BookLink
stringlengths
39
39
BookName
stringlengths
2
204
AuthorName
stringclasses
879 values
AboutBook
stringlengths
31
2k
ChapterLink
stringlengths
41
46
ChapterName
stringlengths
1
166
ChapterText
stringlengths
1
909k
AboutAuthor
stringclasses
890 values
https://www.hindawi.org/books/96940275/
١٧ رمضان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. وركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «١٧ رمضان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي الرواية الرابعة التي يكتبها زيدان في هذه السلسلة، وتتضمن وقائع مقتل الإمام علي، وما أعقب ذلك من بسط لحال الخوارج. هذه الوقائع التي كانت في أصلها امتداد لتاريخ الفتنة الذي بدأ بمقتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وانتهى باستئثار بني أمية بالخلافة والخروج من أهل البيت. ويتابع زيدان هذه الحقبة التاريخية من خلال سرده الروائي المتميِّز للنص، بحيث جسد نصه حياة كاملة استدعت الماضي، وجعلته حيًّا في ذهن قارئه.
https://www.hindawi.org/books/96940275/106/
النزول
وكانت قطام لما أرسلت إلى سجنها قد حقدت على لبابة كما قد علمت. ونظراً لما فطرت عليه من اللؤم والقساوة لم يكن أهون عليها من قتل لبابة ولم تعبأ بما كان لها في خدمتها من تعب. وكان ريحان يومئذ واقفاً في دار الإمارة فلما رأى سيدته ولبابة سائرتين مخفورتين علم أنهما في ضيق فراعى القوم ببصره حتى عرف الحجرة التي حبسوهما فيها. وعمل فكرته لإنقاذهما. وكانوا عند أول وصولهم الفسطاط قد نزلوا في دار الإمارة فاحتال في إخراج الجمال والأمتعة إلى مكان خارج الفسطاط. ولما توسط الليل غافل الناس وجاء إلى سجن قطام وقد تهيأ لمعالجة الباب. فسمع لغطاً فإذا هو خصام احتدم بينها وبين خادمتها. فاستعجل في فتح الباب بالعنف ودخل فلما رأته قطام أشارت إليه أن يساعدها على قتل لبابة فصاحت هذه «تباً لك يا ظالمة يا فاجرة إني أتوب إلى الله عما ارتكبت في سبيلك من الذنوب. وأما أنت فلا نجاك الله من عواقب آثامك و….» فابتدرها ريحان حالاً فسد فاها وخنقها وخرج بسيدته من باب كان قد عرفه واسترضى بوابه. فلما بعد عن الفسطاط تحول بها إلى مأمن كان قد أعده عند موقف الجمال. فركبا وهي تثني على شهامته. فخيرها في الجهة التي تسير فيها فاختارت دمشق لأن فيها أناساً من أهلها قد هجروا الكوفة بعد واقعة النهروان وفشل الخوارج وأقاموا في دمشق. فسارا حتى أتيا الغوطة في تلك الليلة بعد وصول رسول عبدالله ببضع ساعات كما قد رأيت. وكان بلال لما تأكد أنهما قطام وريحان لم يعد يعلم كيف يفرح. وقال في نفسه لقد أجاب الله سؤالي. والله إني سأذيقهما الموت بيدي هذه. وجس منطقته فرأى الخنجر فيها. فلبث مستظلاً بالشجرة ليرى ما يكون منهما. فإذا هما قد سارا خطوات قليلة حتى أتيا إلى قناة لانحدار مائها خرير وبجانب القناة شجرة من الصفصاف يستظل بها المارة في أثناء النهار. فتحولا عن الجملين وضرب ريحان القبة كالعادة وأوقد النار ثم قال لمولاته «استريحي يا سيدتي ريثما ألاقي البستاني وآتي إليك ببعض الزاد والفاكهة وأنت هنا في مأمن». قالت «سر ولا تطل الغياب». قال «حسناً» وانصرف.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/96940275/
١٧ رمضان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. وركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «١٧ رمضان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي الرواية الرابعة التي يكتبها زيدان في هذه السلسلة، وتتضمن وقائع مقتل الإمام علي، وما أعقب ذلك من بسط لحال الخوارج. هذه الوقائع التي كانت في أصلها امتداد لتاريخ الفتنة الذي بدأ بمقتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وانتهى باستئثار بني أمية بالخلافة والخروج من أهل البيت. ويتابع زيدان هذه الحقبة التاريخية من خلال سرده الروائي المتميِّز للنص، بحيث جسد نصه حياة كاملة استدعت الماضي، وجعلته حيًّا في ذهن قارئه.
https://www.hindawi.org/books/96940275/107/
على الباغي تدور الدوائر
وكان بلال واقفاً ينظر إليه. فلما رآه توارى نظر إلى قطام على بصيص النار فإذا هي قاعدة وقد كشفت عن وجهها وعنقها وشمرت عن ساعديها ثم رآها نهضت وضفائرها مدلاة على كتفيها وظهرها وفي أطراف الضفائر دنانير معلقة إذا تصادمت أثناء المشي سمع لها رنين. ومشت إلى حافة القناة ودمالجها وخلاخلها تخض خشيشاً. فخاف بلال إذا أبطأ أن تفوته الفرصة فوثب عليها وهي تهم بالجلوس على حافة القناة وأمسك بطوقها وجذبها إليه فوقعت على قفاها فجثا على صدرها. فصاحت «ريحان» وقبل أن تتم كلامها وضع بلال قبضته في فيها وقال لها «لم يبق لك في هذه الحياة إلا دقائق قليلة فاعلمي قبل أن تفارقيها أني بلال خادم خولة وسعيد وإني منتقم للإمام عليّ» فأشارت بعينها إنها تريد الكلام فاستل الخنجر وصوبه إلى عنقها وقال لها «تكلمي بهودء وإذا رفعت صوتك أغمدت هذا الخنجر في عنقك». قالت «ارحمني يا بلال وأشفق على حياتي». قال «لا يرحمني الله إن رحمتك وأنت قد ضافرت ابن ملجم وحرضته على قتل الإمام عليّ. وأردت قتل شابين من خيرة الشبان. ولكن حيلتك لم تبطل فيهما وأخيراً جئت الفسطاط لإغراء أميرها على خولة. كيف أرحمك يا خائنة». قالت «ذلك قد مضى يا بلال وأنا تائبة فاعف عن قتلي ولك كل ما أملكه». قال «هل يتوب الهر!! وإما العفو عن قتلك فوالله لو عرفت قصاصاً أعظم من القتل لقاصصتك به لأن القتل قليل على فاجرة خائنة مثلك». فهمت أن تجيبه فأدرك أنها تماطله ريثما يعود ريحان. فقال لها «اعلمي يا قطام أني قاتلك انتقاماً للإمام عليّ» قال ذلك وأغمد خنجره في عنقها وأسرع فاحتز رأسها وترك الجثة ولها شخير ما زال يرن في أذنيه إلى مسافة بعيدة وكان لما رأى تلك القناة قد عرف الطريق المؤدي إلى مقر سعيد فانسل بين الأشجار وقد أمسك الرأس من جدائله وتركه يتدلى والدم يقطر منه.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/96940275/
١٧ رمضان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. وركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «١٧ رمضان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي الرواية الرابعة التي يكتبها زيدان في هذه السلسلة، وتتضمن وقائع مقتل الإمام علي، وما أعقب ذلك من بسط لحال الخوارج. هذه الوقائع التي كانت في أصلها امتداد لتاريخ الفتنة الذي بدأ بمقتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وانتهى باستئثار بني أمية بالخلافة والخروج من أهل البيت. ويتابع زيدان هذه الحقبة التاريخية من خلال سرده الروائي المتميِّز للنص، بحيث جسد نصه حياة كاملة استدعت الماضي، وجعلته حيًّا في ذهن قارئه.
https://www.hindawi.org/books/96940275/108/
الفاكهة الغريبة
فلما وصل بلال إلى سعيد والرسول الجديد كانا قد استبطآه وانشغل خاطرهما عليه. فلما سمعا وقع أقدامه صاح سعيد فيه قائلاً «أين الفاكهة يا بلال لقد أبطأت وغلب علينا الجوع». فلم يجبه بلال ولكنه ظل ماشياً حتى وقف أمامه ورمى الجمجمة بين يديه وقال «هذه فاكهتي». فأجفل سعيد ونظر فإذا هو رأس قطام بأقراطه وضفائره واستغرب أمره فسأله عن تفصيل الخبر. فقال «ليس هذا وقت السؤال هلموا بنا نخرج من هذه الغوطة الآن فإذا أمننا من عيون الحكومة أخبرتكم الخبر». فنهضوا وهم إلى تلك الساعة لم يذوقوا طعاماً وركبوا جمالهم واستحثوها جهد طاقتهم وهم تارة يصعدون تلاً أو ينزلون غوراً وآونةً يغوصون في الماء وطوراً يدوسون الأشواك أو تتصادم رؤوسهم وأكتافهم بغصون الأشجار حتى انتصف الليل فانتهوا إلى سهل قليل الأغراس وقد بعدوا عن دمشق فواصلوا السير إلى الفجر فتحققوا أنهم آمنوا العيون. فجلسوا للاستراحة على مصطبة بالقرب من عين ماء جارية وسعيد في شوق شديد إلى سماع تفصيل مقتل تلك المرأة. فقص بلال حديثه وقلبه يرقص من شدة الفرح وإتماماً لأسباب سروره استخرج الجمجمة من جراب كان قد خبأها فيه ووضعها على المصطبة بين يدي سعيد. وكان شعرها قد تجبل بالدم والعينان مطبقتان والشفتان مفتوحتان عن أسنان كاللؤلؤ ومسحة الجمال لا تزال في محيا تلك المرأة مع صفاء اللون واصفراره وما تلطخ به من الدماء.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/96940275/
١٧ رمضان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. وركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «١٧ رمضان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي الرواية الرابعة التي يكتبها زيدان في هذه السلسلة، وتتضمن وقائع مقتل الإمام علي، وما أعقب ذلك من بسط لحال الخوارج. هذه الوقائع التي كانت في أصلها امتداد لتاريخ الفتنة الذي بدأ بمقتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وانتهى باستئثار بني أمية بالخلافة والخروج من أهل البيت. ويتابع زيدان هذه الحقبة التاريخية من خلال سرده الروائي المتميِّز للنص، بحيث جسد نصه حياة كاملة استدعت الماضي، وجعلته حيًّا في ذهن قارئه.
https://www.hindawi.org/books/96940275/109/
الموت عبر الأحياء
فمد سعيد يده إلى جبين تلك الجمجمة ولمسه فإذا هو بارد كالثلج فقال «آمنت بالله كأنه سبحانه وتعالى قد كتب لي أن لا ألمس هذا الجبين إلا وهو ميت مع شدة رغبتي في لمسه منذ أعوام» ثم وجه خطابه إلى الجمجمة وقال «أأنت قطام بنت شحنة وقد طليت دهاءك ومكرك على مئات من الرجال. أيتها العينين فتنت ابن ملجم كما فتنتني. وبهاتين الشفتين عقدت له على نفسك إذا قتل الإمام كما عقدت لي. إنك ستلاقينه عاجلاً وستلاقيان علياً في مكان لا تخفى فيه خافية. في مكان تنال فيه كل نفس جزاء ما صنعت إن خيراً وإن شراً». ثم التفت إلى بلال وقال «ماذا نعمل بهذا الرأس؟» قال «نحمله إلى الفسطاط لأضعه بين قدمي خولة ذلك الملاك الطاهر». قال «لا أظنها تسر بهذا المرأى ولا أنا سررت به. زد على ذلك أن هذه الجمجمة لا تصل الفسطاط إلا بعد أن تنتن وتتصاعد عنها رائحة تنفر منها النفس». فأطرق بلال هنيهة وهو يتأسف لعدم استطاعته حمل الرأس إلى خولة ثم قال «فأسمح لي إذاً أن أحمل علامة منه». قال «وما هي تلك العلامة؟» قال «أقطع منه الأذنين وفيهما الأقراط وأقص هذا الشعر وفيه الضفائر الذهب». قال «لك ذلك فافعله». فاشتغل بلال في ذلك على أن يستريحوا هناك وتناولوا الغداء ويعزموا على الفسطاط.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/96940275/
١٧ رمضان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. وركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «١٧ رمضان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي الرواية الرابعة التي يكتبها زيدان في هذه السلسلة، وتتضمن وقائع مقتل الإمام علي، وما أعقب ذلك من بسط لحال الخوارج. هذه الوقائع التي كانت في أصلها امتداد لتاريخ الفتنة الذي بدأ بمقتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وانتهى باستئثار بني أمية بالخلافة والخروج من أهل البيت. ويتابع زيدان هذه الحقبة التاريخية من خلال سرده الروائي المتميِّز للنص، بحيث جسد نصه حياة كاملة استدعت الماضي، وجعلته حيًّا في ذهن قارئه.
https://www.hindawi.org/books/96940275/110/
إذا سقط اللئيم لا يلقى نصيرا
أما ريحان فإنه عاد من عند البستاني بعد قليل وقد أعد كل ما ترتاح إليه سيدته من الفاكهة والأطعمة وأمر البستاني أن يشوي بعض اليمام. ولما دنا من الخيمة سمع شخيراً كشخير النائم وكانت قطام إذا نامت شخرت وهو يعرف فيها ذلك. فقال في نفسه يظهر أنها لم تتمالك عن النوم من شدة التعب. ودنا منها فإذا هي بجانب القناة والظلام حالك والنار التي أوقدها قد خمدت فلم ينتبه لحالها فقال في نفسه لأنيرن الشمع وأعد المائدة ريثما تفيق فأنار الشمعة ولاحت منه التفاتة إلى سيدته فرآها تتحرك فأقبل إليها فإذا هي تختلج اختلاج النزاع وقد أصبحت جثة بلا رأس ورأى دمها قد عكر القناة. فبغت ولطم وجهه ووقف لحظة يفكر في من عسى أن يكون قد فعل ذلك فقال في نفسه «لا يخلو أن يكون ذلك قد حدث بإيعاز عمرو بن العاص والقاتل قد فر الآن ولا سبيل إليه. فإذا أنا صحت وجمعت الناس لا أظن التهمة إلا واقعة عليّ». فتحير في أمره ثم تذكر ما ارتكبته قطام من الفظائع كأنه يحاول أن يلتمس لنفسه عذراً إذا تخلى عنها. فرأى أنها ارتكبت عظائم تستحق القتل على كل واحدة منها. وتذكر ما وراءها من المال الكثير والمصاغ الثمين وإنه هو وحده يعرف مخبآتها في الكوفة. فطمع في اكتساب ذلك الميراث وصمم على اغتنام الفرصة فهم بما عليها من الحلي واستخرج الأساور والدمالج من يديها والعقود من عنقها وجمع ما في جيوبها وصناديقها من غالي الثمن وخفيف الحمل. وتركها تخبط بدمها ولسان حاله يقول «ذلك هو جزاء القوم الظالمين» ودخل الشام في الصباح التالي فاشترى أثواباً تنكر فيها وقصد الكوفة واستخرج ما خبأته قطام هناك من الأموال وابتاع لنفسه ضيعة أقام فيها إلى آخر حياته. وأما البستاني فكان قد أعد الطعام وحمله وفيه الخبز والفاكهة في سل وجاء إلى موضع الخيمة وهو مسرور بتلك الضيفة لأنهاه كانت كريمة تعطي الناس بسخاء. ولكنه ما وصل الخيمة حتى رأى الحال كما ذكرنا وليس هناك إلا جثة قطام وكانت قد همدت وسكن شخيرها واختلاجها. فلا تسل عن رعبه لما رآها في تلك الحال فقال في نفسه «لابد من جماعة أقوياء تجرأوا على هذا العمل وقد فعلوا ما فعلوا ونجوا بأنفسهم وإذا أنا أظهرت هذه الجثة جلبت لنفسي البلاء فما لي إلا أن أحتفر لها حفرة أخفيها فيها» فاشتغل بالحفر وهو يحاذر أن يراه أحد أو يسمع خبط معوله. ثم دفن الجثة وأخفى آثار الدماء وحمل كل ما بقي من الأمتعة إلى بيته وساق جملاً باقياً هناك وكتم تلك الحادثة ومازالت مكتومة إلى الآن.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/96940275/
١٧ رمضان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. وركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «١٧ رمضان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي الرواية الرابعة التي يكتبها زيدان في هذه السلسلة، وتتضمن وقائع مقتل الإمام علي، وما أعقب ذلك من بسط لحال الخوارج. هذه الوقائع التي كانت في أصلها امتداد لتاريخ الفتنة الذي بدأ بمقتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وانتهى باستئثار بني أمية بالخلافة والخروج من أهل البيت. ويتابع زيدان هذه الحقبة التاريخية من خلال سرده الروائي المتميِّز للنص، بحيث جسد نصه حياة كاملة استدعت الماضي، وجعلته حيًّا في ذهن قارئه.
https://www.hindawi.org/books/96940275/111/
الوصول إلى الفسطاط
أما وفد الفسطاط فلما أشرفوا على المدينة من سفح المقطم ظهر لهم جامع عمرو في وسط المدينة كالبدر بين الكواكب فاستعجلوا الرسول الجديد بالذهاب إلى عبد الله لينبئه برجوعهم وأوصوه أن لا يذكر له خبر قطام. أما عبد الله فكان قد خلا له الجو وصفا له قلب الأمير ولكنه مازال منشغل الخاطر في أمر سعيد وكلما تذكر فرار قطام من سجنها انقبضت نفسه وكلما لقي خولة تحادثا بما مر بهما وذكرا سعيداً والتمسا سرعة وصوله وعبد الله يدبر أسلوباً يخبره به عن حقيقة حاله مع خولة. وفيما هو جالس ذات صباح في غرفته بدار الأمير إذا برسوله قد أقبل وعليه علائم السفر فصاح به «ما وراءك». قال «ورائي سيدي سعيد وبلال». قال «وأين هما؟» قال «تركتهما في سفح المقطم قادمين وجئت لأبشركم». قال «أهلاً بالقادمين» ونهض لساعته وخرج على فرس أسرج له ولم يكد يخرج من الفسطاط حتى التقى بسعيد وبلال على جملين فترجل بلال للحال وهم بيد عبد الله فقبلها. فقال عبد الله «بورك فيك يا أسمر وبورك بشهامتك» وهم سعيد أن يترجل فأشار إليه عبد الله أن يبقى على جمله لينزلا معاً في دار الإمارة. فمشوا وسعيد يبتسم فقال له عبد الله «ما الذي يضحكك». قال «يضحكني أننا ذاهبون إلى دار عمرو بن العاص وقد كنا بالأمس نحاذر أن يسمع بنا أو يرانا». قال «لله في خلقه شؤون» ثم قال بصوت خافت كأنه يحاذر أن يسمعه أحد «لو أراد الله نجح مسعانا ونجا الإمام عليّ كرم الله وجهه لما همنا النزول في هذه الدار». فقال سعيد «لا تذكرني بذلك الحادث الفظيع فقد شهدته بنفسي ورأيت ابن ملجم اللعين بأم عيني يضرب الإمام بذلك السيف المسموم وقد كانا بيننا وبين إنقاذه لحظة لو أراد الله لعجلها. ولكن الآجال مرهونة بأوقاتها». قال «ولكن الله سيجزي الظالمين وأما نحن فقد صرنا الآني من حاشية ابن العاص وهو والحق يقال من دهاة العرب وكرامهم وكبار قوادهم».
