عن رسول الله ﷺ: «ما أفلح قوم ولَّوْا أمرهم امرأة».» ولم يفرغ القارئ من تلاوة الكتاب حتَّى ضج الناس وعلت الضوضاء، ولا تسل عن شجرة الدر وما أصابها لما سمعت ذلك، لكنها كانت عاقلة حازمة، فلما سمعت أمر الخليفة وعلمت أنه لا مندوحة لها عن العمل به، تجلدت وأومأت إلى الحاجب أن يزيح الستر المنصوب بينها وبين المجلس، فأزاحه والْتَفَتَ الناس نحو السرير وتهيبوا، ولبثوا ينتظرون ما يبدو من شجرة الدر بعد تلاوة الكتاب، فإذا هي تقول: «يا معشر الأمراء، قد سمعتم ما أمر به أمير المؤمنين، وطاعته فرض على كل مسلم. قد صدق — حفظه الله — فإن النساء لا يصلحن للسلطنة، وأنا لم أقبل هذا المنصب إلا عملًا برأيكم أيها الأمراء والقواد ورغبة في استقرار الأحوال بعد اضطرابها، أما الآن وقد استقرت الأمور وسمعنا رأي مولانا الخليفة، فإني أخلع نفسي وأطلب منكم أن تختاروا من ترونه ليتولى هذا الأمر، وأنا أول من يخضع له.» فاستحسن محبوها هذا التنازل منها؛ لأنه دل على كبر نفسها وسعة عقلها، ولم تستحسنه سلافة؛ لأنها كانت تحب أن تتردد فينزلوها كرهًا، على أنها فرحت بخلعها. ولما فرغت شجرة الدر من قولها، خرج صوت من وراء حجاب يقول: «لا نقبل علينا سلطانًا ليس من سلالة آل أيوب.» ولم يعرف الأمر مِن أين خرج الصوت، لكنه عبر عن شعور كثيرين، فأمَّنوا عليه وصادف هوًى من نفوسهم؛ فقد كان أكثر المصريين عند تولية شجرة الدر غير راضين عن توليتها، ويطلبون تولية رجل من آل أيوب، لكنهم أذعنوا خوفًا من الجند، فلما خُلعت وسمعوا صوتًا يقترح ما يشعرون به، أجابوا بالموافقة ولو لم يعرفوا المقترِح. وعلا الضجيج، وكان الصوت الغالب اختيار سلطان من آل أيوب. فتوجهت الأنظار نحو كبير الأمناء هناك، وهو عز الدين أيبك، كأنهم يستشيرونه، فقال: «إن مولاتنا شجرة الدر قد برهنت بتنازلها عن الملك على أنها مخلصة لمولانا أمير المؤمنين، وأنها حريصة على حقوق المسلمين، ونحن لم نولِّها هذا المنصب إلا لأنها والدة المرحوم خليل من سلالة الأيوبيين، أما الآن فما علينا إلا اختيار أحد أمراء تلك السلالة، وأعلم أن منهم مولانا موسى بن صلاح الدين بن مسعود لكنه صغير السن.» فقاطعه حامل الكتاب قائلًا: «لا يضره صغره، فإنك وصيه وقائد جنده ومدبر أموره، فما رأيكم أيها الأمراء؟» فصاحوا جميعًا: «هذا هو الصواب، لا نرى أصوب منه.» فاستغرب عز الدين ذلك من صاحب الكتاب وهو قادم من بغداد، وكيف عرفه ورشحه لهذا المنصب. فلما سمع مصادقة الجمهور وقف ساكتًا، فقال حامل الكتاب: «بما أنكم قد أقررتم تولية موسى بن صلاح الدين، فلنفعل ذلك الآن، وقد دفع إليَّ مولانا أمير المؤمنين شارات السلطنة لأُلْبِسَه إياها.» قال ذلك وأشار إلى بعض رجاله فدفع إليه حقيبة كالصندوق، فأمره ففتحها وفرش ملاءة وأخذ يستخرج ما في الصندوق ويضعه فوقها، والناس ينظرون، فكان أول شيء استخرجه خلعة سوداء، هي شارة بني العباس، ثم عمامة سوداء، وأخرج طوقًا من ذهب للعنق، وقيدًا من ذهب للرِّجل، فلما صارت كلها على الملاءة قال: «هذه شارات السلطنة، فأْتوني بالسلطان موسى بن صلاح الدين لنلبسه إياها؛ فقد أوصاني أمير المؤمنين ألا أخرج من مصر إلا وعليها سلطان من آل أيوب.» فسارع عز الدين إلى إحضار موسى، ولم تمضِ مدة قصيرة حتَّى جيء به، وهو طفل في الثامنة من عمره، فألبسوه تلك الشارات على قدر الإمكان، ونادوا به سلطانًا على أن يكون عز الدين أيبك وصيًّا عليه ومدبرًا لأمور الدولة بالنيابة عنه. كل ذلك وشجرة الدر على سريرها ترى وتسمع، فلما فرغوا من تنصيب السلطان الجديد وأَرْخوا الستار عليها تنفست الصعداء وأكبت على كتف شوكار وأخذتا في البكاء، وشوكار تتجلد وتقول: «هلمِّي يا سيدتي نذهب إلى غرفتك لئلا نفتضح.» فأطاعتها، ومشتا نحو الغرفة، ولما وصلتا إلى هناك أخذت شوكار تخفف عن سيدتها، وهذه تتأوه وتتنهد، وأخيرًا قالت: «لا أعلم سبب هذا التغيير، ولكنني أحسنت بالتنازل من تلقاء نفسي. ولا تظني أني آسفة على اعتزال هذا المنصب الشاق، وأنتِ أعلم الناس بما كنتُ أشكوه من ثقال أعبائه. ويكفيني أني أول امرأة تولت الملك في الإسلام، وأنتِ الآن تَعْزِيَتِي الوحيدة.» فلم يعجبها قولها لأنها أصبحت تفضِّل أن تكون تعزية ركن الدين، فسكتت، فابتدرتها شجرة الدر قائلة: «إنما أتأسف لأني لم أبقَ على كرسي الملك حتَّى ينال ركن الدين ما هو أهل له من الرتب العالية، لكنه سينالها من سواي، ولو كان هنا اليوم لنال شيئًا، وربما كان هو المختار للوصاية.» فانقبضت نفس شوكار عند سماع ذلك، وتأسفت لفوات الفرصة، لكنها عادت إلى إطراء سيدتها وقالت: «إنما يهمني يا سيدتي أن تكوني سعيدة.» قالت: «إني سعيدة بك يا شوكار كما تعلمين، والحمد لله على أن تخلصت من أعباء الملك. لقد ذقتها فلا أحسد أحدًا عليها ولا أتمنى أن أعود إليها.» قالت شوكار: «صدقتِ يا سيدتي؛ لأني رأيتك منذ توليتِ السلطنة قلقة الخاطر، وكنتِ قبلها منشرحة الصدر، فلنَعُدْ إلى ذلك. متَى يعود ركن الدين يا ترى؟» قالت: «سيعود قريبًا، إنه حالما يسمع بهذا التغيير يأتي، ومتَى أتى نلتِ ما وعدتُك به.» فأطرقت وسكتت. ••• تولَّى الأمرَ موسى بن صلاح الدين، ولقبوه بالملك الأشرف، وناب عنه في تدبير الأمور عز الدين. ولقد أحسَّ هذا أن ما ناله في هذا اليوم كان الفضل فيه لسلافة؛ فلما انصرف القوم كان أول شيء عمله أنه ذهب إلى منزل سلافة، فرآها جالسة جلوس الملك الظافر وهي تضحك لنجاح مهمتها، فلما دخل ألقى التحية فقالت: «كيف رأيت أيها الأمير؟ ألم تكن سلافة عاقلة تفهم سرائر الأمور؟» قال: «صدقتِ والله، إنك جئت بالمعجزات. ألا تخبرينني كيف استطعت الاطِّلاع على هذه الأمور قبل وقوعها؟» قالت: «أما وقد علمتَ صدق مودتي لك، فلا أُخفي عليك أني أنا السبب فيما رأيته من التغيير والتبديل؛ بسبب صداقتي لقيِّمة قصر الخليفة المستعصم بالله، فإني كتبت إليها كتابًا ترتب عليه ما رأيت، ولكنها اشترطت عليَّ أمرًا ضمنتُ لها تنفيذه ولم أحدِّثْك عنه من قبلُ، لعلمي أنك لا ترى مانعًا من إمضائه.» قال: «وما هو؟» قالت: «أتعدني أنكَ فاعلُه؟» ففكَّر فيما عسى أن يكون طلبها، وخاف أن يكون فيه ما يسوءه، لكنه لم يسعه إلا الطاعة فقال: «إني فاعل ما تريدين.» قالت: «هذا كتاب قيِّمَة القصر تقول فيه إن مولانا أمير المؤمنين بلغه أن فتاة رخيمة الصوت تتمتع شجرةُ الدر بغنائها، وقد طلب أن ترسل إليه حالًا؛ لأن أمير المؤمنين مغرم بالغناء، وقد ضمنتُ لرسول الخليفة أن أرسل معه جارية شجرة الدر هدية للخليفة.» قال: «لعلك تعنين المغنية شوكار؟» قالت: «نعم، إياها أعني، فماذا ترى؟» قال: «هذا هيِّن عليَّ، وأظنه يَسُرُّ الجارية لأنها ستنتقل من خدمة ملكة مخلوعة إلى قصر خليفة عظيم.» فأعجبها قوله «ملكة مخلوعة»، وابتسمت وقالت: «ولا يخفى عليك أن إرضاء الخليفة لا بد لك منه الآن، وأنك ستحتاج إلى رضاه عنك إذا أحسنتَ التدبير وصرت سلطانًا مستقلًّا. أظنك فهمتَ مرادي.» فأومأ برأسه أنه فهم كل شيء، وأسرع إلى النهوض وأشار إليها مودِّعًا وهو يقول: «ائذني لي في الانصراف للقيام بهذه المهمة.» قالت: «سِرْ يحرسك الله، ولا تنسَ أن الرسول سيسافر غدًا، ويجب أن تكون معه شوكار.» وسار عز الدين إلى القلعة متنكرًا، وكان في أثناء الطريق يفكر في سلافة واقتدارها، وقد شعر بفضلها عليه، ورأى أنه لم يكن أمينًا في حب شجرة الدر، ولكنه اغتفر لنفسه ذلك بما كان قد داخله من الشك في أمرها مع ركن الدين بالأمس، وكان يجب أن يؤجل مقابلة شجرة الدر إلى الغد ريثما يهدأ روعها، لكن إلحاح سلافة بعثه على سرعة مقابلتها. فلما دخل القلعة صار توًّا إلى منزل شجرة الدر، وكانت جالسة في غرفتها مع شوكار، وقد أخذت هذه تعزف على العود وتغنيها لتخفيف ما بها. ولما أقبل عز الدين على باب الدار سمع صوت العود فأشار إلى الحاجب أن يخبر شجرة الدر بقدومه. ودخل الحاجب وأنبأها بذلك، ولكن عز الدين لم ينتظر جوابها بالإذن، بل دخل توًّا بما له من الصداقة، فلما أقبل على الغرفة رأى شجرة الدر بثياب المنزل، وقد عصبت رأسها بعصابة مزركشة أرادت بها تخفيف صداع ألمَّ برأسها على أثر ما كابدته في ذلك اليوم، فلما رأته داخلًا تثاقلت في النهوض وهي تتألم من الصداع، ولم يكن الصداع وحده سبب تثاقلها، لكنها كانت قد شعرت بتغير قلبه وتحول محبته، ولم يَفُتْها أمر سلافة وتردده إليها قبل خلعها، وتأكدت تغيُّره في ذلك اليوم لأنها كانت تراقب حركاته، وعلمت أنه ذهب إليها عقب انفضاض المجلس في حين كان ينبغي له أن يبادر إلى لقائها هي لكي يؤانسها ويخفف عنها، وهذا ما كانت تتوقعه لو كان باقيًا على عهده معها؛ فلما رأته داخلًا انقبضت نفسها واختلج قلبها في صدرها عتبًا وغيظًا. أما هو فأسرع إليها وهي تتحفز للوقوف وقال: «اجلسي يا سيدتي، لا حاجة إلى وقوفك، إني أراك مريضة، ماذا أصابك؟» فعادت إلى مقعدها وهي تصلح العصابة وتلتفُّ بالمطرف وتكمش كأن البرد يتمشى في عروقها، وظلت ساكتة، فقعد عز الدين على كرسي بين يديها وقال: «أظنكِ مصابة بالصداع الذي كان يتردد عليك أحيانًا.» فقالت: «إنه صداع شديد لم أُصَبْ بمثله من قبل، لا أراك اللهُ مثلَه يا عز الدين، وحماك من غوائله.» فلم يعجبه قولها، وأدرك أنها تعني شيئًا تضمره، فقال: «لا ينجو أحد من الصداع يا شجرة الدر، وليس هو مما يؤبه له، ولا يلبث أن يزول.» قالت: «إنه يختلف عما تعوَّدْتُه قبلًا، وتغيير العادة صعب، أليس كذلك؟» وظهر العتب في عينيها. فأدرك مرادها لكنه تجاهل وقال: «إن الإنسان لا يتعود الأوجاع، فإذا عاودته رآها في كل مرة جديدة كأنه لم يذقها من قبل. ولو علمتُ أنك مصابة بالصداع لأسرعت إليك قبل هذه الساعة.» قالت: «لا تشغل بالك بهذه الملكة المخلوعة، وأنت الآن في شاغل بأمور الدولة وغيرها.» قال: «وهل تظنين أمور الدولة تشغلني عن شجرة الدر، وقد كان يجب أن أبادر إلى تهنئتكِ بالنجاة من أثقال هذه المهام. وأعجبني منك ما أظهرته في هذا الصباح من رباطة الجأش وسعة الصدر، وقد أحسنتِ في كل ما صدر منكِ فلم تتركي لأمر الخليفة بالخلع قوة أو أثرًا.» وتنحنح وبلع ريقه وقال: «والحقُّ يقال؛ إن ذلك الأمر إذا كان له أثر فإنما يكون أثره موجهًا إلينا، أو إليَّ خاصة؛ لأننا ألجأناك إلى قبول السلطنة، ولم يدُرْ في خَلَدنا أن يكون ذلك مخالفًا لإرادة أمير المؤمنين.» فلم يعجبها منه ذلك المنُّ عليها بأنه هو الذي جعلها ملكة فقالت: «أنتم أخطأتم بالاقتراح وأنا أخطأت بالقبول. على أن نزولي عن عرش المُلك لم يترك أثرًا كبيرًا في نفسي بقدرِ ما ترك …» وسكتت وهي تنظر إليه نظر العتاب. فعلم أنها تشير إلى تغيره، فبادرها وقال بلهفة: «أخاف أن يكون قد داخَلَكِ شكٌّ في صداقتي و…» فقطعت كلامه قائلة: «لا، لا. لم يداخلني شيء، ولكنني تعلمت أن الإنسان لا ينبغي أن تغرَّه ظواهر الأمور دائمًا، والذي أراه الآن أن نترك العتاب ونروِّح خواطرنا بلحن نسمعه من شوكار.» والتفتت إلى شوكار، وكانت قد وضعت العود بجانبها، فتناولته وأصغت لما تأمرها به سيدتها فإذا هي تقول لها: «أنت يا شوكار تعزيتي الوحيدة الآن، ولا أخاف تغيُّرك. غَنِّينِي لحنًا محزنًا.» قالت ذلك وتلألأ الدمع في عينيها. فتأثر عز الدين من منظرها، خصوصًا بعد ما رآه من تعلقها بشوكار وهو قادم ليأخذها منها؛ فظهرت البغتة في وجهه، لكنه تشاغل بسماع الغناء، وهو يُظهر أنه يسمع، والحقيقة أنه وقع في حيرة، ولم يعد يعلم ماذا يفعل، والوقت لا يساعده على تأجيل مهمته، وقضى برهة وهو يفكر في حيلة ينتحلها للدخول في الموضوع وطلبِ شوكار منها. فلما فرغت شوكار من الغناء الْتَفَتَ عز الدين إلى شجرة الدر وهو يبتسم وقال: «يظهر أنك انقطعت عن كل شيء إلى شوكار، أليس في قصرك من يحسن الغناء سواها؟» قالت: «لا أعني الغناء فقط، وإنما أعني أنها تؤانسني، وأعتقد أنها تحبني، ولا أخاف أن تتحول عن محبتي.» فأدرك عز الدين ما تعنيه من تغيره عليها، لكنه صمم أن يصل إلى مراده فقال: «ولكن ليس من الحكمة أن تعلقي آمالك بها إلى هذا الحد، أنا آتيكِ بمغنية أحسن منها متَى شئت.» فقالت: «لا، لا أريد سواها.» فقال: «الأفضل أن تطلبي سواها.» فقالت وكأنها أحست بما يضمره: «هل تنوي أن تسلبني هذه التعزية أيضًا؟» قال: «لم أكن أحسب لها هذا المركز لديكِ، ولولا ذلك لما وافقت على أخذها.» فأجفلت وصاحت: «أخذها؟ من يأخذها مني؟ لا، لا، إنها جاريتي وأُعزُّها معزة البنين. لا أسمح بها لأحد أبدًا.» فتشاغل بحك عثنونه بسبابته وهو مطرق ثم قال: «صدقت، يحق لك أن تحرصي عليها وألا تسمحي بها لأحد، ولكن الإنسان لا يَقْدر أن يفعل ما يشاء دائمًا. ولا سيما إذا كان الطالب لا يمكن رد طلبه.» فنهضت ونظرت إليه بدهشة وقالت: «من طلبها؟ قل يا عز الدين.» قال: «لا تغضبي يا سيدتي، إن طالبها أعظم رجل في المسلمين.» فقعدت وقالت: «أظنك تعني المستعصم بالله أمير المؤمنين؟ أما كفاه خلعي عن المُلك حتَّى يطلب جاريتي؟» قال: «يسوءني أني لا أرى مندوحة عن إجابة طلبه وهو أمير المؤمنين ونحن تحت رعايته، وهو خليفة الرسول ﷺ.» قالت: «وكيف طلبها؟ ومن جاء ليأخذها؟» قال: «رسول الخليفة حامل كتابه، وقد رأيته بالأمس.» فتناثر الدمع من عينيها رغم إرادتها، والتفتَتْ إلى شوكار فرأتها مطرقة ساكتة ودموعها تتدحرج على خديها، فأثر منظرها في نفسها وهاج غضبها وقالت: «هل وافقتَه على ذلك يا عز الدين؟» قال: «وهل في الإمكان رد طلبه، وقد رأيت أمره نافذًا فيما هو أعظم من ذلك؟» فوقفت وأخذت تمسح عينيها بمنديلها وهي تكاد تتميز من الغيظ، ثم رفعت بصرها إليه وقالت: «ولكن هذه الفتاة مخطوبة.» قال: «لا أعلم، وإنما عليَّ أن أنفذ طلب أمير المؤمنين، فإذا كانت لأحد حاجة فليطالب بها أمير المؤمنين.» قال ذلك ونهض وقد ظهر الإصرار والجد في حركاته، ثم قال: «فلتستعدَّ شوكار للسفر غدًا صباحًا، واعلمي أنها ستسافر معززة مكرمة لأنها طلبة أمير المؤمنين ولا خوف عليها.» وخرج عز الدين، ولم يكد يبلغ الممر حتَّى سمع بكاء شوكار وشهيقها لكنه تغافل وأوصى الحرس هناك أن يراقبوها لئلا تفر خلسة في أثناء الليل. وقد أحسن عز الدين بهذه الوصية لأن شجرة الدر كانت قد عزمت على أن تمهد لشوكار سبيل الفرار، فلما رأت استحالة ذلك عظم الأمر عليها، وتمكنت البغضاء من نفسها، وأصبح همها التخفيف عن شوكار والتهوين عليها، وتجلدت أمامها وبيَّنَت لها أن ذلك الأمر لا مناص من الطاعة فيه، ولكنها ستبذل جهدها في إنقاذها، وأكدت لها أن ذهابها لا خوف منه. أما شوكار فكان أكبر همها أن ترى ركن الدين وما يكون إحساسه بعد أن يسمع ذلك الطلب، وما الذي يبدو من غيرته أو فتوره. ولكن لا سبيل إليه وهو بعيد، والوقت لا يساعد على استقدامه في ذلك الليل، فاستسلمت وتوكلت، ولم يكن ذلك في عُرف تلك الأيام شيئًا عظيمًا؛ لِمَا تمكن في نفوس الناس من امتياز الخلفاء والأمراء، وأن أولئك الجواري مثل سائر المتاع لا إرادة لهن ولا رأي، وعليهن الاستسلام لما يطرأ عليهن في الانتقال من سيد إلى سيد. ولولا خوف شوكار من أن تخسر ركن الدين لكان انتقالها إلى بيت الخليفة مما يحسدها عليه كثيرات، ومع ذلك لم يكن لها أن تختار. وفي صباح اليوم التالي حملها بعض الخصيان إلى معسكر رسول الخليفة بعد أن ودَّعَت مولاتها وداعًا مؤثرًا، لكن شجرة الدر أكدت لها أنها لن تنساها، ولا بد من أن تقترن بركن الدين، فسافرت إلى بغداد وقلبها في مصر. أما شجرة الدر فقد شق عليها فراق شوكار كثيرًا، لكن غضبها من عز الدين إنما كان سببه الغيرة من سلافة، وحدثتها نفسها أن تلك الجارية هي سبب مصائبها. وقد نقمت على عز الدين خيانته المضاعفة؛ فقد خانها في قلبها وأحب سواها، وخانها في منصبها فلم يُبدِ اعتراضًا على خلعها وهو قائد الجند وصاحب القوة الفعالة، فاضطرت إلى الإذعان لحكم الزمان؛ إذ لم تَرَ وسيلة إلى غير ذلك. على أنها تذكرت ركن الدين وهو آتٍ عما قليل إلى القاهرة، فكيف تقابله؟ وماذا تقول له؟ وكان هو حين بلغه ما حدث من الانقلاب في القاهرة قد سارع إليها، فوصل عقب سفر شوكار، وجاء إلى شجرة الدر قبل مقابلته عز الدين، فأخبرته بما جرى ولا سيما في شأن شوكار، وأكدت له أنها بذلت جهدها في إقناع عز الدين ليبقيها فأبى، وبالغت في وصف قحته وفظاظته لكي توفر صدره عليه. وكان ركن الدين ما زال بثياب السفر، فعظم عليه الأمر، وقام في خاطره لأول وهلة أن عز الدين فعل ذلك نكاية فيه ليحرمه من شوكار، لكنه كان رابط الجأش واسع الصدر حريصًا على سرِّه، فلم يُجِب بكلمة واحدة مع أن الغضب بدا في عينيه، وكانت شجرة الدر تلاحظ ذلك فيه فتعيد الشكوى، وتتوقع أن يقول قولًا يشفي غليلها، ولا يشفيه إلا أن يتوعد عز الدين بالقتل؛ لأن حبها له قد تحول إلى كره بعد ظهور خيانته. وبعد حديث طويل وهو ساكت ملَّت سكوته، فقالت: «ما بالك يا ركن الدين؟ لعلك سررت بذهاب شوكار من يدك كما سررت بذهاب الدولة مني؟ وكلاهما من فعل ذلك الخليفة الخليع؟!» فعظم عليه ذلك التعبير الجريء عن الخليفة فقال لها: «وأي خليفة تعنين؟» قالت: «أعني المستعصم، صاحب بغداد، الذي استعظم أن يتولى أمر المسلمين امرأة ولم يستعظم أن يتولاه رجل ساقط الهمة ضعيف الرأي مشتغل باللهو والقيان وسماع الغناء.» قالت ذلك وقد بان الغضب في عينيها، وتاقت نفسها إلى معرفة وقْع هذا القول في نفس ركن الدين، فوجدته لم يزدَدْ إلا إطراقًا وسكوتًا. ولو أوتيت قراءة الأفكار لعلمت أن سكوت ذلك الأمير أدلُّ على غضبه من الكلام وأنفذُ لغرضه من السهام. وقد تنازعته عوامل كثيرة كل واحد منها يقيمه ويقعده، وقامت في نفسه أمور لو اطَّلعَت عليها شجرة الدر لشُفي غليلها وخفَّت نقمتها؛ لأنها كانت تستحثه على المسير ذراعًا وهو يريد أن يمشي ميلًا أو فرسخًا. فلما رأته ما زال ساكتًا أشكل عليها أمره فقالت: «تكلم يا ركن الدين، تكلم، لقد ضاق صدري من سكوتك، لعلك لم تصدِّق قولي؟ تمهل، إني سآتيك برجل يعرف هذا الخليفة حق المعرفة، وقد جاء من بغداد أمس، اسأله ينبئك عن أفعال ذلك الخليع. اجلس وأنا أبعث إليه الساعة.» فقعد وهو يلاعب شاربيه ولحيته بيده ويوشك أن يقتلع شعرهما بأنامله من فرط التأثر وهو لا يشعر. وبعد قليل دخل البغدادي، وحالمَا رآه ركن الدين عرفه وناداه قائلًا: «سحبان.» فصاحبت شجرة الدر: «قد أنطقك الله بعد طول السكوت، الحمد لله، الفضل في ذلك لسحبان — حفظه الله — قل يا سحبان، ما الذي تعرفه عن المستعصم صاحب بغداد؟ ولا تَخَفْ من التصريح، فإن ركن الدين صديقنا، قل ما قلته لي البارحة.» ••• وكان سحبان قد عاد عن المهمة التي بعثته فيها سلافة وقضاها كما تريد، فلما جاءها وقص عليها ما فعله لم يجدْ منها إقبالًا، ثم لحظ تردد عز الدين عليها ورأى الجفاء منه أيضًا، فتحول حبه لسلافة إلى بغض، ونقم عليها وعلى عز الدين. وهو ناقم على تلك الدولة برمتها لأنه شيعي من أهل بغداد، وقد برحها فرارًا من ظلم العباسيين واضطهادهم الشيعةَ بحيث لم يَعُد في إمكانه الصبر على الضيم هناك، فجاء القاهرة منذ بضعة أعوام، واجتمع بمن فيها من الشيعة، فتشاكوا فيما بينهم وهم صابرون مرتقبون سنوح الفرصة لعلهم يستطيعون أن يستعيدوا الأمر للعلويين كما حدث في أيام الفاطميين. وكان سحبان ذا ثروة وتجارة واسعة، وقد أحب سلافة فكلفته بتلك المهمة، فلما عاد شق عليه تغيُّرُها، ولم يجدْ خيرًا من أن يثير غضب شجرة الدر عليها وعلى العباسيين وعلى سلطانهم بمصر جملة، وهو يعلم أنها قريبة الإصغاء إليه لما هي فيه بسبب زوال منصبها وخيانة عز الدين لها. فقابلها بصفة تاجر، وكانت تعرفه كما تعرفه سلافة، وأظهر أنه قادم من بغداد بسلع جديدة تليق بها، وتَطرَّق في الحديث حتَّى هاجها على الخليفة، وأكد لها خيانة عز الدين، فكتمت ذلك حتَّى جاء ركن الدين فقصت عليه ما عرفته، ولأجل التثبت استقدمت سحبان، فلما رآه ركن الدين بَشَّ له ودعاه إلى الجلوس، فقالت شجرة الدر وهي تضحك: «كيف فارقت أمير المؤمنين يا سحبان؟» فقال: «فارقت رجلًا لا هم له إلا سماع الغناء والاشتغال بالطعام والشراب والنساء.» قالت: «وكيف ترى دولته؟» قال: «إني أخاف على دولته من أهلها، إن لم أَخَفْ عليها من المغول؛ فإنهم أوشكوا أن يحملوا عليها والناس خائفون. أما الخليفة فلا يهمه غير الطرب واللهو، وإذا ظل على هذه الحال فالدولة ذاهبة لا محالة.» فضحك ركن الدين وقال: «هل تذهب دولة العباسيين؟ قد سمعت أصحاب الأخبار يؤكدون أنها تبقى أبد الدهر ولا يمكن أن تخلو الأرض منها.» قال: «لكن الواقع أنها ذاهبة لا محالة.» قال: «وهل تخلو الدنيا من خلافة؟» قال: «كلا يا مولاي.» قال: «فمن أين نأتي بالخليفة؟ ومن يثبت سلاطيننا على مصر؟» قال: «ألا يصح التثبيت إلا إذا كان من العراق؟ ألا يصح أن يكون من مصر؟ ألم تكن مصر هذه خلافة زاهية منذ أقل من مائة سنة؟ ألم تكن أحسن حالًا وأوسع جاهًا؟ و…» فلم يصبر عليه ركن الدين حتَّى يتم كلامه فقال له: «أظنك تعني دولة الفاطميين، ولكن أولئك من الشيعة.» فقال: «وما ضر أنهم شيعة؟ أليسوا مسلمين من قريش؟ وإنما الفرق أن الخلافة يكون مركزها في هذه البلاد؛ فيزداد عمرانها، وتتسع تجارتها، وتعمر أساطيلها، وتمتد فتوحها، وتصير العراق إمارة من إماراتها بدلًا من أن تكون صاحبة الأمر عليها.» وكان سحبان يتكلم وركن الدين شاخص إليه مستغرق في تتبع كلامه ليستطلع حقيقة ما يكنُّه ضميره، وهو يعلم غرض الشيعة، فصدق من كلامه ما يوافق غرضه، ولم يبدِ ملاحظة ولا صرَّح بما جال في خاطره وما زاد على قوله: «لقد أفدتنا يا سحبان جزاك الله خيرًا.» ونهض يريد الانصراف، فنهض سحبان واستأذن وانصرف، وقد أدهشه سكوت ركن الدين وتكتمه، وقال في نفسه: «إنه رجل لا يؤمَن جانبه.» أما شجرة الدر فلم تكن أقل دهشة من سحبان، فلمَّا خرج قالت: «يا ركن الدين قد آن لك أن تتكلم، ولا أزيدك شيئًا على ما سمعته عن تضعضع العباسيين في بغداد ولا عن حال السلطنة المصرية، فإن سلطانها غلام سنه ثماني سنوات، والحكومة كلها في يد الوصي عليه؛ عز الدين.» قالت ذلك وهي تتميز من الغيظ. قال: «أراكِ غاضبة على عز الدين، لعلك غضبت لأنه سمح بإرسال شوكار إلى الخليفة لتكون عنده في جملة المغنيات.» قالت: «نعم، هذا هو سبب غضبي الرئيسي، ولي على عز الدين أمور أخرى تخصني.» فقال: «وهل ذهبت شوكار راضية؟» قالت: «كلا، إنها ودعتني باكية وهي تذكر ركن الدين، وأوصتني أن أقول لك إنها باقية على حبك لا ترضى عنك بديلًا ولو كان الخليفة نفسه، وأنا أكدت لها أنك لن تتخلى عنها. إن البطل ركن الدين سيكون ركنًا قويًّا لنا، أعني أنا وهي؛ لأني أصبحت الآن وحيدة، وهذا عز الدين قد شغل بسواي وبمنصبه ونسي الصداقة. ولكن لا بأس ليكن كما يشاء والله مع الصابرين.» فقال ركن الدين: «إذن شوكار ما زالت على حبها لي؟» قالت: «نعم، ولا شك عندي أنك ستتفانى في سبيل إنقاذها والانتقام لها. لكن قل لي ما رأيك فيما ذكره سحبان من حيث الخلافة الفاطمية؟» قال: «لم يعجبني قوله. إن الرجل يطلب خلافة شيعية، وهذا لا يصح ولا يليق بنا. ولكنني لم أُجِبْه سلبًا ولا إيجابًا. ولا أقول شيئًا الآن على كل حال، بل أترك ذلك إلى حينه والأمور مرهونة بأوقاتها. أستأذنك يا سيدتي.» قال ذلك ونهض خارجًا فشيَّعَته شجرة الدر قائلة: «في حراسة الله.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/6/
ركن الدين
خرج ركن الدين من بين يدَي شجرة الدر مخلِّفًا أثرًا عميقًا في قلبها. رأت منه في ذلك الموقف ما لم تره من قبل، وعظم أمره في نظرها، وقد زادها تهيبًا منه تكتُّمُه ما يجول بخاطره، فما هدد ولا توعد ولا نقم، ولكنها كانت تقرأ ذلك كله على أساريره وفي عينيه. أما هو فسار توًّا إلى غرفته في القلعة، ولم ينبه أحدًا إلى مجيئه، وأجَّل مقابلة الأمير عز الدين إلى الغد. دخل غرفته وأقفل بابها وأخذ في نزع ثيابه وهو غارق في التفكير فيما سمعه في ذلك اليوم من الأمور الغريبة، وهو لا يزال في مقتبل العمر قليل الاختبار. وتلك أول مرة انتبه فيها إلى مطامع الرجال الكبار على أثرِ ما سمعه عن قلب السلطنة بمصر، وما هي عليه الخلافة في بغداد، ولم يَفُتْه غرض سحبان من تقبيح الخلافة العباسية وتحسين الخلافة الفاطمية، ولا غاب عنه قصد شجرة الدر من المبالغة في سيئات المستعصم والتحريض عليه، وأدرك ما في نفسها من النقمة على عز الدين، وأنها إذا أرادت فوز ركن الدين فإنما تريده انتقامًا من الذين أساءوا إليها. مر كل ذلك في خاطره وهو يبدل ثيابه، ثم قعد على فراشه وهو لا يزال في التفكير، فرسخ في ذهنه أن شجرة الدر وسحبان إنما حرضاه على طلب السيادة لا حبًّا فيه، بل انتقامًا لنفسيهما. ولم يكره ذلك ولا رآه غريبًا ولا عده خداعًا؛ لأنه كان عاقلًا حكيمًا ينظر إلى الأمور من حيث حقيقتها، فلم يكن يرجو سحبانُ مساعدةً ليس له من ورائها مصلحة، لعلمه أن الناس لا يأتون عملًا بلا قصد، ولا يُقْدمون على أمر إن لم يتوسموا من ورائه نفعًا لهم. ومن زعم أنه يفعل الخير مجانًا لكي ينفع الآخرين فقد أخطأ وكذب. فإذا علمنا هذه الحقيقة سَهُل علينا أن نعامل أصدقاءنا معاملة حقة، فلا تتوقع منهم فوق المستطاع، ولا نستقبح منهم أن ينظروا إلى مصلحتهم فيما يخدمون به مصلحتنا. كان ركن الدين على بينة من هذه الحقائق، وأدرك غرض صاحبيه من ذلك التحريض، فقَبِله شاكرًا، وعزم على الانتفاع به، لكنه فضل كتمان مقاصده إلى حين الحاجة. فلما قعد على فراشة وهو وحيد في تلك الغرفة، طفق يحدث نفسه قائلًا: «أخذوا شوكار مني. أخذها الخليفة إليه في بغداد ليسمع غناءها، وهي نعمة قَلَّ من ينالها من الجواري الحسان. أرادت شجرة الدر أن تهيج غضبي على المستعصم لأنه فعل ذلك، وهل يلام لأنه طلبها وقد رفع قدرها وزادها نعمًا؟ لا يحق لي أن أنقم عليه أو أَعُدَّ عمله إساءة لي؛ لأنه لم يتعمد أخذ شوكار وهو يعلم أنها خطيبتي أو امرأتي. وقد يقال إن هذا الخليفة ضعيف أو محب للَّهو، يجب قتله أو خلعه لأجل ذلك، وهذا معقول، ولكن من يضمن أن خلقه لا يكون أكثر ضعفًا منه؟ ومن يخاطر بنفسه في خلعه أو قتله وهو لا يرجو أن ينال حظًا لنفسه من السيادة؟ وقد أضحكني ما رأى ذلك الشيعي من إحياء الدولة الفاطمية أو غيرها من العلويين بمصر. وما الفائدة لنا من إحيائها؟ متَى صارت مصر خلافة لا يبقى مجال لطلاب السلطنة؛ أي لا يبقى حاجة إلى السلاطين. أما إذا بقيت الخلافة العباسية في بغداد تثبت السلاطين في مصر، فإن سلطان مصر يشبه أن يكون مستقلًّا، غير أن ذلك لا يمنع مجاراة الرجل ومصانعته لعل في سعيه نفعًا يأتي عن غير قصد منه. وإذا لم ننجح فلا خسارة من مسايرته.» ولما بلغ إلى ذكر سلطنة مصر نهض من الفراش وقد هاجت مطامعه، وتمشَّى في الغرفة لحظة وهو مطرق، ثم قال: «سلطنة مصر؟ أنها أفضل من خلافة بغداد. هل أطمع فيها أنا؟ نعم، ولكن لو قلت ذلك للناس لاستجهلوني. وقد أكون مبالغًا في مطامعي، ولكن يجب أن أسعى منذ الآن. احذر يا ركن الدين أن تجعل أحدًا يشعر بذلك.» وسمع وقع حوافر جوادٍ مارٍّ أمام غرفته، فانتبه لنفسه وتذكر سفر شوكار فقال: «هل أتغافل عن شوكار لا أطلبها؟ إني أحبها، وإن كان ذلك الحب جاءني في أول الأمر تكلفًا، لكنه تمكن من قلبي، ويكفي أنها تحبني وتتوقع مني إنقاذها. هذا إذا ظلت هي على ودادي بعد دخولها قصر الخليفة.» ••• كانت الشمس قد مالت إلى الغروب، فاعتزم أن يقضى بقية يومه مستريحًا، على أن يبكر في الصباح ليقابل عز الدين ثم السلطان الجديد لتهنئته بما ناله، وانتظار ما يفعله. فتناول العشاء واستراح قليلًا فلم يشعر بحاجة إلى الرقاد لعظم ما جاش في صدره واستولى عليه الأرق. فلما أسدل الليل نقابه، تزمَّل بعباءته وخرج يتمشى في فناء القلعة نحو الجبل، والجو صاحٍ والقمر قد تكبد السماء، وظهرت الطبيعة بأبهى ما يكون من الجلال والهيبة، ويحلو للمفكر في مثل تلك الليلة أن يقف على جبل أو في وادٍ أو حديقة يناجى نفسه بهدوء وسكينة، كأنه يعهد في سرِّه إلى القمر أو يخاطب الطبيعة ويباحثها. وقد علمت ما كان فيه ركن الدين من الهواجس على أثر ما تزاحم في أفكاره من الأماني والمطامع، فسار وهو ملتفٌّ بالعباءة فلم يعترضه الحرس، وتسلق الجبل في ضوء القمر حتَّى بلغ إلى سطحه، فوقف والتفَتَ إلى القاهرة وما بها من الحدائق، ووراءها النيل، ينعكس ضوء القمر على مائه، ووراء ذلك الأهرام وقممها تناطح السحاب، وحولها بساتين النخيل والجميز لا يظهر منها إلا أشباحها كالظلال، فقعد على صخرة وراءها بناء خرب أصله مسجد أو قلعة، ولبث هادئًا ساكنًا كأنه يتأمل مناظر الطبيعة، وأفكاره تنتقل به من موضوع إلى موضوع، ونصب عينيه شوكار وأين هي؟ ويعترض تفكيره فيها مطامعه في السلطنة، وهل ينالها؟ وضوء القمر يكبر أشباح الفكر فتتعاظم الأوهام حتَّى تظهر كالحقيقة. وبينما هو ساكت مطرق إذ سمع حفيفًا يشبه انسياب الثعبان على التراب فلم يُخِفْه ذلك، لكنه تنبه إلى انفراده واستغراقه في هواجسه، فهمَّ بالنهوض وإذا هو يسمع قهقهة على مقربة منه، فالتفت فلم يَرَ أحدًا، فأوشك أن يتوهم ذلك الصوت من أصوات الجان — وكانت هذه الخرافات رائجة في تلك الأيام — لكنه ما لبث أن سمع وقع أقدام وراء تلك الخربة من الجهة الأخرى، فسكت لا خوفًا ولا تلصصًا، لكنه لم يكن يريد أن يَشعر أحد بخروجه في تلك الليلة من القلعة. وأصاخ بسمعه فاستنتج من مجمل ما سمعه أن هناك أناسًا يتسامرون، فساقه حب الاستطلاع إلى التسمع، وإن يكن ذلك مخالفًا لما فُطِر عليه من البسالة والأنفة، لكن حب الاطلاع على المخبآت من جملة طبائع الإنسان، وهو لم يسعَ إلى التجسس وإنما سيق إليه مصادفة. وقد زاده رغبة في التسمع أنه سمع صوتًا يشبه صوت سحبان، وهو حديث العهد بسماعه في ذلك اليوم. سمع ذلك الرجل يقول لمخاطبه: «إن سلافة هذه قد أدهشتني بدهائها ومكرها.» فأجابه الآخر: «أظنك تعني قيِّمة قصر الملك الصالح، هل هي من دُهاة النساء»؟ فقال سحبان: «مهما قلتَ فيها لا يمكن أن تحيط بوصفها، أما أنا فقد خبرتها بنفسي. أرأيت هذا الانقلاب الذي جرى أمس والتبديل الذي حصل في السلاطين؟ أرأيت خلع شجرة الدر وتنصيب الملك الأشرف؟ إنها هي وحدها السبب في ذلك كله.» فقال الآخر: «هذه مبالغة منك يا سيدي، كيف يتأتى لها ذلك وهي هنا والخليفة في بغداد؟ لعلك توهمت هذا فيها لمَّا رأيت عز الدين أيبك يتردد عليها حتَّى أفسدت ما بينه وبين شجرة الدر، ولكن هذا …» فقطع سحبان كلامه قائلًا: «أنا أقول لك عن ثقة، إن سلافة وهي في القاهرة قلبت الحكومة وبدلت السلاطين.» فقال: «وكيف ذلك؟» قال: «يظهر أن نفوذها هناك عظيم جدًّا وأن كلامها مسموع في قصور الخلافة.» فقاطعه الآخر قائلًا: «صدقتَ لأنها هي في الأصل من جواري ذلك الخليفة وقد أهديت للملك الصالح، ولكن قد يكون في قولك مبالغة.» قال سحبان: «إني أقول لك شيئًا خبرته بنفسي.» وخَفَتَ صوته وقال: «أنا أخذت كتابها بيدي إلى بغداد، فلم يكن إلا مسافة الطريق حتَّى جاء الجواب بخلع شجرة الدر.» فضحك الرجل وقال: «ما الذي أدخلك في هذه المهمة؟ وما هو شأنك مع هؤلاء الأتراك يا سحبان؟» قال: «لا يهمك أن تعرف تفصيل ذلك، ولكني وجدت هذه المهمة قد تساعدنا في مشروعنا، وكنت أحسب خلع شجرة الدر على هذه الصورة يفضي إلى ثورة تهيئ لنا الأسباب المعلومة.» ••• فلما سمع ركن الدين هذا الحديث رأى فيه فائدة له، فاغتفر لنفسه تنصته، ومكث لسماع بقيته، فسمع رجلًا آخر يقول: «لقد أسأتَ يا سيدي بأداء هذه المهمة، فأنك أخرجت الدولة من يد امرأة ضعيفة إلى يد رجل شديد، فلا يلبث أن يخلع ذلك السلطانَ الغلامَ ويقبض هو على الدولة بيدٍ من حديد، والحقيقة — على ما أرى — أنك قمت بهذه الخدمة طمعًا في رضا سلافة. إنها في الحقيقة بارعة الجمال.» قال سحبان: «صدقت، إنها لجميلة، وربما خطر لي أن أنال رضاها، لكن المهمة في أصلها خدمة للغرض المعلوم.» فقال الآخر: «وهل نلتَ ما كنت تؤمله من رضاها؟» قال: «لا أدري، إن هذه المرأة سر من الأسرار، أو هي لغز معمًّى لا يمكن حله، يلوح لي أنها بلا قلب، أو هي ذات خلق خاص، أعترف لكم أني كدت أنال رضاها، ورأيت من تقربها وتلطفها ما أكَّد لي حبها، ثم ما لبثت أن رأيتها وقد تغيرت بعد رجوعي من بغداد؛ إذ اختصت الأمير عز الدين بحبها، وقد ملكت قلبه ولبه حتَّى شعرتْ شجرة الدر بذلك وغضبت عليه، لكن هذه أصبحت بعد خروج المُلك من يدها لا تستطيع غير العتاب والشكوى.» فتصدى رجل للسؤال قائلًا: «كل ما تقوله صحيح، وأزيد عليه أن السبب في اهتمام المرأة بخلع شجرة الدر وتنصيب غيرها ليس إلا غيرة منها؛ لأن شجرة الدر صارت ملكة، وهي تحسب نفسها أحق منها بذلك؛ لأنها كردية من قبيلة الملك الصالح، ففعلت ما فعلته انتقامًا، وليس فيه شيء من الدهاء لأنها نقلت الدولة إلى يد أخرى. وإذا صدقنا أنها فعلت ذلك بدهائها، فما الذي عاد عليها من هذا العمل؟ ثم إني لم أفهم كيف توصل الخليفة في بغداد إلى خبر شوكار المغنية حتَّى يطلبها؟» فقال سحبان: «هي التي أوعزت إليه بأن يطلبها نكاية في شجرة الدر لأنها مغنيتها.» فلما سمع ركن لدين اسم شوكار خفق قلبه وزاد ميلًا إلى السماع، وحمد الله على تلك المصادفة التي أسمعته هذا الحديث وهو في أشد الحاجة إلى معرفته لأنه كان غائبًا عن مصر في أثناء تلك الحوادث، فأنصت فسمع رجلًا يقول: «وهذا لا شيء فيه من الدهاء؛ لأن شجرة الدر يمكنها الاستعاضة عن شوكار بعشرات مثلها، ولكن السر الحقيقي في نجاح هذه المرأة أن لها صداقة متينة مع قيِّمة قصر المستعصم، ولها عليها حقوق مختلفة، فكتبت إليها بما رأته، وتلك صاحبة النفوذ هناك فأنفذته. دعنا منها إنها امرأة متلونة منافقة والسلام.» فضحك سحبان وقال: «صدقت، إنها منافقة لأنها خدعتني، وأظنها ستخدع سواي، ولكن لا شك أنها صاحبة نفوذ عظيم في قصر الخليفة. ما لنا ولها، هيا بنا.» فقال آخر: «لا تطاوعني قدماي على الابتعاد عن ضوء القمر الجميل، ولكن قد آن وقت الرقاد فلا حول ولا …» وسمع ركن الدين وقع خطواتهم وهم خارجون من تلك الخربة، فانزوى ريثما ابتعدوا، وعاد التفكير فيما سمعه عن سلافة عن سر الانقلاب الذي جرى، فانجلت له أمور كثيرة يؤمل الانتفاع بها. عاد إلى غرفته يطلب الرقاد وقد أنهكه التفكير في هذه الأمور، فتوسد الفراش على أن ينهض في الصباح لمقابلة الملك الأشرف وعز الدين مدبر المملكة. فلما أصبح، لبس ثيابه وذهب إلى الإيوان فلقي عز الدين، فأخبره أنه وصل أمس لكن التعب منعه من القيام بهذا الواجب، فقدمه عز الدين إلى الملك الأشرف، فقص عليهما نتيجة مهمته في دمياط وقد انتهت بإخراج الإفرنج من هناك بشروط موافقة. فأثنى عز الدين على همته وبسالته ووعده بالمكافأة، فشكر له تلطفه، ولم يَرَ فيه ما كان يعلمه من غيرته منه، أو لعله أحس بذلك بسبب ما خامره من المطامع وما سمعه من الأقوال، وعلى كل حال فإنه بالغ في الكتمان ولبث يتوقع سنوح الفرص. ••• ثم عاد إلى التفكير في شوكار وهو لا يدري هل يبحث عنها أو ينتظر ريثما يتأكد بقاءها على حبه؛ لأنه كان كثير الشك في ذلك لما ستلاقيه في قصر الخليفة من النعم. ولم يكن من ذوي العواطف القوية الذين يضحون بمصالحهم المادية في سبيل الحب، ولكنه كان قوي العقل كبير المطامع، ويغلب في أمثاله أن ينظروا إلى كل شيء من الناحية التي تنيلهم مطامعهم؛ ولذلك لم يصدق أن شوكار ستبقى على وده بعد ذلك الانتقال، على أنه كان يشعر بميل شديد إليها وعطف عظيم عليها، وكان يعزيه أنها هناك في نعيم لا خوف عليها من الإهانة، ولا يمس شرفها بما لا يبعث على غيرته؛ لأنها جارية مغنية فقط. قضى برهة وهو يفكر فيما يعمل: أيسافر إلى بغداد للبحث عنها، أم يبعث أحدًا في طلبها؟ وشغل أيضًا بمهام منصبه، لكنه لم يستطع الصبر على الفراق، وهو لا يعلم ما يكون من حال شوكار هناك. فأصبح ذات يوم وقلبه قلق على شوكار، وقد رآها في نومه على غير ما يريد، وهو غير قادر على السفر إليها، فخطر له أن يكلف سحبان بذلك، وأن يطمئنه ويظهر له المسايرة في رأيه. فبعث إليه فجاءه وهو مستبشر طمعًا فيما يرجوه، فلما لقيه قال ركن الدين: «صدقتَ يا سحبان، إن هؤلاء القوم لا يصلحون للخلافة وهم في هذا الفساد.» قال: «ألم أقل ذلك يا سيدي؟» قال: «نعم، وأنا أعرفه، وقد خبرته بالأمس مما فعلوه معي. لا أعلم إذا كنتَ قد سمعتَ بأخذهم شوكار.» قال: «كيف لا؟ سمعت، نعم سمعت، وهذا لا يفعله الخلفاء العلويون و…» فقطع ركن الدين كلامه قائلًا: «ولكن هل تعلم مَن هي شوكار؟» قال: «نعم أنها جارية شجرة الدر ومغنيتها.» قال: «وهي فوق ذلك خطيبتي.» فأظهر الدهشة وقال: «خطيبتك؟ وأخذها منك؟ يا لله من هؤلاء القوم الظالمين؟» قال: «لم يأخذوها وهم عالمون بذلك، ما لنا ولهم، وإنما يهمني الآن أن أعرف حال شوكار هناك، وأنا لا أقدر على السفر، وأنت تسافر دائمًا في تجارتك، فهل تقضي هذه المهمة لصاحبك ركن الدين؟» فاستأنس سحبان بذلك التلطف وقال: «أقضيها على الرأس والعين، وأسافر في الغد لأجلها، قبحهم الله، إنهم مضيعون هذا المُلْكَ عن قريب.» فقال ركن الدين: «أشكر الله سعيك يا سحبان، والأيام بيننا.» فقال: «إنَّ خدمتك يا مولاي واجبة عليَّ، إني مسافر غدًا ولا أسألك عما تطلبه، فإني أعرف كل شيء، كن في راحة.» قال ذلك وخرج بعد أن ودع. وعاد ركن الدين إلى شئونه وقد اطمأن باله نوعًا، وصبَّر نفسه ريثما تنقضي المدة اللازمة لذهاب سحبان إلى بغداد ورجوعه منها، وهي أكثر من شهر. لكن لم يمضِ أسبوعان على سفر سحبان حتَّى جاءه رسول بكتاب من بغداد، وصل في المساء، فلم يصبر على تبليغ رسالته إلى الصباح. وكان ركن الدين في تلك الليلة عند شجرة الدر، وقد أكثر من ترداده إليها ليسليها على ما أصابها من الوحشة بعد وقوع الفتور بينها وبين عز الدين، ولم يدرِ أن ترداده يزيد تلك الوحشة. كان تلك الليلة عند شجرة الدر وجاء الحاجب وقال: «إن بالباب رسولًا يحمل كتابًا إلى الأمير ركن الدين ولا يريد أن يسلمه إلا بيده.» فقال ركن الدين: «ليدخل.» ولم يطاوعه قلبه على الصبر، فوثب كالسهم حتَّى لقي الرسول وصاح فيه: «ما وراءك؟» فقال: «وهل الذي يكلمني الأمير ركن الدين بيبرس؟» قال: «نعم، من أنت؟ ومن أين أتيت؟» قال: «أنا رسول إلى الأمير من فتاة تريد أن يصل كتابها إليه سرًّا.» فخفق قلبه وقال: «هاته.» فمد الرجل يده إلى جيبه وأخرج الكتاب ودفعه إليه، فتناول ركن الدين الكتاب ودخل إلى القاعة وأخذ يقرؤه، وشجرة الدر تنظر إليه وتراقب حركاته وما يبدو في وجهه من التغير. ولم يفرغ من قراءته حتَّى بلغ الغضب منه مبلغًا عظيمًا، وشجرة الدر قلبها يخفق وعيناها شاخصتان إليه. فلما فرغ من تلاوة الكتاب صاحت فيه: «ماذا قرأت؟ ماذا جرى؟» من المسكينة شوكار إلى سيدها وحبيبها ركن الدين. اختطفوني من بين ذراعَي شجرة الدر وأنت غائب، ولم تجد مولاتي حياة لاستبقائي حتَّى حضورك، فبرحت القاهرة وقلبي فيها، ولم أزل منذ برحتها وأنا أندب حياتي، لا أجد لي سلوى برغم ما كان يبذله صاحب الركب من أسباب الراحة لي، وهم يستغربون البكاء من جارية طلبها أمير المؤمنين لتكون في مجلسه، على أني ما لبثت أن وجدت بكائي كان في محله؛ لأني حين أشرفت على بغداد تغيرت حالي؛ إذ أسلموني إلى قوم جاءوا من قصر الخليفة وكنت أحسبهم جاءوا ليستقبلوني، وعزمت على أن أطلب إليهم أن يعيدوني إلى مصر، أو أوسِّط أحدًا للخليفة ليأمر بإرجاعي بعد أن أقص عليه خبري. لكنني لم أكد أقع في أيديهم حتَّى عاملوني معاملة الأسيرة، وساقوني إلى حيث لا أدري. هذا وقد كان في الركب الذي حملني من مصر الخصي عابد البصري حامل هذا الكتاب إليك، وكنت قد استأنست به وأحسست بعطفه عليَّ، فاغتنمت فرصة كتبت فيها هذا الكتاب على عجل ورجوته أن يوصله إليك، فأكرمه ما استطعت، وأستودعك الله، ولا أظننا نلتقي في هذه الدنيا، وقد ختمت هذا الكتاب بدموعي. وكانت شجرة الدر تقرأ وركن الدين يخاطب حامل الكتاب. وسأله: «ماذا تعرف من التفاصيل؟» فقال: «لا أدري يا سيدي سوى أني كنت في خدمة الركب الذي أتى بكتاب الخليفة، ولما عاد ومعه هذه الجارية رأيت فيها لطفًا، وكنت أنا المكلَّف بخدمتها. والمفهوم بيننا أنها محمولة إلى أمير المؤمنين لتكون مغنية في قصره، وكنا نبذل جهدنا في خدمتها وراحتها، فلما وصلنا إلى ضواحي بغداد جاءنا وفد من الجند قالوا إنهم قادمون من قصر الخليفة، وطلبوا إلينا أن نسلمهم شوكار، فلم يسعنا إلى الطاعة، لكننا لحظنا أنهم ذاهبون بها إلى غير قصر الخليفة، فأشفقت عليها وأخذت في تعزيتها، وسألتها عما تريد أن أصنعه فقالت: «لا أريد شيئًا سوى أن توصل هذا الكتاب إلى الأمير ركن الدين، وتسلمه إليه بيده»، وقد فعلت.» فقال: «وأين هي الآن؟ وماذا تظن أنهم يفعلون بها؟ وما غرضهم من أخذها على هذه الصورة وهي لا تعرفهم ولا علاقة لها بهم؟» قال: «لا أدري يا سيدي، وأنا أيضًا مستغرب هذه المعاملة.» فأطرق ركن الدين، وأخذ يفكر فيما عسى أن يكون سبب ذلك، فلم يوفق إلى رأي، فقال: «والآن يا عابد إذا دفعت إليك كتابًا هل توصله إليها، وأين تجدها؟» قال: «أبحث عنها جهدي، ولا أنفكُّ حتَّى أجدها وأكون طوع إرادتها فيما تريده وأفديها بروحي، إنها يا مولاي تُفدَى بالروح للطفها وأدبها.» فأثنى ركن الدين على مروءته وقال: «تعال في صباح الغد فأدفع إليك بالكتاب. تجدني في غرفتي بالقلعة، هل تعرفها؟» فأجاب بإحناء الرأس أن «نعم» وانصرف. ••• وقف ركن الدين مطرقًا وقد أخذته الدهشة، ثم انتبه لشجرة الدر فتحول نحوها، فرآها قد فرغت من تلاوة الكتاب وتغير وجهها وظهرت أمارات الغضب في عينيها، فلما التفَتَ بيبرس إليها بادرته قائلة: «تلك هي أعمال الخلفاء الذين لم يعجبهم أن تتولى السلطنةَ امرأةٌ! هذا المستعصم أمير المؤمنين. ووالله لو أن امرأة سليطة تولت هذا الملك لدبرته أحسن من تدبيره، شغل نفسه بالغناء واللهو، ثم يأخذ نساءنا من بين أيدينا ونحن صابرون!» فأدرك ركن الدين أنها تستثير غيرته على شوكار للانتقام من المستعصم فقال: «ولكن ما أصاب شوكار ليس من المستعصم.» قالت: «ممن إذن؟ ألم يكن هو الذي بعث في طلبها إليه؟ وهَبْ أن الذين اختطفوها الآن لم يفعلوا ذلك بأمر الخليفة، ألا يدل وقوع ذلك على ضعف الرجل وقلة هيبته حتَّى يجرؤ الناس على اختطاف مغنية آتية إليه في موكب حافل؟ على أنني أضع أكثر الحق عليَّ.» فقطع كلامها قائلًا: «الحق كله على عز الدين، هذه هي الحقيقة، ولو شاء هو لاحتال في استبقاء شوكار.» فقالت: «صدقتَ، وهذا هو رأيي. لا أدري ما غير هذا الأمير؟ إن مطامع الدنيا تغير الناس. طمع عز الدين في السلطنة فضحى كل شيء في سبيلها؛ ضحى أصدقاءه وخلانه و…» وغصت بِرِيقها وسكتت. لم يكن ركن الدين يجهل ما في خاطر شجرة الدر على حبيبها من الغيرة والنقمة، فأراد أن يخالفها لاكتشاف ما يكنه ضميرها فقال: «لا أظنه فعل ما فعله طمعًا في الملك؛ لأنه كان في نفس هذا المنصب وأنت سلطانة. بل كان معك أقرب إلى السيادة والنفوذ منه الآن، ويظهر أنه لم يَرَ بدًّا من إطاعة أمر الخليفة فيما يتعلق بشوكار.» فضحكت ضحكة اغتصابية وقد امتقع لونها من شدة التألم والغضب وقالت: «لعله أطاع بذلك غير أمر الخليفة.» وبلعت ريقها وتشاغلت بمنديلها تمسح به فمها وجبينها. فلحظ ركن الدين أنها تعني سلافة، فقال: «وهل تلومينه لأنه يبحث عن مصلحته؟ ليس في الدنيا أحد لا …» فقطعت كلامه قائلة: «كلا، لا ألومه لذلك، ولكني ألوم غيره لأنه لا ينظر إلى مصلحته أيضًا. إن هذا الأمير ضحى بشوكار وركن الدين وشجرة الدر في سبيل مطامعه، ولم يبالِ، ونحن ما زلنا نحافظ على عهده ونلتمس وده.» وتزحزحت من مجلسها وفي ملامح وجهها أنها لم تتم حديثها بعد. فأراد ركن الدين أن يستزيدها بيانًا، فقال: «أنا ناقم على هذا الأمير كما تعلمين، لكنني لا أراه يستحق هذا الغضب منك؛ لأن ما جرى لك ولشوكار لم يكن هو فاعله، ولم يَنَل من فعله شيئًا جديدًا لم يكن له وأنت سلطانة.» قالت: «قد أحرجتني يا ركن الدين، فأستأذنك في كشف ما في قلبي. قد يتبادر إلى ذهنك أني كرهت عز الدين لأنه أحب تلك الجارية الكردية — سلافة — وهي التي ساعدته على ما فعل، وكنت أحسبها فعلت ذلك حبًّا فيه، ولكنني عرفت الآن أنه لم يكن يحبها، ولكنه خدعها كما خدعني، فلما نال مرامه منها تخلى عنها. هل علمت بما عول عليه وأوشك أن يفعله بمشورتها ومساعدتها؟» قال: «كلا.» قالت: «قد عزم عزمًا أكيدًا على أن يستقل بالسلطنة.» قال: «أليس هو مستقلًّا بها الآن؟ أليس الملك الأشرف صورة لا معنى لها؟» قالت: «صحيح، ولكنه سيخلعه ويطلب من الأمراء أن يبايعوه سلطانًا بدله.» فهز رأسه هز الإنكار وقال: «هذا لا يكون، وكيف يتأتى له ذلك والناس يحتجون؟ إنهم لا يخضعون لملك ليس من آل أيوب.» فقالت وهي تضحك ضحك الاستهزاء: «إنك ما زلت قليل الاختبار يا ركن الدين، لكنك لا تلبث أن تعلم أن هؤلاء القوم لا رأي لهم ولا صوت، ينقضون اليوم ما قرروه بالأمس. والظاهر أن عز الدين تمكن من إغراء المقربين له وأنت غائب وقبلوا مبايعته، وبلغني أنهم اختاروا له أحد ألقاب الخلفاء الفاطميين بمصر، وهو «المعز»، فهل بعد ذلك شك؟ ولعله لو طال مكثك في دمياط لأمضى هذا الأمر في غيابك، أو أظنه أمضاه من ذلك الحين. ألا تشعر أنه تغير معك عما كان عليه من قبل؟» فثارت الغيرة في نفس ركن الدين، وأوشك أن يبوح بما في خاطره، لكنه تجلد وتماسك. وقد فُتح أمامه بعد هذا الحديث باب جديد؛ فهو لم يكن بالأمس يتصور أنه يمكن لغير الأيوبيين أن يستقلوا بالسيادة، فإذا هو يرى عز الدين استطاع ذلك ووافقه عليه الأمراء. فازداد رغبة في السلطة، لكنه ما زال حريصًا على كتمان ذلك المطمع خوف الفشل عملًا بالحديث الشريف: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان.» لكنه غلب عليه ظنه بعد أن سمع من حديث القوم عن سلافة في تلك الليلة أن عز الدين لم يفعل ذلك إلا بنفوذها، فأراد أن يستطلع رأي شجرة الدر في ذلك فقال: «ألا تظنين أن لسلافة دخلًا في هذا الأمر؟» قالت: «لا ريب عندي أنها ساعدته في ذلك؛ نظرًا لنسبها الكردي وعلائقها الودية مع بعض الأمراء أصحاب النفوذ من آل أيوب وغيرهم. ولعلها ارتكبت أمورًا دنيئة في هذا السبيل ظنًّا منها أنها اختطفت عز الدين من شجرة الدر. ولكن خاب ظنها؛ لأن هذا الرجل ليس لأحد منا، وسوف ترى.» قالت ذلك وابتسمت وعيناها تلمعان. ولحظ ركن الدين في عينيها معنًى لم يكن فيهما من قبل؛ رأى الغيرة والنقمة والغيظ تتزاحم فيهما، فقال: «لمن هو إذن يا مولاتي؟» قالت: «أتريد أن أبوح لك بكل ما أعرفه عن هذا الخائن مرة واحدة؟ سألتني لمن هو، فأجيبك أنه يزعم أنه لامرأة ثالثة.» قال: «من هي؟» قالت: «امرأة لا تعرفها، ليست في مصر.» فاستغرب قولها وقال: «أظنك تمزحين؟» قالت: «كلا، إني أقول الصدق، إن عز الدين يزعم أنه ساعٍ في خطبة بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل.» قال وقد بدا الاستغراب في عينيه: «إن صاحب الموصل له مقام رفيع عند الخليفة، وهل تظنينه يفوز بها؟» وكان التأثر والغضب قد ملكا عليها أمرها، فقالت وهي تشير بيدها إشارة الإنكار: «لا، لا. لن يفوز بها، إنه ليس لإحدى هؤلاء النسوة، بل هو نصيب الرابعة.» وأشارت بيدها إشارة رجل بيده خنجر يطعن به آخر إلى جانبه؛ ففهم ركن الدين أنها تنوى قتله، وتأكد ذلك مما بدا في عينيها من الاحمرار، فضحك وأظهر الاستخفاف بهذا الرأي، ونهض يريد الانصراف وهو يقول: «لا أظن الأمر يبلغ بك إلى هذا الحد. قد انتصف الليل وآن لي الانصراف، أستودعك الله.» فصاحت به: «ويلك يا ركن الدين، تذهب على هذه الصورة وتتركني على هذه الحالة؟ ماذا جرى لك؟» قال: «ماذا أصنع يا مولاتي؟» قالت: «قد رأيتُ من أمرك عجبًا. تَكلَّمْنا في أبواب كثيرة، وصرحت لك بأمور كثيرة كنت أكتمها عن كل إنسان، وأنت جامد كالصخر الأصم لا تقول شيئًا. إذا كنت تفعل ذلك عن دهاءٍ فنِعم الفعل، وإلا فإنك صلب بارد. وفي كل حال كنتُ أتوقع منك أن تقول كلمة عن شوكار المسكينة التي ذهبت ضحية حبك، وهي تقاسي العذاب، وقد تَفطَّر قلبي من كتابها. ولو كنتُ خطيبَها لركبتُ الساعة إلى بغداد ولم أرجع إلا وأنا منتقمة لها من ذلك الخليفة الظالم الذي لا يهمه إلا التمتع بملذاته.» قالت ذلك وهي تتفرس في عينيه. فكان لكلامها وقع السهام في قلبه وأوشكت أن تخرجه إلى التصريح بما ضميره، لكنه تراجع وتمالك وتشاغل بالضحك وقال: «لله أنت من خطيب غيور شجاع! أما أنا فأظن عندي مثل ذلك، ولكنني سأنظر فيه وأعمل ما يسرُّك وإن لم أقل شيئًا.» قال ذلك وبرقت عيناه، وبان الحزم والجد في جبينه، فتقدمت إليه ووضعت يدها على كتفه، وقالت: «هذا عهدي فيك، وقد فهمت من هذه العبارة كل شيء. واعلم أني فاعلة ما يتمم عملك هنا؛ اقتل المستعصم وأنا أقتل عز الدين، وأنت السلطان صاحب الأمر والنهي.» فتجاهل ما سمعه وقال: «أتأذنين لي في الانصراف الآن؟» فأشارت إليه مودعة، فخرج وهو ينتفض من الغضب، وقد تضاربت الأفكار في خاطره، ولم يعجبه تصريح شجرة الدر بقتل المستعصم لاعتقاده أن مثل هذا الأمر الخطير لا ينجح إلا إذا ظل مكتومًا في خاطر صاحبه. ••• مشى ركن الدين وقد انتصف الليل وأخذ منه التأثر مأخذًا عظيمًا حتَّى أصبح لا يرى طريقه من فرط ما تجاذبه من الهواجس، وأسرع في خطاه رغبة في الاختلاء بغرفته لمناجاة نفسه، لكنه لم يكد يصل إلى باب منزله في القلعة حتَّى تصدى له أحد الحراس وحيَّاه، فردَّ التحية ومشى، فتقدم إليه الحارس قائلًا: «إن خادمًا في انتظار مولاي هنا منذ ساعتين.» وأشار إلى رجل واقف بجانبه. والتفت نحوه وقال: «من الرجل؟» وظنه لأول وهلة رسول شوكار جاء يأخذ جوابه إليها، فإذا هو سواه. فتقدم الرجل ودفع إلى ركن الدين كتابًا مختومًا، فتناوله وأمر خادمه أن يسرع إلى غرفته ويضيء فيها المصباح، ففعل. فدخل ركن الدين وحده وفض الكتاب أمام المصباح، وقد أدهشه ما فاح من رائحة الطيب، فتَرَجَّحَ لديه أنه من امرأة، فأخذ يقرأ فإذا هو من سلافة جارية الملك الصالح، فاستغرب ذلك وقرأ فيه: «سلافة جارية الملك الصالح وقيِّمَة قصوره ترغب في مقابلة الأمير ركن الدين بيبرس ساعة وصول كتابها هذا إليه، وحامل الكتاب يرشده إلى المكان.» فوقع في حيرة، وتولَّته الدهشة، وأخذ يسأل نفسه ماذا عسى أن يكون غرضها من تلك المقابلة وليس بينها وبينه سوى معرفة بسيطة. وتَذكَّرَ ما سمعه عنها من سحبان، وما جرى من ذكرها بين يدي شجرة الدر، وعلاقتها بعز الدين أيبك، فأصبح شديد الميل إلى تعرف هذه المرأة، ولعل التعرف بها ينفعه في مشروعه. ورآها تطلب إليه مقابلتها ساعة وصول كتابها، فقال في نفسه: «ما عسى أن يكون سبب هذه السرعة؟» وبرغم ما كان فيه من التعب والقلق عزم على إجابة الدعوى حالًا، فنادى الرسول إليه فدخل فقال له: «هل المكان بعيد من هنا؟» قال: «كلا يا سيدي إنه قريب جدًّا.» قال: «وهل أنت هنا من زمن طويل؟» قال: «منذ نحو ساعتين.» قال: «ولماذا انتظرت كل هذه المدة؟» قال: «لأن مولاتي صاحبة الكتاب أمرتني ألا أعود إلا بالجواب.» فازداد ركن الدين دهشة واستغرابًا وصمم على الذهاب، فلبس ثيابه وخرج، والرسول يمشي بين يديه، وقد أخذ القلق منه مأخذًا عظيمًا، ومر بباب القلعة فعرفه الحراس ولم يعترضوا سيره. خرج إلى القاهرة والطريق مظلم إلا من بعض المصابيح بأبواب المنازل، وما زال ماشيًا والرسول معه حتَّى وصل إلى باب كبير وقف الرسول عنده واستوقف الأمير ريثما طرق الباب، ففتحت طاقة فيه وأطل منها عبد خصي يسأل عن الطارق، فأومأ إليه الرسول فوسع له ولرفيقه، فدخل ركن الدين إلى حديقة مظلمة، لولا شموع مضيئة لكان الظلام حالكًا. على أن ذلك النور الضعيف زاد المكان وحشة؛ لأنه جعل ظلام الأشجار تظهر متكاثفة متلبدة. فلما رأى نفسه في ذلك المكان ندم على مجيئه، وتَوَهَّم أشياء كثيرة، بعضها يوجب القلق، ولكنه تَجلَّد ومشى بقدم ثابتة لا يبالي ما قد يتهدده، وهو لم يتعود الخوف، لكنه خاف الفضيحة لعلمه بما بين صاحبة هذا المنزل وعز الدين من العلائق. وكان الرسول قد تقدمه لينبئ بوصوله، فما كاد ركن الدين يتوسط الحديقة حتَّى عاد الرسول وأشار إليه أن يتبعه، فتحول به إلى قاعة منفردة قد أضيئت فيها الشموع على منائر في وسطها، وفرشت أرضها بالبسط والوسائد، وأدهشه ما شاهده بين الأثاث من الآنية التي كان يراها في قصور الملك الصالح قبل هدمها وتخريبها، وتأكد أن عز الدين جاء سلافة بهذا الرياش، لأنه هو الذي خرب تلك القصور واستأثر بأنقاضها ورياشها. استقبلته سلافة بباب القاعة وقد لبست أثمن ما عندها من الحلي والثياب، ولم تتنقب إلا قليلًا، وكان قد تنسم رائحة الطيب قبل أن يراها، فلما تلاقت عيناها زاد ندمه لمجيئه؛ لأنه تَوهَّم شَرَكًا يخاف الوقوع فيه. أما هي فاستقبلته بالسلام والترحيب قائلة: «قد أزعجناك أيها الأمير.» قال: «العفو يا سيدتي، إني مسرور من هذه الفرصة، فعسى أن أستطيع أداء خدمة أو قضاء طلب.» فمدت يدها للسلام عليه فمد يده وصافحها فوجد أناملها باردة كالثلج وفيها رعشة أثرت فيه، لكنه تشغل بالثناء على ترحابها، ثم مشت به وهي قابضة على يده حتَّى وصلت إلى مقعد في صدر القاعة، فأشارت إليه أن يجلس، فجلس وقد اقشعر بدنه من لمسها، فأفلتت يده وجلست بين يديه على وسادة، وهي تنظر إليه وترحب به، وهو ينتظر أن تفاتحه بما دعته من أجله، فلم تَزِدْ على الترحيب والمؤانسة. فلما أبطأت عليه قال: «جئت طوعًا لأمرك، فهل من خدمة أقضيها لك؟» قالت: «بل أنا في خدمتك يا ركن الدين، ولعلك لم تكن عالمًا بوجودي قبل هذه الليلة ولم أخطر ببالك. وأما أنت فلم تبرح من فكري لحظة، وأنا أتتبع خطواتك منذ أعوام.» قالت ذلك واحمرت وجنتاها وبرقت عيناها، وكانت جميلة فزادها ذلك جمالًا. أما ركن الدين فلم تعجبه هذه الفاتحة لأنه في شاغل عن المغازلة، وكان يسمع بجمال هذه المرأة ويعرف عنها بعض الشيء في حياة الملك الصالح، ولم يكن أمرها يهمه، ولا سيما في تلك الليلة وهو في ذلك الاضطراب. فلما سمع قولها أطرق وقال: «العفو يا مولاتي، كنت أسمع بمنزلتك الرفيعة عند مولانا الملك الصالح، ولكن الأحوال لم تأذن بالتعارف.» قالت وهي تتظاهر بالخجل والحياء: «هذا صحيح بالنظر إليك وحدك، أما أنا فقد عرفتك جيدًا، وطالما راقبت دخلوك قصر الروضة وخروجك منه، وكثيرًا ما كنت أسهر الليل بطوله أنتظر مرورك في الحديقة لأراك من وراء الستائر.» فاستغرب ركن الدين هذه المشاكاة وتجاهلها وقال: «إن ذلك فضل منك يا سيدتي، وأتأسف لأني لم أكن أعلم به.» فقالت: «ألم تعلمه الآن؟ أرجو الإغضاء عن جسارتي يا ركن الدين ولا تكن قاسيًا.» فلما سمع هذا التعريض أجفل وأسف لمجيئه وقال: «العفو يا سيدتي، لم أكن أتوقع أن أسمع هذا وأنا أعلم أن مولانا الأمير عز الدين يتردد إلى هذا المكان وهو صاحبه.» فتنهدت وقالت: «مولاك أو مولاي الأمير، لا يستحق هذه الحظوة، دعه وشأنه، ما لنا وله؟» فظن ركن الدين أنها تريد أن توقعه في الفخ لتستخدمه في مهمة لها كما فعلت بسحبان، فصمم على الرفض وسرعة التخلص، فقال: «ألهذا دعوتني يا سلافة في هذا الليل؟» فأجابته وعيناها ذابلتان وقالت: «وهل هذا أمر قليل الأهمية في نظرك يا حبيبي؟» فنهض وهو يقول: «ليس قليل الأهمية، ولكنني في شاغل عنه الآن يا سيدتي.» وهمَّ بالاستئذان في الانصراف.» فنهضت ووقفت في طريقه وقالت: «ما الذي يشغلك عني؟ لم يبقَ الآن ما يشغلك يا قاسي القلب، أين القاهرة من بغداد؟» فأدرك أنها تشير إلى شوكار وأخْذها إلى بغداد، فنفرت نفسه منها وقال: «ما زلتُ في شاغل، أرجو يا سيدتي أن تأذني في انصرافي ناشدتك الله.» فأمسكت يديه بكلتا يديها وقالت: «تمهل يا ركن الدين، لا تسرع في الرفض وانتبه لنفسك، واعلم أن سلافة وحدها تقدر أن تنيلك مرامك. ما لك وللغناء؟ أنت في حاجة إلى من يضع يده بيدك، وإذا ألقيت الوقود في النار نفخ فيها وأشعلها حتَّى ينضج الطعام.» ونظرت في عينيه وابتسمت، فعلم أنها تشير إلى تفضيل نفسها على شوكار، فقال: «بالله دعيني أنصرف لأني في شاغل ذي بال.» قالت: «أنا أعلم بشواغلك، أما شوكار فلا سبيل إليها أبدًا و…» فلما سمع تصريحها فجأة اجتذب يديه من يديها وقد غضب وقال: «ما الذي حملك على ذكر هذه الفتاة الآن، ما لنا ولها؟» قالت: «كيف لا أذكرها وهي سبب قلقي وعلة شقائي، لكنها الآن بعيدة عنا.» فقال: «إذا كانت بعيدة الآن فإنها ستكون بعد قليل قريبة بإذن الله.» قالت: «من قال لك ذلك فقد خدعك. إن شوكار أصبحت في غير هذا العالم يا ركن الدين، وقد نصحتك فانتصِحْ.» فاقشعر بدنه عند سماع هذا الكلام وحملق فيها وقال: «أطلب إليك أن تكفي عن هذا القول وتدعيني وشأني، دعيني أذهب بسلام.» قال ذلك وقد مال إلى تصديق قولها لكثرة ما عرفه من دهائها وعلاقاتها ببغداد ونفوذها هناك، وبخاصة لأنها لم تستقدمه إليها إلا في الليلة التي جاء فيها ذلك الكتاب من شوكار تشكو فيه الخطر، فقام في ذهنه أن سلافة تعرف حقيقة حال شوكار، فقعد وأشار إلى سلافة أن تقعد وأظهر الجد وقال: «يا سيدتي أرجو أن تصغي لما أقوله لك، وقد علمتُ من كثيرين بما لك من المنزلة العالية والكلمة النافذة في قصور أمير المؤمنين ببغداد، فأرغب إليك أن تساعديني في أمر يهمني هناك.» فقطعت كلامه وقالت: «إني طوع إرادتك في كل ما تريد، ولا أنكر عليك ما لي من الكلمة النافذة، ولعلك تعلم أن ما حدث من العزل والتنصيب بمصر إنما كان على يدي.» فلم يخامره شك فيما تقوله، واعتقد أنها تقدر أن تفعل كل ما ادعته وهو طامع في السيادة، لكنه أحس بشيء حال بينه وبين تلك المطامع، وأصبح همه إنقاذ شوكار فقال: «أشكر لك تفضلك، ولا ريب عندي في صدق ما تقولين، ولا أظنني أستغني عن يدك في بعض هذه الأمور، لكنني أطلب الآن أمرًا واحدًا، فهل تقضينه لي؟» قالت: «أقضيه على الرأس والعين.» فقال: «أريد أن أسترجع شوكار من بغداد إلى هنا.» فتغيرت سحنتها وقطَّبَت حاجبيها، ونظرت إليه شزرًا وصاحت: «لله أنت من أمير عاقل! أبعد ما ذكرته لك، تعود فتسألني استرجاع هذه المغنية من بغداد، وقد قلت لك إنها ليست هناك؟» فقال: «أين هي؟ في مصر؟» قالت: «ولا في مصر إنها غير موجودة في مكان. ألم يأتِك خبرها؟» فلما سمع سؤالها أجفل وتحقق أنها عالمة بما أصابها، فصاح فيها: «لم يجئني خبر بسوء أصابها كما تقولين.» قالت: «إنها لن ترجع إليك أبدًا، ولو علمتُ أنها ترجع لأعدتُها على أعقابها بيدي، وهل قذف بها إلى تلك الديار غيري؟» فاعتدل في مجلسه واستغرب تصريحها وقال: «أنتِ أرسلتها إلى هناك؟ ما الذي كان يضرك لو بقيت هنا؟ إنها لا تزاحمك في نعمة.» فنهضت وهي تشير بأصبعها إليه وقالت: «إنها تزاحمني عليك يا ركن الدين!» وغصت بِرِيقها وبان الهيام في عينيها. فظنها تتقرب إليها تزلفًا لغرض تريد أن يقضيه لها فقال: «بالله يا سلافة لا تطيلي تعذيبي. إذا كنت تريدين مني خدمة أقضيها لك قضيتها حبًّا وكرامة، وإنما أطلب منك أن تساعديني في استرجاع شوكار.» فنظرت في وجهه نظر المتفرس وقالت: «ويلي منك يا رجل ويا لشقائي! أترامى عليك وأصرح لك بما في قلبي، وأنت تصم أذنيك عني، مع علمك أن أكبر أمرائكم يتمنى رضاي؟» ثم أمسكت عن الكلام لأن الدموع أوشكت أن تغلبها وحولت وجهها عنه خجلًا. فأشفق عليها وقال: «إني مقدر تنازلك حق قدره، وأشكرك عليه شكرًا جزيلًا، لكنني طلبت منك خدمة أنت قادرة عليها و… فقطعت كلامه قائلة: «إني رهينة أمرك في كل شيء إلا في هذا. يهون عليَّ أن أجعلك سلطانًا على مصر، وأما استرجاع تلك المرأة فلا يمكن، ألم تفهم بعد؟» وكان ركن الدين صاحب مطامع، ولم يكن شديد التعلق بشوكار، فكان المتوقع فيما تعرضه عليه سلافة أن ينصاع لها ويستعين بها في تحقيق مطامعه، لكنه بعد ما سمعه منها ضد شوكار أحس بميل جديد إلى هذه، سيَّما أن إرسالها إلى بغداد إنما كان بسببه، كما صرحت له الآن سلافة، فأصبح في حيرة، وأطرق يفكر فيما رآه وسمعه وفيما مرَّ به في ذلك الليل من الغرائب، واستعظم ما سمعه من تصريح سلافة وتحبُّبها له، وحدثته نفسه لحظة أن يسايرها لأنها قد تساعده في نيل مطامعه، لكنه تذكر كتاب شوكار الذي جاءه في ذلك المساء وما فيه من دلائل التعلق به، فأَبَت نفسه أن يساير عدوتها اللدودة. وبقي مطرقًا يفكر وسلافة تنظر إليه وتراعي حركاته وتكاد تلتهمه ببصرها، ورفع نظره إليها فرأى في عينيها معنًى لا يعبر عنه بالكلام، وأحس بحرج الموقف، ولم يَرَ بدًّا من تأجيل الكلام إلى فرصة أخرى؛ لأنه لفرط ما انتابه من التأثيرات المتضاربة أحس أن عقله قد أصيب بالكلال، فأحب أن يؤجل الحديث ريثما يستريح وينظر بماذا يجيب. فنهض وقد بانت الحيرة في عينيه، ونظر إلى سلافة وابتسم لها ابتسامة شكر وقال: «أشكر لسيدتي حسن ظنها بي، فإني لا أستحق شيئًا من هذا الالتفات، وأستأذنها في الانصراف.» قال ذلك وانحنى مودِّعًا ومد يده ليصافحها. فأبعدت يدها عنه، وخبأتها وراء ظهرها، وتراجعت ولم تُجِبْ بفيها، لكنها أجابت بنظرة أفصح من الخطاب أنها عاتبة آسفة لسوء حظها معه، وأن قلبها لا يطاوعها على الفراق. فخطا خطوة أخرى نحوها وقال كالمستعطف: «بالله يا مولاتي ائذني في انصرافي الساعة؛ فقد تعبت وأصبحت في حاجة إلى الرقاد.» قالت وهي تهز رأسها: «لله ما أسوا حظي! أشكو لك غرامي وأنت تشكو حاجتك إلى النعاس؟!» قالت ذلك وتحولت عنه ومشت خطوة، ثم التفتت نحوه ورمته بنظرة كالسهم أصاب صدره، وإن لم يؤثر فيه كثيرًا وقالت: «سِرْ يحرسك الله، سر إلى فراشك أيها الأمير، ولا تظن فشلي هذا يذهب هدرًا.» ودخلت مخدعها مسرعة. وانصرف ركن الدين، وقضى معظم الطريق وهو يردد كلامها ويفسر نظراتها ويعلل حركاتها، وقد عَظُم أمرها في عينيه، ولا سيما بعد أن تذكر ما سمعه عن نفوذها في بغداد، وأصبح في خوف على شوكار منها، ولم يبقَ عنده شك أن شوكار إنما أصابها ما أصابها في سبيله؛ فهو السبب في شقائها، وأن وجودها في بغداد أصبح بعد هذه المقابلة أكثر خطرًا. وخيِّل إليه أن سلافة لا تلبث أن تبذل جهدها في إيصال الأذى إليها بسببه، فأحس بالتبعة التي تحملها بمجافاة سلافة؛ لأنه سيبعثها على تعمد الأذى لشوكار، وشعر بقشعريرة وقف لها شعره. وكان قد دخل باب القلعة ودنا من غرفته، ففتحها له الخادم وأضاء المصباح، فأخذ في خلع ثيابه، ثم وقع نظره على كتاب شوكار، فأعاد قراءته فكان تأثيره في هذه المرة أشد من تأثيره الأول كثيرًا، وغلبه العطف على شوكار، وأيقن أنه لا يرتاح باله إلا إذا نجَّاها من ذلك الضيق، وهو لا يقدر أن يعهد في هذا الأمر إلى أحد، ولا سيما بعد تهديد سلافة، فأخذ يفكر في السفر إلى بغداد. وبينما هو في ذلك، إذ سمع أذان الفجر فتوسد الفراش التماسًا للراحة، وكان نومه مضطربًا متقطعًا، ولم تبرح صورة شوكار من خاطره لحظة. ولما نام رآها في الحلم حزينة باكية، تعاتبه لأنه شغل عنها بسلافة، فأثر هذا الحلم في خاطره تأثيرًا شديدًا. ولما أفاق من نومه وطَّن عزيمته على الأخذ بناصرها. وأصبح في اليوم التالي ورسولها ببابه يطلب جوابه على كتابها، فأدخله إليه وسأله عن سفره إلى بغداد وكيف يكون، وكان ركن الدين قد سافر إليها مرة، وعرف أهم طرقها وأحيائها، ثم زوده بكتابه إلى شوكار وبالَغ في إكرامه وملاطفته، فسأله الرسول إذا كان عازمًا على السفر إلى بغداد. فقال: «سأنظر في ذلك.» وصرفه بعد أن عرف منه المكان الذي يجده فيه إذا سافر إلى هناك. أما سلافة فلا تسل عن غضبها لِمَا لقيَتْه من تردد ركن الدين؛ لأنها كانت تحبه من كل قلبها، وكانت تحسب مكاشفتها إياه بحبها كافية لتجعله أسير هواها، فإذا هو يتردد ويُظهر ميله إلى شوكار، وهي لا تستطيع أن تتصور وجودها لأنها تزاحمها على حبه، وكانت قد علقت به وهو لا يعلم، وتحينت فرصة لمفاتحته في أمرها، ولكنها رأت شجرة الدر اجتذبته لنفسها، فكان ذلك في جملة ما حملها على مقاومتها، وبلغها أمر خطبته شوكار فجعلت رسالتها إلى بغداد تتضمن التخلص من الاثنتين معًا، فأنزلت شجرة الدر عن العرش، وأبعدت شوكار إلى بغداد. وتقربت إلى عز الدين لتفسد ما بينه وبين شجرة الدر، عدوتها ومناظرتها، وأفلحت في ذلك، ولم يبقَ لإتمام سعادتها إلا أن تسترضي ركن الدين ليكون لها. وكانت الأخبار تأتيها من بغداد متواصلة، فوصلها في صباح ذلك اليوم خبرُ ما أصاب شوكار في بغداد، فتسلحت به بحيث يقطع ركن الدين كل أمل في بقائها، فيتحول إليها، وعزمت على بذل جهدها في إسعاده وتقديمه، ووطَّنت نفسها على الاكتفاء به، فلما رأت منه ما رأته، غضبت وانقلب حبها إلى حقد، وعزمت على مناوأته أن لم يرجع إلى صوابه ويسترضيها! فلنترك القوم في مشاغلهم بمصر وننتقل إلى بغداد.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/7/
في بغداد
بلغت بغداد أقصى عمرانها في أيام المأمون، حتَّى امتدت أبنيتها وبساتينها إلى نحو ١٦٠٠٠ فدان. وقد كانت مدنًا متلاصقة. وهي واقعة في الجانب الغربي لنهر دجلة، ولا تزال المدينة التي بناها المنصور هناك باقية بشكلها المستدير. أما في زمن روايتنا، في القرن السابع للهجرة، فقد تبدل حالها وانتقلت أكثر عمارتها إلى الجانب الشرقي من حيث قصور الخلافة. وامَّحت مدينة المنصور، وتدهورت حالتها الاجتماعية بعد أن كانت في القرون الأولى من بنائها؛ أم المدائن، ومهبط التجارة، ومجتمع العلماء والشعراء، وموئل طلاب الثروة والجمال. على أنها بعد أن ضعف شأن الخلافة فيها، تسربت إليها الدسائس وقامت الفتن بين أهلها، وأهمها الشقاق بين أهل السنة والشيعة، فلم تكن تمضي سَنَة لا يقع فيها بين الطائفتين قتال تتوسط الحكومة في شأنه. وكانت هذه سنية، فكان الضغط يقع غالبًا على الشيعة، وكانوا يقيمون في الكرخ والكاظمية وهم صابرون على ما يكابدونه من الاضطهاد، والحكومة مع ذلك توليهم مصالحها وتعهد إليهم في تدبير شئونها. وكان هذا الشقاق سببًا في سقوط بغداد ودخولها في حوزة التتر على يد هولاكو، وذلك طبيعي في تاريخ الدول. وإذا تدبرتَ أسباب الانقلابات السياسية التي تنتقل بها السيادة من دولة إلى دولة، وجدتَ معظمها يرجع إلى انقسام أبناء البلاد فيما بينهم بالمشاحنات الدينية أو الأغراض السياسية، حتَّى يستولي القنوط على الفئة الضعيفة إذا غُلبت على أمرها، فتستنجد بالغرباء ليأخذوا بناصرها، ثم لا يزالون يتحينون الفرص حتَّى تصير الدولة إليهم. وتكاد لا تجد انقلابًا سياسيًّا في تلك العصور يخرج سببه عن نحوِ ما تقدم. ••• وكان على دجلة جِسران موصلان بين شرقي المدينة وغربيها، وكلٌّ منهما مبني من أخشاب مفروشة على سفن مستديرة الشكل، وأهمها منصوب بين حي قصر عيسى والرصافة، ينتقل عليه الناس والدواب. وكان على ضفاف دجلة في البر الشرقي قصور الخلفاء وأهم أبنية بغداد، وأشهرها قصر التاج والقصر الحَسَني، والمدرسة المستنصرية — التي بناها المستنصر بالله والد المستعصم بالله الذي تدور في زمانه حوادث هذه القصة — والمدرسة النظامية، وقصر الريحانية، وقصر الفردوس. وأقربها من طرف الجسر الشرقي قصر لا اسم له كان يقيم فيه مؤيد الدين بن العلقمي وزير المستعصم، وكان من أهل الكفاءة والدهاء، ولكنه كان نصوحًا مخلصًا يرى ما في الدولة من الاضطراب ويبذل جهده في النصح للخليفة وتنبيهه إلى ما يعود بالصلاح عليه وعلى الدولة. وكان المستعصم ضعيف الرأي لكنه حسن الظن بوزيره، فكان يصغي لنصائحه في أكثر الأحيان. غير أن ذلك لم يكن ضامنًا للخير منقذًا من الخطر؛ لأن الرأس إذا كان مختلًّا اضطربت سائر الأعضاء، ويغلب في مثل هذه الحال أن ينقاد إلى المتملقين وذوي الأغراض من أهل الدولة أو العصبية، فيغتنموا فرصة ضعفه ويعيثوا في الأرض فسادًا لإرواء مطامعهم، وهو لا يسمع فيهم لومًا ولا يصغي إلى انتقاد. تلك كانت حال المستعصم في ذلك الحين، حتَّى أصبح ألعوبة بين أيدي أعوانه ورؤساء قصوره؛ لأنه كان منغمسًا في الترف شديد الكلف باللهو واللعب وسماع الأغاني، لا يكاد مجلسه يخلو من ذلك ساعة، وكان ندماؤه وأعوانه منهمكين معه في الملاذِّ لا يرجون له صلاحًا. وزاد الطين بلة أن هولاكو التتري حفيد جنكيز خان كان قد أسس دولة عرفت بدولة أيلخان، أو مغول الفرس، فلما استقر له الأمر في فارس طمع في بغداد، وأخذ يستعد للحملة عليها. فاتفق أنه وهو يحارب الإسماعيلية في فارس ويحاصر قلاعهم، كتب إلى المستعصم يستنجده، وأراد هذا أن ينجده، فمنعه أمراؤه من ذلك مخافة أن يكون قصد هولاكو الخديعة لتخلو بغداد من الرجال، فيملكها بسهولة. ثم فتح هولاكو تلك القلاع وبعث إلى المستعصم يعاتبه، فأشار عليه الوزير ابن العلقمي أن يسترضيه بالهدايا والأموال، فأطاعه وأخذ في تجهيز هدية من الجواهر والمماليك والجواري، فاعترض الداودار — قائد الجند — وطعن في نية الوزير وقال: «إنه يروم تسليم الدولة إلى التتر.» فكف الخليفة وأرسل هدية يسيرة. فغضب هولاكو وبعث إلى الخليفة أنه لا يرضيه إلا إذا أتى هو بنفسه للاعتذار، أو أن ينيب عنه الوزير أو الداودار، فأرسل إليه أناسًا لم يقبل هولاكو نيابتهم، واتخذ ذلك ذريعة للحملة على بغداد. ولم يدرك المستعصم حقيقة غرضه، ووقع ابن العلقمي في حيرة من أمره، فكان يكثر التفكير في مصير هذه الحال، ويرى الخطر محدقًا بالدولة فينصح ويحذر بلا جدوى. وكانت رسل هولاكو تأتيه سرًّا تحمل إليه كتب التحريض على الخروج إليه أو مطاوعته في تسليم بغداد، ويعده الوعود الكثيرة. وهو يتردد ويصبر لعل الخليفة يصغي لنصحه، وكان إذا لقي المستعصم وخاطبه في ذلك، وعده أن يعمل برأيه ثم لا يلبث بعدُ أن يفارقه حتَّى يرجع عن وعوده بما يدسه بعض الأعوان من الدسائس على ابن العلقمي ويتهمونه بالخيانة لأنه شيعي. وكان كبار الشيعة من الجهة الثانية يحومون حول ابن العلقمي يَشْكون إليه ما يقاسونه من الاضطهاد والعسف من ابن الخليفة، حتَّى أصبحوا لا يأمنون على أموالهم ولا على أعراضهم، وهم يقيمون في الجانب الغربي من بغداد، وأكثرهم في الكرخ والكاظمية، وابن العلقمي يخفف عنهم ويعدهم خيرًا، لكنه كان يتجنب الاجتماع بهم جهارًا خوفًا من وقوع الشبهة عليه، فلم يكن يأذن لأحد منهم أن يزوره إلا خلسة؛ لأن جواسيس المستعصم مبثوثون حوله يعدون عليه أنفاسه. ••• أصبح ابن العلقمي ذات يوم وقد عظم الأمر على نفسه، ونفر من العمل وهو لا يرى فيه مصلحة له ولا للدولة، فاعتكف في منزله، وكان في قصره شرفة مرتفعة تطل على دجلة والجسر والرصافة والكرخ جميعًا، كان قد بناها لهذا الغرض، فصعد إليها وأمر الخدم ألا يزعجوه كأنه مريض لا يقدر أن يقابل أحدًا. صعد إلى الشرفة وقد التفَّ بعباءة خفيفة واعتمَّ بعمامة صغيرة، وكانت الشرفة كالمصطبة أو المنظرة عليها الوسائد والطنافس وبعض أدوات التسلية لمن شاء من زائريه، وبينها رقعة من شطرنج موضوعة على وسادة فجلس بجانبها، وكانت هذه اللعبة كثيرة الشيوع في بغداد، تلذ لأصحاب العقول المفكرة، ولا سيما الذين يهتمون بالسياسة ويحتاجون إلى الحيل العقلية، وهو يومئذٍ في تردد واضطراب، فأخذ ينظر في تلك الرقعة ويتسلى بنقل أحجارها على سبيل التجربة، فلم تجد نفسه راحة في ذلك. فانتقل إلى دكة في صدر المنظرة تطل على بغداد، وكان الجو صافيًا فألقى نظره إلى تلك المدينة التاريخية يخترقها نهر دجلة المبارك، وعلى ضفتيه العمائر من القصور والمدارس والمستشفيات والمساجد والحمامات والبساتين والترع والجسور والطرق والدروب والأسواق، مما يشغل الخاطر. واستحضرت ذاكرته تاريخ بناء هذه المدينة، وسبب بنائها منذ خمسمائة سنة ونيف، ومَن توالوا عليها من الخلفاء، وما تقلب عليهم من الأحوال، وما بلغت إليه في أيام الرشيد من أسباب الحضارة، يوم كانت عاصمة الإسلام في أقطار الأرض، تجبى إليها الأموال من معظم العالم المعمور، من تركستان إلى المحيط الأطلانطي، ويتوافد إليها ملوك الأرض يخطبون ود صاحبها ويتزلفون إليه. ثم صدمته فجأة نكبة البرامكة، وما كان من ذلهم بعد عزهم، وهم أصحاب الفضل الأول في تلك الحضارة، وما عقب ذلك من الفتنة بين الأمين والمأمون ومَن قتل في سبيلها من الأنفس؛ إلى آخر ما حدث من تقلبات السياسة حتَّى صارت الدولة العباسية إلى التقهقر. وبينما هو يفكر في كل هذا إذ سمع لغطًا في داره كأنه لجاج وجدال، فأصغى فسمع رجلًا يطلب أن يقابله والخدم يقولون له: «إن مولانا الوزير في شاغل عن المقابلة.» فاستأنس بذلك الصوت وظن أنه يعرف صاحبه، فجذب حبلًا بجانبه متصلًا بالطبقة السفلى من القصر، فدق جرسًا هناك — وهي إشارة الاستدعاء عندهم — فجاءه غلام من غلمانه، فسأله سبب الضوضاء فقال: «إن رجلًا غريبًا يطلب أن يرى مولانا، ولم يصغِ إلى قولنا.» فقال: «قد سمعت صوته وأظنني عرفته، لا بأس من إدخاله.» فعاد الغلام بعد قليل ووراءه رجل عليه ثياب الفرس ووجهه فارسي، فحالمَا رآه مؤيد الدين عرفه فرحب به وقال: «مرحبًا بسحبان.» فأكب سحبان على يد الوزير يهم بتقبيلها، فمنعه الوزير من ذلك وصافحه وأجلسه بجانبه، وأمر الخادم بالانصراف وقال: «منذ متَى جئت؟» قال: «جئت بغداد مساء أمس يا سيدي.» قال: «من أين أتيت؟» قال: «من القاهرة.» قال: «أذكر أني رأيتك هنا من عهد غير بعيد.» قال: «نعم يا مولاي كنت هنا وسافرت ثم عدت، حين نفدت بضاعتي لأشتري سواها، وتعبُ السفر لا يهمني كثيرًا.» فابتسم مؤيد الدين وقال: «انقطعتَ للتجارة يا سحبان؟» فضحك ضحكة اغتصابية وقال: «وهل ترى فائدة من سواها أيها الوزير؟» فأدرك ابن العلقمي أنه يشير إلى الوزارة التي هي عمله، فقال: «صدقت، لا فائدة من سواها، ولا خير في أعمال الحكومة، حتَّى الوزارة، فإن صاحبها متعب القلب بلا فائدة، مضت أيام الوزارة الحقيقية و…» وسكت كأنه خاف التصريح بما في خاطره، فقال سحبان: «الوزارة أرقى مناصب الدولة، والوزير هو صاحب الحل والعقد، لكن يشترط أن …» وبلع ريقه وسكت وهو يُخرج منديله ليتشاغل به. فقال مؤيد الدين: «ماذا يشترط يا صاحبي؟ هل تحسب وزير اليوم كما كان في صدر هذه الدولة؟» فقطع سحبان كلامه قائلًا: «بل ينبغي أن يكون اليوم أقدر منه في تلك الأيام لضعف الخلفاء.» فهز مؤيد الدين رأسه وقال: «ولكن هؤلاء الضعفاء لا يسمعون نصيحة؛ لأنهم يصغون إلى خدمهم وخصيانهم.» قال: «أليس عندك علاج لهذا الضعف يا سيدي؟» قال ذلك وبان الجد في عينيه، فقال مؤيد الدين: «وأي علاج تعني؟» قال: «أعني علاج هذا الضعف، هذا الرجل عضو فاسد، والجراح يشير بقطع العضو الفاسد لئلا يجرَّ الفساد إلى سائر البدن.» وحدق في وجه الوزير يستطلع رأيه. فأكبر ابن العلقمي هذه الجسارة بين يديه، فنظر إليه نظر المنكر العاتب، وقبل أن يقول كلمة تصدى سحبان وقال: «إنك تعد قولي جسارة أو وقاحة، سمِّه كما تشاء، ولكنني أقول ما أشعر به، ونحن مشتركان في الأمر، وبِيَدنا مفاتيح النصر لا ينقصنا غير الحزم، تَشبَّهْ إذا شئت بخلفاء صدر هذه الدولة وكفى.» فالتفت مؤيد الدين إلى ما حوله كأنه يحاذر أن يسمعهما أحد، ثم نظر إلى سحبان قائلًا: «لا أوافقك على ما تقول، ولم أفهم ما تشير إليه.» قال: «أُجلُّك عن أن يفوتك مرادي، ولكنك ترى من السياسة أن تتجاهل، إني أشير إلى ما فعله الرشيد بجعفر، ألم يقتله ويقتل البرامكة لأنهم شيعة، ولأنه خاف أن يكون منهم سوء على سلطانه، وقد أساء بقتلهم إلى دولته وإلى نفسه. أما أنت فإذا انتقمت للشيعة بهذا الحزم فإنك تنجي هذه البلاد من الخراب.» فاستعظم مؤيد الدين هذا التصريح وقال: «دعنا من هذا الكلام يا صاحبي؛ إذ لا فائدة منه، وأرى أنك متألم من أمير المؤمنين أو بعض أهله فأردتَ …» فقطع سحبان كلامه قائلًا في تأثر ظاهر: «كلا، لا أقول ما أقوله عن غضب أو نقمة، وليس بيني وبين هؤلاء علاقة شخصية، لكنني غضبت لقومي وملتي، غضبت للنفوس التي تُقتل والأعراض التي تمزق لا لشيء سوى حبها للإمام علي وسائر أهل البيت.» ولم يكن مؤيد الدين أقل منه غضبًا ونقمة، لكنه كان حذرًا متأنيًا فقال: «خففت من حدتك يا سحبان، ودعنا الآن من هذا الحديث، إن الأمور مرهونة بأوقاتها.» قال: «لا أرى وقتًا أنسب من هذا، إن هذا الأمر إذا كان مرهونًا بوقت فهذا هو وقته. اسألني وأنا أجيبك.» قال: «لا أجهل ما يجول في خاطرك، لكنني لا أرى هذا وقته.» قال: «لا أظنك فهمت مرادي تمامًا، عندي مشروع آخر غير الذي تعرفه، غير هولاكو …» فلما سمع الوزير هذا الاسم أجفل لأنه ما برح نصب عينيه منذ أشهر، وهو سبب تردده، فقال: «ما هو؟» قال: «أشكر لك إصغاءك يا سيدي، الأمر الذي عندي يوصلنا إلى المطلوب رأسًا؛ أعني أننا نحيي الدولة العلوية في بلد ظل مقر العلويين نحو مائتي سنة.» فقال: «أظنك تعني مصر، أين نحن منها؟ وقد تسلط عليها الأتراك و…» قال: «أنا أعلم منك بحالها؛ لأني جئت من هناك أمس، وأنا لا أسافر وأجيء للتجارة، لكنني أريد حياة قومي ونصرة الأئمة المظلومين. أنا في مصر منذ أعوام، وقد عرفت دخائلها، وهي في يدي كما أشاء.» فضحك ابن العلقمي وقال: «ما أوسع أحلامك! وما أكثر أوهامك! كيف خيل لك الغرور هذا، حتَّى توهمت مصر في قبضة يدك، وهي فوق ذلك سُنية المذهب، ورجال دولتها كلهم من الأتراك السُّنيين؟» قال: «أنا أعلم ذلك يا سيدي، ولكنهم منقسمون على السيادة، وطالب السيادة الآن رجل حازم ناقم على السلطان الحاضر في مصر؛ لأنه ساءه بأمر له ارتباط بقلبه، فهو يبذل جهده في غرضنا، وهو ناقم أيضًا على خليفتك هذا لأنه أخذ خطيبته منه، ولا يلبث أن يأتي للانتقام، فإذا ساعدناه على قتل هذا الخليفة وبايعناه سلطانًا على مصر، أطاعنا في إعلان الخلافة الفاطمية بمصر، فنعود إلى عزنا ونتخلص من هؤلاء الظالمين.» وأبرقت أسرته كأنه نال ذلك فعلًا، فقد كان من أهل الخيال وأصحاب الأوهام الذين يستسهلون الصعب ويتوهمون وقوع المحال، إذا تصور أحدهم أمرًا يتمنى حدوثه تذرع إلى تصديقه بأوهى الأسباب، وأغضى عما يعترضه من العقبات أو يحول دون الحصول عليه من الموانع الطبيعية، وهذه الفئة من الوهميين كثيرة، وبخاصة في بلاد المشرق. ولعل الفرق بين النجاح والفشل إنما هو في تقدير الحقيقة حق قدرها والاحتياط للحوادث قبل وقوعها. أما مؤيد الدين فإنه كان من أهل التدبير والحزم، ينظر في العواقب ويتدبرها ولا تأخذه الأوهام، ولولا ذلك لم يصل إلى منصب الوزارة في دولة مذهبها غير مذهبه، وبين قوم يكرهون الشيعة ويفتكون بهم. فلما سمع كلام سحبان استخف برأيه، وبخاصة لأن ابن العلقمي لم يتطوح بمطامعه إلى هذا الحد، لعلمه بعجز الشيعة عن النهوض، ولكنه كان يكتفي بأن يبدل خليفة بخليفة، فلم يشأ أن يفاتح سحبان بهذا الأمر وعمد إلى الاختصار في الحديث فقال: «سننظر في ذلك في وقت آخر.» فأحس سحبان بما يضمره من احتقار رأيه، فقال: «يظهر أنك لم تكترث لقولي، أو لعلك استبعدته، ولو عرفت الأسباب التي عندي لوافقتني.» قال: «نعم يا صديقي، رأيت مطمعك بعيدًا يكاد يكون محالًا.» وكان سحبان يحترم رأي مؤيد الدين، فقال: «إذا كان رأيي ضعيفًا فأسمِعني رأيًا خيرًا منه، أم أنت ترى أن نبقى في هذا الذل إلى الموت ونحن سكوت؟» قال: «كلا، لا ينبغي أن نبقى كذلك، لكن علينا أن نفكر ونقيس ونحتاط لا أن نرمي الكلام على عواهنه ونطلب المحال.» قال: «إذن يا سيدي ما هو الممكن من ذلك، وما هي الطريقة للنجاة؟» قال: «لقد أحرجتني واضطررتني للكلام يا سحبان، ولم أكن أحب التصريح بما في خاطري الآن، فأعلم أننا نحن الشيعة لا ينبغي لنا أن نطمع في إعادة دولتنا اليوم؛ لأن الأسباب لا تساعدنا على ذلك، ولكن لا بد من أن يأتي يوم يتمكن فيه أبناؤنا منه. أما الآن فيكفينا تغيير هذا الخليفة الضعيف المشتغل باللهو والغناء بخليفة عاقل حازم ينصفنا؛ هذه هي الخطة التي يجب أن نضعها نصب أعيننا.» فأطرق سحبان وهو يعمل فكرته، وقد استصغر نفسه واستضعف رأيه، وكان مع قربه من التوهُّم سريع التقلب سهل الانقياد، فاستصوب رأي ابن العلقمي، وقال: «صدقت يا سيدي، إنك في الحقيقة وزير مدبر عاقل. قل لي ما هي المعدات التي أعددتها لتنفيذ هذا المشروع؟» فنهض مؤيد الدين وهو يظهر أنه ملَّ الحديث، أو أنه لا يريد التصريح بأفكاره لسحبان، ووجه التفاتةً إلى جسر بغداد القائم على السفن المستديرة، فإذا هو يعج عجيجًا بالناس على غير المعتاد، وقد تزاحمت عليه الأقدام، وأكثر المشاة يركضون كالهاربين من حرب، فلم يستطع أن يتبين الوجوه، لكنه توسم في الأمر شيئًا مهمًّا، والتفت نحو سحبان فرآه أكثر منه دهشة، وكان أحدَّ منه بصرًا، فصاح: «ألا ترى يا مولاي؟ ألا ترى؟ هؤلاء أجناد الخليفة لعلهم عائدون من حرب يجرُّون وراءهم الأسرى والسبايا.» فقال وقد أجفل: «وأي حرب؟» قال: «لا أدري، ولكنني أرى جندًا وهذه راياتهم أمامهم، وإذا صدق ظني فأني أرى راية الداودار في مقدمتها، وقد ذكرني ذلك بما كنت أراه من تعدي هؤلاء الأجناد على قومنا في الكرخ والكاظمية.» فحدق مؤيد الدين في المارة فلم يستطع أن يتحقق شيئًا، وإذا هو يسمع ضوضاء في داره أشبه بالعويل منها بالصياح، فأطل من نافذة تشرف على فناء الدار، فرأى جماعة من النساء يبكين ويعولن وقد تلطخت أثوابهن بالدماء والتراب، ومعهن شيخ أحنى ظهره الكبر وهو يتوكأ على عكاز ويبكي، فتفطر قلبه لهذا المنظر، ولكنه لم يعرف القوم، وكان سحبان واقفًا بجانبه ينظر إلى الدار، ولم يكد يتفرس قليلًا حتَّى صاح: «وا أبتاه!» فأجفل ابن العلقمي وقال: «من هذا؟ لعله أبوك؟» قال: «هو أبي يا سيدي، أعهده مقيمًا في الكرخ بسلام وأمان، ماذا جرى له؟» قال ذلك واستأذن في النزول، فنزل ومؤيد الدين في أثره. ولم يكد سحبان يصل إلى الدار حتَّى سمع أباه يقول: «أين الوزير، أن مؤيد الدين؟» ولما وقع بصره على مؤيد الدين صاح فيه: «أنت وزيرنا ويصيبنا ما أصابنا؟ إذا كان ذنبنا أننا نحن أهل البيت الكرام، فقد قبلنا العقاب على الرأس والعين، والله يجزي كل نفس بما فعلت.» وكان سحبان قد وصل إلى أبيه وقال له: «أبي ماذا جرى، ماذا أصابكم؟ كيف خرجتم من البيوت على هذه الصورة؟» فالتفت الشيخ إلى ابنه، ولمَّا تبينه ألقى عصاه وأكبَّ عليه وقبَّله، وأخذ في الشهيق والبكاء وقال: «ولدي سحبان؟ أنت هنا؟ متَى جئت؟ آه يا ليتك جئت عندنا قبل مجيئك إلى هنا. لا، بل أراك أحسنت بابتعادك عنا لئلا تصاب بما أصيب به إخوتك.» فاقشعر بدنه وقال: ««إخوتك»؟ ماذا أصابهم؟ من فعل بكم ذلك؟» قال: «ألا تعلم ممن تأتي مصائبنا؟ إنها تأتي من …» والتفت حوله وهو خائف وعيناه يغشاهما الدمع وقال: «أنت تعلم ممن.» فقال: «لعل هؤلاء الجنود المارين على الجسر كانوا عندكم.» فصاح: «إننا هاربون منهم، وجئنا إلى هنا نلتجئ إلى مولانا مؤيد الدين.» والتفت إلى الوزير وقال: «آه يا سيدي، أنقِذنا من هذا العذاب، أخرجنا من هذا البلد.» والتفت إلى سحبان وقال: «إنك تفر من هذه المصائب كل سنة وتنجو بنفسك وتتركنا وإخوتك في هذا الخطر. يا إلهي متَى نخلص من هذا العذاب؟» فأجابه سحبان وهو يرتعد من الغضب: «عن قريب إن شاء الله.» والتفت إلى مؤيد الدين فرآه واقفًا يسمع ويتجلد، وقد أومأ إلى النساء أن يدخلن دار الحريم، ونظر إلى الشيخ وتلطف في خطابه وقال: «تفضل يا عماه واجلس هنا، خفِّف ما بك وقص عليَّ ما جرى.» قال ذلك وقعد وأقعد الشيخ بين يديه، وسحبان واقف لا يريد أن يجلس من شدة الغضب، فأخذ الشيخ يقص حديثه فقال: «أنت تعلم يا مولاي حالنا مع هؤلاء القوم، وكيف يناوئوننا ويعذبوننا ونحن صابرون ننتظر الفرج، لكنهم لم يرتكبوا مثل ما ارتكبوه هذه المرة من القتل والسبي، فإنهم لم يُبقوا على الأموال والأعراض.» وغص بِرِيقه وشفتاه ترتعشان، فتشاغل بالبحث عن عصاه. فتأثر مؤيد الدين من منظره، ونظر إلى سحبان فرآه يمسح عينيه ويخجل أن يراه الناس باكيًا، فتجلَّد وأخذ يخفف عن الشيخ فقال: «يا عماه، هون عليك، لكل شيء نهاية، والله مع الصابرين. ثم ماذا جرى؟» قال: «لا تسألني يا بني عما جرى فإنه يفتت الأكباد، يكفي ما ترونه.» وجعل يمسح عينيه، وأنامله ترتجف، فأجابه سحبان: «قد تعودنا هذه الشدائد منهم، ولكن …» فقاطعه أبوه قائلًا: «لا، لا، ها أنا ذا قد أدركت الشيخوخة في هذا البلد مع هؤلاء القوم، وشاهدت نكبات عديدة ليس فيها واحدة مثل هذه؛ كانوا يعتدون على بعض المارة أو يتهمون بعض الرجال بأمر يسوغون به لأنفسهم مصادرة ماله أو إهانته، أما الآن فإنهم دخلوا المنازل بلا حجة ولا سبب، وداسوا مخادع النساء، وارتكبوا الفاحشة وقتلوا الأطفال. دعني لم أعد أستطيع الكلام، ولا أبالي إذا مت، وإنما أطلب من الله أن يبقيني حيًّا لأرى زوال هذه الدولة.» ثم أسرع تنفسه وأوشك أن يغمى عليه، فرشُّوه بالماء، وبادر ابنه إليه فأعانه حتَّى أدخله غرفة استراح فيها، وذهب توًّا إلى دار الحريم وكلف بعض الخصيان أن يجمعه بأخته، وكانت مع النساء. فجاءت وهي تبكي وتندب وقد قطعت شعرها، فقال لها: «أخبريني يا صفية ماذا جرى لكم؟ هل أصيب أحد منكم بسوء؟ أين إخوتك؟ فضربت كفًّا بكف وقالت: «لا أدري هل هم أحياء أم أموات؟ ويلاه! أين كنت فلم تشاهد المذابح؟ إنهم دخلوا مخدعي وأوشكوا أن يمسوني، أعوذ بالله …» فاقشعر بدنه من هذا التعبير، ولم يَرَ بدًّا من التجلد بين يديها، فقال: «الله منتقم يا أخية، وسوف ينتقم من القوم الظالمين.» وتحول إلى الدار فلم يجد مؤيد الدين هناك، فسأل الخدم عنه فقالوا إنه في حجرته يلبس ثيابه، فعلم أنه عازم على الذهاب إلى قصر الخليفة في هذا الشأن، فسره أنه غضب وود ألا يفلح في مهمته لعله يعمل بمشورته ويعزم على التخلص من هذه الدولة. وذهب إلى أبيه فرآه قد صحا واستراح، فجلس إليه وأخذ يخفف عنه ويسأله عن تفصيل ما جرى، فلم يزدد إلا دهشة وغضبًا لما سمع، لكنه أخذ يهون على أبيه بأنه سينتقم له، وإن الله لا بد أن يبيد الظالمين، ونحو ذلك من عبارات التعزية، وقد تعودها الشيعة في بغداد لكثرة ما توالى عليهم من الإحن. ••• لبس مؤيد الدين قلنسوته وقباءه الأسود، ثم ركب بغلته إلى قصر التاج ليرى الخليفة ويشكو إليه ما فعله جنده مما لا يحتمل، والغلام يركض بين يديه. فمر بالمدرسة المستنصرية والقصر الحسني حتَّى وصل إلى قصر التاج، فدخل بساتينه والخدم يوسعون له. فلما وصل إلى بابه الأكبر تَرجَّلَ ودخل مسرعًا، والغضب بادٍ في محياه، حتَّى إنه لم يحسن رد التحية على من لقيه في طريقه من الخاصة. فلما بلغ باب العامة مشى الحرس بين يديه، فسأل صاحب الباب عن الخليفة، فقال: «إنه جالس في منظرة المسناة، فهل أستأذن لمولاتي الوزير؟» قال: «هل هو وحده هناك؟» قال: «عنده بعض الخاصة والمغنين.» فشق عليه ذلك لأنه طالما فكر فيه وتكدر منه، فقال له: «استأذن لي عليه، أو قل له إني أحب لقاء أمير المؤمنين حيثما يشاء.» فذهب الغلام وعاد وهو يقول: «لا يرى أمير المؤمنين بأسًا من دخولك إلى المنظرة.» فلم تعجبه هذه الدعوة لأنه كان يحب أن يراه على حدة، لكنه لم يَرَ بدًّا من الطاعة، فدخل من دهليز إلى دهليز، والخصيان يوسعون له حتَّى أطل على المنظرة، وهي كالعريش أو «الكشك» تشرف على دجلة، فوقها قبة من الخشب مزخرفة بالنقوش والتذهيب الجميل. وأرض المنظرة مفروشة بالبسط الثمينة عليها الرسوم البديعة، وفوق البسط الوسائد المطرزة، وفي وسط المنظرة مائدة عليها ألوان الفاكهة والحلوى، والمستعصم في صدر المكان قد اتكأ على مرتبة عالية كالسرير، وعليه ثوب أبيض مذهب يشبه القباء، وعلى رأسه قلنسوة مذهبة مطوقة بوبر أسود من الأوبار الغالية القيمة المتخذة للباس الملوك، وكأنه يتعمد بذلك تقليد زي الأتراك. وكان المستعصم أسمر اللون، مسترسل اللحية، رَبعة القوام، لا بالطويل ولا القصير، ظاهر الحياء، لين الكلام، سهل الأخلاق، إلا أنه ضعيف البطش قليل الخبرة بأمور المملكة مطموع فيه. وبين يدي المنظرة دجلة يجرى وفيه الزوارق المعدة لركوب الخليفة متَى شاء. فاستعاذ مؤيد الدين من هذه المقابلة، وود لو أنه لم يأتِ في تلك الساعة، لكنه لم يسعه إلا إلقاء التحية بالاحترام اللائق، فأشار إليه المستعصم أن يجلس على وسادة بالقرب منه وقال: «مرحبًا بوزيرنا الهمام.» فتأدب في الجواب وتقديم الاحترام، والتفت إلى الحضور فلم يجد بينهم من يحترم مجلسه أو يعتد بوجوده، وإنما هم طائفة من خاصة الخليفة العائشين في داره، وقيِّم القصر، وأستاذ الدار، ويعرف بالصاحب، وله قدر كبير عند الخليفة ويدعى له على المنابر بعد الدعاء للخليفة، وقلما يظهر للعامة، اشتغالًا بما هو بسبيله من أمور تلك الديار ومراقبتها والتكفل بها وتفقدها ليلًا ونهارًا. وما كاد الوزير يجلس حتَّى أشار الخليفة إلى المغني أن يعيد ما غناه، وراح يظهر طربه الشديد، متجاهلًا ما يقتضيه منصب الخلافة من الوقار، وكان أعوانه يعرفون ذلك فيه فيعده بعضهم لطفًا وظرفًا، ويعده الآخرون ضعفًا وتهاونًا، وهذا هو رأي مؤيد الدين فيه، على أنهم أجمعوا على حسن طوية الخليفة، ولعل ذلك من أسباب ضعفه التي جعلت سبيلًا لأرباب الدسائس إليه. ••• كان مؤيد الدين يسمع الغناء وهو مطرق يفكر فيما جاء من أجله، وينتظر أن يسأله الخليفة عن شأنه. فلما أتم المغني دوره التفت المستعصم إلى الوزير وقال: «هل سمعت أشجى صوتًا وأرق نغمًا؟ أن هذا اللحن يطربني كثيرًا، وهناك لحن آخر قريب منه لم أجد من يجيده في بغداد، وقد بلغني عن مغنية في دار سلطان مصر تجيده فبعثت في استقدامها لكنها لم تصل إليَّ.» قال ذلك وسكت وقد انقبض وجهه، ثم استطرد قائلًا: «وكنت معتزمًا أن أبعث إليك منذ أيام لأخبرك بذلك، وأستعينك في البحث عن هذه المغنية؛ لأني على ثقة من أنها وصلت إلى بغداد، لكن بعض اللصوص أخذوها من الركب الآتي بها من مصر، فهل تبحث عنهم؟» فأشار مؤيد الدين مطيعًا وقال: «لا بد من البحث عن كل لص ومعاقبته؛ إذ لا يليق أن يتجرأ أحد على جريمة في أيام مولانا أمير المؤمنين أيده الله.» وأحب أن يتطرق إلى ما جاء من أجله، فتصدى له أستاذ الدار وقال: «أن تجرؤ اللصوص على خطف مغنية محمولة لمولانا أمير المؤمنين لَأمر لم يسمع بمثله، وهو يدل على ضعف سلطة الحكومة وقلة هيبتها في عيون الناس، وكان المرجو من الوزير — حفظه الله — ألا يترك سبيلًا إلى مثل ذلك.» فوقع هذا الكلام وقوع السهم في قلب مؤيد الدين، ولم يُطِقْ صبرًا على السكوت عنه، وعلم أن الأستاذ الخصي يريد أن يظهر لدى مولاه في مظهر الغيور على مصالح الدولة، فاستثقل ذلك منه، وعدَّه جسارة خارجة عن حدود اللياقة في مجالس الخلفاء، فالتفت إليه وقال: «صدقت يا أستاذ، لا ينبغي أن يقع مثل ذلك، وتَبِعَتُه تُلقى على الوزير إذا كان الأمر راجعًا إليه، فإن أرواحنا فداء أمير المؤمنين في الذَّب عن الدولة وبذل الجهد في طاعته، ولكن هذه الأمور وأمثالها تقع أحيانًا ولا حيلة للوزير في دفعها.» ثم حوَّل بصره إلى المستعصم وقال: «وكثيرًا ما يقع هذا ونتلافاه بدون أن يبلغ إلى سمع مولانا أمير المؤمنين، حتَّى الجند فإنهم يرتكبون أمورًا لا يليق بهم ارتكابها، ولا أدري هل يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم.» قال ذلك وتغير وجهه، وظهر للخليفة أنه يحمل شكاية يريد إيصالها فقال له: «لا ينبغي أن يقع شيء من ذلك إلا بإذن منا أو من وزيرنا أو من أستاذ دارنا. وهل وقع شيء من هذا القبيل قريبًا؟» قال الوزير: «أرفع إلى سمع مولاي أمير المؤمنين أن جماعة من أهل الكرخ أتوني الساعة وفيهم الشيوخ والنساء يبكون ويندبون، وقالوا إن شرذمة من الجند نزلوا عليهم ونهبوا منازلهم وقتلوا من وقف في طريقهم وارتكبوا الفاحشة وغير ذلك.» فتصدى أستاذ الدار وقال وهو يهز رأسه هز الاستهزاء: «أهل الكرخ؟ أهل الكرخ تعودوا هذه الشكاية فلا يمضي عام أو شهر إلا سمعناها منهم.» فاستقبح مؤيد الدين تعرضه ووقاحته، واستغرب اعتراضه، فقال وهو يخاطبه: «تعود أهل الكرخ الشكوى لأن الجند تعودوا أن يؤذوهم و…» فقطع الأستاذ كلامه وقال: «وإن لم يؤذوهم، فإنهم يحبون الشكوى. هذه عادة الشيعة.» ونظر إلى الحضور وضَحك ضِحك الاستخفاف. فأثر ذلك في خاطر ابن العلقمي تأثيرًا سيئًا جدًّا، وحول وجه عن الرجل وهو يقول: «لم أكن أظن أحدًا يجسر على هذا القول في حضرة مولانا أمير المؤمنين.» وسكت. فتصدى المستعصم للكلام وقال: «لا أستحسن ما جرى بينكما، ولا حق للأستاذ أن يتكلم بهذه اللهجة، فإذا اشتكى أهل الكرخ أو غيرهم فعلينا أن ننظر في شكواهم وننصفهم.» ووجه خطابه إلى مؤيد الدين وقال: «ماذا جرى أيها الوزير؟» فاتجه هذا نحو الخليفة وقال: «بلغني يا مولاي أن شرذمة من الجند سطت على الكرخ في هذا الصباح وأمعنت في أهله قتلًا ونهبًا، وقد رأيت جماعة من المصابين وفيهم الشيوخ والنساء والأطفال فلم أشأ أن أفعل شيئًا قبل أن أستطلع رأي مولاي.» فقال الخليفة وهو يُظهر الاهتمام: «إن هذا منوط بالداودار قائد الجند، فينبغي أن نسأله عما بعثه على ذلك، لعل له عذرًا.» وصفَّق فجاء الحاجب، فأمره أن يستقدم الداودار حالًا. وعاد الخليفة فأشار إلى المغني أن يعود لغنائه، واقترح عليه لحنًا غناه وهو يعزف على العود، فطرب الجميع، إلا ابن العلقمي؛ فإنه كان يغلي من الغضب وهو يتجلد. وبعد قليل جاء غلام وقال إن الداودار بالباب، فأمره الخليفة أن يذهب به إلى دار العامة ينتظر حضوره. ثم نهض وأشار إلى الحضور بالانصراف، وأومأ إلى الوزير أن يتبعه، فسار في أثره نحو دار العامة، وهي قاعة الاستقبال الخاصة بالأعمال. ودخل الخليفة أولًا غرفة الألبسة، وجاء صاحب الثياب فألبسه ما تعود لبسه إذا جلس لمقابلة الناس: العمامة الكبرى والجبة وغيرهما. ثم أقبل على دار العامة من باب داخلي، وهي مفروشة أحسن فرش بالستائر والنمارق والأرائك، يقلدون بها ما كان من أسباب البذخ في صدر الدولة العباسية. فلما دخل الخليفة القاعة جلس على سريره، وأومأ إلى ابن العلقمي أن يقعد، ثم أمر الحاجب أن يدخل الداودار. وكان ابن العلقمي قد سري عنه، فدخل الداودار وألقى التحية ووقف متأدبًا، فقال له الخليفة: «يقول وزيرنا — حفظه الله — إن الجند سطوا على الكرخ وقتلوا ونهبوا؛ هل أنت عالم بذلك؟» قال: «نعم يا مولاي.» قال: «وتقول نعم؟ وكيف أذنت بوقوعه؟» قال: «فعلته بأمر من مولاي الأمير أبي بكر نجل مولانا أمير المؤمنين.» قال: «إذا قال لكم أحمد — أبو بكر — اقتلوا الناس قتلتموهم بلا سبب.» قال: «لم أسمح بإرسال الجند إلى الكرخ بلا سبب، لكن مولاي أبا بكر قال إن جماعة من أهل الكرخ خطفوا جارية من جواريه وخبئوها عندهم، فذهبت للبحث عنها عند صاحب الشأن فمنعونا من الدخول وجردوا علينا السلاح، فأمرني الأمير بالدفاع والتفتيش، وقد فعلت.» فقال الخليفة: «ذهبتم للتفتيش عن جارية أُخذت من بيت أحمد فقتل بسببها عشرات من الناس، فلوا فعلت مثل فعلكم بسبب الجارية المغنية التي أُخذت مني لَحدث مثل هذا وأعظم منه. إن هذا لا يليق بنا. أين أحمد؟» فأجابه الداودار: «أظنه في قصره يا مولاي.» فقال: «ادْعُه إليَّ حالًا.» فلما شاهد مؤيد الدين غضب الخليفة على ابنه استبشر بنجاته من تطاوله وتدخله في أمور الدولة، ونظر إلى المستعصم فرآه مطرقًا والغضب يتجلى في وجهه، لكنه لم يتبين من ذلك الغضب حزمًا وعزيمة — وتلك كانت علة الخليفة — لم يكن ينقصه حسن القصد، وإنما كان ينقصه الحزم. فظل مؤيد الدين صامتًا مطرقًا حتَّى دخل الحاجب وأنبأ بمجيء الأمير أحمد، فأمر الخليفة بدخوله. ••• دخل أبو بكر، وهو شاب في مقتبل العمر، قد أخذه الغرور، تمازج حركاته خيلاء لا تظهر إلا على الأدمغة الفارغة، ولا سيما في أوائل الشباب؛ فقد كان في حوالي السنة العشرين من العمر، وتلك هي سن الغرور في كل شاب؛ إذ يتوهم صاحبها أنه بلغ الكمال في كل شيء؛ إذا مشى حسب الناسَ ينظرون إليه إعجابًا بجماله أو بسالته، وإذا قال قولًا توقع أن يكون له وقع الوحي على القلوب، فإذا آنس منهم فتورًا أو احتقارًا غضب وأنحى عليهم باللائمة ورماهم بالجهل أو الحسد لأنهم بخسوه حقه، وبأنهم إنما فعلوا ذلك تقليلًا من فضله. ونحو ذلك من غرور الشباب. فإذا كان ذلك شأن الشباب على اختلاف طبقاتهم، فكيف بأبناء الملوك والخلفاء الذين لا يسمعون إلا التحبيذ والإطراء؟ وبخاصة إذا كان في الشاب خفة وصغار مثل أحمد هذا الذي زاده غرورًا أن أباه أطلق سراحه من محبسه على غير المعتاد عند الخلفاء قبله، فأصبح لذلك لا يحسب للعواقب حسابًا، بل هو لا يدرك حقائق الأمور، وإنما يهمه أن تنفذ كلمته وينال مشتهاه مهما يكلفه ذلك. دخل أبو بكر وألقى التحية، وتلفت يمينًا وشمالًا فوقع بصره على مؤيد الدين، فنظر إليه باحتقار، ومؤيد الدين لا يبدي ملاحظة. وقعد أبو بكر قبل أن يأذن له أبوه في القعود فقال له المستعصم: «يا أحمد أنت أمرت الداودار بالهجوم على أهل الكرخ؟» فأجاب وهو يبتسم نكاية في مؤيد الدين: «نعم يا أبي.» قال: وكيف ذلك؟ ولماذا؟» قال: «لأن جارية من جواريَّ هربت من قصري واختبأت في منزل أحدهم، ولا شك أنهم حملوها على الفرار وخبئوها، فبعثتُ من يأتي بها فشتموا رسولي وضربوه، فأمرت الداودار أن يؤدبهم فتمردوا عليه، فاضطر — للدفاع عن نفسه — أن يضربهم وقد فعل، وما المانع من ذلك؟» فقال المستعصم: «المانع أنه لا يليق أن تحدث مذبحة يُقتل فيها عدة رجال من أجل جارية، وأنت تعلم أن في قصورنا ألوفًا من الجواري، فلو طلبتَ مني عشر جوارٍ بدل الجارية لكان ذلك أهون عليَّ مما أسمعه، والجواري كلهن سواء.» فاعتدل في مجلسه وهو يصلح منطقته بدلال وأنفة وقال: «إذا كانت الجواري سواء، وفي قصورنا ألوف منهن، فما الذي حمل أمير المؤمنين على أن يبعث في طلب جارية من سلطان مصر.» وكان مؤيد الدين يلاحظ ما يتقلب على وجه المستعصم من الملامح ليرى ما يكون تأثير قول ذلك الغلام فيه، فإذا به لما سمع اعتراض ابنه غلب عليه ضعف العزيمة وعمد إلى الاسترضاء وقال: «أنا لم أطلب تلك الجارية من سلطان مصر إلا لتفردها بغناء أصوات لا يستطيعها سواها، وأما …» فقطع أحمد كلام أبيه بكل وقاحة واستخفاف وقال: «وما أدرك أن تكون جاريتي هذه غير ممتازة بمناقب لا توجد في سواها؟ وما أجدرني أن أقتدي بوالدي وهو أمير المؤمنين، قدوة سائر المسلمين.» فحمل المستعصم هذا القول محمل التهكم، وخجل من أن يسمعه أمام مؤيد الدين والداودار ولا يرد عليه فقال: «أهكذا تجيبني يا أحمد؟ وهل يحق لكل واحد أن ينال ما يناله أمير المؤمنين؟ إن عملك هذا لا يرضيني.» فهز أحمد رأسه وقال: «يكفي أن يرضيني أنا. وهل أعمال أبي ترضي كل إنسان؟ لا يُطلب من المرء أن ترضي أعماله كل الناس.» وبعد أن كان المستعصم قد صرح بإنكاره تهكم ابنه حمله ضعفه على المغالطة، وتناسى تهكمه فابتسم وقال: «وبعد تلك المقتلة هل ظفرت بالجارية؟» قال: «كلا، ما زالت مختبئة، ولا بد من العود إلى البحث عنها.» قال: «لا يا ولدي، لا تبحث عنها هكذا، وسأكلف أنا وزيرنا مؤيد الدين أن يتحرى عنها حتَّى يقف على مكانها ويعيدها إليك.» فنظر أبو بكر إلى مؤيد الدين لحظة ثم حول وجهه عنه نحو الداودار وقال: «إذا لم يقف على مكانها فنحن نقدر على إخراجها من مخبئها، ولو كانت في جيب الوزير أو بين أهله.» ثم نهض وقال: «أستأذن سيدي الوالد في الانصراف الآن لأني على موعد مع بعض القواد للخروج إلى الصيد.» وخرج ولم ينتظر إذن والده، وأومأ إلى الداودار أن يتبعه فتبعه، والمستعصم ينظر إلى ابنه وهو خارج وقد بان اليأس في وجهه، ثم حول بصره إلى مؤيد الدين وتنهد وقال: «صدق القائل: «وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشى على الأرض».» ودمعت عيناه. فأطرق مؤيد الدين وهو يتعجب من ذلك الضعف، ولبث في انتظار خطاب الخليفة حتَّى سمعه يقول: «يا مؤيد الدين، إنك وزيري وموضع ثقتي، وقد رأيت ما أظهره أحمد من الاستخفاف بقولي، وأظنني أخطأت بإطلاق سراح أولادي، فخالفت بذلك تقاليد أجدادي. لو كان أحمد كما كان أبناء الخلفاء قبله لكُنَّا في غنًى عما نحن فيه.» وتشاغل بإصلاح لحيته، فلم يشأ مؤيد الدين أن يخوض في هذا الموضوع خوفًا من تغلب عاطفة الحنو في نفس الخليفة مما قد يحوِّل غضبه إليه، وبخاصة أنه يعلم ضعفه من جهة ابنه هذا. فقال المستعصم: «نطلب من الله أن يهدي هذا الغلام إلى صوابه، أنت أب تعرف قلوب الآباء، فأتقدم إليك أن تساعدني في البحث عن جارية أحمد، وأن تعوض على أهل الكرخ خسائرهم. وإني آسف لما وقع وعسى ألا يتكرر.» ثم تنحنح وهمَّ بالنهوض وهو يقول: «لا يبرح من بالك أيضًا أن تبحث عن الجارية شوكار، المغنية التي استقدمناها من مصر وخطفها اللصوص قرب بغداد.» فنهض مؤيد الدين وطأطأ رأسه طائعًا وقال: «إني عبد أمير المؤمنين، وفَّقني الله في خدمته، ولكنني …» فقطع الخليفة كلامه قائلًا: «أنا أعلم أن أحمد لم يكن ينبغي له أن يقول ما قاله، لكنه لا يزال شابًا قليل الاختبار، ولا يلبث أن يهتدي إلى الصواب.» وتحوَّل كلٌّ منهما في طريقه. ••• خرج مؤيد الدين بن العلقمي من قصر التاج وركب بغلته عائدًا إلى قصره وهو غارق في التفكير، تتنازعه عوامل مختلفة، لكن الخوف متغلب عليها كلها. ولما دنا من قصره رأى في موقف الدواب بغلتين إحداهما بغلة سحبان، وقد عرفها، والثانية لم يكن قد رآها من قبل، فتقدم غلامه إلى الباب وقرعه، ففتح على سعته ودخل مؤيد الدين ببغلته إلى مدخل الباب وترجَّل هناك، فتناول الغلام زمام البغلة وساقها إلى مكانها، ومشى مؤيد الدين وكان البواب يسرع بين يديه، فقال له: «من هو صاحب البغلة الأخرى المربوطة هنا؟» قال: «إن صاحبتها امرأة جاء بها سحبان من وقت قريب، وهو في انتظار مولانا الوزير في الشرفة.» قال: «قل له يأتي إلى غرفتي، من هي المرأة التي معه؟» قال: «لا أدري يا سيدي، لكنه بعد خروجك أخذ أباه وأخته إلى الكرخ ثم عاد الساعة ومعه هذه المرأة وأظنها جارية.» وكان مؤيد الدين قد دخل غرفته وأهل بيته يعلمون أنه إذا دخلها لا يدخل عليه أحد إلا بإذن خاص، وسأله الطاهي: هل يريد الطعام فقال: «هيئ لي مائدة مختصرة أدخلها إلى هنا، وليأتِ سحبان للأكل معي.» ودخل فبدَّل ثيابه، ولم يكد يفرغ من اللبس حتَّى جاء سحبان وفي وجهه أمارات البِشْر، وكان قد فارقه واليأس غالب عليه، فاطمأن مؤيد الدين بعض الشيء، وابتسم ابتسامًا لم يتعد شفتيه وقال: «ما وراءك يا صاحبي؟» قال: يظهر أنك غضبت مما شاهدته في قصر التاج، ليس عند القوم ما يفرح.» وابتسم. فقال مؤيد الدين: وهل عندك شيء يفرح يا سحبان؟ بالله قل إن صدري قد ضاق مما أراه وأسمعه. تَقدَّمْ كُلْ معي.» فأتى على دعوته وتناول سكباجة وتشاغل بتقطيعها وهو ينظر إلى وجه الوزير ويقول: «لديَّ خبر يسرك ويوجب استغرابك ودهشتك.» ومال مؤيد الدين إلى استطلاع ذلك الخبر، فتوقف عن المضغ وقال: «ما ذلك؟ قيل لي إنك جئت ومعك امرأة، من هي؟» ثم عاد إلى المضغ. فضحك سحبان وبادر إلى قطعة من السكباجة أدناها مِن فيه وهو يقول: «هي طلبة الأمير أحمد، وهي الجارية التي فتك بأهل الكرخ من أجلها.» فقال: «كيف ظفرت بها؟ الحمد لله على ذلك قد خلصنا من شر هذا الغلام، أين كانت؟» قال: «كانت مخبأة عند جيراننا، وأختي عالمة بذلك، لكنها كتمته واحتملت الخطر من أجل كتمانه كما علمت، لأنها رأت الجارية تكره أن تعود إلى أحمد هذا، فلما جرى ما جرى وعدت أمس مع أهلي، قصت عليَّ أختي خبر هذه الجارية وأرتني إياها، فأتيت بها إلى هنا.» قال: «حسنًا فعلت؛ لأن الخليفة ألحَّ في التوصية بأن نبحث عن هذه الجارية ونعيدها إلى ابنه حذر طيشه، وقد حيرني هذا الوالد بضعفه وحنوه.» فقال سحبان: «لكن الجارية لا تريد أن تعود إليه.» قال: «هي وشأنها، نحن ندفعها إلى الخليفة ونتخلص من تبعة أمرها.» قال: «إنها أشد كرهًا للخليفة، ولا تريد أن يعرف بوجودها هنا.» قال: «وكيف ذلك؟ لم أسمع أن الجواري يرفضن التقرب من الخلفاء.» قال: «لهذه الجارية شأن خاص لا يعرفه أحد في بغداد سواي.» قال: «لله أنت! ما أكثر ما تعرفه! قال: «لا أعرف ذلك لذكاء خاص أو لكرامة أو ولاية، ولكن الأسفار تعلِّم الإنسان أشياء كثيرة.» قال: «وما علاقة ذلك بالأسفار؟» قال: «إني رأيت هذه الجارية بمصر وعرفت حديثها، وهو ذو شجون، لو عرفته لتولتك الدهشة من غرائب الاتفاق.» فازداد رغبة في الاستطلاع وقال: «قل يا سحبان، لا صبر لي على الإطالة.» قال: «ألم تسمع شكوى الخليفة من جارية طلبها من سلطان مصر وخطفت قبل وصولها إلى قصره؟ إنها هي هذه الجارية نفسها.» قال بدهشة: «هي نفسها الجارية التي فرت من ابنه إلى الكرخ؟» قال: «نعم يا سيدي هي بعينها، هي شوكار جارية شجرة الدر التي سمع الخليفة برخيم صوتها وجودة صنعتها على العود، فبعث إلى سلطان مصر يطلبها منه. وقبل دخولها بغداد سطا عليها بعض الناس بحجة أنهم قادمون من قصر الخليفة لحملها إليه وفروا بها. وتحدث أهل بغداد بذلك زمنًا ثم سكتوا، وكان الباعث على ذلك السطو أن أبا بكر لما سمع بالجارية القادمة إلى أبيه رأى أنه أَولى بها، فبعث من قِبله أناسًا أخذوها من القادمين بها بدعوى أنهم آتون من قصر التاج لاستقبال مغنية أمير المؤمنين، فلما صارت في أيديهم أخذوها إلى قصرٍ أعده هذا الشاب لمثل هذه الحاجة، وكان أهل قصر التاج في انتظارها. ثم علموا أنها أخذت خلسة لكنهم لم يعلموا أين هي، وما زالوا يجهلون ذلك إلى الآن.» فاستغرب مؤيد الدين وقاحة ذلك الشاب وقال: «وماذا فعلت شوكار بعد ذلك؟ ألم تستطب مقامها عند هذا الشاب؟» قال: «إن هذه الفتاة لا يطيب لها المقام في غير مصر؛ لأنها مخطوبة لأمير من أمراء المماليك.» قال: «مخطوبة؟ وبعث الخليفة يأخذها من خطيبها؟» قال: «لم يعلم الخليفة أنها مخطوبة، وإنما يعلم أنها جارية شجرة الدر الملكة السابقة، وأنها تحسن الغناء، فطلبها من السلطان الجديد فلم يسعه مخالفة الأمر.» قال: «من هو خطيبها؟» قال: «هو ركن الدين بيبرس البندقداري.» قال: «ركن الدين بيبرس؟ إنه بطل باسل ورجل حكيم، اجتمعتُ به مرة في مصر ونحن شابان وتكاتبنا غير مرة، إني أعرفه شجاعًا لا يصبر على الضيم، فماذا هو فاعل؟» قال: «إنه يكاد يتَّقد غيظًا، ولا أخفي على مولاي أنه أسرَّ إلى أمر هذه الجارية وأنا في مصر، وقد تعجلت السفر إلى بغداد في سبيل خدمته، لعلي أقف على خبر خطيبته، وكان قد جاءه كتاب منها تنبئه فيه باختطافها من رجال الخليفة، ولم تكن تعرف من اختطفها، وربما جاء هو بنفسه للبحث عنها.» فأطرق مؤيد الدين مدة وهو يفكر في حال ذلك الخليفة وابنه، وفي اشتغالهما باللهو عن المُلك وقال: «هل تظن ركن الدين يأتي إلى بغداد؟» قال: «لا يبعد أن يأتي، والآن إذا أذنتَ فلتبقَ شوكار عندنا ريثما يأتي هو أو نكتب إليه عن نجاتها وننتظر رأيه فيها.» قال: «وكيف استطاعت الفرار من قصر أبي بكر وهي غريبة هنا؟» قال: «ساعدها على ذلك خصي كان في خدمتها يعرف أهل المنزل المجاور لمنزلنا، فحملها إليه بحيلة، ولما علم أبو بكر بذلك جاء الكرخ كما علمت، لكنه لم يستطع الوقوف على خبرها، ولما علمتُ اليوم بوجودها أتيت بها إلى هنا لأرى رأيك فيها.» فأخذ مؤيد الدين يفكر فيما سمعه وهو حذر يقظ، فخاف أن يكون في بقاء تلك الفتاة عنده باعث على سوء الظن به، لعلمه بوجود الجواسيس حوله فقال: «انظر يا صاحبي، إن أمر هذه الفتاة أهمني كثيرًا، وقد فرحت بنجاتها من الأسر، وأحب استبقاءها، لكني لا أرى أن تبقى في منزلي.» فبادره سحبان قائلًا: «صدقت، وأنا لا أطلب ذلك، وإنما أستشيرك في الأمر، وأحب أن يعلم بيبرس أن نجاتها كانت على يدك، وهو قائد عظيم ننتفع برأيه وحزمه في الأمر الذي تكلمنا فيه، ولا بد من الوصول إليه. إن هذا القائد وعدني وأنا في مصر أنه يستطيع أن يقلب هذه الحكومة ويقتل الخليفة ويقيم لنا الدولة العلوية الشريكة بمصر، وعند ذلك …» فأسكته مؤيد الدين بالإشارة وهمس في أذنه قائلًا: «لا تتطرف في أفكارك يا أخي، دعنا من التخيلات إلى الممكنات.» فتعجب سحبان من إنكاره ذلك عليه لأنه كان يعتقد إمكانه، ويعتقد أن ركن الدين وعده به، مع أن ركن الدين لم يبدِ في هذا الشأن غير السكوت. ولكن سحبان كان كثير التعويل على الأوهام فيبني من الحبة قبة، بينما مؤيد الدين كان على عكس ذلك، فلما أنكر عليه قوله اضطر سحبان إلى السكوت والتظاهر بالاقتناع وقال: «هب أن أملي بعيد، ألا ترى في مجيء ركن الدين نفعًا لنا؟» قال: «قد يكون حضوره نافعًا لنا إذا أحسنَّا استخدامه، ولا محل للكلام في ذلك الآن.» فقاطعه قائلًا: «ما لي أراك لا تجد محلًّا للكلام. هب أنني وافقتك على رأيك، واكتفيت بإبدال خليفة بخليفة؛ ألا يجوز أن نبحث في هذا؟ قال: «يجوز يا صاحبي، وتراني في حيرة من أمر هذا الخليفة؛ تارة أراه معتدلًا يمكن إصلاحه، وآونة أقطع الأمل في إصلاحه. سنفكر في ذلك.» قال: «افرض أن المستعصم هذا يمكن إصلاحه، أترى الإمام أحمد بن الظاهر أهلًا ليقوم مقامه؟» فبغت مؤيد الدين لهذا الاقتراح؛ لأنه طالما فكر فيه ولم يخطر له أحد سوى الإمام أحمد أهلًا له، لكنه لم يكن ليبوح به لأحد، فلما سمع اقتراح سحبان أجفل وظهرت البغتة في عينيه، وزادتا لمعانًا وقال: «لا بأس به، لكنه محبوس في قصر الفردوس كما تعلم ولا سبيل إليه.» قال: «متَى تم رأينا على أمر لا يقف الحبس في طريقنا، وإنما أطلب إليك أن تصرح لي برأيك، يكفيني منك تكتما، إن التكتم حسن لكنه إذا زاد على حده يفشل صاحبه. قل لي ألا ترى الإمام أحمد أهلًا ليقوم مقام المستعصم.» قال: «إنه نعم الخلف، ولكن دون الوصول إليه خرط القتاد، وسننظر في الخطوة الأولى، وأفِّضل إصلاح حال المستعصم؛ لأن ذلك يغنينا عن التغيير والتبديل.» قال: «وأنا أدعوك إلى إصلاحه.» وتحفز للنهوض وقال: «أما تريد أن ترى شوكار وتأذن لها في تقبيل يدك؟» قال: «لا بأس من ذلك، وإن كنت أرى أن تسرع بإخراجها من هذا المنزل.» قال: «تقبِّل يدك وتذهب حالًا.» ونهض ومشى ثم عاد ومعه شوكار، وكانت قد تغيرت سحنتها من فرط ما قاسته من العذاب والهموم، فلم يفرج همها إلا في ذلك اليوم لما رأت سحبان وطمأنها على ركن الدين، وأنه بعثه للتفتيش عنها، وأصبحت تتوقع سرعة الرجوع إلى مصر أو وصول ركن الدين إلى بغداد. فلما دخلت على مؤيد الدين أكبت على يده تقبلها، وقد غلبها البكاء وبللت كفه بالدموع، فاجتذب يده من يدها وقال: «لا باس عليكِ يا بنية، لا تخافي، إن أمير المؤمنين لا يظلم أحدًا، وإن الله لا يتخلى عن أحد.» فأطرقت برأسها حياءً وهي واقفة وقالت: «أحمد الله الذي وسَّط هذا الشهم في إيصالي إليك، وأنا لا أطلب شيئًا غير إرجاعي إلى مصر.» وغصت بِرِيقها. فقال مؤيد الدين: «ستعودين في خير إن شاء الله.» وتحرك من مقعده ونهض، وأومأ سحبان إلى شوكار أن تتبعه، وودع مؤيد الدين شاكرًا ومشى، فتبعته شوكار، فأسرع إلى إخفائها في منزل لبعض أهله في الكاظمية.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/8/
مؤيد الدين وهولاكو
أما ابن العلقمي فما كان يخلو بنفسه حتَّى صعد إلى الشرفة، والشمس قد مالت إلى المغيب، وتوسد فراشًا على مقعد يطل على دجلة، وقد تاقت نفسه إلى الوحدة والتفكير فيما هو فيه من مشاغل. فلما سمع أذان المغرب نهض للصلاة في مسجد بالقرب من منزله، وهو يتوقع أن يرى في الصلاة راحة. وليس للمؤمنين في ساعة القلق سبيل إلى الراحة والطمأنينة خيرًا من الصلاة والدعاء إلى الله أن يهديهم سواء السبيل وينقذهم من المخاطر. أحس مؤيد الدين حاجته إلى الراحة فأسرع إلى المسجد وأخذ يصلي، فلما فرغ رأى شيخًا من الصوفية راكعًا بالقرب منه وسمعه يتمتم بالصلاة فلم يهتم به، ثم رآه يزحف نحوه، وكدرته وقاحة ذلك الصوفي وظنه مصابًا في عقله، فالتفت إليه شزرًا وزجره بلطف، فازدجر الرجل هنيهة وأظهر أنه يصلي، فعاد مؤيد الدين إلى صلاته ودعائه، واستغرق في التوسل إلى الله أن يهديه سبيل الرشاد. ولما فرغ نهض وتحول نحو الباب فوجد أناسًا واقفين للسلام عليه، فحياهم ومشى، ولما وصل إلى المنزل إذا بذلك الصوفي واقف بجانب الطريق وبيده مسبحة وهو يتمتم كأنه يدعو، فلما دنا مؤيد الدين منه تقدم الصوفي المسبحة في يده وهو يبتسم وقال: «إني أستطلع الغيب وأنبئك بما تفعله يا مؤيد الدين.» فلما سمع ذلك أجفل لأنه قيل له بلحن الأمر وفيه صيغة العجمة، فعلم أن مخاطبه غير عربي وأنه ليس من الفقراء المتسولين، وأنه لِأمر ذي بال تعرَّض له في الطريق على هذه الصورة، فألقى الرجل نظرة متفرِّس، وتأمل لباسه ووجهه، فرأى عليه قلنسوة الصوفية وجبَّة الصوفية وفي يده مسبحة الصوفية، لكن سحنته غير سحنتهم، ولحيته غير لحيتهم، فأجاب قائلًا: «من أنت يا رجل؟» قال: «إني بصير بخفايا القلوب، قادر على تفريج الهموم، أكشف لك ما خفي عليك وأرشدك إلى الطريق السوي، وإن لم تصدقني فجرب.» فأومأ إليه أن يتبعه، وأشار إلى البواب أن يُدخله إلى غرفته الخاصة، ودخل هو وقد شغل خاطره بهذا الدرويش، ومال كل الميل إلى الاسترشاد برأيه، وهو يعتقد الكرامة بأصحاب الكرامات، وتمنى أن يكون هذا منهم. وبعد قليل دخل الدرويش وقد أدخل إحدى يديه بكُمِّ الأخرى وقبض بالأنامل المطلقة على مسبحة أخذ يعد حباتها، فأشار إليه مؤيد الدين أن يقعد، وسأله إذا كان يحتاج إلى طعام فقال «لا»، فأومأ إلى الخادم أن يخرج ويغلق الباب وراءه ففعل. ثم نظر إلى الدرويش وتفرس في وجهه فلم يذكر أنه يعرفه، ولم يَرَ في وجهه سحنة التصوف، فقال له: «أرشدنا بعلمك يا شيخ.» قال: «أرني يدك مفتوحة.» ففتحها وأراه باطنها، فنظر فيها مليًّا ثم قال: «أنت تفكر في أمر عظيم الأهمية شديد الخطر عليك وعلى أهلك وسائر عشيرتك.» فأشار مؤيد الدين برأسه أن «نعم». فأعاد الدرويش النظر إلى كف الوزير كأنه يقرأ كتابًا مخطوطًا، ثم رفع بصره إلى مؤيد الدين وقال: «إن المشكلة التي أنت واقع فيها يسهل التخلص منها إذا شئت.» فقال: «وكيف ذلك؟» قال: «ينبغي أولًا أن تنظر إلى مصلحة نفسك وقومك، ولا تتقيد باعتبارات وهمية لا قيمة لها إلا عند ضعفاء القلوب. فهل أنت من هؤلاء؟» فاستغرب مؤيد الدين اقترابه من الحقيقة بهذه السرعة، وأحب زيادة الإيضاح فاستلَّ يده من بين أنامل الصوفي وقال: «قل قبل كل شيء ما اسمك؟» قال: «اسمي رسول إلى مؤيد الدين.» ففرح لأن ظنه كان في محله؛ أي إن الرجل ليس صوفيًّا، فقال له: «من أرسلك؟» قال: «صديق نصوح يريد بك وبأهلك خيرًا، لكنك لا تعرف كيف تنتفع بالفرص التي تقع لك.» فعلم مؤيد الدين أن الرجل رسول متنكر فقال: «أفصِح يا رسول الخير، من أين أنت آتٍ؟ لا تتهيب.» فقال: «إني رسول من خاقان عظيم لا يلبث أن يأتي بلادكم ويفتحها عنوة ولا قِبَل لكم بدفعه.» فعلم مؤيد الدين أنه يشير إلى هولاكو التتري؛ لأنه جاءه منه غيرُ كتاب من قَبل يدعوه إلى مشايعته على الخليفة المستعصم ويَعِدُه ويمنيه، ولكنه هو يتردد، فتجاهل وقال: «من تعني؟» قال: «أعني مولاي الخاقان هولاكو، ألا تعرفه؟ قد كتب إليك مرارًا يدعوك إلى التخلص من هذا الخليفة الضعيف عشير النساء والمغنين وأنت لا تجيب، فأمرني أن آتيَك مرشدًا ناصحًا. ولا يخفى عليك أن مثلي لا يدخل هذا المدخل، ويتعرض لهذا الخطر، إلا إذا كان قد باع نفسه في سبيل الحق. فأنا أدعوك باسم مولاي أكبر السلاطين أن تكون معه على هذا الطاغية فتخلص أنت وقومك الشيعة من الظلم والعسف، وتكون لك المنزلة الأولى عند صاحب هذا البلد حينئذٍ، لا تكن ضعيفًا، ما لي أراك مطرقًا كأن نفسك تحدثك باعتبارات تقدر لها قيمة لا تستحقها، وكأنك تقول في سرك لا يليق بك أن تخلف ظن مولاك الخليفة فيك. لعله لم يخلف ظنك فيه؟ أنا هنا منذ أيام، وقد اطلعت على ما جرى بينك وبينه وبين ابنه، ورأيتك تتململ وتتذمر، وإنما ينقصك الحزم فتنقذ نفسك وأهلك وعشيرتك، وإلا فأنتم هالكون لا محالة.» فأكبر مؤيد الدين هذا التهديد من رسول غريب ولكنه رأى في وجه ذلك الرسول هيبة وجرأة لا توجدان في عامة الناس، فقال: «أهدِ مولاك شكري لِمَا عرضه عليَّ، وقل له إن طلبه لا سبيل إلى إجابته، وقد رأيته يعرض بعجز هذه الدولة عن مقاومته، لقد أخطأ كل الخطأ؛ لأن جندنا لا يغلب من قلة ولا من ضعف، ونحن على ثقة من الفوز إذا نشبت الحرب بيننا وبينه.» فضحك الرجل وقال: «أتيتُ إليك على أني منجم يقرأ الأفكار، وها أنا ذا اقرأ فكرك الآن من وراء ما تقول، إنك تقول غير ما تعتقد، أنا أعرف كل ما تحاول إخفاءه من اضطراب الجند وفساده، فأصغِ لهذا النصح، واعلم أننا لا نكلفك تعبًا ولا خطرًا، ولا نطلب منك أمرًا عظيمًا، إن البلد نحن فاتحوه لا محالة، فإذا توسطتَ معنا قَلَّلْت من القتل والفتك، لأننا نحب أن ينحصر الأذى في صاحبه المسبب لهذه الشرور، ولا ذنب لرعايا، وبخاصة الشيعة الذين قضوا الأجيال المتوالية وهم يتحملون أنواع العذاب من هؤلاء الخلفاء، ومن هذا المهذار. وقد يصعب عليك أن ترجع عما قلته الآن وزعمته في الدفاع عن مولاك المستعصم، فأنا لا أكلفك الرجوع الساعة، ولكنني أرشدك إلى الصواب وأترك لك الوقت الكافي للتفكير. وأما مولاي الخاقان هولاكو، فإنه فاعل ما يريده، ولا يلبث أن يأتيكم كتابه بالإنذار والتهديد، فإن لم تصغوا إلى مطالبه، حمل عليكم وفعل ما يشاء. وثقْ أنه الغالب الظافر، فإذا كنتَ تحب بلدك وأهلك فابعث إلى مولاي الخاقان كلمة بأنك على ولائه فتنجو وتكون لك الكلمة النافذة والصوت الأعلى … أظنني أطلت الكلام عليك فاعذرني.» قال ذلك ووقف ومده يده إلى جنبه واستخرج لفافة في أسطوانة من القصب وقدمها له وهو يقول: «وهذه رسالة من مولاي إليك لا تفتحها إلا بعد خروجي.» قال ذلك وخرج. اعلم يا مؤيد الدين أن الرسول الذي خاطبك هو الخاقان هولاكو نفسه، وقد بذل لك النصيحة فانتصح، ولا تطمع في تعقبه فإنك لا تجد إلى ذلك سبيلًا. وكان في وسعي أن تبقى على اعتقادك ولا تعرف من هو مخاطبك، لكني أحببت نصحك فانظر في أمرك. وابعث برسالتي إليَّ كما قلت لك قبلًا. فأعاد مؤيد الدين قراءة تلك الورقة وقد تولَّته الدهشة وأوشك أن يكذِّب بصره وسمعه لغرابة ما شاهده، وأطرق هنيهة وهو يخاطب نفسه قائلًا: «هولاكو نفسه خاقان التتر، وفي خدمته مئات الألوف من الرجال لا يثق بأحد منهم في مهماته فيأتي بنفسه متنكرًا تحت هذا الخطر لكي يخاطبني، وكان في إمكانه أن يبعث رسولًا ولكن الهمة العالية والحرص على الملك يدعوانه إلى ذلك. لا ريب أن هولاكو يعرف أسرارنا كما نعرفها نحن، ويعرف عدد جندنا وعلاقة قوادنا بخليفتنا. يعرف كل شيء. أين ذلك من خليفتنا المشتغل باللهو والغناء عن أمور الدولة، ويهمه العثور على شوكار المغنية أكثر من دفع العدو عن بغداد؟ هذه علامات الزوال. هكذا كان حال الروم لما قام العرب لفتح بلادهم، كان خلفاؤنا وقوادنا العظام من الصحابة وغيرهم يتولون أمروهم بأنفسهم، لا يعولون على أحد ولا يشتغلون بغير الجهاد، وكانوا قليلين فغلبوا جيوش القياصرة والأكاسرة.» ثم أطرق وتراجع وندم على ما خطر له وقال لنفسه: «لا، لا. إن الدولة العباسية باقية أبد الدهر، لا تزول من الأرض، وإنما هي في حاجة إلى الإصلاح، إلى خليفة آخر.» وكان الليل قد أسدل نقابه، فوضع تلك الورقة تحت الوسادة وطلب العشاء، ثم ذهب إلى الفراش مبكرًا ليرتاح مما مر به في ذلك اليوم، وتوالت عليه الخواطر المتضاربة لكن ولاءه للخليفة ظل غالبًا على عقله. وكان ليله مأهولًا بالأحلام، ولم يَفُق في اليوم التالي إلا على ضوضاء طلبة المستنصرية وهم خارجون لصلاة الضحى. وأحب البقاء في الفراش لأعمال الفكر فيما شغل خاطره. والإنسان في الصباح قادر على التفكير، وتفكيره أقرب إلى الصواب من سائر الأوقات، فلم يزدَدْ إلا ثباتًا على الولاء للخليفة والرغبة في إصلاحه، فارتاح باله لأنه استقر على رأي، وليس أتعب للإنسان من التردد بين رأيين، فنهض من فراشه وأخذ في لبس ثيابه، ولم يبقَ في ذهنه إلا مسألة شوكار. وكان يود أن يسلمها إلى الخليفة ويتخلص من القيل والقال لو لم يَحُلْ سحبان دون ذلك، وعذره مقبول؛ فخطر له أن يبعث في طلب سحبان ليكرر له الوصية بإخفاء مكان تلك الفتاة، لكنه توقع مجيئه من تلقاء نفسه. مضى ذلك النهار ولم يبرح مؤيد الدين منزله التماسًا للراحة وقضاء بعض المهام الخاصة، وجاء الغروب وأقبل العشاء ولم يأتِه سحبان فهَمَّ بالذهاب إلى الفراش، وقبل أن ينزع ثيابه تذكر الكتاب الذي دفعه إليه درويش الأمس، ورأى أن يعدمه لئلا يقع في يد أحد فيجعله وسيلة للإيقاع به، فتذكر أنه وضعه تحت الوسادة، فافتقده هناك فلم يجده، فأخذ يبحث عنه في جيوبه فلم يقف له على أثر، فخفق قلبه لئلا يكون قد سمع حديثَهما أمس جاسوسٌ وسرق الكتاب وأخذه إلى الخليفة. ••• وبينما هو في ذلك إذ سمع قارعًا يقرع الباب الخارجي بعنف، فأجفل ومكث ينتظر الخبر، وإذا بالبواب يدخل وهو يقول: «إن سحبان بالباب ومعه رفيق، هل يدخلان؟» فاطمأن باله وارتاح إلى قدوم سحبان في تلك الساعة لعله يخفف عنه بعض الشيء، وأحب أن يعرف من هو رفيقه. ولم تمضِ لحظة حتَّى أقبل سحبان وهو يبتسم وألقى التحية، ثم تنحى وقدم رفيقه باحترام وأشار إليه أن يدخل، فنظر مؤيد الدين إلى ذلك الرفيق فإذا هو ملثم لا يظهر من وجهه إلا عيناه وما يحيط بهما، ورأى السواد غالبًا على لونه كأنه عبد حبشي ملثم، ورآه يمشي الهوينى، وسحبان واقف باحترام، فاستغرب مؤيد الدين ذلك فقال: «من هو رفيقك يا سحبان؟» قال: «ستعرفه الساعة يا سيدي.» وتقدم حتَّى أقعد ذلك القادم على كرسي في صدر الغرفة، وأشار إليه أن يتفضل بإزاحة اللثام، ومؤيد الدين ينظر إليه من جانب المصباح، فأزاح الرجل اللثام، وحالَمَا وقع نظر مؤيد الدين عليه اختلج قلبه في صدره وصاح: «مولاي الإمام أحمد بن الظاهر؟ من أين أتيت به يا سحبان؟» وأكب على يده يقبلها، وكان الإمام أحمد أسمر اللون لأن أمه حبشية. فضحك سحبان وقال: «أتيت به طوعًا لأمرك.» فصاح مؤيد الدين: «ويلك! متَى طلبت إليك إحضار مولانا إلى هنا؟ كيف تأتَّى لك ذلك وهو محبوس وعلى قصره الحراس والجواسيس؟ إن شئونك كلها غريبة يا سحبان!» قال: «إنك لم تطلب إليَّ إحضاره، لأنه لم يخطر لك استطاعتي ذلك. لكن الحديث الذي دار بيننا أمس يدل على أنك تحب أن تراه وتستوثق من رضاه.» فقال: «صدقتَ، لم يخطر لي أنك تستطيع ذلك، وكيف أقدمت على هذا الخطر؟ لله أنت من شجاع مقدام! وإنما ينقصك التؤدة والتبصُّر.» فقال: «ما ينقصني تكمله أنت بحكمتك ودهائك!» وتوجَّه مؤيد الدين نحو الإمام أحمد، وكان يومئذٍ في إبان الكهولة وقد ظهرت السكينة عليه، وقعد بين يديه على وسادة باحترام ووقار وأخذ يرحب به. فتقدم سحبان وقال: «إني رجل متسرع، ولا أحب المطاولة أو التسويف، وأكره التردد، وقد أعجبني منك أمس ثقتك بمولانا الإمام أحمد، وأن رأيك فيه وافق رأيي وهذا دليل الصواب، والآن ها هو ذا صاحب الشأن لم أكلمه في شيء بعد، وإنما سعيت في إنقاذه من السجن.» فقال: «وكيف استطعت ذلك، ما هذه الجرأة؟» قال: «استطعته بمعونة الله، وعسى أن أستطيع ما هو أهم منه، وأرى هذا الإمام العاقل العادل خليفة يتولى أمورنا بدلًا من ذلك اﻟ…» فتصدى الإمام أحمد للكلام قائلًا: «لا تقل شيئًا يا بني، إن الخليفة المستعصم بالله لا بأس به لولا تسلُّط ابنه على رأيه ورغبته في اللهو، وهذا ما يمكن ملاقاته، فلا تحولوا قلوبكم عنه …» فقال سحبان: «نِعم الرجل أنت يا سيدي، أما خليفتنا فلا أمل لنا في إصلاحه، ولا بد من تغييره، ومولانا الإمام أحمد أولى بالخلافة منه لأنه أهل لها من كل وجه، وهو أخو المستنصر — رحمه الله — ولا يخفى عليك ما أتاه المستنصر من الأعمال الشاهدة بحسن السيرة والتقوى والرغبة في العمران …» فقاطعه الإمام قائلًا: «لو علمتُ أنك جئت بي لأسمع منك ما سمعته لفضَّلت البقاء في سجني، إننا في طاعة أبي أحمد المستعصم ابن أخي. وإذا أخطأ فعلينا نصحه وكفى.» فلم يستغرب مؤيد الدين حذر الإمام وإنكاره وما ظهر من تسرع سحبان، وإن كان يعتقد رغبته في الخلافة أكثر من رغبتهما، وإنما هي التؤدة والدهاء وحسن السياسة لا بد منها في مثل هذه الحال. فالتفت إلى الإمام وقال: «إن صديقي سحبان يعبِّر بعمله عن شعور كل مسلم، ولا سيما قومنا الشيعة العلوية، فإنهم قاسوا في أيام ابن أخيك هذا مر العذاب مما لا يمكن إخفاؤه، وإن كنتُ لا أرى التسرع في الأمر إلى هذا الحد وعلى هذا الشكل؛ لأننا لم نخطُ خطوة واحدة في سبيل ما نحن فيه.» والتفت إلى سحبان وقال: «أَخْرَجْنا مولانا الإمام من قصره، فأين نضعه الآن؟ وإذا عرف الخليفة غدًا أنه ليس في قصر الفردوس فلا يَتَّهم به سوانا والجند في يده يفتك كما يشاء.» فقطع سحبان كلامه قائلًا: «لا تَخَفْ، إني أعود به إلى قصره الليلة، وقد دبرت ذلك بحيث لا يشعر به أحد. وإنما جئت به لتطلعه على غرضنا بناءً على قولك إنه يكفينا الآن إبدال خليفة بخليفة، واتفق رأينا على أن مولانا الإمام أحمد أَولى العباسيين بذلك.» والتفت نحو الإمام وقال: «وأرغب إلى مولانا أن يرفع كل حجاب بيننا وبينه ويكفينا مئونة المجاملة والحذر؛ فإني لا أحب إلا الصراحة. ونحن الآن نطلب من مولانا أن يجيبنا عن هذا السؤال. «إذا استطعنا قلب الحكومة وأردنا تنصيب خليفة، فهل يقبل الإمام أحمد أن تكون الخلافة إليه؟ وهل يَعِدنا خيرًا، ولا سيما من جهة الشيعة ومعاملتهم؟»» وبرغم ما رآه مؤيد الدين من التسرع في عمل سحبان، فإنه وافقه على هذا الاقتراح ورأب الصواب فيه، وعلم أن المشروعات الكبرى تفتقر إلى الإقدام والحزم مثل حاجتها إلى التروي والتؤدة. فأطرق وهو ينتظر ما يقوله الإمام فإذا به يقول: «إن الخلافة يا أولادي إذا أتتني لا يمكنني التخلف عنها خوفًا على مصالح المسلمين، وإذا أبيت فإني أرتكب خطأً أو معصية، وإذا صرت خليفة فأول واجب عليَّ إجداء العدل وإنصاف المظلومين من آل بيت الرسول، صلوات الله وسلامه عليه.» فقال مؤيد الدين: «بارك الله في مولانا، وإذا وفَّقَنا الله إلى ما نبغيه فإنما يكون لصالح المسلمين، ونشكر لمولانا قبوله القيام بتلك المهمة، وإنما آسَفُ لأن صديقي سحبان كلفك مشقة الخروج إلينا فضلًا عن الخطر.» فتصدى سحبان قائلًا: «لا مشقة هناك ولا خطر، ويمكن بقاء الإمام خارج قصره عدة أيام ولا يشعر أحد بغيابه، لأني وضعت في مكانه رجلًا كثير الشبه به. استطعت ذلك بما بيني وبين قيِّم ذلك القصر من الصداقة، وهو راغب في قلب هذه الخلافة أكثر من رغبتنا؛ لأن هذا الخليفة وابنه لم ينجُ أحد من أذاهما. كن مطمئنًا يا صاحبي، وإذا كنتَ خائفًا من التجسس عليك فها نحن أولاء ذاهبون عنك الساعة.» وتحفز للوقوف، وهمَّ الإمام أحمد بأن ينهض، فنهض مؤيد الدين باحترام وقال: «إن مولانا الإمام قد شرف منزل مملوكه، وأطلب إلى الله أن يمن علينا بصيرورة الأمر إليه ويوفقنا إلى القيام بخدمته.» خرج الضيفان وخرج مؤيد الدين لوداعهما، ولما عاد إلى غرفته عاد إلى التفكير في كتاب هولاكو وكيف أضاعه، وعاد إلى التفتيش عنه في كل مكان حتَّى كلَّ دماغه وتوالت عليه الأوهام والمخاوف، لعلمه أن يعون الجواسيس لا تنام عن استطلاع أخباره والوشاية به، فتولاه القلق، وذهب إلى فراشه فلم يستطع الرقاد وعاد يفكر في ذلك الكتاب وأين هو. وكان يعترض هذه الهواجسَ تفكيرُه في الإمام أحمد وسحبان وهولاكو وما هو فيه من القلق على قومه وعلى نفسه، وتعاظمت مخاوفه وهو تحت الغطاء؛ لأن الظلام يكبر الأوهام ويعظم الأشباح، وأفاق في الصباح وقد أخذ التعب منه مأخذًا عظيمًا. وليس على الإنسان أشدة وطأة من التردد بين أمرين مهمين لا يدري أيهما يتبع، ويغلب أن يكون سبب التردد تنازعًا بين العقل والقلب، فمتَى غلب أحدهما انتهت الأزمة واستقر الرأي وهذا الخاطر. وكان مؤيد الدين يتنازعه عاملان: أحدهما يدعوه إليه عقله وهو أن فساد الحكومة ذاهب بالدولة إلى الخراب ولا يرجى صلاحها إلا بإبدال الخليفة، ولا يستطاع ذلك إلا بيدٍ قوية قاهرة مثل يد هولاكو، ويخامر هذا الحكم العقلي شعور قلبي فيه انتقام من ابن الخليفة وثأر للعلوين من أهل السنة. والثاني يدعوه إليه قلبه أو ضميره إذ يبكِّته على هذا العمل؛ لأنه خيانة لمولاه الذي أقسم على طاعته. على أن ضياع كتاب هولاكو أحدث عاملًا آخر شديد الوطأة على قلب مؤيد الدين، إذ ترجح لديه أن يدًا أخذت ذلك الكتاب عمدًا، ولا يلبث أن يصل إلى عدوه الذي يتجسس عليه فيجعله حجة ضده ويتهمه بالمؤامرة مع أعدائه. ثم تذكر فحوى الكتاب فلم يجد فيه ما يبعث على تهمة المؤامرة لكنه يد على مخابرة جارية بين عدو البلاد ووزيرها. فلما تصور ذلك خيل له أن الخليفة إذا علم به يأمر بالقبض عليه أو يقتله، ولا سيما إذا دخل ابنه أبو بكر في ذلك، فلا تبقى له حيلة في النجاة، فمن الحزم أن يتدبر الأمر ويتلافى الشر قبل وقوعه أو يستعد له على الأقل. وتذكر ما وعده به هولاكو من الحسنات إذا هو أطاعه وكتب إليه بالمجيء، فخطر له أن يبعث إليه في ذلك، فاشمأزت نفسه من هذا الخاطر، ثم اعترضه ما يهدده من الخطر إذا ظل ساكتًا فاشتد تحيره، فنهض من فراشه وأخذ يتشاغل بلبس ثيابه وهو غارق في التفكير، فغلب عليه الدفاع عن حياته وهم بالكتابة إلى هولاكو، فأمر قيِّم الدار أن يأتيه بغلام من عبيده، فأتاه بشاب أصله من رقيق تركستان وقد دخل قصر الوزير من عهد غير بعيد وليس فيه نباهة، فلما وقف الغلام بين يديه تفرس فيه، ثم أمر القيم أن يحلق له شعر رأسه ففعل. وجاء الغلام ورأسه كأنه صفحة بيضاء. وكان ذلك القيِّم قد رُبِّي في بيت مؤيد الدين وله إطلاع على مكنونات قلبه، وهو شديد الغيرة عليه، وقد أدرك غرضه من طلب ذلك الغلام على هذه الصورة. فلما عاد به ناده مؤيد الدين قائلًا: «ألم تفهم مرادي؟» قال: «نعم يا مولاي، إني رهين الإشارة.» قال: «إليَّ بالإبر والكحل وأغلِق الباب وراءك.» فذهب وعاد بالإبر والكحل وأغلق الباب، وقعد على مقعد وأمر الغلام أن يجثو أمامه بحيث يصبح رأسه بين يديه. ثم تقدم مؤيد الدين وبيده ورقة قد كتب عليها كلمات قليلة، وأومأ إلى القيم أن ينقشها على رأس الغلام بالإبر وبذر عليها الكحل كما يفعل الوشامون، فتناول القيِّم الورقة وقرأ فيها: «تعالَ إلينا بقوتك وجندك.» فأدرك أنها رسالة إلى هولاكو، وكان من أشد الناس عداوة للخليفة وحاشيته؛ لأنه شيعي وقد أصابه شيء من أذاهم، فأخذ في نقش الرسالة على رأس الغلام، وهو لسذاجته كالبهيمة لا يفهم شيئًا، فلما فرغ القيم من ذلك نظر إلى مؤيد الدين وابتسم، فأشار إليه أن يحتفظ بذلك الغلام حتَّى ينبت شعره ويغطي تلك الكتابة، فإذا ظل على اعتزامه استقدام هولاكو أرسل الغلام إليه. ويكفي أن يقال لهولاكو إن هذا الغلام قادم من مؤيد الدين فيحلق رأسه ويقرأ عليه ثم يقتله. فإذا رأى العدول عن إرسالها استبقى الغلام عنده وشعره يكسو رأسه، لأنه لم يزل إلى تلك الساعة مترددًا، وضميره غالب على إرادته وهو يرجو أن تصلح الشئون بالمسالمة. وأحس مؤيد الدين في تلك الساعة براحة، وعاد إلى شواغله وهي كثيرة، أهمها النظر في أمور الدولة. فركب بغلته إلى قصر التاج للنظر فيما جاء به البريد أو ما حدث من الأمور العامة، وكان يفكر طول الطريق في الكتاب الضائع ويراقب حركات القوم هناك ليتحقق ما كان من أمره، فلما لم يَرَ ما يبعث على سوء الظن اطمأن باله وعاد إلى منزله وقد ذهب قلقه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/9/
بين المستعصم وهولاكو
من الخاقان العظيم هولاكو سلطان السلاطين إلى المستعصم بالله العباسي. أما بعد فأننا قد مللنا المماطلة ونحن صابرون. أما آن لك أن ترعوي وتعرف قدرنا؟ بعثنا إليك نستعينك على الإسماعيلية الفتاكين القتلة، ونحن لا نخافهم على أنفسنا كما نخافهم عليك فأبيت، فدلنا ذلك على سوء رأيك، فبعثنا نعاتبك على عملك فأجبتنا جوابًا باردًا لا يشفي غليلًا، وشفعته بهدية هي أَولى أن تهدى إليك كأنك تظننا في حاجة إلى المال، ولم ترسل إلينا رسولًا يخفف من غضبنا. وقد كنا نقنع منك برسول عاقل، أما الآن فلا يرضينا إلا أن تأتي أنت بنفسك أو ترسل إلينا وزيرك أو قائد جندك للاعتذار، وإن لم تفعل فلا تلومن إلا نفسك، والسلام. وما فرغ الكتاب حتَّى أخذ منه الأسف مأخذًا عظيمًا، ونظر إلى الخليفة فرآه مطرقًا يفكر، فظنه قد اعتبر ولا يلبث أن يطاوعه في استرضاء هذا الفاتح التتري، فإذا هو قد وقع بصره إليه وقال: «كيف رأيت أيها الوزير؟» قال: «الرأي لمولاي أمير المؤمنين.» قال: «هل أعجبتك وقاحة هذا التتري، وما جزاؤه عندك؟» فلما سمع هذا التعبير استغربه، وشعر أن الخليفة لم يقدر مركزه حق قدره، فقال: «أستأذن مولاي في أمر لا بد لي من التصريح به؛ إن هذا الرجل أصبح الآن شديد البطش، وقد علمنا من جواسيسنا أنه فاز في حروبه مع الفرس وغيرهم، وأصبح جيشه عديدًا، وعنده العدة والمئونة، وإذا لم نُجِبْه جوابًا حسنًا حمل على بغداد، فالذي …» فتعرض أبو بكر للكلام باستخفاف وقال: «يحمل على بغداد؟ وهل ينال غير الخزي والفشل إذا حمل عليها؟» فازداد مؤيد الدين أسفًا ولم يجبه، لكنه وجَّه كلامه إلى الخليفة وقال: «فالذي أراه أن نسترضيه ريثما تتأهب.» فقال الخليفة: «بماذا نسترضيه؟ إنه يطلب مني أن أذهب إليه بنفسي أو أرسل إليه الوزير أو الداودار، ألم يكن الأولى أن نتلافى الأمر قبل تفاقمه؟» قال الوزير وقد أعجبه إذعان الخليفة للحقيقة: «كان ينبغي ذلك، ولم يقصر العبد في أداء النصيحة في المرة الماضية لما جاء كتاب هولاكو هذا؛ فقد شرحت لمولاي ما نخافه من هؤلاء، ورغبت إلى أمير المؤمنين أن يبعث إليه بالهدايا الفاخرة من الجواهر والمماليك والجواري، فإن القوم يرضيهم ذلك، فاعترض الداودار يومئذٍ، واتهمني بالضعف، وظنني أفعل ذلك ممالأة للعدو، وأطاعه مولاي فأرسل هدية حقيرة أغضبت هولاكو فكتب ما كتب.» وكان الداودار جالسًا فلما سمع ذكر اسمه تصدى للكلام قائلًا: «أظن الوزير يريد منا أن نذعن لهذا الطاغية ونسترضيه بكل ما عندنا، ولو فعلنا ذلك لم يزدَدْ إلا عتوًّا وطمعًا.» فقال الخليفة موجهًا خطابه إلى الداودار: «وماذا يرى قائدنا الآن، هل يذهب إليه بنفسه كما يطلب؟» قال وهو يظهر الأنفة والعظمة: «نعم أذهب إليه محاربًا إذا شاء مولاي.» فاستغرب ابن العلقمي غرور هذا القائد، وهو يعلم عجزه عن ذلك، مع فراغ الخزانة من الأموال، حتَّى اضطر الخليفة أن يقتصد من أعطيات الجند. وكان مؤيد الدين قد أشار عليه بذلك لجميع مالًا يرضي به التتر لعلهم يعودون بلا حرب. وكان جيش بغداد ١٠٠٠٠٠ فارس، فسرح منه ٨٠٠٠٠ واستبقى عشرين ألفًا والداودار يعلم ذلك؛ فهل يحارب التتر بهذا العدد؟ أما الخليفة فلم يكن يجهل هذه الحقيقة، فأجاب الداودارَ قائلًا: «كيف تخرج لمحاربتهم وليس عندك إلا عشرون ألفًا؟» قال: «صدق أمير المؤمنين، إن هذا العدد لا يكفي الآن لكننا نجند سواهم.» فقال: «هل يسهل التجنيد؟» قال: «كيف لا؟ إن المال الذي أشار الوزير باقتصاده من أعطيات الجند يكفي للتجنيد. سامح الله الوزير، إنه أخطأ بأخذه بهذا الرأي ولم نستفد منه إلا نقمة الجند علينا.» فأراد الخليفة أن يدفع عن الوزير، فتصدى أبو بكر وقال: «وما الذي يهم الوزير رضي الجند أو غضبوا؟! إنما يهمه ألا يغضب هولاكو.» ••• فكان لهذا الكلام وقع شديد على نفس ابن العلقمي، وتذكر كتابه الضائع فخاف أن يكون لهذا الكلام علاقة به، فأغضى عن وقاحة ذلك الشاب إلى مخاطبة الخليفة، ثم أجاب الداودار فقال: «إن ما أشرت به من قبل لا أزال عليه حتَّى الآن، وما جمع لدينا من المال المقتصد لو استرضينا به هولاكو لرضي وكفانا مئونة الحرب. أما الآن وأنت قائد الجند، فإذا كنت ترى جندنا قادرًا على الحرب، فالرأي راجع لأمير المؤمنين.» فنظر الخليفة إلى ابن العلقمي وقال: «هل هذا هو رأي الوزير فيما نحن فيه؟» قال: «نعم أرى أن نسترضي هولاكو بما أمكن غير الحرب.» قال الخليفة: «إنه يطلب أن أذهب أنا إليه أو أنت أو الداودار.» قال: «يرسل المولى من شاء منا.» فقطع أبو بكر أحمد كلامه قائلًا وهو يضحك متهكمًا: «أظن الوزير يتمنى أن يذهب هو بهذه المهمة لزيارة صديقه الخاقان.» وقهقه ضاحكًا. فاستغرب المستعصم هذا القول، ونظر إلى ابنه نظرة توبيخ على هذا المزاح، فوقف أبو بكر وأظهر الجد وقال: «إنني أقول الحق يا أبي، اسأل الوزير، ألم يكن بينه وبين هولاكو صداقة ومراسلة؟» فأجفل الوزير وترجح عنده أن أبا بكر مطلع على شيء مما بينه وبين هولاكو، فأظهر اشمئزازه من ذلك الحديث والتفت نحو الخليفة معاتبًا، فالتفت الخليفة إلى ابنه وقال: «لا محل لهذا الكلام يا أحمد الآن.» فمد أبو بكر يده إلى جيبه وأخرج كتابًا دفعه إلى أبيه وقال: «وهذا الكتاب يشهد بذلك.» فتناول المستعصم الكتاب وقرأه، ثم نظر إلى مؤيد الدين فرآه مطرقًا، فقال له: «أتعرف هذا الكتاب؟» فرأى من الحزم أن يتجلد فنظر إلى الكتاب وقال: «أعرفه يا مولاي وقد كان معي وسرق مني.» فرماه المستعصم إليه وقال: «إنه يؤيد كلام ولدنا، ويدل أيضًا على أن بينك وبين هولاكو تزاورًا.» فالتقط مؤيد الدين الكتاب وقال: «نعم يا سيدي، لكن هل يدل على أني متفق معه على عمل، أم هو يشكو من رفض مطالبه؟» فقال أبو بكر: «ولكن على كل حال يظهر مما في آخره أن المخابرة بينكما قديمة. ألم يكن يجدر بك أن تُطْلع أمير المؤمنين على ذلك. ما أدرانا بما دار بينكما؟ والأرجح أنك متفق معه على تسليم البلاد إليه، وإنما اختلفتما في كيفية تسليمها. ليس هذا شأن الوزير المخلص لمولاه كما تدعي.» فتحيَّر مؤيد الدين بماذا يجيب، وهمَّ بالكلام فرأى الخليفة يشير إليه أن يسكت، وقد بان الغضب في وجهه ثم قال: «صدق أبو بكر، لم أكن أتوقع منك ذلك مع ثقتي بك. كان ينبغي أن تطلعني على ما يدور بينك وبين عدونا قبل الآن.» فأراد ابن العلقمي أن يدفع عن نفسه، فأشار إليه المستعصم أن يسكت وقال: «طالما دافعتُ عنك وكذَّبت ما ينقلونه لي والتمست لك الأعذار، أما الآن فظهر لي أن كلامهم هو الصواب، ولا أفهم لسكوتك عن اتصال هولاكو بك معنًى سوى أن لك في ذلك غرضًا أو مطمعًا، ولولا ذلك لأطلعتني على ما دار بينكما.» فلم يُطِقْ مؤيد الدين صبرًا على السكوت فقال: «لم أَرَ فائدة من إطلاع مولاي على ما يكدره، وإنما يطلب مني أن أحافظ على الولاء له وأدافع عن مقام الخلافة. فهل في هذا الكتاب ما يدل على خيانة؟ فإذا كان فيه شيء من ذلك فالعبد رهين أمر مولاه.» فاعتدل المستعصم في مجلسه وقال: «حسنًا. وهل كان في إطلاعي على مكان تلك الجارية ضرر أيضًا؟» فاستغرب مؤيد الدين قوله وقال: «أي جارية يا مولاي؟» قال: «جارية أبي بكر الذي ذبح أهل الكرخ بسببها.» قال: «وما شأنها فيما نحن فيه؟» فقال الخليفة: «ما كنت أظنك تجهل شأنها، ألم تكن تعلم أن مقتلة الكرخ إنما جرت بسببها لأن أبا بكر علم أنها مختبئة هناك وأنكروها عليه؟» قال: «بلى!» قال: «وقد قلت لنا يومئذٍ أنك لا تعرف عنها شيئًا.» قال: «نعم.» قال: «كيف تقول ذلك وهي مخبوءة في منزلك؟» فأجفل مؤيد الدين عند سماع ذلك وقال: «مخبوءة في منزلي؟» قال: «نعم. أو منزل بعض أهلك في الكاظمية. وقد استرجعها أبو بكر أمس بهمة الداودار.» فتذكر مؤيد الدين شوكار وأن سحبان أخذها من عنده ليخبئها في الكاظمية، ولمَّا تذكر ذلك سُري عنه لأنه سيفوز بها على أبي بكر لعلمه أنها جارية المستعصم وقد خطفها أبو بكر لنفسه، فقال وهو يظهر الاستخفاف: «هل أمير المؤمنين واثق بما قيل له؟» قال: «هذا أبو بكر، وهذا الداودار، وقد أتيا بها أمس من الكاظمية.» قال: «هل رآها أمير المؤمنين؟» قال: «لا. لم أَرَها ولكني لا أشك في صدقهما.» ووقف أبو بكر وهو يظهر الغضب وقال: «وهل أنا كاذب؟» فقال له مؤيد الدين: «لا أعلم ولكنني أعلم أني غير كاذب. وبما أنك وجهت إليَّ تهمة الخيانة فيقتضى أن تثبت قولك بالبرهان. فإذا أثبتَّه فإني مذعن لحكم مولاي.» فقال أبو بكر: «لا حاجة إلى إثبات ذلك فإنه ثابت عندنا جميعًا.» وجلس وراح يتشاغل بفتل شاربيه ويظهر الازدراء، وقد خاف أن يلح مؤيد الدين في طلب الجارية ليراها أبوه فيفتضح أمره، وندم على ذكر هذه الجارية لأبيه، لكنه لم يكن يعلم أن مؤيد الدين مطَّلع على تاريخها. أما مؤيد الدين فازداد تمسكًا بقوله ووجَّه كلامه إلى الخليفة وقال: «هل من ضرر إذا أمر مولاي أمير المؤمنين بإحضار الجارية لنراها ونطلب شهادتها؟» فقال: «لا ضرر من ذلك.» والتفت إلى أبي بكر وقال: «أين هي؟» فأظهر الاشمئزاز من ذلك الطلب وقال: «ما الداعي لاستقدام جارية إلى ديوان أمير المؤمنين؟ وما هي أهميتها؟» قال مؤيد الدين: «إنها ذات أهمية كبرى؛ لأن الوزير متهم بالخيانة والكذب بسببها، فالمطلوب إثبات ذلك.» فنهض أبو بكر وهو يظهر عدم المبالاة وقال: «ليس أمر هذه الجارية مهمًّا، وإنما المهم كتاب هولاكو، وقد اطلع عليه والدي وكفى.» قال ذلك وتحوَّل وخرج بلا استئذان وأبوه ينظر إليه، وقد سره خروجه لئلا يفرط منه كلام يسيئه، لكنه كان يحب بقاءه ليتحقق أمر تلك الجارية فناداه وقال: «أحب أن تتم أمر البحث في أمر الجارية.» فقال: «لا أهمية لها، وأنا أسامح الوزير على خطيئته بشأنها.» فقال الوزير: «أما أنا فلا أسامح نفسي. أحب أن تأتي الجارية وتثبت الخيانة عليَّ أو على غيري، وطلبي هذا حق.» فما زاد أبو بكر على أنْ ضحك ومشى وأبوه يتبعه بنظره. أما مؤيد الدين فالتفت إلى الخليفة وقال: «يأمر مولاي باستقدام الجارية إلى هنا، وهذا الداودار يعرفها لأنه كان مع الأمير أبي بكر لما أخرجاها من منزل بعض أهلي في الكاظمية كما يقول.» فالتفت الخليفة إلى الداودار كأنه يأذن له في الكلام، فقال مخاطبًا الوزير: «وهل أنت في شك من قول مولانا أبي بكر؟» قال: «لا شك عندي في قوله ولا قولك، لكني ألتمس من مولاي الخليفة أن يأمر باستقدامها.» فأشار الخليفة إلى الداودار قائلًا: «لا أرى بأسًا من استقدامها فافعل.» ولم يكن الداودار يعرف علاقة هذه الجارية بالخليفة؛ ولذلك لم يَرَ بأسًا من إحضارها، فنهض وهو يقول: «أنا ذاهب بأمر مولاي لاستقدام الجارية بدون أن أستأذن الأمير أبا بكر.» قال الخليفة: «افعل.» فخرج الداودار وظل ابن العلقمي جالسًا يفكر فيما وفق إليه من التغلب على عدوه، والخليفة مطرق لا يتكلم. ولم يمضِ كثير حتَّى عاد الداودار لأن المنزل الذي وضعوا فيه شوكار كان قريبًا من قصر التاج. دخل الداودار ووقف وقفة الظافر وقال: «إن الجارية بالباب، هل أدخلها يا مولاي؟» قال: «لتدخلْ.» فدخلت ومؤيد الدين ينظر إلى الباب بلهفة مخافة أن يكون قد جاء بجارية أخرى غير شوكار. فلما وجد أنها هي انشرح صدره. أما شوكار فوقفت مطرقة، فخاطبها الخليفة قائلًا: «ألم تكوني مخبوءة في الكاظمية وجاء بك قائدنا هذا أمس؟» قالت: «بلى يا مولاي.» قال: «ومن خبأكِ هناك؟ اصدقيني.» قالت: «وهل يجسر أحد على الكذب في حضرة أمير المؤمنين، خبأني رجل اسمه سحبان.» قال: «ألم يكن الوزير مؤيد الدين الذي خبأك؟» قالت: «كلا يا مولاي، ولم يكن يعرف أني مختبئة هناك.» قال: «ألا تعرفين وزيرنا قبل الآن؟» فتحيرت في الجواب وتلعثمت لأنها توسمت من وراء تلك الأسئلة سوءًا يريده الخليفة بالوزير، وهي لم تَرَ من الوزير إلا الخير، ولا تحب مع ذلك أن تقص خبرها على الخليفة فأُرتِج عليها. فوقف مؤيد الدين وقال للخليفة: «يتفضل مولانا بالسؤال عن اسمها، ومن أين أتت إلى بغداد، وما سبب مجيئها.» فقال الخليفة: «وما علاقة ذلك بما نحن فيه؟» قال: «سيرى مولانا أنه ذا علاقة كبرى بذلك، وسيكشف له عن أمور جليلة.» فقال الخليفة: «ما اسمك؟ ومن أين أتيت؟ ولماذا؟» ففهمت شوكار من تعرض ابن العلقمي لهذا الأمر أنه يريدها أن تقول الحقيقة، فقالت: «اسمي شوكار، وقد جئت من مصر لأكون مغنية في قصر أمير المؤمنين.» فلما سمع الخليفة قولها أجفل وخفق قلبه؛ إذ ترجح له أنها المغنية التي كان قد أضاعها، فنظر إلى مؤيد الدين ثم إلى الداودار وقد تولَّته الدهشة وأعاد السؤال عليها قائلًا: «أنت شوكار جارية شجرة الدر؟» قالت: «نعم يا مولاي، إني شوكار جارية شجرة الدر.» قال: «من أخذك مني؟ وأين كنت كل هذه المدة؟» قالت: «أخذني ابنك الأمير أبو بكر وأخفاني عنده.» قال: «ألم تكوني أنت الجارية التي حدثَت مقتلة الكرخ من أجلها؟» قالت: «أنا تلك الجارية يا مولاي، وكنت قد فررت للنجاة بنفسي.» قال: «وكيف أخذك ابني وأنت محمولة إليَّ؟» قالت: «لما وصلت مع الركب إلى قرب بغداد جاءنا جند قالوا إنهم قادمون من قصر أمير المؤمنين ليأخذوني إليه، فدفعني الركب إليهم فأخذوني إلى قصرٍ عرفتُ بعد ذلك أنه للأمير أحمد أبي بكر …» فأخذ الغضب من الخليفة مأخذًا عظيمًا، وندم الداودار لأنه تصدى لحمل الجارية إلى هناك، وأصبح خائفًا على أبي بكر من غضب أبيه، فوقع في حيرة، وأعاد النظر إلى تلك الجارية بدهشة. وظل مؤيد الدين ساكتًا وقلبه يرقص فرحًا لفوزه، أما شوكار فقد عدت انتقالها من بيت أبي بكر إلى بيت الخليفة فرجًا، وإن كانت تفضل الانتقال إلى مصر. ••• وحينما تحقق الخليفة الواقع صفق، فجاءه غلام فأومأ إليه أن يأخذ شوكار إلى قصر التاج ويسلمها إلى القهرمانة ويوصيها بها خيرًا، والتفت إلى الداودار وقال: «قد سمعت الآن أن الذين أعانوا أحمد على هذه الجريمة من الجند. أيليق ذلك بالأجناد؟ أليست هذه خيانة منهم؟» فاعتبر الداودار هذا التوبيخ موجهًا إليه لأنه القائد العام، فاضطر في سبيل الدفاع عن نفسه أن يشكو ابن الخليفة، فقال: «لم يفعل الجند ذلك بأمري، وإنما فعلوه بأمر الأمير أحمد أبي بكر، وهل نستطيع أن نخالف له أمرًا؟» قال: «كيف لا؟ أتطيعون ابني في سبيل معصيتي، وأنا لا أزال حيًّا؟» وتحرك في مجلسه من شدة الغضب وأخذ يلهث وينفخ ويصر على أسنانه، فخُيِّل لمؤيد الدين أن أبا بكر لو كان حاضرًا لأمر الخليفةُ بقتله، وود لو أنه يحضر، وإذا بالخليفة يقول للداودار: «أين أحمد الآن؟» قال: «لا أعلم يا مولاي.» قال: «إليَّ به حالًا أينما كان.» فخرج الداودار، ونظر الخليفة إلى مؤيد الدين نظر الاعتذار لأنه شك فيه وقال: «لقد أسأنا الظن بك يا وزيرنا. جوزيت خيرًا، لماذا لم تطلعني على خبر هذه الجارية من قبل؟» قال: «لأني لم أعرف بها إلا منذ أيام قليلة، وقد قلت للذي قصَّ عليَّ خبرها أن يخبئها في مكان أمين ريثما نطلع أمير المؤمنين على أمرها في فرصة مناسبة لا يدري بها الأمير أبو بكر؛ لأننا لو أردنا أن نفعل ذلك بعلمه لما نجونا من الأذى، وهو ابن أمير المؤمنين والجند طوع إرادته.» فهز الخليفة رأسه وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون. إني أخطأت بإطلاق سراح ابني هذا، ولو كان محجورًا عليه كما كان الأمراء قبله لَمَا كان في مثل هذه الأخلاق، ولَمَا جرَّ علينا هذه البلايا. لأحبسنَّه ولأحجرنَّ عليه ولأعلمنَّه كيف يكون مطيعًا، قبَّحه الله من ابن عاق!» وبينما هما في ذلك إذ سمعا ضوضاء بالباب عرفا منها صوت أبي بكر وهو يقول بلحن الغضب: «أما كفاه مَن في داره من النساء حتَّى يطمع في جاريتي؟! دعني أدخل.» وإذا بالحاجب يدخل وهو يقول: «إن مولانا أبا بكر ابن أمير المؤمنين بالباب، هل يدخل؟» فقال: «هل جاء وحده؟» قال: «نعم.» قال: «وكيف ذلك، أليس الداودار معه؟» قال: «لا.» ولَم ينتظر أبو بكر الإذن له في الدخول، فدخل والغضب بادٍ في محيَّاه، فلما رآه أبوه داخلًا استعاذ بالله وابتدره قائلًا: «ما هذا يا أحمد، أهكذا يدخلون على أمير المؤمنين، أين التربية ووقار الخلافة؟» فجلس دون أن ينتظر الإذن، وقال: «تسألني عن التربية وأنا ابن أمير المؤمنين وقد رُبِّيتُ في حِجره؟ ولعل ذلك من أسباب شقائي؛ يحسدني الناس على أن الخليفة أبي، ولو علموا كيف يعاملني لأشفقوا على.» قال ذلك واختنق صوته كأنه يجهش بالبكاء. فلما سمع المستعصم إجهاشه ولحظ شيئًا يتلألأ في عينيه كالدمع، خمد غضبه وتغلب حنانه، وإن لم يكن هناك ما يدعو إلى الحنان والإشفاق؛ وذلك لأن المحبة الأبوية لا تذعن للحقوق ولا تعترف بقواعد المنطق ولا تطلب البراهين، وإنما هي حاكم مستبد أكثر أعماله لا تنطبق على القوانين، وكثير منها يناقض المنطق ويخالف أحكام العقل. الأب يحب ابنه ويغار عليه، ويرى فيه حسنات لا يراها الآخرون، وهو لا يحبه لأنه يرجو منه نفعًا، أو لأنه يستحق المحبة لفضائل فيه أو حسنات أتاها، وإنما يحبه عفوًا، يحبه لأنه ابنه، ويزداد حبه له كلما شقي في تربيته، ويزداد عطفه عليه إذا رآه حزينًا. إن الوالدين ليس أدعى إلى تحريك شفقتهما من أن يريا ابنهما باكيًا وإن كانا في أشد حالات الغضب، كأن دموعه تقع على نار ذلك الغضب فتطفئها ويتصاعد دخانها فيَغشى ما هناك من دواعي النقمة، فلا يريان غير بواعث الشفقة والعطف. وكان المستعصم من أضعف الآباء قلبًا وأكثرهم حنانًا، فأوشك أن ينسى أسباب غضبه على ابنه لكنه تجلد وقال: «أبمثل هذا تخاطب أباك؟ هل يحق لك الشكوى من أبيك وقد منحك ما كان يشتهيه أبناء الخلفاء قبلك؟ كانوا مسجونين وأنت حر طليق ولك الأمر والنهي، ألم تَرَ الداودار؟ قال: لا، لم أره. لكنهم قالوا لي إنه أتى قصري وحمل جاريتي فلم أُطِقْ الصبر على ذلك، فجئت لأشكو إليه عمله. فإذا أنت تمن عليَّ بالحرية التي وهبتني إياها، وأي حرية هذه وقد ضننتَ عليَّ بجارية مع كثرة الجواري في قصرك ولكن …» فقطع المستعصم كلامه قائلًا: «لم أضنَّ عليك بجارية، لكنني عتبتُ عليك لأنك اختطفت جارية آتية من مصر باسمي.» فقال وهو يحول وجهه استخفافًا: «آتية من مصر باسمك؟ إنك لا ترى بأسا من اقتناء مئات الجواري وتبعث في طلبهن من الأطراف، وابنك الشاب إذا أخذ جارية منهن اتهمته بالعقوق وشددت النكير عليه. لو كنتُ ابن أحد العامة لم يفعل أبي معي فعل أمير المؤمنين.» قال ذلك وغص بِرِيقه وأظهر أنه ضاق صدره من الإجهاش وأنه إنما يمسك نفسه عن البكاء حياءً ثم قال: «ومع ذلك أنت أمير المؤمنين ولك الحق في أمور ليس لسواك الحق فيها. ونحن عبيدك وكل ما هو لنا طوع إرادتك. ولا يزال عندي بضع جوارٍ أُخر أبعث الداودار ليحملهن إليك. يا ليتك أبقيتني أسيرًا ولم تُرِنِي نور الحرية. إن المولود في الظلمة لا يعرف لذة النور ولا يأسف لفراقه، وإذا كنتَ قد ندمت على إطلاق سراحي، فها أنا ذا بين يديك؛ احبسني أو اقتلني، والقتل خير لأني أريحك من المتاعب.» وأظهر أنه لم يعد يستطيع التماسك عن البكاء وأخذ في الشهيق، وأوشك أبوه أن يشاركه في ذلك. أما مؤيد الدين فكان جالسًا يسمع ويرى وقد أدهشه ما رآه من الانقلاب في عواطف المستعصم، فذهب فرحه بالفوز عبثًا، واكتفى بالنجاة من الغضب، وودَّ الخروج من ذلك المجلس، ولكن لا يجوز له أن يستأذن قبل أن يرى الخليفة راغبًا في صرفه على عادة الخلفاء والملوك. فأخذ يتحرك في مجلسه ليوجِّه التفات الخليفة إلى صرفه، وقد يكون الخليفة أكثر رغبة منه في ذلك. لكن حركته لفتت انتباه أبي بكر فتحول نحوه وعاد إلى الكلام فقال: «أنا لا أشك في حب أبي، ولكن الذنب كله على هذا الوزير، الذي شب على كرهنا لأنه علوي ولا يرى لنا الحق في الخلافة.» ووجَّه خطابه إلى أبيه وقال: «وأني لأستغرب صبر والدي على رجل يكرهنا ويسعى في خلع خلافتنا ويخابر ألد أعدائنا سرًّا، وأغرب من ذلك أنه صدَّق دفاعه عن نفسه.» ومد يده إلى كتاب هولاكو، وكان ما زال في يد مؤيد الدين، فاختطفه منه بخشونة وفتحه وقال وهو ينظر فيه: «صدَّق دفاعه، وظنه بريئًا من المواطأة مع عدونا وهو يقول له في هذا الكتاب إنه صديقه، ويشير عليه بإرسال الرسالة كما قال له قبلًا، ألا يدل هذا على سبق المخابرة في شأن الخيانة؟ ومع ذلك فإن قول ابن العلقمي العلوي مصدق وقول أحمد مكذب.» وعاد إلى البكاء. فتفطر قلب أبيه لبكائه، ورأى مؤيد الدين في وجهه الانصياع إلى رأي ابنه، فأسقط في يده وتحقق أن سعيه ذهب سدًى، وود لو أنه يختفي من المجلس لئلا يسمع تأنيبًا من الخليفة نفسه، فإذا هذا يقول: «سأنظر في أمر أحمد والجارية في فرصة أخرى. أما من حيث مخابرة العدو فقد صدق أحمد يا مؤيد الدين. كيف صبرت على مخابرة ذلك العدو مدة ولم تخبرنا؟ إني واثق بأمانتك، ولكن للثقة حدودًا تقف عندها … لا، لا، لا أزال على ثقتي بك وإن خالفني أحمد. إنه قال ما قاله الآن من غضب.» فقطع أحمد كلام أبيه قائلًا: «لا، لا أقول من غضب، أنت تعرف سوء رأيي في هذا الوزير من قبل، وقد تحقق ظني فيه اليوم.» فلم يشأ الخليفة أن تنتهي الجلسة على هذه الصورة؛ لأنه يعتقد اقتدار وزيره ويرى نفسه في حاجة إليه، لكنه لم يستطع أن يغالب عواطفه الأبوية ويجدل ابنه، فأحب إقفال باب الكلام، فأبدى إشارة الصرف، فوقف مؤيد الدين واستأذن في الانصراف وهو ساكت يفكر. خرج الوزير وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا حتَّى أخطأ الطريق من الديوان إلى موقف الدواب حيث كان غلامه في انتظاره، ثم انتبه لنفسه فركب بغلته وسار قاصدًا منزله وهو لا يكاد يرى طريقه لعظم ما جاش في خاطره من الأسف واليأس والخوف. وتضاربت خواطره بين الانتقام والتربص حتَّى وصل إلى المنزل، فاستقبله قيِّم الدار على جاري العادة، فحالما وقع نظره عليه تذكر المملوك الذي كتب الرسالة على رأسه فسأل عنه فقال: «هو في حجرتي.» قال: «كيف شعره؟» قال: «قد نما حتَّى كسا رأسه، وإذا شئتَ أتيتُك به الساعة.» قال: «أحضره.» ومشى إلى غرفته وهو يفكر وخاطره مشتغل بما مر به في ذلك اليوم، وكلما تصور أبا بكر واحتقاره إياه، اقشعر جسمه قشعريرة الحقد والغيظ والكراهية. فقعد على سريره وهو مطرق، وإذا بالقيِّم قد جاء ومعه ذلك الغلام يساق كالبهيمة، وليس فيه من علامات الإنسانية إلا شكله الخارجي ونطقه إذا تكلم. فلما رآه مؤيد الدين نظر إلى رأسه فرأى شعره قد نما وتكاثر ولم يبقَ شيء ظاهر من جلده، فتفرس في رأسه وهو يناجى نفسه قائلًا: «إن تحت هذا الشعر رسالة إذا بلغت صاحبها أقام الدنيا وأقعدها وانتقم لي من ذلك المغرور الطائش. وما علي إذا أنا أرسلتها إلى هولاكو؟ إن الرجل قادم إلينا لا محالة وهو فاعل ما يريده، ولا ريب عندي بفوزه، فإذا أرسلت إليه دعوتي هذه على رأس هذا المملوك ضمنتُ حياتي وحياة من أُحب من أهلي وأصدقائي. ولو علمتُ أننا قادرون على دفع هولاكو ورجاله لم أكن لأبالي بجهالة هذا الغر واستخفافه، بل كنت أدافع عن أمتي وبلدي وأُغضي عن ضعف الخليفة وطيش ابنه. ولكن أنَّى لنا أن ندفع التتر وليس عندنا إلا عشرون ألفا قلوبهم متفرقة ونياتهم متناقضة؛ إذن …» ووضع سبابته على ذقنه كما يفعل المتأمل ثم رفع بصره إلى قيِّم القصر وقال: «أرسل هذا الغلام في المهمة التي تعرفها.» فخفق قلب القيِّم فرحًا؛ لأنه كان كثير الرغبة في الانتقام من الخليفة، فنادى الغلام إليه فتبعه، فلما خلا به أفهمه أن مولاه الوزير يريد منه أن يذهب إلى هولاكو خاقان التتر، ويقول له إنه قادم من وزير بغداد وكفى. ومتَى عاد نال المكافأة الكبرى، ففرح الغلام ومشى كالشاة تساق إلى الذبح.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/10/