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/96940275/
١٧ رمضان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. وركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «١٧ رمضان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي الرواية الرابعة التي يكتبها زيدان في هذه السلسلة، وتتضمن وقائع مقتل الإمام علي، وما أعقب ذلك من بسط لحال الخوارج. هذه الوقائع التي كانت في أصلها امتداد لتاريخ الفتنة الذي بدأ بمقتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وانتهى باستئثار بني أمية بالخلافة والخروج من أهل البيت. ويتابع زيدان هذه الحقبة التاريخية من خلال سرده الروائي المتميِّز للنص، بحيث جسد نصه حياة كاملة استدعت الماضي، وجعلته حيًّا في ذهن قارئه.
https://www.hindawi.org/books/96940275/112/
المداعبة
وتحادثا في أمثال ذلك حتى اقتربا من الدار فقال عبد الله «لم أسمعك تذكر خولة.. هل نسيتها؟» فابتسم سعيد وقال «كيف أنساها وأنا إنما جئت ألتمسها». قال «وماذا تلتمس منها». قال «لا أدري». قال «أظنك تدري وإلا فاعلم أن خولة الآن قرينتي زوجني بها عمرو وكتب كتابي عليها بأمره». فضحك سعيد وهو يظن ابن عمه يمازحه …. فتظاهر عبد الله بالجد وقال «يظهر لي أنك لم تصدق قولي فأقسم بالله وتربة أبي رحاب أن خولة قد زفت إليّ وكتب العقد على يد الأمير. وإذا كنت لا تصدقني فاسأل كل من في هذه الدار عن ذلك». فغلبت الشهامة على سعيد ولم يسعه إلا أن قال «وما يمنع أن تكون زوجة لك بورك لك فيها. ألست أخي ورفيقي وابن عمي». قال ذلك وهو لا يزال يشك بما يسمعه لعلمه بأخلاق عبد الله. ووصلا إلى الدار فترجلا وساروا تواً إلى غرفة عبد الله وبعثا إلى عمرو بقدومهما أن يستقبل سعيد في غرفة خاصة وبعث إلى خولة ووالدها فلما جاءا أقبل عمرو إلى تلك الغرفة وقد اجتمع فيها الجميع وبلال واقف خارجاً فلما دخل عمرو تقدم سعيد لتقبيل يده والسلام عليه فرحب به ودعاه للجلوس. فقال سعيد «إذا أذن مولاي فليأمر عبده بلالاً بالدخول ليحضر هذه الجلسة». فأمر بدخوله فانزوى في بعض جوانب الغرفة متأدباً وفي يده جراب من جلد. وكان سعيد ينظر إلى خولة من تحت النقاب ويفكر في ما سمعه من عبد الله وهو يتردد بين الشك واليقين. فلما استتب بهم الجلوس خاطب عمرو سعيداً قائلاً «أظنكم تتوقعون أن تروا قطاماً سجينة». فقال سعيد «نعم يا مولاي». قال «ولكنها فرت من السجن وزادت ذنبها عظماً بقتل خادمتها. وكنا قد أردنا استبقاءها مسجونة. أما الآن فإذا ظفرنا بها لا قصاص لها عندنا غير القتل».
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/96940275/
١٧ رمضان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. وركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «١٧ رمضان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي الرواية الرابعة التي يكتبها زيدان في هذه السلسلة، وتتضمن وقائع مقتل الإمام علي، وما أعقب ذلك من بسط لحال الخوارج. هذه الوقائع التي كانت في أصلها امتداد لتاريخ الفتنة الذي بدأ بمقتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وانتهى باستئثار بني أمية بالخلافة والخروج من أهل البيت. ويتابع زيدان هذه الحقبة التاريخية من خلال سرده الروائي المتميِّز للنص، بحيث جسد نصه حياة كاملة استدعت الماضي، وجعلته حيًّا في ذهن قارئه.
https://www.hindawi.org/books/96940275/113/
جائزة مئة دينار
فلم يتمالك سعيد عن الابتسام وقد ندم لأنه لم يصرح بالأمر لما سأله عنه عمرو وهم بالكلام فاعترضه بلال مستأذناً. فسكت. فتقدم بلال إلى عمرو وجثا بين يديه والجراب بيده وقال «استعطف مولاي أن يأذن لي بكلمة أقولها». قال «قل». قال «كيف ترجون القبض على قطام وأنتم لا تعرفون مقرها». قال «نطمع الناس في البحث عنها بمال كثير». قال «بكم تسمح نفس الأمير لمن يقبض عليها». قال «نعطيه مئة دينار». قال «اتشترط أن يؤتى بها حية». قال «لا فرق جاء بها حية أو ميتة». قال «وإذا جاء بخبر قتلها». قال «نقبل منه بشرط أن يأتينا بما يثبت قتله إياها». فأخذ بلال يحل الجراب وهو يقول «فليأمر مولاي الأمير بمن يدفع لي مئة دينار» وما تم قوله حتى أفرغ الجراب بين يدي الأمير ففاحت الرائحة وظهر الشعر الملطخ بالدماء وبلال يبحث فيه بإصبعه حتى وجد الأذنين وفيها الأقراط. فأجفل عمرو وسائر الحضور لذلك المنظر واشمأزت نفوسهم من تلك الرائحة الكريهة وصاح فيه عمرو «ويلك ما هذا؟!» قال «هذا هو شعر قطام ملطخاً بدمها. وهذه أذناها وأقراطها. وإذا احرجتموني جئتكم برأسها فإن إنما تخليت عنه إجابة لأمر مولاي سعيد» قال ذلك ووقف وهو يشير برأسه إلى سعيد. فقال سعيد «نعم يا مولاي أنا أشهد أن بلالاً قتل قطام وحده واحتز رأسها وجاءني به وهو ينوي حمله إليكم فأشرت عليه أن يكتفي بهذه العلامة تخلصاً من نتانة تلك الرمة». وكان الحضور قد بهتوا وهو ينظرون إلى الشعر والأذنين فأشار عمرو إلى بلال أن أحمل هذه الأقذار من هنا فأعادها إلى جرابه وتنحى. فقال له عمرو «لك علينا مئة دينار». فحني رأسه شكراً وامتناناً وقال «إني أشكر مولاي الأمير على نعمته ولكنني أعترف له بأني لم أقتل هذه الخائنة طمعاً بجائزة وإنما قتلتها انتقاماً للحق» وأراد أن يفصل ما أجمله فانتبه أنه لا يجوز ذكر الإمام علي هناك فاكتفى بما قاله. ونهض عبد الله فقال «بورك فيك يا بلال» فاقصص علينا الخبر إذا أمر الأمير. فقال عمرو «اقصصه». فقصه من أوله إلى آخره.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/96940275/
١٧ رمضان
جُرجي زيدان
«روايات تاريخ الإسلام» هي سلسلة من الروايات التاريخية تتناول مراحل التاريخ الإسلامي منذ بدايته حتى العصر الحديث. وركَّز فيها جرجي زيدان على عنصر التشويق والإثارة، بهدف حَمْل الناس على قراءة التاريخ دون كلل أو ملل، ونَشْر المعرفة التاريخية بين أكبر شريحة منهم، فالعمل الروائي أخف ظلًّا عند الناس من الدراسة العلمية الجادة ذات الطابع الأكاديمي المتجهم. وتدخل رواية «١٧ رمضان» ضمن سلسلة روايات تاريخ الإسلام. وهي الرواية الرابعة التي يكتبها زيدان في هذه السلسلة، وتتضمن وقائع مقتل الإمام علي، وما أعقب ذلك من بسط لحال الخوارج. هذه الوقائع التي كانت في أصلها امتداد لتاريخ الفتنة الذي بدأ بمقتل ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان، وانتهى باستئثار بني أمية بالخلافة والخروج من أهل البيت. ويتابع زيدان هذه الحقبة التاريخية من خلال سرده الروائي المتميِّز للنص، بحيث جسد نصه حياة كاملة استدعت الماضي، وجعلته حيًّا في ذهن قارئه.
https://www.hindawi.org/books/96940275/114/
الطلاق والزواج
فأثنى الجميع على شهامته وخصوصاً خولة. وتذكرت أن والدها كان ناقماً عليها من أجله فاغتنمت تلك الفرصة لاكتساب رضاه عنهما فقال «يا بلال تقدم بإذن الأمير وقبل يدي سيدك» وأشارت إلى والدها. فتقدم بلال للحال وقبل يده فأثنى عليه فعاد إلى موقفه. وكان الحديث قد انقضى ولم يبق غير الانصراف. فوقف عبد الله والتفت إلى عمرو وقال «أشهد أيها الأمير أن امرأتي هذه طالق مني ثلاثاً» وأشار إلى خولة. فانتبه سعيد لما كان سمعه منه فتحقق أنه كان معقوداً له عليها. فعلته البغتة. ولحظ عمرو فيه ذلك فقال «طب نفساً يا سعيد إن خولة لا تزال بكراً وإنما طلقها عبد الله صورةً كما تزوجها صورةً» والتفت إلى أبي خولة وقال له «إني أخطب خولة منك لسعيد». فقال أبو خولة «هي جاريتك يا مولاي فافعل بها ما تشاء». فخجلت خولة لتلك المفاوضة بين يديها وأطرقت. وأمر عمرو فكتب الكتاب في الحال وهنأهما بذلك القران وأمر لبلال بالمال الذي وعده به وانصرف الجميع إلى بيت خولة بعد أن ودعوا عمراً وشكروا صنيعه. وبعد أيام استأذن عبد الله سعيداً في الذهاب إلى مكة للقيام مع أهله وتدبير تركة جده فأذن له بالرغم عنه. فانصرف وودع خولة ووالدها والأمير عمراً وسار إلى مكة واقترن هناك بابنة عم له وعاشواً جمعياً عيشاً لا يشوبه من الغصص إلا الافتكار بمقتل الإمام عليّ. وزاد تنغيصهم ما سمعوه بعد ذلك من تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان. فخرجت الخلافة من أهل البيت وصارت إلى بني أمية. وإنما فعل الحسن ذلك حجباً للدماء ولم يتول الخلافة إلا ستة أشهر فانتقل كرسيها من الكوفة إلى دمشق وما زال فيها إلى انقضاء دولة بني أمية.
جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم. جُرجي زيدان: مفكِّرٌ لبناني، يُعَدُّ رائدًا من روَّادِ تجديدِ عِلمِ التاريخِ واللِّسانيَّات، وأحدَ روَّادِ الروايةِ التاريخيةِ العربية، وعَلَمًا من أعلامِ النهضةِ الصحفيةِ والأدبيةِ والعلميةِ الحديثةِ في العالَمِ العربي، وهو من أخصبِ مؤلِّفي العصرِ الحديثِ إنتاجًا. وُلِدَ في بيروتَ عامَ ١٨٦١م لأسرةٍ مسيحيةٍ فقيرة، وبالرغمِ من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، وقد عاوَدَ الدراسةَ بعدَ ذلك، وانضمَّ إلى كليةِ الطب، لكنَّه عدَلَ عن إكمالِ دراستِه فيها، وانتقلَ إلى كليةِ الصيدلة، وما لبِثَ أن عدَلَ عن الدراسةِ فيها هي الأخرى، ولكنْ بعدَ أن نالَ شهادةَ نجاحٍ في كلٍّ مِنَ اللغةِ اللاتينيةِ والطبيعياتِ والحيوانِ والنباتِ والكيمياءِ والتحليل. سافَرَ إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليوميَّة، ثُم انتقلَ بعدَها للعملِ مترجمًا في مكتبِ المُخابراتِ البريطانيةِ بالقاهرةِ عامَ ١٨٨٤م، ورافَقَ الحملةَ الإنجليزيةَ المتوجِّهةَ إلى السودانِ لفكِّ الحصارِ الذي أقامَته جيوشُ المَهدي على القائدِ الإنجليزيِّ «غوردون». عادَ بعدَها إلى وطنِه لبنان، ثم سافرَ إلى لندن، واجتمعَ بكثيرٍ من المُستشرِقينَ الذين كانَ لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوينِه الفِكْري، ثم عادَ إلى القاهرةِ ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التي كانَ يقومُ على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسعِ المَجلاتِ انتشارًا، وأكثرِها شُهرةً في مِصرَ والعالَمِ العربي. بالإضافةِ إلى غزارةِ إنتاجِه كانَ متنوِّعًا في مَوْضوعاتِه؛ حيثُ ألَّفَ في العديدِ من الحُقولِ المَعْرفية؛ كالتاريخِ والجُغرافيا والأدبِ واللغةِ والرِّوايات. وعلى الرغمِ من أن كتاباتِ «زيدان» في التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرحَ التقليديَّ السائدَ في المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ آنَذاك، والذي كانَ قائمًا على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم في التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثيِّ (الإمبرياليِّ آنَذاك)؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلاميَّ من منظورٍ استعماريٍّ (كولونيالي) فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمَناهجِ المُستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعةٍ عنصريةٍ في رؤيتِها للشرق، تلك النزعةِ التي أوضَحَها بعدَ ذلك جليًّا المُفكِّرُ الأمريكيُّ الفَلسطينيُّ المُولَّدُ «إدوارد سعيد» في كِتابِه «الاستشراق». رحَلَ عن عالَمِنا عامَ ١٩١٤م، ورثَاه حينَذاك كثيرٌ مِنَ الشُّعراءِ أمثال: أحمد شوقي، وخليل مطران، وحافِظ إبراهيم.
https://www.hindawi.org/books/39506480/
أسرة السناجيب
كامل كيلاني
تحكي القصة حياة السناجيب ومغامراتهم في الغابة.