شوكار في دار النساء
ذهبت شوكار مع غلام الخليفة إلى دار النساء، برغم إرادتها، لكنها كانت تفضل أن تكون فيه على أن تبقى عند أبي بكر. وكانت قد قضت فترة وجودها عنده وهي في حرب دائمة معه؛ لأنه يريدها لغير الغناء وهي تأبى ذلك، ولا سيما بعد أن جاءها كتاب ركن الدين مع الخصي عابد البصري رسولها إليه الذي كتبه وهو نافر من سعاية سلافة في شوكار، ولم يكن سعيها فيها إلا ليزيده تمسكًا بحبها، فكتب إليها كتابًا ضمَّنه العطف عليها والوعد بإنقاذها، فجاءها الرسول بالجواب المذكور وهي في حوزة ابن الخليفة، فاحتالت حتَّى أدخلت عابدًا في خدمته لعلها تحتاج إليه في شيء بعد أن اختبرت أمانته، وهو الذي أعانها في الفرار إلى الكرخ وجرى بسبب فرارها ما جرى بين القتل والنهب، وخرج معها إلى الكاظمية، ولما استرجعها أبو بكر إلى منزله كان عابد لا يزال فيه. ثم بعث المستعصم في طلبها فجاءت وحدها وأمر الخليفة بإرسالها إلى دار النساء كما رأيت. وقبل وصولها إلى الدار بلغ أهل القصر أن الجارية المغنية التي كانت مرسلة إلى الخليفة واختطفها اللصوص قد وجدت وجيء بها إلى قصر التاج، وأنها قادمة الآن إلى دار النساء. فلا تسل عمَّن تجمَّع لمشاهدتها من الرجال والنساء. وكان في قصور النساء هناك مئات من السراري والجواري على اختلاف الطبقات والأغراض، فجاء كثير منهن إلى قهرمانة القصور يستوضحن ما سمعنَه عن شوكار، وقد اختلفت الروايات في شكل هذه الجارية وطول قامتها أو قصرها ودرجة رخامة صوتها، وغير ذلك مما تُصوِّره المخيلة في مثل تلك الحال. وكان أكثر النساء اهتمامًا بأمرها المغنيات؛ لأن شوكار قادمة لمناظرتهن في عملهن، فاجتمعن وتحدثن في أمرها وما وصل إلى علمهن من الأقاويل عنها. وهذا طبيعي في الناس، وبخاصة في ذلك العصر، وبين نساء لا عمل لهن غير أمثال هذه الأحاديث؛ إذ لا يشغلهن عن ذلك كتاب ولا جريدة ولا مجلة ولا مدرسة ولا خطاب ولا اجتماع علمي ولا أدبي، مما قد يشغل نساء هذا العصر، وإنما همهن كله هذه الأحاديث والمباراة في التبرج لاجتذاب قلوب الرجال. وأول من لقيَتْه شوكار هناك أستاذ الدار — رئيس الخصيان — أخذت إليه وهو متصدر في غرفته فقبَّلت يده ووقفت باحترام تنتظر أمره، وهو الآمر الناهي في تلك القصور، وذو نفوذ كبير في الشئون السياسية، كما كان شأن بعض أغوات يلدز في زمن عبد الحميد. وبعد أن قدمت نفسها لأستاذ الدار واستفهم عن اسمها وعمرها ويوم وصولها وسائر الأوصاف المميزة لها، أمر بتدوين ذلك في أماكنه لئلا يختلط أمر النساء بعضهن ببعض لكثرتهن. وقد تتشابه الأسماء. ثم أخذوها إلى قهرمانة الدار، وهي كهلة رهلة، قد تراكم اللحم على بدنها مثل تراكم المصوغات والمجوهرات حول عنقها وزنديها، وعليها أفخر اللباس، وهي في تلك الدار كالملكة، ليس في الجواري والسراري من لا يتزلف إليها ويخطب رضاها بالمحاسنة والمجاملة والهدايا. مشت شوكار وهي مطرقة حياءً لكثرة من لقيتهم في طريقها من الخصيان والجواري وقوفًا في الدهاليز والأبواب يتفرسون فيها ويتهامسون. فلما أقبلت على غرفة القهرمانة رأت الخصيان ببابها كالحراس بأبواب الملوك، فدخلت تلك الغرفة وتلفتت لتتعرف الوجوه، فعرفت القهرمانة من مجلسها المرتفع ولبسها الفاخر. فمشت نحوها حتَّى إذا دنت منها أكبت على يدها تقبلها، فقبلتها القهرمانة وأمرتها بالجلوس إلى جانبها، وأخذت ترحب بها بعبارات مألوفة في مثل تلك الحال، لو تُلِيَت على إنسان لم يألفها لَظَن قائلها أشد الناس مودة له وتفانيًا في مصلحته، لكنها على طول التكرار أصبحت لا معنى لها، أو أن لها معنًى يناقض أصل المراد بها. فاستأنست شوكار ونظرت إلى ما في تلك الغرفة من الرياش الفاخر، وتأملت حال أهل ذلك القصر من الرخاء والنعيم، فأوشكت أن تُؤْثِر المقام هناك على الاجتماع بركن الدين. ثم نادها قلبها فأصغت إلى ندائه، ولسان حالها يقول: «ليست السعادة بالرياش والمجوهرات وإنما هي في الحب.» ثم سمعت القهرمانة تنادي بعض الخصيان وتأمره أن يهيئ لمغنية الخليفة غرفة فيها كل أسباب الراحة. والتفتت إلى شوكار وقالت: «تمكثين هنا ريثما تتهيأ الغرفة كما يليق بها، إني في انتظار قدومك من أمد طويل، وقد شُغل بالُنا خوفًا عليك، فنحمد الله على سلامتك.» فأجابتها شوكار شاكرة وقالت: «إني لا أستحق هذا الالتفات يا سيدتي، ما أنا إلا جارية حقيرة.» فأجابتها القهرمانة — أو القيِّمَة — وهي تضحك: «أنت تظنينني لا أعرفك قبل الآن، ولكنني أعرفك من عهد بعيد، وأعرف كل شيء عنك، عرفت ذلك من صديقتي قهرمانة الملك الصالح صاحب مصر، رحمه الله. أتعرفينها؟» فتذكرت سلافة وما بينها وبين سيدتها شجرة الدر من المنافسة، ولم تكن تعرف لها هذه المنزلة لدى قيِّمة قصور الخليفة فقالت: «أظنك تعنين سلافة، نعم أعرفها يا سيدتي ولم أكن أظنها تعرفني.» قالت: «بالعكس، إنها تعرفك جيدًا، وهي التي لفتت انتباهي إلى رخيم صوتك، وأنك تليقين بمجالسة مولانا أمير المؤمنين، فأشرتُ على مولانا باستقدامك، فطلبك من سلطان مصر كما تعلمين.» فأحست شوكار بفضل سلافة عليها، ولكنها كانت تفضل الخروج من ذلك القصر، غير أنها نظرت في الأمر من حيث قصدها فقالت: «الحقيقة أن حسن ظن السيدة سلافة مِنَّةٌ كبرى يجب أن أشكرها عليها، ولو عرفت ذلك لشكرتها وأنا في مصر.» قالت: «ويمكنك أن تشكريها هنا.» قالت: «وهل هي هنا الآن؟» قالت: «هي هنا منذ بضعة أيام.» ••• استغربت شوكار هذه المصادفة، وبان البِشر في محياها، وسبق إلى ذهنها حسن الظن، وتصورت أن وجود سلافة هناك سيكون أكبر تعزية لها ريثما تستطيع التخلص، وخُيِّل لها أن سلافة ستكون عونًا كبيرًا لها في ذلك، فقالت: «لله ما أسعد حظي! أين سيدتي سلافة حتَّى أقبل يدها وأشكر لها صنيعها؟» قالت: «سترينها بعد قليل، وقد سألت عنك ساعة وصولها من مصر، فأخبرتها عن ضياعك فتأسفت، ولما جاءتنا البشارة الآن بوجودك أخبرتها، ففرحت فرحًا عظيمًا، وهي آتية الساعة … هذه جاريتها قادمة … أين سيدتك يا أقحوانة؟» فأجابت الجارية: «إنها في غرفتها يا مولاتنا، وقد بعثتني لأدعو القادمة الجديدة إليها لتتمتع برؤيتها، فإنها في شوق إليها.» فضحكت القهرمانة حتَّى بانت بقايا أسنانها وما يتخللها من الفراغ في أماكن الأسنان المقلوعة وقالت: «هل تريد أن نرسلها إليها لتراها قبل أن يراها أمير المؤمنين؟» فقالت الجارية: «هذا ما قالته مولاتي، والأمر لك.» قالت: «لا بأس. إن ضيفتنا شوكار ذاهبة معك لِلِقاء صديقتنا سلافة؛ لأنها في شوق لرؤيتها وتقديم شكرها لها. وقولي لها ألا تطيل المقام؛ فلا بد من إرسالها إلى الماشطة بعد قليل لإصلاح شأنها بحيث يليق بها الجلوس بين يدي مولانا الليلة لسماع صوتها الرخيم، ولا أظنه يصبر على الانتظار إلى الغد. قومي يا شوكار إلى سلافة، وأحب أن تستأنسي بنا وتثقي بي، فإنك كإحدى بناتي.» فنهضت شوكار ومشت في أثر الجارية أقحوانة، وهي تمر من ممر إلى ممر، والغرف على الجانبين، وشعرت أن في تلك الغرفة أناسًا يتشوقون إلى رؤيتها، نعني الجواري أو السراري، فترى الأبواب بين مفتوح ومشقوق، والرءوس تطل لمشاهدتها ثم ترجع خلسة، حتَّى وصلت إلى غرفة سلافة، فتقدمتها أقحوانة وأعلمت سيدتها بمجيء شوكار. فلما أطلت شوكار على مجلس سلافة، تصاعد الدم إلى وجهها خجلًا وفرحًا؛ إذ شعرت بأن هذه السيدة أرادت الإحسان إليها بإرسالها إلى بيت الخليفة، وإن كان ذلك لم يوافق حالها. فلما شاهدتها سلافة مقبلة نهضت لها وتقدمت لاستقبالها ببشاشة وترحاب زادا الفتاة خجلًا؛ لأنها تعرف منزلة تلك السيدة في قصر الملك الصالح بمصر وقصور المستعصم في بغداد، فأكبرت تواضعها وعطفها وأكبَّت على يديها تريد أن تقبِّلها، فمنعتها من ذلك وهي تقول: «مرحبًا بالعزيزة شوكار، وأشكر الله أن رأيتك في هذا القصر؛ فقد طالما تمنيت لك هذه السعادة. هل أنت مسرورة يا شوكار؟» وأومأت إليها أن تقعد على وسادة بجانبها، فجلست شوكار وهو تقول: «أشكر لك غيرتك وفضلك يا سيدتي. إني في سعادة بحمد الله و…» فقطعت سلافة كلامها قائلة: «ولكن ساءني أنهم اختطفوك في أثناء الطريق، واليوم عرفت سبب ذلك، فالحمد لله على سلامتك. كم أنا مسرورة بلقياك، ومهما يكن من حظوتك بالقدوم إلى بغدد والمكوث في دار الخليفة، فإن الخليفة أكبر حظًّا منك بالحصول على مغنية ليس في العراق ولا مصر أرخم صوتًا منها.» فأطرقت شوكار وعيناها ولسانها ينطقان بالشكر، وقلبها ينكر ذلك الفضل؛ لأنها كانت تُؤْثر البقاء بقرب ركن الدين، ولو في سجن، على وجودها بعيدة عنه في قصر الخليفة. ولم تكن سلافة تجهل ذلك، لكنها خاطبتها بما قد تتوقعه منها؛ لأن شوكار لم تكن تعلم شيئًا مما دار بين حبيبها ركن الدين وهذه المرأة، ولو علمت الغرض الذي حملها على المجيء إلى بغداد لاقشعر بدنها وكرهت النظر إليها، فإن سلافة قد تركت مصر بعد حديثها مع ركن الدين الذي غادر دارها وقد أغضبها لأنه لم يطعها فيما أرادته منه، فتركته واقفًا ومشت بعد أن رَمَتْه بنظرة كالسهم وقالت: «سِرْ بحراسة الله، سِرْ إلى فراشك أيها الأمير، ولا تظن فشلي هذا يذهب عبثًا.» قالت ذلك يومئذٍ وقد أثار بإعراضه نقمتها منه، وانقلب حبها بغضًا، ولكنها رأت أن تتربص عساه أن يرجع إلى صوابه ويتحول عن حب شوكار، وإلا عمدت إلى أذاه. وما زالت تبث الجواسيس لاستطلاع مقاصده حتَّى علمت عزمه على السفر إلى بغداد، فأسرعت إليها لتستقصي أخباره وترى ما يكون من أمره. وكانت قد سمعت بضياع شوكار، فلما عادت وجدتها حية أخذت تفكر في حيلة أخرى، وهي تعتقد أن وجود هذه الفتاة حية يقف في سبيل غرضها. ومن أخلاق هذه المرأة إقدامها على عظائم الأمور، بلا دهاء أو تدبير سابق يضمن نجاحها؛ فإذا خطر ببالها أمر أقدمت عليه. فلما سمعت شكر شوكار لها، وعلمت حسن نيتها، وأنها لا تعلم بما دار بينها وبين ركن الدين، استسهلت تنفيذ بغيتها، فأظهرت أنها مسرورة جدًّا بلقياها، وخطر لها أن شوكار قد تفضِّل البقاء في دار الخليفة على الاقتران بركن الدين، فأحبت أن تستطلع رأيها في ذلك فقالت لها: «يظهر أنك نسيت مصر وأهلها، لك حق؛ فإن المقيم في هذه القصور بجوار أمير المؤمنين لا تخطر مصر بباله.» قالت ذلك وجعلت تتفحص ما يبدو منها، فتحيرت شوكار بماذا تجيبها، والمحب حريص على سرِّه لا يفشيه إلا لمن يعتقد إخلاصه وصدق مودته، وقد سبق إلى ذهنها أن سلافة تحبها، بدليل سعيها لها في هذه النعمة بما لها من النفوذ في تلك الدار، فتصورت أنها إذا شكت إليها حقيقة حالها فربما ساعدتها على التخلص من بغداد والرجوع إلى مصر، فترددت في الجواب، وبان التردد في عينيها، ولحظت سلافة ذلك فيها فقالت لها: «ما بالك لا تتكلمين يا حبيبتي؟ قولي، يظهر أنك تستحين منِّي أو لا تثقين بي.» فخجلت شوكار من هذا التوبيخ وقالت: «كلا يا سيدتي، إني أقدر تنازلك حق قدره، ولولا حبك لي لم تسعي لي في هذه السعادة، ولكن …» وسكتت. فقالت سلافة: «ولكن ماذا يا شوكار؟ ألم أقل لك أنك لا تثقين بي؟» قالت: «العفو يا سيدتي، لكنني أستحي أن أقول ما في خاطري لئلا تضحكي مني …» قالت: «أضحك منك؟ لماذا؟ فأطرقت وقد توردت وجنتاها وجعلت تتشاغل بطرف جديلتها تلفها على سبابتها، ثم قالت: «إن الإقامة في هذه القصور تشتهيها كثيرات، وربما حُسِدْنَ عليها، لكنني أفضِّل الرجوع إلى مصر.» فأظهرت سلافة الاستغراب وقالت: «ترجعين إلى مصر؟! وما الذي خلفتِه هناك؟ إلا أن تكوني مخطوبة لأحد. حتَّى هذا فإنك تجدين بدلًا منه في بغداد، وإذا سمع الخليفة غناءك ومهارتك في ضرب العود، فربما أَصَبتِ نصيبًا لا يتيسر لك مثله في مصر.» فقالت شوكار بكل بساطة وإخلاص: «ليست السعادة في قربي من الخلفاء ولا بالتزوج من أمير أو شريف، وإنما هي في الحب المتبادل.» قالت ذلك وتورد وجهها حياءً، فحولته إلى ستارة معلقة بالحائط عليها صور بعض الطيور وتشاغلت بالنظر إليها. فابتدرتها سلافة قائلة: «إذا كنت عالقة القلب ببعض الشبان في مصر فاحذري ولا تنخدعي. قد يكون ذلك الشاب حينما علم بسفرك تزوج غيرك. وهَبِي أنه تزوجك، فليس أسهل على الرجال من الطلاق. لا تثقي بأحد منهم، أقول لك هذا عن اختبار.» فابتسمت شوكار ابتسام النصر لثقتها بحبيبها وقالت: «إن الشاب الذي أحبه على خلاف ما تقولين، وأنا واثقة من ثباته على حبي. وقد يأتي إلى هذا البلد لإنقاذي.» فضحكت سلافة باستخفاف لتحمل شوكار على التصريح بما في قلبها، وهزت رأسها هز الإنكار وسكتت، فقالت شوكار، «أؤكد لك يا سيدتي أن خطيبي هو كما أقول لك، ولو عرفتِه لوافقتِني على رأيي.» فأحبت سلافة أن تتبع الحديث إلى آخره فقالت: «ما اسمه؟» وأخذ قلبها يخفق لعلمها بالجواب قبل سماعه. فقالت شوكار: «هو الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، ولا شك أنك تعرفينه، فهل أُلام على حبه؟» قالت ذلك وأبرقت عيناها، وأكبت على يد سلافة تقبلها وهي تقول متضرعة: «بالله يا سيدتي ساعديني، فليس في الدنيا أحد يقدر أن يحقق لي هذه الأمنية سواك. أنت جئت بي إلى هذه المدينة، وأنت وحدك تقدرين على إرجاعي إلى مصر.» وشرقت بدموعها. وكانت سلافة حالمَا سمعت اسم ركن الدين قد هاجت عواطفها وزادت نقمتها ويئست من النجاح في هذا السبيل، فتظاهرت بالحنان عليها وتلطفت إليها وقالت: «نعم أعرف الأمير ركن الدين، وهو من خيرة الأمراء، وإذا كنت على ثقة من حبه فإني أبذل جهدي في مساعدتك لأني أحببتك كثيرًا ولا غرض لي إلا راحتك وسعادتك.» فلما سمعت شوكار كلامها اعتقدت صدقه، فاختلج قلبها في صدرها من الفرح وقالت وهي تضحك: «صحيح؟! صحيح ما تقولين؟! ترجعينني إلى مصر؟! شكرًا يا سيدتي، أسرعي في إنقاذي؟» وهمت بتقبيل يدها، فمنعتها وضمتها إلى صدرها تحببًا. ولو علمت شوكار بما يكنُّه ذلك الصدر نحوها لأجفلت وتراجعت، لكنها صدَّقت واعتقدت قرب الفرج. أما سلافة فقالت: «يصعب إنقاذك سريعًا، وأنت لم يمض عليك يوم بقصر أمير المؤمنين الذي أمر بإصلاح شأنك ليسمع صوتك في هذه الليلة، كوني مطمئنة، إني لا أدخر وسعًا في إجابة طلبك، ولا بد من حيلة أدبرها لك.» فأحست شوكار بارتياح كثير، وعولت في نجاتها على سلافة، وشكرت الله لالتقائهما. ••• والتفتت سلافة إليها بلهفة كأنها استدركت شيئًا فاتها، أو أنها وفقت إلى رأي جديد وقالت: «اسمعي يا عزيزتي، إذا لم يكن بد من الرجوع إلى مصر، فالأوفق أن نبدأ بالسعي من هذه الساعة، أما بعد أن يسمع أمير المؤمنين صوتك فسيصبح الخروج صعبًا.» فتأكد لدى شوكار صدق رغبتها في إنقاذها فقالت: «وما هو الرأي يا سيدتي؟ إني رهينة إشارتك، أفعل ما تأمرين به.» قالت: «أرى أن تبدئي من الآن فتشكي من صداع في رأسك وألم في حلقك، وأنا أرفع خبر ذلك إلى القهرمانة وأقنعها بصحته، ثم أحتال في نقلك إلى قصر آخر أهداه إليَّ الخليفة لأقيم فيه على مقربة من قصر التاج، ومتَى صرتِ هناك هان إنقاذك.» فخدعت شوكار بهذا القول، واستبشرت به، ورأت فيه سبيلًا لعودتها إلى حبيبها ركن الدين، فانحنت على قدمَي سلافة تحاول أن تقبلهما وقالت: «شكرًا لك يا مولاتي، شكرًا لك، إني أشعر بالصداع من الآن.» فتناولت سلافة منديلًا عصبت به رأسها، وصفقت فجاءتها أقحوانة وهي تقول: «إن مولاتنا القهرمانة استبطأت شوكار فبعثت في طلبها لأن أمير المؤمنين آتٍ بعد قليل.» فقالت: «انظري، إنها مريضة تشكو صداعًا شديدًا وألمًا في حلقها، وقد تعبت في معالجتها، فالأحسن أن تعتذر القهرمانة إلى أمير المؤمنين من غيابها ريثما تشفى.» فذهبت أقحوانة إلى القهرمانة بالخبر، فأسرعت هذه لمشاهدة شوكار وهي تقول بصوت جهوري خشن: «كيف ذلك؟ مولاي الخليفة يأتي بعد قليل، وقد قضى زمنًا طويلًا في انتظار هذه المغنية، فكيف تمرض في ساعة وصولها؟» ولما وصلت إلى غرفة سلافة رأت شوكار مستلقية على الأرض وهي تصيح من شدة الألم وقد تغير لونها، فلم يسعها عند رؤيتها إلا الإشفاق عليها، ونظرت إلى سلافة فرأتها شديدة الاهتمام بها والحنو عليها فقالت لها: «أحب أن أنقل هذه المسكينة إلى دار المرضى ليعودها الطبيب ثم …» فقطعت سلافة كلامها قائلة: «لا، لا تنقليها إلى مكان، دعيني أهتم بأمرها. دعي ذلك لي …» قالت ذلك وهي تهتم بتغطية شوكار وتلمس جبينها وخديها ثم قالت: «دعي أمرها لي، وإذا اقتضت الحال نقلها، نقلتُها إلى قصري؛ لأن موقعه يساعد على سرعة شفائها.» فعادت القهرمانة وهي تهيئ الأعذار للخليفة لتخلف مغنيته بعد أن منَّى نفسه بها على أثر انتظاره الطويل للحصول عليها، وقبل وصولها إلى غرفتها جاءها رسول الخليفة يدعوها إليه، فذهبت مهرولة إلى غرفته، فوجدته يعد نفسه للذهاب إلى المنظرة، وقد أخذ يلبس ثياب المنادمة. فلما وقع بصره عليها صاح بها: «أين المغنية الجديدة؟ لقد ظفرنا بها بعد طول الانتظار، والحمد لله. هل جربت صوتها؟ هل أسمعَتْك إياه؟ يقولون إنها أرخم النساء صوتًا وأتقنهن صنعة. قد آن لي أن أستريح من مهام الدولة ومتاعبها، سامح الله أبا بكر، إنه سبب هذه المتاعب كلها.» واسترسل المستعصم في الكلام وهو واقف والخادم يساعده على لبس الغلالة ولف العمامة الصغيرة، والقهرمانة واقفة تنتظر سكوته لتجيبه على أسئلته. فلما سكت قالت: «إن جاريتك شوكار مريضة الآن.» فصاح فيها: «مريضة! لقد رأيتها اليوم في عافية. متَى مرضت؟» قالت: «كانت في خير، لكنها أصيبت منذ ساعة بصداع شديد كاد يقتلها، وقد اهتمت جاريتك سلافة بأمرها.» فقطب المستعصم حاجبيه، وكان الخادم الواقف بين يديه يناوله منطقة من الحرير ليتمنطق بها، فتناولها ورمى بها إلى الأرض، وألقى نفسه على المقعد كأنه يستريح من تعب، وتنهد وقال: «يا لله من سخرية القدر؟ لقد تشاءمت من هذه الجارية، فإنها منذ خروجها من مصر وأمورها معرقلة، ولما ظفرنا بها مرضت، وأخاف أن تكون شؤمًا علينا فيما نحن فيه.» وأطرق لحظة ثم قال: «يا ليتها ظلت عند أبي بكر ولم نغضبه لأجلها، وهل تظنين مرضها يطول؟» قالت: «إنها تشكو صداعًا وألمًا في حلقها، والأمل أن تشفى في يومين أو بضعة أيام. وإذا لم تشفَ فغيرها خير منها، إن الجواري المغنيات كثيرات في خدمة أمير المؤمنين. هل يأمر بتهيئة سواها؟» قال: «هيئي من شئتِ منهن، إني في حاجة إلى الراحة بعد تعب هذا النهار. هل علمت ماذا جرى لنا اليوم مع أبي بكر؟» قالت: «إنه غضب لذهاب شوكار من يده، وقد أخطأ لأنه أخذها وهو يعلم أنها محمولة لمولانا أمير المؤمنين. لكنه فعل ذلك بِدالَّةِ الابن على أبيه …» وقد استرضته بهذه العبارة. وهو إنما سألها هذا السؤال ليسمع منها هذا الجواب؛ لأن قلبه ما زال مشغولًا من جهة ابنه، يتنازعه في شأنه عاملان: أحدهما النقمة عليه لأنه تجاوز حدوده وتعدى على حقوق أبيه، والثاني عطفه عليه ورغبته في إرضائه، والعامل الأخير أشد ظهورًا وأكثر تسلطًا على قلبه. وهو يعلم أن تلك القهرمانة تحب أبا بكر، أو هي تعرف حبه إياه، فلا تجيب إلا بما يخفف من غضبه عليه، فسألها ذلك السؤال ولم يكن عنده ريب في اطِّلاعها على ما جرى في جلسة ذلك اليوم، وإن كانت في دار النساء. فأنها كانت كثيرة التدخل في شئون الدولة والاطلاع على ما يجري منها؛ لأن المستعصم كثيرًا ما كان يذكر ذلك بين يديها على سبيل التفاخر، فأصبحت كثيرة النفوذ عنده شأن الدول في عهد انحطاطها. فلما سمع الخليفة قولها عن أبي بكر سرِّي عنه وقال: «صدقتِ، إنه فعل ذلك بحسن نية، وقد جرأه عليه الداودار، وكان ينبغي لهذا أن يردعه ويقف في وجهه.» ولم تكن القهرمانة تحب الداودار لأنه جندي خشن لا يحترمها، فلما سمعَت الخليفة ينتقده وافقَته وقالت: «طبعًا كان يجب على الداودار أن يردعه. لكنه يفعل ذلك بِدالَّته على أمير المؤمنين لأنه قائد جنده، وتلك دالة كاذبة؛ إذ يستطيع أمير المؤمنين أن يبدل بداوداره أحسن منه، لكنه لا يبدل بابنه سواه …» قالت ذلك وضحكت إعجابًا بهذا التعبير، وأظهرت أنها تهتم بالخروج لتهيئة جلسة الغناء، فأجابها بضحكة من نوع ضحكتها وقد فهم قصدها، وهي تعني أن يعزل الداودار وقال لها: «ابعثي إلى أبي بكر ليحضر هذا المجلس معنا. عسانا أن نعوضه ونرضيه.» فأشارت إشارة الطاعة وانصرفت. ••• تركنا مؤيد الدين في داره وقد بعث رسوله إلى هولاكو بعد أن يئس من الإصلاح، على أنه ظل برهة بعد إرسال الغلام وهو غارق في التفكير، تتناوبه الخواطر المتضاربة بين ندم وارتياح، لكن الارتياح كان غالبًا عليه؛ لأنه لم يُقْدم على مخابرة هولاكو إلا بعد تردد طويل. قضى ذلك اليوم ولم يخرج من منزله، ومضت أيام أُخر وهو لا يريد أن يرى أحدًا ولا أن يخاطب أحدًا لعظم قلقه وفظاعة ما أقدم عليه، وازداد قلقه لأن الخليفة لم يسأل عنه، ولم يَدْعُه إليه، فعد ذلك تغيرًا عليه، ففضل البقاء في منزله كالمحاصر ريثما يرى ما يحدث. وأصبح ذات يوم، فإذا بطارق يطرق الباب، فعرف مِن طَرْقه أنه سحبان، وكان قد طال غيابه هذه المرة حتَّى قلق عليه، فلما رآه مقبلًا رحب به وأشار إليه أن يقعد، ورأى في وجهه تغيرًا فقال: «ما وراءك يا سحبان؟ أراك متغيرًا.» قال: «وأنا أراك متغيرًا أيها الوزير. ولا عجب إذا رأيتَ فيَّ تغيرًا، فإنا إذا بقينا على رأيك، فنحن متغيرون جميعًا، بل نحن منتقلون إلى الدار الآخرة عما قريب.» قال ذلك وتشاغل بعضِّ شفته السفلى كأنه يفكر. فأدرك مؤيد الدين أن سحبان ينتقد صبره على المستعصم ومحافظته على ولائه إلى هذا الحد، فضحك وقال: «إن الانتقال إلى الآخرة خير لنا من هذه الدنيا.» قال: «نعم، ولكننا لا ينبغي أن ننتقل قبل أن ننتقم.» قال: «لك عليَّ ذلك.» ولم يكن سحبان يتوقع سرعة الموافقة، فاستغرب جوابه وقال: «ومتَى؟» قال: «منذ بضعة أيام.» فدهش سحبان ونهض فجأة متأثرًا وقال: «ماذا تعني؟ أظنك لم تفهم مرادي.» قال: «كيف لا؟ ألم تقصد التخلص من أولئك القوم، ولو استنجدنا عليهم الغرباء؟» قال: «بلى!» قال: «قد فعلت، فاصبر لنرى النتيجة.» فتلفت سحبان حوله خوفًا من أن يسمعه أحد وقال: «استنجدتَ هولاكو، كتبتَ إليه أن يأتي؟» قال: «لقد فعلتُ ذلك، وكنت أنتظر مجيئك قبل الآن لأخبرك وأرى رأيك …» فقطع سحبان عليه كلامه وصاح: «وهل لي رأي غير ذلك؟! هذه هي أمنيتي، إذا حصلت عليها لا أبالي إن أنا مت الساعة، وقد جئتك الآن بأمر جديد مهم لكنه لا يقف في سبيلنا.» قال: «وما هو؟» قال: «الأمير أحمد الذي سميناه الإمام، أنت تعلم أنني بعد أن أتيت به إلى هنا أرجعته إلى حيث كان في قصر الفردوس. وكأن القوم أدركوا قصدنا، أو لعلهم علموا بخروجه وارتابوا في حرس قصره، فنقلوه إلى قصر آخر.» قال: «نقلوه إلى قصر باب كلواذي في الجنوب، وأقاموا عليه الحراس وشددوا التضييق عليه.» قال: «هو الآن في كلواذي؟ ولماذا فعلوا به ذلك؟» قال: «فليفعلوا ما يشاءون، إنه خليفتنا حيثما كان، وهل يصعب علينا إخراجه من سجنه متَى تم لنا ما نطلبه؟! إذا دخل التتر بغداد وقبضوا على هذا الخليفة فستكون أنت معهم فترشدهم إلى الإمام أحمد فيولونه الخلافة. آه ما أجمل ذلك اليوم السعيد! وأسعد منه أن نعيد دولتنا العلوية. هذه هي أمنيتي الحقيقية.» فنظر مؤيد الدين إليه وهو يغبط فيه ذلك الأمل الواسع والوثوق بالنجاح لأضعف الأسباب. إن صاحب هذا الخلق قد يخطئ ويفشل، لكنه أقرب إلى السعادة من الرجل الحذر الكثير الشكوك الذي يرى السعادة في قبضته ويشك في وجودها. ولذلك استغرب مؤيد الدين سرور سحبان واطمئنانه لا لشيء إلا أن سمع منه أنه وافق هولاكو على القدوم إلى بغداد، وفاتَه ما يعترض نجاح من العقبات، وأنه قد عرض نفسه في هذا لخطر جسيم. ثم رفع نظره إلى سحبان وقال: «وفقنا الله في سعينا على القوم الظالمين.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/11/
ركن الدين في بغداد
وبينما هما في ذلك، إذ سمعا قرع الباب. وكان الباب بعيدًا عن غرفة الوزير، ولم يكن يهتم لسماع قرعه من قبل، أما الآن فإنه لشدة قلقه أصبح لا تفوته حركة مما يحدث في البيت، فتطلع نحو الباب، وإذا بغلامِ سحبان قد دخل وفي وجهه تغير، فقال له سحبان: «من أين أتيت يا غلام؟» قال: «أتيت من المنزل يا سيدي.» قال: «ولماذا؟» قال: «لأن قادمًا غريبًا جاء يطلبك وألح على أن أوصله إليك حالًا، فجئت به لعلمي أنك في دار الوزير.» قال: «من هو هذا القادم؟ وأين هو؟» قال: «لم يشأ أن يخبرني عن اسمه، لكنه جاء معي وهو واقف في انتظار الإذن له.» فالتفت سحبان إلى الوزير كأنه يستأذنه في إدخال ذلك الضيف، فقال الوزير: «أدخله.» فعاد الغلام ومعه رجل حسن البزة عليه لباس السفر، وحالمَا وقع نظر سحبان عليه صاح: «الأمير ركن الدين؟! الأمير ركن الدين؟!» ونهض لملاقاته والترحيب به.» ونهض مؤيد الدين وهو يقول: «مرحبًا بالأمير ركن الدين.» فمشى ركن الدين حتَّى دنا من الوزير فحياه وحيَّا سحبان، وجلس على كرسي قدموه له، وأخذ الوزير يرحب به قائلًا: «طالما سمعنا بالأمير ركن الدين بيبرس وأعماله في مصر، وكنت في شوق إلى رؤيته فمنَّ الله عليَّ بذلك.» فقال ركن الدين: «ليس في ركن الدين ما يدعو إلى الإعجاب لأني لم أعمل عملًا، ولكن الإعجاب يجدر بالوزير مؤيد الدين بن العلقمي القابض على أزمَّة الدولة العباسية يدير شئونها.» وتصدى سحبان للكلام قائلًا: «إن الأمير ركن الدين بطل عظيم.» ووجَّه كلامه إلى الوزير وقال: «ألم أقل ذلك عن بسالة هذا البطل وما بشأنها عند سفره من مصر.» فقال له: «هل تأذن أن نتكلم عن المهمة أتاه من المدهشات في محاربة الإفرنج وتخليص مصر من أيديهم؟ فعساه أن يساعدنا في تخليص بغداد من غير الإفرنج …» وضحك. فلم يعجب مؤيد الدين تسرعه لكنه تغافل، وتغافل أيضًا ركن الدين لأنه مثل مؤيد الدين تكتمًا وحذرًا، فخجل سحبان من نفسه وأراد أن يغطي خجله فأثار موضوعًا جديدًا، فقال لركن الدين: «متَى وصلت إلى بغداد أيها الأمير؟ وكيف عرفت داري؟» قال: «وصلت في هذا الصباح، وأما منزلك فقد عرفت منك في مصر أنه بالكاظمية. وأنا أعرف بغداد، فصرفت من كان معي وأحببت أن أدخل البلد متنكرًا، فوصلت إلى الكاظمية وسألت عنك فقيل لي إنك عند مولانا الوزير، فجئت لأراك وأراه لأني أعرفه بالسماع، فطلبت إلى خادمك أن يأخذني إليك وقد فعل.» فقال الوزير: «لقد جئت أهلًا ووطئت سهلًا.» وتذكر سحبان تعلق ركن الدين بشوكار وقلقه عليها وحديثه معه بشأنها عند سفره من مصر، فقال له: «هل تأذن أن تتكلم عن المهمة التي أنفذتني إليها من مصر؟ إن لمولانا الوزير اطلاعًا على شيء منها، وهو محب لك غيور على شئونك.» فقال ركن الدين: «أظنك تعني شوكار. نعم، تكلم، وقد كنت أتوقع أن تكتب إليَّ بشأنها قبل الآن.» فخجل سحبان لكنه بادر إلى الاعتذار قائلًا: «كان ينبغي أن أفعل ذلك، ولم أتأخر عن إهمال، لكنني حال وصولي إلى بغداد لقيت شوكار في المكان الذي كانت مخبوءة فيه، وأخبرتني أنها كتبت إليك، وقد عملت على إنقاذها فلم أوفق إلى ذلك حتَّى الآن. وما الفائدة من الكتابة بلا عمل؟ والوزير يعلم بما وقف في طريقنا من العراقيل.» فقال: «والخلاصة أين هي الآن؟» قال: «هي في قصر الخليفة منذ أيام.» قال: «وأين كانت قبل ذلك؟ ومن خطفها؟» قال: «كانت عند أبي بكر بن المستعصم، وأبوه لا يعلم أنها عنده، وأخذ يبحث عنها. ثم تمكنَّا من اختطافها من بيت أبي بكر وأخفيناها في منزلنا، وهممتُ أن أفر بها إليك، فعلم بها ذلك الغلام وأخذها منا بقوة الجند. ثم علم أبوه أنها عنده فأخذها إليه، ولذلك حديث طويل يهمك منه أن شوكار لا تزال كما عرفتها في مصر تبذل نفسها في سبيل رضاك، ولا تفضل مكانًا في الدنيا على قربك. ولا شك أنها في بيت الخليفة رغم إرادتها. ولا بد من أخذها. تمهل، إننا في مشكلة شائكة ستقلب بغداد رأسًا على عقب، وسيصل دويها إلى مصر والأندلس وكل أنحاء العالم، وسيكون لها شأن عظيم، وإنما يستفيد منها العاقل الحازم.» فخاف الوزير بعد هذه المقدمة أن يبوح سحبان بما حدث من المساعي وهو يحب كتمانه، فتصدى لمخاطبة ركن الدين قائلًا: «لا تعجب أيها الأمير من اضطراب حالنا، فخليفتنا مشغول باستجلاب المغنيات من أقاصي المملكة، عن الاهتمام بأمور الدولة والعدوُ على الأبواب لا يلبث أن يأتينا، وجندنا في اختلال و…» فقطع ركن الدين كلامه قائلًا: «سمعت وأنا قرب بغداد أن هولاكو التتري زاحف بجند كثيف على هذا البلد، وأنه الآن على مقربة منها. ألم تستعدوا له؟» فهز الوزير رأسه وقال: «كيف لا؟ بلغنا منذ أيام أن حملة من جند هولاكو وصلت إلى تكريت بقيادة باجو، وعبرت دجلة إلى البر الغربي، ونزلت تتطلب بغداد، وقد اختلفت آراؤنا في طرق الدفاع، ولم يستقر الرأي إلا بعد أن وصل جند التتر إلى دجيل وعددهم نحو ٣٠٠٠٠ فارس، فأمر الخليفة بإرسال عسكره لدفعهم بقيادة مجاهد الدين أيبك الداودار، ولكن عسكرنا قليل العدد والعدة، ولا ندري ما تكون النتيجة. على أني أخاف سوء العقبى لأننا غير متفقين في رأي، وخليفتنا ضعيف مستسلم لابنه وقائد جنده، وكلاهما على غير خبرة، ونخاف أن يكون الله قد أراد انقضاء هذه الدولة و…» فتصدى سحبان قائلًا: «لا تخَفْ، بل توسل إلى الله أن تنقضي هذه المحنة، وهذا الأمير ركن الدين لا يخفى عليه شيء من أمرنا، وقد حادثته وأنا في مصر عن استرجاع خلافة الفاطميين.» فاستاء مؤيد الدين من اندفاع سحبان في إبداء آرائه وقال: «لا أظن الأمير وافقك على ذلك، ونحن يكفينا الآن أن نبدل خليفة بآخر كما سبق الكلام.» فاستحسن ركن الدين اعتدال ابن العلقمي في رأيه فقال: «هذا هو القول المعقول، وهو هين ميسور لمن يبذل المال بدون حرب. وأنا أضمن لكم ذلك متَى رجعت إلى مصر وتم الاتفاق بيننا على رأي نرضاه.» وهو يضمر أن يجعل أمر إبدال الخليفة مرتبطًا بصيرورة سلطنة مصر إليه؛ أي إنه يشترط على الخليفة الجديد قبل توليته أن يساعده في التسلط على مصر. وأدرك مؤيد الدين غرضه فاستحسنه وندم على رسالته إلى هولاكو وتعريض الخلافة للتتر، لكنه ما زال يعتقد أن هولاكو لا يزيد على أن يخلع الخليفة المستعصم ويطلب سواه وهم يدلونه على الإمام أحمد فقال: «سننظر في ذلك ونرجو أن يعود بالخير.» فعاد ركن الدين إلى الحديث عن شوكار وخبرها ووجَّه خطابه إلى سحبان وقال: «والآن ماذا تفعل شوكار؟ قل لي، فقد تركت بلدي وقومي وهم في حاجة إليَّ وجئت إلى هذه الديار من أجلها، فهل أعود دون أن آخذها معي؟ هذا لا يمكن.» فقال سحبان: «لا بد من أخذها، وقد قلت لك إن ذلك ميسور لِمَا نرجو حدوثه من الانقلاب، ومع ذلك فإن الخصي عابدًا الذي حمل إليك رسالة شوكار وحمَّلتَه جوابك إليها مقيم عندي منذ أخذوا شوكار منا، وقد أوصيته أن يتتبع أخبارها. وكان قد جاءني منذ يومين بخبر لم أصدقه لبعده.» فقال ركن الدين بلهفة: «وما هو؟» قال: «أنبأني أن شوكار خرجت من قصر التاج، على أنها لو خرجت لجاءت إلينا، وقد أوصيته بالأمس أن يبذل جهده ويدقق البحث ويعود بالخبر الصحيح.» فقال: «أين هو الآن؟» قال: «أظنه عاد إلى منزلنا في الكاظمية أو يعود الليلة. هل تريد الذهاب الآن للبحث عنه؟» قال: «نعم، هلم بنا، ومتَى فرغنا من أمر شوكار عدنا إلى أمر الخلافة، أو لعل الأمرين يتمان معًا.» قال ذلك ووقف واستأذن في الانصراف، ثم ودع الوزير وخرج معه سحبان. ••• كان ركن الدين قد عرف بغداد في صباه، فلما جاءها هذه المرة وجد فيها تغيرًا كثيرًا. ومشى هو وسحبان في طريقهما إلى الكاظمية، وهي على مسافة بعيدة من قصر الوزير، فعبرا الجسر حتَّى صارا في الجانب الغربي من بغداد؛ حيث كانت البلدة التي بناها المنصور منذ خمسمائة سنة ونيف ولم يبقَ منها إلا آثار قد عفتها الأيام، وأقيم في مكانها الأسواق. وبينما هما سائران وركن الدين يتأمل فيما يمران به من الأبنية، رأيا جماعة من العامة يركضون نحو الجسر وهم في خوف شديد، وعرف سحبان رجلًا منهم فناداه إليه، فجاءه وقد غطى الوحل قدميه إلى ركبتيه، فسأله سحبان عن سبب هذا الركض فقال: «التتر يا سيدي، التتر!» فقال: «ماذا تعني؟ أين هم؟» قال وهو يرتعد: «هم هنا، هنا في بغداد.» فصاح فيه: «في بغداد؟ وأين جندنا؟ ذهبوا لمحاربتهم عند دجيل؟! أين الداودار؟ ما بالكم؟ تكلم.» قال: «إن هؤلاء التتر من الجان، لا يقدر أحد أن يقف في طريقهم. كنت قرب دجيل يوم وصولهم إليه، وما ذاع أنَّ التتر قد أقبلوا حتَّى ذعر الناس وهربوا قاصدين المدينة بأولادهم ونسائهم في حالة يرثى لها، حتَّى كان الرجل يقذف بنفسه في الماء خوفًا منهم، وقد رأيت ملَّاحًا لم يرضَ أن يعبر برجل في سفينته من جانب إلى جانب إلا إذا أعطاه عدة دنانير، ورأيت امرأة دفعت للملاح سوارها ليعبر بها إلى الضفة الأخرى، ثم قالوا لنا إن جند الخليفة جاء لمحاربة أولئك العفاريت فسكن روعنا، لكننا ما لبثنا أن رأينا جندنا يتقهقر مدحورًا أمام التتر، والتتر يطاردونهم ويمعنون فيهم قتلًا وأسرًا. وأعانهم على ذلك ما حفروه في الليل من خندق وصلوه بالنهر، فكثرت الوحول في طريق المنهزمين، ولم ينجُ إلا من رمى نفسه في الماء وأنا منهم …» قال ذلك وأشار إلى الوحل على قدميه وهو يلهث. وكان ركن الدين يسمع ذلك وشرر الغضب يتطاير من عينيه، فقال سحبان للرجل: «والداودار، أين هو؟» قال: «رجع مع بقية الجند مدحورين مكسورين؛ ولذلك انكسرت قلوبنا. نعوذ بالله من التتر! يا لطيف!» فقال: «وكيف رأيت هؤلاء القوم؟» قال: «رأيتهم من الأبالسة يا سيدي، لا يمكن لجندنا أن يقف أمامهم، وإذا وقفوا أكلوهم أكلًا. أعوذ بالله! لم أرَ مثل هؤلاء الناس. لا، لا لم أرَ مثلهم عمري. اذهب يا سيدي من الطريق؛ لأني أظنهم الآن على مقربة من بغداد، أو لعلهم دخلوها. وبلغني أن فريقًا منهم نزل عند المارستان العضدي، وفريقًا آخر وصل إلى المبقلة تجاه الرصافة، ولم يبقَ بينهم وبين قصور الخلفاء إلا دجلة. سر يا سيدي، لا تعرض نفسك للسهام المتساقطة؛ فسهامهم تتساقط كالمطر. لا، لا، لم أرَ مثل هؤلاء الناس قط.» قال ذلك وجرى مسرعًا. فالتفت سحبان إلى ركن الدين فرآه يهتز من الغضب، وقد احمرت عيناه وقطب حاجبيه، وودَّ لو أن فرسه تحته ليهجم على التتر، فقال له سحبان: «ما بال سيدي الأمير؟» قال: «ويلك يا سحبان! أهكذا يكون رجال الخلفاء؟ يهربون من وجوه التتر المتوحشين حتَّى يدخلوا دارهم؟ كم أتمنى أن يكون فرسي تحتي أو يكون رجالي معي لأريهم كيف يكون القتال!» فضحك سحبان وأمسك بذراع ركن الدين وتحول به إلى زقاق ضيق ومشى وهو يقول: «إن إظهار البسالة لا يفيد؛ لأنها ضائعة لا مولاي. إن القوم ماتت نفوسهم وذهبت دولتهم، وكفى ما ارتكبوه من المظالم، ولو أراد الله نصرهم لأنار بصائرهم وهداهم الطريق الصواب، لكنهم يتخبطون في أعمالهم تخبط الأعمى، ولا يعلمون. دعهم إن الله أقدر منا على نصرتهم إذا شاء.» وبينما هما في ذلك إذ رأيا سهمًا وقع أمامهما ذا شكل خاص لم يعهد سحبان مثله فيما يعرفه من السهام، فالتقطه وتأمله، فرأى عليه كتابة عربية فقرأها، فإذا هي: «إن الرؤساء العلويين — الشيعة — وكل من لا يقاتلنا، آمنون على أنفسهم وحرمهم وأموالهم.» فدفع السهم إلى ركن الدين، فلما قرأه قال: «يلوح لي أن العلويين ينصرون التتر.» قال: «إن العلويين مظلومون يا سيدي. أما كفاهم ما قاسوه من الضيم والعذاب أجيالًا؟ فإذا كانت الغلبة للتتر وأنصفوهم فلا حرج عليهم ولا علينا.» وهز كتفيه هز التنصل من التبعة. فتحقق ركن الدين أن حماسته للعباسيين لا تجدي نفعًا، ولم يبقَ له من همٍّ إلا أن يعثر على شوكار ويخرج بها من بغداد ويرجع إلى إمارته ويسعى في نيل السلطنة بمصر. ولا بد له قبل كل شيء من لقاء عابد الخصي ليسمع منه خبر شوكار. وجعل سحبان طريقهما في أزقة مهملة لا يتزاحم فيها الناس؛ لئلا يصدمهم الهاربون، حتَّى أقبل على المارستان العضدي، فرأيا ضفاف دجلة وما يليها تعج عجيجًا بالتتر وخيولهم وخيامهم وأعلامهم وأسراهم. فوقف سحبان على مرتفع وأومأ إلى ركن الدين أن يأمل أولئك القوم ويميز بينهم وبين البغداديين، وقال له: «أرأيت التتري وقوة بدنه وخشونة يديه، وكيف هو مشمر عن ساقيه، وعيناه تكادان تطيران من وجهه. إن بين هؤلاء الناس من قضى أيامًا وهو ساعٍ على قدميه لا ينام إلا لمامًا، ولا يأكل إلا القومز (لبن الخيل) كما كان البدوي في صدر الإسلام يكتفي بناقته يسافر عليها ويقتان بلبنها ويتفيأ ظلها ويستأنس بها. هكذا هؤلاء التتر مع أفراسهم. وقد يعدو التتري فيسبق فرسه؛ فأين ذلك من جند بغداد وقد ألفوا الراحة والرخاء، كما كان الروم في صدر الإسلام؟ هل نستطيع يا سيدي أن نقاوم القضاء؟ لكل أجل كتاب، والله يفعل ما يشاء، هلم بنا إلى الكاظمية لنرى عابدًا ونسمع خبر شوكار.» فلم يَحَرْ ركن الدين جوابًا من الدهشة التي تولته مع ميله إلى معرفة خبر شوكار، فتجاوز المارستان العضدي والحربية إلى الكاظمية، فاختلف منظر الأهلين في عين ركن الدين عما رآه في سائر الأحياء. رأى أهل الكاظمية هنا مستبشرين مطمئنين، كأن فوز التتر فوز لهم، أو كان التتر دولة شيعية جاءت لنصرتهم. وهكذا الإنسان يحب من يأخذ بناصره مهما بعدت الروابط، ويكره من يسلبه حقه ولو كان أخاه. مرَّا في أزقة الكاظمية وأهلها فرحون. وحالما رأوا سحبان تقدموا للسلام عليه وتهنئته، فرد السلام وقد استحيا من التظاهر بالفرح إلى هذا الحد بين يدي ركن الدين. وبعد قليل وصلا إلى بيت سحبان فدخلا وقعدا، وسأل سحبان عن عابد فجاءه، وحالما رأى ركن الدين تناثر الدمع من عينيه وأكب على يده يقبلها، فاستغرب ذلك منه وقال: «ما وراءك يا عابد؟ أين شوكار؟ ماذا جرى لها؟» فتماسك الخصي وقال: «بذلت جهدي يا مولاي في سبيل سيدتي شوكار كما وعدتك ولم أفارقها لحظة إلا هذه المرة، فإن الجند أخذوها رغم أنفى. لكنني أتعقب أخبارها كأني معها.» قال: «وأين هي الآن؟» قال: «آخر ما عرفته عنها أنها في قصر التاج.» فقال ركن الدين: «هذا عرفته من أخي سحبان، وقد أخبرني أنك ذهبت للبحث عنها أمس، فماذا عرفت؟» فأطرق عابد وقد أُرتج عليه، فصاح ركن الدين فيه: «قل، قل يا عابد ماذا جرى؟» قال: «تنكرت أمس في زي الخدم حتَّى دخلت قصر التاج في جملتهم واجتمعت بكثير من أصدقائي الخصيان، واستطلعتهم خبرها فاختلفوا في الرواية، وفهمت من مجمل أحاديثهم أن شوكار يوم وصولها إلى قصر التاج أصابها صداع شديد، ولم تقدر أن تغني للخليفة، فباتت تلك الليلة عند صديقة لها من مصر اسمها سلافة.» فلما سمع ركن الدين اسمها ارتعدت فرائصه وصاح: «سلافة؟ سلافة هنا؟ أين سلافة؟» قال: «نعم يا سيدي، يقولون إنها كانت قيِّمَة قصور الملك الصالح بمصر، ولها نفوذ عظيم في قصر التاج لصلتها بقهرمانة القصور وأستاذ الدار، حتَّى الخليفة نفسه يحترمها.» فأطرق ركن الدين، وتذكر سعي هذه الجارية في إبعاد شوكار عنه ليخلوا لها الجو معه، وكيف كانت مقابلته الأخيرة لها، وكيف هددته، مر كل ذلك في ذهنه في لحظة، وقلبه يخفق خوفًا من أذًى تلحقه بشوكار، فنظر إلى عابد وقال: «قل، وبعد ذلك ماذا جرى؟» قال: «واختلفت الرواة فيما جرى بعد تلك الليلة، فقال بعضهم إن سلافة أخذت شوكار إلى قصر لها قرب باب كلواذي، وقال غيرهم إنها لم تأخذها، بل ظلت مخبأة في قصر التاج، وقال غيرهم غير ذلك.» وتغيرت سحنته كأنه يخفي شيئًا خطر له، ثم قال: «يظن بعضهم أن شوكار اختفت، لكنهم لا يعلمون أين هي، ولا كيف ضاعت.» فصاح ركن الدين: «لعل سلافة قتلتها؟» قال: «لا، لا سمح الله. والمشهور عندهم أن سلافة أحب الناس إليها، وهي التي بذلت جهدها في راحتها، على أنهم لا يعرفون هل هي حية أو ميتة، لكنهم يعرفون أنها كانت تشكو صداعًا وأن سلافة قد احتضنتها ثم نقلتها إلى قصرها للاستشفاء، ولا يعلمون ماذا جرى بعد ذلك، فلعلها مقيمة عندها إلى الآن بحيث لا يراها أحد.» في سلطنة مصر، وهو يرجح مصيرها إليه لضعف القائمين بها هناك، وتذكر حاجته إلى مصادقة الخليفة لتثبيت سلطته، فتمثلت له أهمية بغداد — مركز الخلافة الإسلامية — وكيف أن العالم الإسلامي على بكرة أبيه في مشارق الأرض ومغاربها لا غنى له عنها؛ فلا يثبت السلطان على عرشه إن لم يأتِه تثبيت من خليفة بغداد؛ لِمَا للخلافة في نفوس العامة من الاحترام الديني. ثم نظر في حال هذه المدينة وخليفتها على ضوء ما علمه في ذلك اليوم، فاستغرب سلطان الأوهام على الناس. ولكن رجال السيادة لا غنى لهم عن الأوهام ليسوقوا بها العامة إلى حيث يريدون. ولما وصل في تصوره إلى هنا، أطرق وقد خطر له خاطر رقص له قلبه طربًا رغم بعده عن المألوف، ولكن المرء إذا رغب في أمر أخذ يفكر فيه حتَّى يرى مستحيله ممكنًا؛ خطر له بعد ما شاهده من اضطراب أحوال بغداد، وما يحدق بها من الخطر، أن ينقل الخلافة منها إلى مصر، فتصير تلك الأهمية إلى مصر بدلًا من بغداد، وتصير القاهرة مركز العالم الإسلامي، لا يستغني عنها أمير أو سلطان، وإن استقل عنها بإدارة حكومته فهو في حاجة إلى خليفتها في تثبيته. ولو كان المفكر في ذلك سحبان لرقص فرحًا وتصور نفسه قد نقل الخلافة إلى مصر وصار هو سلطانًا يخطب رضاه سائرُ السلاطين، لكن ركن الدين كان ضعيف الثقة في المستقبل، إذا بدا له أمل في أمر يرغب فيه بحث عن كل ما يمكن أن يحول دون نيله، وهو أَمْيَل إلى تصديق أسباب الفشل. فلما خطر له أمر الخلافة تصور العراقيل الكثيرة التي تحول دونه، فعاد إلى التفكير في شوكار فهاجت أشجانه. قضى في هذه الأفكار برهة جاءه في أثنائها عابد يدعوه إلى الطعام مرة وإلى الصلاة مرة أخرى، وبدل ثيابه حتَّى دنا الأصيل، فقيل له إن سحبان عاد من عند مؤيد الدين، وبعد قليل جاء سحبان والاضطراب بادٍ على وجهه، والغضب يتجلى في عينيه، فناداه ركن الدين وقال له: «ما وراءك؟ هل رأيت الوزير؟» قال: «لم أره.» قال: «ولماذا؟» قال: «لأنه ليس في منزله، وقد برحه بعد خروجنا من عنده.» قال: «إلى أين؟» قال: «بعثه المستعصم إلى هولاكو، والظاهر أن هذا الخليفة تحقق الخطر المحدق به، وهو يعتقد دهاء وزيرنا وتعقله فأنفذه إليه ليسترضيه.» قال: «إلى هذا الحد بلغ الضعف من خليفتكم؟» فابتسم وقال: «ألم أقل لك ذلك من قبل؟ وإرسال وزيرنا في هذه المهمة أحسن رأي ارتآه المستعصم، لكن أخشى أن يكون قد جاء متأخرًا؛ وذلك لأن هولاكو كان قد اشترط نحو ذلك من قبلُ للكف عن العداء، وأشار به الوزير على المستعصم، ولكنه لم يُطِعْه؛ لأنه كان يسيء الظن به ويصدق ابنه أبا بكر، وهو شاب مغرور؛ فالظاهر أن المستعصم لما رأى جند التتر محاصرًا قصوره، وسمع دوي المجانيق ووقوع قنابلها على القصور، ورأى عجز جنده عن القتال لجأ إلى المسالمة، وقد أحسن لأن وزيرنا — حفظه الله — له دالَّة على هولاكو، فيشير عليه بما فيه خير الجانبين.» فقال ركن الدين: «لم أفهم مرادك من دالة الوزير لدى التتر، وما هو الباعث عليها؟ هل كانت بينهما معرفة؟» قال: «لا أخفي عليك يا مولاي أن بين الوزير وهولاكو مخابرة في هذا الشأن، أعني أن هولاكو خابره وطلب إليه أن يكون معه، ووعده خيرًا كثيرًا، وظل مؤيد الدين يتردد، وهو ينصح الخليفة ويخوفه، فلما يئس من إصلاحه خابر هولاكو خوفًا من أنه إذا جاء وفتح بغداد ينتقم منه ومن أهله وسائر الشيعة، أما إذا أظهر موافقته فإنه يراعي جانبه. ولم يفعل ذلك خيانة.» ففهم ركن الدين من ذلك أن مؤيد الدين خان خليفته، ولو تنصل من ذلك وزعم أنها ليست خيانة. فقال في نفسه لا شك أن هذا من أكبر أدلة السقوط. ولم يبدِ رأيه في ذلك لكنه سأل سحبان قائلًا: «وما تظن الوزير يفعل الآن إذا اجتمع بهولاكو؟» قال: «أظنه يتفق معه على خلع المستعصم وتنصيب الإمام أحمد أخي المستنصر، فإنه أجدر بني العباس بمنصب الخلافة، والمستعصم يخافه؛ ولذلك حبسه في قصره وأقام عليه الرقباء، فهذا الإمام قد عرفناه واجتمعنا به وخاطبناه في أمر الخلافة إذا صارت إليه، فوعدنا خيرًا. ولا شك أنه يسهل عليك سلطنة مصر ويساعدك عليها، فإنك أولى بها من سائر الأمراء.» فعلم ركن الدين أن سحبان يرغبه في مظاهرته على المستعصم وفي تنصيب الإمام أحمد خليفة، لكنه يطمع فيما هو أكثر من ذلك: يطمع في نقل الخلافة إلى القاهرة. غير أنه لم يسمح لنفسه أن تتمكن منه هذه الخواطر خوفًا من فشلها، فاكتفى بموافقة سحبان على تنصيب الإمام أحمد بدلًا من المستعصم وقال: «وأين هو الآن؟» قال: «كان محبوسًا في قصر الفردوس بجوار قصر التاج، ثم أحدقت الشكوك به فنقلوه إلى قصر عند باب كلواذي وأقاموا الحرس حوله، وأنا عارف مكانه، ومن أسهل الأمور عليَّ إذا تم اتفاقنا على خلع المستعصم أو قتله أن أُخرج الإمام أحمد من محبسه وأنادي به خليفة مكانه، ولا أجد من يخالفني؛ لأن الناس ملوا ضعف السياسة، ولا سيما إذا علموا أن هذا التبديل كان بإرادة الخاقان هولاكو قائد التتر. وكيف ترى يا سيدي؟» قال: «أراك مصيبًا، ونِعم الرأي رأيك، وفقك الله إلى إتمامه.» لكنه حالما سمع اسم باب كلواذي تذكر ما سمعه من عابد عن سلافة وأنها أخذت شوكار إلى قصرها قرب هذا الباب، وعادت إليه هواجسه وعاد يفكر في شوكار: أحية هي أم ميتة، وهل سلافة لا تزال على كرهها لها. فالتفت إلى سحبان وسأله قائلًا: «سمعتك تذكر باب كلواذي ومحبس الإمام أحمد عنده، وأمس سمعت عابدًا الخصي يذكر هذا الباب وأن قصر سلافة عنده، فكيف ذلك؟» قال: «إن كلواذي يا سيدي حي فيه باب من أبواب سور بغداد، سمي باب كلواذي، وبقربه قصور كثيرة كما تقولون في مصر باب زويلة وباب النصر وباب الفتوح، فقد أصبحت أسماء أحياء فيها قصور عديدة.» وقضيا بقية اليوم وكلاهما يفكر في أمره، وأكبرُ همِّ ركن الدين الوصول إلى شوكار ومعرفة حالها وإنقاذها أو الانتقام لها، وبات وهو يحلم بها. ••• وأصبح ركن الدين في اليوم التالي وقد مل الانتظار، لكنه توسم في بقائه هناك خيرًا ينفعه في مطامعه السياسية، على أنه كلما فكر في شوكار خفق قلبه ورأى أنه أساء إليها لأن ما أصابها من الأذى إنما كان بسببه. وبينما هو في ذلك إذ جاءه عابد وفي وجهه خبر، فقال له: «ما وراءك؟» قال: «بالباب رسول من سلافة معه كتاب إليك.» فلما سمع اسمها اقشعر بدنه وقال: «ليدخل.» فدخل الغلام ودفع الكتاب إلى ركن الدين وتناوله فإذا فيه: «من سلافة إلى الأمير ركن الدين. علمت أنك في بغداد وأنا فيها، وعندي أمر يهمك أحب عرضه عليك، فإذا شئت تفضلت بالمجيء إلى قصري بباب كلواذي، وهذا رسولي يهديك إليه، والسلام.» فلما قرأ الكتاب دفعه إلى سحبان ليرى رأيه فيه، فحذره من الذهاب، فقال ركن الدين: «لا بد من الذهاب لأرى هذه الداهية وأتحقق أمر شوكار، وماذا عساها أن تفعل بي. عار عليَّ أن أخافها وخنجري معي. لكن أين موقع قصرها من هنا؟» قال: «هو بعيد، لا بد للذهاب إليه من المسير مسافة طويلة ثم عبور دجلة فوق الجسر الذي جئنا منه. إذا شئت المسير فهذا فرسي بين يديك، وهذا عابد يسير في ركابك فضلًا عن الرسول القادم من عندها.» فوقف ركن الدين وقال: «أذهب الساعة» وتحول إلى غرفة منامه وأصلح هندامه وتسلح بخنجرين وتشدد، ثم خرج وركب الفرس، وسار عابد في ركابه والرسول يمشي بين يديه. ولحظ في أثناء الطريق أن أهل الكاظمية فرحون معتزُّون وقد اشتدت عزيمتهم وهاجت نقمتهم على جيرانهم من أهل السنة الذين كانوا يعتزون بالخليفة وحكومته. ولما خرج من الكاظمية رأى الناس في خوف شديد يجتمعون جلوسًا أو وقوفًا للمداولة في الأحوال الجارية، ويتلقفون الأخبار من أفواه المارة متناقضة متباينة. وصل إلى الجسر فعبره إلى الرصافة، فرأى الناس هناك أقل قلقًا لقربهم من قصور الخلافة؛ حيث لا يسمعون غير ما يدعو إلى الثقة بقوة الجند ومناعة الحصون رغم ما كان يتساقط عليها من حجارة المجانيق حينًا بعد آخر، وهي حجارة صوانية كُروية الشكل، قطر الواحد منها نصف متر أو أكثر، يقذفه المنجنيق من معسكر التتر على أبراج السور أو على بعض القصور، وكانت الأسوار تجيب بمثلها، وهذه هي مدافع تلك الأيام. وانتهى مسيره أخيرًا إلى ضفة دجلة الشرقية، فوقف الرسول والتفت إلى ركن الدين وأشار بأصبعه إلى قصر على ضفة النهر تحيط به حديقة حولها سور. دخل ذلك السور راكبًا، فتقدم الرسول لإعلان وصوله، وترجَّل ركن الدين وسلم زمام الفرس إلى عابد وأوصاه أن ينتظر وأن يكون على حذر، ومشى في الحديقة وقلبه يخفق تطلعًا إلى ما يكون من أمر سلافة، وصورتها لا تزال في ذهنه كما فارقها في المرة الأخيرة. ••• وصل ركن الدين إلى باب القصر فرأى سلافة واقفة في انتظاره وقد لبست أجمل ما عندها من الحلي والثياب، وبذلت جهدها فيما تملك به قلبه. أما هو فقد كان مدرعًا بالتعقل وحب شوكار، فحياها فردت التحية ورحبت به ترحيبًا حسنًا، ودعته إلى قاعة مفروشة أحسن فرش فيها النمارق والستائر والطنافس، وأشارت إليه أن يقعد وهي تقول له وتبتسم: «من كان يظن أننا سنلتقي في هذا البلد؟» فقال: «إن المصادفة تأتي بأعجب العجب.» قالت: «الصدف! هل تظن أننا التقينا هنا صدفة؟» قال: «نعم؛ لأني لم يخطر لي ببال أنك تجيئين إلى هنا.» قالت: «هذا يصح عليك وأما أنا … أنا المسكينة الشقية فيخطر لي كل شيء، وأبذل راحتي وحياتي في سبيل لقاء ركن الدين. لم تخطُ خطوة في مصر وغيرها إلا عرفت بها وحسبت لها حسابًا.» ثم تنهدت، فتشاءم ركن الدين من هذه المقدمة، وأراد تغيير الحديث فقال: «أشكرك يا سيدتي على حسن ظنك بي. وصل إليَّ كتابك فجئت، لكنني أسألك سؤالًا أرجو الجواب عنه.» قالت: «قل ما تريد.» قال: «علمت أن شوكار جاءت إليك في هذا القصر، فأين هي؟» قال ذلك وهو يخاف أن يسمع خبر موتها أو قتلها، فتجلد وهو ينتظر الجواب، فأبطأت سلافة في الجواب وهي تنظر إليه نظر الاستغراب ثم قالت: «مسكينة!» فصاح فيها: «مسكينة؟! أين هي؟» قالت: «ليست هنا، لعلك تذكر أني كنت ناقمة عليها، وقد قلت لك إني أحببت إبعادها رغبة في قربك، لكنني شعرت هذه المرة لمَّا لقيتها في قصر الخليفة، أنها لا تستحق العذاب لسلامة قلبها وطيب عنصرها …» وتنهدت وأظهرت سلامة النية وشدة الأسف. فقال: «قولي ما بالها، أين هي؟ ماذا جرى لها؟» قالت: «قلت لك إنها ليست هنا.» قال: «فهمت أنها ليست هنا، فأين هي؟» فنظرت إليه نظرة العاتب وقالت: «لله أنت! ما أكثر تسرعك! أتطمع في الملك وتوشك أن تناله، ولا تستطيع أن تصبر على سماع حديث قصير عن جارية؟! اسمع لأقص عليك خبر هذه المسكينة: رأيتها في أول يوم جاءت فيه إلى قصر التاج، وسررت بها، وقد ملأت قلبي، وندمت على ما فرط مني في حقها، واستأنست هي بي وقصت على حديثها معك وأنها لا تود البقاء بعيدة عنك ولو كان مقامها بقصر الخليفة، فأشرت عليها أن تحتال بالمرض، ولما لي من النفوذ في دار النساء وعند الخليفة تمكنتُ من إقناعهم بأنها مريضة وأنها في حاجة إلى تبديل الهواء، وفي اليوم التالي انتقلت أنا إلى هذا القصر وبعثت من يأتي بها إليَّ ولبثت في انتظار قدومها.» وسكتت وأظهرت أنها غصت بريقها، فقال ركن الدين: «وبعد ذلك هل أتت؟» قالت: «لا، لم تأتِ.» فصاح قائلًا: «إذن ماتت أو قتلت؟» قالت: «احسب كما تشاء. إنها ماتت وانتهى أمرها.» فنهض وقد ثارت شجونه وقال: «لا. إنها لم تمُت، إنك خبأتها في مكان.» فضحكت وهي تنظر إليه باستخفاف وقالت: «بل ماتت يا ركن الدين، ويسوءني أنها ماتت، وقد أخبرني البحارة الذين حملوها إليَّ في القارب أنها غاصت في الماء رغم إرادتهم، ارجع يا ركن الدين إلى رشدك واستسلم لقضاء الله، ولا تعمل عمل النساء وتبكي على جارية، وبين يديك سلافة تعرض عليك نفسها، وهي فوق ذلك تعرض عليك منصبًا لم يحلم به أحد من سلاطين مصر.» فرجح له موت شوكار، وكان في ريب من سبب موتها، وإن كان يرجح أن سلافة سعت فيه برغم تنصلها منه وإظهارها الميل إليها. فأسف أسفًا شديدًا وود أن يقتل سلافة، لكنه لم يتحقق أنها هي القاتلة. ومع ذلك أراد أن يعرف ما هو المنصب الذي تعرضه عليه، فرأى من الحكمة أن يسمع حديثها إلى آخره فقال: «مسكينة شوكار وا أسفاه عليها!» فقالت هي: «مسكينة، لقد شق — والله — عليَّ موتها، ولكن ما الحيلة؟ لا بد لنا من التسليم للقضاء والقدر. والآن ألا تريد أن أخبرك بما انتدبتُك له؟» قال: «وما هو؟» قالت: «لنجلس ولنتحادث.» ومشت به إلى القاعة فقعدت، وقد سرها أنه أطاعها وأصغى لها، وبان البشر في محياها، وقالت: «لعلك عالم بالاضطراب المستحوذ على الدولة بسبب محاصرة التتر، وهذا هولاكو عند برج العجمي، ولم يصل إلى هنا إلا لضعف رأي الداودار قائد الجند. وقد غضب مولانا أمير المؤمنين عليه وأراد إبداله، وحادثني أستاذ الدار فيمن يليق بهذا المنصب ويرجى منه أن يردَّ شرف الجند العباسي ويدفع العدو عن أسوار بغداد، فلم يخطر ببالي سواك، وإن كنت لا تبرح بالي في أي وقت.» ثم ابتسمت وقالت: «ليس هناك من يستطيع أن ينقذ الدولة من هذا الضيق سواك، وأنت إذا صرت قائد جند بغداد، هان عليك أن تكون كما تشاء، وأنا أضمن لك سلطنة مصر أو غيرها كما تريد. إني أحبك وأتفانى في الحصول عليك، وأحب أن تقول لي إنك تحبني، أو على الأقل لا تحب سواي.» قالت ذلك بلحن الغرام. فأطرق هنيهة واستجمع قواه، وأطرق يفكر فأصحاب المطامع طلاب منفعة قبل كل شيء. إنه أحب شوكار في بادئ الأمر شفقة عليها، ثم أحبها حقيقة بعد ما قاسته بسببه من الشقاء، وكان يود أن يجعلها سعيدة، أما الآن وقد ماتت فليس من الرجولة أن يموت في أثرها، وإن كان موتها قد شق عليه كثيرًا، ولم يطاوعه قلبه أن يحب التي كانت تبغضها وكانت سبب موتها. لكن ذلك لا يمنع أن ينظر فيما تعرضه عليه، لعل فيه ما يبلغه الأماني التي طالما تاقت نفسه إليها وحلم بها. وقد تأكد من قرائن كثيرة أن سلافة ذات نفوذ لدى الخليفة وأهله وحكومته، فخطر له أنها قد تفيده في مطامعه، فأراد مسايرتها مع حفظ مقامه، فقال: «لا أرى فيَّ الكفاءة لهذا المنصب يا سيدتي، ولا أشعر من نفسي بميل للتكلم في المناصب الآن. سننظر في ذلك في فرصة أخرى.» فقالت: «هذا أمر لا يمكن تأجيله؛ لأن الدولة في حرب، وهذه قنابل المجانيق تصل إلى قصورنا صباح مساء، وأما كفاءتك فأنا أعلم الناس بها. لم يبقَ إلا أنه يشق عليك يا قاسي القلب أن تعترف بحبي لك! فكيف لو طلبت إليك أن تعترف بحبك لي؟ يا لله ما أقسى قلبك! اسمع، هذا أستاذ الدار قادم إليَّ لأني أسمع صوته بالباب يخاطب الحاجب. إنه أتٍ ليرى هل أقنعتُك بقبول القيادة، فبالله لا تخجلني بين يديه. أما اعترافك بحبك لي، فأتركه إلى ما بعد نيلك هذا المنصب وغيره مما ستراه مني.» ثم دخل الخادم يستأذن لأستاذ الدار، فخفَّت إلى الباب لاستقباله، وأخذت ترحب به لما تعلمه من نفوذه لدى الخليفة، ثم دخلت به إلى القاعة وأشارت إلى ركن الدين وقالت: «هذا هو الأمير ركن الدين البندقداري الذي قهر الإفرنج وأرجعهم عن مصر. وقد ذكرت لك عنه ما يكفي. وأنا أباحثه الآن فيما انتدبتَني له.» فنظر أستاذ الدار إليه وهش له، وقد أعجبه ما في طلعته من أدلة الشجاعة والذكاء وقال: «يسرنا أن يكون في الأمير ركن الدين ما يرضي مولانا أمير المؤمنين ويكشف عنا العار الذي سببه الداودار السابق بسوء تدبيره. هل تريد أن نذهب معًا إلى قصر التاج الساعة؟» فأراد ركن الدين أن يعتذر من عجزه، فرأى أستاذ الدار ذلك تواضعًا وقال: «لا، لا نقبل منك عذرًا، هلم معي إلى أمير المؤمنين.» قال ذلك ومشى، فالتفتت سلافة إلى ركن الدين لفتة هيام، وأمسكت يده بحجة الوداع وضغطت عليها وهي تقول: «سرني النجاح في هذه المهمة، وعسى أن تفوز بإنقاذ الدولة من الخطر. وأما أنا، فإذا متُّ بعد هذا فحسبي أنك أطعتني في شيء عرضته عليك، وإن لم يكن فيه غير لوعتي وآلامي. وإذا التقينا بعد الآن كان لنا شأن آخر.» ولكنه لم يَزِدْ أن حياها مودعًا، وانصرف في أثر أستاذ الدار، فركب كلٌّ منهما فرسه، ومشى عابد في ركاب ركن الدين إلى قصر التاج. سار ركن الدين وهو غارق في تفكيره على أثر ما شاهده من سلافة وهو لا يفهم حقيقة حالها. على أنه فعل ما يفعله الرجل العاقل البصير. ولم يَلُمْ نفسه لسكوته عن الانتقام لشوكار؛ لأنه لم يحقق مصيرها وهل تعمدت سلافة أذاها، وإن كان ميالًا إلى اتهامها بناءً على سابق عهده بها. لكنها شغلته بأمر ذلك المنصب، ثم جاء أستاذ الدار فلم يَسَعْه إلا السير معه إلى الخليفة، وفي نفسه أن هذا كله لا يمنع من انتقامه لشوكار عند الوثوق من صحة القتل. قطع مسافة الطريق وهو لا ينتبه لرفيقه الراكب إلى جانبه، ولا إلى اشتغال القوم بأخبار التتر، ولا سمع وقع قنابل المجانيق على المنازل؛ فقد كان ذلك بعيدًا عن طريقهم لا يسمعه إلا المنصت. ولكنه حالما وصل إلى قصر التاج وجد أهله في هرج واضطراب لكثرة ما تساقط حوله من حجارة المجانيق أو النبال المرمية عن الآلات. ووجه التفاته إلى أستاذ الدار ليقلده فيما يفعله من الرسوم المعتادة، فلما رآه ترجل عن دابته ترجل هو أيضًا وسار في أثره حتَّى أقبلا على باب مجلس العامة، فلاقاهما الحاجب، فأمره أستاذ الدار بالاستئذان له. وما عتم أن جاء الإذن فدخل والأمير ركن الدين يتبعه. فألقى الأستاذ التحية على جاري العادة ثم قال: «يأذن لي مولاي أمير المؤمنين أن أقدم له الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، وكنت قد ذكرت اسمه لمولاي، وأنه خير من يقوم بقيادة جند بغداد في هذا الوقت العصيب، وقد اشتهر بمهارته في الحرب وتدبير الجند، كما شهدت به سلافة القهرمانة.» وكان الخليفة في تلك الساعة مطرقًا يفكر، وليس في مجلسه أحد، كأنه التمس الانفراد للتفكير، فلما سمع قول أستاذ الدار قال: «مرحبًا بالأمير ركن الدين.» وأشار إليه أن يقعد وقال له: «أصحيح ما يقوله أستاذ دارنا؟!» قال: «ربما أثبت حسن ظنه ما مضى، أما الآن فلا أراني كفؤًا لهذه المهمة لأني من أصغر القواد.» فأعجب الخليفة بتواضعه فقال: «بل أنت قائد باسل، وكلام القهرمانة سلافة مصدق عندي، ونحن الآن في حرب مع عدو غريب هو عدو كل مسلم؛ لأنه إذا فاز — لا سمح الله — في حربه معنا لا تنجو مصر من أذاه، فأنت مطالب بقهره للدفاع عن الخلافة ببغداد وعن السلطنة بمصر، وأنت فاعل إن شاء الله. ولو عرفتُ فضلك من قبل لما سلمت قيادة جنودنا إلى الداودار الذي ألبسنا العار، فعسى أن تكون الوسيلةَ لمحو هذا العار عن جيش بغداد.» قال ذلك وتنحنح وأظهر أنه لم يكمل حديثه بعدُ، فظلَّ ركن الدين ساكتًا. ثم عاد الخليفة إلى الكلام قائلا: «أظننا أخطأنا لأننا لم نصغِ إلى رأي وزيرنا مؤيد الدين من أول الأمر، فلو أطعناه لما اضطررنا إلى إنفاذه الآن لطلب الصلح وتأجيل الحرب، ولا ندري إذا كان طلبنا يجاب. ولكن سامح الله أبا بكر أنه تعدى حقوق الأبناء وكدر قلبي على الوزير، فالآن انظر أيها الأمير، إني جاعل إمارة جند بغداد إليك، فإذا دفعت العدو كافأناك بما أنت أهله.» فأجاب ركن الدين: «إن الدفاع عن دار السلام وأمير المؤمنين فرض على كل مسلم، وإني باذل روحي في هذا السبيل، وعسى أن يوفقني الله إلى القيام بحق الخدمة.» ••• وبينما هم في ذلك إذ دخل الحاجب وقال: «إن الوزير مؤيد الدين بالباب.» فأشرق وجه الخليفة وبان التطلع في عينيه. وحالما دخل مؤيد الدين لم يصبر المستعصم عليه حتَّى يلقي التحية فصاح به: «قل ماذا جرى؟» قال: «كل خير يا سيدي. والتوفيق من عند الله.» قال: «اقعد وحدثنا بما جرى.» فقعد والعرق يتصبب من جبينه وأخذ في الحديث، فقال: «لقيت هولاكو خاقان التتر، وبينت له جرم اعتدائه علينا بلا حق، وأننا لا نخافه، لكنا نحب حقن الدماء، فأجابني جوابًا غليظًا. وبعد جدال طويل لم يقبل الكف عن الحرب إلا إذا ذهب مولانا أمير المؤمنين بنفسه إلى معسكره، وتعهد بالمحافظة على مقام مولانا والإبقاء على خلافته كما فعل بمن حاربهم من الملوك. وقد قال لي إنه لا يهمه تغيير الملوك والخلفاء وإنما يهمه ألا يهان جنده. وهو يعد رفض مولانا أمير المؤمنين نجدته على الإسماعيلية إهانة؛ لأنه كان يريد بذلك قطع دابر أولئك الأقوام لينجو العالم منهم. ثم حارب القوم وحده وغلبهم وبعث إلى مولاي يعاتبه فلم يرد عليه. وكنت قد أشرت على سيدي أن يبعث إليه هدية فمنعه بعض خاصته من ذلك. وبعث إلينا هولاكو أنه لم يعد يقبل هدية ولا يرضى إلا أن يذهب إليه الوزير أو الداودار فلم نفعل، فعد ذلك إهانة مكررة لا يقبل ترضية عليها إلا أن يركب مولانا أمير المؤمنين إليه، ويكون هناك معززًا مكرمًا مع رجال خاصته. وقد أخبرني أننا إذا أطعناه في ذلك فهو عازم على أن يزوج ابنته من مولانا الأمير أبي بكر.» وكان الوزير يتكلم والعرق يتصبب من جبينه خجلًا من حمل هذه الرسالة إلى الخليفة. والخليفة مطرق يسمع ولا يتكلم ولا يبدي حركة، وكذلك كان ركن الدين، فلما فرغ مؤيد الدين من كلامه رفع المستعصم رأسه وتنهد وقال: «إنه لعزيز على نفسي أن أذهب إلى هذا التتري، وإني لأرجو أن نفوز عليه ونرده عن بلدنا بعد أن عهدنا بقيادة الجند إلى الأمير ركن الدين …» ولبث ينتظر جوابه. فقال الوزير: «إن الأمير ركن الدين أهل لثقة أمير المؤمنين، وقد يأتي النصر على يده. لكنني أخاف أن يكون جندنا أضعف مما نظن ولا يبقى باب للصلح، وقد عرض علينا القوم صلحًا تحقن به الدماء، ومع ذلك فالأمر لمولاي.» فقال الخليفة: «لكن هذا الطاغية يطلب أن أذهب أنا بنفسي إلى معسكره!» قال: «كلا يا مولاي قد رضي أن يركب مولاي بأعوانه ورجال خاصته إلى فسطاط ننصبه لهم عند باب كلواذي مما يحاذي الشاطئ فيلاقيه هولاكو هناك وينقضي الأمر.» فهان عليه القبول بعد هذا التسهيل، لكنه التفت إلى أستاذ الدار واستشاره في الأمر، فأشار بالقبول؛ لأنه رأى الخليفة مائلًا إلى السلم؛ ذلك كان دأبه إذا استشاره الخليفة فيجعل نصب عينيه أن يرضي إحساس مولاه؛ فإذا رآه مائلًا إلى رأي أشار عليه به، شأن المتملقين المتزلفين في كل زمان ومكان. وهؤلاء إذا كان الأمير أو الخليفة عاقلًا نبذهم، وإذا كان ضعيفًا أصبحوا من المقربين إليه فيفسدون حكومته ويعينون على سقوط دولته. فاستقر رأي الخليفة على إجابة هولاكو إلى طلبه، والتفت إلى ركن الدين وقال: «قد سمعت ما أشار به وزيرنا، وقد طالما خالفناه ولم نَرَ في مخالفته خيرًا، أما الآن فالرأي أن نطيعه. وعلى كل حال فإننا نعد الأمير ركن الدين من كبار قوادنا، وعسى أن نوفق إلى مكافأته.» والتفت إلى الوزير وقال: «متَى نُصِبَ الفسطاط ذهبنا إليه.» فأشار الوزير مطيعًا واستأذن في الانصراف وانفض المجلس. وأومأ الوزير إلى ركن الدين أن يوافيه إلى منزله. فخرج ركن الدين وهو غارق في الهواجس، وقد ساءه تنازل الخليفة إلى هذا الحد. لكنه ركب إلى بيت مؤيد الدين — وعابد يرشده — ليستفهم عن الحقيقة، فلما وصل إليه رأى مؤيد الدين قد سبقه ورأى سحبان عنده، وكان قد جاء للاستطلاع بعد علمه بخروج الوزير إلى هولاكو.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/12/
نهاية الدولة العباسية