https://www.hindawi.org/books/39506480/1/
الفصل الأول
أقْبَلَ الشِّتاءُ بِأَمْطارِهِ وَزمْهَرِيرِهِ (شِدَّةِ بَرْدِه). وَهَبَّتْ عاصِفَةٌ قَوِيَّةٌ هَوْجاءُ، فانْحَنَتْ أمامَها أَشْجارُ الغابةِ، حتَّى تَنْجُوَ مِنها سالِمَةً … وَظَلَّتِ الرِّيحُ تُصَفِّرُ مُزَمْجِرَةً (شَديدةَ الصِّياحِ) مُنْذِرةً بِالْوَيْلِ (مُتَوَعِّدَةً بوقُوعِ الشَّرِّ وَحُلول العذاب) والدَّمارِ (الْهَلاكِ). وَصَرَخَتْ صغارُ السَّناجيبِ — وهِيَ في عُشِّها الَّذي اتَّخَذتْهُ في أَعْلى شَجرَةِ الشُّوح (وَهِيَ شَجَرَةٌ أَغْصانُها عَلَى هَيْئَةٍ مَخْرُوطَةٍ) — وَتَعَالَتْ أَصْوَاتُها شاكِيَةً راهِبَةً (خائِفَةً): «أَدْرِكْنا — يا أبانا — فَقَدْ قارَبْنا الْهَلاكَ، وَأَشْرَفْنا عَلَى التَّلَفِ، وَأَوْشَكَتِ الشجرَةُ أَنْ تَهْوِيَ (تَسْقُطَ) بنا إلى الأرضِ، وَلَيْسَ بَيْنَنا وَبَينَ الْمَوْتِ إلَّا لَحَظاتٌ يَسِيرةٌ (زَمَنٌ قليلٌ).» فقالَ أَبو السَّناجِيبِ لِأوْلادِه الثَّلاثةِ: «هَدِّئُوا منْ رَوْعِكُمْ (خَفِّفُوا منْ فَزَعكُمْ)، فإنَّ هذهِ الْعاصِفَةَ الْهَوْجاءَ (الرِّيحَ الْقَوِيَّةَ الَّتي تَهُبُّ هُنا وهُنالِكَ، فَتَقْتَلِعُ ما أمامَها) لَنْ تَلْبَثَ — عَلَى شِدَّتِها — إلَّا وَقْتًا يَسِيْرًا، ثُمَّ لا يَبْقَى لَها أَثَرٌ.» وكان «اللَّامِعُ» و«السَّاطعُ» و«الْبَرَّاقُ» يَكادُون يَهْلِكُونَ منْ فَرْطِ الْفَزَعِ، (مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْجَزَعِ) وَيَلْتَصِقُ بَعْضهُمْ بِبَعْضٍ، لِيَتَوارَوْا (لْيَسْتَتِرُوا) خَلْفَ أبيهم وهُمْ حَسَنُو الْهَيْئَةِ، شُقْرٌ (أَلْوانُهُمْ بَيْنَ الْحُمْرَةِ والصُّفْرةِ). أَمَّا أَبُوهُمُ الشَّيْخُ «قُنْزُعَةُ»؛ فَهُوَ سِنْجابٌ جَمِيلُ الطَّلْعَةِ، أدْكَنُ (يَمِيْلُ لَوْنُهُ إلى السَّواد)، كَثِيفُ القُصَّةِ (كَثِيرُ الشَّعْرِ في مُقَدَّمَةِ رَأْسِه). وقد بَذَلَ الشَّيْخُ جُهْدَهُ في تَسْكِينِ رُوعِهِمْ (تَثْبِيتِ قَلْبِهِمْ)، وَتَهْدِئَةِ ثائِرَتِهم (ضَجَّتِهِمْ وَهِياجِهمْ)، وَتَأْمِينهمْ مِنَ الْخَوْفِ. وَقالَ لُهمْ، فِيما قال: «لا عَلَيْكُمْ (لَنْ يُصِيبَكُمْ أذًى)، يا بَنِيَّ الأعِزَّاءَ، فإنَّ العاصِفَة — عَلَى شِدَّتِها — لا تَلْبَثُ وَقْتًا طوِيلًا. وَلَيْسَ لكم إِلاَّ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ!» ولَمْ يَكَدْ «قُنْزُعَةُ»: أبو السَّناجِيبِ، يُتِمُّ قَوْلَهُ، حتَّى هَبَّتْ (ثارَتْ وهاجَتْ) عَلَى الشَّجرةِ ريحٌ صَرْصَرٌ عاتِيةٌ (قَوِيَّةٌ عَنِيفَةٌ)، أَوْشَكتْ أَنْ تَقْتَلِعَها مِنْ جُذُورِها؛ (كادَتْ تَنْتَزِعُها مِنْ أُصُولِها) فانْقَلَبَ السَّناجِيبُ الأرْبَعةُ، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَخَذُوا يَصْرُخُون في عُشِّهِمْ مَذْعُورِين (خائفين). ثُمَّ خَفَّتِ العاصِفَةُ (قَلَّتْ شِدَّتُها) شَيْئًا فشَيْئًا، وَسَكَنتِ الرِّيحُ الْعاتِيَةُ (الشَّديدةُ العَصْفِ، التي جاوزَتْ حدَّ هُبُوبها). فَرَفَعَتْ شجرَةُ الشُّوحِ العجُوزُ رَأْسَها الَّذي زَعْزَعَتْهُ الصَّدَماتُ العنِيفَةُ وتَطلَّعتْ إلى بَنات جِنْسها — مِن شُجيْراتِ الشُّوحِ؛ فَهالَها ما رَأَتْهُ، وَحَزَنها مَصارِعُ الشُجيراتِ الَّتي اقْتَلَعْتها العاصِفَةُ الهَوْجاءُ، وَقذفَتْ بها (رَمَتْها) عَلَى الأعْشابِ! وقال «قُنْزُعَةُ» أَبُو السَّناجِيبِ لأَبْنائهِ: «يا لها مِن عاصِفةٍ مُفَزِّعةٍ، هائلةٍ مُروِّعَةٍ! لقدْ عِشتُ عُمُرًا طوِيلًا — يا أَوْلادِي — وأَصْبحتُ شيخًا طاعِنًا في السِّنِّ، ورَأَيْتُ فُصُولَ الشِّتاءِ مُتعاقِبَةً (مُتتالِيةً) في هذهِ الغابةِ، فلمْ أرَ — لِهذِه الْعاصِفَةِ الهوجاءِ — مَثيلًا. ولقدْ كانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّنا أنَّ هذِهِ الشجرةَ الَّتي نأْوِي إليْها (نَسْكُنها) مَتِينةٌ قَوِيَّةٌ.» فقالَ لَهُ وَلَدُهُ «اللَّامِعُ»، وَقَدِ اشْتَدَّ بِهِ أَلَمُ الجُوعِ: «أَيْنَ زادُنا (طَعامُنا)، يا أَبَتاهُ؟ فما أَظنُّهُ إلَّا تَفَرَّقَ، وَقَذَفَتْ بِه الرِّيحُ، إِلَى حَيْثُ لا نَعْلَمُ!» فأجابَهُ «قُنْزُعَةُ»: «لا عَليْكَ — يا وَلَدِي — (لا بَأْسَ عَليْكَ، وَلا تَهْتَمَّ)، وَلا تَخْشَ عَلَى زادِنا الضَّياعَ؛ فإنَّ أَباكَ شَيْخٌ مُتَبَصِّرٌ (عَلِيمٌ عارفٌ) بَعِيدُ النَّظَرِ، يُقَدِّرُ عَوَاقِبَ الأُمُورِ (يَحْسَبُ لها حِسابَها). وَقَدْ أَعْدَدْتُ عُدَّتِي — فِي فَصْلِ الْخَرِيفِ — لِأَمْثالِ هذِهِ الْمُفاجَأَةِ، فَخَبَأْتُ زادَنا — مِنَ الْجَوْزِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ — تَحْتَ سِيَاجِ الْأَعْشابِ (تَحْتَ سُورِها الْمُحِيطِ)، حَتَّى لا تُبَدِّدَهُ (لا تُفَرِّقَهُ) الْعَواصِفُ، وَلا تَذْرُوهُ (لا تُطَيِّرَهُ) الرِّيَاحُ.» فاطمَأَنَّتِ السَّناجِيبُ عَلى زادِها، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تُعْنَى (تَهْتَمُّ) بِتَنْسِيقٍ هِنْدامِها، وَتَنْظيمِ فِرَائِها وَأَذْنابِها الَّتي تَشَعَّثتْ (انْتَفَشَ شَعرُها). وَلَمْ تَلْبَثْ — بَعْدَ لَحْظَةٍ قَصِيَرةٍ — أَنْ أَعْمَلَتْ أَلْسِنَتَها اللَّطِيفَةَ الصَّغِيرَةَ فِي شَعْرِها، حَتَّى نَسَّقَتْهُ (نَظَّمَتْهُ)، وَأَصْلَحَتْ مَا تَشَعَّثَ (ما تَفَرَّقَ) مِنْهُ. وَصاحَ «الْبَرَّاقُ» مَذْعُورًا (خائِفًا)، وَهُوَ مُنْزَوٍ (مُخْتَفٍ) فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكانِ الْعُشِّ، وَقَدِ انْتَظَمَتْهُ الرَّجْفَة (شَمِلَهُ الرُّعاشَ)، مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ. قالَ: «ما أَشَدَّهُ بَرْدًا، وَما أَقْساهُ زَمْهَرِيرًا!» فَقالَ أَبُو السَّناجِيبِ «قُنْزُعَةُ»: «صَدَقْتَ يا «بَرَّاقُ»، فَقَدِ اشْتَدَّ البَرْدُ، وَلا بُدَّ (لا مَفَرَّ) لَنا مِنْ إِغْلاقِ بابِ العُشِّ (إِقْفالِهِ) عَلَيْنا، حَتَّى نُصِيِبَ (نَنالَ) ما نَرْجُو مِنَ الدِّفْءِ (السُّخُونَةِ) والْحَرارَةِ.» وَجَمَعَ «قُنْزُعَةُ» قَبْضَةً مِنَ الْحَشائِشِ الْيَابِسَةِ، بِيَدَيْهِ الْأَمامِيَّتَيْنِ، فَمَلَأَ بها فاهُ، ثُمَّ لَفَظَها (رَمَى بِها وَطَرَحَها) نَافِخًا بِقُوَّةٍ، فَسَدَّ مَنْفَذَ العُشِّ. ثُمَّ قالَ: «لقَدْ وَقَيْتُكُمْ غائلَةَ الْبَرْدِ (شِدَّتَهُ الْمُهْلِكَةَ)؛ فالْبَثُوا — أَيُّها الصِّغارُ الْأعِزَّاءُ — وادِعِينَ (أَقِيمُوا مُرْتاحِينَ)، ونامُوا آمِنِينَ.» واقْتَرَبَ «قُنْزُعَةُ» مِنْ بَنِيه، والْتَفَّ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ مُتَحَوِّيًا (مُسْتَدِيرًا عَلَى نَفْسِهِ مُتَجَمِّعًا) كالْكُرَةِ، وَأَصْبَحَ فُوهُ (فَمُهُ) عِنْدَ بَطْنِهِ، شَأْنُ السَّناجيبِ حِينَ تَتَأَهَّبُ لِلنَّوْمِ. ثُمَّ سادَ الْعُشَّ سُكُونٌ عَمِيقٌ. فَهَلْ تَحْسَبُونَهُمْ (تَظُنُّونَهُمْ) — أَيُّها القُرَّاءُ الْأَعِزَّاءُ — قَدِ اسْتسْلَمُوا لِلْنَّوْمِ؟ كلَّا. فَإِنَّ عَيْنَيْنِ صغِيرَتَيْنِ كانَتا تَبْرُقانِ فِي الظَّلامِ، وَذَنَبًا يَرْتَجِفُ آَنًا بَعْدَ آخَرَ (ذَيْلًا يَرْتَعِشُ حِينَا بَعْدَ حِينٍ). وَمِنْ عادَةِ السَّناجيبِ أنْ تَثِبَ بَيْنَ الْغُصُونِ، قافِزَةً مِنْ فَرْعٍ إِلَى آخَرَ، وَهِي تُحِبُّ الْوَثْبَ وَالقَفْزَ حُبًّا جَمًّا (كَثِيرًا). لِهذَا بَرَقَتْ (لَمَعَتْ) عَيْنا ذلِكَ السِّنجابِ الصَّغِيرِ: «البَرَّاق». وَلكِنَّهُ — هُوَ وَأَخَوَاهُ — قدْ آثَرُوا (اخْتارُوا) الصَّمْتَ، وَأَخْلَدُوا (ارْتَكَنُوا) إِلَى السُّكُونِ، تَلْبِيَةً لأَمْرِ أَبيهِمْ. وَمَرَّتْ لَحَظاتٌ قصِيرَةٌ، ثُمَّ عَجَزَ «البَرَّاقُ» عَنْ مُغَالَبَةِ شَوْقِهِ إِلَى الْوَثْبِ (الْقَفْز)؛ فَانْخَرَطَ (أَسْرَعَ) فِي الْبُكاءِ، وقالَ لِأَبيهِ فَجْأَةً: «لَقَدْ أَعْجَزَنِي أَنْ أَظْفَرَ بِالنَّوْمِ، فَلَيْسَ لِي مِنْ سَبِيِلٍ إِلَيْه، يا أَبَتاهُ.» فَرثَى «قُنْزُعَةُ» (رَقَّ) لِحالِ ولَدِه «الْبَرَّاقِ»، وَقالَ لَهُ حانِيًا (عاطِفًا)، مُشْفِقًا (خائِفًا): «ادْنُ (اقْتَرِبْ) مِنِّي — يا وَلدِي الْعَزِيزَ — والْتَصِقْ بِي، فإِنِّي مُغَنِّيكَ أُنشُودَةً (أُغْنِيَّةً) جَميلَةً، لَعَلَّكَ تَنَامُ.» ••• ثُمَّ أَنْشأَ يُغَنِّيهِ نَشِيدَ النَّوْمِ، الَّذِي تَحْفَظُهُ أُمَّاتُ السَّناجِيبِ جَميعًا، وَتُلَقِّنُهُ أَوْلادَهُنَّ (تُفَهِّمُهُنَّ إِيَّاهُ، وتقولُهُ لَهُنَّ مُشافَهَةً)، لِيُنْشِدْنَهُ، اسْتِجلابًا للنَّوْمِ والرَّاحةِ، فقالَ، فِي صَوْتٍ عَذْبٍ، يَفِيضُ رِقَّةً وَحَنَانًا: وظَلَّ «قُنْزُعَة» يُرَجِّعُ (يُرَدِّدُ) هذهِ الأُنْشُودَةَ الجَمِيلَةَ، وصَوْتُهُ يَخْفُتُ (يَسْكنُ أَوْ: يَسْكتُ) شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى أَسْلَمَ أَوْلادُهُ أَجْفانَهُمْ لِلنَّوْمِ، وراحَ مَعَهُمْ فِي سُباتٍ (نَوْمٍ) عَمِيقٍ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/39506480/
أسرة السناجيب
كامل كيلاني
تحكي القصة حياة السناجيب ومغامراتهم في الغابة.
https://www.hindawi.org/books/39506480/2/
الفصل الثاني
وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَنامُوا طَويلًا، فَقَدِ اسْتَيْقَظَ «البَرَّاقُ» فَزِعًا مَرْعُوبًا، وَصاح (صَرَخَ) — مِنْ فَرْطِ الخَوْفِ — قَائِلًا: «لَقَدْ سَمِعْتُ حَرَكَةً خارِجَ العُشِّ.» فاسْتَيْقَظتْ أُسْرَةُ السَّناجِيبِ، وَوَقَفتْ تَتَسَمَّعُ ذلِكَ الصَّوْتَ، وَحَدَّقتْ (شَدَّدَتِ النَّظَرَ) إليْهِ، وَأَرْهَفَتْ آذَانَها. ثُمَّ قالَ «الَّلامِعُ» مُجَمْجِمًا (غَيْرَ رافِعٍ صَوْتَه، ولا مُبِينٍ كلامَه) وقَدْ أَسْنَدَ رَأْسَهُ إلى فَرْعِ الشَّجَرَةِ: «لَقَدْ صَدقَ «البَرَّاقُ» — يا أَبَتاهُ — فَإنِّي أَسْمَعُ صَوتَ أَقْدامٍ تَتَسَلَّقُ جِذْعَ الشَّجَرَةِ.» فَذُعِرَ «البَرَّاقُ» (خافَ) — وَهُوَ أَجْبَنُ أَبْناءِ أَبِيه — وَأَخْفَى رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وقالَ مُنْزَعِجًا: «آَهٍ … يا لَها كَارِثَةً (نَكْبَةً) مُفَزِّعَة!» فقالَ أبُو السَّناجِيبِ «قُنْزُعَةُ»: «ما بالُ الْخَوْفِ قَدِ اسْتَولَى عَلَى نُفُوْسِكُمْ، أَيُّها الصِّغارُ الأَعِزَّاءُ! إِنَّ الصَّوتَ — فيما يَبْدُو لِي — قَدِ ابْتَعَدَ. فافتَحُوا بابَ العُشِّ، لِنَسْتَجلِيَ الأَمْرَ (لِنَعْرِفَهُ بِوُضُوحٍ)، وَنَرَى: مَنِ الطَّارِقُ (مَنِ الزَّائرُ لَيْلًا). فَإذا لاحَ لِي أَيُّ خَطَرٍ، أَشَرْتُ إِليْكُمْ بالخُروجِ مِنْ فَورِكُم (تَوًّا)، لِتَقْفِزوا إلى الشَّجَرَةِ المُجاوِرَةِ الأُخْرى. وَلَكِنْ لا تَنْسَوْا — إذا قَفَزْتُمْ مِن شَجَرَةٍ إلى شَجَرَةٍ — أَنْ تَبْسُطوا أَذْنَابَكُمْ — كما علَّمْتُكُمْ — حتَّى لا تَهْوُوا (لا تَسْقُطوا) إلى الأَرْضِ.» فَقالوا لَهُ: «كلَّا، كلَّا. لا تخْرُجْ — يا أبَتاهُ — فَلَسْنا آمِنِينَ منَ الأخْطارِ، إذا خَرَجتَ! ولَيسَ لَنا مَلاذٌ (مَلْجَأ) سِواكَ، فالبَثْ مَعَنا، فإِننَّا نَسْتَوحِشُ (نشعُرُ بالوحْشَة وَالْخَوْفِ) لِغَيْبَتِكَ!» فقالَ «قُنْزُعَةُ»: «الْزَمُوا الصَّمْتَ أَيُّها الأَعِزَّاءُ، ولا تُفْسِدُوا عَلَيَّ تَدْبيري، فإِنِّي أَبْعَدُ مِنْكمْ نَظَرًا، وَأَسَدُّ (أصْوبُ) رَأْيًا، وأوْفَرُ (أَكثَرُ) تَجْرِبَةً!» وَخَرَجَ «قُنْزُعَةُ» فَجَزِعَ (فَزِعَ) أبْناؤُه، وانْتَظمَتْهُمُ الرَّجْفَةُ (سَرَى في أجسادِهمُ الرُّعاشُ). وبعدَ قليلٍ سَمِعُوا حَرَكَةً تَدْنُو (تَقْتَرِبُ) منَ العُشِّ، فَاشْتَدَّ فَزَعُهمْ. ثم رأَوْا شَيْئًا يَدْنُو من البابِ، فكادَتْ تَخْمُدُ أنفاسُهم منْ فَرْطِ الذعْرِ (كادوا يَمُوتونَ من شِدَّةِ الخوْفِ)، وتحَيَّرُوا في أَمْرِهِمْ، فَلم يعرِفُوا: كَيْفَ يَصْنعونَ؟ ولَيَس مَعَهُمْ أبوهم، فيدْفَع عنْهُمْ غَائِلَةَ الْمُغيرينَ (فَتْكَ الهاجمِينَ)، وكَيْدَ المعْتَدِينَ. ثمَّ أطَلَّ عليهمْ رأْسُ حيوانٍ، فَعَقَدَ الذُّعْرُ أَلسِنَتَهُمْ (رَبَطَها الخَوْفُ وقيَّدَها، فَلَمْ تَسْتَطِع الكلامَ). وَأَسْرَعَ السَّناجِيبُ مُنْزَوِينَ (مُخْتَبِئِينَ) في رُكنٍ منْ أَركان العُشِّ. وَلم يَكَدْ يَستَقِرُّ الْمُقامُ بِهذا الزَّائِرِ الْمَخُوفِ الرَّاعِبِ (الْمُفْزِعِ)، حتَّى قالَ مُتَعَجِّبًا: «أَتُرَى هذا العُشَّ خاليًا من ساكِنيه؟!» فَخُيِّلَ إِلى صِغارِ السَّناجِيبِ أَنَّ آخِرَتَهِم قدْ قَرُبَتْ (ظنُّوا أَنَّ أَعْمارَهُم دَنت وَأَشْرَفتْ على نِهايَتِها)، وأَطْبقوا أَجْفانَهم (أَغْمَضُوا عُيُونَهم) مذعورِينَ، واسْتَسْلَمُوا لِلْيَأْسِ مَغْلوبِينَ. وفي هَذِهِ اللَّحْظَةِ، دخَلَ «قُنْزُعَةُ» عُشَّه، بعد أنْ أَتَمَّ — في الخارِج — جَوْلَتَهَ (طَوْفَتَه) باحثًا عن ذلك الطَّارِقِ. ثم قال لِبَنيهِ: «لَمْ أَرَ أَحَدًا خَارِجَ العُشِّ أَيُّها الأَعِزَّاءُ؛ فَطِيبُوا نَفْسًا، ولا يداخِلَّنَكُم (لا يُصِيبَنَّكُمُ) الرَّوْعُ (الفَزَعُ) و …» فَقاطعَهُ صوتُ ذلك الزَّائِرِ قائلًا: «سُعِدَ يَوْمُك، يابْنَ عَمّ!» فَدُهِشَ «قُنْزُعَةُ» وَتَلَفَّتَ حَولَه، لِيَرَى: مَن يُحَيِّيهِ. فَأَبْصَرَ — بِالْقُرْبِ مِنَ البابِ — جِسْمًا صغيرًا، في لَوْنِهِ دُكْنَةٌ (سَوادٌ). فصاحَ مسرورًا: «مَرْحَبًا بِكِ يابْنَةَ العَمِّ. كيفَ أنتِ يا «أُمَّ راشِدٍ»؟ أَتَدْرِينَ كَيْفَ أَزْعَجْتِ أبْنائي — أَيُّتُها الْفَأْرَةُ الْعَزِيزةُ — بِهذِهِ الزَّوْرَةِ الْمفاجِئَةِ؟» فَأَجابَتْهُ «أُمُّ راشِدٍ»: «عُذْرًا وَصَفْحًا، يا ابْنَ عَمَّ، شَدَّ ما يُحْزِنُني أَنَّنِي سَبَّبْتُ لَكُم هذا الانْزِعاجَ! فهلْ أنتَ غافِرٌ لي هذه الهَفْوَةَ؟ وهل أنتَ مُتَفَضِّل عَلى بِنتِ عَمِّكَ، فَمُضِيفُها — في عُشِّكَ — زَمَنًا قصِيرًا؛ لعَلّي أُصِيبُ شَيْئًا مِنَ الدِّفءِ، فقدْ كادَ البَرْدُ يُهْلِكني؟!… هأَنا ذِي أَرَى أَبْناءَك الصِّغارَ، فما أَجْملَ شكلَهمْ وَأَبْهجَ مرْآهُم! ادْنُوا (اقْترِبوا) مِنِّي، أَيُّها الأَعِزَّاءُ. أَلا تَعْرِفون «أُمَّ راشِدٍ» — بنتَ عَمِّكُم — المُخْلِصَةَ الوَفِيَّةَ؟» فَنَظَرَ إليها «اللَّامِعُ» و«السَّاطع» و«البَرَّاقُ»، وقدْ سُرِّيَ عَنْهم، وَذَهَبَ بعضُ ما في نُفُوسِهمْ من الرَّهْبةِ والخوْفِ. وحلَّتِ الدَّهشَةُ مَكانَ الفزَعِ، إذْ عَجِبُوا (دَهِشوا) مِنْ تلك الفتاةِ الصَّغيرةِ ذاتِ الرِّداءِ (صاحِبَةِ الثَّوْبِ) الرَّمادِيِّ، التي تُحَدِّثُهم — في طَلاقةٍ وَسُرْعَةٍ — وهي تَغْمِزُ بِعَيْنَيْها، وَتُقَطِّب (تُجَمِّع) أَنْفَها المُحْدَوْدِبَ (الخارِجِ وَسَطُهُ)! ثُمَّ اسْتَأْنَفَتْ «أُمُّ رَاشِدٍ» قائلةً: «تقَبَّل تَهْنئاتي — يابْنَ عَمَّ — بِهذا الْمَسْكَن الْبديعِ الَّذِي تَقْطُنُهْ (تَسْكنُهُ).» فقالَ «قُنْزُعَةُ»: «صَدقْتِ — يا «أُخْتَ يَرْبُوعَ — «فقد بَذَلْتُ جُهْدًا عَظِيمًا في تَنْسِيقِ هذا العُشِّ (تَنْظيمِه)، وَوَضْعِ هذِهِ الأغْصانِ الصَّغيرَةِ كُلِّها، وَتَرْتِيبِها فِيهِ.» فَرَفَعت «أُمُّ رَاشِدٍ» رَأْسَها قائِلَةً: «ما أَجْمَلَ هذا الْبَيْتَ الَّذِي بَنَيْتَهُ، وَرَفَعْت سَمْكَهُ (سَقْفَهُ) وَأَقَمْتَهُ! وَما كانَ أَجْدَرَ الْفَأْرَ أَنْ تَهْتَدِيَ بِكَ، وتَحتَذِيَكَ (تَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِكَ) في هنْدَسَةِ بَيْتِها! وَما أَعْجَبَ مَا وُفِّقْتَ إِلَيْهِ مِنْ فُنونِ الهَنْدَسَةِ، إِذْ تَفْتَحُ بابَ مَسْكَنِك في الشَّرْقِ، لِتَنْفُذَ إِلَيْكَ أَشِعَّةُ الشمْسِ، في اللَّحْظَةِ الَّتي تَطْلُعُ فيها عَلَى الْكَوْنِ! آهٍ، لقد ثَرْثَرْتُ (أَطَلْتُ التَّكَلُّمَ) — يابْنَ عَمَّ — بِلا طائلٍ (بِغيْرِ فائدَةٍ). وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَكَ — بادِئَ الأَمْر — كَيْفَ أَنْتَ؟ وَلَعَلَّ عُذْرِي في هذِهِ الثَّرْثَرَةِ أَنَّني لم أُقابِلْ أَحَدًا مِنْ أَصْدِقائي مُنذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ. وقَدْ طالَ شَوْقِي إِلَى الْحَدِيثِ وَالسَّمَرِ، وَكانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّي أَنْ لَقِيتُكَ مُفاجَأَةً، فَقَدْ كُنْتَ أَعْتَسِفُ الطَّرِيقَ (أَمشي فيهِ بِلا دِرايةٍ)، سائرةً عَلَى غَيْرِ هُدىً. وَعَنَّ (خَطَرَ) لي أنْ أَتَسَلَّقَ هذه الشَّجرَةَ، وَأَنا لا أدْرِي، إلى أيِّ مكانٍ أَقْصِدُ؟ وَلَمْ أَعْرِفْ أنَّ حَظِّيَ السَّعيدَ سَيهْدِينِي إِليْكَ!» فقال «قُنْزُعَةُ»: «وَكَيْفَ اسْتَطَعْتِ أَنْ تَخْرُجِي وَحْدَكِ مِنْ عُشِّكِ، في هذا الوقتِ، يا «أُخْتَ يَرْبُوع»؟ وَكَيْفَ أَقْدَمْتِ عَلى احْتِمالِ آلامِ الْبَرْدِ الْقارِسِ (الشَّديد)، عَلَى غيْرِ عادَتِكِ، يابْنَةَ عَمَّ؟» فَطأطأَتْ «أُمُّ رَاشِدٍ» رَأْسَها، ومَسَحتْ بِيَدَيْها فاها (فَمَها) الصَّغيرَ، ثُم قالتْ مَحْزُونَةً: «آهٍ، يابْنَ عَمَّ، بِرَبِّكَ لا تُذَكِّرْني بِعُشِّي، وَلا تُحَدِّثْني عنهُ أَيَّ حَديثٍ؛ فَإِنِّي لا أَذْكُرُ العُشَّ إِلاَّ ذَكَرْتُ مَعَه مِقْدارَ شَقائي وَتَعاسَتي، وَسُوءِ حَظِّي. لَقدْ كان عُشِّي — عَلَى عِلاَّتِهِ (علَى أَيِّ حالٍ فيهِ) — خيْرَ نَمُوذَجٍ لِمَساكنِ الْفأر. وَكانتْ فَأْرُ الغابَةِ جَميعًا تُزْهَى (تَعْجَبُ) بِهِ، وَتُثْنِي عَلَيْهِ. وَقَدْ كُنْتُ بَنَيْتُهُ — يابنَ عَمَّ — في آخر جِذْعِ بَلُّوطةٍ ناشِئةٍ. وَحَفَرْتُ — بِالْقُرْبِ مِنْهُ — مُسْتَوْدَعَ زادي، وَمخْزَنَ مَؤُونَتي. وَملأتُهُ بكلِّ ما أَشْتَهيهِ من أطايِبِ الْمآكِل، وَلذائذِ الأطعِمة.» وكانَ السَّناجِيبُ الأربعةُ يُرْهِفُونَ آذانَهُمْ، مُنْصِتينَ إلى حديثِ «أُمِّ رَاشِدٍ». وقد حَزِنُوا لِشكْواها، وَتَأَلَّمُوا لِبَثِّها أشدَّ الْألَمِ (تَوَجَّعُوا لحُزْنِها أشَدَّ الْوَجَعِ). فَقاطعها «اللَّامع» قائِلًا: «شدَّ ما أحْزَنْتنا شَكواكِ، يا «أُمَّ رَاشِدٍ؟» فقالتْ «أُمُّ رَاشِدٍ» مُسْتَأْنِفةً حديثَها: «اصْغُوا إِلى بَقِيَّةِ الْقِصَّةِ، فَإِنَّها لمَّا تَنْتَهِ (لم تَنْتَهِ بَعْدُ)، يا أبناء عَمَّ. وَهيَ مَأساةٌ (حادِثةٌ) مُفَزِّعَةٌ. ولستُ أَشُكُّ في أنَّكم سَتَدْهَشُونَ إذا قرَّرتُ لكم أنَّني — مُنْذُ زَمَنٍ قليلٍ — كنتُ وادِعةً آمِنةً في عُشِّي، وَبَيْنا أنا مُصْغِيَةٌ (مُسْتَمِعَةٌ) إلى غِناءِ الرِّيحِ، وقد تَهيَّأْتُ لِلكَرَى (اسْتَعْدَدْتُ لِلنَّوْمِ)، وَكِدْتُ أُغْمِضُ عَيْنَيَّ؛ إذْ سَمِعْتُ جَلْجَلَةً (فَرْقَعةً)، وقَعْقَعةً هائلةً تَصُمُّ الآذانَ، فَأَسْرَعْتُ — هاربةً — لَعلِّي أنجُو بِنَفْسي. وَلَمْ أكَدْ أفعَلُ حتَّى أَبْصَرْتُ شَجرةَ البَلُّوطِ تَهْوِي ساقِطةً على الأَرْضِ، فَسَمِعْتُ لِدَوِيِّها ضَجَّةً، كأَنَّها قَصْفُ الرُّعُودِ (صَوْتُها الشَّدِيدُ)! وَلو أنَّني تَأَخَّرْتُ لَحْظَةً واحدةً عنِ الْهَرَب، لَهَلَكْتُ من فَوْرِي. آهٍ… يا لَها ساعة مُفَزِّعَةً، لا زِلْتُ أَرْجُفُ (أَرْتَعِشُ) كُلَّما ذَكرْتُها!» فقال «قُنْزُعَةُ» أبُو السَّناجِيبِ: «لقد دُمِّرَ (خَرِبَ) عُشُّكِ — إِذنْ — يابنةَ عَمَّ!» فقالت «أُمُّ رَاشِدٍ»: «صَدَقْت! فقد دُمِّرَ عُشِّي، وَتَبَدَّدَ زادِي (تَفرَّق طَعامي)، وَحَمَلَتْهُ الرِّياحُ الْهُوجُ (الَّتي لا تَسيرُ في طريقٍ واحدٍ)، إلى أقاصِي الأرضِ النَّائيةِ (الْبعيدةِ)، وَلم يَبْقَ لَدَيَّ جَوْزَةٌ واحدةٌ، أَقْتاتُ بها. والْفَصْلُ — كما تعلَمُ — شِتاءٌ، وليس في الأشجارِ من شَيْءٍ يَصْلحُ لي زادًا. فما حِيلَتي يابْنَ عَمَّ؟» ثمَّ صَمَتَتْ (سَكَتَتْ) «أُمُّ رَاشِدٍ» الْمِسْكينةُ، وَغَصَّت عيْناها (امْتلأتا) بالدُّمُوع، وَطَفِقَتْ تَبْكِي حَظَّها الناعِسَ مُتَأَلِّمَةً!