دخل ركن الدين فوجد الوزير يذرع غرفته ذهابًا وإيابًا وقد قطَّب حاجبيه وأخذ منه التأثرُ مأخذًا عظيمًا، وسحبان قاعد ينتظر التفاتَهُ إليه. فلما دخل ركن الدين أومأ إليه مؤيد الدين أن يقعد فقعد، ثم وقف أمامه وقال: «أيها الأمير، قد قُضي الأمر.» فتصدى سحبان للكلام قائلًا: «وكيف قُضي؟» فالتفت إليه وقال: «قضي كما تريد أنت لا كما أريد أنا ولا كما يريد الأمير ركن الدين.» فقال ركن الدين: «أفصح يا مولاي.» قال: «لم أقدر أن أقنع هولاكو باستبقاء الخلافة العباسية؛ إنه مصمم على إبادتها.» فصاح ركن الدين: «إبادتها! تريد أن يقتل كل بني العباس؟» قال: «هكذا ظهر لي من مغزى كلامه، وإن لم يصرح بذلك.» والتفت إلى سحبان فرآه يضحك فانتهره قائلًا: «أنت تضحك لأنك لا تنظر إلى العواقب، إذا محيت الدولة العباسية ذهب الإسلام من هذه الديار.» فقال سحبان: «ولماذا؟ نحن نعيد الخلافة الفاطمية.» فصاح فيه: «إنك رجل أوهام وأباطيل، إذا كنت ترجو إرجاع الدولة الفاطمية فإنك ترجو المحال وتطلب إقامة الأموات.» والتفت إلى ركن الدين فرآه ينظر إليه ويراعي حركاته ويوافق على كل حركة منها بملامحه وعينيه. فلما التفت إليه نظر هذا إلى سحبان وقال: «قد أصاب الوزير بقوله، إنه رجل عاقل مدبر، وكم سمعتك تذكر أمر الفاطميين، هل سمعت مني موافقة على ذلك؟» قال: «كنتَ إذا ذكرتُهم سكتَّ.» قال: «وسكوتي يكفي؟ وإذا كان هذا الطاغية ينوي حقيقةً إبادةَ العباسيين كافة فإنه يُحدث كسرًا في الإسلام يعسر جبره.» ووجه كلامه إلى الوزير وقال: «لكنك قلتَ للخليفة إن هولاكو ينوي استبقاءه.» قال: «هذا ما قاله لي هولاكو، لكنني لا أصدقه وقد فهمت من خلال كلامه وقرأت في عينيه ما ذكرتُه الآن، ويؤيد ذلك أنه أعطاني رايات عليها علامته، وأوصاني أن أنصبها على أبواب المنازل التي أريد حمايتها من الأذى، أو على الطرق المؤدية إلى منازل الشيعة؛ فإذا رآها رجاله عرفوها وكَفُّوا عن الأذى، ألا يدل هذا على عزمه الذي ذكرته لكم؟ وعلى كل حال لا بأس من الاحتياط للمخاطر.» قال ذلك وتحول إلى ناحية من الغرفة أخرج منها راية صفراء عليها صورة خنجر أحمر ودفعها إلى ركن الدين وقال: «خذ هذه لعلك تحتاج إليها.» ودفع رايات أخرى إلى سحبان وقال له: «خذ هذه الرايات اغرسها في مداخل أحياء قومنا في الكرخ والكاظمية، افعل ذلك بلباقة لئلا يشعر بك أحد.» فتناول ركن الدين رايته وخبأها تحت ثيابه، وقد شق عليه الالتجاء إلى هذه الخرقة للنجاة من السيف وهو قائد باسل تعود دفع الأذى عن نفسه وقومه بالسيف البتار. لكنه كان داهية يلبس لكل حال لبوسها. أما سحبان فإنه مكث بعد ما سمعه من الانتهار الصريح صامتًا وقد استولى اليأس عليه، لكنه ما لبث أن رضي بما وقع ورأى ذلك فوزًا عظيمًا للشيعة، ونظر إلى ركن الدين وسأله عما فعله عند سلافة، فاختصر هذا الجواب لأنه شعر أنه بين يدي أمر مهم ينبغي له أن يسرع في تدبره، واستأذن في الانصراف. خرج ركن الدين مهمومًا وفكره تائه، فتقدم عابد إليه بالجواد فركبه وهو لا يقصد مكانًا معينًا. ثم خطر له أن يتجه إلى منزل سلافة لأنه ما زال يرجو أن تكون شوكار حية، وإذن لا يليق به الخروج من بغداد قبل أن ينتقم لها. قضى مسافة الطريق وهو يردد ما سمعه من مؤيد الدين عن عزم هولاكو على إبادة العباسيين، ففكر في الأمر مستوحيًا نفع نفسه، كما يفعل كل إنسان في كل زمان. وليس ما يدور على أقلام الكتَّاب من أسماء الفضائل الراقية، كالأريحية والنجدة والاتحاد والشجاعة والإحسان وغيرها، إلا أسماء مختلفة ترجع إلى معنًى واحد وهو «المنفعة الذاتية»؛ فمن أراد أن يستنهض همم جماعة لعملٍ، فلن يلقى مجيبًا إن لم يكن في ذلك العمل نفع عائد على كلٍّ منهم. فكر ركن الدين في مطامعه الراسخة في قلبه، ومرجعها طلب السلطة في مصر، فرأى لذهاب الخلافة العباسية علاقة كبيرة بذلك، فأعمل فكرته للاستفادة من تلك الأحوال، وعاده الخاطر الذي كان قد مر في ذهنه بالأمس؛ وهو أن يجعل مصر قصبة الخلافة العباسية بحيث لا يستغني عنها سلطان ولا أمير. وارتاحت نفسه إلى هذا الأمر، وتذكر الإمام أحمد وما سمعه عنه من اللياقة لهذا المنصب وأنه محبوس قرب باب كلواذي. فرأى أن يقابله ويسعى في إنقاذه؛ فإذا فتك هولاكو بسائر بني العباس احتفظ هو بهذا الإمام، ومتَى صار هو سلطانًا على مصر جعله خليفة فيها. فلما تصور ذلك رقص قلبه من الفرح. ••• قطع ركن الدين الطريق إلى باب كلواذي وهو غارق في هذه الهواجس، ولم ينتبه إلا والناس في ازدحام وهرج عند ذلك الباب وقد أخذوا في نصب الفسطاط للخليفة، فعاد إلى تذكُّر الخليفة وما علمه من مصيره، وتذكر الإمام أحمد لعلمه أنه مسجون قرب باب كلواذي، فنادى عابدًا فدَنَا منه، فقال له: «يقولون إن الأمير أحمد عم الخليفة مسجون في قصر بهذه الجهة، فهل تعرف مكانه؟» قال: «أظنه هذا القصر.» وأشار بأصبعه إلى قصر وراء قصر سلافة. قال: «هل تعرف أحدًا من خدمه أو حرسه؟» قال: «كلا يا مولاي؛ لأنه نقل إلى هنا من عهد قريب، وإذا شئتَ أن أبحث في ذلك فعلتُ، هل تريد الذهاب إليه الآن؟» قال: «أريد الآن أن أعود إلى سلافة وأفرغ جهدي في استطلاع خبر شوكار؛ لأني على وشك سفر. كن على استعداد يا عابد، هل تسافر معي إلى مصر؟» فقال شاكرًا: «ذلك حظ كبير لي يا مولاي، ولكنْ شوكار، هل تذهب بدونها؟» فأثَّر سؤاله في نفس ركن الدين تأثيرًا شديدًا، وكان أولى به أن يسأل نفسه هذا السؤال، فقال وهو يستمهل الفرس بالمسير: «آه يا عابد! إن سؤالك هذا دلني على غيرتك وصدق خدمتك. صدقتَ، كيف نأتي بغداد لأجل شوكار ونرجع بخفي حُنَين؟ هذا لا يكون. أنا سائر الآن إلى سلافة اللعينة ولا بد لي من أن أقف على مصير شوكار، وعند ذلك أفعل ما يرضي المروءة والوفاء.» وكان ركن الدين يسير على جواده الهوينى على ضفة النهر وعابد يماشيه، فوصل الفرس إلى عشب استطيبه، فوقف ليتناول منه شيئًا، فقال عابد: «انظر يا مولاي، لا يليق بي أن أحذرك أو ألفت نظرك، لكنني أستأذنك في هذا الأمر، بلغني عن سلافة هذه أنها من شر النساء وأدهاهن، حتَّى إن الخليفة لا يرد لها طلبًا، وأنت ستكون وحيدًا في قصرها، فاحذر أن تغدر بك أو تستعين عليك ببعض الأشقياء خلسة.» فأثنى ركن الدين على غيرته وقال: «لا تَخَفْ عليَّ يا عابد، لكنني أوصيك بالانتظار في الحديقة قريبًا من القصر، فإذا لحظت مكيدة أو شيئًا فنبهني بالنداء على الملاحين في هذا النهر؛ أي اجعل نفسك كأنك تنادي ملاحًا أوشك أن يغرق فتحذره من الغرق، وأنا حالمَا أسمع صوتك أفهم المراد، وفي كل حال لا تفارق الجواد، وليكن مهيأً للركوب.» فأجابه مطيعًا ودخلا الحديقة، وأسرع الحارس في إبلاغ خبره إلى سلافة، فهرولت لاستقباله وقد بدلت بثوبها ثوبًا أجمل منه، وتلقته بالترحاب ودخلت به إلى القاعة وهي تقول له: «أرجو أن تكون قد نجحت في مهمتك.» قال: «وأي مهمة؟» قالت: «ألم تذهب في هذا الصباح مع أستاذ الدار على أن تلقى أمير المؤمنين ليوليك قيادة الجند؟ فهل تم الاتفاق على ذلك؟» قال: «لم يتم شيء من هذا القبيل، أرى أنه لم يبلغك الاتفاق الذي أبرم بين هولاكو والخليفة.» قالت: «لا. ماذا جرى؟» قال: «بعث الخليفة وزيره مؤيد الدين إلى هولاكو للبحث في شأن وقْف القتال ولو مؤقتًا، فعاد الوزير ونحن عند الخليفة وأبلغه أنهم اتفقوا مع هولاكو على أن يخرج الخليفة بنفسه إليه مسترضيًا إلى باب كلواذي. وإذا أطلَلْتِ من هذه النافذة رأيتِ الفراشين ينصبون الفسطاط الذي سيأتي المستعصم لملاقاة هولاكو فيه، وهذا الاتفاق يمنع حدوث حرب، ولم تبقَ حاجة إلى قائد ريثما نرى ما يكون.» فلما سمعت كلامه نهضت إلى النافذة وتطلعت، فرأت الفسطاط يوشك أن يتم نصبه، فصفقت ولطمت خدها وقالت: «ويلاه! وا ذلَّاه! أمير المؤمنين يخرج من قصره لملاقاة عدوه ليسترضيه؟! قل على الخلافة وأصحابها السلام …» قالت ذلك وبان التفكير في عينيها، وركن الدين صابر، فإذا هي تقول له: «لم يبقَ لنا وطر في هذا البلد ولا خير في المقام به، هلم بنا. وهذه أموالي وجواهري وكل ما أملك بين يديك. هلم بنا.» فقال: «إلى أين؟» قالت: «إلى مصر.» قال: «نذهب إلى مصر وحدنا؟» قالت: «خذ من شئت من الأتباع والأعوان.» فنظر إليها باهتمام وقال: «وشوكار؟» قالت: «ألم أقل لك عن مصيرها؟» قال: «لا أفهم ما تقولين. جئت من مصر إلى بغداد للبحث عن شوكار، فلا أرجع بدونها.» فهزت رأسها هز الاستغراب وابتسمت وقالت بلطف: «ماذا أعمل يا سيدي؟ من أين آتي بشوكار وقد قلت لك إنها غرقت وأصبحت طعامًا للأسماك؟» فأجابها بهدوء: «لا. إنها لم تمتْ، ولا بد أنها موجودة في مكان. ابحثي عنها لعلك تجدينها، فإني لا أرجع بدونها.» فزاد استغرابها وقالت: «ماذا تعني؟ أظنك تمزح.» قال: «كلا، إني أقول الجد، وقلبي يحدثني بأن شوكار لم تمُتْ.» فأمسكت بيده وهي تقول: «إذا كنت لم تصدق فتعال لأريك برهانًا يقنعك وتتأكد صدق قولي.» فمشى معها فمرت في دهليز إلى غرفة تشرف على دجلة، وتقدمت إلى خزانة في الحائط فتحتها واستخرجت صرة أخرجت منها خصلة كبيرة من الشعر وقدمتها إليه، فحالما وقع نظره عليها عرف أنها شعر شوكار، فاقشعر بدنه وارتعدت فرائصه وصاح: «ما هذا؟» قالت: «أليس هذا شعر المسكينة المأسوف على شبابها شوكار؟» قال: «بلى، ومن أين أتاك؟» قالت: «جاءني به الملاحون الذين أرسلتُهم إلى قصر التاج ليأتوني بها إلى هنا لأجل الاستشفاء، فجاءوني بهذا الشعر وقالوا إن السفينة انقلبت بهم في هذا المكان (وأشارت إلى مكان في الماء تحت القصر) وأنهم حاولوا إخراجها فأمسكوا بثيابها وشعرها، فغرفت وتقطع شعرها وظل في أيديهم.» فأصبح صدر ركن الدين يعلو ويهبط، وهو يغلى كالمرجل من الغيظ، وأطرق يفكر فيما سمعه وأوشك أن يعتقد اشتراك سلافة في قتل شوكار. وظنت هذه أن يأسه من لقاء شوكار هوَّن عليه الرضا بها، فوضعت يدها على كتفه تلطفًا وابتسمت وهي تقول: «أظنك صدقتني الآن، آه يا ركن الدين لو تعلم منزلتك في الحب عندي! لقد بذلتُ كل ما في وسعي لكي أجعلك قائدًا عند الخليفة فتكون أعظم قائد في الإسلام. ولا يغضبك أن ذلك لم يتم؛ فإني قد هيأت سلطنة مصر ومهدت لك سبيلها، ولم يبقَ إلا أن تصل إلى القاهرة فتنالها.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/13/
موت شجرة الدر وعز الدين
وقع لفظ السلطنة على قلب ركن الدين أجمل وقع؛ لأنه أقصى ما يتمناه، فخفَّ غيظه ومال إلى استطلاع حقيقة ما تقوله سلافة، وظل ساكتًا وهي ترعاه بنظرها، فلما رأت سكوته أمسكت بيده ومشت إلى شرفة في تلك الغرفة تطل على دجلة، وأومأت إليه أن يقعد على وسادة هناك، وقعدت هي بجانبه والماء يجري بين أيديهما، وركن الدين لا يرى شيئًا لعظم ما جاش في خاطره، فقعد قعود المتحفز، وأدركت هي أنه يطلب تفصيل ما ذكرَتْه. فقالت: «أظنك تحب أن تطَّلع على تفاصيل خبر سلطنة مصر وما فعلتُه في سبيل إعدادها لركن الدين؟ آه لو تشعر يا قاسي القلب بعِظَم حبي! ولكنك ستشعر متَى علمتَ بما ارتكبتُه من الأمور العظام في سبيل مرضاتكَ.» وتنحنحت ووضعت ضفيرة الشعر إلى جانبها استعدادًا للحديث ثم قالت: «فارقتَ القاهرة وأنت تعتقد أن الملك الأشرف سلطان عليها وعز الدين أيبك وصي عليه.» فهز رأسه أن «نعم». فضحكت وقالت: «ذهب هؤلاء جميعًا وذهبت شجرة الدر معهم.» قال: «إلى أين؟» قالت: «إلى الموت.» فأجفل وقال: «كيف ماتوا؟ إنك تكذبين.» قالت: «سامحك الله على هذه التهمة، أنا لا أكذب، إلا إذا كان ذلك في سبيل مرضاتك. نعم قد ارتكبتُ في هذا السبيل أفظع من الكذب، ارتكبت القتل والخيانة في سبيل ركن الدين، وهو ما زال يضن عليَّ بكلمة أو لفتة.» قالت ذلك وغصت بِريقها وتلألأ الدمع في عينيها، فتأثر ركن الدين من منظرها لكنه تجلد ليسمع تتمة الحديث. فقالت: «إنك تركت عز الدين وصيًّا على الملك الأشرف، وقد رضي بذلك، وشجرة الدر ساكتة قانعة بالسلامة، ولو بقي الحال على ذلك لم يبقَ لركن الدين سبيل إلى نيل السلطة. وهبْ أنه نالها، فهو لا يكون سلطانًا، بل وصيًّا، والسلطان من بني أيوب، وأنا أريد أن يكون ركن الدين سلطانًا كما وعدته، أتدري ماذا فعلتُ؟» فتطاول لسماع الحديث فقالت: «أظنك تعلم منزلتي عند عز الدين ومقدار انصياعه إلي لأني كنت السبب في نيله ذلك المنصب بعد خلع شجرة الدر. أنا خلعت شجرة الدر ونصبت عز الدين، وأنا جعلت القوم يختارون سلطانًا أيوبيًّا، ففعلوا وصار عز الدين وصيًّا. فعلتُ ذلك تمهيدًا لك يا قاسي القلب، وقد ذكرت لك عملي هذا ونحن في القاهرة فلم تعبأ بقولي، وأوشكت أن أنقلب عليك وأنتقم منك، لكن قلبي لم يطاوعني، فظلَلْتُ على حسن ظني بك، والقيام على خدمتك، فأغريت عز الدين بالملك الأشرف فألقاه في سجن مظلم سيموت فيه قريبًا إن لم يكن قد مات. وقبض عز الدين على السلطنة بيده ولم ينازعه أحد في ذلك، بقي عليَّ أن أتخلص من عز الدين ليخلو الجو لركن الدين ويكون هو السلطان، وأنا أعلم أن لعز الدين أعوانًا أشداء ولا يسهل قتله، فأغريت به شجرة الدر، وكان قد تزوج بها، فدسست بواسطة بعض الجواري مَن أبلغ شجرة الدر أن عز الدين لا يحبها، وأنه عازم على التزوج بابنة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وشغلتُ عز الدين عن زيارتها مدة، فتحققت تلك الإشاعة، وأنت تعلم غلظ قلب هذه المرأة، فاشتدت غيرتها حتَّى أغرت بعض الخدم وأوصتهم إذا دخل عز الدين الحمام أن يقتلوه خنقًا، فقتلوه وقالوا إنه أغمي عليه في الحمام فأخرجوه وشاع أنه مات مصروعًا.» فصاح ركن الدين: «مات عز الدين؟!» قالت: «مات وماتت أيضًا شجرة الدر.» فقال: «وشجرة الدر أيضًا ماتت؟! وكيف ذلك؟» قال ذلك وقد غلبته الدهشة. قالت: «لما توفي عز الدين بايع القوم ابنه نور الدين علي، وكنت قد ربيته، وهو يصغي لقولي، فلما تولى أنبأته أن شجرة الدر هي التي قتلت أباه، وحرضتُه على الانتقام له، فأوعز إلى نساء بيته فأماتوها ضربًا بالقباقيب على رأسها، وطرحوا جثتها في خندق القلعة فأكلت الكلاب نصفها ودفن النصف الباقي في مقابر السيدة نفيسة.» فبغت ركن الدين لذلك الحديث وقال: «أكنتِ أنت السبب في ذلك كله؟!» قالت: «نعم، أنا السبب في ذلك، وقد ارتكبتُ هذه الأمور في سبيل مرضاتك، فأنت إذا نزلت مصر الآن لا تجد من يقاومك، وهذا نور الدين علي في قبضة يدي، إذا شئت قتلته أيضًا، فتكون أنت سلطان مصر.» فأدهشته تلك الفظاعة والقسوة من امرأة، وخُيِّل له أنه قبض على السلطة بيده، فاختلج قلبه في صدره، وأطرق لحظة يفكر، فوقع نظره على خصلة الشعر بجانب سلافة، فعادت صورة شوكار إلى ذهنه، وتذكر أن شجرة الدر كانت السبب في خطبتها، وأن هذه المرأة الخائنة اعترفت بأنها كانت سبب قتل كثيرين، ورجح لديه أنها قتلت شوكار أيضًا. وما يمنعها أن تقتله إذا خامرها شك في صداقته ويئست منه؟ فتحير في أمره معها. فلما رأته ساكتًا قالت: «أرأيتَ ماذا ارتكبتُ في سبيل حبك يا قاسي القلب؟ وأنت تحاسبني الآن على جارية تستطيع أن تبتاع أحسن منها بمائة دينار؟ دع عنك الجفاء، ولننسَ الماضي ونذهب إلى مصر لتتم سعادتك، وهذه أموالي بين يديك.» فمر بخاطره أنه إذا أطاعها صار سلطانًا ونال البغية التي طالما شغلت باله وتمناها قلبه، لكنه ما لبث أن أنكر ذلك على نفسه وتصور شوكار وما أصابها بسببه، فنهض على رغم إرادته فنهضت سلافة معه وهي تحسبه اقتنع بأقوالها، فمد يده إلى خصلة الشعر وتناولها، وجعل يتفرس فيها، فقالت سلافة وهي تداعبه: «أظنك تأسف على صاحبة هذا الشعر، ولكن ما لك وله وهذا شعر امرأة حية تخاطبك وتتمنى رضاك؟» وأشارت إلى خصلة من شعرها مرسلة على كتفها. فقال: «وشوكار؟ هل ماتت؟» فقهقهت وقالت: «ألم أقل لك إنها ماتت؟» قال: «قلتِ ذلك نقلًا عن الملاحين وقد يكذبون.» قالت: «بل هم صادقون، ولماذا يكذبون؟» قال: «قد يكون لهم غرض.» فنظرت إليه نظرة هيام وقد احمرت عيناها من فرط ما جاش في خاطرها من أمره، ثم قالت: «لقد أحرجتني يا ركن الدين لأؤكد لك موت هذه الجارية. إنها ماتت، وأنا دبرت قتلها، وقد فعلت ذلك أيضًا في سبيل الحصول عليك لئلا يكون وجودها حائلًا بيني وبينك، وهي تتمة الفظائع التي ارتكبتها لأجلك.» فلما سمع إقرارها لم يعد يستطيع التجلد والإغضاء، ونظر إلى ما حوله فلم يجد من يخشى بأسه، ولاحت منه التفاته فرأى عابدًا في الحديقة يشير إليه بيده أن يقتلها، فقال في نفسه: «لِأمرٍ ما يلحُّ على هذا الغلام بقتلها.» فاستل خنجره وطعنها في قلبها طعنتين، فسقطت على الأرض لا تبدي حراكًا، وأغمد خنجره وأخذ صرة الشعر بيده وتحول إلى الباب، ولم يجد في البيت أحدًا يعترضه. ••• ما كاد ركن الدين يجتاز الباب حتَّى استقبله عابد والفرس معه، وأومأ إليه أن يركب وهو يقول: «لا شلت يمنيك! قد انتقمتَ لسيدتي شوكار، اركب يا سيدي وهلم بنا.» فركب وخرج من الحديقة، وإذا هي خالية ليس فيها أحد من الناس، فلما صار خارجها قال لعابد: «لماذا تعجلتَ قتلها؟» قال: «لأني تيقنت من بعض الخدم أنها هي التي تعمدت قتل سيدتي شوكار، فأغريتُ من كان هنا من الخدم بالذهاب إلى باب كلواذي لمشاهدة الخليفة قادمًا إلى الفسطاط الذي نصبوه له، فمضوا وخفتُ أن تقنعك تلك الخبيثة بأنها بريئة فتؤجل قتلها.» فقال: «بورك فيك من صادق أمين. لقد اعترفتْ بأنها قتلتها، واعترفت بفظاعتها، ولكن كيف عرفتَ أنت أنها تعمدت قتلها؟» قال: «اغتنمت انفرادي ببعض خدمها وتحدثت في شئون عديدة وقصصت عليهم فظائع زعمتُ أني ارتكبتها بإيعاز مولاي بين قتل ونهب وإغراق. وكنت أقول هذا مفتخرًا، فتحركت غيره أحدهم وقصَّ عليَّ كيف كلفته سلافة مع رفيق له أن يأتيا بشوكار من قصر التاج إلى هذا القصر، وأنها أوعزت إليه سرًّا أن يجعل المسير ليلًا، وأن يغتنم فرصة يحتال فيها لإلقاء الفتاة في دجلة، وقال إنه لم يستطع ذلك إلا قبيل وصوله إلى قصرها؛ لأن قاربًا آخر كان في أكثر الطريق قريبًا من قاربهم لا يعرفون مَن فيه. فقص شعرها بخفة ورماها في دجلة، وذهب بالشعر إلى سيدته شهادة على إمضاء أمرها. فسألتُه: هل رآها غرقت؟ فقال إنه لم يقدر أن يراها لشدة الظلام، لكنه لا يرتاب في أنها ماتت.» فاطمأن ركن الدين عند سماع هذا الحديث؛ لأنه رأى سلافة تستحق القتل، وقال في نفسه: «ألا يمكن أن تكون شوكار قد نجت بقضاء الله؟» ولم يذكر ذلك أمام عابد، لكنه استحثه إلى سجن الإمام أحمد بن الظاهر. فساق فرسه، وقد أوشكت الشمس أن تغيب، وإذا بجند هولاكو يركضون من جهة برج العجمي نحو باب كلواذي والناس يفرون من بين أيديهم، فتحول عابد بالفرس إلى الطريق المؤدي إلى سجن الأمير أحمد، وركن الدين يفكر في سلافة من جهة، وفي مصير الخليفة وأهله من جهة أخرى، فأراد أن يلقي نظرة إلى بغداد في نور الشفق عند الغروب، فصعد إلى مرتفع يطل على باب كلواذي وما يجاوره إلى برج العجمي، فرأى التتر زاحفين نحو المدينة، وتحولت شرذمة منهم نحو قصر سلافة وتسلقوا أسواره، فالتفت عابد إلى ركن الدين وقال، هل ترى يا سيدي؟» وأشار بيده إلى القصر. فقال: «أرى القوم هاجمين يريدون النهب، ولا أظنهم يجدون من يردهم. سيجدون سلافة مضرجة بدمها، وأظنهم يشتركون مع خدمها في النهب والقتل، تلك آخرة القوم الظالمين. كم كنت أحب أن أطَّلع على ما يجري في بغداد غدًا! هيا بنا إلى الإمام أحمد.» وقبل الوصول إلى قصره رأوا الحرس وقوفًا بالباب، فتقدم عابد وسأل عن الإمام أحمد هل هو هناك، فأجابه الحارس: «نعم لكنه في شغل شاغل.» قال: «بماذا؟» قال: «جاءه زائر منذ حين.» قال: «استأذِن لنا في الدخول عليه.» قال: «لا أظنه يأذن لأحد لأنَّ أمير المؤمنين يمنع الناس عن مخاطبته.» قال: «نحن غرباء، وقد أمسى علينا المساء قبل دخول المدينة ونطلب المبيت إلى الغد.» فقال: «لا بد من الاستئذان، فماذا أقول له؟» قال: «قل له إننا من مصر نطلب الراحة الليلة.» فذهب الحاجب وطال غيابه، وركن الدين لا يزال على جواده، وعابد واقف، وبعد برهة سمعَا وقْع أقدام الحاجب، ثم وصل ومعه رجل آخر تقدم وتفرس في ركن الدين وصاح: «الأمير ركن الدين تفضل يا مولاي.» فعرف ركن الدين من صوته أنه سحبان، فترجل ودخل معه إلى دهليزٍ نوره ضعيف لا يسمع فيه صوت، وقد استولى الهدوء على المكان كأنه مقر الأموات، فتهيب ركن الدين وتوقع أن يبادئه سحبان بالكلام، فلما رآه ساكتًا قال له: «أنت هنا من زمن بعيد؟» قال: «منذ ساعة.» قال: «وهل الإمام أحمد هنا؟» قال: «نعم.» قال: «أين هو؟» قال: «يلبس ثيابه للخروج مع الخليفة وأهله إلى الفسطاط لمقابلة هولاكو كما تم الاتفاق في هذا الصباح.» قال: «ومن أشار عليه بذلك؟» قال: «جاءه الأمر من الخليفة كما جاء لجميع الأمراء العباسيين.» قال: «وهل وافقتَ على أن يذهب معهم؟» قال: «لماذا أمنعه؟ دعه يذهب.» وبان الغدر في عينيه، فتذكر ركن الدين مطامع سحبان في إرجاع الخلافة إلى الفاطميين، وأنه ينوي قطع دابر العباسيين من الأرض؛ حتَّى إذا لم يجد المسلمون خليفة يبايعونه، هان عليهم مبايعة الخلفاء الفاطميين فتعود دولتهم. ولكن هذا يخالف مطامع ركن الدين، فرأى من الحزم أن يحول دون خروج ذلك الأمير من قصره في تلك الليلة، فاستوقف سحبان وقال له: «لا ينبغي لنا يا سحبان أن نسوق هذا الأمير إلى القتل.» قال: «إنهم لم يدعوه للقتل، ولكن لمقابلة هولاكو مع سائر بني العباس للكفِّ عن الحرب.» فضحك ركن الدين وأمسك بكتف سحبان وهزه وقال: «تقول ذلك لي، وقد سمعنا خبر الاتفاق معًا؟ دع الرجل حيًّا.» قال: «وهل يهمك بقاؤه؟» قال: «هب أن بقاءه لا يهمني، فلا ينبغي أن يهمك أنت قتله، دعه، أين هو الآن؟» قال وقد تلعثم وارتبك: «أظنه خرج.» قال: «لا يمكن أن يكون قد خرج، ينبغي أن تحضره توًّا الساعة.» قال ذلك وبان الغضب في عينيه. فخاف سحبان غضبه وعمد إلى الملاينة وقال: «أراك قد غضبت يا ركن الدين ولا موجب للغضب، إذا كان الإمام أحمد هنا فهو يُسَرُّ بلقياك.» وأظهر الاهتمام ومشى إلى باب غرفة الأمير وقرعه وركن الدين واقف، فسمع الإمام يقول: «أوشكت أن أنتهي من وضع ردائي.» فقال سحبان «هنا أحد الضيوف يرغب في لقاء مولاي.»
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/14/
الإمام أحمد بن الظاهر
فتح الباب وأطل الإمام أحمد وقد لبس بعض ثياب الخروج، ولم يبقَ إلا الجبة السوداء شعار العباسيين وقد تناولها ليلبسها، فتقدم سحبان وساعده في لبسها وهو يقول: «أقدِّم لمولاي الأميرَ ركن الدين بيبرس البندقداري الذي ذكرت لك أسمه الساعة، إنه جاء من مصر، وكان الخليفة قد أراد أن يعهد إليه في قيادة الجند، ثم جرى الاتفاق والصلح بالشكل الذي ذكرته الآن، وقد جاء ضيفًا على مولاي.» فابتسم الإمام أحمد وقال: «مرحبًا بالأمير الباسل، تنزل علينا على الرحب والسعة.» وأشار إليه أن يدخل ثم قال: «تمكث هنا ريثما أعود من مقابلة هولاكو بعد قليل.» فلم يتمالك ركن الدين أن قال: «لا ينبغي لمولاي أن يخرج من هذا القصر الليلة.» قال: «ولكن أمير المؤمنين بعث إليَّ أن أذهب قيامًا بالاتفاق الذي عُقد بينه وبين هولاكو، وأخاف أن يترتب على تخلفي ضرر، وقد استشرت سحبان فأشار عليَّ بالذهاب.» قال: «أظنه غيَّر رأيه الآن، اسأله.» فالتفت الإمام أحمد إلى سحبان فرآه أسرع إلى التنصل من تلك المشورة وقال: «غيرَّت رأيي لأن الأمير ركن الدين نبهني إلى أمر فاتني، والأفضل أن يبقى مولانا الليلة هنا، وسنرى ما يكون في الغد.» قال: «وبماذا أجيب الرسول؟» قال ركن الدين: «قل إنك ستنظر في الأمر.» وشق على سحبان حبوط مسعاه، فتكم ما في نفسه وأظهر أنه مضطر للذهاب في تلك الساعة، فأذن له وانصرف. فارتاب ركن الدين في نية سحبان، وأعمل فكرته فيما قد يكون غرضه، وعزم أن يصطنع الدهاء والحيلة للوصول إلى هدفه الذي جعله نصب عينيه منذ نشأت مطامعه السياسية؛ نعني الوصول إلى السلطنة، وهي تستلزم وجود خليفة عباسي يثبته، وقد كاد أن يوقن أنه ظافر بها بعد ما سمعه من حديث سلافة، فحالما خرج سحبان نظر ركن الدين إلى الإمام أحمد وقال: «هل يعرف مولاي هذا الشيعي من عهد بعيد؟» قال: «نعم.» قال: «وهل هو على ثقة من إخلاصه؟» قال: «لم يظهر لي منه ما يوجب شكًّا.» قال: «وهل تظن الشيعة يُخلصون للخلفاء العباسيين؟» فأطرق الإمام لحظة وقال: «لا أدري.» قال: «يأذن لي مولاي أن أصارحه القول، ونحن الآن على باب مستقبل جديد وانقلاب عظيم.» فاستغرب الإمام أحمد هذا التعبير وقال: «وأي انقلاب تعني؟! كنا نخاف الانقلاب قبل عقد الصلح بين الخليفة وهولاكو، وأما الآن فلا تلبث الأمور أن تعود إلى مجاريها.» فابتسم ركن الدين ابتسامة تهكم واستخفاف وقال: «إن الذي بلغ مولاي ليس سوى خداع، وإذا كان المبلغ سحبان نفسه فإنه يكون قد تعمد الكذب؛ لأنه يعلم أن حقيقة هذا الاتفاق تخالف ظاهره. إن الحقيقة في ذلك تقشعر منه الأبدان وتشمئز منها النفوس، أعذو بالله منها وأدعو الله أن ينجي الإمام أحمد من عواقبها.» فوقع هذا الكلام في نفس الأمير وقعًا شديدًا، وتهيب مما سمعه، وعظم أمر ركن الدين في نفسه وأصبح شديد الشوق إلى معرفة سر الأمر، فقال: «إني أرى الجد في كل كلمة أسمعها وكل حركة أراها. قل أيها الأمير. أفصح. إني شديد الثقة بك.» قال: «لو أن مولاي أطاع سحبان وذهب في الأمر الذي دعي إليه لأصبحت بغداد وليس فيها واحد من نسل العباس، كرم الله وجهه.» قال ذلك وأبرقت عيناه واشتد لمعانهما لاضطراب النور الواقع عليهما من المصباح، فخيل للأمير أحمد أنه يخاطب رسولًا هبط عليه من السماء. وقال: «كيف ذلك؟» قال: «لأن ظاهر الاتفاق بين المستعصم بالله وهولاكو أن يجتمع هذا بالخليفة وأهله للتصافي والصلح، وأما حقيقته فهي أن يغتنم هذا التتري الفرصة ويفتك ببني العباس جميعًا.» فلما سمع الإمام أحمد ذلك ارتعدت فرائصه وقال: «وهل كان سحبان يعرف ذلك؟» قال: «نعم.» فقال: «قبح من خائن! وبارك الله فيك! إني لا أنسى لك هذه اليد ما حييتُ. ولكني أجزع لما سيحل بأهلي وقومي، هل أنت على ثقة مما تقول؟» قال: «نعم. وفي الغد يظهر الحق، وعسى أن أكون مخطئًا فيكون ذلك الصلح صحيحًا وترجع الأحوال سيرتها الأولى ولا يكون من بأس على مولاي الإمام، وإذا لحقته من ذلك تبعه، فأنا أتحمل عنه كل تبعه وأفديه بروحي.» فازداد الأمير إعجابًا بركن الدين، وهان عليه أن يفعل كل ما يأمره به لأنه أنقذه من الموت، فأخذ يثني عليه ولا يعرف كيف يعبر عن شكره، فقال ركن الدين: «لم أقل ما عندي بعد.» قال: «قل أيها الصديق.» قال: «إذا خَلَتْ بغداد من بني العباس غدًا تنحصر الإمامة فيكم، فلا تظهر للناس، واستَتِرْ كما استَتَرَ أئمتكم قبل ظهور دعوتكم على يد العباس والمنصور في بغداد حتَّى يأذن الله بظهورها ثانية في غير بغداد، ستظهر في مصر، والقاهرة التي كانت عاصمة الفاطميين الذين يطمع سحبان هذا في إرجاع ملكهم تصير عاصمة ثانية لبني العباس.» فازداد الأمير دهشة من هذه المنن المتوالية، ورأى أنه قد آن له أن يكافئه على خدماته بمثلها فقال: «إذا شاء الله — سبحانه وتعالى — أن يحدث ما تقوله وتصير الخلافة إليَّ، فالسلطنة في مصر لا ينالها سوى الأمير ركن الدين بيبرس.» فوقع القول عنده موقع الرضا، وقال: «إن السلطنة يا سيدي ينالها الأقوى، وأما الخلافة فإنها حق موروث لا توهب ولا تباع.» قال: «وهل في مصر من هو أهل للسلطنة سواك؟» وأطرق يفكر فيما هو فيه من غرائب الأمور، وتصور المستعصم وسائر أهله، فشق عليه ذلك ودمعت عيناه، وقال: «يشق عليَّ أيها الأمير أن يصيب بغداد ما تقوله.» فقال ركن الدين: «أظن مولاي لا يجهل سبب ذلك، إن التبعة فيه على فساد الأحكام وضعف الخليفة واستسلامه للملاهي والاشتغال بالغناء، فإنه لم يسمع بمغنية في أطراف المملكة إلا بعث في استقدامها، وأطاع المتملقين، وبخاصة ابنه أبا بكر، وغير ذلك مما لا يليق بصاحب هذا المقام، فلعل الله أزال هذه النعمة عنه ليضعها فيمن هو أهل لها.» فقال الأمير أحمد: «قد آن وقت العشاء، فلنذهب إلى الصلاة ريثما يعدُّون لنا الطعام فنأكل ثم نذهب للرقاد التماسًا للراحة.» فقال ركن الدين: «إني طوع إرادة مولاي في كل ما يريده إلا الرقاد، فليذهب مولاي إلى فراشه متَى شاء، وأما أنا فسأمكث ساهرًا أرقب ما أخشاه. إن خروج سحبان على النحو الذي خرج به لم يرضني، ونحن على كل حال في إبان فتنة كما يعلم مولاي.» فأعجب الأمير بيقظته وعلو همته وقال في نفسه: «مثله يليق بالسيادة.» ثم خاطبه قائلًا: «بارك الله فيك أيها الأمير، وما الذي أخافك من سحبان؟» قال: «أخافني فشله وسكوته، ولو جادلني وعنفني على معارضتي له لما خِفتُ خوفي من كظمه؛ لأن الكظم يحبس الغيظ ويزيد النقمة.» قال: «لا ينبغي أن تخافه لأنه من أوليائنا وأصدقائنا.» قال: «لعلي مخطئ، وعلى كل حال إني شديد الحذر، وإن شاء مولاي، فإني رفيقه إلى الصلاة.» فنهض الإمام أحمد وذهبا للصلاة في مصلًّى خاص هناك، وعادا للعشاء. ••• استحسن ركن الدين ما ظهر من تقوى الإمام أحمد وتدينه وتوكله، وجلسا إلى الطعام فتناولاه، والأمير أحمد يبالغ في إكرام ركن الدين الذي أنقذه من القتل، فقال له ركن الدين: «لم أعمل من عند نفسي، إنما كان ذلك بقضاء الله مكافأة على حسنة من حسناتك الكثيرة.» فأطرق الأمير أحمد وهو يبتسم كأنه تذكر أمرًا يسره تذكره، فتوقع ركن الدين أن يقص عليه سبب ابتسامه، فسكت وأخذ يراعيه فقال الإمام أحمد: «أعلم أيها الأمير أني شديد الاعتقاد بأن من يعمل خيرًا يلقَ خيرًا، ولعل الله بعثك الليلة لإنقاذي من هذا الخطر مكافأة على حسنة وفقت إلى إتيانها بقضاء من الله.» فأعجب ركن الدين بتواضعه وأنصت يسمع تتمة الحديث فقال الإمام: «أحمد الله على ذلك التوفيق، فإنه من نِعَم المولى، وقد وفقت إليه وأنا في أشد الضنك، واستبشرت من تلك الساعة؛ وذلك أني كنت سجينًا في قصر الفردوس، وأنا صابر على السجن، ولا ذنب لي غير أني من آل العباس المرشحين للخلافة. وكم شكوت إلى الله ذلك وتمنيت لو كنت من عامة الناس، ولكن الخليفة لم يقنع بالسجن فأراد مزيدًا في التضييق، فأمر بنقلي إلى هذا القصر، فنقلوني ليلًا في سفينة نزلنا فيها دجلة في مثل هذا الوقت، وكان النوتية ومن جاء معهم من الجند يكرمونني ويؤانسونني، لكن نفسي ضاقت وعظم علي ذلك الظلم، وانفردت في مكان عند مقدم السفينة أتشاغل بالتفرج على الماء في الظلام، وكان نظري يقع بين الفينة والفينة على سفن تمرُّ بنا صعودًا أو نزولًا، وأستأنس بنداء ملاحيها أو غنائهم، إلا سفينة كانت سائرة على مقربة منا لم نسمع فيها صوتًا ولم نعلم بوجودها إلا من نور ضعيف كان معلقًا في ساريتها، وقبل وصولنا إلى هذا القصر بقليل سمعت صيحة ورأيت شبحًا وقع في الماء، فحدثتني نفسي بجريمة، فناديت ربان سفينتنا وأمرته أن يتعقب تلك السفينة فلم يستطع، لكنه عثر في أثناء تفتيشه على غريق يتحرك ويستغيث، فأعانه وانتشله وهو على آخر رمق.» وكان ركن الدين يسمع الحديث وشوقه يتزايد إلى سماع تمامه، حتَّى إذا وصل إلى هنا خطر له أن الغريق الذي يشير إليه شوكار، فلم يتمالك أن صاح: «وهل هي حية؟» فاستغرب الإمام دهشته وتسرعه وسأله كيف عرف أنها امرأة؟ قال: «عرفتها يا سيدي عرفتها، قل بالله ماذا جرى؟» قال: «فأخذ الملاحون في معالجتها حتَّى أفاقت ورأينا شعرها مقصوصًا، ورأدنا الاستفهام منها عن حالها فلم نشأ أن نقول شيئًا، فلم نكرهها على ذلك.» فقال ركن الدين: «هي شوكار يا سيدي، شوكار أريد أن أراها.» قال: «لا يا عزيزي، لو عرفت أن أمرها يهمك لاحتفظت بها.» فقال: «أين هي الآن؟» قال: «لما وصلنا بها إلى هنا وارتاحت وبدلت ثيابها وانتعشت، سألناها عن شأنها وعما تريد أن نساعدها عليه، فلم تَزِدْ على أن شكرت فضلنا وأبت أن تبوح بشيء، لكن الملاحين عرفوا من شكل السفينة أن الفتاة من جواري الخليفة قضى بإغراقها. ولم يجرؤ أحد منا أن يقص خبر هذه الفتاة على أحد، وبعد بضعة أيام سألتها إذا كانت تعرف أحدًا في بغداد تريد أن تذهب إليه، فقالت إنها تعرف سحبان، وتريد خادمًا يوصلها إليه، فتنكرت بلباس الرجال وأرسلنا معها بعض الخدم يوصلونها إلى بيت سحبان في الكاظمية. وكان ذلك في صباح هذا اليوم، ولما جاءني سحبان ورأيته أنت عندي لم يكن قد علم بوصولها بعد.» فأطرق ركن الدين، وقد ثارت عواطفه وتضاربت أفكاره، وسُرَّ كثيرًا لنجاة شوكار، لكنه أسف لذهابها إلى بيت سحبان، ولا سيما بعد أن وقع ما وقع بينهما في ذلك المساء، وأصبح الإمام أحمد في شوق إلى معرفة علاقة شوكار بركن الدين، فسأله عن ذلك، فقص عليه خلاصة تاريخ تلك العلاقة في مصر وما ارتكبته سلافة إلى آخر الحديث، فأسف الإمام أسفًا شديدًا لأنه بعثها إلى بيت سحبان، لكنه لم يَلُمْ نفسه لأنه لم يكن يعلم علاقتها بالأمير ركن الدين.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/83513693/
شجرة الدر
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتي العصر الحديث. ركز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حمل الناس علي قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونشر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم.وتدخل رواية «شجرة الدر» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وتتناول الرواية قصة شجرة الدر كأول امرأة ملكة تتولي الحكم في تاريخ مصر الإسلامية، حيث قدرت لها الأقدار أن تتوج ملكة على مصر بعد مقتل الملك «طوران شاه» آخر سلاطين الدولة الأيوبية. وقد تزامن توليها للحكم مع أحداث تراجيدية شهدها الواقع السياسي الإسلامي علي المستوي الدولي في ذلك الوقت، حيث سقطت الخلافة العباسية باجتياح التتار لبغداد التي ظلت مركزا للخلافة طيلة خمسمائة عام، وانتقال بعدها مقر الخلافة إلي مصر. كما تزامنت فترة توليها الحكم مع مجئ ملك فرنسا لويس التاسع بنفسه علي رأس الجيوش الصليبية للقضاء علي مصر بوصفها أقوي دولة إسلامية في ذلك الوقت. ورغم كل هذه التحديات التي فرضها الواقع الدولي استطاعت شجرة الدر أن تدير شئون البلاد بكفاءة واقتدار.
https://www.hindawi.org/books/83513693/15/
التتر يخربون بغداد
وبينما هما في ذلك إذ سمعا ضوضاء في حديقة القصر، فاستغرب الإمام ذلك، لكن ركن الدين لم يستغربه، بل كان يتوقعه وقد استبطأه، فأومأ إلى الإمام أن يظل في مكانه، ووثب كالأسد حتَّى أتى الباب فرأى أحد الحراس قد دخل وأقفل الباب وراءه وهو في اضطراب شديد، فقال له ركن الدين «ما بالكم؟» قال: «التتر يا سيدي، دخلوا الحديقة وهم يطلبون القبض على مولانا الأمير، وقد غضبوا لأنه لم يأتهم من تلقاء نفسه.» قال: «اذهب وقل لهم إني خارج لهم بنفسي.» قال: «ولكنهم يطلبون الإمام وإلا فإنهم يأخذوننا عنوة ويقتلوننا مع الإمام.» وسمع الإمام حديثهما فهرول وتوسل إلى ركن الدين ألا يعارض التتر فيما يريدون، وأنه يُؤْثر الذهاب معهم إلى الفسطاط. فأشار ركن الدين إليه قائلًا «كن مطمئنًا يا مولاي، لا يستطيع هؤلاء القوم أن يمسوا ظفرًا من أظفارك قبل أن يستباح دمي.» قال: «وما الفائدة من إباحة دمك إذا فاز أولئك التتر علينا، وهم فائزون لأنهم أكثر عددًا وأقوى عدة.» قال: «لا تخف، إنهم غير فائزين بإذن الله.» قال ذلك وصعد إلى كوة الباب وأطل منها على الحديقة فرآها مزدحمة بالناس؛ بينهم حملة المشاعل للإنارة، وحملة العصي والنبال والسيوف، وقد علا ضجيجهم وتعالت غوغاؤهم، وفي مقدمتهم رجل يظهر من هندامه أنه كبيرهم وبجانبه سحبان، فلما رأى سحبان معه تحقق عنده ما ظنه فيه منذ خرج من القصر على تلك الصورة. فناداه: «سحبان.» فرفع سحبان بصره إلى ركن الدين وقال: «لا بد من تسليم الأمير أحمد لأن خبره وصل إلى الخاقان هولاكو، ولم يعد بالإمكان إخفاؤه.» قال: «إني لا أرى تسليمه.» قال: «لكن الخاقان أمر بالقبض عليه، وإلا فإن الجند يهاجمون القصر ويأخذونه عنوة.» قال: «إنهم لا يفعلون ذلك، ولم يخطر لهم أن يفعلوا لولا وشايتك، فارجع بهم، وذلك خير لك وأبقى.» قال: «لماذا تعترض وتعرض نفسك لهذا الأمر أيها الأمير وأنت في غنًى عنه؟» قال: «وأنت أيضًا في غنًى عن هذه الدسائس.» قال: «فاتني أن أخبرك أن شوكار عندي، وأنت إنما جئت هذا البلد من أجلها، فإذا شئت فإني أدفعها إليك ودع هذا القصر.» فلما سمع قوله أحس بانقباض لأن سحبان يهدده بشوكار، كأنه يقول له أنه إذا لم يطعه، آذاه فيها، فوقع في حيرة فقال: «وما تعني بذلك؟ وما دخل شوكار فيما نحن فيه؟» قال: «لا أعلم، والآن افتح هذا القصر وإلا دخله الجند بالقوة، وأنت تعلم عقبى ذلك، ولا تنسَ أمر شوكار.» وكان الإمام أحمد واقفًا بجانب ركن الدين يحثه على الاستسلام، ولا سيما بعد أن سمع هذا التهديد فيه وفي شوكار، فأخذ يحرضه ويلح فأبى ركن الدين. ولما أبطأ ركن الدين في الخضوع وفي فتح باب القصر، قال له سحبان: «لا تقل إن صديقك سحبان غدر بك، فإني نصحتك مرارًا وأعيد النصح الآن أن تسلم، وإلا فأنت ومن في القصر في قبضة الجند، ولن ترى شوكار أبدًا.» وإذا بصوت صاح في وسط الضوضاء قائلًا: «لا تصدق أيها الأمير، إن شوكار معنا في أمان، وعرف ركن الدين أن صوت عابد، فصدقه وأحس بانفراج الأزمة، واشتد قلبه ونظر إلى سحبان وقال: «لم أكن أتوقع منك يا سحبان أن تحرض الجند علينا.» فقال: «لم أحرضهم، ولكنهم قادمون بأمر الخاقان.» قال: «كذبتَ، إن الخاقان لم يأمرهم بذلك بعد أن أعطاني الأمان أنا وسائر أهل هذا المنزل، وهذا علم الأمان، انظروه.» قال ذلك وأخرج العلم الذي كان مؤيد الدين قد أعطاه إياه، ونشره في النافذة، فبان جليًّا للناظرين، وحالمَا رآه الجند التتر طأطئوا رءوسهم إذعانًا وتحولوا من الحديقة راجعين، وسار سحبان في أثرهم كالهارب، وركن الدين يرقبه، وقلبه يرقص فرحًا بذلك الفوز، والإمام أحمد يضمه ويقبله شاكرًا. فنزل ركن الدين إلى صحن الدار ونادى عابدًا وسأله عن شوكار، فقال: «هي هنا يا سيدي، قد علمت بخروجها من هذا القصر من الخادم الذي أخذها إلى الكاظمية، فذهبت وأتيت بها لعلمي أن وجودها هناك يسبب عراقيل كثيرة.» فقال ركن الدين: «بورك فيك من صديق غيور، إنك لست خادمًا، وهذه الأريحية والشهامة جديرة بالصداقة.» ففرح عابد لهذا الإطراء وقال: «إذا شئت أن ترى شوكار فهلم إلى غرفتها.» فمشى ركن الدين مسرعًا إلى تلك الغرفة، فرأى شوكار لا تزال متنكرة بثوب بعض الخصيان، فلما رأته طفرت الدموع من عينيها فرحًا، وترامت على ركبتيه تقبلهما، فأنهضها وقبل رأسها وقال: «الحمد لله على سلامتك يا حبيبتي. نشكر الله على هذه النعمة، والفضل الأكبر في ذلك لمولانا الإمام، حفظه الله.» قال الإمام: «الفضل كله لك أيها الأمير، وأهنئ شوكار بهذا النصيب.» والتفت ركن الدين إلى عابد وقال: «كيف عرفتَ يا عابد خبر شوكار؟» قال: «كنت جالسًا في الحديقة وصرة الشعر معي، فسألني بعض الخدم عن خبرها، وحالمَا رآها صاح: «ما أشبه هذا الشعر بشعر الفتاة التي وجدناها في دجلة وأنقذناها من الغرق.» وبعد أخذ وردٍّ فهمت أن شوكار حُمِلَت إلى منزل سحبان، فذهبت بأسرع من لمح البصر وأتيت بها متنكرة كما تراها.» فكرر الثناء عليه، فازداد فرح عابد، ولكنه قال: «لا ينبغي لمولاي الإمام أن يبقى هنا.» فقال ركن الدين: «لماذا؟» قال «لأن التتر وإن كانوا قد تراجعوا فإن سحبان لا يلبث أن يذهب بنفسه إلى الخاقان أو غيره ويخبره بوجود الإمام هنا فيبعث في طلبه؛ لأني رأيت في طريقي من الفظائع ما لا يخطر ببال بشر.» فقال ركن الدين: «ماذا شاهدتَ، هل نزل التتر بغداد؟» قال: «نزلوا دور الخلافة، ومعهم هولاكو نفسه، وتفقد تلك القصور، وأخرج من فيها من النساء وفرقهن في رجاله.» فقال الإمام أحمد: «والخليفة؟ ماذا فعلوا به؟ أين هولاكو؟» قال: «علمت أن مؤيد الدين الوزير حرض بني العباس وجميع وجوه الدولة على الخروج إلى الفسطاط، فقتلهم التتر عن آخرهم، ثم هجموا عند الغروب على قصور الخلافة وقتلوا كل من وجدوه هناك من أبناء الخلفاء، ومن كان منهم صغيرًا أخذوه أسيرًا، والقتل الآن على أشده في بغداد، والقائد التتري باجو قد عبر الجسر إلى الكرخ وغيرها وأخذ رجاله ينهبون ويقتلون، وقد علمت أن الكتب التي كانت في خزائن قصور الخلافة أخرجوها وألقوها في دجلة وهي شيء لا يعبر عنه لكثرته. وسمعتهم يذكرون اسم مولاي الإمام وسبب تغيبه، لأنهم لم يجدوه في قصر الفردوس كما كانوا يظنون؛ ولذلك قلت لكم لا بد من السرعة في الخروج الآن.» فوقع الرعب في قلب الإمام أحمد، فالتفت ركن الدين إلى عابد وقال: «أنت من أهل هذه البلاد فأرشدنا إلى مكان نخفي فيه مولانا حتَّى تستقر الحال.» فأشار مطيعًا وقال: «ذلك عليَّ، فأْمُرُوا بأخذ ما خف حمله وغلا ثمنه واتبعوني.» فعمل الإمام أحمد وخادمه بما قاله عابد، ثم ركبوا قبل الفجر، وعابد يمشي في مقدمتهم حتَّى خرجوا من بغداد، وعلموا في اليوم التالي أن التتر يتعقبونهم، فلم يروا بدًّا من الالتجاء إلى بعض قبائل العرب، فالتجئوا إلى قبيلة هناك مكث عندها الإمام ومعه عابد. ولما اطمأن ركن الدين على مصير الإمام، أوصى عابدًا به خيرًا، وسافر إلى مصر ومعه شوكار؛ حيث عقد زواجه بها، ووجد سلطان مصر نور الدين بن عز الدين، فحرض الأمراء على التذمر منه لأنه غلام لا يصلح للحكومة، وبايعوا سيف الدين قطز سنة ٦٥٧ﻫ؛ لأنه من سلالة ملوك خراسان، فصبر ركن الدين على ذلك وهو يسعى لتحقيق أمنيته ليتم له ما دبره من أمر نقل الخلافة إلى مصر. وفي السنة التالية زحف هولاكو على سوريا وبعث يهدد قطز، فشاور الأمراء، فأشاروا عليه بالحرب، وفي مقدمتهم ركن الدين، فجرد حَمْلة سار ركن الدين فيها، واضطر هولاكو إلى الرجوع لموت والده، وأخذ معظم جيشه معه، والتقى ما بقي من رجاله بجيش قطز في فلسطين في معركة فاز فيها المصريون وعادوا ظافرين. فاغتنم ركن الدين فرصة في أثناء رجوعهم وقتل قطز، وكان قد تواطأ على ذلك مع رفاقه الأمراء، ورضوا أن يتولى هو مكانه، فنادوا به سلطانًا على مصر سنة ٦٥٨ﻫ. ولقب بالملك الظاهر. وحالما استقر له الأمر بعث في استقدام الأمير أحمد، فجاءه في السنة التالية، فبايعه خليفةً ولقبه بالمستنصر بالله، وصارت الخلافة العباسية بمصر من ذلك الحين.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/37382716/
الدِّيكُ الظَّرِيفُ
كامل كيلاني
قصة الديك الظريف، وكيف استطاع الثعلب المكار أن يخدعه ويخطفه لكي يأكله ولكن الديك فكر في حيلة ليهرب واستطاع بمساعدة أصدقائه الهروب من الثعلب المكار.
https://www.hindawi.org/books/37382716/1/
الدِّيكُ الظَّرِيفُ
الدِّيكُ الظَّرِيفُ صَحا مِنَ النَّوْم وَقَدْ ظَهَرَتْ أَضْواء الْفَجْر. الْديكُ قالَ لِلفَرْخَة الصغِيرَةِ: «صَباحُ الْخَيْرِ يا أَمِيرَةَ الْفِراخِ.» الْفَرْخَة سَمِعَتْ صَوْتَ الدَّيكِ. انْتَبَهَتْ وَنَفَضْتْ جَناحَيها. قالَتْ لِلدِّيكِ الظَّرِيفِ: «أَسْعَدَ اللَّهُ صَباحَكَ يا دِيكُ.» الدِّيكُ الظَّرِيفُ قالَ لِلْفَرْخَة: «هَلْ أَخْبَرَكَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحابِي بما عَزَمُوا عَلَيْه فِي شَأْنِي؟» الْفَرْخَةُ الصَّغِيرةُ لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ شَيْئًا، فَقالَتْ: «أيَّ خَبَرِ تَعْنِيهِ يا صاحِبِي، وعلى ماذا عَزَمَ أَصْحابُكَ؟» الدِّيكُ الظَّرِيفُ قالَ، وَهُوَ يَبْتَسِمُ فِي سُرُورٍ: «عَزَمَ أَصْحابِي على أَنْ يَحْتَفِلوا بِعِيدِ مِيلادِي بَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ.» الْفَرْخَةُ الصَّغِيرَةُ فَرِحَتْ بِهذا الْخَبَرِ السَّعِيدِ، وَقالَتْ مُبْتَسِمَةً: «عِيد مِيلادٍ مُبارَكٌ يا دِيكُ. سَأَكُونُ مَع أَصْحابِكَ فِي عِيدِ مِيلادِك. وَسَأُشاركُهُم فِي تَهْنِئَتِهِمْ جَمِيعًا لَكَ بِهذا الْعِيدِ السَّعِيدِ.» فِي الْيَوْمِ التَّالِي صَحا الدِّيك «كَاكْ» مِنَ النَّوْمِ، وَهُوَ يَشْعُرُ فِي نَفْسِهِ بِخَوْفٍ وَحُزْنٍ عَمِيْقٍ. الْفَرْخَةُ الصَّغِيرَةُ سَأَلَتِ الدِّيكَ: «أُحِبُّ أَنْ تَقُولَ لِي يا صاحِبِي: لِماذا صَرَخْتَ صَرْخَةً عالِيَةً، لَمَّا صَحوتَ الْآنَ مِنْ نَوْمِكَ؟» الدِّيكُ الظَّرِيفُ قالَ لِلْفَرْخَةِ: «حَلُمْتُ حُلْمًا خِفْتُ مِنْهُ!» الْفَرْخَةُ الصَّغِيرَةُ قالَتْ لِلدِّيكِ: «لا بُدَّ أَنْ تَحْكِيَ لِي حُلْمَكَ.» الدِّيكُ الظَّرِيفُ «كَاكْ» قالَ وَهُوَ يَدْعَكُ عَيْنَيْهِ: «حَلُمْتُ أَنَّ الْمَكَّارَ «عَوْعَوْ» هَجَمَ عَلَيَّ، وَعَيْنُهُ كُلُّها شَرٌّ!» الفَرْخَةُ الصَّغِيرَةُ قالَتْ تُطَمْئِنُ الدِّيكَ الظَّرِيفَ: «الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى أَنَّهُ حُلْمٌ، وَلَيْسَ الْحُلْمُ حَقِيقَةً!» الدِّيكُ الظَّرِيفُ قالَ: «ما سَبَبُ مَجِيء الثَّعْلَبِ لِي فِي النَّوْمِ؟!» الْفَرْخَةُ الصَّغِيرَةُ قالَتْ لِلدِّيكِ تُخْبِرُهُ بِسَبَبِ حُلْمِهِ: «أَنْتَ فَكَّرْتَ فِي المكَّارِ «عَوْعَوْ» قَبْلَ النَّوْمِ، فَلَمَّا نِمْتَ شُفْتَهُ! فِي مَطْلَعِ الفَجْرِ، الدَّيكُ صاحَ: «اصْحُوا مِنَ النَّوْمِ، طَلَعَ الصَّباحُ.» الْفَرْخَةُ الصَّغِيرَةُ: أَوَّلُ فَرْخَةٍ صَحَتْ عَلَى صَوْتِ الدِّيكِ. قالَتْ: «أَيَّامُ الرَّبِيعِ هُنا جَمِيلَةٌ.» الدِّيكُ الظَّرِيفُ قالَ لِلْفَرْخَةِ: «فِي أَيَّامِ الرَّبِيعِ النَّفْسُ تَرْتاحُ!» الْدِّيكُ الظَّرِيفُ خَرَجَ يَتَمَشَّى مَعَ الفَرْخَةِ الصَّغِيرَةِ بَعْضَ الْوَقْتِ، وَهُما يَتَّجِهانِ إِلَى الْمَيْدَانِ الْفَسِيحِ. الْتَقَى الْدِّيكُ بِالْفِرَاخِ الْعَزِيزاتِ. إِحْدَى الْفِراخِ أَسْرَعَتْ تَقُولُ لِلدِّيكِ الظَّرِيفِ «كَاكْ»: «قَرُبَ الْيَوْمُ الَّذِي نَحتَفِلُ فِيه بِعِيدِ مِيلَادِكَ السَّعِيدِ». الدِّيكُ الظَّرِيفُ وَجَّهَ كَلامَهُ لِلْفِرَاخِ العَزِيزاتِ قائِلًا: «أَنا سَأَكُونُ فِي هَذا الْيَوْمِ سَعِيدًا بِوُجُودِكُمْ مَعِي، وَفَرَحِكُمْ بِي.» إِحْدَى الْفِرَاخِ قالَتْ لِلدِّيكِ الظَّرِيفِ، وَهِي تَضْحَكُ: «وَسَتَكُونُ أَنْتَ سَعِيدًا بِهَدَايا كَثِيرَةٍ، سَيُقَدِّمُها لَكَ أَصْحَابُكَ الْأَعِزَّاءُ فِي يَوْمِ عِيدِ مِيلادِكَ؛ لِيُعَبِّرُوا لَكَ عَنِ الْحُبِّ وَالْمَوَدَّةِ.» بَعْدَ أَنْ مَرَّتْ ثَلَاثَةُ أيَّامٍ خَرَجَ الدِّيكُ «كَاكْ» وَحْدَهُ، يُرِيدُ أَنْ يَتَنَزَّهَ ساعَةَ الْعَصْرِ. حَدَثَتْ لَهُ مُفَاجَأَةٌ مُخِيفَةٌ! الثَّعْلَبُ الْمَكَّارُ «عَوْعَوْ» ظَهَرَ فَجْأَةً، فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ. الثَّعْلَبُ الْمَكَّارُ «عَوْعَوْ» لَمَحَ بِعَيْنِهِ الدِّيكَ الظَّرِيفَ. الدِّيكُ الظَّرِيفُ خافَ عِنْدَما شافَ قُدَّامَهُ الثَّعْلَبَ الْمَكَّارَ «عَوْعَوْ» يُوَجِّهُ نَظَرَهُ إِلَيْه. الدِّيكُ الظَّرِيفُ أَحَسَّ بِأنَّهُ يُوَاجِهُ خَطَرًا تَصْعُبُ النَّجاةُ مِنْهُ. لَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّ المَكَّارَ «عَوْعَوْ» سَيَهْجُمُ عَلَيْهِ، وَيَفْتِكُ بِهِ. الدِّيكُ الظَّرِيفُ فَكَّرَ بِسُرْعَةٍ، ثُمَّ هَمَّ بِأَن يَفِرَّ هارِبًا. المَكَّارُ «عَوْعَوْ» نادَى الدَّيكَ الظَّرِيفَ، وَقالَ لَهُ: «لا تَخْشَ عَلَى نَفْسِكَ بَأْسًا يا ابْنَ أَخِي. لِماذا تَهْرُبُ مِنَّي؟! هَلْ تَظُنُّ أنّي سَأُؤذِيكَ؛ كَيْفَ ذلِك؟ أَنْتَ لا تَعْرِفُ يا بُنَيَّ أَنَّ أَباكَ كانَ صاحِبِي، وكانَ يُعِزُّني وَأُعِزُّهُ، فَأَنْتَ الْعَزِيزُ ابْنُ أَخِي الْعَزِيزِ.» «عَوْعَوْ»: ثَعْلَبٌ غَدَّارٌ. الثَّعْلَبُ قالَ لِلدِّيكِ «كَاكْ»: «كُنْتَ تُغَنِّي لِأَصْحابِكَ الْفِراخِ الْمِلاحِ، فِي أَوَّلِ هذا الصَّباحِ. سَمِعْتُكَ لَمَّا كُنْتَ تُغَنّي. وَقَفْتُ وَقْتًا هُناكَ عَلَى بُعْد، أُمْتِعُ أُذُنِي بِغِنائِكَ الْجَمِيلِ، حَتَّى لا تَنْزَعِجَ الْفِراخُ، وَتَهْرُبَ مِنْ حَوْلِكَ، حِينَ تَرَى وَجْهِي. بَقِيتُ مُنْتَظِرًا طُولَ النَّهارِ، وَنَفْسِي مُشْتاقةٌ إِلَى أَنْ أراكَ.» الدِّيكُ الظَّرِيف قال لِلثَّعْلبِ المَكَّارِ «عَوْعَوْ» وَهُو مَسْرُورٌ بِما سَمِعَ: «أَحَقًّا سَمِعْتَنِي وَأَنا أُغَنِّي؟ أَحَقًّا أَعْجَبَكَ صَوْتِي؟!» الثَّعْلَبُ «عَوْعَوْ» قالَ، وَهُوَ يَبْتَسِمُ ابْتِسامَةً ماكرَةً: «إِنَّ صَوْتَكَ جَمِيلٌ حَقًّا يا «كَاكْ»! إِنَّهُ يُشْبِهُ صَوْتَ أَبِيك.» الدِّيكُ الظَّريفُ تَعَجَّبَ مِمَّا أَخْبَرَهُ بِه الثَّعْلَبُ، وَقالَ: «هَلْ سَمِعْتَ أَنْتَ صَوْتَ أَبِي، وَهُوَ يُغَنِّي لِلفِراخِ؟!» الثَّعْلَبُ «عَوْعَوْ» قالَ: «أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّهُ كانَ صاحِبِي؟» الدِّيكُ صَدَّقَ قَوْلَ الثَّعْلَبِ، فَرِحَ بِأَنَّ «عَوْعَوْ» هذا كانَ فِي العَهْدِ الْماضِي صَدِيقًا لِأبِيه. الثَّعْلَبُ «عَوْعَوْ» قالَ لَهُ: «أَبُوكَ الدِّيكُ الفَصِيحُ تَعَوَّدَ أَنْ يَزُورَنِي فِي بَيْتِي يُؤْنِسُنِي. كُنْتُ أطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُغَنِّيَ لِي وَيُطْرِبَنِي. أَبُوكَ كانَ يُغَمِّضُ عَيْنَيْه دائمًا أَمامِي، حِينَ يَنْدَمِجُ فِي الْغِناء. غَنِّ كَما كانَ أَبُوكَ يُغَنَي. غَمِّضْ عَيْنَيْكَ كَما كانَ يَفْعَلُ. الدِّيكُ «كاكْ» انْخَدَع بِكَلامِ الثَّعْلَبِ «عَوْعَوْ»، وَانْبَسَطَ مِنْهُ. تَوَهَّمَ أَنَّ الثَّعْلَب «عَوْعَوْ» أَصْبح صَدِيقًا لَهُ، وَأَنَّهُ لَنْ يُؤْذِيَهُ. الدِّيكُ الظَّريفُ فَكَّرَ قَلِيلًا، ثُمَّ قالَ فِي نَفْسِهِ: «لِماذا لا أَسْتَجِيبُ لِرَغْبَةِ صَدِيقِي الْجَدِيدِ الثَّعْلَبِ: «عَوْعَوْ»؟ وَلِماذا لا أُحَقِّقُ لَهُ ما يُرِيدُ؟ لِماذا لا أُغَنِّي لَهُ؟» سَأُغْمِضُ عَيْنِي، كما كانَ يَفْعَلُ أبِي، وأُسْمِعُهُ صَوْتِي، حَتَّى يَتَمَتَّعَ بِغِنائي.» الدِّيكُ الظَّرِيفُ أَخَذَ يُغَنِّي بِصَوتِهِ الرَّنَّان لِلثَّعْلَبِ، وَهُوَ مُغْمِضٌ عَيْنَيْهِ. عِندَما غَمَّضَ الدِّيكُ عَيْنَيْه، وَأَخَذَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ عالِيًا بِالْغِناء، وَجَدَ الثَّعْلَبُ الغَدَّارُ فُرْصَتَه، هَجَمَ سَرِيعًا عَلَى الدِّيكِ، وَخَطَفَهُ. الدِّيكُ الظَّرِيفُ شَعَرَ بِالْحَسْرَةِ، وَأَحَسَّ بالنَّدَمِ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَ كَلامَ الثَّعْلَبِ، وَنَفَّذَ ما أَرَادَهُ. عَرَفَ أَنَّ الثَّعْلَب «عَوْعَوْ» لَمْ تَكُنْ نِيَّتُهُ طَيَّبَة نَحْوَهُ. عَرَفَ أَنَّ الثَّعْلَبَ «عَوْعَوْ» حَيَوانٌ مَكَّارٌ خَدَّاعٌ، احْتَالَ عَلَيْهِ. الدِّيكُ الظَّرِيفُ قال لِلثَّعْلَبِ «عَوْعَوْ» الْمُحْتالِ: «أَهكذا تَخْدَعُنِي، وتُوهِمنِي أَنَّكَ كُنْتَ صَدِيقَ أبِي، وأَنَّ صَوْتِي أَعْجَبَكَ؟!» الثَّعْلَبُ «عَوْعَوْ» قالَ، وَهُو يَضْغَطُ الدِّيكَ تَحْتَ إِبْطِهِ: «ما فائِدَةُ الْكلامِ الْآنَ مَعِي؟ إِنَّكَ لَنْ تَفْلِتَ مِنْ يَدِي؟» الدِّيكُ الظَّرِيفُ هَدَّأ نَفْسَهُ وَقالَ فِي سِرِّهِ: «النَّدَمُ حَقًّا لا يَنْفَعُ. يَجِبُ أَنْ أُعْمِلَ عَقْليِ فِي حَلِّ مُشْكِلَتِي، الحِيلَةُ لا يَغْلِبُها إِلَّا الْحِيلَةُ. سَأُفَكِّرُ فِي حِيلَةٍ نَاجِحَةٍ، تُخَلِّصُنِي مِنْ مَكْرِ الثَّعْلَبِ الْخَدَّاعِ.» الدِّيكُ الظَّرِيفُ قالَ لِلثَّعْلَبِ «عَوْعَوْ» الْماكِرِ الْخَدَّاعِ: «هَلْ أَنْتَ تَعْرِفُ أُخْتَنا الْوَزَّةَ السَّمينَة، الَّتِي اسْمُها: ياسَمِينَةُ؟» الثَّعْلَبُ «عَوْعَوْ» قالَ لِلدِّيكِ: «هَلْ أَنْتَ تَظُنُّ أَنِّي أَجْهَلُها؟ لماذا تَذْكرُها؟ ماذا تُرِيدُ مِنْها؟» الدِّيكُ الظَّرِيفُ قالَ للثَّعْلَبِ: «الْوَزَّةُ ياسَمِينَةٌ هِيَ بِنْتُ عَمِّي، إِنَّها مِثْلُكَ تُحِبُّ سَماعَ صَوْتِي. سَأَذْهَبُ الْآَنَ إِلَيْها، لِأُحْضِرَها.» الثَّعْلَبُ «عَوْعَوْ» قال لِلدِّيكِ الظَّرِيفِ «كَاكْ»: «إِنْ ذَهَبْتَ إِلَيْها وَأحْضَرْتَها سَأَتْرُكك أنْتَ، لا أُوذِيكَ.» الدِّيكُ «كاكْ» قالَ، وَقَدْ فَرِحَ بِنَجاحِ حِيلَتِهِ: «سَتَجِدُ الْوَزَّةَ السَّمِينَة بَعْدَ قَلِيلِ بَيْنَ يَدَيْكَ. اتْرُكْنِي لِأُحْضِرَها لَكَ.» الثَّعْلَبُ الْمَكَّارُ قالَ فِي نَفْسِهِ: «هذِهِ الْوَزَّةُ السَّمِينَةُ: «ياسَمِينَةُ» وَزْنُها أَكْبَرُ مِنَ الدِّيكِ، وَطَعْمُها أَلَذُّ! وَأَنا أُحِبُّ الْوَزَّ!.» الثَّعْلَبُ تَرَكَ الدِّيكَ الظَّرِيفَ لِيُحْضِرَ لَهُ الْوَزَّةُ السَّمِينَة: «ياسَمِينَةُ». الدِّيكُ الظَّرِيفُ «كاك» نَطَّ عَلَى فَرعِ شَجَرَةٍ نَطَّة عالِيَة. الثَّعْلَبُ الْمَكَّارُ «عَوْعَوْ» قالَ: «أَنا مُنْتَظِرٌ رُجُوعَكَ بَعْدَ قَلِيلٍ، وَمَعَكَ الْوَزَّةُ السَّمِينَةُ ياسَمِينَةُ.» الدِّيكُ الظَّرِيفُ قالَ لِلثَّعْلَبِ: «لا تَنْتَظِرْ مِنِّي أَنْ أَرْجِعَ أَبَدًا.» الثَّعْلَبُ قالَ لِلدِّيكِ الظَّرِيفِ: «هَلْ كُنْتَ تَخْدَعُنِي يا «كاك»، لَمَّا وَعَدْتَنِي بِإِحْضارِ «ياسَمِينَةُ»؟! اعْلَمْ أَنِّي لا بُدَّ مُنْتَقِمٌ مِنْكَ.» الدِّيكُ الظَّرِيفُ «كَاكْ» قالَ لِلثَّعْلبِ الْمَكَّارِ «عَوْعَوْ»: «أَنْتَ الَّذِي بَدَأْتَ تَخْدعُنِي. ادَّعَيْتَ أَنك صاحِبُ أبِي، حَتَّى أَمِنْتُ لَكَ، وَلكِنَّكَ غَدَرْتَ بِي وَخَطَفْتَنِي، إِلْا أَنَنِي نَجَوْتُ مِنْكَ بِحِيلَتِي!» الدِّيكُ صاحَ، وَهُوَ عَلَى فَرْع الشَّجَرَةِ. الْفِرَاخُ وَأَصْحابُ الدِّيكِ سَمِعُوا صَوْتَهُ، وَكانُوا خارِجِين يَبْحَثُونَ عنْهُ. لِأنَّهُ غابَ عَنْهمْ وَقْتًا طوِيلًا. اَلثَّعْلَبُ «عَوْعَوْ» انْتَظَر أَنْ يَنُطُ الدِّيكُ، فَيُسْرِعَ إِليْهِ، وَيلْحَق بِهِ وَيَهْجُمَ عَلَيْهِ، وَلكِنَّ الدِّيكَ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ فَرْعِ الشَّجَرةِ. بَعْدَ أَنْ مَضى وَقْتٌ قَلِيلٌ ظَهَرَ أَصْحابُ الدِّيكِ الظَّرِيفِ؛ الْكَلْبُ الْوَفِيُّ «وَثَّابٌ» يَنْبحُ، الْحِمارُ النَّشِيطُ «تَوْلَبٌ» يَنْهَقُ. الْبَقَرَةُ الطَّيِّبَةُ «مُسْعِدَةُ» تَزْعَقُ، الْأَصْحابُ الثَّلاثَةُ عَزَمُوا عَلَى نَجْدَةِ الدِّيكِ الظَّرِيفِ «كاكْ». الثَّعْلَبُ «عَوْعَوْ» شافَ الْكَلْبَ وَالْحِمارَ وَالْبَقَرَةَ، هاجمِينَ عَلَيْهِ فِي صَفٍّ واحِدٍ، ليَحْمُوا الدِّيكَ الظَّرِيفَ مِنْهُ. الثعْلبُ «عَوْعَوْ» عَرَفَ أَنَّهُ لا يَقْدِر عَلَى مُهاجَمةِ الأصْحابِ الثَّلاثةِ، وَهُمْ صَفٌّ واحِدٌ. إِنَهُمْ بِاجْتِماعِهِم يَسْتَطِيعونَ التَّغَلُّبَ عَلَيْه. الثَّعْلَبُ الْمَكَّارُ حَسَّ بِالْخَوْفِ، وَرَأى أَنْ يَهْرُبَ، وَينْجُوَ بِنَفْسِه. الدِّيكُ الظَّرِيفُ «كاكْ» قالَ لِلثَّعْلَبِ «عَوْعَوْ» وَهُوَ هارِبٌ: «اسْمَعْ يا «عَوْعَوْ» يا مَكَّارٌ، عِيدُ مِيلادِي بُكْرَة. لا تَنْسَ أَنْ تَحْضُرَ عِندَنا بُكْرَةً. سَنُرَحِّبُ بِحُضُورِكَ، لِتَشْتَرِكَ مَعَ أَصْحابِي الْأَعِزَّاءِ حِينَ يَجْتَمِعُونَ عِنْدِيَ، لِلِاحْتِفالِ بِعِيدِ مِيلادِي!» الْفِرَاخُ أَصْحابُ الدِّيكِ ضَحِكُوا ضِحْكًا عالِيًا، لَمَّا سَمِعُوهُ يَدْعُو الثَّعْلَبَ الْمَكَّارَ لِحُضُورِ الِاحْتِفالِ بُكْرَةً، بِعِيدِ الْمِيلادِ السَّعِيدِ. عَرَفوْا أَنْ الْثَّعْلَبُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْضُرَ الاحْتِفَالَ بِالْعِيدِ! عَرَفُوا أَنَّ الدِّيكَ الظَّرِيفَ يَسْتَهْزِئ بِالثَّعْلَبِ الْخَدَّاعِ. الدِّيكُ الظَّرِيفُ «كاكْ» حَكَى قَصَّتَهُ مَعَ الثَّعْلَبِ «عَوْعَوْ»، وَكَيْفَ تَخَلَّصَ مِنْ أَذاهُ. الدِّيكُ الظَّرِيفُ شَكَر لِأَصْحابِهِ أنَّهُمْ أَسْرَعُوا إِلَيْهِ، وَأَنْجَدُوهُ. أَصْحابُ الدِّيكِ حَمِدُوا اللَّهَ على هَزِيمَةِ «عَوْعَوْ» الثَّعْلَبِ الْمَكَّارِ. جاء يَوْمُ الِاحْتِفالِ بِعِيدِ مِيلادِ الدِّيكِ الظَّرِيفِ: «كاكْ». كُلُّ أَصْحابِ الدِّيكِ اهْتَموا بِأنْ يَحْضُرُوا عِيدَ الْمِيلادِ. كُلُّ واحِدِ مِنْهُمْ حَضَرَ، وَمَعَهُ هَدِيَّةٌ لَطِيفَةٌ لِلدِّيكِ الظَّرِيفِ. الْأرْنَبُ «نَبْهانُ» كانَ أَوَّلَ الْحاضِرِينَ للِاحْتِفالِ بِعِيدِ الْمِيلادِ. أَسْرَعَ إلَى مَكانِ الِاحْتِفالِ، وَهُوَ يَحْمِلُ سَلَّةً، فِيها هَدِيَّةٌ مِنَ الْجَزَرِ. الْوَزَّةُ السَّمِينَةُ «ياسَمِينَةُ» حَمِدَت اللَّهَ الْكَرِيمَ عَلَى أَنَّ صاحِبَها الدِّيكَ «كاكْ» نَجا مِنْ كَيْدِ الثَّعْلَبِ الْمَكَّارِ. لَمَّا جاءتْ تُهَنِّئْ الدِّيكَ بِنَجاتِهِ، عَرَفَتْ مِنْهُ أَنَّهُ خَدَعَ الثَّعْلَبَ «عَوْعَوْ»، لِيَنْجُوَ مِنْ شَرّهِ، حِينَ وَعَدَهُ بِأَنْ يُحْضِرَها لَهُ، بدَلَا مِنْهُ، وَنَطَّ فَوْقَ الشَّجَرَةِ! الْوَزَّةُ السَّمِينَةُ ضَحِكَتْ كَثِيرًا، لَمَا سَمِعَتْ هذِهِ الْحِكايَةَ. الْوَزَّةُ السَّمِينَةُ «ياسَمِينَةُ» صَدَّقَتِ الدِّيكَ «كاكْ»، ولم يخطُرْ فِي بالِها أنَّهُ يَقْبَل أَنْ يُقَدِّمَها لِلثَّعْلَبِ الْمَكَّارِ، لِأنَّها تَعرِف أمانة الدِّيكِ وإخلاصَهُ. الدِّيكُ الظَّرِيفُ قالَ للِوزَّةِ «ياسَمِينَة»، لَمَا حَكى لَها حِكايَتَهُ: «هَلْ تَحْضُرِينَ مَعَ أَصْحابِي الِاحْتِفالَ بِعِيدِ مِيلادِي بُكْرة؟» الوَزَّةُ السَّمِينَةُ أَسْرَعَتْ تَقُولُ لِصاحِبِها الدِّيكِ «كاكْ»: «هَلْ تَشُكُّ فِي ذَلِكَ يا دِيكَنا الْعَزِيزِ؟ سَأَحْضُر فِي الْمَوْعِدِ» وَذَهَبَتْ لِحُضور الِاحْتِفالِ، وَمعها سَلَّةٌ فِيها هَدِيَّة مِن التِّينِ. الْجَدْيُ النَّطَّاطُ عَرَفَ حِكايَةَ الدِّيكِ الظَّرِيفِ وَالثَّعْلَبِ الْمَكَّارِ. الْجَدْيُ النَّطَّاطُ قالَ لِنَفْسِِهِ: «أَخُونا الدِّيكُ الظَّرِيفُ نَجا، بِفَضْلِ نَجْدَةِ الْأَصْحَابِ الْأَعِزِّاء. سَأَذْهَبُ لِأُهَنِّئَ صاحِبيِ الدَّيكَ الظَّرِيفَ بِنَجاتِهِ وَسَلامَتِهِ. لوْلا لُطْفُ اللَّهِ وَعِنايَتُهُ بِنا لنَجَحَتْ حِيلَةُ الثَّعْلَبِ الْمَكَّارِ، وَلَكانَ قَدْ ظَفِرَ بِالدِّيكِ «كاك» وَحَرَمَنا أَنْ نَراهُ دائِمًا مَعَنا!» لَمَّا ذَهَبَ الْجَدْي النَطَّاط لِتَهْنِئَةِ الدِّيكِ الظَّرِيفِ قالَ لَهُ: «أنا فَرْحان بِنَجاتِكَ يا صَدِيقِي الْكَرِيم. إِنَّ نَجاتَكُ نَجاةٌ لَنا كُلِّنا. لَوْ تَمَكَّنَ مِنْكَ الثَّعْلَبُ الْمَكَّارُ، وَظَفِر بِكَ، لَطَمَّعَهُ ذلِك فِينا كُلِّنا، وَلَتَعَوَّدَ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْنا، واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ، كُلَّما أَحَسَّ بِالْجُوعِ.» الدِّيكُ الظَّرِيفُ شَكَر لِصَاحِبِهِ الْجَدْيِ النَّطْاطِ، وَقالَ لَهُ: «إِنِّي مُنْتَظِرٌ أَنْ أَراكَ بُكْرَة، مَوْعِدَ الِاحْتِفالِ بِعِيدِ مِيلادِي.» وَفِي الْمَوْعِدِ ذَهَبَ الْجَدْيُ النَّطَاطُ، وَمَعَهُ هَدِيَّةٌ مِنَ الْعِنَبِ. الْحِمارُ النَّشِيطُ «تَوْلَبٌ» قَابَلَ الْخَرُوفَ الْوَدِيعَ «مَأْمَأ»، وَدَرَى مِنْهُ بِحِكايَةِ الدِّيكِ «كاكْ» مَعَ الثَّعْلَبِ الْمَكَّارِ «عَوْعَوْ» وَكَيْفَ نَجا مِنْهُ عِنْدَ الشَّجَرَةِ. الْخَرُوفُ الْوَدِيعُ «مَأْمَأُ» قالَ: «يَا لَيْتَنِي كُنْتُ شارَكْتكُمْ فِي نَجْدَةِ الدِّيكِ «كاكْ». لَوْ عَلِمْتُ ذَلِكَ لَذَهَبْتُ مَعَكُمْ، لِأَنْطَحَ الثَّعْلَبَ الْمَكَّارَ «عَوْعَوْ»، إذا هَجَمَ عَلَى واحِدٍ مِنَّا.» الْحِمارُ النَّشِيطُ «تَوْلَب» قالَ لِصاحِبِهِ الْخَرُوفِ الْوَدِيعِ «مَأْمَأ»: «شُكْرًا لِلْبَقَرَةِ «مُسْعِدَةَ» والْكَلْبِ «وَثَّابٍ»، فَلَوْلا وُجُودُهُما لَكانَ الثَعْلَبُ «عَوْعَوْ» انْفَرَدَ بِالدِّيكِ «كاكْ»، وَهَجَمَ عَلَيْه!» الْخَرُوفُ «مَأْمَأُ» قالَ لِصاحِبِهِ الْحِمارِ النَّشِيطِ «تَوْلَبٍ»: «سَأَذْهَبُ بُكْرَةً، لِأُهَنِّئَ الدِّيكَ «كاكْ» بِنَجاتِهِ، وَبِعِيدِ مِيلَادِهِ.» وَبُكْرَةً ذَهَبَ الْخَرُوفُ «مَأْمَأُ» إلَى الِاحْتِفالِ، وَمَعَهُ هَدِيَّةٌ مِنَ الْبَلَحِ، كَما ذَهَبَ الْحِمارُ «تَوْلَبٌ»، وَقَدْ حَمَلَ مَعَهُ هَدِيَّةً مِنَ الْكُرُنْبِ. اَلْبَقَرَةُ الْطَّيِّبَةُ «مُسْعِدَةُ» فَرْحانَة بِمُشارَكَتِها فِي الْعَمَلِ عَلَى نَجاةِ الدِّيكِ الظَّرِيفِ «كاكْ». قالَتْ لِلْكَلْبِ «وَثَّابِ»: «شُكْرًا لِلْحِمارِ «تَوْلَبٍ» وَلَكَ عَلَى مُساعَدَتِكُما فِي هَزِيمَةِ ذلِكَ الثَّعْلَبِ الْمَكَّارِ عَوْعَوْ.» الْكَلْبُ الْوَفِيُّ «وَثَّاب» قالَ: «لا شُكْرَ عَلَى واجِبٍ يُؤَدَّى. الدِّيكُ الظَّرِيفُ أَخُونا الْعَزِيزُ. حَقُّهُ عَلَيْنا أَنْ نَحْمِيَهُ مِنَ الشَّرِّ. اَلْبَقَرَةُ الطَّيِّبَةُ «مُسْعِدَةُ» قالَتْ لِصاحِبِها الْكَلْبِ الْوَفِيِّ «وَثَّابٍ»: «لَوْلَا ذَكاءُ الدِّيكِ الظَّرِيفِ «كاكْ»، لَكانَ قَدْ هَلَكَ.» الْكَلْبُ «وَثَّابٌ» قالَ لِصَاحِبَتِه الْبَقَرَةِ «مُسْعِدَةَ»: «وَلَوْلا اجْتِماعُنا أَنا وَأَنْتِ وَالْحِمارُ، لَما كانَتْ هَزِيمَةُ الثِّعْلَبِ الْمَكَّارِ. لا يَغْلِبُنا عَدُوٌّ إِذا كُنَّا مُتَّحِدِينَ. إِنَّ فِي اتَّحادِنا حِمايَةً لنَا.» الْبَقَرَةُ «مُسْعِدَةُ» حَضَرَتْ وَمَعَها هَدِيَّةٌ مِنَ الذُّرَةِ، وَالْكَلْبُ «وَثَّابٌ» وَمَعَهُ هَدِيَّةٌ مِنَ الْمَوْزِ، وَاحْتَفَلَ الْجَمِيعُ بَعِيدِ مِيلَادِ الدِّيكِ الظَّرِيفِ. فِي احْتِفالِ عِيدِ المِيلادِ جاءت حَمامَة السلام، وقدمتْ صُحْبة وَرد لِلدِّيكِ الظَّرِيفِ مَعَ الْفِراخ، فَرحَانِين بِعِيدِ الْمِيلادِ. الْأَصْحابْ قَدَّمُوا هَداياهم، وقفوا مَبسُوطِينَ يغنون للدِّيكُ الظَّرِيفُ «كَاكْ» أَنْشَدَ نَشِيدَ السَّلام أَصْحابُهُ يُرَددُونَ النَّشِيد:
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/30579747/
الأمِيرُ مِشْمِش
كامل كيلاني
تحكي هذه القصة عن «هامز» و«لامز» و«رامز» الإخوة الثلاثة، واختلاف رامز عن إخوته في أنه يشكر الله على نعمه ويكرم الضيف. وفي يوم من الأيام يحرر رامز بالصدفة الأمير مشمش المسحور والمحبوس داخل إبريق فيوصيه بخير وصية تغير مجرى حياته حيث يوصيه أن يتحلى بالكرم والشجاعة والصبر.
https://www.hindawi.org/books/30579747/1/
الأَمِيرُ مِشْمِش
عاشَ فِي قَدِيِم الزَّمانِ أَخَوانِ غَنِيَّانِ. الْأَخَوانِ، مَعَ أَنَّهُما غَنِيَّانِ، بَخَِيلانِ. اسْمُ الْأَوَّلِ: «هامِزٌ». واسْمُ الْآخَرِ: «لامِزٌ». كانَ كُلٌّ مِنْهُما يُحِبُّ الْمالَ وَيَجْمَعُهُ. كانَ كُلٌّ مِنْهُما يَبْخَلُ بِمالِهِ عَلَى النَّاسِ. لا يَجُودُ عَلَى مِسْكِينٍ بِطَعامٍ أَوْ شَرابٍ. لا يُعْطِي مِنَ الْمَالِ شَيْئًا لِمُحْتاجٍ. كُلٌّ مِنْهُما يَقُولُ: «أَنا حُرٌّ فِي مالِي.» كُلٌّ مِنْهُما يَقُولُ: «أَنا أَجْمَعُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِي.» هذانِ الْأَخَوانِ لَهُما أَخٌ ثالِثٌ، اسْمُهُ «رامِزٌ». رامِزٌ يَخْتَلِفُ عَنْ أَخَوَيْهِ: «هامِزٍ» و«لامِزٍ». «رامِزٌ» كانَ يَتَحَدَّثُ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ. يَقُولُ: «نَحْنُ نَعِيشُ فِي الْوادِي الْخَصِيبِ. اَلْوادِي ماؤُهُ أَعْذَبُ ماءٍ، وَهَواؤُهُ أَطْيَبُ هَواءٍ. اَلْوادِي مَمْلُوءٌ بِالنَّخِيلِ، عامِرٌ بِالْفَواكِهِ. كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَنا، أَكْثَرُ مِنْ حاجَتِنا. لِماذا لا نَشْكُرُ اللهَ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسانِهِ؟ لِماذا لا نُحْسِنُ إِلَى الْمَساكِينِ والْمُحْتاجِينَ؟ هامِزٌ ولامِزٌ خَرَجا مِنَ الْبَيْتِ، فِي الصَّباحِ. طَلَبا مِنْ أَخِيهِما «رامِزٍ» إِعْدادَ طَعامِ الْغَداءِ. رامِزٌ قَعَدَ يَشْوِي اللَّحْمَ وَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: «الْمَطَرُ نَزَلَ عَلَى الْبِلادِ الَّتِي حَوالَيْنا. غَرَّقَ الْأَرْضَ، وَأَتْلَفَ الزَّرْعَ، وَأَهْلَكَ الْحَيَوانَ. اَلْوادِي الَّذِي نَعِيشُ فِيهِ سَلِمَ مِنَ التَّخْرِيبِ. اللهُ سُبْحانَهُ نَجَّى الْأَهْلَ والزَّرْعَ والدَّوابَّ. لِماذا لا نَشْكُرُ اللهَ عَلَى أَنَّهُ نَجَّانا؟ لِماذا لا نُقَدِّمُ الْمُساعَدَةَ لِلْمَنْكُوبِينَ؟» «رامِزٌ» سَمِعَ طَرْقًا شَدِيدًا عَلَى الْبابِ. رامِزٌ أَطَلَّ مِنَ الشُّبَّاكِ لِيَرَى مَنِ الطَّارِقُ؟ – افْتَحْ لِيَ الْبابَ، أَيُّها الصَّبِيُّ الْكَرِيمُ. – اَلْمِفْتاحُ لَيْسَ مَعِي. ماذا أَعْمَلُ لَكَ؟ – أَطْلُبُ مِنْكَ النَّجْدَةَ، لا تَبْخَلْ عَلَيَّ. – انْتَظِرْ حَتَّى يَرْجِعَ أَخَوايَ إِلَى الْبَيْتِ. – كَيْفَ أَنْتَظِرُ، والْبَرْدُ شَدِيدٌ، وَأَنا أَرْتَعِشُ؟ – لَوْ أَقْدِرُ عَلَى فَتْحِ الْبابِ، لَكُنْتُ فَتَحْتُهُ. – حاوِلْ أَنْ تَفْتَحَ الْبابَ، وَتُنَجِّيَنيِ مِنَ الْعَذابِ. الزَّائِرُ يَسْكُتُ قَلِيلاً، ثُمَّ يَقُولُ: «إِنِّي أَشُمُّ رَائِحَةَ شِواءٍ. فِي بَيْتِكَ الدِّفْءُ والْغِذاءُ. أُحِسُّ الْبَرْدَ والْجُوعَ، وَلا أَسْتَطِيعُ الرُّجُوعَ». رامِزٌ يُشْفِقُ عَلَى الزَّائِرِ وَيَقُولُ لَهُ: «أنا لا أَمْلِكُ مِنَ الشِّواءِ إِلَّا نَصِيبِي. سَأُلْقِي إِلَيْكَ مِنْهُ ما يَسُدُّ جَوْعَتَكَ». رامِزٌ يُلْقِي لِلزَّائِرِ قِطْعَةَ شِواءٍ، وَيَقُولُ لَهُ: «هذهِ شِواءَةٌ طَيِّبَةٌ، اقْبَلْها مِنِّي.» الزَّائِرُ يَقُولُ لِرامِزٍ: «هذِهِ عَطِيَّةٌ سَخِيَّةٌ». «هامِزٌ وَ«لامِزٌ» فِي مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ يَعُودانِ. لَهَبٌ وَنِيرانٌ فِي كُلِّ مَكانٍ. صَوْتُ الرَّعْدِ شَدِيدٌ، يُصِمُّ الْآذانَ. هامِزٌ وَلامِزٌ خائِفانِ يَرْتَعِشانِ. الْعَواصِفُ شَقَّقَتِ الْحِيطانَ، وَهَدَّتِ الْبُنْيانَ. «هامِزٌ» وَ«لامِزٌ» مَدْهُوشانِ، مُتَحَيِّرانِ. لا يَعْرِفانِ ماذا يَصْنَعانِ؟ وَكَيْفَ يَقُولانِ؟ الْأَخَوانِ مَلْهُوفانِ، يَصِيحانِ: «يا رَحِيمُ. يا رَحْمَنُ، نَجِّنا مِنَ الْعَواصِفِ، واحْمِنا مِنَ النِّيرانِ». رامِزٌ عَطَفَ عَلَى أَخَوَيْهِ، وَقالَ لَهُما: «لا تَحْزَنا، سَلِمَتْ مَنَ الْأَذَى حُجْرَةُ أَخِيكُما. سَنُقِيمُ نَحْنُ الثَّلاثَةَ فِي الْحُجْرَةِ آمِنِينَ.» الْفَجْرُ طَلَعَ، لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ سَلِيمٌ فِي الْوادِي. كانَ لِلْأَخَوَيْنِ هامِزٍ وَلامِزٍ حِلْيَةٌ ذَهَبٌ. الْأَخَوانِ باعا الْحِلْيَةَ الْذَّهَبَ، وَأَنْفَقا ثَمَنَها. رامِزٌ قالَ لِأَخَوَيْهِ: «عِنْدِي إِبْرِيقٌ ذَهَبٌ. الْإِبْرِيقُ عَلَيْهِ صُورَةُ إِنْسَانٍ، يَكادُ يَنْطِقُ مِنْهُ اللِّسانُ.» رامِزٌ وَضَعَ الْإِبْرِيقَ الذَّهَبَ عَلَى النَّارِ، لِيَذُوبَ. رامِزٌ سَمِعَ صَوْتًا مِنَ الْبُوتَقَةِ عَلَى النَّارِ. أَيُّ صَوُتٍ هذا؟ لَيْسَ فِي الْحُجْرَةِ أَحَدٌ! – أَسْرِعْ يا رامِزُ، أَنْقِذْنِي مِنْ كَيْدِ السَّاحِرِ. اقْلِبِ الْبُوتَقَةَ الَّتِي فِيها الْإِبْرِيقُ الذَّهَبُ. يا لَلْعَجَبِ! أَيْنَ الْإِبْرِيقُ؟ أَيْنَ الذَّهَبُ؟! الْإِبْرِيقُ تَحَوَّلَ إِنْسانًا، شَكْلُهُ شَكْلُ الصُّورَةِ. الْإِنْسانُ فَصِيحُ اللِّسانِ، يَقُولُ: «عَلَى يَدِكَ يَتِمُّ إِطْلاقِي، وَتَعُودُ حُرِّيَّتِي. خَلَّصْتَنِيِ مِنْ كَيْدِ السَّاحِرِ. أَنا لَكَ شاكِرٌ. أَنا مِشْمِشٌ. أَنا أَمِيرُ النَّهْرِ الذَّهَبِيِّ. اَلسَّاحِرُ حَوَّلَنِي عَلَى هَيْئَةِ إِبْرِيْقٍ ذَهَبٍ؟ اَلسَّاحِرُ نَقَشَ صُورَتِي عَلَى الْإِبْرِيقِ. لَمَّا ذابَ الْإِبْرِيقُ زالَ عَنِّي سِحْرُ السَّاحِرِ. لَوْلا ذَلِكَ لَبَقِيتُ مَسْجُونًا طُولَ حَياتِي. أَنا فَرْحانٌ الْآنَ كُلَّ الْفَرَحِ بِنَجاتِي. أُرِيدُ أَنْ أُكَافِئَكَ عَلَى مَعْرُوفِكَ الْكَبِيرِ. سَأُطْلِعُكَ عَلَى سِرٍّ، فِيهِ الْخَيْرُ كُلُّ الْخَير، عَلَى شَرْطِ أَنْ تَتَحَلَّى بِالشَّجاعَةِ والْكَرَمِ وَالصَّبْرِ.. سَتَرَى العَجَبَ يا رامِزُ إِذا نَفَّذْتَ كَلامِي: تَطْلُعُ الْجَبَلَ وَتُلْقِي ثَلاثَ نُقَطِ ماءٍ فِي النَّهْرِ». أَيْنَ الْأَمِيرُ مِشْمِش؟ تَبَخَّرَ فِي الْهَواءِ. هامِزٌ وَلامِزٌ يَحْضُرانِ. يَسْأَلانِ عَنِ الْإِبْرِيقِ. رامِزٌ يَحْكِي لِأَخَوَيْهِ ما حَدَثَ. لا يُصَدِّقانِ. هامِزٌ وَلامِزٌ يَمْنَعانِ أَخاهُمَا مِنْ طُلُوعِ الْجَبَلِ. يَقُولانِ: «أَنْتِ صَغِيرٌ لا تَقْدِرُ.» هامِزٌ وَلامِزٌ يَتَسابَقانِ فِي طُلُوعِ الْجَبَلِ. كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما يُرِيدُ أَنْ يَسْبِقَ الْآخَرَ. «هامِزٌ» اسْتَعَدَّ فِي الصَّباحِ لِلْخُرُوجِ. مَلَأ زُجاجَةً بِالْمَاءِ الصَّافِي، وَشالَهَا مَعَهُ. «هامِزٌ» خَرَجَ مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ بِنُورِها الْجَمِيلِ. كانَ قَلْبُهُ فَرْحانَ وَهُوَ ماشٍ فِي الطَّرِيقِ. «هامِزٌ» وَصَلَ إِلَى التِّلالِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْجَبَلِ. صادَفَتْهُ فِي طَرِيقِه حِجارَةٌ كَثِيرَةٌ، وَصُخُورٌ كَبِيرَةٌ. شَدَّ عَزْمَهُ، وَتَخَطَّى الْحِجارَةَ والصُّخُورَ. قالَ: «لا بُدَّ أَنْ أَصِلَ إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ. لا بُدَّ أَنْ أُلْقِيَ فِي النَّهْرِ ثَلاثَ نُقَطِ ماءٍ». «هامِزٌ» حَسَّ بِالتَّعَبِ مِنَ الْمَشْيِ الطَّوِيلِ. كانَ يَتَخَطَّى التِّلالَ، بِلا سَأَمٍ وَلا مَلالٍ. قالَ لِنَفْسِهِ: «أَجْلِسُ بَعْضَ الْوَقْتِ لِأَسْتَرِيحَ». لَمَّا اسْتَرَاحَ عاوَدَ الْمَشْيَ بَيْنَ الْحِجارَةِ والصُّخُورِ. ظَهَرَ أَمامَهُ كَلْبٌ صَغِيرٌ عَطْشان، لِسانُهُ مُتَدَلْدِلٌ. الْكَلْبُ بَصَّ لِزُجاجَةِ الْماءِ فِي يَدِ «هامِزٍ». «هامِزٌ» رَفَسَ الْكَلْبَ بِرِجْلِهِ رَفْسَةً قَوِيَّةً. الْكَلْبُ جَرَى يَعْوِي، والْعَطَشُ يَكادُ يُمَوِّتُهُ. «هامِزٌ» لَمْ يَرْحَمِ الْكَلْبَ الصَّغِيرَ الْعَطْشانَ. «هامِزٌ» اشْتَدَّ الْحَرُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ ماشٍ كانَ يَفْتَحُ الزُّجاجَةَ، وَيَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ. رَجُلٌ شائِبٌ يَصْرُخُ وَيَقُولُ: «الْحَقُونِي». الرَّجُلُ يَقُولُ لِـ«هامِزٍ»: «أَسْعِفْنِي بِنُقْطَةِ ماءٍ». «هامِزٌ» يَقُولُ لِلرَّجُلِ: «أَنا أَوْلَى مِنْكَ بِالْماءِ». «هامِزٌ» يُواصِلُ الْمَشْيَ، وَلا يُبالِي بِالرَّجُلِ. اَلْشَّمْسُ تَغِيبُ، وَظَلامُ اللَّيْلِ يَمْلَأُ الْأَرْضَ والسَّماءَ. «هامِزٌ» مُتَحَيِّرٌ، يَسْأَلُ نَفْسَهُ: «ماذا أَعْملُ؟» «هامِزٌ يَتُوهُ فِي الظَّلامِ، لا يَعْرِفُ طَرِيقَ الْخَلاصِ. «لامِزٌ» الْأَخُ الثَّانِي مَلَأَ الزُّجاجَةَ مَاءً. خَرَجَ لِيَطْلُعَ الْجَبَلَ، مِثْلَ أَخِيهِ «هامِزٍ». لاحَظَ أَثَرَ رِجْلِ أَخِيهِ «هامِزٍ» عَلَى الرَّمْلِ. مَشَى فِي الطَّرِيقِ الَّذِي مَشَى فِيهِ أَخُوهُ. كُلَّما اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ شَرِبَ مِنَ الزُّجاجَةِ. لَمَّا طَلَبَ مِنْهُ الْكَلْبُ ماءً رَفَسَهُ. لَمَّا قالَ لَهُ الرَّجُلُ الشَّائِبُ: اسْقِنِي، أَهْمَلَهُ. الشَّمْسُ غابَتْ، والدُّنْيا كُلُّها ظَلامٌ فِي ظَلامٍ. «لامِزٌ» تاهَ هُوَ الْآخَرُ، وَلَمْ يَعْرِفْ طَرِيقَ الْخَلاصِ. «رامِزٌ» الْأَخُ الثَّالِثُ الصَّغِيرُ مَلَأ زُجاجَةَ ماءٍ. عَزَمَ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَ ما طَلَبَهُ الْأَمِيرُ «مِشْمِشٌ». «رامِزٌ» ضَعِيفُ الْجِسْمِ، لَكِنَّهُ قَوِيُّ الْإِرادَةِ. اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ. فَتَحَ الزُّجاجَةَ وَشَرِبَ مِنْها. ظَهَرَ لَهُ الْكَلْبُ الْعَطْشانُ فِي الطَّرِيقِ، شَرَّبَهُ. «رامِزٌ» قالَ: «اَلْكَلْبُ حَيَوانٌ، لَهُ رُوحٌ. الْحَيَوانُ لَهُ حَقٌّ فِي الْحَياةِ، مِثْلَ الْإِنْسانِ». «رامِزٌ» مَشَى، لَقِيَ الرَّجُلَ الشَّائِبَ يَطْلُبُ ماءً. قَدَّمَ لَهُ الزُّجاجَةَ، وَقالَ لَهُ: «اشْرَبْ يا عَمِّي». الْرَّجُلُ الشَّائِبُ طَلَعَ مَعَ «رامِزٍ» الْجَبَلَ. «رامِزٌ» أَسْقَطَ فِي النَّهْرِ ثَلاثَ نُقَطِ ماءٍ. اَلشَّائِبُ كَشَفَ حَقِيقَتَهُ … هُوَ الْأَمِيرُ «مِشْمِشٌ». قالَ لِـ«رامِزٍ»: «أَنْتَ تَسْتَحِقُّ الْخَيْرِ والْإِحْسانَ. سَتَعُودُ إِلَى أَرْضِكَ فِي سَلامٍ وَأَمانٍ. سَتَجِدُ الْمَزْرَعَةَ مَمْلُوءَةً بِالْخَيْراتِ الْحِسانِ. سَتَرَى بَيْتَكَ قَوِيَّ الْجُدْرانِ، عَظِيمَ الْبُنْيانِ. سَيَعُودُ إِلَيْكَ أَخَواكَ فِي قَرِيبٍ مِنَ الزَّمانِ. بَعْدَ أَنْ لَقيا جَزاءَ بُخْلِهِما عَلَى الْإِنْسانِ والْحَيَوانِ».