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/39506480/
أسرة السناجيب
كامل كيلاني
تحكي القصة حياة السناجيب ومغامراتهم في الغابة.
https://www.hindawi.org/books/39506480/3/
الفصل الثَالث
فقالَ «قُنْزُعَةُ»: «أَلَيْسَ لَكِ — يابْنَةَ عَمَّ — أَخٌ، أوْ أُخْتٌ، أَوْ أُسْرَةٌ تُعاوِنكِ (تُساعِدُكِ)، في هذا الْوَقْتِ الْعَصِيبِ (الشَّدِيدِ)؟ فَقَدْ طالما سَمِعْتُ أَنَّ الْفَأْرَ مُتَعاوِنَةٌ، يُسَاعِدُ بَعْضُها بعضًا، ولا يَخْذُل قَرِيبٌ قَرِيبَه!» فقالتْ «أُمُّ رَاشِدٍ»: «لَيْسَ في هذا شَكٌّ، يابْنَ عَمَّ، وَلكِنَّنِي لا أعْرِفُ أَيْنَ تَسْكُنُ أُسْرَتِي وَأَهْلِي؟ وَمَبْلَغُ عِلْمي أَنَّهم أسْرَعُوا إِلى بُيُوتِ النَّاسِ ليَقْطُنوها؛ وَهَجَرُوا الْغَابَةَ في آخِرِ فَصْلِ الْخَرِيفِ، عِنْدَما اصْفارَّتْ أوْراقُ الأشْجارِ. وَقَدْ اعْتزَمُوا أن يَقْضُوا فَصْلَ الشِّتاء في تِلْكَ الْمَساكِن الآهِلَةِ (الْمَسْكُوْنَةِ) بالنَّاسِ، كما هِيَ عادَتُنا، مَعْشَرَ الْفأْرِ. وَلَقَدْ حاوَلَ أبي وأُمِّي أنْ يَصْطَحِبانِي في تلْكَ الْهجْرَةِ، وَلكِنَّ خالَتي زَهَّدَتْني في الطَّيِّبات واللَّذائذِ، الَّتي تأكُلُها الفَأرُ في تِلْكَ الْبُيُوت؛ لِما قَصَّتْهُ عَلَيَّ مِنْ مكايِدِ النَّاسِ، وَحِيَلِهِمُ الْعَجِيبَةِ الَّتي يَتَحَوَّلُونَها لِاصْطِيادِنا، مَعْشَرَ الْفَأر.» فَصاحَ «اللامِعُ»: «مَنْ هذهِ المَخْلُوقاتُ الَّتي تعْنِينَ (تَقْصُدِينَ)؟» فقالَتْ «أُمُّ رَاشِدٍ»: «أَلا تَعْرِفُ النَّاسَ، يا عَزيزِيَ «اللامِعَ»؟ إِنَّهُمْ فِئَةٌ منَ العَمالِقةِ (الطِّوالِ) يَسِيرُونَ عَلَى رِجْلَيْن كما تَمْشِي الطُّيُورُ، لا عَلَى أَرْبَعٍ كما نَمْشِي، مَعْشَرَ الْفَأرِ. وَكلُّ واحِدٍ مِنهُمْ يَرْتَدِي (يَلْبَسُ) ثَوْبًا أَشْبَهَ شَيْءٍ بِغِرارَةٍ (زَكِيبَةٍ)، أوْ كِيسٍ.» فَضَحكَ «اللَّامِعُ» وَإِخْوَتُهُ منْ هذا التَّشْبِيهِ الظَّرِيفِ. وقال «اللَّامِعُ»: «لَعَلَّني أَذْكرُ أَنَّني رَأيْتُ واحِدًا تَنْطَبِقُ عَلِيْهِ هذهِ الصِّفاتُ، وَقَدْ أَدْهَشَنِي مَنْظَرُهُ. فَظَلِلْتُ أَرْقُبُهُ — مِنْ خِلالِ الأغْصانِ — حَتَّى اسْتَخْفَى عَنْ ناظِرَيَّ (غابَ عَنْ عَيْنَيَّ)، فَقَضَيْتُ الْعَجَبَ مِمَّا رَأيتُ.» فقالَتْ «أُمُّ رَاشِدٍ»: «لقدْ سَمِعْتُ أَنَّ في بُيُوتِ هؤلاءِ الأَناسِيِّ (النَّاسِ) حيوانًا شِرِّيرًا، اسْمُهُ القِطُّ، وكُنْيَتُهُ «أبو غَزْوانَ». وهُوَ يَأكلُ الفَأرَ فَلا تَنْجُو مِن مِخْلَبَيْهِ فَأرَةٌ يَراها، بالِغَةً ما بَلَغتْ مِنَ المَهارَةِ والقُوَّة. وَلَقَدْ حَدَّثُونِي عَنْهُ — فيما حَدَّثُونِي — أَنَّ لَهُ شَارِبَيْنِ طَوِيلَيْنِ، يُذْعِرانِ (يُخَوِّفانِ) مَنْ يَراهُما، ويَمْلآنِ قَلْبَهُ رَهْبَةً وهَلَعًا (خَوْفًا وفَزَعًا). ولَقَدْ رَفَضْتُ أن أصْحَبَ أبَويَّ في هِجْرَتِهما، خَشْيَةَ هذَا الحَيَوان الضَّارِي (الفتَّاك) الْجَريءِ الباطِشِ الْمُفْتَرسِ.» فقال «قُنْزُعَةُ»: «لقَدْ عَرَفْتُ مَنْزِعَكِ (طَبِيعَةَ نَفْسكِ) يا «أُمَّ رَاشِدٍ»؛ فَأَنْتَ تُؤْثِرِينَ (تَخْتارِينَ) — مِثْلَنا — سُكْنَى الغابات، حَيْثُ الحَياةُ حُرَّةٌ والْهَواءُ طَلْقٌ. وَلَقَدْ طالَما قالتْ لي جَدَّتِي: إِنَّ الكَفافَ (العَيْشَ عَلَى قَدْرِ الحاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ) مَعَ الحُرِّيَّةِ خَيْرٌ مِنَ الرَّغَدِ (السَّعَةِ والتَّنعُّمِ) مَعَ الْعُبُودِيَّةِ! وَخِيْرٌ لَنا أن نَعِيشَ في بُيُوتِنا فُقَرَاءَ، فذلِكَ أشْرَفُ من أنْ نَعِيِشَ في بُيُوتِ غَيْرنا أغْنِياءَ. فَلْيَقْتَرِبْ بَعْضُكُمْ منْ بَعْضٍ أَيُّها الأَبْناء البَرَرَةُ (الطَّيِّبُونَ) لِتُخْلُوا مكانًا لِصَدِيقَتِنَا «أُمِّ رَاشِدٍ»!» فقالَتْ «أُمُّ رَاشِدٍ»: «طِبتَ نَفْسًا، وشَرُفْتَ أصْلًا، يابْنَ عَمَّ. فَخَبِّرْنِي أيُّها الْكَرِيمُ: كَيْفَ أشْكُرُ نِعْمَتَك عَلَيَّ؟» فقال «أبُو السَّناجيبِ»: «شَدَّ ما تُضْحِكِينَني يابْنَةَ عَمَّ! لِماذا تَشكُرِينَ؟ أُقْسِمُ — بِقُصَّتي — إنَّني لا أُراني (أظُنُّني) فَعَلْتُ إلَّا بَعْضِ ما يَجِبُ عَلَيَّ نَحْوَكِ! لَقَدْ نَزَلَتْ بكِ الْأحْداثُ (مَصائبُ الدَّهْرِ)، ولَيْسَ من الْمُروءَةِ أنْ أتخلَّى عَنْكِ في مِحْنَتِكِ. أنَسِيتِ — يا عزيزتي — أنَّنا منْ أُسْرَةٍ واحِدَةٍ؟!» فَأجابَتْه «أُمُّ رَاشِدٍ»: «كَيْفَ أَنْسَى ذلِكَ، يا «أبا السَّناجيبِ»؟ أَلَسْنا منْ أَبْناءِ تِلْكَ الْأُسْرَةِ الْعَظِيْمَةِ الْمَاجِدَة: أُسْرَةِ الْقَرَّاضينَ (الْقَطَّاعِينَ)، التي تَقْطُنُ جَمِيعَ أرْجاءِ الْمَعْمُورَةِ (تَسْكُنُ كُلَّ أَنْحاءِ الدُّنْيا)، وَتَحْتَلُّ الْأرْضَ من أَقْصاها إلَى أَقْصَاهَا؟» فَوَقَفَ «اللَّامعُ «أمامَ أنْفِ «أُمِّ رَاشِدٍ»، وظَلَّ يُنْعِمُ النظَرَ فِيها مَلِيًّا (وَقتًا طَويلًا)، ثُمَّ قالَ لِـ «قُنْزُعَةُ» مَدْهُوشًا: «كَيْفَ تُقِرُّ «أُمَّ رَاشِدٍ» عَلَى أنَّنا منْ أُسْرَةٍ واحِدَةٍ؟ لَقَدْ كُنْتُ أَحْسَبُكَ تُداعِبُها (ظنَنْتُكَ تُمازِحُها)، حينَ تَدْعُوها بِابْنَةِ عَمِّك، وَلكنِّي أَلْمحُ (أرَى) الْجِدَّ في حَدِيثِكُما، ولا أرَى — فيما تقُولانِ — شَيْئًا من الدُّعابة (الفُكاهَةِ والْهَزْلِ). ومَا أدْرِي: كيْفَ تَكُونُ هذِهِ المَخْلُوقَةُ الصَّغِيرةُ الْجِرْمِ (الْحَجْم)، الضَّئِيلَةُ الجِسْمِ، منْ بَنَاتِ عَمِّنَا؟ هذا ما لا أفْهَمُهُ!» فَصاحَ «قُنْزُعَةُ»: «ألا تَكُفُّ عَنْ هَذَرِك (عَبَثِكَ ومُزَاحِكَ) أيُّها الغَبِيُّ؟ ما بالُكَ تُغْلِظُ الْقَوْلَ لِهذِهِ الضَّيْفِ الْعَزِيزةِ؟ ألا تَدْرِي: بأيِّ مِيزَةٍ تَتَعَرّفُ فَصائلَ الْحَيَوان (أنْوَاعَهُ)؟ أَلَمْ أَشْرَحْ لَكُمْ هذا من قَبْلُ؟» فَقَالَ «السَّاطعُ»: «صَدَقْتَ — يا أبتِي — فَقَدْ حَدَّثْتَنا: أَنَّ الدَّوَابَّ تُعْرَفُ بِأسْنانِها.» فَقالَ «قُنْزُعَةُ»: «مَرْحَى، مَرْحَى (أَحْسَنْتَ … أَحْسَنْتَ) أيُّها الذَّكِيُّ الصَّغِيرُ! تَعالَ إلَى جانِبِي، وافْتحْ فاكَ، عَلى مَدَى اتساعِهِ. وتَعالَ، يا «لامعُ» فانْظُرْ: كَمْ سِنًّا أماميَّةً في فَمِ أَخيكَ الصَّغيرِ؟» فحَدَّقَ «اللَّامعُ» بَصَرَهُ — كما أَمَرَهُ أَبُوهُ — ثمَّ قالَ لَهُ: «أَرَى ثِنْتَيْنِ في الْفَكِّ الأعْلَى من الْحَنَكِ، وثِنْتَيْنِ فِي الْفَكِّ الأسْفَلِ، وَمَجْمُوعُهُما أرْبَعُ أسْنانٍ.» فَقالَ «قُنْزُعَةُ»: «صَدَقْتَ يا «لامِعُ». فَهلْ تَعْرِفُ اسْمَ هذِهِ الْأسْنانِ الْمُسْتَعْرِضَةِ؟ إنَّها تُسَمَّى: الْقواطِعَ. أفَهِمتَ يا «لامعُ»؟» فقالَ لَهُ «لامِعٌ»، وَقَدْ تَطَلَّقَ مُحَيَّاهُ (انْبَسَطَ وَجْهُهُ) بِشْرًا وَحُبُورًا: «نَعَمْ — يا أبتاهُ — فَهيَ تُسَمَّى: الْقَواطعَ.» فاستأنف «قُنْزُعَةُ» قائلًا: «واعْلموا أنَّ لكلِّ فَرْدٍ من أفراد هذِهِ الْأسْرَةِ القرَّاضَةِ الْمُتَسَلِّقَةِ التي تَشْتَمِلُ علينا، مَعْشرَ السَّناجِيبِ — وَعَلَى بَناتِ أعْمامِنا الجِرذانِ والفيران — أرْبَعَ أسْنانٍ قاطعة، نَسْتَعملُها للقَرْض (القطع).» ثم التفت إلى «أُمِّ رَاشِدٍ»، قائلًا: «أَتأذَنين — متفضِّلةً — يابنةَ عمَّ — أن تفتحي فاكِ، ليَرى هذا الطَّائشُ مِصداقَ (بُرْهانَ) ما أقولُ؟» فقالت له «أُمُّ رَاشِدٍ»: «ليس أحبَّ إلى نفسي من تلبية أمرِك، يابنَ عَمَّ.» ثم انتصَبتْ واقِفةً على رِجْلَيْها الْخَلْفِيتيْنِ. وفتحتْ فاها — على مدَى اتِّساعه — فكان شكلُها غايةً في البَشاعة (الفظاعة). ولم يَتَمَالَكِ «اللَّامعُ» أن يَضْحَكَ من رُؤْيتها. وأراد «السَّاطع» و«البرَّاق» أن يُتابعا أخاهُما في ضَحِكهِ، وَيَحْذُوَا حَذْوَهُ، ولكنَّ «قُنْزُعَةَ» — وهو يُبْغِضُ الْمِزاحَ في مواطن الجِدِّ — قَطبَ حاجِبَيْهِ (جمع لَحْمَهما كما يفعل الإنسان، إذا عَبَسَ وغَضِبَ)، فلم يستطعْ أَحَدٌ منهم أن يُواصلَ ضَحِكَهُ. وأنشأَ «الساطع» يَعُدُّ أسنان «أُمِّ رَاشِدٍ«، بِصَوْتٍ مرتفع: «واحدةٌ … ثِنْتان … ثلاثٌ … أربعٌ …» وثَمَّةَ (وهُناكَ) أدْرَكَ «السَّاطعُ» خطأَهُ وَجهْلَهُ؛ فَطأطأ رَأسَهُ مُجَمْجِمًا (مُتَكلِّمًا بِكلامٍ غَيْرِ وَاضِحٍ): «إنَّ لها أرْبَعَ أسْنانٍ قاطِعةً أيْضًا!» فقالَ «قُنْزُعَةُ»: «فهلْ أيْقَنْتَ (تَثَبَّتَّ) الآنَ — يا «ساطعُ» — أنَّ الْفأرَ والسَّنَاجِيبَ مِنْ أُسْرَةٍ واحِدَةٍ، وأصْلٍ واحدٍ؟ وَهَلْ أدْركْتَ — أَيُّها الْمَغْرورُ — أنَّك أَمْعَنْتَ في الإساءَةِ (بالَغْتَ فِيها) إلى هذِهِ الضَّيْفِ الْعَزِيزةِ؟ فَهَلُمَّ أَقْبِلْ — يا «ساطِعُ» — فاعْتَذِرْ لابْنَةِ عَمِّكَ مِمَّا أسْلَفتَ مِنْ إسَاءَةٍ وَعُقُوقٍ..» ••• فَتَوَجَّهَ «ساطِعُ» إِلَى بِنْتِ عَمِّهِ «أُمِّ رَاشِدٍ» مُعْتَذِرًا نادِمًا. وَما كانَ أسْرَعَ صَفْحَهَا وغُفْرانَها (سُرْعانَ ما سامَحَتْهُ وتَجاوزَت عَنْ ذنْبِهِ وِغَفَرَتْ لَهُ إِساءتَهُ)! فَلَقَدْ أقْبَلتْ عَلَيْهِ «أُمُّ رَاشِدٍ» تُدَاعِبُهُ، وَتَتَوَدَّدُ إِلَيْهِ (تُمازِحُهُ وَتَتَحَبَّبُ إلَيهِ)، وتَلْحَسُهُ بِلِسانِها اللَّطِيفِ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/39506480/
أسرة السناجيب
كامل كيلاني
تحكي القصة حياة السناجيب ومغامراتهم في الغابة.
https://www.hindawi.org/books/39506480/4/
الفصل الرابع
ثُمَّ سادَ الصَّمْتُ زَمَنًا يَسِيرًا (وقْتًا قَليلًا)، وظَلَّتِ السَّناجِيبُ تَصْقُلُ (تُلَمِّعُ) بِأَلْسِنَتِها جُلودَها، وَتلْحَسُها. وبَدَا الاِرْتِباكُ والْقَلَقُ عَلَى وَجْهِ «أُمِّ رَاشِدٍ«. فسَأَلَها «أَبو السَّناجيبِ» عَنْ مَصْدَر هَمِّها وانْزعاجِها، فَقَالَتْ مُجَمْجِمَةً: «لَقَدْ نَفِدَ صَبْرِي — يا بَناتِ عَمِّي — وَاشْتَدَّتْ بِي آلامُ الْجُوْعِ، حَتَّى ضِقْتُ بِها ذَرْعًا (ضَعُفَت طاقَتِي، وقَلَّ احْتمالِي، وَلَمْ أجِدْ للمَكْروهِ فيها مَخْلَصًا). فَقَدْ لَبِثْتُ (بَقِيتُ) — مُنْذُ مَساءِ الأمْسِ إلَى الْيَوْمِ — دُونِ طَعامٍ. فَهَلْ أجِدُ فِي بَيْتِكُمْ شَيئًا مِنَ الزَّادِ؟» فَقالَ «قُنْزُعَةُ»: «ما أشَدَّ بَلاهَتي (ما أعْظَمَ غَفْلَتِي وغَباوَتِي)، وما أقَلَّ ذَوْقي وَفِطْنَتِي! فَقَدْ أُنْسِيتُ هذا الْواجبَ — يابْنَةَ عَمَّ — وَلَيْسَ عِنْدِي — لِسُوءِ الحَظِّ — شَيْءٌ تَقْرِضِينَهُ (تَقْطَعِينَهُ) الآن. فَترَيَّثي (انْتَظري) لَحَظاتٍ يَسِيرَةً (زَمَنًا قَليلًا)، حَتَّى أعُودَ إِلَيْكِ بِشَيْءٍ مِنَ الزَّادِ.» ثُمَّ تَحَفَّزَ (تَأَهَّبَ) «قُنْزُعَةُ» لِلْخُرُوج منَ العُشِّ، ولكنَّهُ ما كادَ يُطلُّ بِأَنْفِه، حَتَّى عادَ أدْراجَهُ (رَجَعَ مِنْ حَيْثُ أَتَى)، وهُو يَصِيحُ فَرحًا: «يا لَهُ مِنْ بَرْدٍ قارِسٍ (شَدِيدٍ)، لَقَدْ تَحَدَّرَ الجَليدُ (تَساقَطَ الثَّلْجُ) فَمَلأَ الدُّنْيا، فَهَلُمُّوا (أقْبِلوا) — أيُّها الْأعِزَّاءُ — لِتَرَوْا ذلِكمُ المَنْظَرَ البَدِيعَ». فَخَرَجُوا جَمِيعًا، وَظَلُّوا يَثِبُونَ (يقْفزُونَ) بَيْنَ الْأغْصانِ، وَظَلَّ الجَلِيد يَتَحَدَّرُ (يتَساقَطُ) عَلَى فِرائِهمْ، فَيَزِيدُهُمْ فَرَحًا وإيناسًا.. وَلكِنَّ السَّناجِيبَ الصَّغيرةَ لَمْ تُطِقِ البَقاءَ طَويلًا فِي الزَّمْهَرِيرِ (اشتِدادِ البَرْدِ)؛ فَقَدْ عَجَزَتْ أَرْجُلُها العارِيةُ عَنِ احْتِمالِ البَرْدِ القَارِسِ (الشَّديدِ). فَقالَ «ساطِعٌ»: «عُودُوا (ارْجِعُوا) بِنا إلَى العُشِّ. فَقَدْ كادَ جِسْمي يَجْمُدُ مِنْ شِدَّةِ البَرْدِ!» فَتَرَكَهُمْ أبُوهُمْ، لِيُحْضِرَ الطَّعامَ لِضَيْفِهِ العَزِيزَةِ. فَعادُوا جَمِيعًا إلى الْعُشِّ، وَلَمْ يَكَدْ يَسْتَقِرُّ بِهِمُ الْمُقامُ حَتَّى قالت «أُمُّ رَاشِدٍ»: «لَقَدْ أَزْعَجَتْكُم — أيُّها الصِّغارُ الأعِزَّاءُ — هذِهِ الْعاصِفَةُ (الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ) الْباردَةُ الْمُفَزِّعَةُ.» فَقالوا لها: «صدقتِ، يابْنَةَ عَمَّ.» فَقالتْ «أُمُّ رَاشِدٍ»: «آهٍ، لو أَنَّ أُمَّكُنَّ هُنا! إِذَنْ لَهَدَّأَتْ مِن رُوعِكُنَّ (سَكَّنَتْ مِنْ قَلْبِكُنَّ). فَإِنِّي أَعْرِفُها سِنْجابةً طَيِّبَةَ الْنَّفْسِ، جَريئَةَ الْقَلْبِ، لا يُدانيها مِنْ بَناتِ السَّناجيبِ أَحَدٌ في خِلالِها (خِصَالِها) الْجَمِيلَةِ، ومَزاياها الْحَمِيدة. وَلَعَلَّكُنَّ لا تَعْرِفْنَ: ماذا صَنَعتْ أُمُّكُنَّ الْعَزيزَةُ في سَبِيِلِ إِنقاذِكنَّ، حينَ كنتُنَّ — فِي أوَّلِ نَشأَتِكُنَّ — أطْفالًا صِغارًا؟» فَقالوا لَها: «كَلَّا. لَمْ نَعْرِفْ شَيْئًا مَنْ ذَلِكِ.» فقالتْ «أُمُّ رَاشِدٍ»: «أَلَمْ يُحَدِّثْكُنَّ أبوكُنَّ هذا الْحَديثَ الطَّرِيفَ؟ أَصغُوا إليَّ، فإنِّي قاصَّتُهُ عليكنَّ، أيُّها الأعزَّاء: لَمَّا وُلِدْتُمْ — أَيُّها الصِّغارُ الأعِزَّاءُ الْمَحْبُوبونَ — ابْتَهَجَ بِكمْ أَبَواكمْ، وسُرَّا سرُورًا عَظيمًا. وَأقْبَلَ عَلَيْهِما الْأصْدِقاءُ يُهَنِّئُونَهُما بِوِلادَتِكم. وامْتَلأَ قَلْبُ أُمِّكم الْحنُونِ (الرَّحِيمَةِ) فَرَحًا وَغِبْطَةً بهَذِهِ العرائِس الصَّغيرَةِ الجمِيلَةِ الَّتي وَلَدَتْها. وعاشَتْ — إلى جانبِكمْ — أسْعَدَ عَيْشٍ. وَلَمْ يُكَدِّرْ صَفْوَها أَيُّ مُكدِّرٍ. وفي ذاتِ يومٍ أبصرَتْ (رأتْ) — وهي خارجةٌ — حيوانًا أسْوَدَ، يدُورُ حَولَ شجرَتِكمْ، مُتَحَفِّزًا لِلْفَتْكِ (مُتَوَثِّبًا متَأهِّبًا للبَطشِ والاِفتراسِ) اسمه: «الدَّلَقُ». وهو حيوانٌ شَرِسٌ، شديدُ الخَطَر، في مثْل حجمِ القِطِّ وَهيئته، وَلكنَّهُ أحمرُ الْجسمِ، أبيضُ الْحَلْقِ والصَّدْرِ، وهو مِن ألدِّ أعْداءِ شعْبِ السَّناجِيبِ النَّبيلِ. فاحْذرُوا منهُ — أيُّها الأعِزَّاءُ — ولا تُخْطِئُوا شكْلَهُ؛ فإنَّهُ أَقْرَبُ حيوانٍ شَبَهًا بالقِطِّ. آهٍ لكم، أيُّها الصِّغارُ! وَواهٍ من تلكُم الوُحُوشِ الْمُفترِسة التي تُزْعِجُ الآمنين الوادعِينَ! فلولاها لأَصْبَحَتِ الدُّنيا جنَّةً، وعَاشَ فيها أهْلُوها في غِبْطةٍ وسعادة دائمَتَيْنِ. ولَم تكدْ أمُّكُم الْحَنُونُ تَرَى هذا «الدَّلَقَ» حتَّى امْتلأَ قلبُها رُعْبًا، فَأسرَعَتْ إلى الْعُشِّ مَذْعُورةً (خائفةً)، ولم تَسْتَطِعِ الْخُرُوجَ منهُ. وكان أبُوكم الْعزيزُ غائبًا في ذلكمُ اليَوْمِ، فَقَدْ ذهَبَ — فيما حدَّثني — لزيارةِ أحَدِ أعْمامِكم، في الْغابةِ المُجاورةِ. وَلَمَّا جَنّ اللَّيْلُ (أظْلَمَ)، عادَ — في طَرِيقِهِ إلى عُشِّهِ — مُطمَئِنًّا، وفي فَمهِ جَوْزَةٌ لذيذةُ الطَّعمِ، وقَلبُهُ مُنْشرِحٌ مَسْرُورٌ بِقُرْبِ لِقائكم. ولكنّ سرُورَهُ تَبدَّلَ غَمًّا وهمًّا وانزعاجًا، حين رَأى «الدَّلَقَ» خارجًا من عُشِّكم. فامْتَلأَ قلْبُهُ ذُعرًا، وَخَرَجَ هائمًا (مُتَحَيِّرًا) في الْغابةِ. وظَلَّ يَقِفُ — في أثناءِ طَريقِهِ — مَذْهولًا مُضْطَرِبًا، وهُوَ يُنادي بأَعْلَى صَوْتهِ: «وا ساطِعاهُ! وا لامِعاهُ! وا بَرَّاقاهُ! وا زوْجاه! أيْنَ مِنْ عَيْنَيَّ: السّاطعُ واللَّامعُ والبَرَّاقُ، و«غَدِيرةُ»: أُمُّ السَّناجيبِ!» فلا يُجِيبُهُ أَحَدٌ. وثَمَّةَ أيقنَ أَبُوكم أن «الدَّلَقَ» الخَبيثَ قَدْ فَتَكَ بكمْ (افتَرَسكم) جَمِيعًا. وَلَما أصْبَحَ وقَفَ عند جذعِ شَجَرةٍ، وقد جَهَدَهُ (أَرْهَقَهُ وَأضْناهُ) التَّعبُ والسَّهرُ والْحُزْنُ، فماذا رأى؟ لقد رأى أمَّكُم الْعَزيزةَ جادَّةً في البَحْثِ عَنهُ. فَلَمَّا رَأَتْهُ «غَدِيرَةُ» بَكَتْ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ، وقالتْ له: «ألْفُ شُكرٍ للهِ عَلَى سَلامَتِكَ!» فَبادَرها قائلًا: «كَمْ أنا سَعيدٌ بِلُقْياكِ (بِلِقائِكِ)! فَحَدِّثيني — بِرَبِّكِ — أيْنَ الأولادُ؟» فقالَتْ «غَدِيرةُ»: «لَقَدْ نَجَوْنا — بِحَمْدِ اللهِ — منَ الهلاكِ!» ثُمَّ سارَتْ معَهُ إِلى عُشٍّ قَدِيمٍ، هَجَرَهُ غُرابٌ، فَلَمَّا صعِدا إلى شَجَرَةِ القَسْطَلِ، وَجَداكم: وادِعِين مَسرُورينَ. فابْتَهجَ أبُوكم بِسلامتِكُمْ. واسْتَوْلى عَلَيْهِ الْفَرَحُ، وَظَلَّ يُقَبِّلُكم، وَيَرقُصُ — مِنْ فَرْطُ سُرُورِهِ — حَوْل عُشِّكم، وَيَسْتَمِعُ إلى حَدِيثِ أُمِّكُم، وهِيَ تَقُولُ: «عِنْدَما رأيت «الدَّلَقَ» يَدْنُو مِنَ الشَّجَرَةِ، كان اللَّيْلُ قدْ أَرْخَى عَلَى الْغابةِ سُدُولهُ (سُتُورَه)، فَحَمَلْت أوْلادِي بَيْنَ أسْناني، وَوَضَعْتُهُمْ عَلَى عُنُقي، واحدًا بَعْدَ الآخَرِ، إلى هذا العُشِّ الْمَهجُورِ الَّذِي تَرَكهُ صاحبُهُ «الْغُرابُ».» وكانت «السَّناجِيبُ» جالِسَةً عَلَى أَقْدامِها الْخَلْفِيَّةِ؛ رافِعةً أذنابَها، مُصْغِيَةً إلى حَديثِ «أُمِّ رَاشِدٍ»، وقَدِ اشْتَدَّ عَجَبُهُمْ مِمَّا سَمِعُوا. فَلَمَّا انْتَهتْ منْ كلامِها، هَزُّوا رءُوسَهُمْ ونَواصِيَهُم (وَهِيَ: الشَّعْرُ الْمُقَدَّمُ في رءُوسِهِمْ) مَدْهوشِينَ، وقالُوا لها بِلِسانٍ واحِدٍ: «شُكْرًا لَكِ. شكْرًا لَكِ — يابْنَةَ عَمَّ — عَلَى هذا الْحَديثِ الْعجيْبِ الشَّائِقِ.» وكانَ «قُنْزُعَةُ» — في أَثْناءِ هذا الوَقْتِ — يَبْذُلُ جُهْدَهُ في رَفْعِ الثلجِ بِأيْدِيهِ، بِجِوارِ عَرِيشَةِ الجَوْزِ، وقد كان يُخَبِّئُ عِنْدَها مَؤُونةَ الخريف الْماضي. وقد تعذَّر عليه الاِهتِداءُ إلى مَكان الطَّعامِ — حِينَئِذٍ — بعد أن غُطِّيَتِ الأرْضُ بالجَلِيدِ، فَظَلَّ يُحَدِّثُ نَفسَهُ قائلًا: «ما أَظُنُّني مخدوعًا في تَعَرُّفِ الْمكانِ، على أيِّ حالٍ إِنَّهُ — فيما أعْلَمُ — أمامَ شَجَرَةِ البَلُّوطِ الْجَوْفاء التي كان يعيشُ فيها صدِيقي «أبُو سنْجَب». ثم ظَلَّ يَحفِرُ الجَلِيدَ بيديه الْماهِرَتَيْن، حتى عَثَرَ على ضالَّتهِ (حاجَته). فصاحَ مزهُوًّا فرَحًا: «مَرْحَى! مَرحَى! لقد عثَرتُ عَلَى مَكْمَنِ الزَّادِ (مَخْبَأِ الطَّعام). آهٍ! ما بالُ المَؤونَةِ في نقصٍ كبيرٍ! وما بالُ الْمَخابِئِ الأخرى خاويةً (خاليَةً)؟ ليس لي من حِيلَةٍ إلَّا الصَّبرُ على قضاء اللهِ، الذي لا يَنْسَى أحدًا من مَخْلوقاتهِ!» ثم أمسك في فَمِهِ بِجَوزَةٍ جَمِيلَةٍ، ثقيلَة الْوَزْنِ، وغطَّى مُسْتودعَ الزَّادِ بالجليدِ، كما كان، وعاد مُسرعًا إلى عُشِّه الأمين. ولَمَّا عاد إلى عُشِّه سَمِع «أُمَّ رَاشِدٍ» تُحَدِّثُ أولادَهُ أحَاديثَها الجَمِيلَةَ، فقال في نفسِه مُتَعجِّبًا: «يا لَها من ثَرْثارَةٍ عجيبةٍ، فقد شغلها الْحَدِيثُ عن الجُوعِ وآلامِهِ!» وَلَما رآهُ أَولادُهُ فرِحُوا بِعَوْدَتِهِ، وَحَيَّوْهُ مَسرُورِينَ، فأَعْطَى ضَيْفَهُ تلك الجَوْزَةَ الشَّهِيَّةَ التي أَحْضَرَها، وهي تَبْرُقُ منَ الرُّطوبة، وقال لَها: «هاكِ ما طَلَبْتِ. ولعلَّ هذه الجَوْزةَ تُلائِمُ ذَوْقَكِ، أيَّتُها الْعزِيزَةُ!» فشكرَتْ له هَدِيَّتَهُ، وأمسكتْ بِها بين يَدَيْها الأماميَّتَيْن. وَبَرَقَتْ (لَمَعَتْ) عيناها من الْفرَحِ، وَتَحَرَّكَ ذَنَبها طَرَبًا، ولم تُضِعْ وقتها عَبَثًا (بِلا فائدةٍ)، فَظلتْ تَقْضُمُها (تَعَضُّها بأطْرافِ أسْنانِها)، فَيُسْمَعُ لِقَضْمِها مثلُ صَرِيرِ المِنْشارٍ. وما زالتْ تَغْرِسُ أسْنانَها الْحادَّة، وهيَ جادَّةٌ في قَضْم الجوزَة، حتَّى ثَقَبتْها ثُقْبًا يَكْفِي لإِدْخالِ فمِها الصَّغير المُدَبَّبِ. فصاحَتْ قائلَةً: «يا لَها من رائِحَةٍ ذكِيَّةٍ، يابْنَ عَمَّ! ما أشهاها (ما ألذَّها) جَوْزَة!» وكان صِغارُ السَّناجيبِ يَنْظرُون إليْها — في دَهَشٍ وَعَجَبٍ — فقال لَهم أبوهم: «إنَّ السِّنجابَ العاقلَ الرَّشيد يَقْسِم الجوزَةَ نصفينِ، قبل أن يَهُمَّ بأكْلها.» ولمَّا فَرَغَتْ «أُمُّ رَاشِدٍ» من طعامها مَسَحتْ فاها بيديْها، وفاضَ الفرَحُ عَلَى وجهها، فقالت: «لقد ارتاحَ بالي، ونَجَوْتُ من آلام الجُوع. فأنتَ تَعْلمُ — يابن عَمَّ — أن أسْنانَنا تَنْمُو دائِمًا وتَطُولُ، ولا يُقَصِّرُها إِلا مُوالاةُ القَضمِ والقَرْضِ، ولولا ذلك لَهلكْنا من فرطِ الألم، فهل تأْذَنُ لي في أن أَعُودَ من حيث أَتَيتُ، فإِنِّي قد ضايقْتُكُم كثيرًا.» فقال «قُنْزُعَةُ»: «كلَّا، لا تُفَكِّري في شيْءٍ من ذلك يا عَزيزتي؛ فإنَّكِ لم تُزْعجينا، بل أدخلْتِ السُّرُورَ والْفَرَحَ على قُلوبِنا. وليس في قُدْرَتِكِ أن تَجُولي (تَطوفِي) في الغابةِ الآنَ، بعد أن غُطِّيَتْ أرضُها بالجَليد.» فقالت «أُمُّ رَاشِدٍ»: «شُكْرًا لَكَ — يابن عَمَّ — على كَرَمِكَ وسماحَتِك — (جُودِك)؛ فقد خَشِيتُ أن أُزْعِجَكم وأُضايقَكم.» فصاحَ صِغارُ السَّناجيب: «كلَّا، كلَّا، فقد مَلأْتِ قُلوبَنا بِشْرًا وسرورًا بأحاديثكِ الطريفَة. فالْبَثي (امْكُثِي) مَعنا، لِتُحَدِّثِينا بأسْمارِكِ المُعْجِبَةِ.» فقال «أبو السَّناجيبُ»: «هَلْ قَصَصْتِ عَلَيْهِمْ قِصَّةَ «القَرْقَذانِ والقَرْقَذُونِ»؟» فَقالَتْ «أُمُّ رَاشِدٍ»: «كلَّا، لَمْ أُحَدِثْهُمْ بِقِصَّةِ هذَيْنِ السِّنْجابَيْنِ العَجِيبَةِ، وقَدْ ذَكَّرْتَنِي بها — يابْنَ عَمَّ — بعدَ أَنْ أَوْشكتُ (كِدْتُ) أَنْ أَنْساها.» فَصاحَ السَّناجيبُ: «ما هِيَ تِلْك القِصَّةُ، يابْنَةَ عَمَّ؟ بِرَبِّكَ حَدِّثِينا بِها، أَيَّتُها الضَّيْفُ الكَرِيمَةُ!»