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/0.1/
إهداء
كتابي في الموسيقى الشرقية والغناء العربي ونصرة الخديوي إسماعيل للفنون الجميلة وحياة عبده الحمولي إلى حضرة صاحب الجلالة — الملك فؤاد الأول — ملك مصر المعظم إن بحرص ساكن الجنان والدكم الخديوي إسماعيل على الموسيقى العربية يخلد الثناء الطيب على تراخي الأحقاب. ولنصرته للفنون الجميلة، وحفظة لمجد العرب الأثيل. سيبقى ذكره في الأعقاب بما هيأ لذلك من أسباب النجاح. وما أتاه عبده الحمولي من ضروب الابتكار والتفنن في إقامة بناء لها وطيد الدعائم، وتكوين قواعدها على أسلوب عربي رشيق، وبروح مصري أنيق؛ فازدهرت في عصره الذهبي. وأصبح الشعب المصري طروبا سعيدًا، ويغني متهللا. ولا عجب وهذا الشبل من ذاك الأسد. إنكم عند إشراق شملكم على عرش المملكة المصرية. جريتم على منهاجه في تشجيع الفنون والموسيقى العربية الوليد حبها فيكم. وأضحيتم مصدر الحركة في النهضة القومية. وقوام حياة مصر الفنية والأدبية والعلمية والاقتصادية، بنشركم العلوم والمعارف، وتشجيعكم الصنائع والفنون بما أسستم من معاهد ومدارس ومستوصفات. ولما كانت الشمس تطلع من المشرق، وكانت مصر الأم التي غذت قديما الغرب بلبنها من علوم وفنون، ولما طمى على الموسيقى العربية الساحرة فساد التجديد الذي من أغراضه الاستعانة عن الصورة الحسناء بصورة شوهاء. تصديت خدمة للفن، وإيثارا للفائدة العامة؛ لأصونها من أيدي التلاعب والضياع، وتبقى فنا عربيا لا غريبا ورمزا لتقاليد شعبها، وعنوانا لنخوة عروبتها وعزتها وآياتها. ولذا أرفع بكل خضوع إلى الأعتاب الملكية كتابي هذا الذي به تشخيص الداء، ووصف الدواء؛ لتدفعوا غارة العجمة عن ألحان موسيقانا أداة بياننا ولغة أفئدتنا. احتفاظا بروح مصر الخالدة. والله أسأل أن يشمل عطف جلالتكم السامي العبء الذي نهضت به لخير الوطن، ويمدكم بروح من عنده، ويحرس ولي عهدكم صاحب السمو الملكي أمير الصعيد فاروق المحبوب. إنه سميع مجيب.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/0.2/
نكس العلم
null
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/0.3/
مقدمة
لقد أُشربت محبة المرحوم عبده الحمولي منذ نعومة أظفاري يوم خالط المرحوم والدي بالزقازيق وزارنا في دارنا وغنانا غناءه العربي؛ فأعجبت به أيما إعجاب وارتسمت في ذهني صورة العروبة الفخمة بما مثَّل أمامنا من الحركات والأقوال التي صوَّرت لي إباء العرب وفروسيتهم وعظمتهم، وما أتاه من شجيّ التلحين وحسن الأداء، وتفخيم اللفظ الدال على معناه، والإبانة في مخارج الحروف، فهو حرىُّ بأن يكنى بغريد الشرق الذي لا تفتح العين على مثله، وأخذت منذ ذلك الحين أشعر بتيار موسيقى يتمشى في عروقي إلى أن أضحيت من المولعين بالغناء العربي الذي لا أصبو إلا إليه، وحزت ملكة التمييز بين جيده ورديئه لا سيما إذا سمعت ركزا لخليط مجدد. ولما هبَّ على الموسيقى العربية عاصف التجديد، وحاول أن يقتلع جذورها من تربتها المباركة الخصبة، شمرت لصد ذلك التيار عنها غيرة على عظمتها وسحرها، واتقاء للرمق الباقي منها، إذ هي الآن والعياذ بالله واقفة على مفترق طريقين لا محيد لها عن سلوك واحد منهما، فإما أن تحيا وتستعيد ماضي شبابها إذا تداركها أولو الأمر منا، وإما أن يسجل عليها الموت الذي لا حياة بعده إذا ألقينا حبل المجددين على غاربهم يجهزون على تلحيننا القومي ويرتضخون لَكْنَةً غربية بدلا من ترديد نبرنا العربي، ويشوهون محاسن الموسيقى العربية التي وضع قواعدها أسلافنا الموسيقيون المصريون، ويقضون على تقاليد الشعب المصري الذي يغني بالفطرة، ويحتفظ بصبغته وتقاليده. على أنه ليس من غرضي في هذه المقدمة الوجيزة أن أعارض في التجديد الذي يُقصد منه زيادة ثروة موسيقانا الشرقية والتدرج بها من حسن إلى أحسن كما هو شأن كل فن ينقصه التنقيح والتحسين — (والكمال لله وحده) — أو أن أصرف المجددين المجتهدين عن التوفر على توسيع نطاقها والنهوض بها إلى أعلى مستوى يليق بعظمتها ومجد الشرق، ويحفظ لنا ما خلفه لنا السلف من الموسيقيين العبقريين من قواعد ثابتة وقوانين مرعية، إذ أني أرحب بكل تجديد مبني على الأصول، ويرجع إلى مستقر معروف، وأسلوب مألوف، لكن المجددين — والأسف يملأ جوانحي — في وادٍ، ونواميس الموسيقى في وادٍ وقد هاموا في أودية الضلال وأضلوا سامعيهم، وليتهم تصرفوا في التجديد على حسب القواعد الصحيحة محترمين المقاييس وراعوا النغم والمقاطع والموازين الموسيقية والتوقيع بما يطابق معنى الأغنية المنظومة، ومَثَل الموازين الموسيقية كمثل الأبحر للشعر ذي الأشطر الصحيحة القياس. أما الألحان القديمة فيتوفر فيها حسن التوقيع وضبط الإيقاع، ولو كان ملحنونها يقتصرون على نغمة أو أكثر، وهي في كل حال خير من الألحان الحديثة التي لا يتوفر فيها حسن التوقيع وضبط الإيقاع، فضلا عن عدم مراعاة ملحنيها لمعنى الأغنية أو الدور أو الموشح مهما كثرت أنغامها؛ لعدم ضبطهم القواعد الأساسية التي يجب أن تُبنى عليها أغانيهم من جهة، ولعدم تمكنهم من قتل النغمات درسًا من جهة أخرى ليكفلوا الحصول على جمال التلحين. فإذا استمروا على هذا المنوال قضوا على الموسيقى العربية قضاء مبرمًا، وأضحت لا أثر لها في الوجود. وما حماية الألحان التي تكاد تبتلعها عجمة التجديد إلا الاحتفاظ بروح مصر الخالدة. هذا هو الداء الدفين لموسيقانا الذي يستعصي شفاؤه إذا أهملناه ولم نعالجه بسرعة، وقد وصفته وصفًا لا يخالج الخبير فيه أدنى ريب، أما الدواء فيلخص فيما يأتي: وجوب تأليف لجنة فنية من أعضاء المعهد الملكي للموسيقى العربية، ومن الموسيقيين والشعراء في خارجه ممن يشار إليهم بالبنان، يكون من اختصاصها الإشراف على كل لحن جديد يُلحن، والقيام بفحصه بدقة من الوجهتين التلحينية والنظمية، (مع مراعاة ما إذا كان لفظه ومعناه منزهين عما يُعاب) حتى إذا حاز القبول يُرخص لصاحبه بنشره وإذاعته، ماذا وإلا تُجرى مصادرته بمساعدة الهيئة الحاكمة ضمانًا لتنفيذ شروط اللجنة المشار إليها. يعهد إلى المعهد بألا يرخص لرؤساء التخوت للآلات الوترية بأن يستبدلوا العازفين السابق تشغيلهم على تخوتهم بعازفين جدد لا يفقهون طرق إشغالهم، ولا مزاياهم الخاصة، إذ إن لكل رئيس عادة خاصة، ومزية خاصة، وروحًا خاصًا، بدليل أن تخت الأستاذ: محمد العقاد كان لا يشتغل إلا برئاسة عبده الحمولي، ولم يستطع أي قانونجي في عصره أن يدوزن قانونه بالسرعة التي كان يدوزنه بها محمد العقاد الكبير، ولا أن يصوّر نغماته على آلته، وكان لكل رئيس تخت خاص عازفون خصوصيون لما في الإبدال من ضرر، كما لا يخفى لا سيما في عدم إمكان دوزان الآلات واندماجها ببعضها بعضًا؛ لأن الدوزان والميزان لازمان للموسيقى الصحيحة، وقد قال موزارت «الموسيقى ميزان». أن يعهد إلى المعهد في تكليف أشخاص للتجول في البلاد الريفية للبحث عن ذوي الأصوات الحسنة: من الصبية الريفيين بين جامعي الأقطان، والعمال بالمصانع، والمحالج وغيرها، لاستحضارهم وتعليمهم أصول الغناء على الطراز العربي، مبتدئين بترويض أصواتهم كترويض الأجسام على الرياضة البدنية وتمرينها على المقامات تدريجيًا، واختبارهم أخيرًا فوق المآذن على حد ما كان يروض أوتار صوته المرحوم: عبده الحمولي على مئذنة جامع الحنفي، وإتباعًا لخطط الموسيقيين الغربيين في مثل ذلك. ولا غرابة في انتقاء الصبية من بلاد الريف في الوجهين القبلي والبحري؛ لأن عبده عبقري الشرق رأت عيناه النور في (حامول)، ومحمد عثمان الصعيدي أصلا (من طهطا) وُلد في حي بولاق، حيث كان يتمرن على أعمال البرادة في ورشة. ويقوم المعهد بدفع نفقات هذا النشء ويحتم عليه أن يعلمه الموسيقى العربية بحذافيرها، وعلى حسب قواعدها مع إدخال النظم الحديثة المختارة فيها بشرط أن تلائم الذوق المصري، ولا تمس جوهر موسيقانا أو تشوّه محاسنها. على الصحافة المصرية الحرة التي يناط بها إرشاد الأمة إلى سبيل الهدى ألا تألو جهدًا في لفت نظر الأمة والمجددين على صفحات جرائدها إلى وجوب مراعاة الشروط السابق الإيماء إليها؛ احتفاظًا بجمال موسيقانا وثروتها وقوتها التي هي أشهر من أن يُنبه على وجوب الاحتفاظ بطابعها الشرقي وصبغتها وذوقها السليم المصري البحت؛ لأن الدين إمحاض النصيحة والصراحة حياة الحق، ومثلها كمثل عصير الشجرة فلا تحيا إلا به، وبدونه تيبس أغصانها وموتًا تموت، وكل شعب يقبل الأمور على علاّتها بدون تمحيص، ولا بحث ولا برهان استنادًا على عوامل مؤثرة أو جاه أو ثروة أو دعاية غير صحيحة يكون هدفًا للتغرير والخدعة، وقد وجدت لِزامًا عليّ في إبان النهضة القومية في جو الحرية والديمقراطية أن ألفت النظر إلى مجابهة الحقائق بلا وجل ولا محاباة ولا تقليد أعمى، بل بثقة وصدق وشجاعة وحسن نية في ظل مليك البلاد المعظم جلالة فاروق الأول الديمقراطي الذي ولا شك سيحذو حذو جلالة والده في السهر على الفنون الجميلة وغيرها، ويعمل على النهوض بمصر إلى ذروة المجد والسعادة، ولولا مجهود ساكن الجنان والده لما كان لأي هيئة فنية أو رسمية في مصر من أثر، ولا قامت للموسيقى قائمة. وعسى المحدثين بعد هذا التنبيه أن ينزعوا عن طائش رأيهم في التجديد ويثوبوا إلى الصواب، فإن الرجوع إلى الحق محمدة والمضي في الباطل منقصة. وفقنا الله إلى السبيل السويّ وهو مالك الأمور.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/1/
لمحة في تاريخ الخديو إسماعيل ونصرته للفنون الجميلة
لما كان همّ المغفور له الخديو إسماعيل نشر العلوم والمعارف، وإحياء الزراعة، وتوسيع نطاق الصنائع الوطنية، وترويج التجارة، وتثقيف المرأة، وتشجيع الفنون الجميلة، وفي مقدمتها الموسيقى العربية، والغناء والتمثيل، نشط للجري في سبيل الأمم المتمدنة، ولم يألُ جُهدًا في تحسين الصلات، وتمكين الألفة بين المصريين، وبين الجاليات المتوطنة في مصر، حتى بلغت في عصره الذهبي ذروة المجد، وأوج الحضارة والمدنية، وأصبحت حَرِيَّة بأن تُعدُّ قطعة من أوربا لا من أفريقيا كما صرَّح بذلك شخصيًّا. ومن مآثره الجليلة، أنه كان أبا الفلاح يدافع عن كيانه، ويحمي ذماره، وكان شغوفًا بالزراعة إلى أبعد درجة، وكان يحب مصر حبًا صحيحًا متغلغلاً في قرارة نفسه، فاحتفظ بتقاليدها القومية، وطابعها الشرقي الذي اتَّسمت به، وتفانى في رفع منارها في بلاد الغرب، وباهى بشعورها، ونشر لغتها، لغة الجمال والمجاز، وتعظيم الناطقين بها في أنحاء الشرق، بدليل ما عرضه سنة ١٨٦٧ في معرض باريس الذي اشتركت فيه الحكومة رسميًّا، من تماثيل قديمة، ومن مومياء لرعمسيس الثاني، الملقب بسيزوستريس أكبر الملوك الفاتحين، التي اكتشفت سنة ١٨٨١ ولغيره من الفراعنة، ونماذج للحياة المصرية القديمة، كبيت شيخ البلد، وهياكل، ومصانع للتفريخ التي لم يعترها أدنى تغيير، منذ خمسة آلاف سنة ونيّف لغاية الآن؛ بالرغم من أن في خلالها دالت دول، ودُكَّت عروش، وأشكال «وكايل» وبيوت على أقدم طراز، فسيحة الأرجاء، تطل نوافذها من الداخل على ردهات مقامة في وسطها فسقيات مزينة بالفسيفساء، وعلى سطوحها قبابُ جميلة، وبخارجها تُرى مشربيات بارزة بديعة الصنع. وكذلك عرض الحياة المصرية الحديثة بما امتازت به من مصنوعات فائقة الوصف، كالأقمشة المطرزة بالذهب، والأواني الخزفية، والجلود المدبوغة والمنقوشة نقشًا بديعًا. ومن آلات الطرب: العود، والقانون، والكمان، والناي، والربابة التي كان يفضلها على الكمان لأنها مصرية بحت، والمزمار البلدي، والصنوج، والصاجات لزوم الرقص البلدي، والدربكة، والرِقْ، والطار، والنقرية «والسنتير» مما كان مهوى أفئدة المتفرجين والزائرين للمعرض من سائر بلاد الغرب لا سيما اسكندر الثاني، وفرنسيس يوسف إمبراطوري روسيا والنمسا، وفكتور عمانويل الثاني ملك إيطاليا، وغليوم ولي عهد بروسيا، والبرت إدوارد ولي عهد إنكلترا، والسلطان عبد العزيز الذين طأطئوا رؤوسهم المتوّجة إكبارًا وإجلالاً لتمثال ومومياء رعمسيس، وسائر المعروضات جملةً ومفترقًا، وأضحوا يتأملون تأملا مليًّا في سر تحنيطها ودقة مصنوعات المصريين حتى انتهوا إلى استهتار ما أتاه الغربيون من ضروب الابتكار، وصنوف الاكتشاف والاختراع. على أن مجهوده لم يقف عند هذا الحد فحسب، بل إنه لما قفل راجعًا إلى مصر بعد رحلته إلى أوربا حيث شاهد المباني الناطحة للسحاب، والمنشئات البديعة ومسارح التمثيل والغناء، والمدارس، والمعاهد العلمية، والأندية الأدبية، دبت فيه الغيرة الصادقة على مصلحة مصر، فأخذ على عاتقه أن يقيم فيها اقتداء بالغرب القصور الفخمة، ويشيد دورًا للعلوم، ومعامل للصنائع. فأنشأ في ربيع سنة ١٨٧٣ مدرسة السيوفية للبنات المجانية، داخلية وخارجية، ومدرسة ثانية بالقربية لشدة الحاجة إليها، أمَّتها بنات الأمراء والعظماء، وأكابر الموظفين، وكانت برامجهما تشمل تعليم اللغتين، العربية والفرنسية، والجغرافيا، والرسم، والموسيقى العربية، وأشغال الإبرة، والتطريز، والطبخ، والتدبير المنزلي. وشجَّع الأهلين على وجوب تثقيف عقول البنات بنوع خاص، لتضرب المرأة بسهم وافر من العلم يرفع منزلتها، وتبلغ به المكانة اللائقة بها، بين الأمم المتمدنة، وتكون عضوًا قويًا في المجتمع الإنساني، وكوكبًا منيرًا يستضاء به، في حياتها الزوجية، ومثلاً صالحًا، في تربية ابنها وابنتها، فينشآن عضوين سليمين عقلاً وروحًا وجسمًا، نافعين لنفسيهما ولأمتهما معًا (والعقل السليم في الجسم السليم). ومما لا يختلف فيه اثنان، أن الأزبكية كانت مستنقعًا ينبت فيه النبات المائي الكثيف، وينقف بيض البعوض الناقل للعدوى، فأُزيلت بناءً على أمره السامي تلك المياه الراكدة، بمعرفة (برهان بك): مدير الإدارة بوزارة الأشغال العمومية سنة ١٨٣٧، وغرست الأشجار على اختلاف أنواعها، صفوفًا منظمة، واكتست أرضها بثوب سندسي قشيب، يشرح الصدر، ويقر العين. وأقيمت في وسطها الفسقيات التي تنفجر من فوَّهاتها المياه المتلألئة، ورُبي فيها أجمل أنواع السمك، وأُنيرت مصابيح الغاز في أرجائها، وبُنيت الجبلاية على أبدع طراز، وهي لا تزال ماثلة أمامنا للآن، وصفَّت الأكشاك الحديدية حولها من الداخل، حوت تخوتًا للطرب، غنَّى فيها أشهر المغنيين والمغنيات، فصيَّر مجهوده وابتكاره من المستنقع الآسن رياضا تجري من تحتها الأنهار، وأطيارًا تغرد على أفنان خمائلها، ووجوه حسان تلوح في غدران مناهلها، وتحت ظلال نارجيلها، ويقُدَّر مسطحها بنحو ١٧٠٠٠٠ متر مربع. وكانت أرضها موقوفة لآل البكري، واستبدلت بأطيان بناحية بهتيم، تزيد على مساحتها أضعافا مضاعفة. وقد أصدر أمره الكريم بتشييد مسرح للكوميديا بناحية منها في ٢٣ نوفمبر سنة ١٨٦٧، واحتفل بافتتاحه في مساء ٤ يناير سنة ١٨٦٨ حيث بوشر التمثيل دون أن يمضي على إنشائه أكثر من اثنين وأربعين يومًا. أما الأوبرا، فقد بُنيت سنة ١٨٦٩ في مدة لم تزد على خمسة شهور، وبلغت تكاليفها نحو ١٦٠ ألف جنيه، فأحضر إليها من أوربا فرقًا للتمثيل من أعلى الطبقات. وكانت أول الروايات التي مُثلت فيها بوجه التحقيق رواية «ريجولوتو» التي حضرها كلٌّ من الخديو إسماعيل، والدوق والدوقة داوست، وذلك في أول نوفمبر سنة ١٨٦٩، كما جاء بالجريدة الرسمية بتاريخ ١٠ منه. ولما كانت الروايات التمثيلية من أنجع الوسائل، وأفعل العوامل في تهذيب الأخلاق وتنوير الأذهان، وحث النفوس على الفضائل والمحامد، بما تصوره للحاضرين من مناظر للفضيلة والرذيلة، والعدل والظلم، والوفاء والغدر، والصدق والكذب، إلى غير ذلك من الخصال، بارزة تحت ثوب من اللهو والفكاهة والجد، فضلا عما تنطوي عليه من حقائق ثابتة، ووقائع تاريخية، وحوادث وعِبَر لهذا الكون، تتكرَّر على مرور الأيام (ولا جديد تحت الشمس)، عمد المغفور له الخديو إسماعيل إلى تشجيع أبناء وادي النيل على غشيان دورا الأوبرا، ومسارح التمثيل الراقي، والملاهي البريئة، رغبة أن يريهن بعين النقد، ونور البصيرة، العبر في حياة من مضى من الأمم، إتباعًا للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بدلا من سماعهم القصص الخرافية، وحماسة عنترة بن شداد، وحروب الزناتي خليفة، والزير سالم، وسير أبي زيد الهلالي سلامه، وقصص ألف ليلة وليلة، وحضور الألعاب البهلوانية والأراجوز التي اتسع مجالها عند المصريين، وأصبحت مهنة لأرباب الجهالة والدهاء، يتفننون في متنوع أساليبها، جرًّا لمغنم من أهل السذاجة فيهم، وذلك في بدء توليه الأريكة الخديوية. وكان لشدة عطفه على تلاميذ المدارس العليا كالمهندسخانة مثلا أو غيرها، يبعث إليهم تذاكر خصوصية إسوة بأولاده الأمراء لكي يحضروا معهم التمثيل الروائي في الأوبرا. وبالجملة فإن فن التمثيل كان معدومًا فأوجده في مصر العزيزة، دون أن يتمتع بمزاياه سائر البلدان الشرقية لما أن العرب كانوا بوجه عام يقتصرون على عرض منتجات قرائحهم في سوق عكاظ، وكانوا يعلقون على جدار الكعبة الشريفة الشعر الأكثر طلاوة الذي صيغ من أخلص النضار. فمن أين يا تُرى يمكن أن تستنير عقولهم بالحكم والمواعظ والعبر المستمدة من الوقائع التاريخية، والحوادث الواقعية، التي تمثلها تحت الحس الروايات التمثيلية إذا غابت عنهم معرفة فوائدهم ولم يستعملوها بين ظهرانيهم لأنهم يتخذونها هُزؤًا، ويصفونها بالمهنة السافلة، بدليل أن الأدوار التي يجب أن تقوم بتمثيلها المرأة — خاصة على المسرح في فرقة يوسف خياط — كان يُعهد فيها اضطرارًا إلى غلام لم يتمكن من الإجادة في تمثيلها بطبيعة الحال، حتى أن الشيخ القباني نفسه أول الممثلين وأبرعهم في زمانه، كان رغم تقدمه في السن يقوم بدور المرأة، لما كان عليه فن التمثيل من قبيح السمعة، وتكون المرأة كما قدَّمت معرَّة قومها إذا جرأت على الاشتراك فيه بعكس الغربيين، وعلى رؤوسهم ملوكهم وعظماؤهم وعلماؤهم وحكماؤهم فإنهم أحلوا هذه المهنة في أعلى منزلة وأرفع مقام من الحضارة والمدنية. وقد عُني بتأليفها أكابر شعرائهم، أمثال شكسبير، وموليار، وراسين، وكورنيل، وڤولتير، وڤيكتور هوجو، وبرنارد شو، وغيرهم. فهل في هذه الحالة يتهمون بالزيغ والخبث، والتسكع في بيداء الغرور والغواية؟ أما الموسيقى، فإن من أطَّلَع على تاريخ مصر الحديثة، وتدبر ما للمصريين في أساليب معيشتهم من شديد الميل إلى المرح والجذل، وحب الغناء العربي بالفطرة، وتفضيله على سواه أيقن أن ديدنهم ومذهبهم توجيه عزائمهم إلى الاتساع والإبداع في أساليب الغناء بشرط ألا تشرد عن قواعدها الأساسية، وألا تصيبها عجمة تسأمها الطباع. وليس ذلك بغريب لديهم لما أن المغفور له محمد علي باشا الكبير نابليون الشرق المصلح العظيم، وبالرغم من أن أصله من قَوَلَه يعد أول المولعين بالموسيقى الشرقية؛ فأسس في مصر مدرسة للأصوات والطبول سنة ١٨٢٤، ومدرسة بناحية الخانقاه في شهر أغسطس سنة ١٨٢٧، ومدرسة للعزف بالنخيلة في أبريل سنة ١٨٢٩، ومدرسة للمحترفين (الآلاتية) سنة ١٨٣٤. وانتقل هذا الميل بالوراثة منه إلى أبنائه وأحفاده، بدليل أن الخديو إسماعيل شغف بها شغفًا شديدًا وأرهف غرار عزمه لتوسيع نطاقها، فأصبح للعلوم والفنون الجميلة نصيرًا، وللموسيقى الشرقية والغناء العربي حاميًا وظهيرًا. فما كاد يظهر عبده الحمولي في عالم الغناء في القاهرة حتى قرَّبه الخديو إسماعيل إليه، لما ألفى فيه من عبقرية ورخامة صوت، وكان له من أكبر المشجعين على التصرف في وضعه واشتقاقه، ليكسوه لباسًا يستوفي به زينته وجماله، فأوفده في الحال على حسابه الخاص إلى الأستانة ليقتبس عن الموسيقى التركية الغنية ما يروق له، وليختار من نغماتها ما يلائم الذوق المصري، ويطابق الروح الشرقية. فأدمج في الموسيقى العربية من النغمات التركية، النَهَوَنْد، والحِجَاز كار، والعَجَم عشيران، وسائر الآهات، مما جعل الفن مدينًا لعبده، وبالتالي لساكن الجنان الخديو إسماعيل الذي هيأ له جميع أسباب النجاح، وأطلق له العنان في مجال الإصلاح حتى ألحقه بمعيته، وخصص الشيخ: عبد الهادي نجا الإبياري لتعليم أبنائه. وقد عين الشيخ: علي الليثي شاعرًا بالمعية السنية، والدكتور: أحمد حسن الرشيدي طبيبًا له، وقرَّب إليه الشيخ علي أبا النصر المنفلوطي الشاعر الكبير، وعبد الله باشا فكري، وألحق نقولا بك توما بإحدى وظائف الحكومة، وأجزل لإبراهيم المويلحي بك العطاء الذي به استعاض عما جرَّته عليه التجارة من خسارة، وله اليد الطولى في تشجيع الصحافة على الانتشار في أنحاء القطر في الزمن الذي لم يكن به في مصر إلا الجريدة الرسمية تنويرًا لأذهان الأمة، وتوسيعًا لنطاق النهضة الأدبية التي بها تُرفع من كبوة الجهل السائد فيها، وحض رجالها على إدمان البحث والكتابة فيما ينمي ثروة البلاد، والحث على إحياء الصنائع وترغيب الأغنياء من المصريين في إنشاء المعامل طلبًا للاستغناء عن المصنوعات الأجنبية، أسوة بجده المغفور له محمد علي باشا الذي شجع عائلة الزند اللبنانية على تربية دود القز؛ بأن منحها على ساحل بحر مويس بجوار الزقازيق أرضًا واسعة سميت بكفر الزند، وزرعت بأشجار التوت لتغذية دود الحرير؛ حتى نمت تلك الصناعة وازدهرت في عهده. وقد ظهرت سنة ١٨٧٣ في عالم الصحافة جريدة مصرية شكلا وعثمانية النزعة فعلا باسم «كوكب الشرق» لصاحبها سليم حموي بك آنئذٍ، وكانت تصدر في الإسكندرية، ولما احتجبت عن قرائها لحاجة صاحبها إلى مال؛ عمد إلى طلب إعانة من الخديو إسماعيل، فلما مثل بين يديه، سأله عن المقدار اللازم من المال لاستئناف عمله فأجابه قائلا «إن خمسين جنيها تكفيني يا أفندينا» فامتعض من جوابه وأمر بصرف هذا المبلغ الضئيل له، وكان يود من صميم قلبه أن يعطيه ما يكفيه أعوامًا لا شهرًا ولا يومًا، إذ لم يخلق في العائلة العلوية المحمدية من هو أسخى منه يدًا، ولا أطيب نفسًا. فأخذ المبلغ حموي بك نادمًا ندامة الكسعي، لأنه تحقق بعد فوات الفرصة أنه لو ضاعف مبلغه أضعافًا مضاعفة لما تأخر الخديو عن صرفه؛ لينهض به من كبوة العوز، ويتمكن من استئناف إصدار جريدته التي قضى عليها بعد حين. أما جريدة «الأهرام» التي أنشأها المرحوم: بشارة باشا تقلا — شيخ الصحافة وكبيرها — بمعاونة أخيه المرحوم سليم بك الشاعر المفلق، والكاتب المتفنن سنة ١٨٧٥ فإنها تعتبر أول جريدة عربية أنشئت في القطر المصري في عهد الخديو إسماعيل بعد كوكب الشرق والجريدة الرسمية. وكانت تصدر بادئ ذي بدء في الإسكندرية حتى سنة ١٨٩٨، وبعد ذلك نقلها صاحبها إلى القاهرة. وكانت المورد العذب الوحيد الذي استمد منه الشعب المصري الأدب وأصدق الأخبار، وأدق المباحث المفيدة للمجتمع ماديًا أو أدبيًا. أما قنال السويس، فكان تمامه على عهد الخديو إسماعيل، وفُتح في اليوم السابع عشر من نوفمبر ١٨٦٩ باحتفال باهر دعا إليه إمبراطور النمسا والإمبراطورة أوجينيا زوجة الإمبراطور نابليون الثالث. وأقيمت في وسط ساحة الاحتفال ثلاث منصات خشبية مرتفعة مكسوة بالديباج والحرير، جلس على المتوسطة منها أصحاب التيجان، وأولياء العهد، والأمراء، والعواهل. وعلى المنصة التي على اليمين جلس من علماء الدين الإسلامي الشيخ: مصطفى العروسي، شيخ الجامع الأزهر، والشيخ: محمد المهدي العباسي، مفتي الديار المصرية. ولما تُوفي تعين بدله نجله الشيخ: محمد أمين المهدي، ولم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، على ما رواه لي السيد: أمين المهدي حفيده، ولكن الخديو إسماعيل استصدر فرمانًا شاهانيًا بتعيين قيِّمٍ عليه بصفة استثنائية إلى أن يبلغ رشده؛ لأنه يعطف على البيوت المصرية الطيبة العنصر. وقد اشتهر بغزارة العلم وطول الباع في أصول الشريعة الغراء حتى كانت تعد فتاويه المسماة بالفتاوى المهدية مرجعًا من المراجع الشرعية الراجحة التي يعمل بها على المذهب الحنفي. على أن الملوك زائريه قد استعرضوا أجناسًا من الأمم ونماذج مختلفة تقع تحت حكمه السعيد ابتداء من الإسكندرية إلى خط الاستواء ممن حضروا هذا المهرجان من الوفود من الفلاحين والصعايدة، وقبائل العرب، والسودانيين لابسين على رؤوسهم العقال والطرابيش والعمائم والطواقي واللبد، وهم يلعبون على صهوات خيلهم العربية المطهمة على أصوات مزمار الفناجيني الدمياطي، ويركبون أسنمة الهجن وظهور الحمير للسباق على أصوات الرباب ودقات الطبول البلدية، وقد آثرت الإمبراطورة في الذهاب إلى القصر على ضفة الإسماعيلية، والإياب منه بركوب الجواد والهجين على العرب الأوربية. ومن دواعي الأسف الشديد أن مصر لم تُقم للخديو إسماعيل اعترافًا بفضله بجانب تمثال فردينان دي لسبس تمثالا له في قنال السويس الذي حفره بأرض مصر برجال مصر. وقد أُميط الستار عن وجه تمثال الثاني باحتفال فخم في اليوم السابع عشر من شهر نوفمبر سنة ١٨٩٩ الذي يماثل اليوم الذي احتفل فيه بفتحه. حقًا إن ذلك قد وقع ذهابًا إلى الحكمة المأثورة القائلة بأن لا نبي يكرم في بلده. والأدهى من ذلك أن الخديو إسماعيل لما عمد إلى إلغاء السخرة — التي كانت حجر عثرة في سبيل القيام بأعباء الزراعة — تصدت له الشركة، واضطرته إلى سحب أمره إنجازًا للعمل وطبقًا لما هو منصوص عليه في عقد الاتفاق بينها وبين سلفه المغفور له سعيد باشا سنة ١٨٥٤، وليت المسألة وقفت عند هذا الحد، بل طالبه نابوليون بدفع مبلغ ١٢٥٠٠٠٠ جنيه ترضية له جزاء دفاعه عن الفلاح المسكين وميله إلى تخليصه من السخرة التي وجد ألا مسوغ لبقائها في عصر المدنية، وهي من بقايا الظلم في عهد الفراعنة في إبان بناء الأهرام، ورفع المَسَال الذي امتدت أغصانه حتى عهد المماليك، الذين كانوا يستعبدون الرعية وينهبون أموالهم. على أنه من جهة أخرى استعاض عن هذه الغرامة الفادحة بأن استرجع من شركة القنال أرضًا مصرية في وسط الصحراء تمتد إلى حدود الدلتا يقدر مسطحها ﺑ ٦٠٠٠٠ هكتار أرادت أن تغتصبها لنفسها، وانتهى بضمها إلى أملاك الوطن. وقد قدرها نابوليون آنئذٍ بمبلغ ٣٠٠٠٠٠٠٠ فرنك أي ١٢٠٠٠٠٠ جنيه. ولا يعزب عن بال الباحث المنصف أن لهذا المجهود العظيم قيمته الأدبية غير الملموسة، فضلا عن قيمته المادية الواضحة بما يسجله له التاريخ بالفخر المبين بين ما قام به من عظائم الأعمال. ومما لا ينكره عليه المغرضون أن العمارات التي شيدها، والقصور الفخمة التي بناها قد انتفعت بها الحكومة على توالي السنين بأن اتخذتها مقرًا لمختلف الوزارات ومركزًا للمصالح الحكومية والمعاهد العلمية والفنون الجميلة. وقد نزع إلى تقريب المسافات وتسهيل المواصلات، فبنى ٤٢٦ كوبريًا منها ٢٧٦ في الوجه البحري و١٥٠ في الوجه القبلي، وحفر ١١٢ ترعة أهمها ترعة الإسماعيلية البالغ طولها ٩٨ كيلومترًا وحفرها ١١ مليون متر مكعب، وترعة المحمودية، وترعة البحيرة مما أدى إلى إصلاح نحو ١٣٧٣٠٠٠ فدان من أراضي الصحراء أنتجت ما تقدر غلته ﺑ ١١٠٠٠٠٠٠ جنيه أو ريعًا سنويًا قدره ١٤٠٠٠٠٠ جنيه، ومما يؤيد ذلك ما جاء في كتاب: (بيتر كارابيتس) القاضي عن أدون دي ليون القنصل الأميركي في سنة ١٨٧٥ حيث قال ما يأتي بنصه وحرفه «إن التصليحات والتحسينات والأشغال العمومية التي شرع فيها الخديو إسماعيل، وأنجزت فعلا في مدة الأثني عشرة سنة في مصر كانت مدهشة وعجيبة، ولا مثيل لها في أي قطر من الأقطار، بلغت مساحته أربعة أضعاف مساحة القطر المصري وسكانه أربعة أضعاف سكانه». لما زاد فيضان النيل سنة ١٨٧٠ وهدَّد ثلاث قرى في القطر بالغرق أمر الخديو إسماعيل بأن تكسر الجسور بين أطيانه الخاصة فغمرتها المياه وسببت له أضرارًا قدّرت بأربعة ملايين فرنك. فآثر نفع الفلاح على نفعه، وضحى بأطيانه في سبيل حماية الفلاح من الأذى الذي كان سيناله من الفيضان. وتبيانًا لتشجيعه التجار المصريين وإيثارهم على الأجانب في جني الأرباح، ولو كانت من ماله الخاص اجتزئ من تاريخ المرحوم: إلياس الأيوبي بإيراد ما يأتي بحروفه: «ومن أفضل ما يحسن ذكره بمناسبة أفراح الأنجال أن طه باشا الشمسي — ناظر الخاصة الخديوية في ذلك الحين — وهو حمو حضرة صاحب المعالي أحمد طلعت باشا — رئيس محكمة الاستئناف الأهلية الآن — كلف عدة محال تجارية بتقديم مناقصات لتوريد كل ما يلزم من فرش وبياضات ودنتلات ورياش لجهاز كل من الأميرات العرائس. فلما قُدّمت، وقع اختيار طه باشا على مناقصة محل باسكال الفرنسوي، ويعرفه كل من زار مصر القاهرة حتى سنة ١٨٩٢، لأنها على جودة البضاعة المقدمة نماذج منها كانت على رخص في الأثمان يرغب فيه. ولكنه لما عرض ما وقع اختياره عليه للخديو إسماعيل سأله الخديو «ألم يتقدم في هذه المناقصة محل مصري وطني مطلقًا؟»، فأجابه طه باشا «نعم يا مولاي» فقد تقدم ضمن آخرين محل مدكور، ولكن الأثمان التي عرضها مُبالغ فيها لا توافق، لأنها تزيد خمسة وعشرين في المائة على الأثمان التي يطلبها محل «باسكال»، فقال الخديو إسماعيل «أرني مناقصته والنماذج المرفقة بها»، فقدمها طه باشا، فوجد الخديو إسماعيل أن الأثمان المكتوبة على تلك النماذج تزيد حقيقة خمسة وعشرين في المائة على ما يطلبه محل باسكال، لكنه وجد أن نوع البضاعة واحدة عند الاثنين، فضرب بمناقصة محل باسكال عرض الحائط، وقال لطه باشا «خذ كل ما نحن في حاجة إليه من محل مدكور وادفع له خمسة وعشرين في الماية فوق ما يطلب. فبدا في عينيّ طه باشا استغراب بالرغم من أن فمه نطق بعبارات الامتثال. فقال الخديو إسماعيل له «يا طه باشا إذا كانت المحال التجارية المصرية لا تنتفع ولا تستفيد من أفراح أولادي. فمن أفراح من تريد أن تستفيد وتنتفع؟» فاغتنمها محل مدكور وهي طائرة، وزاد على أثمان كل ما قدمه ما أمكنه زيادته. فكان ذلك من أسباب الثروة التي أحرزها ا.هـ. أقيمت ابتداءً من يوم ١٥ يناير سنة ١٨٧٣ الأفراح البهيجة احتفاءً بزواج الأمراء: توفيق وحسين وحسن أبناء الخديو إسماعيل، من ربات الصون والعفاف الأميرات: أمينة هانم بنت إلهامي باشا ابن المغفور له عباس الأول، وعين الحياة هانم بنت الأمير أحمد باشا ابن المغفور له إبراهيم الأول، وخديجة هانم بنت الأمير محمد على الصغير ابن رأس الأسرة المحمدية العلوية المغفور له محمد علي باشا الكبير، وزواج أختهم الأميرة: فاطمة هانم بالأمير طوسن ابن المغفور له محمد سعيد باشا ودامت أربعين يومًا كاملاً، باعتبار عشرة أيام لكل عرس من الأعراس الأربعة، ولا يزال للآن ذكر محاسنها يسير في الآفاق. ولذلك قد زينت العاصمة بأبهى الزين، ورفعت أقواس النصر في أهم الميادين. وأقيمت الأكشاك والمنصات للجوقات الموسيقية ولتخوت المطربين والمطربات. وفي مقدمتها تخت المرحوم: عبده الحمولي الذي إذا أنشد نقل بنغماته الساحرة مَنْ سَمِعَه إلى جنة الخلد. وتخت (ألمظ) التي فتنت العقول برنين صوتها الرخيم، ناهيك بأشهر الراقصات المصريات، وفي مقدمتهن صفية وعائشة الطويلة، اللتين استعبدتا القلب والنظر فيما قاما به من حركات وتموجات ورشاقة وخفة. ومما يحسن إيراده تفكهة للقارئ وبيانًا للحقيقية بمناسبة تزويج الأمير: حسن، من الأميرة: خديجة، أن الخديو إسماعيل حينما أدخلها المدرسة المعدة للأميرات، وتبين من فحوى كلامها توقد ذهنها وسرعة إدراكها وعدها بالزواج من أحد أولاده إذا اجتهدت في طلب العلم. فعنَّ له يومًا أن يزور تلك المدرسة ليتفقد حال الطالبات فيها، فلما وصل إلى الأميرة خديجة، سألها قائلا «إلى أين بلغت من تعلم القرآن يا ابنتي؟» فأجابته من فورها وقالت «واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد»، فسُرَّ الخديو وارتاح لجوابها وقال لها: «نعم. نعم» ثم برَّ لها بوعده. فلا غرابة في لطيف إشارتها إلى سابق وعده وما بان له فيها من فرط الذكاء وهي دون البلوغ، لأن البنت أفطن من الولد بطبيعة الحال إلى السنة الثالثة عشرة من العمر؛ حيث يقف ذكاؤها عند هذا الحد لأسباب طبيعية ولا يتعداه خلافًا للولد، فإن ذكاءه يطَّرد نموه ويسير نحو تمام الإدراك على ما أثبته (هربرت سبنسر) في كتاب: «التربية». على أن معنى إسماعيل: مطيع الله، كما ذكره صاحب القاموس. وفي شفاء الغليل قال السبكي «ويستحب لمن رُزق ولدًا في الكِبر أن يسميه إسماعيل اقتداء بالآية. ولأن معناه عطية الله». فإذا توارت شمسه وراء الأفق، فإن أشعتها — كما قال فكتور هوجو — لا تزال ساطعة الأنوار.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/2/
أصل الموسيقى
الموسيقى من أقدم الفنون عهدًا في تاريخ الإنسان، ولا يُعلم أصلها بوجه التحقيق على حد سائر الأمور النفسية الأخرى، وقد أدجنت سماؤها وتنكرت معالمها أحقابًا متطاولة، لعجز الأقدمين عن استقراء حقائقها، وغفلتهم عن إدراك دقائقها، أو معرفة أسماء الذين اكتشفوا بادئ ذي بدء الأصوات الجميلة ممن احتبلتهم حبول الردى، ولذلك فقد عُزي إلى آلهتهم — رجمًا بالظن — الفضل في إيصال هذا الفن إلى النوع الإنساني. على أنه ينبغي لنا في هذه الحالة أن نُخلد بثقتنا إلى التوراة؛ التي هي المرجع الوحيد الواضح الإعلام المعتبر كمعين نستقي منه الأخبار عن الموسيقى درءًا للشبهات، وقد جاء فيها ذكر يوبال من السلالة السادسة لقايين الذي كان أول من عزف على القيثارة والمزمار بحذق أخذ بمجامع قلوب سامعيه، وكانت في زمنه القيثارة مركبة من عشرة أوتار يشبه شكلها مثلثًا متساوي الأضلاع. أما المزمار فإنه يختلف عن مزمارنا الحاضر في الطول والحجم، ولا يُعلم غيرهما البتة من سائر آلات الطرب قبل الطوفان، وقد نقش أبناء نوح عليهم السلام شكلهما على العامودين الذين شيدوهما تخليدًا لذكر اختراعهما بين الأمم الذين ظهروا بعد الطوفان وخدمة للعلوم والفنون الجميلة. ومما لا تخالطه شبهة أن الموسيقى كانت في أول عهده مقصورة على الصوت الطبيعي إلى أن تنبه الإنسان بذكائه — على سبيل الاتفاق — إلى اختراع الآلات عند سماعه صفير الهواء المتولج في الخصاص والثقوب؛ فاستعمل للنفخ أنابيب القصب، وللعزف أوتار القسي. ولا ريب أن أقدم الآلات الموسيقية للنفخ، كان — بناءً على ما أيده قدماء المؤرخين — المزمار والبوق والناي، وربما كان الأخير أقدمها وهو أول آلة أخذها اليونان عن المصريين القدماء. وليس بخافٍ أن ما من أمة من الأمم أغفلت هذا الفن الجميل، ولو كانت متوغلة في التوحش والهمجية لما يحيط بها من العوامل الطبيعية، ويكتنفها من الظواهر المؤثرة التي تكسبها جذلا ومرحًا، وتثير في نفوسها الميل إلى محاكاتها وتقليدها، وحسبك الهواء فإنه يموج بالموسيقى، ولولا تموجاته وروحاته وغدواته لأضحى غير صالح للتنفس، وما الأرض إلا صدى الكون، وبناءً عليه فما على الإنسان الذي حباه الخلاق العظيم بجميل الصوت ولطيف الحس وحب الجمال إلا أن يرفع عينيه نحو السماء ويُسَبِّح باسمه الأعلى هاتفًا وممجدًا وحامدًا إياه على عطاياه التي يتنعم بها في كل حين. «إذا أمكنك أن تقصد إلى سراديب الأموات من قدماء المصريين ونفضت ما علق بجثثهم المحنطة من الغبار وعجنته عجنًا، واتخذت منه أشكالا وخبزته في فرن، وأسميت تلك الأشكال رجالا قدَّمتهم نُصب عيوننا بصفة وطنيين أو معلمين كان مثلك كمثل من قدَّم التعاليم القديمة التي أبلاها تناسخ الملوين لجيلنا الحاضر طلبًا لفائدته، وخدمة للرقيّ والحضارة، وقيامًا باحتياجاته الضرورية». وقد ذكر ابن خلدون ما يأتي فيما يختص بالغناء لاعتباره عاملا كماليًا للعمران، ولازمًا لحياة الإنسان، لا سيما في مصر، بلد الحضارة والفنون حيث يتعين الاستشهاد به فقال: «وإذ قد ذكرنا معنى الغناء فاعلم أنه يحدث في العمران إذا توفر وتجاوز حد الضروري إلى الحاجيّ، ثم إلى الكمالي، وتفننوا فتحدث هذه الصناعة؛ لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجاته الضرورية والمهمة من المعاش والمنزل وغيره، فلا يطلبها إلا الفارغون عن سائر أحوالهم تفننًا في مذاهب الملذوذات». ثم أخذه الإسرائيليون عن المصريين مدة إقامتهم في مصر وجعلوه شعيرة من شعائرهم الدينية، كما كان يفعل المصريون، ولذلك كانوا يؤلفون في معابدهم جوقة للترنيم والعزف، حتى اشتهر بين ظهرانيهم داود النبي — عليه السلام — بتنظيم الأناشيد وترتيل المزامير. وكان معروفا بحسن الصوت، وقد اتفق أن ضاقت عليه الأرض برُحبها في أثناء مرض ابنه العزيز، وزاد به الجزع إلى حد أن أهمل نفسه، وامتنع عن الطعام، واتسخت ملابسه، ولكنه لما مات ولده وواراه في التراب اغتسل وبدَّل ثيابه وحلق رأسه وتعطَّر وأمسك بقيثارته وعزف عليها ألحانًا شجية، ولما سئل عن سبب عزفه أجاب قائلا: «لكي ألطف ما بنفسي من ماضي الجزع الذي لم يغن عني فتيلا إذ أنه قد حلَّ القضاء وولدي لا يرجع إليَّ بالعويل والبكاء خلافًا لي فإني حتما ذاهب إليه ولا حقٌ به». وقد أخذ اليونانيون الفن أيضًا عن المصريين حينما اتصلوا بهم وتعاملوا معهم في أنواع التجارة وغيرها في عهد أمسيس — أحد الفراعنة للدولة السادسة والعشرين — ومهروا فيه وأحكموا أصوله وبلغ منهم مبلغًا ساميًا حتى أن فلاسفتهم وقفوا عليه جهودهم وحذقوا علمه كسقراط الذي كان يشنف آذان أصدقائه ومعاشريه بغنائه الشجي، وأفلاطون الذي استرسل إليه وأطنب في فضائل الموسيقى قائلا ما معناه: «إنها غذاء النفس ومبعث الاتزان والفطن، وهي عطية آلهة الفنون الحرَّة، التي تحوّل ما فينا من شاذ مُتنقّل إلى محكم ثابت، وترد كل تنافر إلى جناس متناسب، وتبصرنا طريق الهدى. وقد أردف أيضًا في كتابه: «الجمهورية» ما مؤداه «أن الموسيقى علم يجب تعلمه كالرياضة البدنية. فالأولى تهذب النفس وتصلح ما فسد منها، والثانية تقوي الجسد» وأزيد عليه رمزًا إلى مزايا الموسيقى الفريدة في بابها، والجزيلة الفائدة فأقول: إن الزيادة في استعمالها تؤدي إلى زيادة الجذل والسعادة ونعمة البال، خلافًا للرياضة البدنية فإن في الإفراط فيها ما يؤدي إلى الإضرار بالجسم لما يكلفه من عناء فوق الطاقة. ومما يُروى في خرافات اليونان أن أرفيوس كان يتسلط بأغانيه على الوحوش الضارية فيجعلها أطوع من بنانه، وكان يستوقف البحار الهائجة، ويُرقص الصخور، ويحرك الأشجار فتسجد عند سماعها. وقد ذكر عن قدماء المصريين أن أنفيون بن جوبيتر بنى أسوار طيبة بصوت العود الذي كان يجيد العزف عليه، حتى كانت الحجارة تتجمع وتتلاصق وتتراص بعضها فوق بعض، وذلك في أثناء عزفه، وقال الدكتور: كلارك، البحاثة «إن الغناء على نغمات الموسيقى كان عادة مألوفة عند قدماء المصريين في أثناء قيامهم بالعمل». أما ما كان من أمر العرب فإنهم نقلوا الموسيقى عن اليونان والفرس، وأشهر الكتب التي ترجموها عن فلاسفة اليونان بمعرفة مهرة التراجمة، ومؤلفات فيثاغورس في الموسيقى والحساب وغيرهما من العلوم الرياضية، وشغفوا بها شغفًا أدى إلى أن وسمت قواعدهم الموسيقية وأغانيهم بالطابع اليوناني. بدهي أن العرب كانوا أهل نجعة وخيام، وأُلاف بادية وأنعام، لا يجنحون إلى إقليم معين، وليس لهم مقر يرتافون منه — حالة منافية لطبيعة العلم وما يقتضيه من القرار والتوفر على البحث والاستدلال، ومناقضة لقواعد الحضارة والعمران لتصديهم إلى شن الغارات ومواصلة المغازي والمشاحّات — فلما ظهر الإسلام، ولأم صديع شملهم، اشتغلوا بالفتوح وانصرفت عزائمهم إلى توسيع نطاق ملكهم، لا سيما بعدما أوتوا النصر المبين، كانوا من أبعد الناس عن الأشغال بأسباب العلم، وأشدهم أنفة عن انتحال الصنائع لانهماكهم في تدبير شئون دولتهم وسياستهم وحمايتها؛ خشية أن يكونوا مغلبين لغالب، أو طعمة لآكل، ولم تحفزهم وقتئذ الحاجة إلى ضبط قواعد لغتهم، فكان سيبويه صاحب صناعة النحو، والفارسي والزجاج والزمخشري وأمثالهم من فرسان الكلام، وكلهم عجم بالنسب قد اكتسبوا اللسان العربي بالمربى ومخالطة العربا، وكذا حملة الحديث الشريف الذين حفظوه عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون لغةً ومربى، وكان علماء أصول الفقه كلهم عجمًا، وكذا أكثر المفسرين، ولم يقم بحفظ العلم وتدوينه إلا الأعاجم كما ذكره ابن خلدون وظهر مصداق قوله ﷺ «لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس». ولما رسخت قواعد دولتهم ورأوا في أكثر الممالك التي وطئوها من أسباب الحضارة والرقيّ والتضلع من أنواع الفنون ما حبّب إليهم درس العلوم والصنائع انصرفوا إلى طلبها بصريمة محكمة، وذلك في أثناء المائة الثانية للهجرة، بعدما دوّخوا الممالك، واستولوا على أعنة أمورها، وزال ما كان بينهم من المنازعات على الخلافة وغيرها. وأول من اشتهر من العرب يعقوب الكندي — الملقّب بفيلسوف العرب من القرن الثالث — وله عدة تآليف في المنطق والفلسفة الناطقة وشروح على كتب أرسطو، وكانت له عدة مصنفات في الموسيقى والهندسة والحساب والهيئة، وجاء الفارابي الذي له عدة تآليف في الفلسفة والموسيقى والسياسة المدنية وغيرها، وله تعريب كثير من كتب أرسطو، ولابن سينا كتاب: المدخل إلى صناعة الموسيقى، ومنهم ابن باجة أبو بكر محمد بن يحيى التجيبي السرقُسطي — المعروف بابن الصائغ من رجال القرن السادس — كان من أكابر فلاسفة العرب بالأندلس، وكان له باع طويل في الموسيقى والطب وعلم الهيئات والرياضيات. وكان الرازي من المتقدمين في الطب والموسيقى والمنطق والهندسة، وصفوة القول إن المؤرخين من العرب هم أكثر من أن يأخذهم الإحصاء، ومن العلوم التي بحثوا فيها وتكلموا عليها العلم الطبيعي الذي أخذوه عن مصنفات أرسطو وغيره من متقدمي اليونان، فبحثوا ضمنًا في الأصوات والنغمات في الكلام على المسموعات، وكانوا والحق يقال أهل صنائع بديعة وفنون غريبة وتجارة رائجة وزراعة نامية، وكان العلم مصباحًا يضيء جنودهم أينما حلوا في كل بلاد وطئتها حوافر خيلهم وافتتحوها حتى امتدت حضارتهم من أطراف آسيا إلى أقاصي أفريقيا ووسط أوروبا. ولو لبث الدهر باسما لهم ومسالمًا إلى يومنا هذا لم يبعد أن كانوا بلغوا ما بلغ غيرهم ممن اقتبسوا عنهم علومهم وفنونهم وصنائعهم وضربوا فيها بسهم وافر مثلهم. ومما لا يختلف فيه اثنان أن الإفرنج الذين خلفوا العرب قد أخذوا عنهم كثيرًا من المصنوعات كالبارود، والورق، والخزف، والسكر، والزجاج، وتركيب الأدوية، وتصفية المعادن، وفنون النساجة والدباغة، وذلك دليل قاطع على تمام تمدنهم وشغفهم بالفنون الجميلة وعلى رأسها الموسيقى التي كانت في أبان بداوتهم وجاهليتهم مقصورة على الترنم بالشعر وتغني الحداة منهم في حداء إبلهم، والفتيان في فضاء خلواتهم، وكانوا يرقصون على الدف والمزمار، فلما جاء الإسلام وتغلبوا على الفرس واختلطوا بهم سمعوا تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم، وكلما ازدادوا غرقًا في النعيم والترف ازداد تولعهم بالغناء بمقدار ما نقص من خشونتهم، وألفوا عوائد من اتصلوا به من الروم والعجم الذين اشتهروا بالتبحر في علم الموسيقى. وكفى بتسمية الأنغام الموسيقية بألفاظ فارسية دليلا على ما لهم فيها من المزايا الظاهرة على حد الشعر حتى سميت بلادهم ببلاد الجمال الشذية. على أن الغناء كان في زمن الجاهلية من خصائص الإماء، وتسمى عندهم الأَمَة المغنية بالقَيْنَة والكونية. وقد زعموا أن أول من غنى من الإماء جاريتان كانتا لمعاوية بن بكر من قبيلة عاد الهالكة، وهما المدعوتان في الأخبار بالجرادتين، وقد قيل إنهما وضعتا ألحانًا اعتبرت من الطبقة الأولى. «وقد ظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائر ابن جابر مولى عبيد الله بن جعفر فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه، وطار لهم ذكر، ثم أخذ عنهم معبد وطبقته، وابن شريح وأنظاره، وما زالت تتدرج إلى أن تمكنت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي، وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وابنه حماد». ا.هـ. وكان أحسن الناس غناء في الثقيل على ما قيل هو ابن محرز، وفي الرمل ابن شريح، وفي الهرج طويس، وكان الناس يضربون به المثل فيقولون أهزج من طويس، وكان ينقر بالدف دون أن يعزف على العود، وقد أخذ عنه أسرى الفرس في أثناء اشتغالهم بأعمال البناء وغيرها كثيرًا من النغمات والألحان والموازين، وكان يلقب (طويس) بالذائب لأنه غنى البيت الآتي: وقال صاحب الأغاني عن ابن شريح ما يأتي «إن ابن شريح عندما شعر بدنو أجله أحزنه أن يموت بدون أن يترك لابنته شيئًا من الثروة»، فأجابته هذه قائلةً «لا تحزن يا أبي فقد وعت الذاكرة جميع ألحانك، وستكون هذه الألحان موردًا كبيرًا لي بعدك». وهذا ما حدث فقد تزوجت ابنته بسعيد بن مسعود الهزلي فأخذ عنها غناء أبيها فصادف به نجاحًا كبيرًا، وجنى منه فوائد جمة. وقد مات شريح حوالي سنة ٧٢٦ مسيحية بالغًا من العمر خمس وثمانين سنة. وقد سُئل شريح مرةً عن قول الناس، فلان يصيب وفلان يخطئ وفلان يُحسن وفلان يسيء فقال: المصيب المحسن من المغنين هو الذي: يشبع الألحان، ويملأ الأنفاس، ويعدل الأوزان، ويفخم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويقيم الإعراب، ويستوفي النغم الطوال، ويحسن مقاطيع النغم الصغار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواقع النبرات، ويستوفي ما يشا كلها في الضرب من النقرات. فعرض ما قال على معبد بن وهب فقال: «لو جاء في الغناء قرآن لما جاء إلا هكذا». نبغت جميلة في فن الغناء وقالت إن الفضل في نبوغها يرجع إلى سائب خائر الذي كانت تسمعه يغني ويعزف على عوده، وقد جاء ابن شريح ومعبد ومالك وجميع الموسيقيين المشهورين المدينة ليتلقوا فن الغناء عن جميلة في مدرستها، ففي ذات يوم غنت جميلة لحنًا من تلاحينها في شعر لحاتم الطائي فصاح جميع من حضر وقالوا: إن هذا الغناء لجدير بداود. عزة الميلاء تلميذة رائقة، وسميت الميلاء لإعجابها بنفسها وميلها في مشيتها، وكانت تغني أغاني القِيَان من القد. تعلم سائب خائر الغناء عن إماء كانت مهنتهن ترديد المراثي في حفلات الموتى، وكان يغني بدون أن يصحب صوته بآلة لاكتفائه بعصا كان يضرب بها الأرض ليزن الغناء، ولكنه تعلم العزف على العود أخيرًا، وهو أول من غنى بالعربية الغناء الثقيل، وأول تلحين له البيت الآتي: ومن أشهر المغنيين أيضًا ابن شريح والفريض ومعبد وحكم الوادي، وفيلج بن أبي العوراء وسياط ونشيط وعمر الوادي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحق وغيرهم.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/3/
الغناء القديم والغناء الحديث
لما زها العصر العباسي الأول في زمن الرشيد والمأمون وأطلقت الألسنة والأفكار أخذ المغنون يفكرون في تعديل الألحان واستنباط أسلوب جديد. وأول من تجرأ على ذلك إبراهيم بن المهدي أخو الرشيد — وكان من الطامعين في الخلافة — فلما استتب الأمر لأخيه المأمون انصرف هو إلى الغناء، كما انصرف خالد بن يزيد الأموي إلى الكيمياء لما يئس من الخلافة، وكان إبراهيم من أعلم الناس بالنغم والوتر والإيقاعات وأطيبهم في الغناء وأحسنهم صوتًا، وهو يعد من الطبقة الأولى في عصره. لكنه كان مقصرًا عن أداء الغناء القديم على طريقة الموصلي فكان يحذف نغم الأغاني الكثيرة العمل حذفًا شديدًا أو يخففها على قدر طاقته، وإنما تجرأ على ذلك بما له من المنزلة عند الناس، فكان إذا عوتب قال: «أنا ملك أغني كما أشتهي» وصارت له طريقة يسمونها الغناء الحديث، وسموا طريقة إسحق الطريقة القديمة. وانقسم المغنون في ذلك إلى قسمين وأصحاب فن الغناء يعدون عمل إبراهيم بن المهدي فسادًا في هذه الصناعة لأنهم يفضلون القديم فأخذوا في الرجوع إليه. على أن ذلك بعثهم على إعمال الفكرة والتعمق بهذا الفن وانتهى ذلك إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر من أهل العصر العباسي الثاني، فكان من كبار العلماء المفكرين ولا سيما في علوم الأوائل والموسيقى والهندسة، فوضع كتابًا في النغم وعِلَل الأغاني سماه (الآداب الرفيعة) نال شهرة واسعة، ونأسف لضياعه مثل ضياع أكثر ما وضعه العرب في الموسيقى والغناء قبل كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (نقلاً عن تاريخ آداب اللغة من الجزء الثاني للعلامة المرحوم: جورجي زيدان). «وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم، وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنًا منه سمّوه بالموشح، ينظمونه أسماطًا أسماطًا، وأغصانًا أغصانًا، يكثرون من أعاريضها المختلفة ويسمون المتعدد منها بيتًا واحدًا، ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليًا فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات، ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب، وينسبون فيها ويمدحون كما يُفعل في القصائد، ويتجاوزون في ذلك إلى الغاية، واستظرفه الناس جملةً، الخاصة والكافة؛ لسهولة تناوله وقرب طريقه، وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدّم بن معاقر الفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد، ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر، وكسدت موشحاتهما، فكان أول من برع في هذا الشأن عبادة القزَّان شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية» ا.هـ.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/4/
عبده الحمولي
وُلد المغفور له عبده الحمولي سنة ١٢٦٢ هجرية (تقريبًا) بمدينة طنطا، وكان والده الملقب بالحمولي (نسبة إلى حمول أو حامول من أعمال مركز تلا مديرية المنوفية) يمارس تجارة البن. وكان للفقيد أخ أكبر منه سنًا، وما عتَّم أن وقع بينه وبين أبيه شقاق حتى فرَّ به من وجهه، وهام كلاهما في الخلوات مشيًا على الأقدام. ولما تعب المرحوم عبده من السير لصغر سنه حمله أخوه على كتفيه واستمرَّا على هذا المنوال إلى أن صغت الشمس إلى الغروب، وضعفت نفساهما من التعب دون أن يجدا أحدًا يأنسان بصحبته، أو يلجآن إلى ضيافته. وقد هدتهما أخيرًا خاتمة المطاف إلى رجل اسمه شعبان لبى طلبهما بكل ارتياح، وآواهما على الرحب والسعة. وكان المضيف من حسن الصدف يشتغل بصناعة الغناء والعزف على القانون، وما لبث أن سمع صوت عبده الرخيم حتى افتتن به وعاد به إلى مدينة طنطا حيث اشتغل معه مدة وجيزة، وحضر به آخرًا إلى مصر واشتغل معه بقهوة عثمان أغا المشهورة التي كانت في وسط غابة من الأشجار موضع حديقة الأزبكية حالاً. ولما استقرَّ بهما المقام في مصر زوَّجه بابنته طمعًا في الانفراد عن مواقف المنافسين له بمزية استغلال مواهبه العبقرية وحده، وكان من وراء علمه أن المرء لا يخلو من أضداد على حد قول الشاعر. لأن «المقدّم» الرجل الطائر الصيت في فن الغناء ظهر له منافسًا، وذلك بعد أن علم بعبده وأعجب بصوته، وانتهز الفرصة التي فيها كان يغلظ شعبان لعبده في الكلام ويسيء معاملته استنادًا إلى رابطة المصاهرة وتوصل بدهائه إلى توسيع شقة الخلاف بينهما مما أدى إلى تطليق ابنته ثلاثًا، فألحقه بتخته واستمر يغني على الطريقة المعروفة عند محترفي هذا الفن من المصريين وقتئذٍ، وأصلها يرجع إلى رجل اسمه شاكر أفندي من حلب الشهباء ألقى عصا التسيار في هذه الديار في المائة الأولى بعد الألف حيث كان فن الألحان فيها مجهولاً، فنقل إليها عدة تواشيح وبعض قدود كانت البقية الباقية من التلاحين التي ورثها أهل حلب عن الدولة العربية، بدليل أن الحلبيين الأذكياء ينزعون إلى الموسيقى، وتهفو قلوبهم في أثر الطرب، ولذا لا تخلو دورهم ومجامعهم لغاية الآن من الآلات الموسيقية التي يحسنون غالبًا العزف عليها، ولما تلقاها عنه بعض المحترفين من المصريين ضنوا بها طمعًا وحرموا غيرهم من الانتفاع بها دون أن يذيعوها على الملأ طلبًا للتفرد بها، ولو تأذى الفن بمثل هذا الاحتكار، وكانت مقصورة على أمهات المقامات وبعض ما تفرَّع عنها مما يقارنها ولا يشرد عنها، فأخذ المرحوم عبده بما حباه الله من مواهب فذة في صقلها وتهذيبها مضيفًا إليها ما عَنَّ له من النغمات تمشيًا مع نواميس الرقي والإصلاح، ونفحها بروحٍ مصرية، وكساها بجلباب عربي، ووسمها بطابع بهيج وذوق سليم فرماه لذلك المحترفون الرجعيون بالزندقة، وقاطعوه بشدة لشروده عن البالي من غنائهم وتبديل نَبْرِهِ الحلبي بالأنغام المصرية، فأفرغها في قالب على أسلوب رشيق ضاربًا عرض الحائط بكل الأغاني التي تعتورها الركاكة، ويشوّهها اللحن، أو يتجاذبها التنافر مما تنقبض منه الصدور، وتسأمه النفوس. فانتهى به الأمر أن انتصر عليهم جميعًا واضطروا إلى الجري على منهاجه بعد أن باءوا بالذل والخسران. فأخذت الموسيقى في ذلك الوقت تتدرج وترتقي بعد أن أنعشها من كبوتها حتى بلغت ذروة الكمال؛ لاحتوائها على أنواع من السحر وعوامل من التطريب بما أدرجه في صلبها من نغمات النهوند والحجاز كار والعجم عشيران التي تلقنها عن مشاهير المطربين في الأستانة طيلة الرحلات المتعددة التي قام بها وهو بمعية ساكن الجنان أبي الأشبال الخديو إسماعيل، محيي الفنون الجميلة في وادي النيل الذي يرجع إليه كل الفضل في إنماء مواهب عبده الفنية، وتوجيهها للنهوض بفن الغناء العربي إلى المستوى اللائق به؛ لما وجد فيه من ميل فطري وسعة تصرف في النغمات. فكان يتنقل من نغم إلى نغم، ثم إلى أنغام أخرى ويحيط بكل فروعها ويعود إلى النغم الأساسي بطريقة فنية، وتصرف غريب، ولم يدع في الغناء القديم شواذًا إلا ردها إلى قواعدها، أو مسموعًا قبيحًا إلا طرح معايبه، وألبسه أنصع جلباب متحاشيًا اللغو والحشو والتعمية مرتفعًا عن مقام التلفيق والتحدي، منزهًا عن النسج في التلحين على منوال المحدثين بخروجهم عن جادة الصواب، ومسخ محاسن الغناء العربي الصحيح. وبالجملة فإنه استطاع علاوة على تهذيبه التواشيح والقدود التي تلقاها على الطريقة الحلبية الوصول إلى التوفيق بين المزاجين المزاج التركي والمزاج المصري، بمعنى أن أهل الطبقة الحاكمة في مصر كانوا لا يطربون من الغناء العربي لكونهم يرجعون إلى محتدٍ تركي، فأصبحوا بفضل ما أدمجه من النغمات التركية التي سمعها وهو في الأستانة — على ما سبق الإيماء إليه — يميلون إلى سماعه ويفضلونه على سواه على حد ما حدث للمصريين أنفسهم، فإنهم أعجبوا بالنغمات الجديدة التركية التي عدَّلها ومزجها بالنغمات المصرية بما يلائم أذواقهم، ونفحها بروح العروبة، وعجنها من طينة الحرية، فدرجت من مهد السيادة الشرقية، والمجد المصري الأصيل، ونالت استحسانهم بالإجماع بعد أن كانوا ينفرون منها ولا يرتاحون إلا إلى نغمات الأنين والتوجع التي اقتصروا عليها في محيطهم الضيق. على أننا إذا تأملنا عمله هذا وما نجم عنه علمنا أنه لم يقتصر على التوفيق بين أنغام الجنس المصري والجنس التركي فحسب، بل تجاوز هذا الحد وفات هذه النتيجة الفنية وصعد إلى ذروة العُلى من الوجهة الاجتماعية؛ بإيجاد صلات بين الشعبين متينة الأسباب حتى تقاربت قلوبهما بعد التباعد، وامتزجت أراحهما امتزاج الماء بالراح، وتمكنت بينهما الألفة ردحًا طويلا تمكنًا لا يشوبه كلال أو يعتريه ملال. وكثيرًا ما كان يذكر في «بشارفه» وأدواره عبارة (آمان يا لللي)، والآهات التي أخذها عن الموسيقى التركية. وكان ينقل ترجمة الأغاني التركية إلى العربية وينظمها الشعراء، مثال بشرف «بلبل الأفراح غنى آمان في الرياض السندسي» ببعض التصرف تمشيًا مع الغزل العربي وتفكهةً للقارئ أروي الواقعة الآتية للدلالة على ما كانت ترمي إليه الأغاني من الأنين السائد على العقول، وهو أن سائحة أمريكانية سمعت رجلاً يغني بالقرب من فندق الكونتيننتال بشكل غريب الدور الآتي «حبيبي حبيبي شوفوه لي يا ناس شرد مني وبيده الكاس أترجاك تعمل معروف» فأوعزت من فورها إلى ترجمانها بأن يعطيه بالنيابة عنها دولارًا ليستعين به على شراء أي دواء من أقرب أجزاخانة طلبًا لإسعافه بالعلاج؛ ليتخلص من مغص كلوي كانت تتوجس منه خيفة، وترى بسببه أنه لم يبق من عمره إلا اليسير؛ فضحك الترجمان لكلامها وقال لها يا سيدة: «ليس المغني بمريض. إنما هو عاشق ومغرم صبابة»، فدهشت من قوله وسألته عن معنى غنائه، وما كادت تقف على كنه ما احتواه من معاني البلادة والخمول حتى ضربت برجلها الأرض قائلة: «دم فول» إنه حقًا عاشق كسول وعليه أن يبحث عن حبيبته، وليس للناس شأن في ذلك. ولقد قالت الحق الذي لا ريب فيه لأن المرء أحق بأن يعين نفسه من أن يعينه الغير، ولا خير فيمن لا يعين نفسه، والكسول كالميت لا فائدة ترجى منه، والأدهى أنه يشغل مكانًا أوسع من مكان الميت، وليست أغاني الأمة إلا رمز أمانيها، ومحك نفسيتها، ومجس قوميتها وثقافتها، وقد قام المرحوم إلياس الأيوبي بإيراد هذه القصة في تاريخه (عن الخديو إسماعيل) ونسب ما جاء بها من النقد إلى لورد كرومر. ففي الاستشهاد بما قالته السيدة الأمريكانية هنا، أو بما قاله الأخير في الموضوع استنتاج واحد، ولو اختلفت النسبة. على أن تأثير الوحشة المؤلمة والتعب المضني والجوع والظمأ في ظهيرة اليوم الذي خرج فيه عَبْدُه من بيت أبيه طريدًا شريدًا كانت لا تزال مرسومة في مخيلته، حتى أنك كنت تراه في آخر أيامه يقطب وجهه وينقبض صدره ويتقلص بِشْرِه كلما دخل عليه وقت الغروب، ويُعْزَى كما لا يخفى انقلابه الفجائي من السرور إلى الكدر والانقباض في نفس ذلك الميعاد إلى ما كان منتقشًا في صفحة ذهنه من ذكراها المؤلمة، وذلك دليل واضح على قوة ذاكرته، وما كان في نفسه من الشمم والإباء، وحرصه على كرامته الشخصية بالرغم من صغر سنه حتى أمام والده الصادر عنه الضيم المسيء والعذاب الأليم اللذين كان يوجههما إلى ابنه الأكبر دون عَبْدُه الصغير الذي لم تفرط منه هفوة. ولذا كان في أثناء تكدره ينام على التخت وقت الغناء، حتى إذا استيقظ رجع إلى النغمة التي وقف عندها قبل نومه من غير مراجعة آلة ما، أو استنفاض التخت، أو الاسترشاد بأحد العازفين فيه، كأن الطبقة قد انتقشت في صفحة ذهنه وأنها في كِنٍّ من تأثير جميع الأصوات التي مرَّت عليه وهو في نومه أو غيبوبته، وأغرب ما في هذا الأمر أن الحضور كانوا يمهلونه وينتظرون تيقظه بكل سرور، حتى إذا ما استأنف غناءه بعد نصف ساعة أو ساعة يهزون أعطافهم، ولو حدث مثل ذلك البطء من أي مطرب آخر لغادر السامعون أماكنهم وانصرفوا إلى منازلهم. ومما لا يختلف فيه اثنان أنه كان يصوّر معاني أغانيه، وما تخلل أجزاءها من أحوال وحوادث على أوضح صورها وأشدها تأثيرًا في عقول السامعين الذين يعجبون لسماعه يغني دورًا من تلاحينه (حجاز كار). ويستغربون تشخيصه أمامهم صورة العليل ومر شكواه من داء حبه العقام، وطلبه من الطبيب أن يشفيه منه. ودور «أنا حبيت وزاد قلبي هيام» فإنه يخيل إليهم أنهم يقرءون الحب على وجهه. وأنه ذهب بفؤاده كل مذهب وبرى الشوق عظمه. ودور «سيكاه» تلحينه كان يغنيه في حلوان بالكازينو. وقد ظهر في عصر ساكن الجنان الخديو توفيق يوم أن نقلت محطة حلوان من المنشية (بالقلعة) إلى باب اللوق حيث هي الآن، وكان هذا الخط تابعًا لشركة سوارس، وقد غناه في حضرة الخديو توفيق فأعجب به وهو كما يأتي: ودور (راست) تلحينه «المطر يبكي يا ناس لحالي» إذا غناه رفرف السامعون عليه بأجنحتهم ورءوا المطر ينهمر عليه، ودور (بياتي) تلحينه أيضًا«بسحر العين فيذكرهم فتور الجفون وسحر العيون وما يليه من نحول الخصور وابتسامات الثغور وسريان الريح بريَّا الزهور إلخ إلخ، على ما وقفت عليه بنفسي وسمعته بأذني وأيده حضرة الأستاذ قسطندي منسي الموسيقار من معاصريه. ولما كنت أعرف المرحوم عبده حق معرفته من حيث أطواره ونفسيته وعبقريته؛ لما كان بينه وبين والدي من قوى الجمعة، وتمكن الألفة بينهما فضلا عن كثرة غشيانه الزقازيق عاصمة الشرقية، حيث كانت له عزبة بناحية الشولية على ترعة الإسماعيلية بمركز بلبيس يبلغ مقدارها ٧١١ فدانًا من الأطيان المرملة التي كان قسم منها يبلغ نحو ٨٦ فدانًا يؤجر بثمانية جنيهات، والبقية منها كانت تحت التصليح، كان عُهد إلى المدعو إبراهيم حلمي أخي معاون محطة حلوان في إدارة شئونها، وبعد وفاته قام المرحوم باسيلي بك عريان صديقه الحميم بالإشراف عليها بنفسه وتولى دفع الأقساط المستحقة عليها للبنك، وهو الذي اشترى منزله الكائن بالعباسية بشارع «عبده الحمولي» المسمى باسمه، وكان معدودًا من أكابر ملتزمي الأسماك هو وحسن عيد وعويس الذين اعتادوا التزام حلقات الأسماك في القطر المصري من وزارة المالية، وقد تولى باسيلي بك أمر ولده الدكتور محمد الحمولي الذي فاته والده وهو في الرابعة من سنيه، واهتم بشأن تربيته اهتمامه بولده الخاص وفاءً لوالده بعهده، أرى واجبًا عليَّ وخدمة للتاريخ أن أذكر كلمة موجزة عن حياته الخلقية والفنية، وأبين للقارئ الكريم كيف وقع إلقاؤه الأغاني في النفس موقعًا جليلاً، وأربى على الأكفاء من المحترفين لفن الغناء من أبناء عصره تذكيرًا لمعجبيه بأساليبه الحسنة، وحبه الشديد للإتقان، وإتحافًا للمحدثين الذين لم يسمعوه بما رق وراق من سلامة ذوقه وكمال ترتيبه وقوة ابتداعه؛ ليقفوا على حقيقة أمره، وما كان له من القدح المعلى في جميع فنون الغناء، فأقول كشاهد عيان سمع صوته الرخيم وسبر غور نفسه النبيلة بتمثيله للعواطف أحسن تمثيل، فإنه كان يغني وهو مشروح الصدر عن عاطفة ووجدان ألحانًا وأدوارًا تعبر عن نفسيته فيدركها السامع متأثرًا بمثل تأثره. ولم يمتز عن سائر المغنين في عصره، ليس بصوته القوي الرخيم وتلحينه الشجي الخاص به فحسب بل بما حباه الله من روح يسيطر عليه في إبان «السلطنة» على جميع النغمات، فيأتي من غرائب التفنن في الغناء، والإلقاء البديعين ما يحمل أفكار سامعيه على أجنحة تصوراته الساحرة، فيُخيّل إليهم أنهم ارتقوا إلى المراتب العلوية ورأوا أشياء لم يروها ولم يحلموا، بها فضلا عما له من لطيف الحس وشديد الحب للجمال الذي أمكنه بهما أن يبث في نفوسهم روح الغيرة والعظمة ومتانة الأخلاق والحماسة العربية، وكافة المحامد والفضائل ذلك سر تفوقه على نحو ما حدث لكل من بتهوفن الموسيقي الغربي الأوحد، وجون ملتن الشاعر الإنكليزي الكبير، وأبي العلاء المعري الشاعر العربي، فإن الأول كان أصم لم يمنعه الصمم عن التلحين ولو لم يسمعه، وكان الثاني والثالث أعميين لم يبصرا من حولهما فقام كل واحد منهما بوصف الجنة وجمالها وبهائها ورياضها ومائها والخلود وما ذلك إلا بما أوتوا من روح الإلهام وما تغلغل في نفوسهم من لطيف الحس، وحب الجمال، وروح الحب على نحو المثل القائل «أعطني حبًا أعطك فنًا» ومن أحكم ما يحسن إيراده بنصه الإنكليزي معربًا بقدر الإمكان. ومما يؤثر عنه أنه بينما كان يغني بالهياتم في منزل صاحب السعادة الفريق: أحمد زكي باشا ياور ساكن الجنان الخديو إسماعيل، وأمامه الأستاذ: نخله المطرجي (الحلبي) أكبر العازفين على القانون في مصر، وكان قانونجي السلطان عبد العزيز، افتتن الحضور بشجي ألحانه وساحر نغماته التي كان يغنيها براحة ودعة محركًا بين أصابعه حبات المسبحة الكهرمان، ولما لم يسع المطرجي اللحاق به لقوة صوته وغريب تصرفه وسعة حيلته الفنية وبُحَّتِه وقهقهته الماسة مقامات الموسيقى كلها انتهى، وانتهى به الأمر أن أمسك قانونه وطرحه أمام «عبده» دلالةً على عجزه وقال له «خلاص ياسي عبده أجيب لك منين» إيماءً إلى المقامات العالية التي كان يأتيها، ولا قبل لأعظم عازف بها على حد ما كان يقصر عنه باع الأستاذ محمد العقاد الكبير القانونجي الشهير حالما كان يحاول عفق أوتار قانونه الخالي من العُرَب التي لم يألفها طلبًا لتصوير نغماته فكان يشير إليه عبده مبتسمًا بأن يكتفي بإمساك «بمب» على قانونه في أثناء لعبه بالنغمات. وكان أحيانًا يند عن المألوف ويتحول في الدول من نغمته الأولى إلى نغمة ثانية، ثم يعود إلى الأولى ويقفل بها الدور بعد أن يفوت بصوته مارش النسر، وينزل متسلسلا إلى القرار على حد ما حدث ليلة زواج الأستاذ: إبراهيم سهلون الكماني، فغنى دور «أصل الغرام نظرة» على نغمة الرصد، ولما أطلق لصوته العنان في سماء التطريب أبدل جواب النغمة بالسيكاه، وتسلطن بها على الرصد، ونزل متسلسلا وأقفل الدور رصدًا مما أدهش الشيخ: محمد عبد الرحيم المسلوب الملحن الكبير وكاد يشق ثيابه من شدة الذهول وصاح قائلا «الله أكبر سبحان الوهاب ياسي عبده». ومما يماثل ذلك ما حدث لعمر بن أبي ربيعة يوم غنته عزة الميلاء لحنًا لها فيه شيء من شعره، فشقَّ ثيابه وصاح صيحة عظيمة صعق معها. فلما أفاق قال القوم: «لغيرك الجهل يا أبا الخطاب، فقال والله إني سمعت ما لم أملك معه لا نفسي ولا عقلي». وقد روى عنه المرحوم: أنطون الشوا، والد الأستاذ: سامي الشوا، أمير الكمان أنه كان لقوة صوته يضطر إلى إعلاء كمانه ثلاثة مقامات عن المعتاد كلما كان يشتغل على تخته خلافًا لما كان يفعل، بينما يكون شغالاً مع محمد عثمان فإنه يوطئ كمانه ثلاثة مقامات إلى أسفل تمشيًا مع صوته. وقد امتاز عن معاصريه من المحترفين في غناء القصائد والمواويل والأدوار يبدأه من القرار الهرمي المتين والقوي الواسع إلى الجواب ماسًا جواب الجواب، محيطًا بالمقام من أوله إلى آخره إحاطة الهالة بالقمر. وكان يستمر في إلقاء القصيدة ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات من دون أن يشعر من الاستمرار أو التكرار بتعب أو يرهقه عجز أو إعياء. فإذا استعيدت منه حركة من حركاته التي كان يلقيها فتارةً كان يغنيها مع تحسينها بإدخال شيء جديد عليها (ولكل جديد لذة) وطورًا كان يستبدلها بغيرها على طراز أبدع، فيصير السامع أحيَر من ضبٍ إلى أن ينتهي به العجب بأن يؤثر الثانية على الأولى؛ لما وجد فيها من طلاوة وعذوبة، وآونة كان نزولاً على رغبة الطالب يبدأ بالحركة نفسها المطلوب إعادة إلقائها، ويخرج منها إلى نغمات غريبة يعرضها عليه فجأة متنوعة الألوان متشعبة الفروع وصحيحة الأوزان ثم يعود إليها طبقًا للأصول الفنية سالمًا منصورًا. أما تلحينه فحدّث عنه ولا حرج لما توفر في صوته القويّ من صفات نادرة في القرار، والجواب، وحسن التوقيع، ودقة الإيقاع، ومناسبة الأصوات، وجناس النغمات، وتشخيص الانفعالات الملائمة بلطيف الإشارات، وخفة الحركات، فتتمثل أمام السامع صور ما يلقيه على أتم معانيها، ويرجع إعجاز تلحينه إلى تعدد نغماته وتغييرها وتشكيلها ورسم ألوانها التي تحاكي ألوان زهور الربيع، وكثرة المقامات حتى يخيل إلى السامع أن نغماته إن هي إلا قطع التبر، وأن معانيها إن هي إلا أخذ السحر. وبالجملة فإن صوته السحري إذا سخره لأي نغمة من النغمات، أو بعبارة أخرى إذا انتقل من نغمة إلى أخرى، أو من الأدنى إلى الأوسط وإلى الأعلى فمحال أن يقلده مجازف من المحترفين، أو يدرك شأوه، خلافًا للملحنين الآخرين فإن تلاحينهم كانت سهلة التقليد، وقريبة المتناول؛ لسهولة إلقائها، وبساطة مآخذها، فضلا عما فيها من جودة ومتانة، وحسن حبك، ولذلك كانت سريعة الانتشار لما تقدم من الأسباب، وكان يتلقنها المحترفون والهواة عن الملحن الذي لحنها بأسرع من لمح البصر، ويقلدونه فيها تمام التقليد، أما طلب تقليد تلاحين عبده فهو من المستحيلات؛ لما فيها من مهارة فنية، ومناعة بديعة، وحيلة واسعة، فكان وأيم الله آية من آياته في قوة البديهة، وحسن الارتجال، وغريب التصرف بأساليب الغناء، وضروب التطريب، وقد يُخيل إليك إذا لحن من فوره مذهبًا أو دورًا أنه يقرأ الفاتحة أو يتلو في لوح مسطور، وإليك الدليل المقنع كما أثبته لنا معاصروه الذين رأوه وسمعوه يلحن لساعته الدور الآتي نظم الشيخ: علي الليثي، أحد شعراء أبي الأشبال الخديو إسماعيل وهو: وقد سمعت الأستاذ: محمد السبع، المطرب المعروف ومساعده على التخت يقول بأن تخت عبده يشبه مدرسة أو جامعة فنية متنقلة، يتعلم فيها المحترف جمال الفن ويتضلع من قواعده الأساسية، ويقف على أصوله وفروعه، وإذا لم يتدرب على يديه لا يستطيع أن يفهم عظمة الموسيقى الشرقية وسحرها وتأثيرها في العقول وتغلغلها في النفوس، لما كان يأتيه من ضروب التجديد، وأنواع المفاجآت، وسريع التنقل من نغمة لأخرى، وبالعكس بطريقة فنية بشرط أنه كان يحرص في جميع ذلك على قواعد الفن، ولم يخرج عنها قيد شعره، ليس فقط في كل ليلة بل في كل ساعة وفي كل وصلة غنائية، حتى أن السامع نفسه كان يقرأ في ثنايا أغانيه صفحة من نفسيته أو فذلكة من حياته، ويقف بتعبيره على كنه أفكاره الشخصية وغاياته السامية وميوله الشريفة، ويرجع استظهاره وبيانه إلى ما استخرج من مأساة حياته من عبر وتجارب مما كان باعثًا على قوة تعبيره عن عواطف النوع الإنساني على اختلاف مشاربه، وتنوع نزعاته، بمعان سامية انفردت عبقريته بالتطبع بها، وتمثلت فيها المُثل العليا بأجلى مظاهرها، فهو الموسيقي المصري المشرق نوره على الآفاق كالشمس، وسيبقى للموسيقى رمزًا على مرور الأزمان، وللغناء العربي الذي أحياه، زعيمًا لا ينازعه منازع. ومما رواه لي حضرة صاحب العزة مخائيل بك تادرس — رئيس الإدارة بالدائرة السنية سابقًا وصديق عبده الحمولي ووالد حضرة الأستاذ تادرس مخائيل تاردس المحامي أمام المحاكم الأهلية والمختلطة — أجتزئ منه بما يأتي لضيق المقام وتفاديًا من سأم القارئ قال: «إنه تعرف بعبده الحمولي قبل أن يبلغ رشده يوم كان يلبس جلبابًا من التوبيت الأسمر مفصلا على الذوق الإسكندري، ذا فتحة على صدره يتدلى منها أوستيك فضة، وعلى رأسه طربوش صغير غامق اللون من القالب العزيزي. وكان خفيف الروح، سريع الخاطر، رخيم الصوت وكثيرًا ما كان يشكو من تهالك المقدّم على المكاسب، وإجحافه بحقوقه، كما كان يفعل به المعلم شعبان قبله حتى انتهى الأمر بقطع الصلات التي كانت بينهما، وأسس لنفسه تختًا خاصًا وأخذ نجم سعده يضيء ويتجلى في فلك الغناء حتى كسف بتألف شعاعه بهاء من سبقه من المحترفين، والتف حوله القاصي والداني، واستوى على عرش الموسيقى الشرقية في العصر الذهبي لأبي الأشبال المغفور له الخديو إسماعيل الذي كان يجزل له العطايا ويعطف عليه عطف الوالد الحنون؛ جزاء خدمته لفن الغناء العربي، وتشجيعًا له على الاستمرار في الإجادة والإتقان — شأن كل حاكم عادل يحرص على فنون قومه وعاداتهم ونزعاتهم ومميزاتهم القومية». وقد سمعت من حضرة مخائيل بك المذكور أن الخديو إسماعيل دعا عبده ليغنيه في قصره ليلة كانت تهب عليه ريح بليل، ولما أراد أن يخلع عنه البالطو الذي كان يلبسه أمره الخديو بالدخول به مع رجال تخته والجلوس على أرض الصالة المفروشة بالسجاد على الطراز العربي؛ ليتسنى للعازفين على الآلات أمثال «القانونجية» وغيرهم أن يقوموا بعملهم بدون صعوبة، فبدأ البلبل الصياح يغنيه أدوارًا عربية تتخللها النغمات الساحرة والآهات التي طبقت نواحي السماء، فاجتذب إليه قلب الخديو إسماعيل، وصبت روحه إلى سحر الموسيقى العربية دون سواها فكان يضع يده الكريمة في جيب عَبْدُه كلما أعجبته نغمة من نغماته دون أن يعرف غرضه من ذلك، إلا أنه لاحظ أنه مد يده الفياضة إلى جيبه اثني عشرة مرة. ولما انتهت السهرة وخرج من السراي وضع يده في جيبه وقلَّب فيه طرفه، وإذا به اثني عشر قرطاسًا، وفي كل قرطاس مئة جنيه ذهبًا، فناول من فوره رجال التخت قرطاسين اثنين واحتفظ بالباقي. فهل وجد بين الملوك من كان أسخى من الخديو إسماعيل يدًا؟ كلا وألف كلا، فكان أجود من حاتم، واستمد عبده الجود منه، وبه اقتدى في إغاثة الملهوف، وعمل المعروف. على أنه كان صالحًا يقيم الصلاة في مواقيتها، وبارًا بوالده، وقد فر من وجهه كما تقدم بيانه لكونه غير راضٍ عنه لاشتغاله بفن الغناء الذي كان وقتئذ يعد في مصر مهنة محتقرة ومسقطة لمحترفيها من عيون الناس. وحدث نقلاً عن المقطم الأغر بتاريخ ١١/٩/٩٣٤ بتوقيع حضرة: رزق الله شحاتة الموسيقار، «أن الخديو إسماعيل قصد زيارة مديرية الغربية، فأراد سعادة المدير أن يجعل الاحتفال بقدومه في غاية الفخامة والأبهة، ورأى أنه لا يكمل السرور في تلك الحفلة إلا بإحضار أعظم المطربين؛ فدعا المرحوم عبده الحمولي، ورأى أن هذه خير فرصة يسترضي فيها والده عنه، فقال لسعادة المدير أريد أن أطلب منك شيئًا واحدًا، وهو أن تجعل أبي يرضى عني. فأرسل سعادة المدير تلغرافًا في الحال لوالده فحضر الحفلة الليلية، وكان عبده جالسًا في حضرة الخديو إسماعيل وحاشيته فدعاه المدير إلى جانبه، وسأله هل أنت غاضب على ابنك، وأنت تراه في حضرة أفندينا، فكان جوابه «أنا وابني وأولادي عبيد لأفندينا، وأقبل عليه وعانقه». على أن «عبده» كان عفيف النفس عالي الكعب، كتومًا إذا أطلعته على دخائلك، ناهيًا برجال التخت من المساعدين له والعازفين عن الحط من قدر المهنة ومن قدر شخصياتهم، بدليل أنه كان يُنبه عليهم في أثناء الأفراح والأعراس التي أقيمت سنة ١٨٧٣ احتفاء بزواج أنجال الأمراء توفيق وحسين وحسن بألا يلتقطوا شيئًا مهما غلا ثمنه مما كان يبدره الأمراء والأميرات من الجواهر والنقود الذهبية — تلك عادة كانت شائعة في عهده الذهبي بين الناس لا سيما في أفراح أولاد العظماء، والوزراء اقتداء بهم، والناس على دين ملوكهم. وهناك نوادر أُخرى ومميزات اختصَّ بها عَبْدُه تنبه لها العارفون بفن الغناء، ووقف معاصروه على كنهها اكتفيت فيها بما ذكرته هنا، فلو أردت استيفاء الكلام على جميع خصاله ومناحي حياته الشخصية والفنية والاجتماعية لطال بي القول بما لا يحتمله هذا المجال. وقد مات عبده (رحمه الله) في مدينة حلوان بالسل الرئويّ في فجر اليوم الثاني عشر من شهر مايو سنة ١٩٠١ بعد أن صنع في حياته العظائم، وأقام للموسيقى الشرقية والغناء العربي بناءً رفيع الدعائم. فلا تحسبن يا صاح أنه مات وهجع، وهمد صوته الرخيم الرنان، وسكنت جوارحه وخُرس لسانه، وقطع حبل نبراته العربية؟ كلا. فإنه لم يمت، ولم ينم، لكنه استيقظ من حلم الحياة، بل تحقق حلمه على حد قول الإمام كرم الله وجهه: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا». أما نحن البشر فإننا بعكسه نسير بعد في طريق وعث المبتغي وتنشب بيننا حرب ضروس لا يغني قتالنا عنها فتيلا. والحق الذي لا ريب فيه الجهر بأنه حي في السماء فسح له ربه بجواره مكانًا سنيًا، تغمده الله برحمته وأجمل جزاءه في دار النعيم. وإثباتا للحكمة المأثورة عن الإمام علي نورد هنا قطعة شعرية نفيسة عن خلود النفس للشاعر الإنكليزي (شلي) بنصها لشدة ارتباطها بالموضوع وهي:
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/5/
عبده الحمولي مصلح اجتماعي في ثوب مغنٍ
كان عبده نموذج الرجل الصالح يحافظ على مواقيت الصلاة ويربأ بنفسه عن كل دنيئة صائنًا من الدنس عرضه وأعراض الناس، حريًا بأن يُعرف بالمصلح في ثوب مغنٍ. لم يقتصر جوده على جياع أطعمهم، أو عطاش سقاهم، أو عُرْيًا كساهم، أو مرضى وأساهم، أو سجناء زارهم، أو مقترعين دفع عنهم البدل العسكري حتى بلا سابق معرفته لأشخاصهم، بل تجاوز ذلك كله إلى أن بلغ حدود الساقطات اللواتي إذا لمحهن بوجه الصدفة في طريقه وهو عائد إلى بيته في عربة مستصحبًا معه بعض رجال التخت بعد الانتهاء من سهرته الغنائية استوقف لوقته الحوذي وجمعهن حوله وأفاض عليهن من سجال عُرفه عن تهلل وابتسام ما يملأ العين، ويستعبد الحرَّ، ثم انصاع ناصحًا لهن وقال: «يا بنات، الله يتوب عليكم». هذا ما رواه لي الأستاذ: محمد الشربيني العواد مؤكدًا أنه رآه يفعل ذلك رأي العين وهو حي يُرزق، ويبلغ من العمر ثمانين سنة. فطوباك يا عبده! يا من عرفت بحنكة وذكاء في جسم ضآلة الوتر الحساس، وضربت عليه بريشتك الخفيفة الشفيقة لتثوب إلى رشدها، وتستقيم على الطريقة المثلى للصالحين والصالحات علمًا منك أن الذنب ليس ذنبهن، إنما الذنب كل الذنب لا يقع إلا على أولئك الذين أضلوهن وجروا عليهن بأول هفوة ارتكبها ذيول العار والخزي، وقد طلبت إليهن التوبة من الغفور الرحيم إيماء إلى قوله تعالى وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وإلى الحديث الشريف «أن التائب من الذنب كمن لا ذنب لهُ». وكفاه في العار فخرًا، وما أبهى جمال القلب، جمال التضحية، وما أعظم حبه للفقراء والأشرار، وما أعظم تضحيته للحزنى ومضطربي البال، بدليل أنه في ليلة غنى الملك الجواد الخديو إسماعيل، ولما أجاد سأله الخديو قائلا يا عبده اطلب تُعط، فأجابه لفوره وطلب بأن يعفو عن نشأت باشا، مدير القليوبية آنئذ، الذي كان صدره واغرًا عليه ويبعث إليه رحمة ومغفرة لا لعانًا وسبًا، فعفا عنه وكان ارتياح عبده للعفو عنه أعظم من ارتياح الأخير له؛ لأن العطاء خير من الأخذ، ولو طلب عبده من الخديو إسماعيل مالا جزيلا لنفسه دون سواه لناله حتمًا؛ لأن كلام الملوك ملوك الكلام، ولكنه آثر الخدمة العاملة على خدمته الخاصة. على أني أرى ما يماثل ذلك وأكثر منه بدليل أن في الأوساط المسيحية أشخاصًا من رجال وسيدات كرسوا حياتهم لخدمة المجتمع يبذل النصح للساقطات في محالهن لينزعن عن عيشتهن الفاسدة، وهم لا يأبهون لما قد يلحقهم جميعًا من غضاضة بغشيانهم منازلهن؛ لاعتقادهم في أنفسهم بأنهم في ذلك يؤدون واجبًا إنسانيًا شريفًا ذهابًا إلى أن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى، حتى أن منهم من يتناول من جيبه مبلغًا من المال يدفعه إلى من يراها في حاجة ماسة إليه؛ لتكف عن غوايتها وتقيم به أود معاشتها موقتًا إلى أن تحترف مهنة شريفة، وكثيرًا ما نرى جمعيات مؤلفة من فضليات النساء الغرض منها منع تعاطي الأشربة الروحية، والسموم المعروفة بالمرفين والهيروين؛ إبقاء على حياة مدمنيها، وحفظًا لإحساساتهم ووجداناتهم الشريفة، فلا يُرمى بذنب من يفعل مثل ذلك، بل يُشكر عليه، ولو لابسهم في بيئتهم. هذه هي ضالة المصلحين والمصلحات المنشودة، وتأييدًا لها لا بأس من إيراد ما قاله أدون مركهام الشاعر الأميركي، وهو «أن المتعصب رسم دائرة صغيرة لنفسه وجعلني أنا الجاحد الضال خارجها، ولكني والحب عوني غلبته، وقد رسمت معه دائرة كبيرة وجعلت الضال داخلها»، وكم كان يرتل القديس فرنسواي داسيز أناشيده عن الشمس والطبيعة، إذ أنه عظَّم الشمس وغنى قائلاً: الشمس أختنا، والقمر أخونا، والريح أختنا، والماء أخونا، والنار أختنا، والأرض أمنا، والعصافير أخوتنا الصغار، والزهور أخواتنا الصغيرات، وهو لا يعتبرها غريبة أو دخيلة؛ لأنها تمثل جزءًا من العائلة البشرية، وتعبد إلاهًا واحدًا مثله، وكان حقًا علينا نحن المصريين أن نعتبر عبده الحمولي الموسيقار العربي مصلحًا قوميًا ومربيًا اجتماعيًا استطاع بما حباه الله من الشعور وقوة الإلهام أن يفتح لنا ما تنكر من ذرائع الإصلاح، واتخذ من الذين تاهوا في شِعاب الباطل، وكثيرًا ما هم، وأثابهم إلى هداهم أنصارًا وأصدقاء حريين بأن يكونوا أعضاء للعشيرة البشرية، نافعين في البلاد، وعاملين على إحياء مجد مصر وأقدر من سواهم على إدمان تعاطي العلم والصناعة والتفرغ لهما عن ركوب متن غرورهم. دوام الحال من المحال فالدنيا غدور والدهر عثور وذكرهما القول المأثور «اكرموا عزيز قوم ذل». بينما كان ساكنًا بحارة التمساح (بقسم عابدين) بجوار منزل صديقه حضرة مخائيل بك تادرس طلب ذات يوم من أيام شهر شعبان من الأخير أن يذهب معه إلى جهة الحنفي بشارع الشيخ: صالح حيث كان يوجد دكان بقالة «ويميش» للمدعو علي أفندي النمر — المخزنجي سابقًا بسراي الجزيرة للمغفور له الخديو إسماعيل — ليشتري منه ما يلزمه في شهر الصوم المبارك فاشترى بالفعل أرزًا وسكرًا وفواكه ناشفة، وحلويات متنوعة بستة عشر جنيهًا دفعها إليه مما كان معه، ولم يبق في جيبه سوى ٢٧٥ قرشًا صاغًا، وقفل راجعًا مع صديقه إلى منزله، وقال له في الطريق «ربنا أكرم من كل كريم فالذي رزقني مصروف شهر رمضان ليس بعسير عليه أن يرزقني مصروف العيد»، وما كاد ينتهي من حديثه هذا ويقترب من منزله حتى أقبل عليهما رجل رث الثياب وسلَّم عليهما، وأخذ يقبل يد عبده، فما كان من الأخير إلا أن أخرج من جيبه مبلغ الـ ٢٧٥ قرشًا وأعطاه إياه، فاعترضه مخائيل بك ولامهُ على إعطائه كل المبلغ بدون أن يبقى لنفسه شيئًا منه، فأجابه عبده قائلا: إنك لو وقفت على حقيقة حال هذا الرجل لعذرتني فيما أتيت، لأنه كان من أكابر فراشي العاصمة، وكان يملك مفروشات وسجاجيد وفضيات ثمينة، وهو الآن كما تراه لا يملك شروى نقير، فقد تجاوز بصنيعه الحد الصحيح المعقول الذي اختطَّه السيد المسيح الذي قال: «إذا كان لك ثوبان فاعط واحدًا منهما لأخيك» تلك الحكمة المأثورة البليغة لجديرة بأعلى اعتبار، ولِي أن أعتبره هنا غبين الرأي ولا يبرأ في هذا التهور من الملام. حقًا إن مثل هذه التضحية ينطبق عليها قول أحد علماء النفس من الإنكليز ومفاده معربًا كما يأتي: «إن الماء الذي لا يسمع أنين البؤساء، وآلام المرضى هو غير طاهر، ولو باركهُ كل قديس في السماء، أما الماء الذي انصب في آنية الرحمة فهو طاهر، ولو تلوَّث بالرمم وتأذى بالجراثيم». كان عبده من أكرم الناس شيمة وأصدقهم عهدًا، لا يلبّس الحق بالباطل، وقد أُشرب حب الديمقراطية. أتفق على ما ذكره لي مؤخرًا الأستاذ: سامي الشوا، نقلا عن الأستاذ: محمد كامل الرقاق أن طلب منه أحد محافظيّ مصر في عهد الخديوي توفيق أن يغني في ليلة معينة بداره فاعتذر عبده إليه من ذلك لسابق تعهده بالغناء في الليلة نفسها مع شخص آخر، فلم يرق للمحافظ الأرستقراطي إتباعه شرعة الديمقراطية المرعية، وأضمر له الحفيظة، وأخذ من ذلك الحين يقاطعه مقاطعة جدية أسفرت عن حرمانه الغناء عند عظماء العاصمة مدة ستة شهور، بمعنى أنه كان يشترط على من يدعونهُ منهم إلى حضور عرس من الأعراس بأنه لا يحضره إذا استحضروه للغناء، فاضطروا إلى الاستعاضة عنه بالشيخ: صالح العربي، الذي ظهر اسمه في عالم التطريب في ذلك الوقت أو غيره من المطربين، فانزوى في حلوان في تلك المدة دون أن يشتغل ليلة واحدة، فحضر إليه محمد كامل المذكور، ورجاه بأن ينزل معه إلى القاهرة لعل الله يفرج كربه، فوافقه على ذلك ونزلا في لوكاندة الكونتيننتال، وبيما كانا يشربان فيها القهوة ويتجاذبان أهداب الحديث أقبل عليهما محمد بك يكن، وكان في داره عرس فخم مساء ذلك اليوم، وبادر إلى الاعتذار لعبده وقال له إنه لتشديد المحافظ عليه في عدم استحضاره للغناء اضطر إلى الاستعاضة عنه بثلاثة مطربين وهم محمد عثمان ويوسف المنيلاوي ومحمد سالم. ولما كان عبده من أكمل الرجال عقلا ولا يخشى في الحق لومة لائم آلي على نفسه ألا يسترضي المحافظ؛ لأنه لم يرتكب ذنبًا يعاقب عليه، وقال لمحمد بك يكن أن لأعضاء العالة اليكنية قدمًا في الخير وفضلاً عليه فإنه يجد لزامًا عليه أن يخدمهم بغنائه في ليالي أفراحهم، وأزمع على الحضور خلسة في منتصف الليل، ورجاه أن يكتم هذا الخبر عن المحافظ الذي سيكون غالبًا بين المدعوين، وتم الاتفاق بينهما على ذلك، فعاد محمد يكن بك إلى داره وتركه محمد كامل الرقاق استعدادًا للشغل على تخت المنيلاوي كرقاق في تلك الليلة، فما كاد الحضور في السرداق يرى عبده قادمًا نحو منتصف الليل حتى دوى المكان بالتصفيق، وصعد مباشرة إلى تخت يوسف المنيلاوي، وبدأ يعزف على العود بدون أن يجسه أو يصلحه وغنَّى قائلا: يا ليل، فرأى محمد الرقاق وهو على التخت المحافظ يُبدي لعبده صفحته ويستعد لمغادرة مكانه، وما كاد يسمع «يا ليل» ثانيًا حتى طرب واستقرَّ في مكانه، فدوى المكان الفسيح بصوته الرخيم وانتقل من يا ليل إلى موال، ثم إلى بشرف، فدور على تخت يوسف الذي انضم إليه كل من محمد عثمان ومحمد سالم وخلب العقول بغنائه، وأضحى المحافظ يطفر من الطرب، وأخيرًا صعد إلى التخت وأخذ يقبل عبده مرارًا وتكرارًا ودموعه تتساقط على خديه، وطلب منه أن يتناسى ما كان منه، وتعانقا وتصافحا على مرأى من الناس، فكان ذلك منظرًا مؤثرًا في الحاضرين ودليلا ساطعًا على أن الموسيقى ترمي وظيفتها إلى إيجاد المحبة، وتهيئ أسباب السلام، وظهر في أثناء تلك الليلة ميل الجماهير المحتشدة إلى عبده، واعترافهم بالإجماع بعبقريته وزعامته على جميع المطربين. وللمرحوم عبده قوة عظيمة في الابتكار والارتجال وقد فاجأ الحاضرين في ليلة عرس فخم لأحد الأعيان في الإسكندرية بتغيير دور «أد ما أحبك زعلان منك» (صبا) تلحين: محمد عثمان، وقلبه رأسًا على عقب فغناه في الحال على نغمة النهوند، ولأول مرة لدى سماعه محمد عثمان يلقيه في العرس نفسه فافتتن الحاضرون بما حباه الله من قوة الصوت والسلطان على المقامات والابتكار والتأليف فجأة بدون استعداد، وكان محمد عثمان في مقدمة من أعجبوا بقدرته الفائقة على هذا الابتكار، وجهر بخضوعه لعبقريته وزعامته، ولا أعتقد أنه إذا أخذ لحنًا من ألحان أي ملحن وغناه يعتبر غير قادر على التلحين، كلا وألف كلا ولو عكف على التلحين للحن ألف لحن، لكنه لضيق وقته كان يصرف معظم أوقاته في مجالسه الأمراء ومنادمة العظماء ومواساة الفقراء. ومن الأمور المسلمة والقواعد الثابتة في علم الموسيقى أن الفضل يرجع إلى الملحن في تلحينه الدور، وإلى المطرب الناشر ذلك الدور على حد سواء، وليس للأول أن يستأثر وحده بهذا الفضل إذ لا فائدة تنجم له من تلحينه إذا لم ينشره المطرب مثل، عبده بما أوتيه من قوة صوت، وحسن إلقاء، وكثيرًا ما كان يأخذ الأخير عن ملحن كبير مثل: محمد عثمان أدوارًا يبدلها ويزخرفها بريشة رفائيل وينحتها بإزميل ميكلانج وينفخ فيها من روحه ويلحنها تلحينًا خاصًا بما أوتيه من صوت في إمراره بجميع المقامات مما يعجز عن الإتيان بمثله الملحن الأصلي، إما لضعف صوته، أو لسبب آخر، بمعنى أن ما لحنه الملحن مثلا كان ضمن حدود معينة بحسب صوته، وقضى في إبرازه مدة من الزمن خلافًا لعبده، فإن الآلات الوترية لا تجارية في علو الصوت، وأن ابتكاره وتفننه واسعان كالكون ولا حدّ لهما. على أن التلاحين المنسوبة للملحنين لا يمكن الجزم بصحة نسبتها كلها إليهم ولو كانت مدونة بأسمائهم في بعض الكتب الموسيقية، إلا إذا كانت تلك التلاحين مسجلة تسجيلا رسميًا، لأن الملحن الذي يدّعي أنها من بنات أفكاره، وأنه هو الملحن الوحيد لها لا يجد أمام القضاء إذا دعت الحال إلى ذلك ما يثبت زعمه، خلافًا لما هو حاصل في بلاد الغرب فإن في خزائن أنديتها الموسيقية ومهارق معاهدها من مودعات تلاحين موسيقييهم في ملفَّات خاصة بكل واحد منهم ما لا ظل عليه للريب؛ لأنها مسجلة رسميًا، وثابتة ثبوتًا غير مأخوذ فيه بالظن والتكهن، أو من طريق المشاعر كما هو حادث في أنحاء الشرق. ومن المحتمل أن يُنسب تلحين دور إلى مغنٍ أجاد في إلقائه دون أن يكون ملحنه، كما ينسب خطأ تلحين دور مُلحن على أعلى الطبقات إلى ملحن ذي صوت ضعيف. وليست الشبهة من جهة نسبة التلاحين إلى الملحنين بوجه عام مقصورة على الأدوار بل على مقاماتها أحيانًا، مثال ذلك مذهب «ياما أنت واحشني وروحي فيك» تلحين: محمد عثمان فإن المقول عنه في كتب الموسيقى أنه بنغم الحجاز كار والصحيح أن نغمه «الشاه ناز» (دلال الملوك) وقد قام عبده بتغيير نصف تلحين المذهب، ومن هنا يُستنتج أن الفضل لا يجب أن يكون مقصورًا على الملحن وحده، بل الأوجب إتباعًا لشرعة الإنصاف والمساواة أن يجمع الفضل بين الملحن ومؤدي اللحن. وأزيد على ذلك وأقول أن مذهب «كادني الهوى وصبحت عليل» تلحين: محمد عثمان، لكنه منسوب إلى عبده كما جاء بكتاب كامل الخلعي ص ١٥٠، وقد يكون ذلك خطأ، وهو من مقام النهوند قد غناه عبده وأبدع فيه ذات ليلة إبداعًا أدى إلى غشيان المرحوم عزت بك — أحد كبار موظفي المالية وقتئذٍ — وكان من أعاظم هواة الناي فنزل عبده من التخت وأخذ يؤاسيه وينشقه بالأرواح المنعشة ويدلك أطرافه إلى أن أفاق وشكر له رقة عواطفه، ولطيف إحساسه، وشدة تأثير الموسيقى في نفسه. ثم صعد إلى التخت وأخذ يتمم الدور وما لبث أن وصل إلى عبارة «بالطبع أنا أميل يا اللي تلوم دا شيء بالعقل انظر كده واحكم بالعدل» رغبة أن يقفل النغمة بدلاله وتفننه حتى صاح أحد الحضور وقال يا ابن… الـ… إيه… فقام العظماء نحوه ليزجروه ويطردوه فقال لهم عبده وهو على التخت «سيبوه دا معذور كمان» ولم يستقروا في مجلسهم إلا بعد أن تحققوا صدق إعجابه بغنائه بعبارته العامية التي لم يقصد بها إساءته واعتبروها مدحًا في موضع الذم. على أني أطلت في الكلام على هذا الباب إلى ما لعله أدى إلى سأم المطالع فأقف منه عند هذا القدر؛ إذ ليس من غرضي في هذا المقام الإحاطة بكل ما ألقاه عبده من أدوار صادرة عنه، ومذاهب ملحنة منه، بل الإشارة إلى أنه كان يلقى من أدوار الملحنين ما كان يستحسنه ويجده مطابقا لذوقه السليم، فضلاً عن أنه كان يغيرها في الحال على أحسن طراز ويقلبها جملةً ومفترقًا حسب إرادته، وقد دُعي مرة عبده ومحمد عثمان والمنيلاوي للغناء في عرس عظيم من عظماء البلد على تخت واحد، وقد شهدت بعيني رأسي وليس لأول مرة عبده رئيسًا ومحمد عثمان عوادًا والمنيلاوي مساعدًا بدون أن يجرأ على إتيان أي حركة أو نغمة انفراديًا فهو بلا مراء أسبق المطربين الذين لا يُشق غباره. وتطيبًا للقلوب أروي من فكاهاته المليحة ومضحكاته المهذبة ما يضحك الحزين، ويذهل الزاهد، فضلا عن أنه يبين جليًا أنه كان يمتاز عن سائر المطربين بالجاذبية الشخصية الوليدة فيه والتي تعتبر منحة طبيعية كمنحة الصوت وإليكم البيان: دُعي ليغني في الإسكندرية بدار عين من أعيانها أقيم فيها سرادق فسيح زُين بأفخر الرياش، وفرشت أرضه بالأبسطة النفيسة، وكُلِّف حاجب على الباب بأن لا يدخل أحدًا من المدعوّين إلى السرادق غير حامل تذكرة الدعوة، ولما آن أوان الغناء وكان التخت على أتم استعداد دار البحث عن عبده فلم يوجد في الداخل، وأخيرًا عندما وصل صاحب العرس وحاشيته إلى نحو الباب سمعوا لجاجًا ولغطًا شديدين بين الحاجب وعبده، فشرح لهم الأخير أن سبب تأخره عن مباشرة الغناء نشأ عن أن الحاجب منعه من الدخول بحجة أنه لم يحمل تذكرة دعوة فحملوه على أكتافهم إلى أن جلس على أريكته الموسيقية فارتجل موّالاً وغناه وهو كما يأتي: كان لرجل حمَّار يناهز السبعين امرأة فتانة المحاسن رشيقة القد، وكان يحبها إلى حد العبادة، ولما حملت منهُ وعدها وعدًا وثيقًا بأنه يأتي بعبده الحمولي ليغني إذا وضعت ذكرًا، وأردف وعده بالطلاق ثلاثًا، وولدت ولدًا ذكرًا فوجد نفسه أمام أمر واقع فاكتأب لوقوع الطلاق حتمًا إذا لم يغن عبده، وبعد أن قلّب الزوجان الرأي ظهرًا لبطن ذهب الحمّار إلى منزل الأخير يقدم رجلاً ويؤخر أخرى وقصّ عليه الواقعة بحذافيرها؛ فرّق عبده لحاله ولبّى طلبه، وما كان منهُ حتى أرسل إلى داره فراشًا نصب أمامها سرادقًا يناسب المقام، وعهد إلى طباخ في إعداد ما لزم من مأكل ومشرب وغنى على تخته المشهور إلى أن شابت ناصية الليل كأنه مكافأة بأعلى أجر، ثم ما لبث أن نزل من التخت حتى أفرد منديلا بادر إلى أن وضع فيه مبلغًا من جيبه ومده للحاضرين فجمع خمسين جنيهًا دفع منها المصروفات العمومية على ما سبق الإيماء إليه، وناول الحمّار ما بقي منها ليصرف على زوجته في النفاس، وبذلك الصنيع الجميل خلصت زوجته من الطلاق، وأمست حليلةً له تقاسمه السعادة والهناء. وإليكم ما جاء بمصباح الشرق: صادف عبده بعد السهرة في الطريق رجل لا يعرفه وقال إن ابنه مطلوب للخدمة العسكرية، وليس معه شيء من البدل ليعفيه منها، فأخرج من جيبه صرة الدراهم التي تقاضاها أجرة الليلة وأعطاها له. وبلغه أن أحد تجار طنطا وقع في ضيق يُخشى عليه فيه من الفضيحة؛ فجمع ما لديه من الدراهم وأعطاه خمسماية جنيه ليستعين بها في عسرته ويحفظ صيته في تجارته. ودُعي للاحتفال بليلة خيرية في مدينة سوهاج بأجر قدره ثمانون جنيهًا، ولما رأى القوم يتبرعون بالمال وثب من فوق التخت ووقف في وسطهم قائلا لأعضاء الجمعية «ولِم تحرمونني التبرع مثلكم؟ وتنازل عن الثمانين جنيهًا» ا.هـ.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/6/
«ساكنة» أستاذة «ألمظ»
لما كانت المرحوم (ساكنة) أقدم المغنيات (العوالم) عهدًا رأيت لزامًا عليّ أن أتكلم عليها أولاً في هذا الباب الذي أفردته لعبده وألمظ؛ لشدة ارتباطها بالموضوع من حيث «ألمظ» التي أخذت عنها فن الغناء، وقد توخيت دقيق الاستقصاء من الذين عاصروها، وتلمست الأخبار اختطافًا وتذريعًا فأقول بالإيجاز: إن «ساكنة» هي أول مطربة ظهرت في مصر في عهد عباس الأول، حيث بزغ نجم سعدها في سماء الغناء وزاد ضياءً حتى عهد ساكن الجنان سعيد باشا والي مصر، وكانت متصفة بحسن الصوت الذي كانت ترسله إرسالاً بدون عناء، فيبلغ صداه الرائح والفادي، والبعيد والقريب، وقد أعجب بها التُرك الذين كانوا مقيمين في مصر ولقبها العامة بلقب «بك»، وكان لها مزاح يضحك الحزين، ويفرح قلب العابد؛ لما انطوت عليه من تهذيب لسان، وخفة روح، وقوة البديهة، وسرعة الخاطر، وكان المزاح في ليالي الأفراح عادة مألوفة في مصر حتى في عصر عبده الحمولي الذي كان فيه يُحتم على صاحب العرس أن يستحضر مُضْحِكَيْن ينزلان إلى ميدان المضاحكة بين كل وصلة غناء وأخرى تخلصًا من الملل في أثناء انتظار تصليح الآلات وطلبًا للرَوْح (بالفتح). واستمرت «ساكنة» تتمتع بحسن الأحدوثة في غنائها إلى أن ظهر في أفق مصر هلال «ألمظ» فأخذ ينمو ويكبر حتى أضحى قمرًا منيرًا، ولما سمعت «ساكنة» صوتها الرخيم العذب أخذت تتجاهلها، ولكنها لم تستطع صد تيار نجاحها القوي، ومنع إقبال الناس عليها؛ فرأت تفاديًا من المنافسة غير المنتجة أن تضمها إلى فرقتها فتكون فيها تابعة لها وتحت إشراف بدون أن تستطيع أن تُزري بصيتها أو تُنزل من رتبتها، فمكثت معها «ألمظ» مدة تدّربت فيها على فن الغناء فحذقته لكن «ساكنة» قد حقدت عليها لعظم وقع غنائها عند الناس، وهي ضمن فرقتها وأخذت تسيئ الظن بها حتى تركتها، وألَّفَت لها فرقة خاصة، وأحرزت خطر السبق، وقضت على صيتها قضاءً مبرمًا، ومن ذلك الحين بدأ نجم «ساكنة» بالأفول، وأخذ الدهر يقلب لها ظهر المجن إلى أن وافاها الحِمام بعد أن بلغت سن الشيخوخة، وذلك في عهد المغفور له الخديو إسماعيل. أما «ألمظ» فاسمها الحقيقي «سكينة»، واسمها الفني «ألمظ» وهو تحريف الماس تشبهًا بماله من بهاء ورونق ولمعان، وإشارة إلى ما لها من صوت رخيم رنان وجاذبية. أما صناعة والدها، فقد تضاربت آراء الرواة عنها وتباينت أقوالهم فيها. فمنهم من ذهب إلى أنه بنَّاء، لأنها كانت تحمل قارب المونة على رأسها لتقدمه للبنائين وهي تغني في مقدمة زمرة من الفتيات العاملات معها، ومنهم من قال إنه صبَّاغ، وقد ظهر أن الزعم الأخير هو الأصح، وظلت طريقة الغناء شائعة في مصر في الوجهين القبلي والبحري حتى الآن، وهي تجلب الجذل وتبعث على النشاط في أثناء العمل، وتطلق النفس من عقال السأم. ومصداقًا لما تنتجه الموسيقى من التأثير في العمل أشير إلى قصة أنفيون جوبيتر الذي بنى أسوار (طيبة) بينما كان يعزف على قيثارته على حد ما قاله الدكتور كلارك من أن ذلك لم يكن خرافة. على أن صوت يوسف المنيلاوي على ما شهد به المرحوم: محمد المسلوب الكبير لم يكن إلا شيئًا ضئيلاً إذا قيس بصوت «ألمظ»، بالرغم من عذوبته ولينه ورنينه، وقد صدق واجنر الموسيقي الشاعر فيما قال وهو أن الموسيقى مؤنثة وكانت امرأة. أما عبده فهو أسبق المطربين لا يشق غباره ويفوقها في غريب تصرفه وعظيم تفننه في ضروب الغناء وقوة التأثير في النفوس بما أوتى من روح فتان وإلهام طبيعي، وكثيرًا ما كان يجمعها عرس واحد بمعنى أنه كان يغني للرجال في «السلاملك»، وكانت تغني للهوانم في الشرفة «الشكمة» (لفظة تركية) على مسمع من الحريم والرجال معًا. وكان أحمد الليثي يصور نغماتها وهو في السلاملك على التخت، فكان يعلي العود كلما غنت عاليًا حتى أنه لما عجز في آخر الأمر عن مجاراتها في تصوير نغمات صوتها المحلق في الفضاء، قطع أوصال العود، وصرخ قائلا «مين ينكر صوتك يا ست». جرى ذلك في عرس فخم لعظيم بدرب الجماميز أقيم فيه أربعة تخوت، ولم يكن عبده حاضرًا لتغيبه بالإسكندرية، نقلاً عن رواية حضرة مخائيل بك تادرس صديقه الأمين، وهو أوفى من عوف لِما رأيت فيه من الولاء الشديد لعبده والترحم عليه، وقد آلى مثلي ألا يرضى عن غنائه بديلا. أما «ألمظ» فقد حاربت عبده ردحًا من الزمن، ونافسته في صناعة الغناء لكنه تفوق عليها. ومن المدهش أنها كانت ذات شخصية جذابة وكثيرة الميل إلى المداعبة في كل وقت لا سيما في أثناء الغناء. ومن مستملح الفكاهات أروي أنها ارتجلت دورًا غنته له قصدًا لأول مرة رأته في عرس بناحية الجيزة بعد أن اجتاز النيل على «المعدية» وهو بالمنيل (لعدم وجود «كباري» في ذلك الزمن) بقصد أن يسمعها. فقالت فيه ضمنًا: وقد غنته موالاً آخر في عرس فخم جمعها وإياه وهو على تخته المشهور وهو كما يأتي: فما كان من عبده إلا أن هدرت شقاشق ارتجاله وغنى الموال الآتي: مما دل على أن الله فجّر ينابيع الذكاء والبديهة على لسانه وحباه بلطيف الحس وسرعة الخاطر وسامي الشعور. وقد اتفق لي أن عثرت في أثناء المطالعة على ما يشابه ذلك مبنىً ومعنىً وهو أن شاعرة من شواعر الإنكليز أهدت إلى زوجها ديوانًا من الشعر الذي نظمته ذكرت في افتتاحيته الأبيات الآتية التي أجترئ على إيرادها بنصها خشية ضياع طلاوتها إذا عرّبت وهي كالآتي: ومن أدوارها التي امتازت بها وتداولتها الألسن أذكر ما يأتي: وذلك فضلا عن أنها كانت تغني أدوار عبده وكانت تقتصر في الليالي التي تغني فيها على دورين اثنين فقط تلبية لطلبات الجماهير الذين ينزعون عن سماع غيرهما لتفننها في النغمات وقت التكرار، وقد روى لي الأستاذ: محمد الشربيني ما يأتي: جمع قبل الزواج عبده وألمظ عرس فخم بدار وجيه، فبدأ عبده فاصلاً غنائيًا خلب عقول الحضور من تلامذة المدارس العليا والحربية وهواة ومحترفين. ولما انتهى منه قام عمران مطيب «ألمظ» يتمايل كعزة الميلاء بملابسه الغالية، والخواتم بأصابعه، والكتينة والساعة الذهب على صدره، وأخذ يخطب الجماهير كعادته المألوفة خطبة بمثابة مقدمة وقال «قولي لنا يا ست «ألمظ»الدور الفلاني» وسماه حسب طلب الحضور، فأجابته وقالت «رايحه أقول إيه بعد إللي قاله سي عبده» فردَّ عليها وقال: قولي إللي تقوليه. قولي يا فجل أخضر. فما لبثت تفكر في ذلك مدة دقيقتين حتى رتبت للفجل دورًا غنته ونال الاستحسان العام وكان مسك الختام، ومن مزاياها أنها كانت تغني أحيانا في سراي الخديو إسماعيل في حضرة حرمه المصون وهي تلعب النرد معه، مع رفع التكليف أو تلوح منديلاً بيدها بدون أن تتحمل من تصعيد غنائها أو تعاني فيه جهدًا على حد ما كان يطلق عبده صوته في الفضاء متجاوزًا مطارح النسر، وهو يلعب بحبات السبحة الكهرمان أو العنبر التي كان يفركها بكلتا يديه ويشم رائحتها، وكان لنغماتها الرنانة ما يذبذب في آذان سامعيها مدةً من الزمن، كما كان لصوتها من صدى يتكرر حدوثه بنفسه عدة مرات في السراي حين الغناء، ويكون سببه وجود سطحين متآزيين على جانبي الصوت، يرد كل منهما صداه إلى الآخر كما يكون مثل ذلك في المرئيات عند تقابل مرآتين متآزيين. وكانت قمحية اللون واسعة العينين كثيفة الحاجبين مسحاء الثدي، وكان لها من عذوبة المنطق وجمال العقل والقلب ما يجعل لها أسمى موضع من النفوس، إذ أن جمال العقل والقلب سرمدي، وهو لأفضل من جمال الجسم الباطل الذي عرفه الفلاسفة وعلماء النفس ببَغِي قصير الأمد وغدر صامت وأذىً لاذّ فلأجل ذلك أحبها عبده حبا انطوت تحته نغمة من نغمات حب الوالدات وحنانها على الفطيم (وشبيه الشكل منجذب إليه) ومنعها من الغناء منعا باتا بعد أن تزوجها، وكان تخته ليلة زفافها إليه مؤلفا من أكابر العازفين أمثال: أحمد الليثي العواد، والجمركشي، وإبراهيم سهلون الكماني، ومحمد خطاب شيخ الآلاتية. وأبدع عبده في الغناء إبداعا أخذ بمجامع القلوب، وكان مدلوله دمعة الباكي، وقبلة العابد، وتعزية الحزين، وهادي المسافر، ورسول السلام، ومنعش المكتئب، ومحمس الجبان، ولا أبالغ إذا وصفت غناءه في هذا المقام كبستان فيه الزهور والورود والرياحين يفوح شذاها على الحاضرين، أو كمعرض تعرض فيه جميع النغمات الموسيقية التي خلقها الله وحصرها في صوت الإنسان حتى أضحى في الشرق مهوى الأفئذة وبهجة الناظرين. وقد روى لي الأستاذ محمد الشربيني أن الخديو إسماعيل كان يأنف من عادات العامة في العويل والصراخ وراء الميت، ويتشآم من ذلك؛ فأصدر أمره الكريم بألا تمر الجنازات بساحة عابدين، ولما سمع بوفاة «ألمظ» رخص لآلها بأن يمر جثمانها منها، ولدى وصوله أطل من الشرفة بالسراي وترحَّم عليها مكبِّرًا موسيقاها العربية، وكان ساكن الجنان الخديو إسماعيل ولعًا بالموسيقى العربية؛ فعين للمرحوم عبده ١٥ جنيهًا مرتبًا شهريًا، ولكل من «ألمظ» وأحمد الليثي وإبراهيم سهلون ومحمد خطاب ١٠ جنيهات، واستمروا يتقاضون هذه الرواتب بعد تولي الخديو توفيق الأريكة الخديوية، وانقطعت في عهد الخديو عباس. أما ساكن الجنان السلطان حسين فكان ولعًا بالموسيقى العربية (وهذا الشبل من ذاك الأسد) إلى أبعد مدى بدليل أنه استدعى قبل وفاته بأربعين يومًا تختًا مصريًا مكونًا من الأساتذة: محمد العقاد القانونجي، وسامي الشوا أمير الكمان، وعلى عبد الباري المطرب، وحسنين العواد، والبرزي العازف على الناي، فغنوه غناء عربيًا ذا صبغة شرقية وروح مصرية، انفسح له صدره فأجزل لهم العطاء وأكرمهم إكرام إسماعيل أبي الأشبال، وصاح عند انصرافهم قائلا لهم اطلبوا إلى الله أن يطيل في عمري ليتسنى لي القيام بإحياء الموسيقى العربية وتجديد شبابها وإعادة مجدها الأثيل، ولم تعقب «ألمظ» نسلاً بل تركت لزوجها الحسرة على فقدها. كما أنها تركت له جواهر ونقودًا ومفروشات وشالات كشمير زيَّن بها رياشًا لعدة غرف وبهو وردهة منزله وستائر إلخ ومنزلاً بدرب سعادة باعه قبل سفره إلى أوربا للاستشفاء، وقد غنى عقب وفاتها المذهب الآتي على نغمة العشاق: ولما كان هذا المذهب وهذا الدور مدونين بالنوتة عن عبده بالمعهد الملكي بمعرفة الأستاذ: داود حسني لم يا تُرى لم يتلقنه الطلبة فيه احتفاظا بسحر الموسيقى الشرقية، وتوجد غيرهما أدوار له ولمحمد عثمان وإبراهيم القباني، فما فائدة تدوينها الذي صُرف عليه مبلغ طائل وهي من مودعات الخزائن؟
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/7/
أزواج عبده الخمس
كانت زوجته الأولى منذ ارتفع عن سن الحداثة ابنة المعلم شعبان القانونجي من طنطا، و «ألمظ» الثانية، والثالثة من جهة الأمام الشافعي التابعة لقسم الخليفة خلفت له محمودًا الذي سيأتي الكلام عليه، أما الرابعة فقد رُزق منها بنات فقط كانت إحداهن المدعوة زينب تزوجت من محمد بن محمود القَرَّا حنفي شيخ طائفة الطباخين من ذوي اليسار، طُلقت منه مرة واحدةً، ولما تصالحت مع زوجها أسكنهما عبده معه تأليفًا لقلبيهما وعطفًا على ابنته بداره بالجزيرة الجديدة المشهورة بجزيرة العبيط تبع قسم عابدين التي كانت مسكنه الثاني بعد مسكن حلوان، وتزوج محمد العقاد الكبير من الثانية منهن بعد وفاة والدها، وقد توفاهن الله جميعًا، أما زوجته الخامسة وهي الأخيرة فهي سيدة تركية اسمها جولتار هانم، وهي من أسرة كريمة بينها وبين عائلة المرحوم: أحمد باشا رأفت قرابة، وكان الأخير محافظ الإسكندرية، فمأمور ديوان الخديو إسماعيل. خلفت له محمدًا، وكان حين وفاة والده يبلغ من العمر أربع سنوات ربته أمه تربية حسنة وبعثته بعد إتمام دراسته بمصر إلى ألمانيا ليتعلم الطب، وبعد أخذ الشهادة دخل في خدمة مصلحة الصحة، وله شقيقة واحدة متزوجة في طنطا، وقد نقل الله والدتهما إلى دار كرامته في أواسط شهر مايو سنة ١٩٣٥، وقد عُين باسيلي بك عريان قيما عليهما حتى بلغا سن الرشد. كان محمود أسمر اللون نحيف البدن مربوع القامة ساهم الوجه، ما تعرفت به ليلة زواج المرحوم: يوسف شديد بالزقازيق، وقد مات بالسكتة القلبية. أما فيما يختص بزمن وفاته، فقد اختلفت الرواة فيهم. فمنهم من قال إنه مات ليلة زفافه، ومن قائل إنه مات بعد مرور ستة وعشرين يومًا على زواجه، وما ذهب إليه الثاني هو الأصح الذي لا شك فيه استنادًا إلى ما أستقصيته من أخيه الدكتور محمد الحمولي. ومما لا يختلف فيه اثنان أن المرحوم والده عندما بلغه الخبر المشئوم بوفاته تمالك وتماسك كأنه طود من الأطواد، وكأني بالحمولي الحمول للنائبات، الجلد على الخطوب والنوازل، وغنى مرتجلاً: وغنى مرتجلا أيضًا: وكثيرا ما كان محمد عثمان ينهاه عن الاستسلام إلى الحزن ويقطع عليه وجهة الابتكار والتصنيف لمثل هذه الأغاني المحزنة؛ محافظة على البقية الباقية من صحته. أما عن أمراضه وآلامه فحدث عنها ولا حرج، وإليكم ما ذكره إبراهيم بك المويلحي بجريدة: (مصباح الشرق) بحروفه «فلم يفارقه داء الصداع طول حياته، وكانت إذا اعترته نوبته ألقته على الأرض صريعًا يتخبط في أشد الآلام لا يكاد من يراه على تلك الحال يصدق بنجاته منها، فإذا أفاق لزم الفراش من عظم وقعها مدة طويلة ولم ينجع في ذلك الداء معالجة الأطباء، وكان رحمه الله جلدًا صبورًا على تحمل الآلام في نفسه وبدنه، فقد أصابه غير هذا الداء من الأمراض علل كثيرة بعضها في إثر بعض، حتى كان يقول أنه قضى ثلثي أيام حياته في المرض، والثلث في مراعاة خواطر الناس. وقد أصيب بخُرَّاج في الكبد استعصى على الأطباء أمره ويئسوا فيه من نجاته حتى امتنعوا عن العملية الجراحية وقرروا أن النجاح فيها كنسبة الواحد إلى المائة، فألح عليهم المرحوم بوجوب عملها على أية حال، فعملوا له عملية البزل، فلم يخرج من الأنبوبة شيء؛ فتركوها في جوفه بمبزلها، وأمروه أن يستمر راقدًا على ظهره لا يتقلب على أحد جنبيه طول ليله، وأنذروه إن هو تحرك وانفلتت الأنبوبة من مكانها قُضي عليه، ثم وكلوا به من يحرسه واستمر في حالته التي تركوه عليها إلى أن غشيه النعاس في آخر الليل، وغفل الحارس عنه برهة فانقلب على جنبه، فأصاب سن المبزل رأس الخراج من طريق الاتفاق، فلم يشعر الحارس إلا وقد سال الصديد حول الفراش، وأيقن بالخطر وأسرع إلى الطبيب، فلما حضر وفحص حالته قال: «إن يد القدرة قامت بما عجزت عنه يد الأطباء». وما كاد يشفى من هذه العملية حتى ظهر في الكبد خراج آخر، فعملت له عملية ثانية بالإسكندرية. ثم أصيب بعد ذلك في سنة ١٨٨٨م بالتهاب في الرئة، فكان ينفث الدم وتأكل جزء من إحدى الرئتين، ومن هنا ابتدأ الداء الذي مات به، فعالجه الأطباء وأشاروا عليه بسكنى حلوان فسكنها ووقف سير الداء فيه، وسافر المرحوم في سنة ١٨٩٦ إلى الأستانة العلية، وحظي هناك بالمثول في الحضرة الشاهانية مرارًا، فأعجب أمير المؤمنين بمهارته في فنه وحسن أدائه فأسنى عطيته وبلَّغه حسن رضائه ا.هـ. وقال أيضًا ما أنقله بنصه حرفيًا: «كان المرحوم الحمولي كبير النفس علل الهمة يحاول الارتفاع عن وظيفته، وسعى في الخروج منها مقتصرًا على الاشتغال بالفن لذاته لجهل الناس في جيلهم الماضي بعلو قدر هذا الفن، وغفلتهم عن جلال منزلته بين الفنون، وناهيك به أن أفلاطون وهو حكيم الحكماء جعله في مقدمة علوم الحكمة، وأول مراتب التهذيب، وقد عمد المرحوم إلى ذلك بالفعل في أيام المغفور له إسماعيل باشا فترك مزاولة صناعته بالأجرة بين الناس وخرج من زمرة المغنين إلى زمرة التجار غير طامع في الذهب الذي كان يسيل من حياله بممارسة صناعته في تلك الأوقات. فافتتح محلاً لتجارة الأقمشة اشترك فيه مع بعض التجار بمبلغ عشرين ألف جنيه، فما مضى عليها عشرون شهرًا إلا وانتهت به سلامة نيته وحسن ثقته أن خرج منها صفر اليدين مدينًا للشريك، دائنًا للناس يمنعه الخجل ويحجبه الحياء عن طلب الوفاء، ولم يمتنع في أثناء ذلك عن الغناء بين الناس، بل امتنع عن طلب الأجر عليه، إلى أن عادت به حاجة العيش إلى مزاولة صناعته كما كان في أول أمره. ولم يزل يتطلع إلى غرضه في الانقطاع عنها كما فعل، ودهره يحول دونه فلا يستطيع بلوغه إلى آخر مدته». فيستدل من كل ذلك أنه أرفع من أن تحوم نفسه على استغلال مواطنيه والاتجار بالفن، وأن فراره من المهنة هو محمول على شرف نفسه وإبائه، كما أن استمراره في الغناء بلا أجر في أثناء اشتغاله بالتجارة دليل على زهده في المال وانصرافه عنه مما يخالف على خط مستقيم حال المطربين المجددين في زماننا المادي في القرن العشرين. وحال قريش فكان عمر يرقع ثوبه بالجلد، وكان علي (رضى الله عنه) يقول للمسكوك من العملة: «يا صفراء يا بيضاء غزي غيري». دعا الشيخ يوسف المنيلاوي المرحوم عبده الحمولي وحضرة مخائيل بك تادرس وآخرين لتناول الغداء بمنزله بكوبري القبة بعد أن اشترط الثاني على الأول ألا يأكل عنده إلا أكلة مصرية بحت كالملوخية «المطراوي» المطبوخة بمرق الأرانب «البلدي» الشمرت، فجهز الشيخ يوسف ذلك على الطراز المراد، وأخذ المدعوون يغدون إلى داره وحضر عبده بملابسه العربية المكونة من جلباب جوخ وعباءة وكوفية «محلاوي» وبيده عصا أبنوس شغل أسيوط، فلما استقر به المقام وتفقد أخوانه المدعوين لم يجد بينهم صديقه الحميم مخائيل بك تادرس، وما لبث أن أمسك بالعود ليغني حتى قدم الأخير مهرولا وقال له إنه حضر قبل انصراف الديوان بساعتين إكرامًا لخاطره بعد أن استأذن من أحمد فريد باشا رئيس الدائرة السنية آنئذٍ بالانصراف بحجة أنَّ أمرًا مهمًا طرأ عليه، وأخذ يغني ويبدع حتى الساعة الخامسة بعد الظهر، واستغنى الحضور عن الغداء بما غذى نفوسهم من غناء. وليس هنا محل الغرابة ولكن المستغرب أن الشيخ: يوسف على ما هو معدود من أكابر المنشدين وأشهر المطربين فإنه تأثر من حسن إلقائه حتى صاح قائلا «سبحان الوهاب سبحان الوهاب» والدموع تتساقط على خديه على حد ما حدث للأستاذ: الأسواني العواد الفذ فإنه بعد ما سمع عبده يغني دور (يا أهل العجب شوف حبك كواني تعالى شوف) دهش وتعجب من حسن إلقائه وغريب تصرفه الفني، ومال نحو الأستاذ: أحمد نسيم الشاعر الموظف بدار الكتب وقال له ليس العجب أن يعجب الحاضرون بغنائه الفريد المدهش وهم لا يعرفون للفن قِبلة ولا دِبرة، بل الأعجب هو أن أكون أكثر دهشة منهم على ما أنا عليه من تضلع من الموسيقى وأصبح أحير من ضب لا أتمكن من الاهتداء لمعرفة كيف علا صوته وانخفض في لفظة «العجب»، وتجمع وتفرق وتداخل وتخارج وتأصل وتفرع وأوغل وتخلص وتوغر وتسهل وأغار وتسلسل، وأردف قائلا إنه لو خُيِّر بين مدينة لندن ولفظة العجب لفضل الأخيرة على الأولى وما عليها، وكانت لهُ بُحة حلق طبيعية وعربية وإليكم ما قاله كشاجم في بحة حلق المغني: أذكر أوائلها وهي كالآتي: «يا مفرد الغيد يا سيد الملاح يا سيد» و«ما حد زيي على خله إنضنى حاله» و«محبكم داب وأنتم لم دريتوا به» و«حبك شغلني عن الخلان وألهاني» ولما للموال الآتي من منافثة أذكره برأسه: فلما كرر عبده عبارة «دول فين أراضيهم أجابه محمد بك البايلي الفكه» وقال: «في البنك العقاري» اسألني أنا أقول لك ولا تتعبش «ملا حبيبي كؤوسي قلت وأنا مالي» و«موارد الصبر أحلالي وأسمى لي» و«مين في الفؤاد يا حبيبي غير جمالك مين» و«وحق من أطلعك يا فجر متحني» و«يا ناس أنا منيتي حلو اللمى ولطيف» و«بالبخت كنت أفتكر بالأنس ودا جالي» و«يا اللي القمر طلعتك يا بو قوام عادل» و«يا اللي عليك الليالي نبكي ونناهد» و«وحيد الحسن يا اللي كل الجمال منك» و«من حق سود العيون يابو خدود وردي» و«مر الغزال الفريد من بعد ما سلّم» و«قم في دجى الليل ترى بدر الجمال طالع» و«عوازلي فيك أطالوا اللوم وعيوني» و«يا حادي العيس خليني أسير وحدي» و«يا بدر تم الجميل واطلع لنا بدري» و«يا بدر داري عيونك وخلي الخد باين لي» و«يا بدر إيه العمل حيّرت أفكاري» و«الليل أهو طال وعرف الجرح ميعادُه» و«بدال ملامك لأهل العشق عللهم» و«إمتى الحبايب ييجو ونشوف لواحظهم» و«فيك ناس يا ليل يشكوا لك مواجعهم» و«ليه حاجب الظرف يمنعني وأنا مدعي» و«الفجر أهو لاح قوموا يا تجار النوم» و«كل البدورا بتورد وخلي لم ورد بدري».
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/8/
القصائد التي غناها
null
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/9/
ما اخترته من ألحان المرحوم عبده الحمولي
(دور) (دور) (دور) (دور) (دور أول) (دور ثانٍ) (دور أول) (دور ثانٍ) (دور) (دور أول) (دور ثانٍ) (دور ثالث) (دور) يا منية الأرواح، روح يا عذول يا فاضي، أنا وحبيب راضي، عذول وعامل قاضي… إلخ. ويا سيدي خدك وردي… إلخ. ويوجد مذهب قديم (رصد) غناه كثيرًا وهو كالآتي: (سبق ذكره) (تقدم بيانه) مذهب حسيني دوكاه: مذهب شرحه: (دور) مذهب كردان: …الخ شرحه مذهب أوج مذهب حجاز … الخ مذهب بياتي مذهب بياتي أيضًا …الخ مذهب شورى (دور) مذهب بياتي دارج … الخ مذهب نو أثر مذهب نهاوند مذهب نهاوند فمن قائل إنه تلحين محمد عثمان، ومن قائل إنه تلحين عبده كما جاء في كتاب الموسيقى الشرقي لمحمد كامل الخلعي: مذهب حجاز كار ومما رواه لي حضرة الأستاذ: بطرس باسيلي بن المرحوم: باسيلي بك عريان صديقه ورئيس قلم النشر والترجمة بوزارة الزراعة أجتزئ بما يأتي: لما شعر عبده بدنو أجله غادر حلوان ولما وصل إلى مصر أقلته عربة إلى منازل أصدقائه الذين زارهم واحدًا واحدًا واستودعهم الله إلى اللقاء، وأعطي الحوذي جنيهًا واحدًا أجرته، وبعد قليل من الزمن انطلقت في فجر الأحد الواقع ١٢ مايو سنة ١٩٠١ ألسنة البرق بما أصم المسامع حاملاً نعيه إلى ذويه ومريديه وأصدقائه في أنحاء القطر المصري خصوصًا والشرق عمومًا، فقضي مأسوفًا عليه مزودًا بصالح الأعمال تاركًا من جميل الذكر ما يستدر عليه المراحم مدى الدهور.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/10/
قصيدة المرحوم أحمد شوقي بك أمير الشعراء
التي جادت بها قريحته الفياضة وتعد رمزًا للوفاء وصدق العهد للمرحوم: عبده الحمولي قال:
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/11/
مرثية جريدة المقطم
فَقَدت مغاني الأنس ضحوة أمس منعش الصدر ومطرب النفس المرحوم: عبده أفندي الحمولي؛ فخرست الدفوف وقطعت أوصال الأعواد حزنًا وأسًى على أشهر من اشتهر في مصر بالغناء والتلحين، قُضي رحمه الله مناهزًا الستين من عمره بعد ما بسم له الدهر فنال الحظوة من الملوك والأمراء والعظماء، وكان سمحًا جوادًا أنيسًا محبوبًا من صحبه ومعاشريه. أُصيب بعلة منذ عهد قريب فقصد الصعيد مستشفيًا حتى إذا عاد إليه أمل الشفاء أشار عليه الأطباء بالسكن في حلوان فلم يدفع ذلك عنه مقدورًا. وكان من رجال الخير وخير الرجال همة في المساعدة والإسعاف فقد أحيا الليالي التي لا تحصى وهو يطرب المدعوّين في الأندية والحفلات التي خص دخلها بإنشاء المدارس أو بإعانة الفقراء والمحتاجين. وقد جيء بجثَّته بعد الظهر من حلوان إلى مصر، ثم شيَّعها خلق كثير جدًا من الأعيان والوجهاء والأدباء إلى مدفنه في باب الوزير، وأُقيم مأتمهُ البارحة في منزله بالعباسية، وسيُقام فيه الليلة والليلة الآتية أيضًا، ويُقتصر فيه على ثلاث ليالٍ. سقى الله مثواه وابل الرحمات وأجمل عزاء ذويه والمصريين عمومًا فيه.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/12/
مرثية جريدة الأهرام
فاضت روح المطرب المبدع والموسيقي الشهير، فاضت روح عبده أفندي الحمولي على أثر داء عياء؛ فحق لمصر أن تحزن لوفاته بقدر ما كانت تُطرب بنغماته، بل حق للموسيقى العربية أن تبكيه، وتستعظم الخطب فيه، فقد كان فخارها ومعلي منارها في هذا القطر، بل في كل قطر نطق أهله بالضاد. وكان رحمه الله كريم الشيم، عزيز النفس، رقيق الجانب، ونال الحظوة لدى الأمراء والكبراء، وما انتشر نعيه حتى شمل الأسف كل عارفيه — وكثير ما هم — وفي الساعة الثالثة بعد الظهر أمس نقلت جثته من حلوان إلى القاهرة وشُيعت بمشهد لائق وبعد أن صُلِّي عليه دُفن في مدفنه بباب الوزير. وما زاد الأسف عليه وكان من أكبر الدلائل على كرمه وسخائه أنهُ ترك صبيةً صغارًا ليس لهم من عضد ولا سند سوى ذكر أبيهم، فعسى يبقى لصدى صوته بقية تؤثر في القلوب رحمه الله أوسع الرحمات.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/13/
رأي في الموسيقى الشرقية والغناء العربي
نشرنا يوم الجمعة الماضي وصفًا لحفلة إحياء ذكرى المغفور له خالد الذكر عبده الحمولي وقد أقيمت على مسرح حديقة الأزبكية يوم الثلاثاء ١٦ يوليو بدعوة من حضرة الأستاذ قسطندي رزق. وننشر فيما يلي الكلمة التي ألقاها الأستاذ، مصطفى الحكيم، وقد كتبها حضرة رئيس تحرير المقطم في هذه الحفلة لما فيها من التنبيه على حالة في الغناء العربي الجديد يراها حضرة العلامة المتواضع صاحب العزة: خليل بك ثابت، رئيس تحرير المقطم، جديرة بعناية أرباب الفن الموسيقي حرصًا على أصول الغناء العربي. ••• عزيزي الأستاذ قسطندي رزق: وطنت النفس على أن أشهد احتفالك الكبير بذكر أمير الغناء العربي في عصر نهضة مصر الحديثة، وأن أشاركك وأنصار هذا الغناء المجتمعين الليلة لذكرى الفقيد العظيم، غير أن طارئًا لم أكن أتوقعه طرأ عليّ، وحال دون تحقيق هذه الأمنية. ولا أحاول هنا التنويه بما شهدت من عظيم غيرتك وحميتك في السعي لإحياء ذكرى عبده، وإطلاع أبناء هذا العصر على ما فاتهم مما تمتع به أبناء العصر الماضي فجزاؤك على هذا ما أنت شاعر به الساعة من اغتباط وارتياح وهو خير ما يجزي به العاملون. ولكن اسمح لي أن أضيف إلى جهدك الذي بذلت بالدعوة باللسان والقلم تنبيه أنصار الغناء العربي والموسيقى الشرقية إلى ما نحن مصابون به الآن وما نتوقعه إذا استمرت هذه الحال. فقد ابتلينا بداء (التجديد) هذا في كثير من أمورنا — في اللغة والعادات ثم امتد إلى الغناء فأصيب الغناء العربي بهذا «الإلحاد الفني» المشهود الآن، والذي يؤذي أسماع وقلوب عارفي هذا الفن والمعجبين به، ولا أنكر أننا اقتبسنا في الأصل جانبًا يذكر من غنائنا من الفرس، ولا نزال نستعمل في موسيقانا الألفاظ الفارسية للأنغام والسلم الموسيقية، ولكن كر الأيام وانقضاء الأعوام صقلا هذا كله فألفناه وأحببناه. ولا بد لغنائنا وموسيقانا من أن يتأثر باتصالنا بالغرب وموسيقاه المتقنة المهذبة الأصول والفروع، ولا ريب في أننا من الناحية الفنية مقصرون عن الغرب تقصيرًا كبيرًا، ولكن هذا لا يعني وجوب تطليق فننا أو مسخه، فلا يبقى شرقيًا ولا يصير غربيًا. فإذا قيل إن هذا تحول أو «تطور» قلت إنه تحول بغير ضابط وإفساد للذوق. لست من خصوم التجديد غير أني — وأنا من عارفي أصول الموسيقى الشرقية والغربية ومن الذين درسوها وألفوا العزف على بعض آلاتها — أشعر بأننا بهذا الإلحاد الفني المسمى خطأ تجديدًا خاسرون، ومن سوء الحظ أن يُستعان على هذه الضلالة بذوي الأصوات الرخيمة المحبوبة من الجمهور من مغنين ومغنيات؛ فإن جمال أصواتهم يستهوي الأفئدة ويطرب السامع فلا يفطن الناس إلى الإلحاد الموسيقي والخروج على أصول غنائنا الذي هو من مميزاتنا. أترى من الضروري أن أذكر حكاية الغراب الذي أراد أن يقلد مشي الحجل أو يكفي ما تقدم. فعسى هذا الاحتفال بإحياء ذكرى أشهر مغنٍ مصري في عصر نهضتنا الحديثة أن ينبه المشتغلين بالموسيقى الشرقية والغناء العربي إلى ما نحن مستهدفون له من فعل هذه العاصفة التي أخذت تهب علينا والتي يخشى من أن تكتسح ما بقي لنا من هذا الفن البديع؛ فننبذ الحرير الطبيعي مأخوذين ببهاء الحرير الصناعي وهو دون ذاك. والله يهدينا جميعًا إلى أقوم السبل وأصلح الطرق ويتولى إرشادنا، وجزاء العاملين الحريصين على إرث الشرق والشرقيين.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/14/
الموسيقى العربية وعبده الحمولي
مات عبده فمات فن وزال آخر شعاع من عصر توارت شمسه في ظلمة الأبد، فقد كان إسماعيل شمسًا في سماء مصر. وكان كل ذي شأن من معاصريه ككوكب يستمد منه نوره. فلما أفلت لحقت بها تلك الأنوار يتلو بعضها بعضًا إلى أن تمَّ الزوال بوفاة صدَّاح تلك العظمة الشماء وغرّيد ذلك الملك العظيم. وكثيرًا ما كان عبده يبكي لحنًا من ألحان ذلك العهد فيمثله لنا من خلال مدامعه الجارية ونغماته الشجية، كأنه زينة منارة بألوف المصابيح حافلة بجماهير الفرحين الطروبين. وكأن مصر دار ذلك العرس تضحك بالأنوار لمستقبلها العابس. وكأن الأمير أمير الزمان يومه وغده. وكأن الوفود من عرب ومن عجم أعوان دولة تُشَاد. وإنما كانوا هَدَمة أمل رفيع العماد. وكان «عبده» من على أريكته بشير السعادة الخالدة في ذلك الاستقلال الزائل. فإذا فرغ من إنشاد صوته ورجعنا إلى أنفسنا نظرنا حولنا فرأينا دولة اليوم ورجال هذا الزمن. ولم يثبت لدينا من حقيقة ذلك الحلم الرائع إلا ذلك المغني المنتحب على حالٍ حالت. ونعمةِ زالت، ودولة دالت. ولقد كان في مصر قبل انقضاء هذه الأشهر الأخيرة مغنيان هما «عبده» «وعثمان» فاليوم نحن ولا مهنئ في الفرح، ولا معزي في الترح، إلا ما كان من قبيل رجع الصدى الذي يتردد حينًا بعد هتاف الهاتف. كان عبده مبتكرًا يخلق اللحن خلقًا من حاضر ما يوحي به إليه فيحير به المهرة ويطرب السامعين ما يشاء التطريب بالنغمة والإعجاب بقدرة مبتدعها. وربما كسر القيد ونقض القاعدة وندَّ عن المألوف فطار وحلق. وقد بَكُمَ العود، وعي القانون، وأنصت الناي، مطلقًا صوته يمرح في سماء التطريب. فمن وثبة النسر إلى انحدار السيل، إلى خطف البرق، إلى تغريد القمري، إلى نوح الحمامة، إلى أنين الجدول. كل هذا والصوت عالٍ منخفض جهوري خافت، رنان مرتجف، مشبع ضئيل، والنغمات تجتمع أصولا وتتفرق فروعًا، وتنثني وتتفرد وتتدانى وتتباعد وتتواصل وتتفاصل مفضية بعضها إلى بعض، متسلسلة على مقتضى سلامة الذوق والمهارة الفنية منتهية إلى القرار. وكان «عثمان» مؤلفًا بارعًا في ترتيب الألحان. بصيرًا بأخذ النغمات من مواضعها وجمعها على نسق مستحب، كلفًا بصناعته جادًّا في إتقانها إرادة أن يستعيض عن طلاوة الصوت بحسن الأسلوب ولطف السياق. ولهذا كان لا يغني منفردا. ولا يطلق صوته إلا على أجنحة الآلات. فإذا لحن أغنية وأسمعها الناس لأول مرة خرجت متقنة صحيحة الوضع رائعة للسَمِعَه. ولكن يبدو عليها أثر إعنات الفكر ويُشْتَمُ منها ريح الشمع المذاب في السهر على تخريج أجزائها، وتوجيه ضروبها، والملاءمة بين رناتها ومعانيها. على أن هذا لا ينفي أن «عثمان» كان ضريب «عبده» وأنه أثبت بنتيجة عمله أن لحسن التأليف مكانًا بجانب الابتكار، وأن للاجتهاد منزلة قد تعادل منزلة الاختراع. بل إن المجتهد قد يكون ذا فضل على المخترع بما يهيئه له من مواد الابتداع. ومن الحق أن يقال إن «عثمان» كان في أخريات هذه السنين واضع معظم الألحان فيأخذها «عبده» عنه ويكسوها من الحلل والحليّ ما تشاء بديهته الخاصة به، فبينا هي سوقة حسان إذا هي ملكات بتيجان. وبينا هي أشخاص ترمقها عيون المعجبين، إذا هي أرواح تتنسمها قلوب المحبين. وعلى هذا كان «عثمان» يجدد للناس روح «عبده» و«عبده» يسمع الناس علم عثمان فهما العاملان المتكاملان أحدهما بالآخر على ما بينهما من تحاسد وتباغض وتباعد. هذه صفة «عبده» مغنيًا وتلك منزلته التي لم يدانه فيها من أرباب فن الموسيقى إلا «عثمان». أما أخلاقه فكانت أخلاق كرام الناس، وبها شرّف قدر مهنته التي كانت إلى عهده تعد من المهن الوضيعة. فقد كان أنيس المحضر، كارهًا للغيبة، راغبًا في مجالس الظرفاء المتأدبين، محدثًا ذكيًا لا تفوته شاردة ولا واردة من طرف الكلام، جوَّادًا جود الأمراء، متلطفًا وديعًا كأنه أبدًا في حضرتهم وفيًّا لأصدقائه لا يضن عليهم بما فيه نفع لهم ورضى، مجاملاً لذوي فنه، محسنًا إليهم لا يبغض منهم إلا من ركب الدنايا وأخل بما يسميه شرف الحرفة. ولو كتب الله له فسحة في الأجل لعاش عيشة مقيدة بنظام. ولكنه كان مطلق هوى النفس كما هو شأن النوابغ، ولا شك في أن نعم الله الكثيرة قد حسبت عليه رحمه الله رحمة واسعة. أما وقد أشرنا بما يقتضيه المقام من الإيجاز إلى منزلتي «عبده» و«عثمان» فيجمل بنا تعميمًا لفائدة هذا المقال أن نتكلم على فن الغناء العربي كما هو الآن، ونبحث فيما إذا كان ينبغي أن يبقى كما استخلفنا عليه هذان الفقيدان، أو أن يعدل ويكيف بحيث يصبح أتم تأثيرًا في النفوس وأصلح لأن يشربها ما هي في حاجة إليه من الخلال الشريفة والفضائل. فالموسيقى فيما اشتهر من تعريفها إنما هي تأليف أصوات تحدث طربًا في قلوب السامعين. والطرب قد يكون سرورًا وقد يكون شجوًا، ومعناه في الحقيقة الانفعال الذي تولده الأنغام في النفس أيًا كان. ومن أوصاف الموسيقى أنها في بناء الأصوات كفن العمارة في تشييد الأبنية وتأليف أجزائها والمناسبة بين رسومها ونقوشها وتقاطيعها وتحليلاتها، يسميه الإفرنج بموسيقى البناء على أن أساسها التناسب كما هو أساس كل فن نفيس، وهذا التناسب في الموسيقى يعرف اصطلاحًا بالإيقاع، والإيقاع قديم قدم الموسيقى غير أن المغنين من العرب حصروه في نغمة نغمة مما يغنون. فكان في حقيقته مفضيًا إلى الملل بخلاف الإفرنج فإنهم استخدموه وسيلة للتنقل من نغمة إلى نغمة، ولإعطاء كل نغمة جميع الرنات التي يتم بها طربها الناجم عنها بذاتها، أو باجتماعها مع سائر الأنغام التي يتألف منها الصوت. ولا غرو أن يكون مغنونا على مثل هذا الجهل الذي أبقى الموسيقى العربية على حالها الفطرية، فإن شعراءنا — إلا بعضهم — وكتابنا — عدا القليل منهم — لا يزالون إلى الآن أرقاء الجناس، وعبيد مراعاة النظير، وخدمة السجع، وذباحي المعاني الجليلة، وناسخي الحقائق، وماسخي الصور الجميلة في الطبيعة، وجاحدي وجدانات النفس وانفعالات الحس ليقتدوا بأمة هم تركوا عاداتها وأخلاقها، وهجروا خيامها وصحاريها وأنكروا ملبسها ومأكلها ومشربها، ولم يحتفظوا بشيءٍ من خلالها ومزاياها. ولم يستبقوا منها إلا النسبة إليها. فلا هم يحسنون تقليد أدبائها ولا هم ينتزعون من لغتها، لهم لغة خاصة فصيحة ذات أساليب ومصطلحات وألفاظ تمكنهم من التعبير عما يخالج ضمائرهم ويخامر نفوسهم بما ينطبق على الواقع ويكون صدى حقيقيًا لما يشعرون به. كتب إعرابي في صدر منظومة له «قفا نبك» فلم يستهل واحد منهم منظومة بعد ذلك إلا وهو واقف باكٍ. ونظم آخر أبياتًا كثيرة بروي واحد سميت قصيدة، فتبعه في ذلك في كل ناطق بالضاد من صحراء الجاهلية الأولى العريقة في الهمجية إلى ساحة المعرض العام بباريس في أجمع زمان لأسباب الحضارة، وكلٌ كتب القصيدة على ذلك النمط. وذكر أحد ظرفائهم أن الأرجوزة حمار الشعر فلم يروا عقب ذلك أرجوزة إلا ولها أربع قوائم تمشي عليها. وهكذا هم يتقيدون بسلاسل التقليد. وكُتَّاب اللغة الأجنبية يذهبون كل مذهب في اختراع التراكيب وابتداع الأساليب التي يظهر معها كل خفي ويتجسم كل روحاني، وتتمثل كل صورة، ويصور كل شعور، فهم أبناء عصرهم ونحن أبناء العصور الخالية. وهم يحيون بما ينظرونه ويحسونه. ونحن نحيا بما ننقله حتى في التصور والحس. ومعلوم أن الموسيقى شقيقة للأدب مطبوعة على غراره فكيف كان الأدب تكون الموسيقى. وهي الآن منحطة في الشرق لأنه منحط، وانحطاطهما على قدر. فكلاهما يجب نقده وتنقيحه وإخراجه إلى ما تقضي به الحاجة الماسة. وإلا فأي مصلح للأمة يكون أقوى في البيان؟ وأي بيان يكون أشد وقعًا في النفس من الذي توصله إليها النغمة وتمزجه بها مزجًا؟ على أن الإصلاح الذي نبتغيه ميسور، إذ يكفينا أن نبدأ بتطبيق الموسيقى العربية على الموسيقى التركية تطبيقًا تدريجيًا إلى أن يألفها الذوق، وتوضع لها قواعد، وترسم علامات، ويغني الدور الواحد بنغمة واحدة وألفاظ واحدة في المنتديات وفي البيوت وفي الأسواق. فإذا وصلنا إلى هذه الدرجة انسقنا بحكم السير الطبيعي إلى ما هو أعلى فأعلى. وهكذا فعل الأتراك، إذ أخذوا عن الأروام الذين غناؤهم أقرب إلى الغناء الشرقي. فأصبحوا الآن ينشدون في ملاعبهم أجل الروايات الموسيقية الأجنبية بألفاظ تركية، وقد لا يمضي زمن حتى ينشئ بعضهم رواية موسيقية متقنة فيبلغون بها الغاية. وكان المرحوم «عبده» قد شرع في نقل شيء عن الموسيقى التركية. ومنها أخذ الآهات الطويلة التي يصاعده فيها جمهور المغنين، وهي أحسن ما في غنائنا الآن. غير أنه لم يتسن له معين على إحداث الرموز التي هي أساس علم الموسيقى والتي بغيرها لا تكون الأنغام إلا فوضى. وأذكر أني شكوت إليه يومًا هذا القصور وقلت له:إن الرموز الموسيقية موضوعة منذ نيف وخمسة آلاف سنة. وأنها أول ما رسمت في الهند وفي الصين. فمن المخجل أن تكون مصر سيدة الموسيقى في الشرق الآن ولا يستطاع إثبات لحن من ألحانها على صحيفة يعلم منها أخواننا القاصون أو أبناؤنا الآتون أي فن كان فننا في التلحين، وما كان «عبده» وكيف كان أسلوبه؟ وهل كان جديرًا بالمحل الذي أحل فيه من إكرام الناس؟ فأجابني: أنه كان يود ذلك وأنه سعى ما سعى للوصول إليه فلم يفز بطائل، وأنه لم يجد واحدًا في القطر يستطيع أن يعرفه معنى لحن من الألحان الأجنبية تركية كانت أو غير تركية. وأن كل ما حصله من مغنى الأتراك وأدخله في المغنى العربي كان سماعيًا اجتهاديًا رائده فيه موافقة الذوق المألوف، ومراعاة الإصلاح المعروف. لا جرمَ أن عملاً كهذا ليس مما يقوم به فرد أوعى صدره ما أوعى من المعارف الموسيقية المختلفة، وبلغت ثروته ما بلغت من السعة، وإنما هو عمل شركة أو جمعية تستقدم أساتذة من الأستانة لتخريج جمهور من ذوي الفطرة الموسيقية والأصوات الحسنة على مبادئ هذا الفن. وتعليمهم حقيقة مقصده وشرف غرضه، وتدريبهم على التأليف فيه كل بما يوحي إليه علمه وعقله وترشده إليه ملكته كما يفعل ذلك الذين يدربون على الإنشاء، ونتائج مثل هذا التدريس أبين من أن أطيل الكلام عليها فحسبي الإشارة. أما إذا بقيت الموسيقى على ما هي عليه الآن فإنها بلا ريب تلذنا، ولكنها تمثلنا أبدًا بأخلاق الرعاة الفوضى وإن كنا في أزياء المدنيين الحضريين؛ لأن هذه الأصوات الأنفية، وهذه الأنات المرضية، وهذه النفثات الصدرية لا تصدر عن بأس وحزم ولا تدل على شرف وعلم. بقي أن نصف كيف ينبغي أن تكون الموسيقى العربية ليحسن تصورها الذين يروعهم من الموسيقى الأفرنجية دوي الطبل وقعقعة النحاس وطنطنة المثلثات الحديدية، وخوار المعازف المعدنية، إلى ما يماثل ذلك مما يختلط على ذهن جاهله ويسوء وقعه في نفسه لعدم إدراك معناه. وإنما الموسيقى في إصطلاح الغربيين فن كالكتابة أو الرسم، سوى أنها تمثل لنا بالصوت ما يمثله لنا الإنشاء بالألفاظ التي تستثير في مخيلتنا تصور مقصوداتها، وما يمثله الرسم بالصور التي تنطبق على مرئياتنا. وبدهي أن كلا من هذه الفنون لا يرينا مما يماثله إلا جانبًا ويدع لنا الجانب الآخر نتممهُ بما نتخيله أو نعلمه أو نشعر به، فالكاتب إذا حدَّث عن عاصفة مثلا وصف لنا شمسًا محمرة كالجمرة في كبد السماء يحيط بها قتام يغتالها إلى أن تنطفئ فيشمل الظلام ويكون مهيبًا. ونشر سحائب سوداء كثيفة ترسل في الجو رعودًا مليئة الدوي ثم صادعة، وبروقًا ملطفة اللمعان ثم ساطعة، وأطلق ريحًا هجوميًّا عاصفة تمر على البلد الموصوف فتهدم واهية مبانيه وتذري رماده وتجتث أشجاره العاتية وتصفع وجوه زجاجه بالبرد، وتجري بطرقه سيولاً فإذا أبلغ السهول منتهاه وصف لنا في خلال هذه الروائع كلها طفلاً يتيمًا هائمًا على وجهه، وقد لجأت الناس إلى مساكنها جزعًا، وقد اطمأنت الأطفال بين أيدي آبائها وأمهاتها في مآمنها، وإنما يقف ذلك الطفل الصغير في ذلك الموقف الرهيب ليحرك في قلبنا وتر حنان، ورفق خلال، خفقان الهلع، وثورة الدهشة، فمن قرأ هذا الوصف رأى تكلح الشمس وأفولها وانتشار السحائب السوداء، ولمع الوميض المتتالي، وتَقَلُّع الأشجار، وتقوّض الجدران على التوالي، وسمع زئير الرعد القاصف، وهدير السيل الجارف، وركض الزمهرير العاصف، وركوع البناء الواقف، ورأى في أثناء هذا الحادث الجلل دهشة ذلك اليتيم الخائف، وسمع خفقان قلبه الصغير الواجف، كأن ما قيل حاضر بين يديه وكأنهُ منهُ على كثب ينظره بعينيه ويسمعهُ بأذنيه مع أنه في الحقيقة لم ير ولم يسمع من ذلك شيئًا. فالكاتب رمز له بما ينبه عنده هذه التصورات الشتى ويجمعها على الشكل الذي أحبه فتم له ما أراد على قدر مهارته. وللألفاظ في بلاغ قصده رنة لا تنكر. وللتراكيب امتزاج بالنفس لا يجحد. ولأصوات الحروف لعب بالدماغ والقلب لا ريب فيه. ولكن كل هذا ليس إلا من المتممات. فإذا قدرنا بعد هذا أن رسامًا تولى تصوير هذا المشهد فغاية ما يستطيعهُ تمثيل قدّة كالهلال من الشمس الحمراء في جهة الأفق. وتكديس طبقات من الغيوم القاتمة في صدر السماء. وتحدير سموط كنسج المنوال من المطر الغزير. وإقامة أمواج من الزبد في الطرق السائلة بالوحل والماء تلاطم من الحجارة أشباه أنياب العجوز الفلجاء، وإمالة حائط وصرع شجرة وتقصف أخرى، وتكسر زجاج، ووقفة طفل بالي الأطمار في موقف الحيرة والجزع بعينين نجلاوين وقد سالت منهما دمعتان. ولكن الرسام يرتب هذه الأجزاء ويُحْكِم وضع كل معنى مقصود في اللون الذي يلونه حتى أنك لتسمع الرعد وأنت تنظر البرق، وتحس الدمار وأنت ترى آثاره، وتحس خفقان قلب الطفل وأنت ترى الانفعال البادي على وجهه والدمعتين المتسلسلتين من مقلتيه. وصفوة القول إن الكتابة فن منبه للتصور والحس رمزًا. وأن الرسم فن منبه لهما نظرًا. فكان والحالة هذه لا بد من فن متمم لهذين الفنيين لينبه التصور والحس سمعًا، وهذا ما بنيت عليه الموسيقى منذ بضع مئات من السنين في أوربا على اعتبار أنها فن نفيس مثلهما قابل لتأدية المعاني التي يؤديانها. وقد وصلت الآن في تلك البلاد إلى هذه الغاية. وأصبحت عاملاً من أكبر عوامل تقدمها العجيب. فلنصف الآن كيف نتخيل تمثيل الموسيقى للمشهد الذي ذكرناه آنفًا، وإن لم نكن ممن لهم رأي في هذا الفن هنا أسأل الصديق الذي يقرأ هذه السطور أن يتخيل أنهُ أجاب دعوتي وصحبني إلى دار غناء لأريه بسمع أذنيه ما نظره في الرسم بعينيه. فنحن الآن إذن جالسان في تلك الدار على كرسيين متجاورين. وهذه أمامنا مجالس الضاربين والعازفين. أنظر أيها الصديق أن عدد هؤلاء نحو المائة أمام كل منهم دفتر فيه رموز الأصوات التي ينبغي أن يحدثها في الأوقات المعينة له. وهذا كل ما عليه. وعلى الأستاذ الذي فوق المنصة أن يتنبه لعامة الترتيب ويمنع الشذوذ، اجمع حواسك الآن واصغِ بكليتك فقد أشار الأستاذ بأن يبدءوا. ماذا تمثل لك هذه السحابة من النغمات التي تخرج من الأوتار مضطربة سريعة مبتدئة من القرار؟ أليس هذا أول تنهد الريح المنذرة بالهجوم؟ أو ليس فيها ما يشعر ببرد الزمهرير؟ أتسمع كيف تترقى صاعدة متدافقة كأنها علت فوق الأرض ذاهبة في الجو كلما جازت شوطًا زادت قوة واتساعًا إلى أن تتخيلها بلغت السحاب؟ هذا تنبيه يسمو بالفكر على مثل البساط الروحاني ليوصله إلى الأفق الأعلى ويشهده حادثًا جليلاً فقد دنت الغيوم من الشمس فاغرة فاها، وانضمت أصوات المعازف النحاسية إلى نغمات الأوتار وعلت الصيحة إلى منتهاها. حتى إذا غال السحاب الضاري جانبًا من الشمس وأدماها بأنيابه صكت الصنوج هذه الصكة الفجائية المنكرة التي ختمت بها حكاية الحال، فكأن الشمس قد انشقت كالقطعة المحمية من النحاس الرنان، وكأنها انشطرت شطرين وتوارت بالحجاب. وبعد هذا تأمل كيف تراجعت أصوات تلك الصيحة هابطة تدريجًا إلى أن انقطع خوار المعازف، واستقلت رنات الأوتار تنحدر كرش المطر في أول انهماره. إلى هذا المقام انتهت الإنذارات. أنظر كيف أخذ جمهور النغمات يخرج من عامة الآلات متموجًا تموجًا ثقيلاً كأول تحرك البحر ليهيج. أتسمع انسكاب الوبل الشديد، وتدفق الميازيب، وعصفات الريح الطويلة التي تبدأ مثل أرنان النادبة وتنتهي مثل غمغمة الأسد الجائع الذي جلس يأكل فريسته؟ أتسمع قرع الحجارة تحت السيول؟ أتسمع تقصف الأشجار المتكسرة؟ أتسمع وقوع الصخور وتهدم الجدران يشمل كل ذلك دوي الرعد الذي يحدثه الطبل ويفزعه الصدى، إلى عدة رعود صغيرة متتالية يحدثها الطبلان الصغيران تحت النقر السريع المتتابع. أليس لكل صوت من أصوات هذه العاصفة ما يحاكيه إما في آلة أو في جمع صوتي آلتين على ترتيب معلوم؟ ألم ترتسم البرق خلال غضب الرعد، ورسم الشجرة الواقعة خلال تقصفها وهي تتكسر على متانة بها؟ أو لم ترَ نواصي السيول وأعرافها البيضاء خلال وكفها وتهورها وصعودها وتحدُّرها. هذا منتهى ما يكون هول العاصفة. اسمع الآن كيف أخذت هذه العناصر الجمّة تتناوب مراوحًا بين بعضها والبعض. السر في ذلك من جهة أن يستبقي في النفوس شعور باستمرار العاصفة وقد تراخت قليلاً بعد الشدة كما هو شأن العواصف، ومن جهة أخرى التمهيد لأسماع الناس أنه ذلك اليتيم في حيرته وخوفه. هذه أنة اليتيم تنطلق من أوتار ذلك العود الضخم القائم كالأمير بين الآلات كأنه سرير داود بين أسرة الملوك في زمانه. أتشعر بما فيها من لذة وحنان؟ ألست مدركًا من نفسك أنها زفير طفل حزين؟ أما في هذه الآونة عثرات أشبه بعثرات قدم الطفل المتحير في خفتها وعدم انتظامها؟ ولكن هنا انقطعت النغمة اللطيفة وعاد الإنذار بالهول. سيستأنف جميع ما سمعتهُ من الصيحات والجلبة، غير أنهُ ملطف كأنه مسموع عن بعد ومن وراء حجاب كثيف. ولمَ هذا؟ لأن ما يستأنف ليس أصوات العاصفة بالذات بل صداها في دماغ ذلك اليتيم المروع الضعيف. هذا بيان واحد من ألف من الأمور التي تصلح لها الموسيقى، ويكون موقعها من النفوس بها كموقعها من النفوس بالرسم والكتابة. ومن المعاني ما يكون تأثيره بالموسيقى أشد وأمتن، على أن لكل من هذه الفنون مزيته التي لا تجحد في تنشيط العزم وإزالة الملل. فإن المرء بسمعه وبصره لا بأحدهما. فإلى هذه الغاية الشريفة من إصلاح فن الموسيقى ينبغي أن تتجه الرغائب العامة في مصر فإن «عبده» كان خير مغنٍ لزمانه، وعهده عهد صبابة ورخاء. أما نحن فإن أردنا النهضة من الحطة التي نحن فيها فينبغي لنا مغنٍ ينهض عزائمنا الخائرة ويرفع أبصارنا إلى السماء.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/15/
عبده الحمولي وفنه
رغب إليَّ الفاضل الأديب قسطندي أفندي رزق أن أكتب له كلمة في حياة عبده الحمولي وفنه. وجه إليّ هذه الرغبة في رسالة يقول فيها «إنه وفق إلى تصنيف كتاب في الموسيقى الشرقية والغناء العربي وحياة عبده الحمولي، وفي الكتاب بحوث وآراء الفحول الموسيقيين وفطاحل الشعراء والأدباء، ومعارضات في التجديد والتطور اللذين أوشكا أن يجهزوا على الرمق الباقي من الموسيقى الشرقية، وما لها من سحر وتأثير في النفوس». ويتلطف قسطندي أفندي رزق فيقول «ولما كنتم معاصرين لغريد الشرق الذي لا تفتح العين على مثله، ولا تضنون أبدًا في ضم يدكم إلى يدي الضعيفة لتشاطروني الأجر عند الله وحسن الأحدوثة لدى الناس لقيامي بالواجب نحو الأفذاذ الراحلين المصريين الذين أخذت على عاتقي القيام بتخليد ذكراهم … أرجوكم أن تحضروا لي كلمة عن الفقيد، وعما إذا كنتم من أنصار موسيقاه العربية الساحرة لأدرجها ضمن كتابي». وكان المعقول أن ألتمس سبيلا للخلاص من مزاحمة فحول الموسيقيين وفطاحل الأدباء والشعراء، ولي العذر بأنني لست موسيقيًا، ولم أسمع عبده الحمولي مغنيًا قط إلا ما حفظه الحاكي من بعض أدواره الشجية. لكن قسطندي أفندي زارني ليبين لي رغبته شفاهًا، فلقيت منه رجلاً مخلصًا للموسيقى العربية مخلصًا في حب عبده الحمولي أمام الموسيقى العربية في القرن التاسع عشر مخلصًا في معارضة كل تجديد يذهب بسحر الموسيقى الشرقية ويبطل مميزاتها. وما يكون لي أن ألقى هذا الإخلاص كله بغير التلبية والتشجيع في زمن قلما تجد فيه عاملاً مخلصًا. وإني وإن كنت غير موسيقي فإني أحب الموسيقى بفطرتي حبًا جمًا، وقد حاولت في عهد الشباب مرة أن أتعلم بعض الموسيقى فلم يسعدني الفراغ بل لم يسعدني فراغ للإكثار من سماع الموسيقى، لكنني ظللت دائمًا محبًا لهذا الفن الجميل، بل ظللت متتبعًا ما يمر به من أطوار التجديد في بلادنا. وأحب أنواع الموسيقى إليَّ أبطسها وأسرعها تأثيرًا في العواطف، وعندي أن الموسيقى متعة للنفس وراحة للخاطر المكدود فإذا تعقدت ألحانها وأصبح تأليفها عويصًا يحتاج في إدراك مراميه إلى كد الذهن وفرط التأمل فقد خرجت الموسيقى عن حدودها واتجهت إلى غير وجهتها. ليس أفضل الموسيقى عندي ما انطبق على قواعد الفن، فلم يدركه شذوذ ولم يخالف قانونًا من قوانين الصناعة لأنني لا أعرف هذه القوانين ولا أستطيع أن أميز الألحان التي تراعيها من الألحان التي تجاوزها، ولكنني أحس لبعض الأنغام بطرب لا أحس به لسائرها، وأذكر أنني سمعت بعض المغنين العصريين في بداية عهدهم يوم كان الفن لم يقيدهم تقييدًا ولم يحطهم بالسلاسل من قواعده والأغلال، فكنت يومئذ معجبًا بهم كل الإعجاب وكان أشد إعجابي بهم حين تثور عاطفة من عواطفهم عند الإنشاد فتسمو بألحانهم وأنغامهم صُعدًا إلى ما وراء القواعد الفنية. ولما سمعت هؤلاء المغنين بعد أن حذقوا الفن وأتقنوا أصوله وأصبحوا لا يسيرون في أغانيهم إلا على صراط ممدود، أصبحت آسف على تلك الوثبات التي كانت تطير بهم وتطير بنا معهم إلى آفاق لا تعرف الحدود. قد يكون بحكم الإلف ما يروقني من الألحان الشرقية أكثر مما يروقني من غيرها، لكنني كثيرًا ما يذهب بي الطرب إلى غايته عند سماع قطع موسيقية أوربية؛ ففي الموسيقى الغربية كما في الموسيقى الشرقية أنغام إنسانية من شأنها أن تهز العواطف البشرية هزًا عنيفًا، أو ترد العواطف الهائجة إلى هدوء مريح. والموسيقي العبقري هو الذي يستطيع بموهبته أن يهتدي إلى هذه الأنغام فيؤلف منها نظمًا متسقًا يحدث أثره الموسيقي البليغ في نفوس البشر جميعًا. ويخيل إلي أن عبده الحمولي كان عبقريًا من هذا الطراز فهو قد استخلص من الأغاني المصرية التي كانت معروفة لعهده كل ما يصلح أن يكون لحنًا موسيقيًا إنسانيًا، وألف من ذلك على قلته أغاني نقل بعضها من أناشيد الخلود، واقتبس عبده الحمولي مما وصل إليه من أغاني الأتراك ما يلائم مذهبه، فجمع ألحانًا إنسانية أيضًا لم يتناولها تقليدًا ولكنه نفذ إلى أعماقها وصقلها بذوقه وفنه صقلاً حتى تماثلت بما تم له من الألحان المصرية، وألف من هذا وذاك ترانيم بهرت ذوق الترك والعرب، ولو أن عبده الحمولي عرف الموسيقى الغربية لاستخلص منها أيضًا أبعدها عن التعقيد والتكليف وأدناها أن يكون غذاء للروح الإنساني، وراحة ونعيما، ثم لسلط عبقريته على تلك الخلاصة، فلم تدع فيها شذوذًا ينبو عن ملاءمة ما تم له من التأليف بين الموسيقى المصرية والموسيقى التركية، ثم لألف بعد ذلك من موسيقى الشرق وموسيقى الغرب تلك الموسيقى الإنسانية التي تهفو إليها الفطر في الناس جميعًا ولا تهتدي إليها سبيلاً. هذا النزوع إلى إيجاد موسيقى إنسانية تجتمع الأذواق كلها على الإعجاب بها والشعور بجمالها على أساس ما أبقت الأيام في طيات الموسيقى المصرية والذوق المصري من آثار الحضارات الماضية والعصور الخوالي هو رسالة عبده الحمولي النبيلة التي أدى بعضها وترك للأعقاب أن يتموها. وكان عبده الحمولي نبيلاً في مذهبه الفني كما كان نبيلاً في أخلاقه وشمائله، وفي سيرته بين الناس، وإنك لتدرك النبل في جوهر صوته وفي كيفية أدائه واختباره للأنغام وتأليفه بين الألحان. كان يتسامى بفنه عن التبذل والتكلف فلا ينحدر في غنائه إلى مثل التكسر في النبرات المائعة الذليلة. «ومن أكبر الأدلة على استعداده شدة طربه من الغناء كأنه كان يغني ليطرب نفسه. وشغف المرء بصناعته وتلذذه بممارستها يدلان على انطباعه عليها واقتداره على إتقانها». هذا ما يقوله جرجي زيدان في تراجم مشاهير الشرق وأين ممن يغني ليطرب نفسه؟ أولئك الذين إذا تغنوا في محفل بصبصت عيونهم يمينًا وشمالاً، وتمايلت أخادعهم صيدًا ودلالاً، وتصنعوا العبوس تارة، ثم تصنعوا الابتسام كأنما كل جهدهم مصروف إلى إلهاء الناس بتقلبات سحنهم وحركات جسومهم، وكأنما كل هَمِّ سامعيهم أن يتلقفوا من ثغورهم بسمة طائرة أو يغنموا من عيونهم لمحة راضية أو يروا في تزايل أعضائهم وضعًا معجبًا. لم يكن كذلك عبده الحمولي الذي كان إذا شدا توجهت نفسه إلى الفن وحده، يريد أن تستوفي الصناعة حقها، وأن تبرز الألحان مستكملة جمالها فإذا استوت له القطعة الموسيقية البارعة كان أول مدرك لسحرها وروعتها وأول مستمتع بلذتها وبهجتها. فليس يستجدي من الناس إعجابهم، ولكنه يرى من البر بالناس أن يمتعهم بهذه اللذة الفائقة، وأن يشركهم في تلك السعادة العالية. عاش عبده الحمولي حياة كريمة نبيلة فلما مات مات أيضًا موتًا نبيلاً كريمًا تجلى فيه نسيانه نفسه في سبيل المروءة والوفاء. ورد في تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر نقلاً عن جريدة: «مصباح الشرق» أن عبده الحمولي أصيب في آخر عمره بذات الرئة، وتراكمت عليه هموم الحياة «ودخل من داء السل في الدرجة التي لا يرجى منها شفاء، وأشار عليه الأطباء بسكنى الصعيد مدة الشتاء؛ فأقام في سوهاج شهرين ونصفا عادت له في أثنائها بعض قوته، وتقوى أمله في شفائه، ولم يدرك المرحوم كنه دائه إلا في اليوم الذي مات في غده. ثم عجل العودة إلى مصر ليشتغل بوضع غنائه في اسطوانات الفنوغرافات طلبًا للعيش، ولما حضر باشر ذلك فعلا ثم جاءه نعي أحد أصدقائه المخلصين بالمنيا فاغتم غمًا شديدًا، ولم يسمع لنصيحة أصحابه بل خالفهم لقضاء ما توجبه عليه مروءته، وسافر إلى تلك المدينة وأقام هناك أيامًا ولما عاد عاد باشتداد المرض عليه حتى أدركته منيته». وإذا كان ذكر الفتى عمره الثاني فإن ذكر عبده الحمولي لا يزال بعد موته مثال النبل والكرم. والذين يحيون اليوم وبعد اليوم تذكار الحمولي إنما ينشرون صفحات من آيات العبقرية ومكارم الأخلاق ليوجهوا الإصلاح الموسيقي في بلادنا وجهة صالحة ويضربوا لأهل الفن ولغير أهل الفن مثلاً في المروءة وفي عرفان المرء لكرامة نفسه، وكرامة الفن الذي يمارسه وعبده الحمولي ممن يصدق فيهم قول أبي العلاء:
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/16/
كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندر
لا أكاد أعرف من الموسيقى إلا أنها ضربان، ضرب يثير الطرب، وضرب يدعو إلى الاشمئزاز، لذلك لا أرى نظرًا لمعرفتي هذه كبير فائدة من المجادلة في شأن الموسيقى العربية أهي متقدمة أم متأخرة لأنني ما دمت أطرب منها كما يطرب غيري من أبناء العرب الذين يسمعونها فهي موسيقى تؤدي وظيفتها، ألم يقولوا كذلك عن اللغة العربية أنها ضعيفة لا تصلح للتعبير عن النهضة الحاضرة فكذبتهم المجلات العربية والصحف العربية والكتب العربية؟ وهل أدل على حياتها من أنها أصبحت لغة الثقافة في هذا العالم العربي الشاسع الناهض؟ على أنني لا أنكر أبدًا أن الملحنين العرب لم يجاروا النهضة إجماعًا في بلدان العرب، فهم يحتفظون بما خلفه لهم الآباء والجدود المتأخرون من ذكريات آلام وأحزان تدل عليها تلك الأنات والآهات المتكررة، وغير ذلك من الألفاظ والألحان الحافلة بمعاني الانكسار والخضوع وزوال النشوة وعزة النفس، وإذا جاز لمثل هذه الألحان أن تأخذ بمجامع القلوب فيعصر التشاؤم الوضيع فهي تدعو إلى الملل والضجر والسآمة في عصر النهضة الطامحة. والموسيقى مثل الشاعر والمصور وسائر الفنانين مدره يعبر عما يخالج صدور الناس من هواجس وانفعالات فعلية أن يماشي العصر الذي يعيش فيه، والتطور الذي يحيط بكل شيء حتى بالتخت الذي يغني عليه. فكما أننا لم يعد يلذنا كثيرًا هذا التذلل والترامي على أقدام الأحبة، وتقبيل نعال الخيل التي تحملهم، كذلك لا تروقنا اليوم العبرات والحسرات من غدر الزمان، وقوارع الحدثان، بل إننا أحوج ما نكون إلى من يفصح عما في قلوبنا من غليان، ويدل على ما في نفوسنا من تحفز، ويترجم عما في عزيمتنا من قوة. لذلك لا أخطئ أبدًا إذا ما قلت إن الموسيقي الذي ستنصت له الآذان وتنفتح له القلوب هو الذي يعبر عن الانقلاب الاجتماعي السياسي الخطير في بلادنا، وعما يحدث في قرارات نفوسنا من التبدل الكبير. وليقل المحافظون والمجددون ما شاءوا أن يقولوا فإن المهم الذي يجب أن يُصرح به على رؤوس الأشهاد ومن غير محاباة هو أن هذه المواليا النمطية المملة، وما تبتدئ به من النداء «يا ليل»، وهذا التكرار الثقيل السقيم الذي يكرره المغني للكلمة التي يتمسك بها، وهذا التسكع والتشاؤم كله سيحول أنظار النشء الحديث عن التخت العربي، ويرغبه عن سماع المغنين العرب ما لم نعتمد في موسيقانا على تلك العناصر التي تعيد إلى القلوب ثقتها، وإلى النفوس نشوتها، وإلى العضلات قوتها ووثبتها. وقد يكون من المستحسن أن يسمع المرء في حفلة كاملة لحنًا واحدًا محزنًا، وقد يكون من الجائز أن يسمع لحنين اثنين، ولكن أن يقضي الحفلة كلها في نواح وبكاء ورجيع فهذا أليق بنصب المآتم وزيارة المقابر. ويعجبني كثيرًا أن يقول الأستاذ: قسطندي رزق في «عبده الحمولي» إنه كان يضع نصب عينيه الفرح والابتسام فلا يغني من الأدوار إلا ما أثار البهجة والحبور. إن معاجم لغتنا اليومية قد اتَّسعت وتعدلت وتحولت حتى أصبحت تستوعب ألوفًا من الألفاظ الدالة على المعاني العلمية والفلسفية الحديثة، وهكذا موسيقانا فإنها ستتَّسع وتتعدل وتتحول حتى تستوعب تلك الهواجس التي تجول في أفئدتنا والثورات التي تغلي في نفوسنا، والانقلابات التي تشب في مداركنا، وإننا وقد صممنا على الحياة فلا بد لنا من تكييف أنفسنا وأوضاعنا وعلومنا وفنوننا بحسب حاجاتنا، والحاجة أم الاختراع. المؤلف — كل واحد منا يعرف من هو الدكتور: شهبندر وماله من قدم سابقة في قضية استقلال سوريا والبلاد العربية وما بذل من مجهود، وتحمل من مشاق واضطهاد في سبيل الوطن الذي تحفزه همته إلى حماية حوزته باتحاد الوجهة، واجتماع الكلمة، وتعليقًا على كلمته البليغة في باب الموسيقى التي لأجلها أملأ فمي بحمده الجزيل أقول إن وزارتنا الماهرية الجليلة قد عنيت ببث روح الشجاعة وعزة النفس والكرامة الشخصية في النشء الحديث تمشيًا مع النهضة القومية في هذا العصر إسوة بالأمم المتمدنة، وقررت عمل مباراة في نظم وتلحين نشيد قومي كنشيد ألمانيا مثلا القائل «ألمانيا فوق الجميع» الغرض منه أن ينشأ المصري حرًا مستقلا ووطنيًا أمينًا ورجلاً صادقًا يضطلع بأعباء مهمات بلاده، وقد أصاب حضرة الدكتور المشار إليه كبد الحقيقة بقوله إن الموسيقب كالشاعر والمصور وسائر الفنانين مدرهٌ يعبر عن عواطف الأمة، وعما تصبو إليه من رغائب وآمال، ويدلنا على ما بنا من نقص وضعف عزيمة، وحسبي من هذه الوجهة أني قد وجدت في أغاني غريد الشرق «عبده الحمولي» غضبة في الله، ولله انتصارًا للحق وأربابه جماعاتٍ ووحدانًا ونبلاً وجذلاً وسعادة وعفة وفروسية ومروءة ووفاء فاستطاع بقلبه وصوته أن يدلنا على مناهج الشفاء من الداء ذهابًا إلى ما جاء بحديث المصطفى ﷺ القائل «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه» فما بال المطربين المجددين لا ينسجون على منواله ولا يستنون بسنته؟ إن ذلك لأمر غريب فإنهم لم يقتصروا على أن كسوا أغانيهم التجديدية لباسًا من الهجنة لا يرجع إلى ترتيب، ولا يجري على شيء من التناسب الذي هو قاعدة الجمال بل بثوا في النشء روح الذل والإنكار والكآبة كأنهم يبكون بكاء الخنساء على صخر، متصنعين الحب وهم مذاعون يأخذون صديقهم أخذًا عنيفًا حتى ماتت في النشء ملكة البحث والنظر، وكادوا يتفادون من كل ما فيه بأس وعزة، فلينشأ المصري حرًا يرضع البأس وقت رضيع الحليب، ويسمع نشيدًا قوميًا فيشرب حب وطنه ويحمي حوزته؛ لأن الطفل أبو الإنسان وهو يسد المخلوقات «وفي أنفسكم أفلا تبصرون».
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/17/
لمحة عامة في الموسيقى
اختلفت الأقوال في أصل الموسيقى ومبادئها عند الأمم وأنا لا أجزم بأصح الأقوال لغموض الأمر. واختلفوا في تحديدها، فقال بعضهم إنها كل حركة واهتزازات في الطبيعة كحركة الأشجار والنبات وما أشبه، وقال البعض الآخر إنها من الأصوات الطبيعية الإنسانية إلى غير ذلك من الأقوال. وقد قال ذلك غير واحد من علماء الموسيقى «أن تحديد الموسيقى الصحيح هو فن التأثير في النفس، ويتم ذلك كله بتأليف أصوات تلذنا فتثير فينا هذه العواطف المختلفة من أول وهلة فيصل تأثير الموسيقى إلى النفس مباشرة، فيجب والحالة هذه أن تسمى الموسيقى لغة النفس». والذي ينظم نغمة موسيقية فإنما ينظمها على مثال ما يشعر به في نفسه من العواطف، ففن الموسيقى يفترق جوهريًا عن سائر الفنون كالتصوير مثلاً فإنه خاضع للإصلاح مرارًا تحت نظر الرسام، وليست الموسيقى كذلك في إنشاء التأثير مع خضوعها للمؤلف في إصلاح بعض التراكيب الصوتية إذا كان مخالفًا لمبادئ الفن، أما الشعر فهو أقرب ما يكون إلى الموسيقى لصدوره عن النفس، ولكنه يفارقها بكونه خاضعًا لروية العقل، ولإصلاح لغوي منطبق على وزن خاص. أما تاريخ الموسيقى فغير محدود بعصر من العصور، بل هو تاريخ الإنسانية نفسها، وكانت الشعوب القديمة تقدرها حق قدرها، فالهنود نسبوها لإلههم برهم، والمصريون لأوزيريس مخترع المعرفة وهرمس موجد العود. وكان اليونانيون يلقنونها لأولادهم في المدارس وخارجها ويمنعونها عن العبيد، وأن الحيوانات الضارية نفسها كانت تستأنس بها. وقد عُد قدماء اليونانيين أول موسيقي العالم، وأحصى كبار الموسيقيين عندهم بين آلهتهم، وامتزج فن الموسيقى بفن النظم في بلاد اليونان فاعتبروا هوميروس شاعرًا وموسيقيًا وكان يغني منظوماته أمام الأبواب. ومن لفظة موسا اليونانية وهي إلاهة الشعر اشتقت الموسيقى. وكان عند العبرانيين أثر كبير لهذا الفن يتأكده من تصفح التاريخ المقدس وقس سائر الشعوب على ما ذكرناه. وأن ما أوردناه هو توطئة للكلام على الموسيقى العربية التي نرمي إلى الكلام عنها اشتراكا في أغراض المؤتمر الذي سيعقد في القاهرة بشأنها. نقول إن العرب لم يكونوا أقل ميلاً إلى الموسيقى من غيرهم من الأمم، وكانوا يتغنون بأشعارهم لمقاصد جمة أخصها إثارة الحماسة في المتحاربين. ولما اختلطوا بالأمم الأخرى بعد الإسلام وتأسست دولهم اقتبس الخلفاء من رعاياهم الجدد أفضل ما عندهم من الأنغام الموسيقية، فاختلط بالأنغام العربية الأصلية، ففاقت بعد التنظيم سائر أنواع الموسيقى عند بقية الشعوب، وزادت شهرتها وتأثيرها في عهد العباسيين، ولا سيما عهد هارون الرشيد، وكانت أكثر القصائد تُنشد. وكان عند العرب والفرس حتى اليوم سبع أنغام أصلية، وضعوها على أسماء السيارات، وهي الرست والدوكا والسيكا والشركا والنوى والحسيني والعجم ويضاف إليها الحجاز، ومن هذه الأنغام اشتقت عدة فروع تقارب التسعين، ولها ديوان (سلم) يتألف من جملة مقامات، وإذا قابلنا الموسيقى العربية بالأفرنجية من حيث الشعور باللذة والتأثير في المجموع العصبي وجدنا العربية أشد تأثيرًا ولذة. ولقائل أن يقول ولماذا لا يتذوق الإفرنج الموسيقى العربية فالجواب على ذلك هو: أولاً لأن ليس في موسيقاهم ما في الموسيقى العربية من التقاسيم الدقيقة للمقام ولم يتعودوها. وثانيًا وأن لكل أمة عادات وأمزجة وأميالاً تختلف عن الأخرى، ولكن متى ألفت سماع الموسيقى عند أمة أخرى تكررًا ينتهي بها الحال إلى أن تجدها لذيذة. ومما يثبت هذه النظرية هو أن الحكومة الفرنسية أرسلت بعثة موسيقية في أواسط القرن الماضي إلى الشرق للدرس، فمرت في أثينا ومصر، وبعد المراقبة وصلت إلى النتيجة التي ذكرناها، وقد لبث أعضاؤها أكثر من شهرين في مصر سمعوا في أثنائهما الموسيقى والمغنين غير مرة، وأخيرًا صاروا يلتذون بالموسيقى العربية وفضلوها على موسيقاهم بعد ما كانوا يتأففون في بدء الأمر من سماعها، فضلاً عن أن الأوتار العربية أكثر حساسية من أوتارهم المعدنية. ولا بد للوصول إلى ذلك من مراعاة عدة أمور أخصها اتفاق أصول النغم عند الغناء أو الترتيل، ومراعاة الضرب الخفيف والثقيل، وتطبيق المعنى على النغمة، وحسن النطق اللفظي، وتكييف النغمات لئلا تمل السامع إذا بقيت على وتيرة واحدة، بشرط الانتقال بمهارة من نغمة إلى أخرى، والعودة إلى النغم الأساسي من دون أن يشعر السامع بمفاجأة. على أنه لا ينبغي أن يُستنتج مما تقدم أن الموسيقى العربية بلغت حد الكمال، أو أنها تفضل الموسيقى الأوروبية في كل شيء، فلا بد من ذكر الفوارق بينهما من هذا القبيل والنواقص الواجب تلافيها بمناسبة انعقاد المؤتمر: فليبتدع الموسيقيون الشرقيون العلامات الموسيقية كما ابتدعها موسيقيُّو الغرب واليونان الشرقيون. هذا ما توخيت نشره بالإيجاز في هذه العجالة عن الموسيقى عمومًا والموسيقى العربية خصوصًا غير متعرض للبحث عن آلاتها المشهورة. ويحسن بنا قبل الختام أن نستنتج من بحثنا هذا النتائج التالية: هذا ولا أتعرض لموسيقى الكنسية الشرقية، ولا سيما اليونانية منها المستعملة في طقس كنيستنا لخروجها أيضًا عن أبحاث المؤتمر أساسًا. وإني أدعو بنجاح المؤتمر لتزداد مصر رقيًا في عهد حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول مليكها المعظم ذي الأيادي البيضاء على كل المشروعات التي تمت في عهد ملكه السعيد حفظه الله ذخرًا للبلاد والعباد والسلام.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/18/
فذلكة عن الغناء العربي
أتذكر في ليلة السمر الحلو التي دعوتني إليها في منزلك أننا رجعنا بالحديث الشهي إلى ذكريات الماضي الجميل، وأخذنا ننشر من الثناء حللا على بعض رجال الغناء العربي الذين أضافوا إلى شهرتهم في الفن، شهرة تستحق الحمد في المروءة، والكرم، ومؤاساة الفقير بالبذل والعطاء عندما يعوزه النصير، وكان من أوائلهم، بل كان جماع الفضائل، ومصدر المحامد المرحوم: عبده الحمولي ذلك الرجل الذي نهضت بذكره، والإشادة بمحاسنه، وبذلت جهدًا ومآلا عن طواعية لإحياء مآثره بعد أن كاد الزمن يعفي على آثاره خصوصًا في هذا العصر الذي انبرت فيه طائفة من المولعين بما يسمونه التجديد في الغناء، فيعمدون لي مزج الغناء الشرقي بالغناء الغربي، ثم يخرجون للناس نغمات لا تمت إلى الشرق بصلة، ولا إلى الغرب بنسب، وبذلك أضاعوا المقامات التي تعب السلف في تركيزها، وأتبعوا طرقًا فيها الكثير من العثرات. أتذكر ذلك يا صديقي؟ ثم تذكر أنك تمنيت لو أن أحد رجال الفقه الإسلامي ممن بلغوا شأوًا بعيدًا في الثقافة العربية كتب جملة صالحة في الغناء العربي من الوجهة الدينية، وسماع آلات العزف في محافل السرور والفرح. وهل هي مما تحرمه الشريعة السمحة أم تحلله؟ وطلبت إليّ أن أتصل بأحد شيوخ العلم من أصدقائي الذين عبَّد الله لهم سبل الفهم، ووصلوا في معرفة دقائق اللغة إلى لبّها، فاكتسبوا شرفًا بغوصهم على المعاني الدقيقة التي تفيض بها صحائف الكتاب الكريم والسنة، وتعتز بها كتب التاريخ والسير، فأقول لك إنني اتصلت بالكثير منهم فلم يجدوا في وقتهم متسعًا لخوض هذا البحث لما تكتنفهم من ظروف، وما يحيط بهم من ملابسات تستلزم العجلة فيما هم مقبلون عليه. لهذا السبب رأيت أن أرجع — على قلة بضاعتي — إلى كتب السير تحقيقًا لغرضك، وإتمامًا لبحثك ليخرج كتابك للناس في المرحوم: عبده الحمولي شاملا للكثير الممتع من الحقائق، حاويًا لبعض النوادر التي وقعت للسلف الصالح في الصدر الأول في الغناء، وسماع الآلات، أيام كان الدين غضًا، وكان رجاله يقيمون بقلوبهم بناءه، ويبذلون الأرواح رخيصة لتشييد صرحه، بل كانوا يخافون الله في الشبهة. فإذا وقعت لأحدهم في عمل جعلوا من الكتاب الكريم حكمًا، ومن السنة الصحيحة موئلا، واعتصموا جميعًا بحبل الله في أمره. ولم تصرفهم الحروب والغزوات عن أن يعلوا منار التشريع في الخطير والحقير من الأمور حذرًا من أن يميل بين أيديهم اللواء المعقود، ويبدد عقد الشمل المنضود. وإنك يا صديقي ستقرأ فقرًا مستملحة في الغناء وسماع الآلات، وهي وإن كانت لا تنقع غلة ولا ترد لهفة، لضيق المناسبات التي وقعت فيها، وإمساك النفوس عن التوسع في بيانها إلا أنها من الوجهة الدينية تعد كفيلة لتحقيق الغرض الذي تصبو إليه وسأجتهد في إيجاز القول ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. إن بعض شيوخ الدين من السلف الصالح قد استدلوا على إباحة الغناء وسماع الآلات بأحاديث شريفة صحيحة عن رسول الله ﷺ منها ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دخل عليَّ أبو بكر (رضى الله عنه) وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر (رضى الله عنه): أمزمار الشيطان في بيت رسول الله ﷺ وذلك يوم عيد فقال له رسول الله ﷺ يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا. وروي عنها أيضًا رضي الله عنها أن أبا بكر (رضى الله عنه) دخل عليها وعندها جاريتان في أيام مِنًى تدففان وتضربان، والنبي ﷺ متغشٍ بثوبه فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي ﷺ عن وجهه وقال دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد، وتلك الأيام أيام منى. وعنها أيضًا رضي الله عنها قالت، كانت جارية من الأنصار في حجري فزففتها، فدخل رسول الله ﷺ ولم يسمع غناء فقال، يا عائشة ألا تبعثين معها من يغني فإن هذا الحي من الأنصار يحبون الغناء، ومما رواه أبو الزبير بن مسلم المكي عن جابر قال: زوَّجت عائشة رضي الله عنها ذات قرابة لها رجلاً من الأنصار فجاء رسول الله ﷺ فقال: «أهديتم الفتاة، قالوا: نعم. قال: أرسلتم معها — قال أبو طلحة راوي الحديث: ذهب عني — فقالت لا. فقال رسول الله ﷺ «إن الأنصار قوم فيهم غزل فلو بعثتم معها من يقول: ويروى عن فضالة بن عبيد قال رسول الله ﷺ: (للهُ أشدُّ أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به من صاحب القينة إلى قينته). أما عن سماع الآلات فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ سافر سفرًا فنذرت جارية من قريش لئن رده الله تعالى أن تضرب في بيت عائشة بدف، فلما رجع رسول الله ﷺ جاءت الجارية، فقالت عائشة لرسول الله ﷺ: فلانة ابنة فلان نذرت لئن ردك الله تعالى أن تضرب في بيتي بدف، قال فلتضرب. أما ما ورد في القصب والأوتار والمزامير فلا خلاف في إباحة سماعها، والدليل على ذلك أن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مع جلالته وفقهه وثقته كان يفتي بحل ذلك، وقد ضرب بالعود، وكان الإمام أحمد بن حنبل لا يحدث حديثًا إلا بعد أن يغني على عود إلى غير ذلك من الأدلة والشواهد العديدة التي يضيق المقام عن سردها. ولا بأس من أن نورد هنا جملة صالحة لابن خلدون في هذا الموضوع وهو الحجة الثبت في الاجتماعيات قال: «لما جاء الإسلام. واستولى رجاله على ممالك الدنيا، وحازوا سلطان العجم، وغلبوهم عليه، وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم، مع غضارة الدين وشدته في ترك أحوال الفراغ، وما ليس بنافع في دين ولا معاش، هجروا ذلك شيئًا ما، ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة، والترنم بالشعر الذي هو ديدنهم ومذهبهم، فلما جاءهم الترف، وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم، صاروا إلى نضارة العيش، ورقة الحاشية، واستجلاء الفراغ، وافترق المغنون من الفرس والروم، فوقعوا إلى الحجاز، وصاروا موالي للعرب، وغنوا جميعًا بالعيدان، والطنابير، والمعازف، والمزامير. وسمع العرب تلحينهم للأصوات، فلحنوا عليهم أشعارهم، وظهر بالمدينة نشيط الفارسي، وطويس، وسائب خائر — مولى عبد الله بن جعفر — فسمعوا شعر العرب ولحنوه، وأجادوا فيه، وطار لهم ذكر، ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن شريح وأنظاره، وما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي، وإبراهيم الموصلي، وابنه إسحق، وابنه حماد، وكان من ذلك في دولتهم في بغداد… إلخ». ا.هـ. وما زال فن الغناء يتنقل من عصر إلى عصر، ومن دولة إلى دولة ويعتريه الضعف والوهن تبعًا لضعف الزمن ووهنه، والشهرة والذيوع إن أخصب ربعه، وأخضل واديه، تسمعه الخلفاء في قصورهم، وتهش له الأمراء في دورهم إلى أن وصل إلى عهد أبي الأشبال المغفور له إسماعيل باشا وهنالك طلع فجره، وبزغ هلاله، وأنارت شمسه، وكمل أنسه بوجود المرحوم: عبده الحمولي الذي ملك ناصية الفن فأخذ يعبد طريقه، ويحسن تنيسقه، ويأخذ من عواطف الشعب المشهور بالرقة مادة لتلحين أدواره، وإنشاد أشعاره، ولم يكفه هذا بل عمد إلى نغمات الترك والفرس فصبّها في قوالب من صنع مصره، وجعلها زينة لعصره فتراها تجمع بين بغداد في حضارتها، ونجد في بداوتها، والفرس في غضارتها، والترك في منعتها وقوتها. فما لمصر وهي أمة عربية تصبو بغرائزها إلى سماع صوت الحُداة وهم يحدون ونحن في أثر الطعن وهم مجدون، ويخفق قلبها إن هبت من نجد صبا، وتصفّق منها الضلوع إن لمع برق من بغداد أو خبا، وجرى الماء في غياض الشام يسقي هام الربى، يراد بها أن تكون في نغماتها غربية وهي ربيبة الشرق، ورضيعة لبانه ولسان حالها يقول: إن أمة هذه خصائصها ومميزاتها لن تنفع فيها إن شاء الله حيلة المجددين في الشعر والغناء، وستسير القافلة وهم في الطريق، وأن مُلكًا على عرشه حضرة صاحب الجلالة الملك أحمد فؤاد الأول ابن ناصر هذا الفن المغفور له إسماعيل باشا خليق بأن يغني بمحاسنه الدهر، ويمرح تحت وارف ظله كل مبتكر، وينشد في واسع رحابه لكل أديب، ويسير إلى الأمام بفضله كل مخترع، فلك الشكر الجزيل يا صديقي على ما بذلت من جهدٍ، وأديت من أمانة، بوضعك الحق في نصابه، وإرجاعك السيف إلى قرابه، واختتم عجالتي هذه ببيتين من قصيدة المرحوم شوقي بك في المرحوم عبده. وسلام الله عليك من صديقك محمود الجبالي.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/19/
عبده الحمولي مع سليم سركيس
مما يدل أيضًا على عظمة أخلاق عبده الحمولي وما كان لهُ على الناس من جميل الأثر حادثة وقعت في نيوبار ومنزل يوسف بك صديق في سنة ١٨٩٧ عقب عودته من الأستانة أرويها تفكهةً لحضرات القراء، وعبرةً للمحترفين من بعده من حيث شريف المبادئ وحسن الحفاظ، وذلك نقلاً عن مجلة سركيس عدد سنة ١٩٠٦ قال سليم سركيس أسماء الأشخاص: عبده الحمولي. سليم سركيس. باسيلي باشا تادرس. عثمان باشا رأفت. يوسف بك صديق. عطا بك. كان المرحوم عبده الحمولي نديم الملوك وأمير المنشدين قد تلطف فجعلني من خاصة أصدقائه كان يكرمني بمودته كل يوم فإذا عاتبه قوم على ميله هذا إليَّ على ما كان من حدَّتي في جريدتي القديمة — يقول — أنا أحب سليم سركيس لا جريدته — وأعاشر الرجل لا سياسته وأحبه لأنه أحبني من أجل شخصي لا من أجل صوتي كما تفعلون، أنتم فإنكم لا يقع نظركم عليَّ حتى تطلبون مني صوتًا، وسركيسا كلفني الغناء مرة واحدة في عامين. قد قضت سياسة جريدتي في ذلك الحين أن أنشر مقالات استاء منها بعض أمراء العائلة الخديوية، وسُرَّ منها قسم آخر من الأمراء، وكان وكيل أشغال الأمراء الذين استاءوا من مقالاتي رجلاً اسمه: عطا بك فلحقه شيء من حدة هذا القلم في ذلك الحين فأضمر لي الشر. وحدث ذات يوم في سنة ١٨٩٧ أن عبده الحمولي — رحمه الله عداد حسناته — جاءني في منزلي يقول: أنت أسيري طول هذا النهار، فقضينا يومنا في التنقل من مكان إلى آخر على أتم ما يكون من المسرة والحبور، حتى إذا كانت الساعة السابعة مساء، وجدت نفسي على رصيف (النيوبار) فأمر بإحضار العشاء، وبسطت أمامنا مائدة الشراب، وعبده يحدثني بما لذ وطاب، وفيما نحن كذلك جاء صاحب (البار) يقول: إن قومًا يطلبون عبده بالتليفون فمضى، وبعد قليل عاد يهز رأسه فقلت: ما الخبر؟ قال جماعة من إخواننا يتمتعون بضيافة يوسف بك ويطربهم محمد عثمان، وقد بحثوا عني كل نهارهم فلم يقفوا لي على أثر ثم أدركوني هنا الآن، وهم يطلبون مني موافاتهم إلى هناك. قلت: اذهب إليهم، قال: ما أنا فاعل. قلت: إنك تجتمع بي غدًا إذ القوم في انتظارك؟ قال لا أستبدل مقامي معك وهو مقام الصديق بمقامي بينهم وهو مقام المغني — ثم عدنا إلى حديثنا وإذا بزنجي في عربة قد جاء برسالة من يوسف بك صديق أن القوم ينتظرون عبده، فصرف الزنجي معتذرًا. وما مضت نصف ساعة حتى أقبل علينا عثمان باشا رأفت الفريق، وسعادة باسيلي باشا تادرس وكان يومئذ (باسيلي بك) القاضي فرحب عبده بهما. وبعد أن جلسا أوعز أحدهما إلى الخادم أن يرد الطعام، وطلبا من عبده أن يذهب معهما إلى منزل يوسف بك صديق؛ لأن القوم ينتظرونه — فاعتذر إليهما قائلاً: إنني منذ الصباح مع صديقي سركيس وهذا اليوم خاص بنا، فلما وجدا أنه مصر على البقاء معي عرضا عليه أن يحملاني على الذهاب معهما. فقال: إذا رضي سركيس بالذهاب فأنا راضٍ، فتحولا إليَّ يدعوانني إلى منزل صديقيهما، فاعتذرت قائلاً: لا أعرف أكثر الذين هناك — وقلت لعبده: أرجوك أن تذهب معهما، وأنا أمضي في شأني، فأقسم أن لا يفعل — عند ذلك قال لي عثمان باشا إن صاحب المنزل مشترك في جريدتك. وفضلاً عن ذلك، فلا يليق أن ترفض دعوتنا وأنت لا تحتاج إلى أعظم من رجل في رتبة فريق وآخر قاض في الاستئناف يدعوانك فهي دعوة كاملة جديرة باهتمامك، ولك منا أن تكون في المركز الأسمي من الإكرام هناك، فضلاً عن ذلك فأنت في إصرارك على عدم الذهاب تكدر جمهورًا كبيرًا لأنك تحرمهم من صديقهم عبده الحمولي. فلما رأيت أن إصراري ليس من الحكمة، أجبت دعوتهم فركب الحمولي وتادرس باشا عربة وسرت في العربة الثانية مع عثمان باشا حتى وصلنا إلى منزل المضيف، وإذا به غاص بالوجهاء والأعيان، فلما وصلنا احتفلوا بعبده احتفالاً عظيما وتنحى محمد عثمان عن مجلسه له — أما عبده فأراد أن لا أشعر بوحشة فأجلسني بجانبه، وبعد قليل دعاني صاحب المنزل إلى غرفة «البوفيه» لأتمتع بما كانوا قد سبقوني إليه من دلائل كرمه وسخائه وأظهر لي لطفًا كثيرًا أذهب وحشتي، ثم عدت وجلست بجانب عبده حتى إذا بدأ يجس عوده استعدادًا للغناء شعرت بوجود اضطراب في القاعة، وفي إحدى زواياه جماعة يتكلمون وينظرون إلى ناحيتنا. وبعد قليل جاء باسيلي باشا تادرس إلى عبده يقول: لي كلمة أقولها إليك في الخارج فسر معي. فخرج عبده وقد همَّ أن يأخذني معه فقال تادرس باشا «إن حديثي معك خاص بك فاتبعني وحدك، وما غاب عبده إلا مدة قصيرة حتى عاد وعلى وجهه لوائح الغضب فجلس في مجلسه وأدناني منه وطلب شرابًا لكلينا»، وأخذ يغني ويطرب حتى أدهش من حضر، ولبثنا كذلك حتى شابت ناصية الليل فانصرفنا، وأردت أن أوصله إلى محطة حلوان فأبى إلا أن يوصلني إلى بيتي، وكنت أحاول مرارًا أن أفهم منه سبب غضبه وهو يأبى الإيضاح، حتى إذا كان اليوم الثاني علمت ما يأتي: لما دخلت معه إلى المنزل ورأى الناس احتفاله بي كان بين الموجودين (عطا بك) الذي تقدم القول إنه كان متكدرًا من بعض كتاباتي في قضية الأمراء فسأل: من الرجل؟ قيل له: هو سركيس — فأرعد وأزبد وانصرف إلى الخارج، وكلف باسيلي باشا أن يدعو عبده إليه فلما تقابلا جرى بينهما الحديث الآتي: قال عطا بك: من هذا الذي جاء معك؟ قال عبده: هذا سليم أفندي سركيس، قال عطا بك: أما هو صاحب الجريدة — قال: نعم — قال: أنت تعلم يا عبده أني أكرهه فلا تلمني إذا أسأت إليه. فنظر إليه عبده شذرًا وقال: إن سليم سركيس ضيف لصاحب هذا البيت الكريم، ولولا لطفه ما تمتعتم بحضوري، ولولا أن ذهب إلى دعوته رجل في رتبة فريق وقاض في الاستئناف ما جاءكم، فاعلم يا عطا بك إذا أسأت إليه بكلمة أسأت إليك بعشرين، فهو صديقي وضيفي والضيف من عند الله — قال عطا بك — إذًا واحد منا ينصرف الليلة من هنا — قال عبده تنصرف أنت إذًا — قال عطا بك اختر بيننا — قال عبده قد اخترت سركيس فانصرف إذا شئت. وهكذا انصرف عطا بك، وعاد عبده إلى مجلسه كما ذكرنا فرحم الله تلك الروح الذكية والعواطف الشريفة. المؤلف — ولا يفوتني قبل مسح القلم عن هذا الحادث الواقعي الغريب إلا أن أقول كلمتي الآتية تعليقًا عليه: وبناء عليه فإن ما يوجد من العبقرية في عبارة واحدة أو في ألفاظ منفردة مؤثرة يتجاوز في الغالب ما قد يوجد منها في أضخم مجلد لما أن العبقرية لهب يتوقد لوقته على حد ما رُوي عن ڤرجيل أنه بكلمات مؤثرة قليلة استطاع أن يسبر غور الجمال والحزن ويخبر سر الشرف في الحياة والأمل في الموت، كما أن شكسبير تتمثل لحس القارئ عظمته ويشعر بلا مراء بخلود مصنفاته ودواوينه بمجرد اطلاعه على رواية واحدة من الأربع والثلاثين رواية التي قام بتأليفها، ويستنتج من تحليل حياة عبده النفسية أن ما من عمل من أعماله إلا يدل على إيحاء وعبقرية وعظمة ويعد ناموسًا للاجتماع ومثلاً أعلى يعمل بمقتضاه أبناء النيل، ومأثرة ينقلها السلف إلى الخلف على مر الأيام وكرور الأعوام، والحق يقال إنه كتب اسمه بأحرفٍ من ذهب ليس على رخام ضريحه فحسب بل على قلوب أبناء مصر عمومًا، والمحترفين والهاوين والمعجبين خصوصًا، وسيظل ذكره خالدًا ويطيب نشره في المحافل مدى الدهور.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/20/
شهادة إبراهيم بك المويلحي الكاتب القدير
إذا بحث الباحث في أطوار الناس وأخلاق الخلق تعين عليه أن يجردهم من طيالس المراتب والمناصب ومظاهر الثروة والجاه، ثم يُلفي في نظره ما بينهم من تفاوت الطبقات واختلاف الدرجات التي وضعها الناس لأنفسهم بأنفسهم، ثم ينظروهم على تلك الحالة المجردة إلى ما وضعه الله فيهم من المواهب والمزايا، وأسباب التفاضل بينهم وما هذه الدنيا في نظر الحكيم إلا ملعب، وما الناس في مراتبهم ودرجاتهم إلا كالمشخصين فيه يتزيون بالأزياء المختلفة، هذا مَلَكٌ، وهذا وزير، وهذا قائد، وهذا أمير، فإذا أراد الباحث أن يعرف حقيقة اقتدارهم وقيمتهم في ذاتهم نظر إليهم من وراء الملعب مجردين عن تلك الألبسة الفاخرة في الحالة التي كانوا عليها قبل تشخيص أدوارهم، وهنالك يرى الباحث في طبائع الناس وأخلاقهم أنهم مختلفون بينهم، ومتفاوتون في سلسلة الترقي والكمال تفاوت الصوان من الياقوت في الأحجار، والسيالة من البنفسج في النبات، والفهد من القرد في الحيوان — ومن الناس من تميزهم الطبيعة بكمال الخلقة وترتقي به في كمال التصوير فينشأ فيها من حسن الانتساق ولطف التركيب ما تتجلى في عالم الإحسان والإتقان والتصوير؛ فيصدر عنه من بدائع الأعمال ومحاسن الأفعال ما تطرب له النفوس، وتشجي به القلوب. فإن نشأ في طبقة الشعراء كان كالمعري مثلاً، وإن نشأ في طبقة الحكماء كان كابن سينا، إن نشأ في طبقة الجند كان كطارق بن زياد، وإن نشأ في طبقة المغنين كان كإسحاق أو كهذا الفقيد الذي فقدناه بالأمس. وهب الله المرحوم عبده الحمولي سجية الإحسان ومزية الإتقان، فكان وحيد عصره، وفريد دهره في صناعة مارسها بين الناس أكثر من أربعين عامًا لم يضارعه فيها مضارع، ولم يلحق به لاحق، وانحصر فيه الغناء في مصر طول هذه المدة فصار الكل له مقلدين يأخذون عنه ولا يبلغون شأوه، ولا يتعلقون بغباره، ولا غرو فإنه هو الذي أخرج فن الموسيقى من سقوطه وتأخره إلى ارتفاعه وتقدمه، ولم يقتصر على طريقته التي وجده عليها، بل أخذ فيه بأسباب الاختراع والابتداع والتحسين والتهذيب، وأنشأ له طريقة جديدة بحسن اجتهاده ورقة ذوقه. «من الناس من يهبه الله سجية الإحسان ومزية الإتقان فينصرف إتقانه وإحسانه إلى الفن أو الصناعة التي اختارها لنفسه فيحسنها ويتقنها ويتحول بكليته إليها، ويغفل في نفسه ما عداها من مغارس المحاسن ومنابت الفضائل ومكامن المكارم فيعيش غفلاً منها، وإن كان نابهًا في صناعته فيلقى الناس منه ما يسوء من أخلاقه بقدر ما أحسن من صناعته، يرضيك حسنه من باب، ويسخطك قبحهُ من عدة أبواب، فترى الشاعر يرتقي في عالم شعره فيسبق فيه من يباريه ويعلو قدره على سواه، فإذا عطفت نظرك إلى أخلاقه وجدته أحط الناس فيها درجة، وأدناهم منزلة، وأردأهم سيرة في المخالطة، وأسوأهم معاملة في المعاشرة، وتجد هذا الذي لم يكتف بعلم الحقيقة في الجمال حتى تجاوزه إلى عالم الخيال أبعد الناس عن جميل الفعل وكريم الخصال، وترى المصور الذي يباري محاسن الطبيعة بحسن المحاكاة في جمال النظام ولطف الانسجام يكون فيما عدا ذلك أخرق أحمق شرس الطباع سافل الأخلاق، وترى العالم يصعد بعلم إلى عالم الفضائل والحقائق، ثم ترذل أخلاقه بالغلظة والجفاء وتسوء بالتيه والضلال وتراهم جميعًا قد ارتكنوا في طبقاتهم على فضلهم في صناعاتهم وفنونهم، وأهملوا بقية الفضائل وبعدوا بنفوسهم عن جمال التهذيب وحسن التثقيف، فإن تحمل الناس منهم سوء الأخلاق ظاهرًا للمزية التي انفردوا بها فإنهم لا يتحملونها باطنًا يرضونهم بالوجوه ويبغضونهم في القلوب، أما إذا التفت المتقن لفتة المحسن في صناعته إلى تهذيب بقية أخلاقه وصفاته إلى تحسينها، وصرف إلى ذلك بعض همه بما أوتيه من سجية الإتقان ومزية الإحسان وارتقى إلى فضائل الأخلاق ارتقاءه في فنه أو صناعته، فإنه يرضي الناس ظاهرًا وباطنًا وتبلغ مزاياه من قلوبهم المحل الأعلى فتنطوي على محبته وتجتمع على تفضيله في حياته وبعد مماته». «ولما سافر المرحوم في سنة ١٨٩٦ إلى الأستانة العلية وحظي هناك بالمثول في الحضور الشاهاني مرارًا، وأعجب أمير المؤمنين بمهارته في فنه وحسن تأديته له أسنى عطيته، وبَلَّغَهُ حسن رضائه، وكان الواسطة بينهما للتبليغ في ذلك المجلس سماحة السيد أبي الهدى، ومما تلقاهُ عنهُ من أوامر أمير المؤمنين أن يلقّن ما غنَّاهُ في حضرته من الأصوات لبعض ضباط الموسيقى الشاهانية، فلقن المرحوم منه ما أمكنه، ولم يسع الوقت تمام القيام بالأمر، ووعد أنه سيشتغل عند عودته إلى مصر بربط تلك الأصوات برابطة «النوطة»، ثم يعرضها على الأعتاب ليسهل أخذها على ضباط الموسيقى، وأهمل المرحوم مدة وجوده في الأستانة التردد على سماحة السيد، واجتمع ببعض المتزاحمين معه على الأعتاب الشاهانية، ورغب كل واحد منهم أن يكون له الحظوة بتقديم تلك الأغاني والأصوات عند عودة المرحوم إلى مصر وإرسالها إلى الأستانة، فلما عاد أتمها عشرين صوتًا (دورًا) مربوطة بالنوطة ثم تردد في كيفية إرسالها، وخشي أن يغضب أحدهم باختيار سواه عليه في تقديمها فامتنع عن إرسالها لهم جميًعا، وأرسلها من طريق رسمي، فأسرَّها له السيد في نفسه، ولما ذهب إلى الأستانة وقابل من قابل مزودًا بالآمال لم يشعر هناك — وهو في مجلس أنس لبعض كبار المصريين من أصدقائه في جهة البوغاز — إلا وقد أحاط به رجال الشرطة فسار معهم وصاروا ينقلون هذا الذي لم ينتقل في عمره من مجلس أنس إلا إلى مجلس سرور طول ليلته، من مخفر إلى مخفر ومن سجن إلى سجن، حتى وصلوا به إلى مأمور الضابطة فأمره بالخروج في الحال من دار الخلافة، وعلم المرحوم مما سمعه من بعض الأعوان الحلبيين من ذكر السيد ووجوب السعي في دوام رضائه، أن الأمر مقصود لمجازاته على إهماله أمر سماحته، فلم يلتفت إلى غير المبادرة إلى إجابة الأمر بالرحيل عن الأستانة؛ فأثرت فيه هذه الحالة وعاد إلى مصر مصابًا بداء البول السكري فانهك قواهُ». وقال أيضًا وكان شهمًا غيورًا شريف السيرة يغار لنفسه ولأعراض الناس لا يبالي في ذلك بهول الموقف وفداحة الخطوب. كان كتومًا للسر مؤاسيًا لعائلته طلق الوجه طليق اللسان يصيب غرضه بحسن بيانه حتى لقد قيل عنه: إنه لو كان سفيرًا لدولة من الدول لما تعقد عليه أمر في السياسة، فكان خفيف الروح متوقد الذهن، مات والناس إجماع على تفضله والقلوب مرتبطة بمحبته. فما روضة غناء كأنها غادة حسناء قد افتتن في تصويرها الجمال وجعلها للناظرين كالمثال، فالغصن قدها والورد خدها، والرمان نهدها، وعليل النسيم عهدها، والكرم شعرها، والأقاح ثغرها، انتهت فيها غافية حمام فوق نمارق الأغصان والأكمام آخر الليل وقد عسس، وأول الصبح وقد نفس، فلما رفعت طرفها وجدت بجانبها إلفها بعد أن نأى عنها مكانًا، وفارقها زمانًا، فزال عنهما ألم الشوق، والتف الطوق بالطوق، وهتف منشدان فوق خرير الماء قصيدة على روي الراء، أودعاها ما أرادا من معاني العشاق في وصف صلة الوصل بعد الفراق، ومن حولهما بقية الأطيار ترجع إنشادهما ترجيع الأوتار تهزه على كل غصن مائس كأنها القيان تزف العرائس بأطرب من صوتك في الآذان، وألذ من ذكرك بين القلب واللسان، وما أحرى من سكان الأشجار وذوات الأوكار غادرت أفراخها من وكرها في ليلة موصوفة ببردها وحرها تلتمس لهن شيئًا من القوت، وقد عز كالياقوت، فوقعت من الأمطار في شبكة منعتها عن السعي والحركة إلى أن غادرتها العهاد، وأمكن لها الإرشاد، فعثرت لهن على نزر من الحب، ودت لو زيد فيه حبة القلب فراحت إليهن ولا الظافر بتاج الملك، ولا الناجي مع نوح في الفلك، فوجدت السيل قد أتى على الشجرة فاقتلعها، وعلى الأفراح فابتلعها، وبينا هي بين تصعيد وتصويب وحنين ونحيب إذ أنقض عليها صقر أنشب في طوقها أظفاره، وغمس في جوفها منقاره فاجتمعت عليها صنوف الآلام: آلام الأرواح، وآلام الأجسام بأوجع في قلوب رفاقك من يوم فراقك.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/21/
آراء أعضاء المؤتمر الموسيقي المنعقد سنة ١٩٣٢ في الموسيقى العربية
قال جناب البارون كارا دي فو في خطابه في حفلة اختتام المؤتمر ما ترجمته نقلاً عن كتاب مؤتمر الموسيقى العربية لوزارة المعارف العمومية: «إن الموسيقى الشرقية علم عظيم وليست موضوعًا يمكن استيعاب البحث فيه في يوم أو في ثلاثة أسابيع، ويشعر الإنسان بهذا التأثير إذا ألقى نظرة على فهارس الكتب الموسيقية القديمة». إننا لم نواجه مبحثًا أكثر أهمية وأعظم شأنًا من مسألة تأثير الموسيقى الشرقية في الموسيقى الغربية في القرون الوسطى. إن جميع مجموعات الآلات الموسيقية لعمل شاق يستلزم السنين الطويلة — وقد بدأت مصر — ولله الحمد — الخطوات الأولى منه، وأشارت لجنة الآلات بالإرشادات والمعلومات اللازمة لذلك. هذا ما يخص المسائل الواسعة المدى. أما المسائل الدقيقة بل الشائكة — إن أردت — فأهمها اثنتان: تتابع المقامات، وإمكان الامتناع بأرباع الأصوات بالتقريب. وهنا لا يكفي العلم وحده بل تدخل عناصر فنية وبسيكولوجية. غير أننا نستطيع أن نبذل المعونة للموسيقيين الشرقيين ليجتنبوا المناقشات غير المنظمة بما نبث في نفوسهم من طريق البحث والتحليل على النمط الأوروبي، وإني أذكر مثالاً لذلك الصوت المعروف بالسيكاه الذي أثار مناقشات حادة وهو الصوت الثالث من ديوان المقام، ويظهر أن الموسيقيين الشرقيين يريدون أن يثبتوا سيكاه وحيدة مطلقة، أو مثلاً أعلى للسيكاه، وقد قال لهم العلماء الغربيون حللوا وميزوا لأن سيكاكم يمكن تغييرها مع المقامات، حتى أن المقامات نفسها تختلف باختلاف البلدان، ولقد وجدنا بعد التجارب أن مقام الراست والسيكاه على حسب العزف عند كبار المغنيين مرتفعين قليلاً في سوريا عن مثيلهما في مصر، وهما في تركيا أكثر ارتفاعًا منهما في سوريا، وعلى العموم قد تحققنا أن في مصر استعدادًا فطريًا لدى المغنين والعازفين للاقتراب من الصواب. ا.هـ. وأكبر مزية سيخلدها لك تاريخ الفنون الجميلة إلى دهر الداهرين القرار الإجماعي الصادر من أعلى منبر في هذا المؤتمر بحماية الألحان العربية من العجم، تلك التي كادت تبتلعها وتقضي عليها القضاء الأخير، وما حماية الألحان إلا حفاظ لروح القوم الخالدة. وفيك يا مصر يرجى الحفاظ، وها نحن أولاء من خلف أعوان وأنصار. وقبل أن نختتم هذه الكلمة نرى من واجب الضيافة الكريمة التي حبينا بها في وادي النيل من جلالة الملك المعظم وحكومته وشعبه أن نرفع لهم جزيل الامتنان ووافر الثناء على ما لاقيناه من الحفاوة والإكرام. وكذا للنتائج الغالية التي سنعود بها إلى أقطارنا رافعي الرؤوس ونفوسنا ممتلئة إعجابًا بأننا أعدنا إلى الشرق — على يد مصر — ميزته الفنية وألحانه الشجية وتراثه القديم. فدومي يا مصر لنهضة الشرق وذويه رافلة في مطارف العز والبهاء للحضارة والجمال والخلود. ا.هـ. واسمحوا لي أن أقول كلمة في الختام، لما كنت قد وقفت حياتي على خدمة الموسيقى العربية، أعني القديمة منها، فإن هذا المؤتمر كان سبب مسرة خاصة لي إذ قد جعل الأماجد من رجال الثقافة العربية في العصور الغابرة يحيون مرة أخرى، وإن سماع الموسيقى الرائعة التي وضعها أسلافنا الموسيقيون الذين قضيت سنين عدة في الكتابة عنهم أدخل على قلبي سرورًا عظيمًا، وإني بالرغم من صعوبات كثيرة أشعر عن يقين أن هذا المؤتمر سينتج ثمارًا دانية القطوف. نعم لقد كان هناك تضارب في الآراء، ولكنا نستطيع مع شيء من الصبر والتسامح أن نجد طريقًا أمينًا للمستقبل. وهناك أمر واحد لا ريب فيه وهو أن الموسيقى العربية لا تستطيع أن تقف جامدة، فالمدينة العصرية مع تياراتها الجارفة التي لا تعوقها العقبات ستدفع الموسيقى العربية إلى التقدم إلى الأمام، وعلينا متى ظهرت بوادر هذا التقدم أن نحرص على أن تسلك طريقًا بحفظ روحها الوطنية وطابعها؛ لأن فقدانها ذلك الميراث المجيد يعد كارثة عظيمة. وعلينا أن نمنع وقوع هذا ويجب أن تُعْنَى مصر بالمحافظة على ذلك المجد. فهي التي أنبتت الحسين بن علي المغربي والمسبحي في القرن الخامس بعد الهجرة، وقد وضع كل من هذين المؤلفين كتبًا على طراز كتاب الأغاني العظيم لمؤلفه أبي الفرج. ومصر هي التي أهدت إلى العالم الإسلامي الفلكي الشهير ابن يونس الذي وضع أيضًا كتابًا خاصًا في تمجيد العود بعنوان: «العقود والسعود» ومن أرض النيل المبارك خرج ابن الهتيم الذي وضع الشروح الوافية والنقد الصحيح لنظريات إقليدس الموسيقية. وفي هذه البلاد عاش أيضًا أبو الصلت أمية. وقد كانت رسالته في الموسيقى على جانب من الخطورة؛ إذ ورد ذكرها واستشهد بها في الكتب العبرية. وقد كان البياسي المعدود من أخصاء الفاتح العظيم صلاح الدين موسيقيًا بلغ شيئًا من الإجادة، وعلم الدين قيصر الذي كان من أبناء مصر كان أشهر أهل عصره في نظرياته الموسيقية. ثم ابن الطحان وهو مصري آخر وضع مؤلفًا في الموسيقى ربما كان أهم ما وضع من نوعه؛ لأنه يبحث فيه في تاريخ الموسيقى ونظرياتها جنبًا إلى جنب، وجميع هؤلاء عاشوا قبل القرن السابع للهجرة. واليوم وذكريات الأسابيع الثلاثة الماضية لا تزال ماثلة بجمالها أمام أعيننا، نشعر أن مصر ستتخذ مرة أخرى مركزًا ساميًا ممتازًا في طليعة البلدان في عالم الفنون الإسلامية، فترسم الطريق في هذا الفن الشريف المجيد لغيرها من البلدان العربية وتنقش اسمها على تاريخ الموسيقى في الأقطار الشرقية. ا.هـ. إن التبادل المستمر في الشعور والأفكار بين الأمم القريبة والنائية قد حصل في غالب الأحيان بواسطة الفنون؛ لأن الفن له مزية قائمة بنفسها وجدت بوجود الإنسان، وجعل لها الأقدمون صبغة روحية؛ فقد قال القديس أوجستان: «إن الفن موطنه الروح فلا ينفصل عنها»، وقد اهتم علماء إيطاليا بفنون الشعوب كلها؛ لأن إيطاليا الحديثة الناهضة تعلمت كيف تفكر للوصول إلى مطالبها العالية، وتمهيد السبل لمثلها في باقي الشعوب. والفن الشرقي له صبغة شخصية في غاية الطلاوة. ففي الفنون الحسية نرى الخطوط والدوائر مرسومة على ألوف من الأشكال البديعة التي أحدثت في الغرب تأثيرًا فنيًا مهمًا، ولما اكتست هذه الفنون بالأنغام الشرقية التي تمكنت من استعمال أدق الأبعاد التي بين صوت وآخر وأتقنتها ولدت في الغرب حاسة الخيال المبدع. وقد كان في إيطاليا في العصور الوسطى نزعة قائمة على نقض الأنغام الكروماطيقية والهارمونية والاقتصار على الدياطونيقية، ولكنا نشاهد في العصور الحديثة حركة يقصد بها العود إلى الأنغام المهملة؛ فاتجهت لذلك الأفكار إلى الشرق، لأن الروح الموسيقية التي تكتنف الأرض وتصل الشعوب بعضها ببعض قادت الأفكار في هذه المرة أيضًا إلى المسلك القديم الذي سلكه الفن، وهو الاتجاه دائمًا من الشرق إلى الغرب. يا أيها الأماجد إن معرفتكم لتاريخ هذا الفن وعلومه التي لم تزل غامضة علينا بعض الغموض سيكون لها في هذا المؤتمر شأن عظيم، فإن نهضتكم الموسيقية وأعمال سلفكم ومؤلفات علمائكم كشرف الدين هارون وغيره مما لم ينشر فوائدها بعد سيكون لها عظيم من البحوث والتنقيب في هذا المؤتمر الذي دعوتم إليه علماء أوروبا. ومن البدهي أن انتشار العلوم يساعد على المحافظة على الفنون. وقد ذكر ذلك القديس السالف الذكر «أن العلم المجرد عن الفن إنما هو معرفة سطحية»؛ لذلك أرى أن رقي الفن الذي هو ضالتكم المنشودة سيكون ضالة المؤتمر أيضًا ا.هـ. فهذه البلاد التي نشأت قبل بلاد الغرب تريد الآن أن تقاسمها الحياة، وأن تتبوأ بينها المكان اللائق بها، فهي الأم التي تجدد صباها وأصبحت تعد نفسها أختًا لبناتها. وهاك شعار المؤتمر والروح التي تتجلى فيه عن مصر. إن هذه البلاد التي نعجب بجدها ونشاطها ترغب في ترقية موسيقاها وتجديدها. وهي التي غذت منذ ألف عام الموسيقى الأوربية. وقد تفضلتم جلالتكم فدعوتمونا وأدركتم مع منظمي المؤتمر أن هناك صعوبات جمة تقف في سبيل إصلاح الموسيقى العربية. لكنكم ذللتم هذه الصعوبات وتحملتم أعباءها؛ لأن الغرض هو توسيع نطاق فن الموسيقى العربية دون التورط في تقليد أوربا تقليدًا أعمى. فعلينا أن نسعى في هدوء إلى الرقي الذي ننشده؛ لأن الطفرة بعد انقضاء ألف عام كثيرة الضرر، كما يجب علينا أن نضع أسلوبًا جديدًا دون أن نهمل شيئًا من التراث النفيس الذي خلفته لمصر هذه الأجيال الكثيرة. «إن للسعادة مظاهر تتم عنها، والموسيقى واحدة منها، لا يجوز إسقاطها، فإن الشعب الذي يغني لهو شعب سعيد، وفي عرفنا أن الترقية والتجديد لا يستلزمان حتما هدم القديم، بل نحن نعد جرمًا كل مساس بهيكل الموسيقى العربية القديم ونريد هذا الفن الجميل الذي ازدهرت به عصور الحلفاء الأقدمين، وتناقله الخلف عن السلف بعناية حتى وصل إلينا، نريد أن يحتفظ بصبغته التقليدية، وأن يبقى فنًا عربيًا حقًا». ا.هـ. وإن اجتماع هذا المؤتمر وما ضم من العلماء ومن مختلف البلدان الغربية والشرقية المطلعين على أسرار فن الموسيقى العربية المحبين له واجتماعهم في صعيد واحد بالقاهرة عاصمة مصر لما يقدم لنا برهانًا جديدًا على أن التعاون الفكري بين جميع الأمم، وفي جميع نواحي النشاط العقلي من علم وفن وصناعة يؤدي إلى أحسن الثمرات. والحكومة المصرية تلحظ بعين السرور أن علماء الغرب في معاونتهم للشرق إنما يعاونونه لينهض في حدود مدنيته، ويرقى إلى أسمى الدرجات في دائرة تقاليده بغير أن يعتور مميزاته الخاصة تغيير أو يلحقها فساد. ولقد حوى تقرير لجنة التعليم بيان القواعد الأساسية لتعليم الموسيقى العربية ودراستها والآلات الواجب استعمالها والوسائل المؤدية إلى ذلك من حيث التدريس والمؤلفات. وعنيت بصفة خاصة بحث المؤلفات الموسيقية التي وضعها الشبان المؤلفون المصريون، ونصحت لهم أن يتجنبوا الطريق الذي سلكوه لتكون الموسيقى عربية خالصة من ألوان الموسيقى الغربية. وقدمت لجنة التاريخ الموسيقى والمخطوطات بيانًا وافيًا للمخطوطات العربية الهامة التي تجب العناية بدراستها والرجوع إليها لمعرفة تاريخ الموسيقى العربية وأصولها، وتحقيق الغاية التي ينشدها المؤتمر بإحياء مجد الموسيقى العربية، كما بينت فيه ما ترجم وما نشر من تلك المخطوطات. أما لجنة المسائل العامة فقد عُنيت ببيان الوسائل المؤدية لترقية الموسيقى العربية والوصول بها إلى الدرجة المبتغاة لها من رفعة الشأن مع الاحتفاظ بطابعها ومميزاتها.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/22/
شعور المغفور له سعد زغلول باشا
دعى عبده في المدة المتراوحة بين سنتي ١٨٩٦–١٨٩٩ للغناء في أسيوط بدار الدكتور: حبيب بك خياط احتفاءً بزواجه بابنة الوجيه المرحوم: ويصا بقطر، فاعتذر عن قبول الدعوة لارتباطه بإحياء حفلة زفاف ربة الصون والعفاف كريمة المرحوم: مصطفى باشا فهمي — رئيس مجلس الوزراء الأسبق — (صاحبة العصمة صفية هانم) إلى سعد بك زغلول (آنئذ)، فغنى دور «أنا من هجرك أحكي خصرك. ولي أنت الآمر الناهي»، وكأنه بإيحائه تنبأ بزعامة سعد زغلول للأمة المصرية الكريمة، كما أنه غنى دورًا آخر نظم: إسماعيل باشا صبري وكيل الداخلية وقتئذ: عشنا وشفنا سنين ومن عاش يشوف العجب غيرنا تملَّك وَصال (بواو العطف) واحنا نصيبنا خيال فين العدل (كررها ثلاثًا) يا منصفين، بلهجة الغضب مصورًا بنغماته الحماسية، وشعور الأمة الوطني، مما كان يحيط بالبلاد من ظروف وانفعالات ذودًا عن حوزة الوطن العزيز، على أنه لا يعزب عن البال من طريق الاستنتاج أن نغمات المطرب كالشاعر والمصوّر أصدق دلالة على ما في نفسه من عوامل ونزعات وتحفز، ففي هذه النغمات الأخيرة ألفينا عبده شجاعًا أبيًا ووطنيًا حرًا ومصريًا حميمًا، خلافًا لما نجد في نغمات المجددين من خلاعة وتهتك ليس عليها مسحة القومية، ولا هم لهم إلا الكسب والجشع في عصر استنوقت فيه جمالهُ، وأصبح ونساءه رجالهُ يشترينهم بالبائنة بدل المهر ليسيطرن عليهم وينفدن بالأمر والنهي. ولما مات عبده ذهب المرحوم سعد بك إلى دار الفقيد بالعباسية وأراد أن يقابل إحسانه السابق بمعروف لاحق يُسديه إلى عائلته رأفة بحالها بعد فقده، فاقترح تلميحًا على زوجته السيدة جولتار هانم أن يجمع لها بطريق الاكتتاب مالاً يساعدها على تربية أولادها، فأعرضت عن النزول على مقترحة شاكرةً، وقالت له «إن عبده مات غنيًا كما عاش غنيًا وترك لنا ثروة أدبية وفنية خالدة في السماء لا يأكلها السوس ولا تمتد إليها يد سارق. فنعم الزوجة التي آثرت أن ترضى غيرةً على سمعتها بميسور ما تركه لها على أن تُضرب عليها الذلة، وأكرم بعبده بعلا حميّ الأنف قد بثَّ فيها طيلة حياته إباءً وشرفًا وعزة نفس. وشكرًا لك أيها الزعيم الكريم على ما قمت به من ثواب، وأظهرته من كريم الشمائل ورقة العواطف، ووثيق العهد نحو من أنسته المروءة نفسه، وكرس للخير حياته التي عدها ملكا مشاعًا بين قومه، وأهلك نفسه ليحفظ غيره، قدّس الله روحيكما وأسكنكما فسيح الجنان».
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/23/
تراجم حياة أشهر الموسيقيين والمطربين في مصر
ولد المرحوم الليثي في الإسكندرية سنة ١٨١٦ ومات سنة ١٩١٣. وكان والده «قانونجيًا» شهيرًا وبعثه إلى أحد الوزانين «القبانية» ليتعلم بدكانه القراءة والكتابة. ولما وجد الأخير أن تلميذه ليس بقارئ ولا بكاتب ومادام عديم الميل إلى العلم لا يضطلع بمزاجه حفظ، أشار عليه بأن يتعلم فنًا من الفنون الجميلة كالموسيقى فاختار لنفسه «العود»، وبدأ والده يعلمه العزف عليه على طريقة القانون بواسطة السمع لا الأصبع كما هو المتبع فيما إذا كان المعلم عوادًا، فأدرك شيئًا من العلم بادئ بدء واستعان أخيرًا بفطرته الطبيعية على الابتكار دون التقليد في تصوير النغمات، ثم حضر إلى مصر ولم يكن فيها تخت للآلات الوترية معروفًا سوى تخت المرحوم: منسي الكبير، والد الأستاذ: قسطندي منسي، والتحق بسراي ساكن الجنان الخديو إسماعيل كمعلم، وانضم إلى «ألمظ» وعبده الحمولي، وكان الوحيد في تصوير نغماتها، وفي التقاسيم المعتاد البدء بها على عوده بدلاً من القانون، بالرغم من وجود قانونين على تخت عبده، ولم يشتهر سواه في تصوير النغمات بالأصابع دون الريشة؛ لأن العادة المتبعة في الأستانة أن تستعمل الريشة للعزف ابتداء من التقسيمة أو خلافها من القطع لغاية التسليم (أي النهاية)، وهذه الطريقة تسمى «بالمزراب» وقد خالفها الليثي في مصر بأن استعمل الأصابع دون الريشة لاستخراج الأصوات، وتسمى طريقته «بالبصم» ولا يخفى على اللبيب ما لطبيعة الأصابع من لين وحنان، وما للريشة من يبوسة. وكان قصير القامة مليح الوجه تتوسم فيه مخايل الكرم، ويعدّ عبقريًا في العزف على العود رحمهُ الله رحمة واسعة. ولد المرحوم: محمد عثمان بن الشيخ عثمان حسن المدرس بجامع السلطان أبي العلا حوالي سنة ١٨٥٥ في مصر، وأدخله والده في ورشة برادة ليتعلم صنعة يرتزق منها، ولما آنس فيه شديد الميل إلى الغناء وسمعه يقلد المنشدين في الأذكار أخرجهُ منها وضمَّهُ إلى تخت الأستاذ: منسي الكبير، والد الأستاذ: قسطندي منسي الذي تخرج عليه في العزف على العود، والتدرّب على الغناء، وتركه بعد وفاة والده ليشتغل على تخت: علي الرشيدي الكبير، ومكث مع الأخير مدة طويلة تعمّق في خلالها في البحث الفني، وتبسط في التلحين إلى أن كوّن تختًا خاصًا به، ولما فقد صوته من جراء مرض أصابه عهد إلى التلحين؛ فتصحفه المحترفون والهاوون، فإذا هو محكم الوضع متناسق النغمات، وإليكم مجموعة مقطوعاته الغنائية المبينة بالجدول الآتي: «أما بسحر العين» و«المطر يبكي يا ناس لحالي» و«متِّع حياتك» و«نور العيون شَرف وبان» و«بدع الحبيب كله يطرب» فهي منسوبة للمرحوم: عبده الحمولي كما قرر ذلك الثقة الأستاذ: داود حسني الملحن الكبير، وقال أيضًا إن مقطوعة الحبيب لما هجرني قديمة، وليست لهُ، ولا يفوتني أن أذكر أن محمد عثمان ابتدع طريقة خاصة به تسمى «الهنك» في الغناء، التي يردّد فيها رجال تخته المذهب نفسه أو غير ذلك ليتسنى له التنفس والراحة في أثناء ذلك استعدادًا للإبداع، وقد ذهب مع عبده إلى الأستانة، وقد بكاه الأخير على ما كان بينهما من تباغض وتنافس عندما بلغه نعيه وهو في سوهاج بوابور حسن بك واصف يوم ١٩ ديسمبر سنة ١٩٠٠. وقد روى لي الأستاذ داود حسني أن محمد عثمان على ما كان معجبًا بنفسه لانتشار تلحينه لا يعنو لمشاجرات العصبجية من أهل الحسينية، وأهل الجمالية في أثناء الحفلات والأعراس لصرامة بأسه وصلب عوده، ولم يقم لأي أمر وزنًا، ولم يعظم أحدًا إلا عبده، فإنه كان يسميه لدى رجال تخته «الأفندي بتاعنا»، ولو كانت له صورة فوتوغرافية لتشرّفت بوضعها في صدر مقالي هذا، ويعدُ أكبر ملحن في عالم الغناء رحمه الله رحمة واسعة. وُلد المرحوم يوسف خفاجي المنيلاوي حوالي سنة ١٨٥٠ بمنيل الروضة في القاهرة، وحفظ ما تيسر من القرآن الشريف، وأَلِفَ منذ حداثته الإنشاد الذي اقتبسه عن الشيخ خليل محرم و الشيخ محمد المسلوب، ولما ظهر نبوغه في هذا الفن لما له من صوت حسن رخيم ولين أشار عليه المرحوم عبده بترك الإنشاد لممارسة الغناء؛ فاندمج في سلك المطربين وأخذ عن «عبده» و«محمد عثمان» أدوارهما الملحنة وغناها على تخته الخاص، وانقطع عن الإنشاد إلا في حفلات مولد النبي، وتشييع الكسوة الشريفة، وليالي شهر رمضان في منزل آل البكري، فكان ينشد فيها الأدوار الخاصة بالذكر حتى إذا تمزَّق ستر الليل غنى القصيدة التي مطلعها: وقد سافر إلى الأستانة سنة ١٣٠٥هـ. وغنى السلطان عبد الحميد لأول مرة القصيدة المشهورة التي مطلعها: وأُنعم عليه بالنشان المجيدي وقد أعطى صوته سنة ١٩٠٨ لشركة عمر أفندي، وكُتب على اسطواناته لفظتا «سمع الملوك» وعبَّأتْ له شركة «جراموفون» سنة ١٩١٠ عدة اسطوانات مازال الناس يتداولون سماعها بالفونوغراف، ومن طريق الإذاعة اللاسلكية الحكومية، وقد اشترى قطعة أرض بكوبري القبة بنى عليها منزلاً جميلاً بجوار منزل آل السيوف باشا، وقضى نحبه يوم ٦ يونيو سنة ١٩١١. ومن لطيف النكت أن أُتحف القارئ برواية طريفة نقلاً عن جريدة الاتحاد العثماني البيروتية التي نعت الشيخ يوسف المذكور وذكرت بها ما يأتي بنصه: أن بعضهم سمع في الليلة الماضية صوت الفقيد في الفونوغراف ينشد قول الشاعر «فلا كبدي تُبلى» فقال سبحان الله ميت يتكلم وقد بُليتْ كبده، وهو يقول «فلا كبدي تُبلى» فسبحان مَن أنطق الجماد وأمات المتكلم وعلم الإنسان ما لم يعلم. كان الشيخ: محمد الشنتوري منشدًا عظيما وهو أقدم عهدًا في الإنشاد من الشيخ: يوسف المنيلاوي، ومعاصر للشيخ: خليل محرم، وكان قوي الصوت، حر الخلال ومحبوبًا من جميع الناس، ثم احترف الغناء على التخت، وأخذ عن عبده الحمولي تلاحينه وأدواره الخاصة، وأحسن غناءها حتى أشار الأخيرة على أنصار الفن بأن يسمعوه من بعده واستمر يزاول الإنشاد مع الغناء، وذهب إلى الأستانة مرة وغنى في حضرة السلطان عبد الحميد، فأسنى له العطايا وأنعم عليه بالنياشين. ابن سالم من قراء القرآن وعاش نحو ١٢٠ سنة وكان يسكن في جهة المغربلين. واحترف الغناء لكثرة سماعه إياه من كل من محمد المقدم، وموسى اليهودي في ليالي الأفراح والحفلات، وكان صوته حسنًا لينًا ورنانًا، وكان يأخذ الأغاني عن المقدم وعبده الحمولي ومحمد عثمان، ويسبك أدوارهم سبكا محكما، ويعتبر مغنيًا جيد الأداء حسن الترتيب دون أن يكون فنانًا، وقد ذهب إلى فلسطين في سنة ١٩٠٠ وغنى في يافا وغزة وأخذ بمجامع القلوب هناك، وكان يعزف على العود ويغني منفردًا وكان محمود الشمائل. كان من أغنياء البلد، ومن هواة الناي الذي تعلمه عن رجل إسلامبولي (مولوي) اسمه دادا وتفوق على أستاذه، ولما قلب له الدهر ظهر المجنَّ اضطر إلى احتراف العزف في الأعراس والحفلات، وتزوج بإنكليزية توفيت بعد أن خلفت له ولدًا ذكرًا وثلاث بنات، وقد اعترف عبده الحمولي له بالعبقرية في العزف على النار بدار الوجيه موسى بك عصمت نجل المرحوم جعفر باشا، وقد حضر عثمان الموصلي الفنان المشهور إلى مصر خصيصًا ليسمعه وهو في حلوان، ولما سمعه بمنزل عثمان باشا غالب الذي كان يحسن إلى الموسيقيين، ويعد من محبي الغناء العربي بعد أن أبطأ ونوَّط الروح تيهًا ودلالا، دهش من مهارته التي أنسته ما حصل منه من تثاقل وتباطؤ. تعلم الكمان عن حسن الجاهل الكماني والربابي الذي طار صيته في الآفاق في العصر الذهبي لساكن الجنان الخديوي إسماعيل، وكان والده المدعو سليمان سهلون قانونجيًا معروفًا. واستمر إبراهيم يشتغل على تخت عبده زمنًا طويلاً — (انظر صورته بتخت يوسف المنيلاوي). ابن مصطفى العقاد الكبير العواد تخرج على والده ونبغ في العزف على القانون نبوغًا لا يجاريه فيه أحد بما أوتي من روح وخفة أصابع، وتزوج بابنة عبده الحمولي بعد وفاته، ولما زفت إليه عروسه بدار باسيلي بك عريان بالفجالة كان طروبًا فرحًا، وصاح وهو على التخت قائلاً على رؤوس الأشهاد أنه تزوج ابنة سيده، ويعتبر أول العبقريين في العزف على القانون، وأن كل من تصدَّى لمجاراته من المحترفين المقلدين ولو اغترف من فضالته باء بالفشل المبين؛ لأن المسألة مسألة روح واستعداد فطري وخلو الأصابع من الملوحة ودقة معرفة للدوزان، وعاش ثمانين سنة، ومما نطقت به شواهد الحال أن حفيده محمد العقاد سيكون له مستقبل باهر في القانون أسوة بجده، ولو لم يمضي عليه في العمل أكثر من ست سنوات — (أنظر صورته بتخت يوسف المنيلاوي). كان صاحب صوت قوي وعالٍ، وكان يغني بروح قد لا توجد في كثير من المغنين، وكان يغني بحسب كيفه والموسيقى دوزان كما قال: موزارت ويعرف في الأوساط الموسيقية بأنه مغنٍ غير فنان، وكان الجمهور يلاحظ منه في أثناء العمل نزقًا وزهقًا يؤديان به غالبًا إلى مغادرة التخت والانصراف قبل نهاية السهرة، وكان يذهب مرارًا عديدة إلى دار المرحوم باسيلي بك عريان ليسمع بالاسطوانات القديمة قصيدة «أراك عصي الدمع» التي ألقاها عبده الحمولي. بدأ حياته بقراءة القرآن ثم تدرج إلى فن الغناء شيئًا فشيئًا ونبغ نبوغًا تامًا في إلقاء القصائد على طريقة المرحوم عبده الحمولي الذي عني بتقليده فيها، وفي سائر أغانيه الساحرة، وقد تخرجت عليه الآنسة أم كلثوم في القصائد مثل: وحقك أنت المنى والطرب. وقد عبئت له عدة اسطوانات في بعض الشركات، ومنها شركة الجراموفون التي عبأت له في سنة ١٩١٢ قصائد كثيرة مثل: غيري على السلوان قادر. وأفديه إن حفظ الهوى. ومواليا وخلافها. ويا مليح الحلى. لم يعزف على العود قط وكان غناءه بادئ بدء مقصورًا على أصدقائه في منازلهم وفي بعض الحفلات، ولما اشتهر اسمه بعد تعبئة الشركات لاسطواناته اشتغل بالغناء على التخت، وقفا إثر عبده غريد الشرق سيد المطربين في بعض ألحانه.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/24/
الموسيقى فن سماوي
الحمد لله الذي خلق الإنسان خلقًا سويًا وسخره لتسبيحه وجعله موسيقيًا بارعًا، وجعل الكون بمثابة أرغن يحتوي على أنابيب قوية، ومزارد مكونة من الفضاء الفسيح اللانهائي والزمن والأبدية، وحسبك ما أنشأه مبدع الكائنات في الطبيعة من تناسب في المسموع كالسلم الموسيقي المؤلف عادة من سبع نغمات تتوالى من القرار إلى الجواب، وتلذ السمع وفي المنظور كالألوان السبعة الأساسية لقوس القزح التي تبهج النظر ولا تصل إلى محاكاتها مقدرة الفن، وتقسيم الزمن على قياس مضبوط، وجعل أيام الأسبوع سبعة معدودة، والأغرب أن الإنسان إذا بدرت من صوته نغمة ما تلقفتها الطبيعة وتمهلت ونقرتها بأصبعها لتختبرها هل هي من الغث أم من السمين؟ ولا ترد صداها موزونة متناسبة إلا بعد تنقيحها وتصحيحها، وحسبك الإنسان المخترع المبتدع الذي يعد أجمل المخلوقات صورة وأنضرها شبابًا وأعدلها خلقًا وأصغرها حجمًا وأحلاها صوتًا والذي استولى على مقاليد الطبيعة الطافحة بالأنغامآ وحاكى على ضعف جسمه وصغر حجمه مالها من قدرة وجلال، وجعل الأثير رسول خواطره وبريد نغماته وانفعالاته، وأصبح خدنًا لها ومتسلطًا على جوها وبرها وبحرها حتى إذا وضع أنامله الصغيرة على مفاتيح الأرغن قصفت في العالم على أصوات متجانسة متناسبة ومتتابعة رعود متعددة تثير في الخليقة كلها ضجيجًا حماسيًا يفضي بها في النهاية إلى حاد الهتاف وحار التسبيح باسم ربك الأعلى. وإثباتًا لما قاله كارليل في أن الموسيقى مركبة للنبوة أبادر إلى إيراد قصة النبي إليشع التي تدل صريحًا على أن المواهب النبوية يصحبها غالبًا هياج جسدي وعقلي هو من القوة بمكان ويُعهد إلى الموسيقى وحدها في إنتاجه؛ وذلك أنه لما دعاه ملوك إسرائيل الحلفاء ويهوذا وإيدوم ليتخلصوا من مخاطر الحرب الناشبة بينهم وبين ميشا طلب منهم أن يأتوا له بموسيقي ليعزف أمامه على آلته الموسيقية استحضارًا لروح الإلهام النبوي، وقد شوهد ذلك جليًا بما ثارت في نفس إليشع من نزوة الإيحاء النبوي عندما سمع صوت الموسيقى التي بواسطتها تمت لهم جميعًا أسباب النجاة من ويلات تلك الحرب الضروس. ومما لا شك فيه أن سفر التوراة يُعد أعظم الأسفار الشعرية طلاوة وأصفاها ديباجةً في عالم البديع وأكثرها احتواءً على الموسيقى صوتيةً كانت أو وترية، وحسبك ترنيمة الانتصار والشكر التي رنَّمت على ضفة البحر الأحمر (إصحاح ١٥ خروج من ١ إلى ٢١) وهي الترنم للرب لأنه تغلب على فرعون وجنوده حينئذٍ رسم موسى وبنو إسرائيل هذه التسبيحة للرب، وقالوا «أرنم للرب فإنه قد تعظَّم الفرس وراكبه طرحهما في البحر» ولا يعزب عن البال أن سفر العهد الجديد يحتوي على مثل هذه الثروة الفنية على حد ما جاء في رومية ١٥: ١١ «سبحوا الرب يا جميع الأمم» من أفواه الأطفال والرُضَّع قد هيأت تسبيحًا «سبحوا الرب بالمزمار والقيسارة». وقد جاء في القرآن الكريم ما يأتي وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وفي سورة الحديد سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وخاطب النبي الله سبحانه وتعالى وقال فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ، وفي سورة المزمل يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. وعند قراءة القرآن فقد قال رسول الله ﷺ حسنوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا، وكان داود عليه السلام يقرأ مزاميره بالألحان حتى أن بعض الطيور كانت تقع وتموت من شدة الطرب؛ لأنه كان حسن الصوت، وكانت أصوات الأنبياء كلها حسنة ذهابًا إلى ما قاله النبي ﷺ ما بعث الله نبيًا إلا حسن الصوت والمزامير، وقد رُوي عنه أيضًا ﷺ «قد أوتى مزمارًا من مزامير آل داود» وقد اتخذ بلال الحبشي (الذي كان أول من اعتنق الدين الإسلامي) موذنًا له، لما وجد فيه من حسن الصوت فكان يقول له أذن يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً. على أن مارتن لوثر اللاهوتي القدير والزعيم الكبير فقد أبان للملأ الوظيفة المهمة التي تؤديها الموسيقى في المجتمع من إلانة الطباع وتهذيب الأخلاق وتسكين الهياج، وقال على رؤوس الأشهاد ما يأتي: إني أفسح بكل سرور للموسيقى بعد علم اللاهوت المكان اللائق بها. ويستنتج مما تقدم أنها لغة الأنبياء وينبوع العواطف النبيلة، بل هي فن سماوي، ومن ظنَّ أنها إلهية يُتلهى بها قتلا للوقت وعدها أداة للسخرية فهو في ضلال مبين، ومن اعتقد أنها مفسدة للأخلاق ومؤذنة بخراب العمران ويمكن الاستغناء عنها فهو أضل سبيلاً. فعلينا أن نتأمل ما نراه جميعًا ماثلا أمام أعيننا في الطبيعة من ثروة الجمال المدهشة، وفي مختلف مناظرها من الروعة والبهجة والسحر ما يعبر لنا عن دقة صنع الخلاق العظيم، والانسجام الموسيقي، والتناسق والتناسب بما نسمعه من هدير مياه الأنهار، ومن حركات المد والجزر، ومن حفيف الأشجار وتنهدات نسيم الأسحار، وصياح البلابل، وهطل الوبل والطل، وهبوب الرياح، ونغمات الكواكب عند مسيرها المتناسب في أفلاكها المتنوعة حول الشمس — تلك النغمات التي تختلف باختلاف حجم كل كوكب وتفاوت درجته الاهتزازية عند اجتيازه الأثير — التي تكون إيقاعًا متناسبًا لا يُعرف كنهه على وجه البسيطة، ويُكنى بموسيقى الأكوان، وقد صدق الدكتور فيربون فيما قال: وهو أن الطبيعة طافحة بالأصوات الموسيقية.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/25/
الفوارق
تقدم لي في هذا الكتاب شرح مستفيض عن حياة عبده الحمولي وبيان المزايا التي اختص بها وما انتابه من محن وأمراض على قدر ما أدى إليه البحث وأعانت عليه البصيرة، وإثباتًا لما ذكره المرحوم: إبراهيم بك المويلحي في مصباح الشرق من أنه قلما يوجد مثله من يحسن في صناعته ولا يسيء في أخلاقه، وتسهيلا على القارئ معرفة الفوارق بينهما لتتمهد المقارنة، ويصيب بحكمه وجه الصواب أنشر موجز ترجمة حياة بتهوفن معربًا عن تاريخ حياته بقلم: سليڤان وهو كما يأتي: ومعنى أولهما يقول له «لا تعد تأتي إليّ لأنك شخص كذوب فليأخذنَّك وأمثالك ذباح الخيل الضعيفة». وفي ثانيهما يقول: «صديقي الطيب نازرل. أنت رجل معتبر وإني أرى أنك كنت محقًا ولذا تعال إليَّ بعد ظهر اليوم حيث تجد أيضًا شوبانزيج لكي نمرح ونطرب ونعزف معًا بما يشرح صدرك ويقر ناظرك». وقد كانت لموسيقاه عدة نواحٍ مختلفة منها الناحية الروحية التي عبرت بها عن رؤيا الحياة على حد ما دلت عليه تآليفه الأخيرة مما وقع فيه من تجارب ومحن، وأصابه من آلام كانت من أهم البواعث على نمو حياته الداخلية، وأكسبته قوة عجيبة نادرة، ووسمته بطابع الجمال الذي به عبر عن موسيقاه تعبيرًا أنصع بيانًا من تعبير شكسبير، ولو تخير من المنظوم أحسنه وشيئًا، وأمتنه حبكا، فنشر في تاريخ الفن صفحات من آيات العبقرية المجيدة، ويرجع الفضل في ذلك إلى أنه لم يعبأ في تعبيره بأي لفظ من طريق اللغة التي ليس له بأصولها خبرة بل كان يلجأ إلى النغمات وحدها ليعبر عن شعوره وأفكاره وميوله. على أنه لما مات والده في سنة ١٧٩٢ ترك له أخوين هما كارل وجوهان وأختًا تسمى مرجريت ماتت بعده في شهر نوفمبر من السنة نفسها، وزادت مسئولية بتهوفن في حياته المرَّة المؤلمة؛ لأن والده لسوء سلوكه وإدمانه الخمر لم يترك له مالا، وقد تلقن دروسه الموسيقية عن موزارت في مدينة فيينا ابتداء من سنة ١٧٨٧ وما كاد يبلغ السادسة عشرة من سنيه حتى عرف نفسه، وتحقق من عبقريته، وكان فظ الطباع مكروهًا من الناس، لا سيما من الجنس اللطيف، حتى أن ماجدلينا إحدى المغنيات وزميلته في الدرس لما طلب يدها سنة ١٨٩٥ رفضت طلبه، وبعد موزارت تلقى دروسًا أخرى على هيدن وشتيك وألبر كستبرجر وأخذ ينتقد القواعد التي جروا عليها، وسلق جميع الموسيقيين بألسنة حداد، واتبع خططًا خاصة به نزولا على نزعاته وذوقه وميوله، وسما بنفسه تيهًا واستكبارًا إلى أن أُصيب بالصمم في سنة ١٧٩٨ وكتب إلى أمندا صديقته كتابًا في أول يونيو سنة ١٨٠١ قال لها فيه: «إنه سيئ الحظ وأن في صدره وغرًا شديدًا على الطبيعة، وعلى الخالق الذي يعرّض مخلوقاته للحوادث التي فيها تتلف أجمل البراعم، وبسبب صممه انقطع عن مقابلة الناس عدة سنين لأنه لا يقدر أن يقول لهم إنه أصم لا يسمع، ولو كان محترفًا مهنة أخرى غير الموسيقى لهان الأمر لكنه حُرم السمع، وبالتالي نضب معين مرتزقه؛ فانعدمت حياته وقُضي على مستقبله قضاء مبرمًا، وأردف قائلا لها في ختامه ومستطردًا في وصف مصابه الهائل: أنت تعلمين أن أعدائي يشمتون بي — وكثيرًا ما هم — ولو أمكن لي الانتقام من سوء الحظ لقبضت على حلقه بكلتا يديَّ»، وبدهي أن صممه جعله أبغض إلى الناس من قبل وأحقد من جَمَلٍ حتى على ذوي قرباه، إلا ابن أخيه الذي كان ولي أمره، ولم يعلق قلبه بحب سواه منذ وفاة والده، وكان محتفظًا بعدة أسهم لحسابه الخاص، ولم يمد إليها يده حتى في إبان اشتداد مرضه عليه اهتمامًا بشأن تربيته، وعمد إلى جمعية محبي الفنون والطرب في لندن فأسعفته مع صديق له بمبلغ مائة جنيه، صُرف منها جانب على جنازته، وكان ذلك العبقري المسكين يقول لطبيبه فيرنج الذي ضاعت حيلتهُ في شفائه: آه يا دكتور لو كان يوجد بين الأطباء الفطاحل من يستطيع أن يشفيني لأسميتهُ بالطبيب العجيب، وقال قبل أن يلفظ نفسه الأخير «إن عمل يومي قد انتهى» وقد رآه المجتمعون حول سريره يحرّك قبضة يده نحو السماء، بينما كان فاقد الشعور هو في سكرات الموت وغمراته، وليس أدل على ذلك من ذهاب نفسه شعاعًا، وعدم رضوخه لأحكام الله وعظيم ثقته بنفسه التي لم يقهرها سوى هادم اللذات دون ثقته بمن أنشأنا من الأرض نسمًا، ويسر لنا منها أرزاقًا وقسما. أما فقيدنا عبده الحمولي إذا قيس بيتهوفن في العقيدة والرجاء كان الفرق بينهما كالبعد بين الأرض والسماء لأن الأول كان أصبر منه على محن الزمان فأدرك نعيم الجنان، وآمن بالله في الحياة وفي الممات، وثبت على طاعته في وسط أمراضه وآلامه، وكان عظيم الرجاء بأنه سيبلغ الإرث في الآخرة بتركه في الدنيا ما يحب فمات وقلبه مليء بالرجاء وعلى فمه ابتسامة رحمهما الله أوسع الرحمات.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/26/
سلامة حجازي
ولد الشيخ سلامة حوالي سنة ١٢٧٨هـ بالإسكندرية وبعد أن تعلم مبادئ الكتابة والقراءة اشتغل بفن الإنشاد على الأذكار، ثم تدرّج إلى احتراف الغناء التمثيلي فوق المسارح، وانضم إلى فرقة إسكندر فرح حيث بهر العقول بصوته الفتان، وكوّن بعد أن انفصل منه فرقةً خاصةً به، وقام بتمثيل روايات نسج إبراد معظمها المرحوم الشيخ: نجيب الحداد، الذي عرّب ثلاثة أرباع الروايات التي مثلت، فضلاً عن روايات خطية لم يفسح له أجله بإتمامها وطبعها. وسافر في سنة ١٩٠٨ إلى حلب حيث تقابل مع الأستاذ المرحوم: أنطون الشوا وطلب إليه أن يقدمه لبعض العائلات الوجيهة فيها؛ لأجل التعرف بها، وطلب أيضًا أن تعرض عليه رقصة السماح التي اشتهر بها الحلبيون، فشاهدها وسمع تواشيح من مقام العجم التي يندر وجودها في مصر. فلما أعجب بها تلقف وصلة جميلة منها وكلف كلاً من محمود رحمي وأحمد فهيم بتدوين ما سمعه في حلب من تواشيح جميلة. وكان على اتصاله برجال الأدب الذين استمد منهم خلاصة ما عربوه من روايات دائبًا على اقتفاء إثر عبده الحمولي، وموفقًا بالاهتداء إليه بواسطة: جمعه المطيب، الذي كان يطلعه على برامج حفلاته الغنائية ليستقي من بحره بعد إنهائه عمله المسرحي. وقد روى لي الأستاذ: داود حسني أن دعى عبده وسلامة حجازي والسيدة ليلى خياط للغناء بدار الأوبرا في ليلة خيرية، فابتدأ الشيخ سلامة بإلقاء قطعة غنائية تمثيلية أطرب بها الحضور، وتلته ليلى المذكورة وغنت على تختها بمساعدة شقيقتها «كقانونجية» ونالت الاستحسان، ثم صعد عبده على تخته المكون من كل من الليثي والعقاد وسهلون وأحمد حسنين وبركات وغنى مذهب رصد، تلحين محمود الخضراوي الآتي بيانه. مذهب دور فكان يكرر «يا جميل دا يصح منك تلوف بغيري…» مطلقًا صوته في الفضاء إلى أن بلغ أقصى حد، ثم أخذ ينحدر رويدًا رويدًا إلى أن بلغ القرار، حيث أقفل دوره على المقام بقوله «دا يصح يا سيدي منك» وما كاد يرتكز على «القفلة»، ويرسخ رسوخ الطود على آخر العبارة «يا سيدي منك» حتى فتن العقول وأحرز خطر السبق عليهما: وقد تفضّل عليّ حضرة النابغة الأستاذ: خليل مطران ببيان موجز عن الفرقة التمثيلية في مصر جم الفائدة، وحري بالاعتبار آثرت إيراده إتمامًا لما ذكرته بأول كتابي في باب التمثيل، وتنويرًا للأذهان، فإني أشكره على جميل صنعه وأسأل الباري أن يكلل أعماله في الفرقة القومية بالنجاح؛ لتبلغ الشأو الذي يصبو إليه قلبه الطاهر، ويستحقه مجهوده العظيم. وإليكم البيان.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/27/
الفرق التمثيلية في مصر
إن كان فن التمثيل العربي تأخر، قامت الفرق التمثيلية المتتابعة في مصر لتحاول أن تدرأ عن وصمته، فمن العدل ألا ننسى أننا ما زلنا في طفولة الفن، وأن الذين يعالجون التقدم به يعالجون في آن لغة ليست مستعارة من أقوال وآراء للعلماء والشعراء الجمهور، فيسهل عليه فهمها، وتبين وقائعها، بل هي مستعارة له من شعب آخر كانت عيشته وبيئته وخلائقه غير عيشتنا وبيئتنا وخلائقنا، وناهيكم بهذه العقبة من عقبة كئود. ثم هم يعالجون موسيقى لا شيء فيها يصلح للعزف الجهوري، ولا للنغمات تسير بها الجيوش وتسمعها الآلاف من الناس. ثم هم يعالجون حركات ورموزًا قد اختلط شرقيها بغربيها، وليس بميسور تمحيصها إلى حين، فلنصابر العاملين منا ولنعاونهم كل بقدر مجهوده ذلك خير وأبقى من تغطية قصورنا بالتشدق والتشدد فيما لا يدرك إلا بميقاته من المطالب. وإنني لمورد بإيجاز منشأ التمثيل في هذه البلاد، ومنه نتبين أين نحن من الطريق وما الذي يبقى علينا اجتيازه للدنو من الشأو، إن لم أقل لبلوغه. على أن تاريخ الفن عندنا إنما هو تاريخ الفرق التي تولته وتوالت في القيام به. فأول من خطر له إدخال هذا الفن في لغة الناطقين بالضاد وهو المرحوم: مارون النقاش لخمسين سنة مضت أو نيّف، جمع فرقة من الشبَّان الذين استصلحهم في بيروت وعرَّب لهم روايات: «البخيل» و«الحسود» و«أبي الحسن المغفل» تعريبًا جاء أشبه بالتأليف؛ لحسن تصرف الرجل فيه مراعاة للذوق العربي، ولم تقدم تلك الفرقة هذا القطر، ولكن شدة الاشتراك المتصل بين الشام ومصر — ولا سيما منذ ابتداء هذا العصر — لا تدع فرجة للفصل بينهما في تاريخ الأدبيات والمعنويات. ففرقة مارون النقاش لبثت حيث نشأت إلى أن انحلت، ولكن رواياتها «البخيل»، و«الحسود» و«أبا الحسن المغفل» جابت التخوم إلى وادي النيل، وما برحت من لهجات مسارحنا إلى هذه الأيام، أُعقب مارون قريب له معروف بين أدباء المحروسة في زمانه هو المرحوم: سليم النقاش، وسليم هذا أول من أنشأ فرقة للتمثيل بمصر باتفاق بينه وبين الحكومة أوجبت على نفسها بمقتضاه إمداده بمال، والترخيص له في استخدام الأوبرا زمنًا معلومًا لتمثيل رواياته، وأشهر تلك لروايات «مي» و«المقامر» و«عائدة» ثم أندروماك، وهذه بقلم أقدر أدباء وقته وأشهر خطبائه المرحوم: أديب إسحاق. وفي تلك الأيام عينها كان المرحوم: إسكندر فرح وفي فرقته المرحوم الشيخ: سلامة حجازي يبلي البلاء الحسن ليجلب الجمهور، ويستمد للنوع الذي آثره ما يعربه بعض أقطاب الأدب في ذلك العهد كالمرحوم الشيخ: نجيب الحداد، والمرحوم أخيه الشيخ: أمين، والشاعران الناثران المرحومان: طانيوس عبده وإلياس فياض، على أنه قد تخلل روايات هذه الفرقة ما دل على حالة لو تهيأت لكانت الأمة أرغب فيها وأميل إليها: من تلك الروايات «أنيس الجليس» «وصدق الإخاء» للمحامي الشهير المرحوم: إسماعيل بك عاصم. بعد ذلك تلاشت فرقة المرحوم: خليل القباني. وقد سمعت من نادرتي زمانهما المرحومين: عبده وعثمان، أنه على توسط صوته كان أكبر أساتذة الموسيقى علمًا وإنشاء وبراعة إيقاع. ثم انفصل الشيخ: سلامة من إسكندر فرح، وأسس فرقته التي لقيت النجاح العظيم، والفضل في ذلك لهمة الشيخ وثباته وسخائه، وخصوصًا لإحداثه ألحانًا شائقات، وتطبيقه إياها على قصائد مما تقوى به أغراض الرواية في القلوب والأذهان نهاية قوتها، ويستمد به الخيال من ظاهر الحقيقة غاية التشويق والتطريب. في هذه الفرقة تخرج غير واحد من مهرة الممثلين الذين يصفق لهم الجمهور الآن وفيها رأينا للمرة الأولى ظهور الأخوة العكاشيين وأخذهم بهذا الفن ذلك الأخذ الذي تطرقوا معه إلى تأليف فرقتهم مستقلين، ثم دخولهم في شركة: «ترقية التمثيل». وقد قامت إلى جانبهم آنئذ فرقة الأستاذ: جورج أبيض، ثم فرقة الشيخ: سلامة بعد اعتداله وأبيض، ثم فرقة أبيض مستقلا للمرة الثانية، كما قامت فرقة الأستاذ: عبد الرحمن أفندي رشدي، على أثر انفصاله من فرقة أبيض، وفي خلال اشتغال هذه الفرق وبعد أن وال بعضها، وجدت على الولاء فرقة الأستاذ: يوسف وهبي، وكلتاهما أبلت بلاء حسنًا في سبيل الفن، وأصابت حظًا من ازدهار. ثم فرقة السيدة: فاطمة رشدي، ثم آل كل أولئك إلى التحول والشتات إلى أن وُجدت منذ نصف عام الفرقة القومية المصرية. هذا ما رغبتم إليَّ في إيجازه، أوجزته بقدر ما بقي في ذاكرتي، وأرجو الله ألا أُؤاخذ إن كان قد وقع سهو أو خطأ.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/28/
أقوال وآراء للعلماء والشعراء والفلاسفة والأطباء
ومما يحسن ذكره نقلا عن الضياء (لليازجي) أن طبيبًا أمريكيًا يقال له ليونار كورننج قد زاول معالجة الأمراض بالنغم، وطريقته في ذلك أن يضجع العليل علي وسادة مستلقيًا على ظهره ويظلله بخيمة لا منفذ فيها فيكون ما تحتها مظلمًا، ويجعل في رأسه كمية من جلد لين قد نيط إلى جانبيها مسمتعان يجعلهما على أذني العليل، ويتصل بهما سلكان يفضيان إلى فونوغراف، ويرسل عند أسفل الوسادة حجابا أبيض يستقل عليه صور أشباح مختلفة بواسطة الفانوس السحري، فإذا تم إضجاعه على هذا الوجه أعمل الفونوغراف، ووجه الفانوس إلى الحجاب فيسمع العليل أنغاما لطيفة وتترادف أمامه صور الأشباح والألوان البهيجة، وبتوارد هذه المؤثرات على سمعه وبصره لا يلبث أن يدب النعاس في عينيه ثم ينام نوما هنيئًا يتخلله أحلام طيبة ومناظر جميلة، ويقول الطبيب المذكور أن تكرار مثل هذا على العليل مرات قليلة يؤدي إلى الشفاء. وأقدم ما يروى من ذلك ما كان من أمر شاول ملك بني إسرائيل حين تخبطه روح السوء، وكان داود يضرب له بالعود فيجد رَوْحًا (بالفتح). وقد نقل عن أوميروس وبلوطرخس وتيوفرست أن الموسيقى تشفي من الطاعون والرثية ولدغ الهوام، وزعم قوم من المتأخرين منهم ديمربروك وبونيت وكرخر أنها تشفي من السل والكَلَب، وذهب غيرهم إلى أبعد من ذلك، وزعم بورتا أنه إذا اتخذت المعازف من خشب بعض العقاقير الطبية وضرب بها على سماع العليل فعلت فعل العقار نفسه. ا.هـ.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/29/
محادثتي مع صاحب المعالي سعيد ذو الفقار باشا كبير الأمناء
تحدثت إلى معاليه صباح الأربعاء ١٠ يوليه سنة ١٩٣٥ بالسراي الملكية بشأن حياة عبده الحمولي، صديقه الحميم، ورجوته بأن يرفع إلى الأعتاب الملكية ملتمسي الخاص بإحياء ذكراه يوم ١٦ منه تحت رعاية جلالة الملك؛ لأنه أكبر موسيقي أنجبته مصر، فاعتذر إليَّ من ذلك لأسباب لا محل لذكرها في هذا المقام. وقد أفضى بنا الحديث إلى ذكر بعض نوادره التي غلبت على الحكايات الخرافية، ومن ضمن ما قصه معاليه عليَّ أذكر الواقعة الآتية: وهو أنه حينما ظهر دور «قد ما أحبك زعلان منك» وقد أعلز عبده داء ذات الرئة، وأضرب بسببه عن الغناء؛ نزولا على مشورة أطبائه الذين وضعوا بحلقه معلقة طبية؛ تسهيلا للتنفس، وقد اتفق أن جَمَعَه وعبده مجلس أنس على ظهر ذهبية فخمة في النيل، فرأى عبده من بهجة وابتسام الطبيعة وتنهدات النسيم العليل ما حمله على التصدي للغناء لكي يستمتع صديقه ومن كان معه بصوته قبل الفراق. فعمد إلى رفع الملعقة من حلقه وأخذ يغني الدور المشار إليه، ولما اعترض عليه الحضور رأفة بحاله لم يقلع عن عزمه على إتمام الغناء حتى إذا ما أراد «قفل» الدور ضم إلى صدره لضعفه عمود صاري الذهبية. فهل يوجد أدل من ذلك على مبلغ تضحيته وتفانيه في خدمة الناس؟ ثم استطرد معاليه إلى الكلام عن سخائه وفنه وعبقريته بعد أن دخل علينا الهمام صاحب العزة: محمد بك حسين — الأمين الثاني — وجلس بجانبه فقال لي إنه لم ير طيلة حياته بين الباشوات في مصر أكثر منه تبرعا بعطاء، ولم يخلق قبله ولن يخلق بعده من يجاريه في فن الغناء وقوة الصوت. ومكث يقص عليَّ عن كرمه ورقة عواطفه حديثًا أشد تغلغلا إلى الكبد الصديا من زلال الماء. وبعد أن دعوته وحضرة محمد بك حسنين إلى تشريف الحفلة التأبينية التي قمت بإحيائها بدعوة مني على مسرح حديقة الأزبكية انصرفت شاكرا لمعاليه حسن استقباله لي وتفضله بالتحدث إلىَّ عنه بما سرَّى عن خاطري. وقصدت مساء السبت ١٣ شهره بناء على موعد تحدد إلى مكتب حضرة الأستاذ الكبير صاحب العزة: إبراهيم الهلباوي بك، بمنيل الروضة، وطلبت إليه أن يلقي كلمة عن الفقيد في الحفلة التأبينية؛ ظنًا مني أنه من معاصريه وعشرائه، فاعتذر لي وقال: إنه لو كان يعلم شيئًا عنه لما تأخر عن الخطابة كما فعل من يومين مضيا في تأبين المرحوم الشيخ: محمد عبده الذي كان متصلا به لوحدة عملهما في معهد الأزهر. وأردف معربًا عن استحالة تعرفه به لما كان له من شخصية بارزة لا يوصل إليها، فشكرت لحضرته وصراحته وانصرفت. ولما وصلت إلى مكتبي اتصلت تليفونيًا بحضرة الأستاذ: محمد رفعت وشرحت له الموضوع ورجوته أن يتلو ما يتيسَّر من الآي الكريمة عند افتتاح الحفلة مساء ١٦ يوليو الماضي، فأسف جد الأسف لارتباطه في نفس الوقت بالعمل في محطة الإذاعة، وسألني عما إذا كان يمكن إرجائها إلى الليلة التالية، فأفهمته عدم إمكان ذلك لتوزيع تذاكر الدعوة للجمهور، والتنويه بها رسميًا على صفحات الجرائد، ثم قال معجبًا بعبقرية الفقيد ما مؤداه «إن عبده كان سيدًا على الموسيقى، أما المطربون السابقون واللاحقون فهم جميعًا عبيد لها».
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/30/
مشاهير رجال الموسيقى
وقد خلف إلياس عبودًا من أكابر المطربين في حلب وأنطون والدكل من الأستاذين سامي، وفاضل الشوا، وكان إلياس ينزل في الأستانة ضيفًا على السيد أبي الهدى الذي كان يعد من أكابر الصوفيين المشهورين بحفظ التواشيح وإنشادها، وكان قانونجيًا يرأس تختًا وعلى يمينه ويساره ولداه يعزفان على العود والكمان، ويدعى للعزف في الحفلات الفخمة، ولو كانت البقرة التي كان أبونا إبراهيم الخليل يحلبها على قمة الجبل سمعت بوجه الافتراض حين حلبها نغمات الأستاذ: سامي الشوا على كمانه لأدرت لبنًا يزيد خمسة وعشرين في المائة إن لم يكن أكثر على المقدار الاعتيادي. وقد ذهب الأستاذ سامي إلى برلين عام ١٩٣١ وزار المعهد الموسيقى للحكومة زيارة رسمية برئاسة سعادة حسن باشا نشأت، وحضور أساتذة الموسيقى الذين أعجبوا بنبوغه وأخذت لمعزوفاته عدة إسطوانات حفظت كتذكار له بالمعهد، وزار أيضا باريس حيث احتفل به المعهد برعاية سعادة فخري باشا وحضور المسيو رابو — رئيس «الكونسرڤاتوار»— والمسيو شولمان — سكرتير المعهد الوطني الأكبر — وزار روما ولندرا ثم أميركا الشمالية. وقد رفع أينما حل رأس مصر عاليًا، وهو خليق بكل رعاية واحترام ويعد أول عبقري في عالم الموسيقى. ولا يسعني في الختام إلا أن أتحفكم بما جادت به قريحة المرحوم أمير الشعراء كتحية ومديح لأمير الكمان في ١٦ مايو سنة ١٩٢٨ اقتطف منها بعض الأبيات الآتية: وُلد داود حسني في مدينة القاهرة عام ١٨٧١ وفكر بعد أن أتم دراسته الابتدائية أن يحترف فن الموسيقى والغناء، فأخذ يتلقى دروس العزف والإيقاع على أكبر الأساتذة فتعلم الضروب والأوزان والبشارف والقواعد الموسيقية كما تعلم العزف على العود، ومن مميزاته اقتداره على تقليد المرحومين: عبده الحمولي ومحمد عثمان، وله عدة تلاحين خالدة بادر المطربون إلى غنائها، أذكر منها «حبك يا سلام» «يا طالع السعد» «الصباح لاح ونوّر» «الحق عندي لك» وهو أول دور لحنه، «وأسير العشق» الذي لحنه من نغمة ابتكرها وأسماها بالزنجران، كما لحن عدة أدوار أخرى من نغمات خاصة به تسمى «الحجاز كار كرد»، وكان له تخت خاص غنى عليه مدة طويلة وترك أخيرًا الغناء وعكف على التلحين، وتخرج عليه كل من الأستاذين: زكي مراد، وصالح عبد الحي، والآنسات: ليلى مراد، ونجاة، وسهام، وأسمهان، ونادرة، كما لحن للآنسة: أم كلثوم — المطربة الشهيرة — عدة أدوار منها الدور المشهور «روحي وروحك في امتزاج» ودور «يوم الهنا»، ومما يجمل في التاريخ ذكره أنه لم يجد بابًا في الموسيقى إلا طرقه، ولم يصادف نغمة غريبة، أو وزنًا مبتكرًا إلا لحن منهما لحنًا أو أكثر. ولم يقتصر مجهوده على التلحين الغنائي فحسب بل شق له طريقًا في الموسيقى المسرحية، ولحن أولاً «صباح» التي كانت فاتحة الألطاف، وأخرج الأوبرا: شمشون ودليله، وليلة كليوباترة، وأكمل أوبرا: «هدى» للمرحوم: سيد درويش، والأوبريت الكوميدي «الليالي الملاح» و«الشاطر حسن»، و«أيام العز»، و«الغندورة»، و«ناهد شاه»، ورواية «معروف الإسكافي». وهو سريع الحفظ لجميع الأدوار والمقطوعات التي ألقيت قديمًا وحديثًا، ويرجع إليه الفضل في تدوين نحو مائة دور دونها بالنوتة الإفرنجية للمعهد الملكي للموسيقى العربية، فضلاً عن أنه لحن ما يقرب من خمسماية دور ومقطوعة، ونحو ثلاثين رواية غنائية حتى قال عنه المرحوم: أحمد شوقي بك، أمير الشعراء، إنه كنز فني عظيم لا يفنى ودرة ثمينة لا تقدر بثمن. وقصارى القول إن موسيقاه موسومة بطابع شرقي جذاب، ومصبوغة بلون مصري بهيّ مفرح، وهو على نبوغه في التلحين متواضع النفس كريم الأخلاق. وُلد بدمياط في شهر أكتوبر سنة ١٨٦٦ وانقطع عن طلب العلم لضعف بصره، فاضطر إلى الانصراف إلى درس الموسيقى وهو دون البلوغ بمعاونة المرحوم: عبد الله القانونجي عمه الذي كان ضريرًا، وقد ترأس تخته مع أحمد الشربيني ومحمد الشربيني ولده، العوادين، وعزفوا في الحضرة السلطانية بالأستانة، وتلقى تدوين الألحان بالنوتة عن الأستاذ: أنطون جوان، المدرس بسراي الخديوي إسماعيل، فعمد إلى عمل أدوار وبشراوات منها بشر وجهار كاه عديم النظير، وأول الأدوار التي دوّنها على الحجر للافتقار إلى المطابع في أول العهد بها كان دور «تيهك عليَّ اليوم بسنين» وأصدر منها نحو ألفيّ نسخة نفذت جميعها بسرعة. ولما بلغ الثانية والعشرين من سنيه وقع دور «كادني الهوى» (نغمة النهوند) على البيانو، يوم كان البيانو قليل الاستعمال في المحافل، حتى أن من كان يضرب عليه دور «يا طير الحمام يا أخضر» كان يعد بلا منازع من جهابذة العازفين، وقد وُفق إلى اختراع العُرَب للقانون بدل العفق طلبًا لإيجاد نصف المقام وربع المقام عند اللزوم، وهما موجودان في الموسيقى العربية، ولم يسبق لمحمد العقاد الكبير أن استعملها بل استعاض عنها بالعفق، على ما في هذه الطريقة من كتم الصوت وضياع الوقت والإعياء كما يزعم بعضهم. على أنه والحق يقال هو أول من عمل في نغمة لجهار كاه بشرفا — كما تقدم — وأسماه بالبشرف العباسي، وقدمه للخديوي عباس، وكان مخصصًا أولا للخديوي توفيق الذي توفاه الله قبل طبعه. ولا يعزب عن البال أن والده المرحوم منسي كان أول من ألف تختا للآلات المصرية، وأن عبد الله القانونجي كان عبقريا في العزف على القانون، وقد أديا للموسيقى العربية خدمات جليلة تخلد لهما أجمل ذكر. وللأستاذ: قسطندي ولدان أحدهما: الأستاذ فريد المحامي لدى المحاكم المختلطة والأهلية، يشتغل بمكتب عمه المحترم الأستاذ: عزيز منسي — نقيب المحامين الأسبق بمحكمة مصر المختلطة. والثاني بعد أن نال البكالوريا المصرية انصرف إلى درس الحقوق الفرنسية، وهم من خيار الناس قد جمع الله فيهم خلال الفتوة ولين الطباع. ولد الأستاذ منصور عوض بقصورة الشوام بشبرا (مصر) عام ١٨٨٠، وكان والده المرحوم حنين منصور عوض من أكابر تجار الأقمشة بالحمزاوي، وتعلم بادئ بدء بمدرسة الفرير بالخرنفش، وهو دون البلوغ مبادئ اللغتين العربية والفرنسية، والعزف على الكمان بالنوتة الإفرنجية، واتفق أن دبت فيه الغيرة على اقتناء العود مما أحاط به من عوامل حينما كان يزور والده كل من الشيخ: خليل محرم المنشد، وعمر أفندي التركي — موسيقار الخديوي إسماعيل — الذي كان يعزف على الطنبور فألح على والده أن يشتري له آلة شرقية كالعود، فنبذ الأخير طلبه وراء ظهره؛ لما كان لحرفة الغناء من حقارة وازدراء في عصره، ولكنه نزولاً على رغبة ولده المولع بالموسيقى الشرقية اشترى له آخرًا عودًا وقانونًا، ثم انتقل من مدرسة الفرير إلى المدرسة التوفيقية، فمدرسة الأقباط لقربها من شارع محمد علي، حيث كان يتلقى دروسًا موسيقية على يد مدرس ماهر. ولما وفد إلى مصر من الأستانة سنة ١٨٩٨ نفر من مشاهير الموسيقيين الأرمن الذين كونوا جوقتين موسيقيتين، وكان مركز الأولى بالعتبة الخضراء بجوار محلات ألف صنف، والثانية بشارع عبد العزيز، أخذ يتردد عليهما واقتبس عن الموسيقيين فيهما بعض مقطوعات وبشارف وغيرها، وأخذ يعطي دروسًا في فن الموسيقى لبعض العائلات، وافتتح سنة ١٩٠٧ بالاشتراك مع الأستاذ: سامي الشوا مدرسة موسيقية بالظاهر بمصر، كان يحتم فيها تعلم النوتة الإفرنجية، ونظريات خاصة بالأنغام والأوزان، وكانت تلقى بها بعض محاضرات قيّمة مرة في الأسبوع، واستمرت هذه المدرسة إلى سنة ١٩٢٥، ولما عين مراقبًا فنيًا للتعليم في فرع المعهد الملكي المدرسي اضطر إلى إغلاقها، ونظرًا لكثرة أشغاله بشركة الجراموفون وتنقله بين مصر والإسكندرية اضطر إلى تقديم استقالته إلى المعهد في أواخر ديسمبر سنة ١٩٣١ وهو لا يزال إلى الآن شاغلاً مركز مستشار فني وإداري بالشركة المذكورة. وغني عن البيان أنه قد وضع عدة مؤلفات منها: كتاب التحفة البهية في الاصطلاحات الموسيقية، ومناظرات علمية في الموسيقى الشرقية والغربية تشهد له بطول الباع في هذا الفن الجميل، ويرجع إليه الفضل في تسجيل عدة إسطوانات ربحت منها الشركة فضلاً عن بشروات وسماعيات وأناشيد وطنية ومارشات من ضمنها مارشات مصطفى باشا كامل، ورعمسيس، وبطرس باشا غالي، والأميرة فاطمة هانم إسماعيل، والسلطان حسين، وسعد زغلول باشا، والحرية، وأدرنة، والهلال الأحمر، والسلطان محمد الخامس بالأستانة، والنشيد الوطني نظم الأستاذ: مصطفى صادق الرافعي — وهو سلس الطباع وفيّ متجافٍ عن مقاعد الكبر بشوش الطلعة. وُلد الأستاذ محمد السبع بدمياط في سنة ١٨٧٠ وبعد أن تعلم القراءة والكتابة وحفظ ما تيسر من القرآن احترف فن الغناء؛ لما له من صوت رخيم حسن، وجاذبية قوية، بالرغم من اعتراض الشيخ: علي العفني جده (أب والدته) عليه؛ خشية أن يناله شين المهنة في ذلك العهد، وذهب أولا إلى المنصورة حيث بدأ يغني بقهوة الخواجا ديليا على البحر الأعظم، وكان موضوع عناية الخواجا نقولا قسيس — أحد أقرباء آل منسي بدمياط — نزولا على توصيتهم به، وما لبث أن سمعه الأستاذ: عبد الله القانونجي حتى استصحبه إلى مصر ودرّبه على الغناء، حتى اشتغل بجبلاية الأزبكية يوم كان محمد عثمان والشيخ يوسف يشتغلان تجاهه بالجنينة، ولما سمعه عبده الحمولي — بينما كان يتنزه فيها مع أولاده — ضمه إلى تخته، حيث اشتغل سبع سنوات كمساعد له، وأبلى بلاء حسنًا بما اقتبسه عنه من ضروب وتوقيع فاستضاء بمشكاته حتى أحبه وعطف عليه عطفه على بنيه، ولم يكن تخرُّجه عليه مقتصرًا على فن الغناء، بل استفاد منه بما يرضي الله والناس جميعًا بالتقوى والاستقامة وصالح الأعمال، وقد رُزق ولدًا يدعى إبراهيم أفندي دسوقي السبع موظف بالقلم الجنائي بمحكمة مصر الكلية، وبنات فاضلات من ذوات الصون. وقد دعاني مساء ٧ فبراير الماضي لسماعه في بار اللواء على تخته المؤلف من أعاظم العازفين وهم الأساتذة: عبد الحميد القضَّابي القانونجي، وكريم الكماني، وعيد قطر العواد، وجرجس سعد الناياتي، فسمعته بعد عدة تقاسيم على الآلات يغني مذهب «كنت فين والحب فين» فأعجبت به وأعادني إلى ماضي الذكريات في العصر الذهبي لأستاذه الحمولي؛ بما أتاه من حسن الإلقاء، وضروب التفنن، ويالعمري لو عُنيت محطة الإذاعة اللاسلكية بتشغيله بالمحطة لكي يتمكن من يسمعه من النشء الحديث الحسن الصوت من التقاط ما بقي بصوته من نغمات ساحرة ونبرات عربية باهرة. وبالجملة أقول في النهاية حقًا أكرم به رجلا نبيل النفس ندي الراحة وصبيح الوجه. وُلد في سنة ١٨٧٩ وتربى في سراي والده التي كانت تقع بباب الشعرية وتُشرف على الخليج المصري قبل سده، وكانت محط رحال الموسيقيين للتدرب على مقطوعاتهم ومعزوفاتهم؛ لما ألفوا فيها من المناظر الرائعة الطبيعية من أشجار وزهور ومياه. فشغف بالعود، واقتبس عن الأستاذ: العريان والد إبراهيم العريان القانونجي قسما من التعليم على القانون، على حد ما فعل الأستاذ الليثي الذي تخرج عليه في سنة ١٩٠٨ وأضحى من كبار العازفين على العود. الذي لا يحتاج إلى تعريف هو من كبار هواة العود يجيد العزف عليه، ويعد من أنصار الموسيقى العربية، ومن المعارضين في التجديد الأبتر، وقد عُبئت لبعض معزوفاته إسطوانات في الشركات الفونوغرافية لا بأس بها. فأمر بأن تباع وتعتق، ولم يزل يجري عليها إلى أن ماتت. هو من الهواة العازفين على الكمان، ومن أنصار الموسيقى الشرقية والغناء العربي، وقد تخرّج على الأستاذ: إبراهيم سهلون ويحفظ له بعض تقاسيم.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/31/
شكر عام
ليس فينا من يجهل ما لحضرتي العلامتين: الدكتور فارس نمر، وصاحب العزة خليل بك ثابت — رئيس تحرير المقطم الأغر — من رفيع المنزلة في النفوس لما اتصفا به من أريحية الطباع وكرم الأخلاق، وتحليا به من العلم الذي وقفا حياتهما على الغوص على أسراره، وبحث الحقائق ونشر الفنون وفي مقدمتها الموسيقى العربية التي جرى لأصحاب المقطم فيها بحوث مستفيضة ومناقشات جمة مع بعض الموسيقيين الأمريكيين قبل انتقالهم إلى هذا القطر، فضلا عن تضلع حضرة رئيس التحرير منها، ومعرفته العزف على بعض آلاتها. ولما أخذت على عاتقي إحياء ذكرى النابغين الراحلين من المصريين وبدأت بذكرى عبده الحمولي وما له من الأيادي البيضاء على الموسيقى الشرقية والغناء العربي، وتقدمت ما أتاه المجددون من ضروب التضليل فيها، كتبتُ بعض كلمات إلى المقطم الأغر، الذي فسح لها مكانًا ونشرها غير مرة، فصادف قبوله ما هو كامن في نفسي من حب مفرط للموسيقى، وغيرة عليها، وتنبَّهت الأمة إلى ما أبديته من الاعتراضات على التجديد الذي لا يرتكز على قواعد، ولا يقصد به إلا تشويه محاسن مويسقانا، وإزالة طلاوتها وصبغتها الشخصية، ومسخ نغماتها التي تولد منها في الغرب حاسَّة الخيال والجمال. فيرجع إذًا كل الفضل إليهما في هذا التشجيع الذي دفعني إلى وضع هذا الكتاب المفيد، وقد أحجم المقطم عن نشر كلمة الشكر المقدمة مني مرتين لهما، وكانا يختبئان اختباء البنفسج بين العوسج؛ فنمَّت رائحة إنكار ذاتهما عنهما، ولذا لا يسعني إلا أن أقدم لحضرتيهما جزيل الشكر واعترافي بجميل صنعهما، ولحضرات أفاضل الأدباء وأكابر الشعراء الأستاذ: خليل مطران، وصاحب الفضيلة الشيخ: مصطفى عبد الرازق، وسيادة المطران: كيرلس رزق، والدكتور: عبد الرحمن شهبندر، والأستاذ: محمود فؤاد الجبالي، على مقالاتهم النفيسة التي بعثوا بها إليَّ، مع اعتذاري للآخرين الذين لم أتمكن من نشر مقالاتهم لضيق نطاق هذا الكتاب، وفقنا الله إلى ما فيه كل الخير للوطن وللفن.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/32/
مذهب: كنت فين والحب فين
تجدون أعلاه ما دونه بالنوتة الإفرنجية الأستاذ: قسطندي منسي عن عبده الحمولي، وهو مذهب حجاز كار تلحينه الخاص، والغرض من تدوين هذا الدور إعطاء القارئ صورة مصغرة لنغماته، والإشارة إلى ابتكاره الذي يأتيه بما تُوحي به إليه نفسه، وتراه عينه من المرئيات المتنوعة الكثيرة، وما أقلها في عينه الصغيرة على حد قول البارودي باشا: وبيانه أن النوتة مهما بلغت من الدقة لا يمكن بها تصوير نغماته لعدم وجود ربع المقام في العلامات الإفرنجية، وبدونه لا يمكن الإحاطة بتموجات صوته ولعبه بالألحان، وغريب تصرفه وبحته، ناهيك بالروح الذي به يؤدي نغماته ونبراته الخاصة به، وتعتبر حينئذ كتصميم لِبِنَاءِ نغماته، أو خطوط أولية مرسومة لتصوير شكل من الأشكال، ومما يؤيد ذلك ما قاله الأستاذ: منصور عوض بعدد ٧٠٠٤ من مقطم ١٣ إبريل سنة ١٩١٢ وهو بحروفه كما يأتي «أن الأنغام الشرقية لا يمكن تصويرها بالعلامات الإفرنجية التي وُضعت وأُلفت بها قبلاً عدة أدوار وموشحات وبشارف وخلافها، والسبب في ذلك أن «سكك» التصوير عبارة عن وضع الأنغام في غير محلها عند اللزوم، والاستزادة من التبحر في الفن، وهي تنطق كما كانت في محلها مع اختلاف الطبقة الأصلية، وذلك يحتاج طبعًا إلى ربع المقام دائمًا، ولما لم يكن ربع المقام موجودًا على الإطلاق في العلامات الإفرنجية؛ فيستحيل والحالة هذه وضع سكك التصوير بهذه العلامات». (المقطم) مسألة (ربع المقام) هذه جرى لنا فيها بحث مسهب ومناقشة مستطيلة مع بعض الموسيقيين الأمريكيين قبل انتقالنا إلى هذا القطر منذ ٢٨ سنة، فليست بجديدة على سماعنا، ولكننا لا نزال نسأل الموسيقيين الشرقيين ألا يمكنكم استنباط علامة خصوصية لها تضيفونها إلى العلامات الإفرنجية ليتم بها المقصود، وقد استنبط الأستاذ: منصور عوض علامات مخصوصة إضافية للاستدلال على أصوات ربع المقام في النوتة الموسيقية الإفرنجية أجرى تسجيلها بمحكمة مصر المختلطة في سنة ١٩١٥، وتفضل المقطم الأغر بتقريظها.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/25183963/
الموسيقى الشرقية والغناء العربي
قسطندي رزق
أُشْرِب «قسطندي رزق» محبة الموسيقى في قلبه منذ نعومة أظفاره يوم أن خالط — وهو بعد صغير — الفنان «عبده الحامولي»، فارتسم في ذهنه صورة العروبة الفخمة عندما رآه يمثّل من الحركات والأقوال ما يصور فروسيتهم وعظمتهم، خاصة وأن الحمولي كان شجي اللحن، جميل الصوت، فمنذ ذلك الحين شعر رزق بتيار الموسيقى يمشي في عروقه، فأضحى من المولعين بالغناء العربي الذي لا يصبو إلا إليه، ونذر نفسه وقلمه للدفاع عن أصالة الموسيقى العربية، ضد كافة محاولات التغريب التي ترمي إلى اقتلاعها من جذورها ومسخ الهوية القومية الموسيقية، وقد رأى رزق أن الموسيقى العربية في عصره تقف على مفترق طرق؛ فإما أن تحيا بإحياء ماضيها أو أن تموت باقتلاعها من تربتها الخصبة.
https://www.hindawi.org/books/25183963/33/
مصاب الأمة الفادح
ما كدت أتأهب لإهداء كتابي هذا إلى الأعتاب الملكية حتى فوجئت الأمة بنبأ أصم صداه المسامع، واستوكف الأجفان بالمدامع، ألا وهو نعي من كان لذمار الوطن حاميًا، أمينًا، وللعلوم والفنون كوكبًا منيرًا، وللفضل منهلاً غزيرًا، ولخير مصر ومجدها نصيرًا وظهيرًا، فيا لهف وادي النيل ومائه على فؤاده. فإذا ماتت الأفئدة فمحال أن تعيش أجسامها. فإلى ذمة الله أيها الراحل العظيم، وسيظل اسمك عظيمًا في التاريخ كما كنت للشعب المصري رمزًا ومرشدًا. هبنا اللهمَّ على الزرء فيه صبرًا جميلاً، يبرِّد قلوبنا، وأشمله بأوسع الرحمات وأسكنه فسيح الجنان.
قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية. قسطندي رزق: كاتب مصري متخصص في مجال الموسيقى، تأثر كثيرًا ﺑ «عبده الحمولي»، ودافع عن أصالة الموسيقى العربية.
https://www.hindawi.org/books/63795362/
المُؤلَّفات الكاملة
محمد حافظ إبراهيم
كان حافظ إبراهيم صادقًا ومخلصًا في شعره، فكان يدوّن الشعر بدماء قلبه وأجزاء روحه، فأخرج لنا أدبًا قيمًا، يحث النفوس، ويشحذ الهمم، ويدفعها إلى النهضة. هذا الصدق والإخلاص هو الذي دفع بخليل مطران أن يقول عنه أنه أشبه بالوعاء يتلقى الوحي من شعور الأمة وأحاسيسها ومؤثراتها في نفسه، فيمتزج ذلك كله بشعوره وإحساسه، فيأتى منه القول المؤثر المتدفق بالشعور الذي يحس كل مواطن أنه صدى لما في نفسه. إن لحافظ طريقته الخاصة في كتابة الشعر، فرغم أنه لم يكن يتمتع بقدر كبير من الخيال كغيره من الشعراء، ولكنه استطاع أن يستعيض عن ذلك النقص، بمزايا إبداعية أخرى، تتلخص في جزالة أبيات شعره، وحلاوة تركيبه، وحسن وطلاوة كلماته. وقد غطى هذا الكتاب الذي بين أيدينا المؤلفات الكاملة لشاعر النيل حافظ إبراهيم، فجمع بين دفتيه كافة الجوانب التي قرض فيها حافظ الشعر، وهي: المدائح والتهاني، والتقريظات، والأهاجي، والإخوانيات، والوصف، والخمريات، والغزل، والاجتماعيات، والسياسيات، والشكوى، والمراثي.
https://www.hindawi.org/books/63795362/1/
المَدَائِحَ والتّهَاني
وقال يمدحه ويصف حضرته: وقال أيضًا يمدحه ويهنّئه بعيد جلوسه في ٨ يناير سنة ١٩٠١م: وكان وليَّا لعهد أبيه الخديو عبّاس؛ قالها في ذكرى مولده لأوّل العام الثالث من عمره قالها في سفر له إلى بعض بلاد الوجه البحري، وكان مصاحبًا له في هذا السفر وقال يهنّئه بعودته من سياحته في بلاد الجزائر (نشرت في ٦ أكتوبر سنة ١٩٠٣م) وقال فيه عند عودته من بعض أسفاره: وقال مدافعًا عنه أيضًا ضدّ مَنْ حمل عليه من أعدائه في الصحف ورسموا له صورًا تزري بقدره: وقال أيضًا يهنّئ سموّه بالعام الهجريّ: (نشرت في ١٩ مارس سنة ١٩٠٤) وكان مديرا لبني سويف إذ ذاك يهنّئه حين أُنعم عليه بالرتبة الأولى العلميّة بمناسبة عودته من أوربا في اليوم الحادي عشر من شهر شوّال سنة ١٣٣٠هـ وكان رئيسًا للحكومة إذ ذاك قال هذين البيتين ليُكتبا في لوحة مهداة إليه من مدرسة طوخ الصناعيّة؛ إذ كان مديرًا للقليوبيّة ••• وقال يودّعه: أنشدها في حفل أقامه كبار موظفّي مديريّة القليوبيّة؛ إذ كان مديرًا لمديريّتهم ونُقِل. (نشرت في ٩ مايو سنة ١٩١٢م) قالها في حفل أقيم لتكريمه بفندق الكونتننتال لمناسبة ترقيته إلى منصب كبير في نِظارة الأشغال أنشدها في حفل أقيم بدار الجامعة المصريّة لتكريمه بمناسبة الإنعام عليه بالنيشان المجيدي يوم ٢٤ أبريل سنة ١٩١٣م أنشدها في فندق شبرد في ٤ يونية سنة ١٩١٤ عندما نشر كتابه المعروف «بحديقة الأزهار» الذي ترجم فيه بعض الشعر العربي القديم إلى اللغة الفرنسيّة، وكان يُلقي محاضراتٍ وخطبًا في فرنسا ينوّه فيها بالعرب ومصر والشرق. قال هذين البيتين فيها بمناسبة طفلة رُزِقها صديقُه محمّد بك بدر وكانت (لونا) هي المولّدة قالها تلبية لدعوة المجمع العلميّ بإنجلترا الذي أقام احتفالاً بذكرى شكسبير لمرور ثلثمائة عام على وفاته ألقاها بين يديه أثناء زيارته لمدينة طنطا في السرادق الذي أقيم له هناك أنشدها في الحفل الذي أُقيم لسماع هذه القصيدة بمدرج وزارة المعارف بدرب الجماميز مساء الجمعة ٨ فبراير سنة ١٩١٨م أنشدها في الحفل الذي أقيم لتكريمه في فندق شبرد في ٧ يوليو سنة ١٩١٩م حين استقال من الحكومة أوّل مرّة، وهي على لسان تجّار الغلال وكان حافظ قد أعدّها ليستقبله بها عند قدومه إلى مصر من منفاه بالأندلس، ولكنّه عجّل بنشرها قبل قدومه مخافة أن يلحقه القدر المحتوم، كما قال في رسالته إلى الأهرام أنشد هذه القصيدة في حفل من الأدباء والشعراء برآسة أحمد شوقي بك بدار التمثيل العربي؛ لتحيّة جريدة عكاظ يوم ٣ ديسمبر سنة ١٩٢٠، وقد سمّى صاحب الجريدة هذا الحفل: «سوق عكاظ». وهي تتضمّن مدحا لشوقي بك رئيس الحفل، ونعيًا على المصريِّين امتهانهم لجثث ملوكهم الأقدمين: أنشدها بين يدي جلالته حين زيارته مدرسة فؤاد الأوّل بقصر الزعفران في ديسمبر سنة ١٩٢٢م قالها على أثر الاعتداء عليه بإطلاق النار في محطّة القاهرة، إذ كان مسافرًا إلى الإسكندريّة وقال فيه أيضًا: أنشدها في الحفل الذي أقامه أعضاء البرلمان يوم الخميس ٢٤ يولية سنة ١٩٢٤ بكازينو سان استفانو بالإسكندرية؛ تكريمًا لسعد، وابتهاجًا بنجاته من حادث الاعتداء عليه: وجَهها إليه حين ترجم كتاب الأخلاق لأرسطو سنة ١٩٢٤م قالها حين رشّحه الوفد لعضويّة البرلمان عن بندر الجيزة أنشدها بين يديه على أثر قدومه من مسجد وصيف إلى العاصمة على الباخرة دندرة أنشدها في المهرجان الذي أقيم لتكريمه بالأوبرا في ٢٩ أبريل سنة ١٩٢٧م وقد اشترك فيه بعض شعراء الأقطار الشرقيّة بيتان قالهما في المأدُبة التي أقامها بعض أدباء الغرب في (جروبي) لتكريمه هو (وشوقي) (ومطران) قالها في مناظرة كانت بين هيكل ومطرانَ في مدرّج كلّيّة الآداب، موضوعها: «هل الأدب العربي — قديمه وحديثه — يكفي وحده لتكوين الأديب؟» أنشدها في الحفل الذي أقيم لسماع هذه القصيدة بالجامعة الأميركيّة ببيروت بلقب دكتور الشرف في الحقوق الذي منحته إيّاه جامعة أكسفورد، وكان رئيسًا للوزارة إذ ذاك قالها وقد عمل الدكتور عمليّة لصاحب الدولة محمّد محمود باشا وقال فيه أيضا: (ارتجلهما في حفل أقيم لتكريمه سنة ١٩٣٠م) أنشدهما في حفل أقيم للدكتور بفندق مينا هاوس من طلبة الجامعة بعد فصله من منصبه قال هذين البيتين مرتجلاً عندما تولّى وكالة المعارف للتعليم الفنّيّ والفنون الجميلة سنة ١٩٢٩م
محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م. محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/63795362/
المُؤلَّفات الكاملة
محمد حافظ إبراهيم
كان حافظ إبراهيم صادقًا ومخلصًا في شعره، فكان يدوّن الشعر بدماء قلبه وأجزاء روحه، فأخرج لنا أدبًا قيمًا، يحث النفوس، ويشحذ الهمم، ويدفعها إلى النهضة. هذا الصدق والإخلاص هو الذي دفع بخليل مطران أن يقول عنه أنه أشبه بالوعاء يتلقى الوحي من شعور الأمة وأحاسيسها ومؤثراتها في نفسه، فيمتزج ذلك كله بشعوره وإحساسه، فيأتى منه القول المؤثر المتدفق بالشعور الذي يحس كل مواطن أنه صدى لما في نفسه. إن لحافظ طريقته الخاصة في كتابة الشعر، فرغم أنه لم يكن يتمتع بقدر كبير من الخيال كغيره من الشعراء، ولكنه استطاع أن يستعيض عن ذلك النقص، بمزايا إبداعية أخرى، تتلخص في جزالة أبيات شعره، وحلاوة تركيبه، وحسن وطلاوة كلماته. وقد غطى هذا الكتاب الذي بين أيدينا المؤلفات الكاملة لشاعر النيل حافظ إبراهيم، فجمع بين دفتيه كافة الجوانب التي قرض فيها حافظ الشعر، وهي: المدائح والتهاني، والتقريظات، والأهاجي، والإخوانيات، والوصف، والخمريات، والغزل، والاجتماعيات، والسياسيات، والشكوى، والمراثي.
https://www.hindawi.org/books/63795362/2/
التقريظات
المطبوع سنة ١٣٣٥هـ تأليف الشيخ أحمد عثمان المحرزي القاضي الشرعيّ
محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م. محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/63795362/
المُؤلَّفات الكاملة
محمد حافظ إبراهيم
كان حافظ إبراهيم صادقًا ومخلصًا في شعره، فكان يدوّن الشعر بدماء قلبه وأجزاء روحه، فأخرج لنا أدبًا قيمًا، يحث النفوس، ويشحذ الهمم، ويدفعها إلى النهضة. هذا الصدق والإخلاص هو الذي دفع بخليل مطران أن يقول عنه أنه أشبه بالوعاء يتلقى الوحي من شعور الأمة وأحاسيسها ومؤثراتها في نفسه، فيمتزج ذلك كله بشعوره وإحساسه، فيأتى منه القول المؤثر المتدفق بالشعور الذي يحس كل مواطن أنه صدى لما في نفسه. إن لحافظ طريقته الخاصة في كتابة الشعر، فرغم أنه لم يكن يتمتع بقدر كبير من الخيال كغيره من الشعراء، ولكنه استطاع أن يستعيض عن ذلك النقص، بمزايا إبداعية أخرى، تتلخص في جزالة أبيات شعره، وحلاوة تركيبه، وحسن وطلاوة كلماته. وقد غطى هذا الكتاب الذي بين أيدينا المؤلفات الكاملة لشاعر النيل حافظ إبراهيم، فجمع بين دفتيه كافة الجوانب التي قرض فيها حافظ الشعر، وهي: المدائح والتهاني، والتقريظات، والأهاجي، والإخوانيات، والوصف، والخمريات، والغزل، والاجتماعيات، والسياسيات، والشكوى، والمراثي.
https://www.hindawi.org/books/63795362/3/
الأهَـاجـي
null
محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م. محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/63795362/
المُؤلَّفات الكاملة
محمد حافظ إبراهيم
كان حافظ إبراهيم صادقًا ومخلصًا في شعره، فكان يدوّن الشعر بدماء قلبه وأجزاء روحه، فأخرج لنا أدبًا قيمًا، يحث النفوس، ويشحذ الهمم، ويدفعها إلى النهضة. هذا الصدق والإخلاص هو الذي دفع بخليل مطران أن يقول عنه أنه أشبه بالوعاء يتلقى الوحي من شعور الأمة وأحاسيسها ومؤثراتها في نفسه، فيمتزج ذلك كله بشعوره وإحساسه، فيأتى منه القول المؤثر المتدفق بالشعور الذي يحس كل مواطن أنه صدى لما في نفسه. إن لحافظ طريقته الخاصة في كتابة الشعر، فرغم أنه لم يكن يتمتع بقدر كبير من الخيال كغيره من الشعراء، ولكنه استطاع أن يستعيض عن ذلك النقص، بمزايا إبداعية أخرى، تتلخص في جزالة أبيات شعره، وحلاوة تركيبه، وحسن وطلاوة كلماته. وقد غطى هذا الكتاب الذي بين أيدينا المؤلفات الكاملة لشاعر النيل حافظ إبراهيم، فجمع بين دفتيه كافة الجوانب التي قرض فيها حافظ الشعر، وهي: المدائح والتهاني، والتقريظات، والأهاجي، والإخوانيات، والوصف، والخمريات، والغزل، والاجتماعيات، والسياسيات، والشكوى، والمراثي.
https://www.hindawi.org/books/63795362/4/
الإخْـوَانيَّـات
كتب بها من السودان إلى صديقه محمّد بك بيرم بعث حافظ بهذه القصيدة إلى داود عمّون بك الشاعر اللبناني والمحامي المعروف، فأجابه عليها بقصيدة تأتي بعدُ. كتب بها إلى صديقه أحمد بك بدر وهو في كُلّيّة أدنبره بإنجلترا أنشد هذه القصيدة في فندق الكونتننتال في الحفل الذي أقيم لتكريمه في يوم الجمعة ٣١ مايو ١٩١٢م قالها في حفل أقامه أعضاء نادي طنطا لتكريم حفني بك؛ لانتقاله من القضاء إلى التفتيش بنظارة المعارف كتب به إليه حينما أقيم حفل زواج كريمته السيّدة أمينة هانم بحامد العلايلي بك في كرمة ابن هانئ ولم يحضره حافظ لمرض ألمّ به رُزق الشيخ أمين تقيّ الدين الأديب السوريّ بمولود سمّاه حافظًا، وقال فيه: فقال حافظ: فقال الشيخ أمين: فقال حافظ: كان (أحمد شوقي بك) قد بعث بأبيات ثلاثة وهو في منفاه بالأندلس إلى حافظ، وهي: احتجب المرحوم حافظ إبراهيم بك حين كان بدار الكتب المصريّة بعض أيّام في بيته بالجيزة سنة ١٩١٨م فذهب صديقه محمّد الهرَّاوي الشاعر المعروف ليزوره، ولمّا رآه على غير حالته المألوفة جالت بعض المعاني في خاطره، فارتجل هذه الأبيات: فأجابه حافظ على البديهة أيضًا: (لمّا ولِي نقابة الأشراف في سنة ١٩٢٠م) بيتان ارتجلهما في الاستئذان على المغفور له سعد زغلول باشا قالها في الدكتور محجوب ثابت سنة ١٩٢٧م، وكان كلاهما في ضيافة المرحوم سعد زغلول باشا في مسجد وصيف، وكان الدكتور — فيما قالوا — مشغولاً بأمرين إذ ذاك: وزارة يتولاّها، وفتاة غنيّة من بيت عريق يتزوّجها وإلى هذا يشير الشاعر في هذه القصيدة: قال هذين البيتين عند زيارته للمجمع العلميّ بدمشق وكانت جوابًا عن قصيدة دعابية أيضًا بعث بها إليه هذا الصديق بعث به للأستاذ الإمام الشيخ محمّد عبده وقال يستقبله عند عودته من هذا المؤتمر: كتب بها من السودان إلى طائفة من إخوانه كتب بها إليه من السودان وكتب إليه أيضًا يعاتبه ويداعبه: وكتب إليه أيضًا يتشوّق: في يوم زفافه (٢ نوفمبر ١٩١٧) يستهديه من طعام العرس وثيابًا يلبسها، وكانا إذ ذاك متجاورين بالجيزة:
محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م. محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/63795362/
المُؤلَّفات الكاملة
محمد حافظ إبراهيم
كان حافظ إبراهيم صادقًا ومخلصًا في شعره، فكان يدوّن الشعر بدماء قلبه وأجزاء روحه، فأخرج لنا أدبًا قيمًا، يحث النفوس، ويشحذ الهمم، ويدفعها إلى النهضة. هذا الصدق والإخلاص هو الذي دفع بخليل مطران أن يقول عنه أنه أشبه بالوعاء يتلقى الوحي من شعور الأمة وأحاسيسها ومؤثراتها في نفسه، فيمتزج ذلك كله بشعوره وإحساسه، فيأتى منه القول المؤثر المتدفق بالشعور الذي يحس كل مواطن أنه صدى لما في نفسه. إن لحافظ طريقته الخاصة في كتابة الشعر، فرغم أنه لم يكن يتمتع بقدر كبير من الخيال كغيره من الشعراء، ولكنه استطاع أن يستعيض عن ذلك النقص، بمزايا إبداعية أخرى، تتلخص في جزالة أبيات شعره، وحلاوة تركيبه، وحسن وطلاوة كلماته. وقد غطى هذا الكتاب الذي بين أيدينا المؤلفات الكاملة لشاعر النيل حافظ إبراهيم، فجمع بين دفتيه كافة الجوانب التي قرض فيها حافظ الشعر، وهي: المدائح والتهاني، والتقريظات، والأهاجي، والإخوانيات، والوصف، والخمريات، والغزل، والاجتماعيات، والسياسيات، والشكوى، والمراثي.
https://www.hindawi.org/books/63795362/5/
الـوَصْـف
قالها ارتجالاً في مجلس من إخوانه يصف فيها الزينة الكبرى التي أقيمت بحديقة الأزبكيّة في مساء ٨يناير سنة ١٩٠١م قالها في جاك رومانو المغنّي الإسرائيلي المعروف وقال فيه أيضًا: أنشدها في ليلة أحياها نادي الألعاب الرياضيّة بالأوبرا السلطانيّة قال هذه الأبيات في حريق رآه بمنزل عبد الله أباظه بك قصيدة مترجمة عن الشاعر الإنجليزيّ شكسبير، قالها على لسان مكبث يخاطب خنجرًا تخيّله حينما همّ باغتيال ابن عمّه (دانكان) الملك ليخلفه في ملكه؛ ويصف تردّده أوّلاً ثمّ تصميمه بعد ذلك على تنفيذ ما أراد: وقال في هذا المعنى أيضًا: قال هذين البيتين في العام الذي أسّس فيه خزّان أسوان ونقص فيه الفيضان:
محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م. محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/63795362/
المُؤلَّفات الكاملة
محمد حافظ إبراهيم
كان حافظ إبراهيم صادقًا ومخلصًا في شعره، فكان يدوّن الشعر بدماء قلبه وأجزاء روحه، فأخرج لنا أدبًا قيمًا، يحث النفوس، ويشحذ الهمم، ويدفعها إلى النهضة. هذا الصدق والإخلاص هو الذي دفع بخليل مطران أن يقول عنه أنه أشبه بالوعاء يتلقى الوحي من شعور الأمة وأحاسيسها ومؤثراتها في نفسه، فيمتزج ذلك كله بشعوره وإحساسه، فيأتى منه القول المؤثر المتدفق بالشعور الذي يحس كل مواطن أنه صدى لما في نفسه. إن لحافظ طريقته الخاصة في كتابة الشعر، فرغم أنه لم يكن يتمتع بقدر كبير من الخيال كغيره من الشعراء، ولكنه استطاع أن يستعيض عن ذلك النقص، بمزايا إبداعية أخرى، تتلخص في جزالة أبيات شعره، وحلاوة تركيبه، وحسن وطلاوة كلماته. وقد غطى هذا الكتاب الذي بين أيدينا المؤلفات الكاملة لشاعر النيل حافظ إبراهيم، فجمع بين دفتيه كافة الجوانب التي قرض فيها حافظ الشعر، وهي: المدائح والتهاني، والتقريظات، والأهاجي، والإخوانيات، والوصف، والخمريات، والغزل، والاجتماعيات، والسياسيات، والشكوى، والمراثي.
https://www.hindawi.org/books/63795362/6/
الخَـمـريـَّـات
قال: وقال أيضًا: وقال: بَعَث بها من السودان إلى بعض أصدقائه بمصر
محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م. محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/63795362/
المُؤلَّفات الكاملة
محمد حافظ إبراهيم
كان حافظ إبراهيم صادقًا ومخلصًا في شعره، فكان يدوّن الشعر بدماء قلبه وأجزاء روحه، فأخرج لنا أدبًا قيمًا، يحث النفوس، ويشحذ الهمم، ويدفعها إلى النهضة. هذا الصدق والإخلاص هو الذي دفع بخليل مطران أن يقول عنه أنه أشبه بالوعاء يتلقى الوحي من شعور الأمة وأحاسيسها ومؤثراتها في نفسه، فيمتزج ذلك كله بشعوره وإحساسه، فيأتى منه القول المؤثر المتدفق بالشعور الذي يحس كل مواطن أنه صدى لما في نفسه. إن لحافظ طريقته الخاصة في كتابة الشعر، فرغم أنه لم يكن يتمتع بقدر كبير من الخيال كغيره من الشعراء، ولكنه استطاع أن يستعيض عن ذلك النقص، بمزايا إبداعية أخرى، تتلخص في جزالة أبيات شعره، وحلاوة تركيبه، وحسن وطلاوة كلماته. وقد غطى هذا الكتاب الذي بين أيدينا المؤلفات الكاملة لشاعر النيل حافظ إبراهيم، فجمع بين دفتيه كافة الجوانب التي قرض فيها حافظ الشعر، وهي: المدائح والتهاني، والتقريظات، والأهاجي، والإخوانيات، والوصف، والخمريات، والغزل، والاجتماعيات، والسياسيات، والشكوى، والمراثي.
https://www.hindawi.org/books/63795362/7/
الغَـزَل
قال ترجمة عن جان جاك روسّو: وقال ترجمة عنه أيضًا وقال ترجمةً عنه أيضًا: وقال: وقال: وقال يتغزّل في مليح ويعرِّض باحتلال الإنجليز: قالهما في مليح رأى خالاً على غُرّته
محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م. محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/63795362/
المُؤلَّفات الكاملة
محمد حافظ إبراهيم
كان حافظ إبراهيم صادقًا ومخلصًا في شعره، فكان يدوّن الشعر بدماء قلبه وأجزاء روحه، فأخرج لنا أدبًا قيمًا، يحث النفوس، ويشحذ الهمم، ويدفعها إلى النهضة. هذا الصدق والإخلاص هو الذي دفع بخليل مطران أن يقول عنه أنه أشبه بالوعاء يتلقى الوحي من شعور الأمة وأحاسيسها ومؤثراتها في نفسه، فيمتزج ذلك كله بشعوره وإحساسه، فيأتى منه القول المؤثر المتدفق بالشعور الذي يحس كل مواطن أنه صدى لما في نفسه. إن لحافظ طريقته الخاصة في كتابة الشعر، فرغم أنه لم يكن يتمتع بقدر كبير من الخيال كغيره من الشعراء، ولكنه استطاع أن يستعيض عن ذلك النقص، بمزايا إبداعية أخرى، تتلخص في جزالة أبيات شعره، وحلاوة تركيبه، وحسن وطلاوة كلماته. وقد غطى هذا الكتاب الذي بين أيدينا المؤلفات الكاملة لشاعر النيل حافظ إبراهيم، فجمع بين دفتيه كافة الجوانب التي قرض فيها حافظ الشعر، وهي: المدائح والتهاني، والتقريظات، والأهاجي، والإخوانيات، والوصف، والخمريات، والغزل، والاجتماعيات، والسياسيات، والشكوى، والمراثي.
https://www.hindawi.org/books/63795362/8/
الاجْتِماعيَّات
قالها ينعي فيها على المصريين بعض العيوب الاجتماعيّة، وما يراه من فوضى الرأي وقلّة الثبات عليه أنشدها في الحفل الذي أقامته كلّيّة البنات الأمريكيّة بمصر لتوزيع الشهادات على خرّيجاتها أنشدها في الحفل الذي أقامته المدرسة لتوزيع الجوائز على المتقدّمين من تلاميذها في ٣٠ نوفمبر سنة ١٩٠٦م أنشدها في الحفل الذي أقامه محفل الصدق الماسوني في دار التمثيل العربيّ، وخصّص إيراده لمشروع الجامعة المصريّة أنشدها في الحفل الذي أقامه لتكريمه جماعةٌ من السوريّين بفندق شبرد أنشدها في الحفل الذي أقيم في «تياترو برنتانيا» في ٨ مايو سنة ١٩٠٨م أنشدها في الحفل الذي أقامته هذه الجمعيّة في الأوبرا في ٨ أبريل سنة ١٩١٠م أنشدها في حفل أقيم ببورسعيد في ٢٩ مايو سنة ١٩١٠م لإعانة تلك المدرسة أنشدها في حفل أقامته جماعة رعاية الأطفال بالأوبرا، وقد استهلها بوصف القطار قالها عند عودة سموّه من دار الخلافة وقد عرض ليها لِمَا كان في مصر من الخلاف بين المسلمين والأقباط في سنة ١٩١١م أنشدها في حفل خيريّ أقامته هذه الجماعة في الأوبرا السلطانيّة لإعانة الطلبة الشاميّين بالأزهر ليلة الثلاثاء ١٥ يناير سنة ١٩١٦م أنشد هذه القصيدة بين يدي المغفور له السلطان حسين كامل في ليلة أحيتها الجمعيّة الخيريّة بالأوبرا السلطانيّة. وقد قالها على لسان صنيعة من صنائع الجمعيّة كان يتيمًا بائسًا، فكفلته الجمعيّة حتّى اكتمل عقلا وعِلمًا. قالها في حفل أقامته الجمعيّة لبناء مدرسة للعميان الأحداث بالأوبرا في ١٩ديسمبر سنة ١٩١٦م ونشرت في اليوم التالي أنشدها في الحفل الذي أقامته هذه الجمعيّة في يوم الثلاثاء أوّل مايو سنة ١٩٢٨م قالها في الحفل الذي أقامته الكلّيّة لتوزيع الشهادات والجوائز على الفائزات وقال على لسان طفلة: من شاعر مصر الكبير حافظ إبراهيم إلى فرعون مصر العظيم، باني الهرم ومسخّر الملايين. من الشاعر في عهد الحرّيّة الشخصيّة وحكم الديمقراطيّة، إلى فرعون في عهد الملوك الآلهة والرعايا العبيد. من ابن مصر في القرن العشرين بعد الميلاد، إلى سيّد مصر في القرن العشرين قبل الميلاد. قيلت بعد ائتلاف حزبي الوفد والأحرار الدستوريّين البلاغ الأسبوعي ٢٦ نوفمبر سنة ١٩٢٦ .أقامت نقابة المعلّمين حفلاً في دار الجامعة المصريّة مساء الجمعة ٢٩ من أكتوبر سنة ١٩٢٠ تكريمًا لمحسني المنوفيّة: حسنين عبد الغفّار وعبد العزيز حبيب ومحمود السيّد أبي حسين لتبرّعهم بسبعين فدّانًا من أطيانهم في المنوفيّة أوقفوها على التعليم. ودُعي حافظ للاشتراك في تكريمهم، فألقى هذه القصيدة: عندما أصدر الدكتور طه حسين مؤلّفه «في الشعر الجاهليّ» شنَّ عليه جامدو الفكر حملة بتكفيره وبخروجه على الإسلام، وتغالى بعضهم فطالبوا بإهدار دمه، وكان منهم المرحوم الدكتور عبد الحميد سعيد الذي كان عضوًا بمجلس النّواب ورئيسًا لجمعيّة الشبّان المسلمين وقتئذٍ فقال حافظ: لمّا ترجم حافظ كتاب البؤساء لفيكتور هوجو، أقبل الفضلاء على تعضيده بالاشتراك في أعداد من نسخ الكتاب، عدا شيخ الطريقة الدمرداشيّة وكان من أغنى أغنياء البلاد. فلّما انتهى طبع الكتاب، أرسل إليه حافظ نسخة هديّة، وكتب عليها إهداءه: كان حافظ مدعوَّا لإلقاء قصيدة في حفل جمعيّة رعاية الأطفال بحديقة الأزبكيّة. وعند دخوله أراد المشرف أن يداعبه، فطلب منه التذكرة، فقال له إنّه حافظ إبراهيم، وجاء للمشاركة في الاحتفال السنويّ كعادته بقصيدة، فزعم المشرف أنّه لا يعرفه، وعليه أن يثبت شخصيّته ببيتين يرتجلهما. فضحك حافظ وقال له: لم أرَ أخبث منك مشرفًا … وارتجل هذين البيتين: وضحك المشرف وقال: تفضَّل يا حافظ بك …
محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م. محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/63795362/
المُؤلَّفات الكاملة
محمد حافظ إبراهيم
كان حافظ إبراهيم صادقًا ومخلصًا في شعره، فكان يدوّن الشعر بدماء قلبه وأجزاء روحه، فأخرج لنا أدبًا قيمًا، يحث النفوس، ويشحذ الهمم، ويدفعها إلى النهضة. هذا الصدق والإخلاص هو الذي دفع بخليل مطران أن يقول عنه أنه أشبه بالوعاء يتلقى الوحي من شعور الأمة وأحاسيسها ومؤثراتها في نفسه، فيمتزج ذلك كله بشعوره وإحساسه، فيأتى منه القول المؤثر المتدفق بالشعور الذي يحس كل مواطن أنه صدى لما في نفسه. إن لحافظ طريقته الخاصة في كتابة الشعر، فرغم أنه لم يكن يتمتع بقدر كبير من الخيال كغيره من الشعراء، ولكنه استطاع أن يستعيض عن ذلك النقص، بمزايا إبداعية أخرى، تتلخص في جزالة أبيات شعره، وحلاوة تركيبه، وحسن وطلاوة كلماته. وقد غطى هذا الكتاب الذي بين أيدينا المؤلفات الكاملة لشاعر النيل حافظ إبراهيم، فجمع بين دفتيه كافة الجوانب التي قرض فيها حافظ الشعر، وهي: المدائح والتهاني، والتقريظات، والأهاجي، والإخوانيات، والوصف، والخمريات، والغزل، والاجتماعيات، والسياسيات، والشكوى، والمراثي.
https://www.hindawi.org/books/63795362/9/
السِّيَاسِيَّات
قالها وقد اقترح المؤيّد على الشعراء أن ينظموا في عتاب مولاي عبد العزيز سلطان مراكش ضمّنها غرامه بغادة يابانيّة، وأشاد بالشجاعة التي ظهرت بها أمّة اليابان في الحرب بينها وبين روسيا نظم هذه القصيدة إجابة لاقتراح صحيفة المؤيّد على الشعراء أن ينظموا في هذه الإمبراطورة، ويوازنوا بين مجيئها إلى مصر متنكّرة تنزل في فندق سافواي ببورسعيد، ومجيئها قبل ذلك في سنة ١٨٦٩ في افتتاح قناة السويس، واستقبال الخديوي إسماعيل إيّاها استقبالاً فخمًا. أنشدها في الحفل الذي أقيم في فندق (الكونتننتال) في مساء الجمعة ٢٦ يناير سنة ١٩٠٦م قالها عند استقالة اللورد وضمّنها آراء الناس في سياسته قالها في استقباله عند مجيئه إلى مصر معتمدًا للدولة الإنجليزيّة، خلفًا للُّورد كرومر يبثّ فيها آلام المصريّين وآمالهم قالها في ثورة الأتراك التي انتهت بخلع السلطان عبد الحميد وتولية السلطان محمّد الخامس أنشدها في الحفل الذي أقيم في حديقة الأزبكيّة في مساء الجمعة ٢٣ يوليه سنة ١٩٠٩م رئيس مجلس شورى القوانين والجمعية العموميّة، عبّر فيها عن آلام الأمّة المصرّية وآمالها أنشدها في حفل أقيم بتياترو عبّاس في ٩ مارس سنة ١٩١٠م برآسة رءوف باشا المعتمد العثماني قالها الشاعر عقب ضرب الأسطول الطلياني لمدينة بيروت انتقامًا من الأتراك؛ وذلك في عهد نشوب الحرب الطرابلسيّة التي وقعت بين الإيطاليين والترك في سنة ١٩١٢م، وقد فرض الشاعر هذه الرواية بين جريح من أهل بيروت، وزوج له اسمها (ليلى)، وطبيب، ورجل عربيّ. نشرت في سنة ١٩١٤م ويلاحظ أنّ هذه القصيدة كانت قد أُعدّت لاستقبال الطيّار المذكور، فسقطت به طائرتُه، ومات قبل إتمام رحلته إلى مصر فرأى حافظ من الوفاء نشر هذه القصيدة بعد موته؛ لتكون له حيًّا وميتًا. قالها عند تعيين معتمد جديد لبريطانيا، وهو السير مكماهون قالها يَنكر عليه إثارته الحرب العظمى وما ارتكبه فيها من الفظائع قالها في مظاهرة قامت بها السيّدات في الثورة الوطنيّة في سنة ١٩١٩م ونشرت إذ ذاك في منشورات وطنيّة، وتأخّر نشرها في الصحف إلى ١٢ مارس سنة ١٩٢٩م قالها حين خيف على الأستانة أن تمتلكها دول الحلفاء وتنزعها من يد الأتراك وذلك عقب الحرب العظمى، وكانت جيوش تلك الدول قد احتلّت هذه المدينة (وتأخّر نشر هذه القصيدة إلى سنة ١٩٣٢م) أنشدها في الحفل الذي أقيم بفندق الكونتننتال لتكريم المرحوم عدلي يكن باشا بعد عودته من أوربا قاطعًا المفاوضة مع الإنجليز ومستقيلاً من الوزارة. نشرت في ١٥ ديسمبر سنة ١٩٢١م وهذه القصيدة على لسان مصر تتحدّث عن نفسها (نشرت في ١٥ مارس سنة ١٩٢٣م تحت عنوان: «بين اليقظة والمنام») قالها في عهد وزارة إسماعيل صدقي باشا وقد نظمها حافظ بعد إحالته إلى المعاش في سنة ١٩٣٢م وكانت تبلغ نحو مائتي بيت لم نعثر منها إلاّ على هذه الأبيات ومنها في الإنجليز: ومنها في مخاطبة إسماعيل صدقي باشا: إلى الإنجليز: قالها وكان الإنجليز إذ ذاك يدّعون الحياد في الشئون المصريّة قالهما تنديدًا بكاتب فرنسي كان قد زعم أنّ جلاء الإنجليز عن مصر سيكون في أكتوبر جاءت الأنباء بسقوط مدينة أدرنة التابعة لدولة الخلافة العثمانية يوم الاحتفال بزفاف كريمة الخديو إلى نجل الصدر الأعظم جلال باشا، فأرسل حافظ هذه البرقية إلى الخديو: فأمر الخديو بإزالة معالم الزينات مشاركة للخليفة وللعالم الإسلامي في تلك النكبة. قصر الدوبارة هو القصر الذي يقيم فيه المعتمد البريطاني ممثل الاحتلال وصاحب السلطة الفعلية في البلاد. وقصر عابدين هو قصر الخديو صاحب السلطة الشرعية والخاضع للسلطان الإنجليزي. وفي هذين البيتين بعقد حافظ مقارنة بين كلا الحاكمين. من حافظ شاعر مصر إلى فؤاد ملك مصر:
محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م. محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/63795362/
المُؤلَّفات الكاملة
محمد حافظ إبراهيم
كان حافظ إبراهيم صادقًا ومخلصًا في شعره، فكان يدوّن الشعر بدماء قلبه وأجزاء روحه، فأخرج لنا أدبًا قيمًا، يحث النفوس، ويشحذ الهمم، ويدفعها إلى النهضة. هذا الصدق والإخلاص هو الذي دفع بخليل مطران أن يقول عنه أنه أشبه بالوعاء يتلقى الوحي من شعور الأمة وأحاسيسها ومؤثراتها في نفسه، فيمتزج ذلك كله بشعوره وإحساسه، فيأتى منه القول المؤثر المتدفق بالشعور الذي يحس كل مواطن أنه صدى لما في نفسه. إن لحافظ طريقته الخاصة في كتابة الشعر، فرغم أنه لم يكن يتمتع بقدر كبير من الخيال كغيره من الشعراء، ولكنه استطاع أن يستعيض عن ذلك النقص، بمزايا إبداعية أخرى، تتلخص في جزالة أبيات شعره، وحلاوة تركيبه، وحسن وطلاوة كلماته. وقد غطى هذا الكتاب الذي بين أيدينا المؤلفات الكاملة لشاعر النيل حافظ إبراهيم، فجمع بين دفتيه كافة الجوانب التي قرض فيها حافظ الشعر، وهي: المدائح والتهاني، والتقريظات، والأهاجي، والإخوانيات، والوصف، والخمريات، والغزل، والاجتماعيات، والسياسيات، والشكوى، والمراثي.
https://www.hindawi.org/books/63795362/10/
الشّكوى
قال حافظ هذين البيتين، وكان يعمل بمكتبه في أوّل شبابه قبل انتظامه في سلك المدرسة الحربيّة، ثمّ تركه لخلاف وقع بينهما بيتان مترجمان عن (جان جاك روسو) يصف سعيه المتواصل وبؤسه وإباءه، ويتمنّى الراحة من ذلك بالموت وفيها ينعي مجد الترك والعرب، ويشير إلى معان أخرى في الشكوى قال هذه القصيدة في دار وسط مزارع في الجيزة قضى فيها بعض أيّام شبابه، ثمّ مَرّ بها بعد عهد طويل من تحوّله عنها فتحرّكت في نفسه ذكريات، وجاش صدره بهذه الأبيات وقال: (كتب بها من السودان إلى بعض أصدقائه يشكو حظّه ويتشوّق إلى مصر) وقال: وقال في مرض له: كتب به إليه من السودان كتابي إلى سيِّدي، وأنا من وَعْدِه بين الجَنَّة والسَّلْسَبيل، ومِنْ تِيهي به فوقَ النَّثْرَةِ والإكْليل؛ وقد تَعَجَّلْتُ السُّرور، وتَسَلَّفْتُ الحُبُور؛ وقَطَّعْتُ ما بيني وبين النَّوائب وجَمَعْتُ فيه بين ثِقَةِ الزَّبيديِّ بالصَّمصامَة، والحارِثِ بالنَّعامة؛ فلمْ أقُلْ ما قال الهُذَليُّ لصاحِبِه حين نَسيَ وَعْدَه، وحَجَب رِفْدَه: بل أناديه نداءَ الأخيذَةِ في عَمُّوريَّة، شُجاعَ الدَّوْلةِ العَبّاسيّة؛ وأمُدُّ صوتي بذِكْرِ إحسانه، مَدَّ المُؤَذِّنِ صَوْتَه في أذانِه؛ وأعْتَمِدُ عليه في البُعْد والقُرْب، اعتمادَ الملاّحِ على نَجْمَةِ القُطْب. وهأنا مُتماسِكٌ حتّى تَنْحَسِرَ هذه الغَمْرة، ويَنْطَوي أجَلُ تلكَ الفَتْرة؛ ويَنظُرُ لي سيِّدي نَظْرَةً تَرْفَعُني من ذاتِ الصَّدْع، إلى ذاتِ الرَّجْع؛ وتَرُدُّني إلى وَكْري الّذي فيه دَرَجْتُ ردَّ الشمسِ قَطْرَةَ المُزْنِ إلى أصْلِها، ورَدَّ الوَفيِّ الأماناتِ إلى أهلِها. فلقد حَلَلْتُ السُّودانَ حُلولَ الكَليم في التّابوت، والمُغاضِبِ في جَوْفِ الحُوت؛ بين الضِّيق والشِّدّة، والوَحْشَةِ والوحْدة. لا، بل حُلول الوَزيرِ في تَنُّورِ العّذاب والكافر في مَوْقِف يومِ الحِساب؛ بين نارَين: نارِ القَيْظ، ونارِ الغَيْظ. واليومَ أكتُبُ إليه وقد قَعَدَتْ هِمّةُ النَّجْمَيْن، وقَصُرَتْ يدُ الجَديدَين؛ عن إزالَةِ ما في نَفْسِ ذلك الجَبّارِ العَنيد، فلقد نَمَى ضِبُّ ضِغْنِه عليَّ، وبَدَرَتْ بوادِرُ السُّوء منه إليّ؛ فأصْبَحْتُ كما سَرَّ العَدُوَّ وساءَ الحَميم، وآلامي كأنَّها جُلودُ أهْلِ الجحيم، كلَّما نَضِجَ منها أديمٌ تَجدَّد أديم؛ وأمْسَيْتُ ومُلْكُ آمالي إلى الزَّوال أسْرَعُ من أثَرِ الشِّهابِ في السَّماء، ودَوْلَةُ صَبْري إلى الاضْمِحْلال أحَثُّ من حَبابِ الماء؛ فنَظَرْتُ في وُجوه تلك العِباد، وإنِّي لَفارسُ العَيْن والفُؤاد؛ فلَمْ تَقِفْ فِراسَتي على غير بابِك. وإنِّي أُهْديكَ سَلامًا لو امتزَجَ بالسَّحاب، واختَلَط منه باللُّعاب؛ لأصْبَحَتْ تَتَهادَى بقَطْرِه الأكاسِرَه، وأمْسَتْ تَدَّخِرُ منه الرُّهْبانُ في الأدْيِرَة؛ ولأغْنَى ذاتَ الحِجاب، عن الغاليةِ والمَلاب؛ ولا بِدْعَ إذا جادَ السَّيِّدُ بالرَّدّ، فقد يُرى وَجْهُ المَليكِ في المِرْآة، وخَيالُ القَمَر في الأضاة؛ وإن حال حائل، دون أُمْنِيَّةِ هذا السائل؛ فهو لا يَذُمُّ يَوْمَك، ولا يَيْأسُ من غَدِك؛ فأنتَ خَيْرُ ما تكونُ حينَ لا تَظُنُّ نَفْسٌ بنَفْسٍ خَيرًا؛ والسَّلام.
محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م. محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/63795362/
المُؤلَّفات الكاملة
محمد حافظ إبراهيم
كان حافظ إبراهيم صادقًا ومخلصًا في شعره، فكان يدوّن الشعر بدماء قلبه وأجزاء روحه، فأخرج لنا أدبًا قيمًا، يحث النفوس، ويشحذ الهمم، ويدفعها إلى النهضة. هذا الصدق والإخلاص هو الذي دفع بخليل مطران أن يقول عنه أنه أشبه بالوعاء يتلقى الوحي من شعور الأمة وأحاسيسها ومؤثراتها في نفسه، فيمتزج ذلك كله بشعوره وإحساسه، فيأتى منه القول المؤثر المتدفق بالشعور الذي يحس كل مواطن أنه صدى لما في نفسه. إن لحافظ طريقته الخاصة في كتابة الشعر، فرغم أنه لم يكن يتمتع بقدر كبير من الخيال كغيره من الشعراء، ولكنه استطاع أن يستعيض عن ذلك النقص، بمزايا إبداعية أخرى، تتلخص في جزالة أبيات شعره، وحلاوة تركيبه، وحسن وطلاوة كلماته. وقد غطى هذا الكتاب الذي بين أيدينا المؤلفات الكاملة لشاعر النيل حافظ إبراهيم، فجمع بين دفتيه كافة الجوانب التي قرض فيها حافظ الشعر، وهي: المدائح والتهاني، والتقريظات، والأهاجي، والإخوانيات، والوصف، والخمريات، والغزل، والاجتماعيات، والسياسيات، والشكوى، والمراثي.
https://www.hindawi.org/books/63795362/11/
المَرَاثي
وقال يرثيه أيضًا: أنشدها في حفل الأربعين في ٢٠ مارس سنة ١٩٠٨م أنشدها في الحفل الذي أقيم عند قبره لإحياء ذكراه الأولى أنشدها على قبره في حفل الأربعين أنشدها في الحفل الذي أقيم لتأبينه بمنزل السادات أنشدها في الحفل الذي أقيم لتأبينه في الجامعة قالها في رثاء الطيّارين العثمانيّين فتحي بك وصادق بك اللذين سقطت بهما الطيّارة قرب دمشق، وكانا يعتزمان الطيران من دمشق إلى القدس ثمّ إلى مصر، ويؤمل فيها وصول الطيّار الآخر نوري بك سالمًا أنشدها في الحفل الذي أقيم في نادي جمعيّة الاتّحاد السوريّ في مساء الأحد ٩ فبراير سنة ١٩١٧م أنشدها في الحفل الذي أقيم لتأبينهما في مدرسة القصر العَيني في ٢٣ فبراير سنة ١٩١٧م أنشدها عند دفنه (أنشد هذين البيتين على قبره في سنة ١٩١٩م) قالها على لسان إبراهيم رمزي بك في حفل تأبين ابنه عبد الحميد، وكان طالبًا بالمدارس الثانويّة، ولم يَقوَ أبوه على الكلام في هذا الحفل، فناب عنه حافظ وقال هذه القصيدة: أنشدها في الحفل الذي أقيم بالجامعة المصريّة في يوم الثلاثاء ١١ يوليه سنة ١٩٢٢م وقد ضمّنها رثاء المرحوم حفني ناصف بك قالها في الحفل الذي أقامه الأحرار الدستوريّون لتأبين الفقيدي (يوم الأربعين ٢٦ ديسمبر سنة ١٩٢٢م)ن أنشدها في حفل التأبين الذي أقيم في فناء مدرسة المعلّمين بالمنيرة في مايو سنة ١٩٢٣م، وحين وقف لإنشاد هذه القصيدة.. أكثر المجتمعون التصفيق ترحيبًا به، فقال مرتجلاً: ثمّ ابتدأ في إنشاد قصيدته: أنشدها في الحفل الذي أقيم لتأبين الفقيد في ٧ أكتوبر سنة ١٩٢٧م أنشدها في الحفل الذي أقامه الحزب الوطني لذكرى الشهداء في ١٦ فبراير سنة ١٩٢٨م أنشدها في الحفل الذي أقيم لتأبينه بدار الأوبرا الملكيّة في ٣٠ مارس سنة ١٩٢٨م أنشدها في الحفل الذي أقيم بالأوبرا الملكية لتأبينه في يوم السبت ١٠ نوفمبر سنة ١٩٢٨م أبيات قالها وهو يسير خلف نعشه وقال يرثيه أيضًا: أنشد هذه القصيدة في حفل التأبين الذي أقيم في مسرح حديقة الأزبكيّة في ١٣ يونيه ١٩٣٠م وقال يرثيه أيضًا: (نشرت في ١٦ يونيه ١٩٣٢م) وهو ابن المرحوم عبده الحمولي المغنّي المعروف، وكان قد مات بعد قرانه بقليل وقال يرثيها أيضًا: بلغ حافظًا أنّ جورج الخامس ملك إنجلترا قد توفِّي، فلم يكد يسمع هذا النبأ حتى بدأ ينظم قصيدة في رثائه، ثمّ تبيّن له — بعدُ — عدمُ صحّة هذا الخبر وقد وقفنا على بيتين من هذه المرثيّة، وهما: في سنة ١٩٢٠ أوفدت مصر أوّل بعثة دراسيّة من شبابها النابه إلى أوربا لاستكمال دراساتهم العليا في جامعاتها، وقد ذهبوا جميعًا ضحيّة حادث أليم وقع للقطار الذي كان يقلّهم عبر إيطاليا في أكبر كارثة للسكك الحديديّة شهدتها أوربا. وكان وَقْع المصاب الفادح بالغ الألم والأثر في مصر وفي سائر البلاد العربيّة والأجنبيّة. وقد رثاهم شاعر النيل بهذه القصيدة التي ألقيت في حفل جريدة السفور التي أقيمت مساء ١٤ من أبريل سنة ١٩٢٠. (أُلقِيت في حفل تأبينه) كان أحمد حشمت باشا من رجالات مصر في العصر السابق، وليَ مناصب القضاء والإدارة ثمّ وزيرًا للمعارف «التربية والتعليم الآن». وقد ناصَر الأدب واللغة العربيّة في عصر اشتدّت حملة الاستعمار والمبشّرين عليها شدّة مسعورة، وكانت له — رغم منصبه الوزاري ووجود مستشار المعارف الإنجليزي — مواقفُ مشهودة، خرجت بفضلها اللغة العربيّة سليمة خالصة لأهلها، وحفظت عليهم لسانهم العربيّ المبين. وكان من الطبَعِيِّ أن تقوم الصلة قويّة متينة بين حشمت باشا وشاعر النيل، وأن يقرِّبَه الوزير إليه، ويعيّنه رئيسًا للقسم الأدبي بدار الكتب المصريّة. فكان عملا جريئًا من الوزير أن يعيّن في وظيفة حكوميّة، أديبًا يطارد الاستعمار ويطارده الاستعمار في عصر الاستعمار. ولقد رثاه الشاعر سنة ١٩٢٦ بهذه المرثية المنبعثة من ضمير ووجدان الشاعر الوطنيّ الوفيّ الكليم.
محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م. محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/95180614/
دِنْدِشُ الْعَجِيبُ
كامل كيلاني
دندش ثعلب مكار، له ولدان، خرج يبحث لهما ولنفسه عن طعام. وقد ابتدع الحيل والمكائد ليصطاد الطيور والأرانب، إلا أن الغراب استطاع أن يكشف سره للحيوانات والطيور، فهرب الثعلب دندش خوفًا من الكلاب التي أخبرتها الحيوانات والطيور بمكائده.
https://www.hindawi.org/books/95180614/1/
دِنْدِشُ الْعَجِيبُ
«دِنْدِشُ» ثَعْلَبٌ مَكَّارٌ. «دِنْدِشُ» لَهُ وَلَدانِ: ثَعْلَبانِ أَخَوانِ صَغِيرانِ. «دِنْدِشُ» خَرَجَ يَبْحَثُ لِنَفْسِهِ وَلِوَلَدَيْهِ عَنْ طَعامٍ. أَيْنَ الْوَزُّ وَالْبَطُّ وَالدَّجَاجُ؟ كُلُّ الطُّيُورِ هَرَبَتْ، خائِفَةً مِنْ «دِنْدِشَ». «دِنْدِشُ» قالَ لِلْعُصْفُورَةِ: «أَنْا زَعْلَانُ. الطُّيُورُ تَهْرُبُ مِنِّي.» الْعُصْفُورَةُ قالَتْ: «الطُّيُورُ تَخَافُ أَنْ تَأْكُلَهَا.» «دِنْدِشُ» قالَ: «أَنا أُحِبُّ الطُّيُورَ. أَنا زَرَعْتُ جُنَيْنَةً تَتَنَزَّهُ فِيها الطُّيُورُ.» الْعُصْفُورَةُ صَدَّقَتْ مَا قالَهُ «دِنْدِشُ». الْعُصْفُورَةُ طارَتْ فَرْحانَةً. الْعُصْفُورَةُ قالَتْ: «أَنا أُخْبِرُ الطُّيُورَ بِما سَمِعْتُهُ مِنْ «دِنْدِشَ» الْعَجِيبِ: «دِنْدِشُ» لا يَأْكُلُ الطُّيُورَ! «دِنْدِشُ» قالَ: إِنَّهُ يُحِبُّ الطُّيُورَ.» الْعُصْفُورَةُ أَخْبَرَتِ الْبَطَّةَ بِما قالَهُ «دِنْدِشُ». الْبَطَّةُ صَدَّقَتْ ما سَمِعَتْهُ مِنَ الْعُصْفُورَةِ. الْعُصْفُورَةُ أَخْبَرَتِ الْوَزَّةَ بِما قالَهُ «دِنْدِشُ». الْوَزَّةُ صَدَّقَتْ ما قالَهُ «دِنْدِشُ» لِلْعُصْفُورَةِ. الدَّجَاجَةُ صَدَّقَتْ ما سَمِعَتْهُ مِنَ الْعُصْفُورَةِ. الدِّيكُ صَدَّقَ ما قَالَهُ «دِنْدِشُ» لِلْعُصْفُورَةِ. الدِّيكُ الرُّومِيُّ صَدَّقَ كَلامَ الْعُصْفُورَةِ. الْأَرْنَبُ صَدَّقَ ما سَمِعَتْهُ الْعُصْفُورَةُ مِنْ «دِنْدِشَ». «أَبُوْ حُدَيْجٍ» لَقْلَقٌ ظَرِيفٌ شُفْناهُ فِي جُنَيْنَةِ الْحَيَوانِ. «أَبُوْ حُدَيْجٍ» صَدَّقَ كَلامَ الْعُصْفُورَةِ. «أَبُو قِرْدانَ» طائِرٌ نَافِعٌ. «أَبُو قِرْدانَ» صَدَّقَ كَلامَ الْعُصْفُورَةِ. الْماعِزَةُ صَدَّقَتْ ما سَمِعَتْهُ مِنَ الْعُصْفُورَةِ. النَّعْجَةُ الصَّغِيرَةُ صَدَّقَتْ كَلامَ الْعُصْفُورَةِ. «دِنْدِشُ» قالَ: «أَهْلًا وَسَهْلًا بِالدَّجاجَةِ الْعَزِيزَةِ.» «دِنْدِشُ» قالَ: «أَهْلًا وَسَهْلًا بِالدِّيكِ الرُّومِيِّ.» «دِنْدِشُ» قالَ: «أَهْلًا وَسَهْلًا بِالدِّيكِ الْعَزِيزِ.» «دِنْدِشُ» قالَ: «أَهْلًا وَسَهْلًا بِالْوَزَّةِ الظَّرِيفَةِ.» الْأَرْنَبُ «نَبْهَانُ» قالَ لِأَخَوَيْهِ: «لا تَذْهَبا إِلَى «دِنْدِشَ». «دِنْدِشُ» غَدَّارٌ. «دِنْدِشُ» يَأْكُلُ الْأَرَانِبَ. أَنا أَخافُ عَلَيْكُما.» الأَرْنَبانِ لَمْ يَسْمَعا كَلامَ أَخِيهِما. الأَرْنَبانِ ذَهَبا إِلَىَ جُنَيْنَةِ «دِنْدِشَ». «دِنْدِشُ» ذَهَبَ يُبَشِّرُ وَلَدَيْهِ الثَّعْلَبَيْن الصَّغِيرَيْنِ أَنَّهُ خَدَعَ الْعُصْفُورَةَ.. وَأَنَّ الْجُنَيْنَةَ امْتَلَأَتْ بِالطُّيُورِ السَّمِينَةِ. الْغُرابُ سَمِعَ ما قالَهُ «دِنْدِشُ» لِلثَّعْلَبَين الصَّغِيرَيْنِ. الْغُرابُ طارَ لِيُخْبِرَ الْعُصْفُورَةَ. الْغُرابُ أَخْبَرَ الْعُصْفُورَةَ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ «دِنْدِشَ» الْأَرْنَبُ «نَبْهانُ» سَمِعَ ما قالَهُ الْغُرابُ لِلْعُصْفُورَةِ. «نَبْهانُ» خافَ عَلَى أَخَوَيْهِ. «نَبْهانُ» أَسْرَعَ إِلَىَ الْكَلْبِ «تُوتُو». الْأَرْنَبُ أَخْبَرَ «تُوتُو» بِما قالَهُ الْغُرابُ. «تُوتُو» أَخْبَرَ أَخَوَيْهِ بِما قالَهُ «نَبْهانُ». الثَّعالِبُ هَرَبَتْ لَمَّا شافَتِ الْكِلابَ. الطُّيُورُ فَرِحَتْ بِنَجاتِها مِنَ الثَّعْلَبِ الْمَكَّارِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/42693159/
الْأَرْنَبُ الذَكِيُّ
كامل كيلاني
قصة مسلية تدور أحداثها بين الذئب والأرنب الذكي، الذي يأكل محصول أرض الذئب، وعندما ينصب له الذئب فخًّا في المرة التالية، يستطيع الأرنب الفرار من هذا الفخ بحيلة ذكية.
https://www.hindawi.org/books/42693159/1/
الْأَرْنَبُ الذَكِيُّ
كانَ لِلذِّئْبِ حَدِيقَةٌ صَغِيرَةٌ وَرِثَها عَنْ أُمِّهِ، وكانَ يَزْرَعُ فِيها كَثِيرًا مِنَ الْكُرُنْبِ، وَيَتَعَهَّدُهَا بِعِنَايَتِهِ، (أَعْنِي: يَزُورُهَا، وَيَتَرَدَّدُ عَلَيْها — مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ — لِيُصْلِحَهَا)، حَتَّى امْتَلَأَتْ حَدِيقَتُهُ بِأَحْسَنِ أَنْوَاعِ الْكُرُنْبُ اللَّذِيْذِ. وَفِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ دَخَلَ الْأَرْنَبُ حَدِيقَةَ الذِّئْبِ، وَرَأَى مَا فِيها مِنَ الْكُرُنْبِ الْشَّهِيِّ — وَكانَ قَدْ نَضِجَ (أَيِ: اسْتَوَى) — فَأَكَلَ مِنْهُ الْأَرْنَبُ حَتَّى شَبِعَ. ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْحَدِيْقَةِ، وَعادَ إِلَىَ بَيْتِهِ فَرْحَانَ مَسْرُورًا. وَبَعْدَ قَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ عَادَ الذِّئْبُ إلَى حَدِيقَتِهِ، لِيَتَعَهَّدَ مَا فِيها مِنَ الْكُرُنْبِ. فَلَمَّا رَأَى مَا أَصابَ الْكُرُنْبَ مِنَ التَّلَفِ، دَهِشَ أَشَدَّ دَهْشَةٍ، وَقَالَ فِيْ نَفْسِهِ مُتَعَجِّبًا: «مَنْ — يا تُرَى — جاءَ إِلَى حَدِيقَتِي؟ وَكَيْفَ جَرُؤَ عَلَىَ أَكْلِ مَا زَرَعَتُهُ فِيها مِنَ الْكُرُنْبِ؟» وَبَحَثَ الذِّئْبُ فِي أَرْضِ الْحَدِيقَةِ، فَرَأَى آثارَ أَقْدَامِ الْأَرْنَبِ، فَعَرَفَ أَنَّ جَارَهُ الْأَرْنَبَ هُوَ الَّذِي دَخَلَ حَدِيقَتَهُ، وأَكَلَ مِمَّا فِيها مِنَ الْكُرُنْبِ. ثُمَّ فَكَّرَ الذِّئْبُ طَوِيلًا فِيٌ الْوَسِيلَةِ الَّتِي يَسْلُكُهَا لِلِانْتِقامِ مِنْ ذَلِكَ الْأَرْنَبِ الْجَرِيءِ. وَأَخِيرًا اهْتَدَى إِلَى حِيلَةٍ نَاجِحَةٍ يَصِلُ بِهَا إِلَى غَرَضِهِ. ثُمَّ ذَهَبَ الذِّئْبُ إِلَى مَكانٍ قَرِيبٍ مِنْ حَدِيقَتِهِ الْجَمِيلَةِ، فَأَحْضَرَ قَلِيلًا مِنَ الْقَطِرانِ، وَصَنَعَ — مِنْ ذَلِكَ الْقَطِرانِ — تِمثالَ صَبِيٍّ صَغِيرٍ، ثُمَّ وَضَعَهُ بِالْقُرْبِ مِنْ شُجَيْرَاتِ الْكُرُنْبِ، أَعْنِي: أَشْجَارَهُ الصَّغِيرَةَ. وَكَانَ مَنْظَرُ ذَلِكَ التِّمثالِ ظَرِيفًا مُضْحِكًا جِدًّا. وَفَرِحَ الذِّئْبُ بِاهْتِدَائِهِ (أَيْ: تَوَصُّلِهِ) إِلَى هذِهِ الْحِيلَةِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ سَيَنْتَقِمُ مِنْ عَدُوِّهِ الَّذِي اجْتَرَأَ عَلَى دُخُولِ حَدِيقَتِهِ. ثُمَّ عَادَ الذِّئْبُ إِلَى بَيْتِهِ، وَهُوَ فَرْحَانُ بِذَلِكَ أَشَدَّ الْفَرَحِ. وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي عادَ الْأَرْنَبُ إِلَى حَدِيقَةِ الذِّئْبِ لِيَأْكُلَ مِنَ الْكُرُنْبِ كَما أَكَلَ فِي الْيَوْمِ الْمَاضِي. وَلَمَّا رَأَى التِّمْثالَ بِجِوارِ شُجَيْرَاتِ الْكُرُنْبِ ظَنَّهُ صَبِيٍّا جَالِسًا، فَحَيَّاهُ (أَيْ: سَلَّمَ عَلَيْهِ) — مُبْتَسِمًا — وَقَالَ لَهُ: «صَبَاحُ الْخَيْرِ أَيُّهَا الصَّبِيُّ الظَّرِيفُ!» فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ التِّمْثَالُ تَحِيَّتَهُ، وَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ. فَعَجِبَ الْأَرْنَبُ مِنَ سُكاتِهِ، وَحَيَّاهُ مَرَّةً ثَانِيَةً. وَلَكِنِ التِّمْثَالُ لَمْ يُرُدَّ عَلَيْهِ تَحِيَّتَهُ، وَلَمْ يَنْطِقُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. فَزَادَ عَجَبُ الْأَرْنَبِ مِنْ صَمْتِهِ (أَيْ: سُكَاتِهِ)، وَقَالَ لَهُ غَاضِبًا. «كَيْفَ أُحَيِّيكَ فَلا تَرُدَّ التَّحِيَّةَ عَلَى مَنْ يُحَيِّيكَ؟» وَلَكِنِ التِّمْثَالُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا! فَاغْتاظَ الْأَرْنَبُ مِنْ سُكَاتِ ذَلِكَ الْصَّبِيِّ، وَقَالَ لَهُ، وَقَدِ اشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِ: «سَأُرْغِمُكَ عَلَى رَدِّ التَّحِيَّةِ، أَيُّها الصَّبِيُّ الْجَرِيءُ» ثُمَّ اقتَرَبَ الْأَرْنَبُ مِنَ التِّمْثَالِ، وَضَرَبَهُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، فَلَزِقَتْ بِالتِمْثالِ، وَحَاوَلَ الْأَرْنَبُ أَنْ يَنْتَزِعَها مِنْهُ — بِكُلِّ قُوَّتِهِ — فَلَمْ يَسْتَطِعْ. وَذَهَبَ تَعَبُهُ كُلُّهُ بِلا فَائِدَةٍ. فَصَاحَ الْأَرْنَبُ مُغْتاظًا: «لَا تُمْسِكُ بِيَدِي أَيُّها الصَّبِيُّ الْعَنِيدُ! أَطْلِقْ يَدِي، وَإلَّا لَطَمْتُكَ بِيَدِي الْأُخْرَى.» فَلَمْ يُجِبْهُ التِّمْثالُ، فَاشْتَدَّ غَيْظُ الْأَرْنَبِ مِنْهُ، وَلَطَمَهُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، فَالْتَزَقَتْ بِالتِّمْثال — كَمَا الْتَزَقَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى — مِنْ قَبْلُ — وَعَجَزَ عَنْ نَزْعِهَا مِنْهُ أَيْضًا. وَهكَذا أَوْثَقَ التِّمْثَالُ يَدَيْهِ (أَيْ: رَبَطَهُما). فَاشْتَدَّ غَضَبُ الْأَرْنَبِ عَلَى التِّمْثالِ، وَأَرادَ أَنْ يَرْكُلَهُ (أَيْ: يَضْرِبهُ بِرِجْلِهِ) قَائِلًا: «أَتَظُنُّ أَنَّنِي عَجَزْتُ عَنْ ضَرْبِكَ بَعْدَ أَنْ أُوْثَقْتَ يَدَيَّ؟ إِنَّنِي أَسْتَطِيعُ أَنْ أرْفُسَكَ!» فَلَمْ يُجِبْهُ التِّمْثَالُ، فَرَكَلَهُ الْأَرْنَبُ (أَيْ: رَفَسَهُ) بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى، فَلَزِقَتْ رِجْلُهُ بِهِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخَلِّصَهَا مِنْهُ، فَرَكَلَهُ بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى رَكْلَةُ عَنِيفَةً، فَالْتَصَقَتْ بِهِ. فَصَرَخَ الْأَرْنَبُ — مُتَأَلِّمًا — وَقَالَ: «اتْرُكْنِي أَيُّها الْوَلَدُ الْعَنِيدُ. دَعْنِي أَذْهَبْ مِنْ حَيْثُ جِئْتُ، وَإِلَّا نَطَحْتُكَ بِرَأْسِي». وَلَكِنَّهُ لَمْ يُجِبْهُ، فَاشْتَدَّ غَضَبُ الْأَرْنَبِ وَغَيْظُهُ. ونَطَحَهُ بِرَأْسِهِ، فَالْتَصَقَ رَأْسُهُ بِالتِّمْثالِ أَيْضًا. وَهكَذا أَصْبَحَ جِسْمُ الْأَرْنَبِ كُلُّهُ مُلْتَصِقًا بِالتِمْثَالِ، وَلَمْ يَجِدْ سَبِيْلًا إِلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ. وَبَعْدَ قَلِيْلٍ مِنَ الزَّمَنِ عَادَ الذِّئْبُ إِلَى حَدِيقَتِهِ، فَرَأَى الْأَرْنَبَ مُلْتَصِقًا بِالتِّمْثالِ، فَفَرِحَ بِنَجَاحِ حِيلَتِهِ وَظَفَرِهِ بِعَدُوِّهِ الَّذِي أَكَلَ الْكُرُنْبَ مِنْ حَدِيقَتِهِ. وَقَالَ لَهُ سَاخِرًا: «صَبَاحُ الْخَيْرِ يَا أَبا «نَبْهانَ». آنَسْتَنا يَا سَيِّدَ الْأَرْانِبِ، وَمَرْحَبًا بِكَ أَيُّها الضَّيْفُ الْعَزِيْزُ! لَقَدْ زُرْتُ حَدِيقَتِي أَمْسِ وَالْيَوْمَ، وَلَنْ تَزُورَها — بَعْدَ ذَلِكَ — مَرَّةً أُخْرَى.» فَذُعِرَ الْأَرْنَبُ (أَيْ: خافَ) حِينَ رَأَى الذِّئْبَ أَمَامَهُ. وَزادَ رُعْبُهُ (أَيْ: خَوْفُهُ) حِينَ سَمِعَ مِنْهُ هذا التَّهْدِيدَ، وَأَيْقَنَ بِالْهَلاكِ، وَنَدِمَ عَلَى مَجِيئِهِ أَشَدَّ النَّدَمِ. وَقَالَ لَهُ مُتَوَسِّلًا، مُعْتَذِرًا لَهُ عَنْ زَلَّتِهِ (أَيْ: خَطَئِهِ): «اصْفَحْ عَنْ ذَنْبِي — يا «أَبا جَعْدَةَ» وَتَجاوَزْ عَنْ خَطَئِي. اصْفَحْ عَنْ زَلَّتِي يا سَيِّدَ الذِّئَابِ، وَأَطْلِقْ سَرَاحِي فِي هذِهِ الْمَرَّةِ، فَلَنْ أَعُودَ إِلَى حَدِيْقَتِكَ بَعْدَ هذا الْيَوْمِ.» وَظَلَّ الْأَرْنَبُ يَعْتَذِرُ لِلذِّئْبِ، وَيَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ ذَنْبَهُ، وَلَكِنِ الْذِّئْبُ أَصَرَّ عَلَى الانْتِقامِ مِنْهُ. وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ. فَلَمَّا رَأَى الْأَرْنَبُ إِصْرَارَ الذِّئْبِ عَلَى قَتْلِهِ لَجَأَ إِلَى الْحِيلَةِ. فَقَالَ لَهُ: «وَمَاذَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ بِي، يَا سَيِّدَ الذِّئَابِ؟» فَقالَ لَهُ الذِّئْبُ: «سَأَشْوِي لَحْمَكَ!» فَلَمَّا سَمِعَ الْأَرْنَبُ تَهْدِيْدَ الذِّئْبِ (أَيْ: تَخْوِيفَهُ)، اشْتَدَّ رُعْبُهُ وَأَيْقَنَ بِالْهَلاكِ. وَلكِنَّهُ أَخْفَى قَلَقَهُ وَفَزَعَهُ (أَيْ: كَتَمَ اضْطِرَابَهُ وَجَزَعَهُ) وَلَمْ يُظْهِرِ الْخَوْفَ أَمامَ الذِّئْبِ، بَلْ قَالَ لَهُ ضَاحِكًا: «هَا هَا! أَنا لا أَخْشَى النَّارَ أَبَدًا، فَامْضِ — بِرَبِّكَ — فِيْ إِحْضَارِ الوَقُودِ، يَعْنِي: الْحَطَبَ وَالْخَشَبَ. وَأَشْعِلِ النَّارَ لِتَحْرِقَنيِ بِهَا، فَإِنَّنِي لا أُرِيدُ مِنْكَ غَيْرَ ذَلِكَ. هَاتِ الْوَقُودَ بِسُرْعَةٍ يَا سَيِّدِي، وَلَا تَتَوَانَ، يَعْنِي: لَا تُبْطِئْ وَلَا تَتَأَخَّرْ فِي تَنْفِيذِ وَعِيدِكَ، فَقَدْ كُنْتُ أَخْشَى أَنْ تُلْقِيَنِي عَلَى الشَّوْكِ، فَإِنَّنِي لا أَخَافُ غَيْرَ الْشَّوْكِ.» فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: «لَنْ أَحْرِقَكَ بِالنَّارِ، وَلَكِنَّنِي سَأَرْمِيكَ عَلَى الشَّوْكِ. أُقْسِمُ لَكَ: لَنْ أَرْمِيَكِ إِلَّا عَلَى الشَّوْكِ!» فَصاحَ الْأَرْنَبُ مُتَظَاهِرًا بِالْخَوْفِ وَالرُّعْبِ الشَدِيدَيْنِ: «آهٍ، ارْحَمْنِي يا سَيِّدَ الذِّئَابِ. أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ — يَا أَبَا جَعْدَةَ — أَلَّا تَرْمِينِي عَلَى الشَّوْكِ، فَإِنَّنِي لَا أَخْشَى إِلَّا الشَّوْكَ.» فَانْخَدَعَ الذِّئْبُ بِحِيلَةِ الْأَرْنَبِ وَأَسْرَعَ إِلَيْهِ، فَانْتَزَعَهُ مِنَ التِّمثَالِ الَّذِي كَانَ مُلْتَصِقًا بِهِ، ثُمَّ أَلْقَاهُ عَلَى الشَّوْكِ. فَأَسْرَعَ الْأَرْنَبُ بِالْفِرَارِ، وَالْتَفَتَ إِلَى الذِّئْبِ — بَعْدَ أَنْ وَثِقَ بِنَجَاتِهِ مِنْهُ — وَقَالَ لَهُ سَاخِرًا: «أَشْكُرُكَ يَا سيِّدَ الذِّئَابِ، فَقَدْ أَنْقَذْتَنِي مِنَ الْهَلَاكِ. أَنا لا أَخشَى الشَّوْك — يا سيِّدِي — فَقَدْ وُلِدْتُ وَعِشْتُ طُولَ عُمْرِي بَيْنَ الأَشْوَاكِ!» وَأَسْرَعَ الْأَرْنَبُ يَعْدُو (أَيْ: يَجْرِي مُسْرِعًا) إِلَى بَيْتِهِ، وَهُوَ فَرْحَانُ بِنَجَاتِهِ مِنَ الْمَوْتِ، وَلَمْ يَعُدْ — بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ — إِلَى حَدِيقَةِ الذِّئْبِ، حَتَّى لا يُعَرِّض نَفْسَهُ لِلْهَلاكِ مَرَّةً أُخْرَى.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.