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/39506480/
أسرة السناجيب
كامل كيلاني
تحكي القصة حياة السناجيب ومغامراتهم في الغابة.
https://www.hindawi.org/books/39506480/5/
الفصل الخامس
فقالت «أُمُّ رَاشِدٍ»: «إِني مُحَدِّثَتُكم بقصة هذَين السِّنجابين، فإِنَّ فيها لَعِبْرَةً لِمَنْ يَعْتَبِرُ (مَوْعِظةً لمَن يتَّعِظُ). ثم أنشأتْ تقول: «كان — يا ما كانَ — في قديم الزمانِ، وسالفِ العَصر والأوانِ، سِنجابانِ شقيقان: اسمَ أَحَدهما: «القرقَذُونُ»، واسمُ أخيه الآخرُ: «القرقذانُ». وكانا — حينئذٍ — طِفلين صغيرين، يَقْطُنانِ (يَسْكُنان) شجرةً عَجُوزًا، في غابةٍ مظلمةٍ، تكتنفها (تُحِيط بها) الأشجارُ الكثيفةُ (الكثيرةُ، المتراكبُ بعضُها على بعضٍ). وفي ذاتِ يومٍ عَنَّ (عرَضَ) لهما أن يَهْبِطا إلى الأرْضِ، ويَلعبا بين النباتاتِ والأعشابِ والشُّجيراتِ الصغيرةِ. وكان «الْقَرْقذانُ» أشجعَ منْ أخيهِ «الْقَرْقَذُونِ»، فلم يتردَّدْ في تحقيقِ أُمْنِيَّتِه، وَخَرَجَ مُنفرِدًا إلى الغابةِ. وَظلَّ يَجُوسُ أثناءَها (يَمشي خِلالَها) طُولَ يَوْمِه، حتَّى جَنَّ اللَّيلُ (أَظْلَمَ)؛ فَعاد إلى عُشِّه لينامَ. وَلمَّا رَآهُ شقيقهُ «القَرْقذونُ» سأَلَه مُتَعجِّبًا: «أيْنَ قَضَيتَ يوْمَكَ، يا أخي «القَرْقَذانُ»؟» فَحَدَّثَهُ «القَرْقَذانُ» بِكُلِّ ما رَآهُ في تَجْوالِهِ (في سيْرِهِ) مِنْ غرائِبَ وَمُدْهِشاتٍ، وَوَصفَ لهُ سُرُورَهُ وابتهاجَهُ بِتلكَ الرِّحلةِ القصِيرَةِ، الَّتي قضاها في النَّهارِ، وقالَ لهُ، فيما قال: «إنَّ في الغابةِ — يا أَخي — أشجارًا لا يُحْصيها العَدُّ، وَهِيَ أَكْبرُ مِن الشجرةِ التي نَقْطُنُها وأضخمُ. وَفيها من جَوْز الْبَلُّوطِ، وَثَمَرِهِ الْيَانِع (الَّذِي حانَ قِطافُهُ) ما لا يُحْصَى. وقدْ رأَيْتُ جَمْهَرَةً (طائِفةً وجُملَةً) كبيرةً مِنْ شَجرِ الْجَوْزِ الشَّهِيِّ (اللذيذِ الطَّعمِ)، وَلَيْسَ في قُدْرَتِي أن أصِفَ لك مِقدارَ ما امْتَلأْتْ بهِ نفسي مِنَ الْغِبطةِ (الفرَح) والسُّرُورِ بهذِه النُّزهةِ الجميلةِ. ألا تُحِبُّ أن تَصْحَبَنِي — في الغَدِ — لِنَجُولَ مَعًا في أرْجاءِ الْغابةِ (لِنَمْشِيَ في جوانبِها)؟» فقال لهُ «الْقرْقذُونُ»، وَهوَ يَبْتَسِمُ: «لقَدْ أَعْجَبَتْنِي هذِهِ الْفِكرَةُ الْبدِيعةُ، ولا بُدَّ لي مِنْ مُصاحَبِتكَ غدًا، لِنَرْتادَ (لِنَكْشِفَ) تِلْكَ الأصقاعَ (الجِهاتِ والنَّواحِيَ) الْمَجْهُولَةَ، وَنَطْعَمَ تِلْكَ الثِّمارَ الشَّهِيَّةَ. وَلَيْسَ أحَبَّ إِلَى نَفْسي منْ تَحقيق هذِه الْأُمْنِيَّةِ، الَّتي طالَما تَرَدَّدْتُ في تحقيقها، مِنْ قبلُ. وإِنِّي لأَترقَّبُ (أنْتَظِرُ) الصَّباحَ الْباكرَ بفارِغ الصَّبرِ.» فصاحت أُمُّهُما قائلةً: «فِيمَ تَتَحَدَّثان أيُّها الْخَبِيثانِ؟ إِنِّي أَسْمَعُ ثَرْثَرةً (كلامًا كثيرًا مُرَدَّدًا مُعادًا مُخلَّطًا). فَما تَقُولانِ؟ ألا تَكُفَّانِ عَنْ هذا العَبَثِ (الْهَزْلِ)؟ ألا تنامانِ، أيُّها الثَّرْثارانِ؟» فصدَعَ السِّنجابان بِما أُمِرَا، وناما إلى الصَّباحِ، واشْتدَّ شَوْقُهما إلى تَحْقيقِ هذِهِ الأُمنِيَّةِ، فَظَلَّا يَحْلُمانِ — طولَ لَيلِهما — أحلامًا سارَّةً مبهجةً سَعيدَةً. ثمَّ استيقظا على صِياحِ الْغِرْبان الَّتي تَقْطُنُ أعالِيَ الأشجارِ في الْغابةِ، بجوارِهما. فَقَفَزا مَسرُورَيْنِ، وَقَدِ اسْتَعادا نَشاطَهُما، وَظَلَّا يُنَظِّفانِ فِراءَهُما وَوَجْهَيْهِما وَمَخالبَهُما. ثمَّ تَحَفَّزا (تَهَيَّئا ونَهَضَا) لِلخُرْوجِ. فَصاحَتْ بِهِما أمُّهُما تُنادِيهِما: أنِ اصْبِرا قَليلًا، حتَّى تُفْطِرا مَعي. فَقالا لَها: «كلَّا. لا حاجَةَ بِنا الآن إِلى جَوْزِ الزَّانِ، فَقَدْ مَلِلْناهُ (ضَجِرْنا بِهِ وَسَئِمْناهُ)، يا أُمَّاهُ. واعْتَزَمْنا أَن نَطْعَمَ (نَأْكُلَ) شيْئًا خَيْرًا مِنْهُ وَأَشْهَى.» ثمَّ خَرَجَ «الْقَرْقَذانُ» و«الْقَرْقَذُونُ» وَظَلَّا يَجُوسانِ خِلالَ الغابةِ، حتَّى انْتَصَفَ النَّهارُ. وَقَدْ أُعْجِبَ «الْقَرْقَذُونُ» بِتِلْكَ النُّزْهَةِ الْبَدِيعَةِ إِعْجابًا شَدِيدًا، وَشكَرَ لِأخِيهِ اقْتِراحهُ الطَّرِيفَ. وَكانَ «الْقَرْقَذانُ «شُجاعَ الْقَلْبِ — كما قُلْنا — لا يَخْشَى شيْئًا، وَقَدْ كادَتْ شجاعَتُهُ تُهْلِكهُ فِي ذلكَ الْيَوْم، وَلكِنَّ الله سلَّمهُ وأَنْقَذَهُ (نَجَّاهُ وَخَلَّصَهُ)، بَعْدَ أَنْ تَعَرَّضَ لِلْهلاكِ الْمُحَقَّقِ.» ثمَّ صَمَتَتْ (سَكَتَتْ) «أُمُّ رَاشِدٍ» قَلِيلًا، واسْتَأْنَفَتْ حَديثها قائِلَةً: «لَقَدْ رَأَى «الْقَرْقَذان» حَيَوانًا شِرِّيرًا، اسْمُهُ: «الْقاقُمُ»، وَهُوَ يَدْخُل جُحْرَهُ. وَلَمْ يَكنِ «الْقَرْقَذانُ» يَعْلَمُ أنَّ «الْقاقُمَ» عَدُوُّ خَطِرٌ مَرْهوبُ البَأْسِ (مَخُوفُ الشِّدَّةِ، مَخْشِيُّ الْعُنْفِ)؛ فَاسْتَخَفَّ (اسْتَهانَ) بِهِ «الْقَرْقَذانُ «وَنَهاهُ أَخُوهُ «الْقَرْقَذُونُ» عَنِ المُكابَرَة، وحَذَّرهُ عاقِبَةَ التَّغْرِيرِ والْمُجازَفَةِ (خَوَّفهُ نتيجةَ الْمُخاطَرَةِ)، فلم يَسْتَمِعْ إلى نُصْحِهِ. وذهَب «الْقَرْقذانُ» إلى جُحْرِ «الْقاقُمِ»، وضرَبهُ بذيْلهِ؛ فَخَرَج «الْقاقُمُ» من جُحْره، وأَنشبَ أَنْيابَهُ (أَدْخَلَ أَسْنَانَهُ الْحادَّةَ) في جِسمِ «الْقَرْقَذانِ». فلما رَأَى «الْقَرْقَذانُ» أنَّ خَصْمَهُ قَوِيُّ الْبأْس أَيْقَنَ بِالهلاكِ. ولكنَّه قوَّى من عَزْمِهِ، وضاعف من بَأْسِه (قُوَّتِه) وَأنشبَ أنيابَهُ في رَقَبَةِ عَدُوِّه. فاشتدَّ غَيْظُ «الْقاقُمِ» منهُ، وحَمِيَ الْعِراكُ (اشتد النِّزاعُ) بينَهما وَرَأَى «الْقَرْقَذُونُ» أنَّ أخاهُ سَيُفارِقُ الْحَياةَ، بعد لَحَظاتٍ يَسِيرَةٍ، فأسرعَ إلى نَجْدَتِهِ، وَأَنشَبَ في جسم «الْقاقُمِ» مَخالِبَهُ. وتحفَّزَ «الْقاقُمُ» (اسْتَوْفَزَ وَتَهَيَّأَ لِلْوُثُوبِ) واسْتَعَدَّ لِلفَتْكِ بِالسِّنجابَيْنِ، وَكادَ يَتِمُّ له ما أرادَ، لو لم تتداركْهُما عِنايَةُ الله ولُطْفُهُ؛ فقد سَمِعَ «الْقاقُمُ» نُباحَ كلبٍ، فارْتاعَ (خافَ)، وأسلم سُوقَهُ لِلْفِرارِ (أطلقَ أرجُلَهُ لِلْهَرَب). ونَجا السِّنجابانِ من الْخَطَرِ الدَّاهم (الْوقعِ)، وأسْرَعا — من فَورِهِما — عائِدَيْنِ إلى الشجرةِ. وَلَمْ يَنْسَيا ذلك الْيَوْمَ طولَ حَياتِهما. وقد نَدِما على مُخالَفةِ أمِّهما، واعْتَزَما أَلَّا يَعْصِيا لها أمْرًا بعد ذلك.» وَلَمَّا انْتَهَتْ «أُمُّ رَاشِدٍ» مِنْ قِصَّةِ السِّنْجابَيْن، دَهِشَ السَّناجِيبُ، وَأُعْجِبَوا بِحُسْنِ حَدِيثِها إِعْجابًا شَديدًا. ثمَّ قالَ «قُنْزُعَةُ»: «الْبَثِي (اقْعُدِي) مَعَنا — يا أُمَّ رَاشِدٍ — حَتَّى يَسِيلَ الجَليدُ الْجامدُ؛ فَتَذهَبي مَعَنا لِزِيارةِ أشْجارِ الشُّوحِ. وَلْتَكونِي عَلَى ثِقَةٍ أنَّنا مُؤْتَنِسُونَ بِكِ، فاتَّخِذِي من عُشِّنا بيتًا لكِ، ولا تَضْجَرِي بِالإقامَةِ بَيْنَ ظَهْرانَيْنا يا «أخْتَ يَرْبُوع». ••• فقالَ «ساطِعٌ»: «نَعَمْ يابْنَةَ عَمَّ، ونَحْنُ بكِ جِدُّ مَسْرُورِينَ، فالْبَثي (امكُثي) مَعَنا مشكورَةً، ولا تُفَارِقينا؛ فَلَيْسَ أحَبَّ مِنْ أحادِيثِكِ وأَسْمارِكِ الشَّائِقَةِ الْمُعجِبَةِ.» ••• فقالتْ «أُمُّ رَاشِدٍ»: «شُكْرًا لَكُمْ جَمِيعًا، عَلَى حَفاوتِكُمْ بِي (تَلَطُّفِكُمْ بِي ومُبالَغَتِكُمْ في إِكْرامي) — يا أبْناءَ عمَّ — فَقَدْ أوْلَيْتُمُونِي (أعْطَيْتُمُوني) مِنَّةً (فَضْلًا وَمَكْرُمَةً) عَظِيمةً، وَغَمَرْتمْ نَفْسِي أُنْسًا وَحُبُوْرًا، وأَفَعَمْتُم (مَلَأْتُمْ قَلْبِي) فَرحًا وسُرُورًا، ولَنْ أَنْسَى لَكُمْ هذا الجَمِيِلَ ما حَيِيتُ!» قال «أبو الفرج الْبَبْغاء»: «أبو الفرج عَبْدُ الْواحِدِ المَخْزُوميُّ» شاعِرٌ مُجِيدٌ، وقَدْ أطلقوا عَلَيهِ لقبَ «البَبغاء» لِلَثْغَةٍ في لسانِه. بَلَوْنا: اختَبَرْنا وتَعَرَّفنا — في كلِّ باب: في كلِّ نَوْعٍ مِن الأنواعِ. صَنْعةُ السِّنْجاب: يُريدُ صِفَتهُ ومَزِيَّتَهُ. والسِّنجابُ [بضم السين، وكسرها]: حَيَوانٌ قارضٌ متسلق، كالْجُرَذِ والفأر. وهو مضْرِبُ المثل في رشاقته وسرعته العجيبة التي امتاز بها في تسلق الغصون. يتخذ من الشَّجرِ دارًا يبتنيها، ويأوي إليها. وجسمهُ قريب الشبه من جسوم الأرانب، لا يختلف عنها إلا في قصر أذنيه وطول آذانها، وامتداد ذيله في الطول، وتقاصر أذيالها. وهو يتوسد ذيله الكثيف الشعر، إذا نام في فصل الشتاء. ويطعم الفواكه وما إليها من ثمرات الأشجار المختلفة الأخرى. ولكن أحبَّ المآكل إِليه: ثِمارُ أشجار البلوط، كما رأيت من سياق القصة. ومَعْنَى البَيْت: أَنَّنا قَدِ امْتَحَنَّا السِّنْجابَ في كلِّ بابٍ منْ أَبْوابِ الذَّكاءِ، فَرَأَينا الذَّكاءَ أَوَّلَ مَزَاياهُ، وأَخَصَّ خَصائصهِ. تَأبَى السُّكونَ: لا تَرْضَى بأَنْ تَهْدَأَ وَتَسْتَقِرَّ، منْ فَيْضِ النشاطِ وحُبِّ الحركَةِ. أَلحاظٌ حِدادٌ: عُيُونٌ قَوِيةُ النَّظَرِ، حادَّةُ البَصَرِ، شَدِيدةُ التَّحديق. ومَعْنَى البيت: أنَّ السِّنْجابَ — لِفَرْطِ نَشاطِهِ — لا يَرْضَى أَن يكُفَّ عن الحَرَكَةِ قَطُّ، وأَنَّ عَينَيهِ الحَادَّتِي البَصرِ تَبْدُوان (تَظْهرَانِ) — لمَنْ يَراهُ — كأَنُهما جَمْرتان مُلْتَهبتان. الْجِلْدة: القِطعةُ منَ الجِلد — إذا لاحَ: إذا ظهرَ. خِلناهُ: ظَنَنَّاهُ وحَسِبناهُ — مُزَرَّة: يُريدُ ثوبًا ذا أَزْرَارٍ. سِخاب: قِلادةٌ (عقد)، حَبَّاتُهُ ليستْ منَ اللؤْلؤِ ولا منَ الجواهرِ، بل هي مُؤلَّفة منْ أَنواعٍ منَ النباتِ كالقَرَنْفُلِ. ومَعْنَى البيت: أَنَّ الجِلْدة التي يَلبَسُها السِّنْجابُ تلوحُ لِعيْنِ مَنْ يراها؛ فيحْسَبُها ثوبًا ذا أَزرارٍ، تشْبِهُ حبَّاتِ العِقْدِ المُؤَلَّفِ منْ أَلوانِ النَّباتِ كالقَرَنفُل. لوْ غَدا: لوْ أَصْبحَ. نطوقًا: فَصِيحَ اللِّسانِ، سَريعَ النُّطْق. ساعة الخِطَاب: حينَ أُخاطِبُه. ومَعْنَى البيت: لوْ أَنَّ كلَّ منْ وهَبَ الله لهُ نِعمةَ الذكاءِ، وهبَ لهُ معها نعمةَ الكلامِ — أَيضًا — لكان السِّنْجابُ منَ أفصحِ الفُصحاءِ، ولَما أَعْجَزهُ التعبيرُ عن غرضِه، والإجابةُ — في الحال — عما أُوَجِّه إليهِ منْ سُؤَالٍ.
كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير. كامل كيلاني: كاتبٌ وأديبٌ مِصري، اتَّخذَ مِن أدبِ الأَطفالِ دَرْبًا له فلُقِّبَ ﺑ «رائدِ أدبِ الطِّفل». قدَّمَ العديدَ مِنَ الأعمالِ العبقريةِ الموجَّهةِ إلى الطِّفل، وتُرجِمتْ أعمالُه إلى عدَّةِ لُغاتٍ مِنها: الصِّينية، والرُّوسيَّة، والإسبانِيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنْسيَّة، ويُعدُّ أولَ مَن خاطَبَ الأطفالَ عبرَ الإذاعة، وأولَ مؤسِّسٍ لمَكتبةِ الأطفالِ في مِصر. وُلِدَ «كامل كيلاني إبراهيم كيلاني» بالقاهِرةِ عامَ ١٨٩٧م، وأتمَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ في صِغَرِه، والْتَحقَ بمَدرسةِ أم عباس الابتدائية، ثمَّ انتقلَ إلى مدرسةِ القاهرةِ الثانَوية، وانتَسَبَ بعدَها إلى الجامعةِ المِصريةِ القَديمةِ عامَ ١٩١٧م، وعملَ كيلاني أيضًا مُوظَّفًا حكوميًّا بوزارةِ الأوقافِ مدةَ اثنينِ وثلاثينَ عامًا ترقَّى خِلالَها حتَّى وصَلَ إلى مَنصبِ سكرتيرِ مَجلسِ الأَوقافِ الأَعلى، كما كانَ سكرتيرًا لرابطةِ الأدبِ العَربي، ورئيسًا لكلٍّ مِن «جَرِيدة الرَّجاء» و«نادي التَّمثيلِ الحَدِيث»، وكانَ يَمتهِنُ الصِّحافةَ ويَشتغِلُ بالأدبِ والفُنونِ إلى جانبِ ذلك. اعتمَدَ كيلاني مَنهجًا مُتميِّزًا وأُسلوبًا عَبقريًّا في كتابتِهِ لأدبِ الأَطْفال؛ حيثُ كانَ يُصِرُّ على ضرورةِ التركيزِ على الفُصحَى لعدَمِ إحداثِ قَطيعةٍ ثَقافيةٍ معَ الذاتِ التاريخية، كما كانَ يَمزُجُ بينَ المَنهجِ التربويِّ والتَّعليمِي، فكانَ حَريصًا على إبرازِ الجانبِ الأَخلاقيِّ والمِعياريِّ في أَعمالِهِ القصَصيَّة، بالإضافةِ إلى أنَّ أساسَ المعرفةِ عِندَهُ هو المعرفةُ المُقارَنة، فلمْ يُغرِقِ الأطفالَ بالأدبِ الغَربيِّ باعتبارِهِ أدبًا عالَميًّا، بل كانتْ أعمالُهُ كرنفالًا تُشارِكُ فيهِ ألوانٌ ثَقافيَّة عَدِيدة، فكانَ منها ما يَنتمِي للأَدبِ الفارِسِي، والصِّيني، والهِنْدي، والغَربي، والعرَبي، وتمثَّلَتْ مَصادِرُه في الأَساطِيرِ والأَدبِ العالَميِّ والأَدبِ الشَّعبِي. نَظَمَ الشِّعر، فكانَتِ القَصائدُ والأَبياتُ الشِّعريةُ كثيرًا ما تَتخلَّلُ ثَنايا أعمالِه القَصصيَّة، وكانَ حَريصًا على أنْ يُنمِّيَ مِن خلالِها مَلَكةَ التذوُّقِ الفَنيِّ إلى جانِبِ الإِلمامِ المَعرفيِّ عندَ الطِّفل، كما كانَ يُوجِّهُ من خلالِها الطفلَ إلى الصفاتِ الحَمِيدة، والخِصالِ النَّبيلَة، والسُّلوكِ الحَسَن، وقدْ حَرصَ أنْ يَتمَّ ذلك بشكلٍ ضِمنِي، وألَّا يَظهَرَ نصُّهُ صَراحةً بمَظهَرِ النصِّ الوَعْظيِّ أوِ الخِطابي. كانتْ لكيلاني إِسْهاماتٌ في مَجالاتٍ أُخرى غيرِ أدبِ الأَطفال؛ حيثُ تَرْجَمَ وكتَبَ في أدبِ الرِّحلاتِ والتاريخ. وقدْ تُوفِّيَ عامَ ١٩٥٩م، مُخلِّفًا وراءَهُ تُراثًا أدبيًّا كبيرًا، يَنتفِعُ بهِ الصغيرُ قبلَ الكَبير.
https://www.hindawi.org/books/39150590/
ليالي سطيح
محمد حافظ إبراهيم
يحاكي حافظ إبراهيم في كتابه «ليالي سطيح» حديث عيسى بن هشام‏،‏ ولكن بدرجة أقل في التخيل، فالراوي في هذا العمل هو‏ أحد أبناء النيل‏‏ الذي يلتقي مع سطيح أحد الكهنة العرب القدامى. وقد جاء الكتاب في صورة نثر فني، يتخذ شكلا أقرب إلى المقامة، فالمكان ثابت والحوار هو السمة الغالبة بلا أحداث حقيقية‏.‏ واعتمد حافظ في هذا العمل على الأسلوب التقريري‏،‏ ولم يعمد إلى التصوير، لذلك فإن الشخصيات التي تعرض لها في كتابه لا تتمتع بوجود حقيقي، وإنما يقتصر‏ الكاتب في تقديمها على تحويلها إلي نوافذ نطل من خلالها على أفكاره. وقد وجه حافظ من خلال هذا العمل نقدا اجتماعيًا للأخلاق والعادات السائدة، وذلك في ثنايا وصفه لحال الاجتماع في مصر إبان تلك الفترة، حيث تطرقت فصول الكتاب إلى مشاكل اجتماعية وأدبية مختلفة.‏ كان منها المشاكل المتعلقة بالامتيازات الأجنبية، والقضايا الأدبية، وغيرها من ألوان النقد الاجتماعي والأدبي.
https://www.hindawi.org/books/39150590/1/
سطيح
حدَّث أحد أبناء النيل قال: فردَّدتُه ما شئت، وتغنَّيتُ به ما استطعت، وقلت: أي والله، لقد صدق القائل: ما خلق الله خلقًا أقل شكرًا من الإنسان، ولا أطبع منه على افتراء الكذب والبهتان. ثم مر بالخاطر بيت آخر: فنقلت إليه متاعي، وحوَّلت حاشيتي، وما متاعي غير الأماني السانحة، ولا حاشيتي سوى الهموم الفادحة، ولبثت أتفيأ من ظلاله، وأتأمل في حسن أشكاله. وإني لكذلك إذ سطعت ريح كريهة انهزم أمامها النسيم، وانقبض لها صدر الجو، وتعبس بها وجه النهر، فعلقت أنفاسي، ولكن بعد أن نالني منها ما صدَّع الرأس، وغشَّي البصر. ولما أفقت من هذه الغشية، وانجلت تلك الغاشية، نظرت فإذا أصل البلاء جيفة فوق وجه الماء، فغاظني ما أرى، وهاجني ما أشم، وقلت أخاطب النيل: «ويحك إلى متى يسع حلمك جهل هذه الأمة المِكْسال، وإلى كم تُحسن إليها وتسيء إليك. علمتْ أن سيكون منك الوفاء، فلم تحرص على ودِّك، واتَّكلتْ على حِلْمك، وبالغت بعد ذلك في عُقوقك. ولقد كانت ترجو في سالف الدهر خيرك، وتتقي شرك، فتحتفل في مهاداتك، وتتحامى طريق معاداتك. أذاقتك وصال الحسان، وخالفت فيك شريعة الديان، وأرشفتك رضابًا أعذب من مائك، وأحلى من وفائك، ثم غيَّرها عليك الزمان، فجادتك بعرائس الطين بعد عرائس الحور العين، وأمعنت في العقوق، فجعلتك مصرفًا لفضلات البطون، ثم أمعنت في العقوق فصيرتك مقبرة للجيف؛ لتصبح بذلك مجرًى للبلاء، ومستودعًا للوباء. سبحانك اللهم! هذه زمزم على ملوحتها قد عزَّت بجوار بيتك القديم، فتهادى بمائها القصَّاد، وحملوه إلى أقصى البلاد، وحرص أهلها على عينها حرص المرء على عينه. وهذا النيل على عذوبته قد ذلَّ بجوار قومٍ أهانوه، ولو كان عند غيرهم لعبدوه، وتالله، لو جرى في غير مصر لبنَوا عليه أسوارًا من النفوس، وأقاموا عليها حرسًا من الضمائر. أفٍّ لتلك الأمة جهلت قدر محبيها! ولم تعلم أن من مجراه تجري عليها هذه الأرزاق، ومن حمرة مائه تخضر تلك الأوراق. أفٍّ لها ما أقل شكرانها، وأكثر كفرانها! ينبغ فيها النابغة فينبعث أشقاها للطعن عليه، فلا يزال يكيد له حتى يبلغ منه، ويكتب فيها الكاتب فينبري له سفيهها، فلا يفتأ ينبح عليه حتى ينشب فيه نابه، ويفسد عليه كتابه، ويشعر فيها الشاعر فيحمل عليه جاهل، فلا ينفك عنه حتى يغلبه على أمره، ويقهره على شعره. ثم إني أمسكت عن الكلام، وعزمت على التحول من هذا المكان. وإني لأهمُّ بالنهوض إذا وقع في سمعي صوت إنسان يسبِّح الرحمن، يقول في تسبيحه: سبحان مَن حكم على الخلق بالفناء! سبحان من تفرَّد بالبقاء! فخشع قلبي عند ذكر الله وقلتُ: أنطلق إلى صاحب ذلك الصوت؛ فلعلي أظفر بأحد عباد الله الصالحين، فأستدعيه لي دعوة يمحو الله بها أثر استجابته فيَّ لدعوة ذلك «الإمام». فثُرتُ من مكاني، وأخذت كل سمتي إلى جهة الصوت، وكنت إذ ذاك في أوليات الليل، وتالله إني لأقترب منه وإذا به يقول: «أديب بائس، وشاعر يائس، دهمته الكوارث، ودهمته الحوادث، فلم تجد له عزمًا، ولم تصب منه حزمًا. خرج يروح عن نفسه، ويخفف من نكسه، فكُشف له عن مكاني، وقد آن أواني. أي فلان، لقد أخرجت للناس كتابًا، ففتحوا عليك من الحروب أبوابًا، وخلا غابك من الأسد فتذاءب عليك أهل الحسد. أي فلان، إذا ألقى عصاه ذلك المسافر، وغادر بحر العلم أرض الجزائر؛ فقد بطل السحر والساحر. فانكفئ إلى كسر دارك، وبالغ في كتم أسرارك، وأقبِل غدًا مع الليل، وترقب طلوع سهيل، ومتى سمعت من قبلنا التسبيح، فقل لصاحبك الذي يليك: هلمَّ إلى سطيح.» ثم انقطع صوته، فلبثت في مكاني حتى استوحشت لوحدتي وانفرادي في جوف ذلك الليل، فرجعت أدراجي. وكنت منذ لقيته وأنا في ذهول من عقلي، ودهشة من أمري. ولما ثاب إليَّ السكون، جعلت أتأمل في عباراته، وأتروى في مغزى سجعاته، وقلت في نفسي: لقد كنت أعلم أن سطيحًا قد قضى نحبه ولقي ربه، فهل صدق القائلون بالرجعة، أم جعل الله لكل زمن سطيحًا؟ على أني في غد سألقاه، وأطلب إليه أن أراه، وأسأله عن أشياء كتمتها في صدري، وكادت تدخل معي قبري. ولقد صدق الشاعر، واستهتر المكابر، وغفل الحق عن الباطل، فصمتنا حتى ينتبه الحق من غفلته، ولا زلنا إلى اليوم صامتين. ولما نفث ما بصدره وعاد إلى سكونه، تراءيت له ثم حييته، وجلست إليه أحدثه ويحدثني، وقد أقبل بوجهه علي، وتبسَّط معي على الأنس، فذكرت له حديث سطيح وما كان من أمره، فهزه الشوق إلى رؤيته. وقد كنت أخبرته أن سطيحًا جعل لي آية إلى لقائه، فلبث يرتقب معي طلوع سهيل، ويتسمع التسبيح في جوف ذلك الليل، حتى إذا لاح النجم في السماء، وعرفناه بما وصفه به أبو العلاء: ألقينا بالسمع وأمسكنا عن الكلام، فلما علا التسبيح هرولنا إلى سطيح، وإذا بالصوت الذي سمعته بالأمس ينادي صاحبي بقوله: «صاحب مذهب جديد، ورأي سديد، دعا القوم إلى رفع الحجاب، وطالبهم بالبحث في الأسباب، فألقوا معه نقاب الحياء، وتنقبوا من دونه بالبذاء. أي فلان، إذا مضت على كتابك خمسون حجة، وظهر لذي العينين أدلِّاؤك بالحجة، تكفل مستقبل الزمان بإقامة الدليل والبرهان، فلعل الذي سخَّر لجماعة الرقيق والخصيان من أنقذهم من يد الذل والهوان، يسخر لتلك السجين الشرقية، والأسيرة المصرية، من يصدِّع قيد أسرها، ويعمل على إصلاح أمرها. أوصى نبينا بالضعيفين «الرقيق والمرأة»، فخالفنا وصيته، ولم نتبع سنته. قمنا إلى الأول فجَبَبْنا منه المذاكير، وعمدنا إلى الثانية فزججنا بها في سجن المقاصير، فقيض الله للأول من أعدائنا مَن دعا إلى عتقه، وسعى سعيه في تحريره من أسره ورِقِّه، وتالله ليأتين يوم تقوم فيه النساء الغربيات تطالب برفع الحجاب عن أخواتهن الشرقيات، وهنالك يعرفون قدر كتابتك، ويقدرون مقدار خطئهم من مقدار صوابك، فانتظر — وإن طال الأمد — ذلك اليوم، ولا تبخع نفسك أسفًا على أثر القوم؛ فهم أقل العالمين شكرانًا، وأكثر خلق الله كفرانًا. وهل أتاك حديث تلك المصرية الصالحة؛ إذ رأت قومها يعانون أصناف الشقاء في دفن موتاهم؛ لوعورة طريق المقبرة، وقيام التلال في سبيلها، فأنفقت من مالها على تمهيد تلك السبيل؛ احتسابًا للخالق ورأفة للمخلوق، فكان منهم أن كافئوها على ذلك العمل المبرور بأن سموا طريق المقبرة: «بقطع المره». فانظر إلى أي حد بلغ العقوق من نفوس قومها، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلًا.» ثم انقطع صوته، فأشفقت أن يكون نصيبي من رؤيته كنصيب الأمس، فقلت له: يا ولي الله، قد سمعنا صوتك ولم ننظر إلى شخصك، فهل لك أن تمنَّ علينا برؤية شخصك الكريم، كما مننت علينا بسماع قولك الحكيم؟ فقال: لقد قُدِّر أن تراني بعد أن كُشف لك عن مكاني، فلا تقطع غدك الزيارة، واذكر ما بيننا من الإشارة. ثم أخذ في تسبيحه، وأخذنا في طريقنا إلى المنازل، وما زلنا نخوض في أحشاء الليل وفي صنوف الأحاديث حتى بلغنا منتزه الجزيرة، فإذا نحن بشابين يمشيان على الأقدام، فدانيناهما لنسمع ما يدور بينهما، فإذا الأصغر يقول للأكبر: هل لك أن تذكر لي أقصى أمانيك في هذه الحياة الدنيا؟ قال الأكبر: أقصى أماني أن أصبح «الرئيس الشرف» للمحكمة المختلطة، فأجلس في كل عام ساعة واحدة أُنقد عليها ما يقوم بنفقة العام كله، فإن أسعد المصريين حالًا، وأرخاهم بالًا، من سهَّلت له الأقدار الجلوس على ذلك الكرسي الذي لا يُسأل صاحبه عن الخطل، ولا يُخشى عليه من الوقوع في الزلل. قال الأصغر: أفٍّ لك أن تتمنى الرزق في ظلال الكسل، والبعد عن الكد والعمل. أما أنا فأقصى أماني أن أكون مثل ذلك التلميذ الذي دخل منذ عامين في مدرسة المهندسين، فإنه قد بلغ من الإكرام والتعزيز منزلة لم تبلغها أولاد القياصرة، فإذا حقَّ لمتعلم أن يفتخر، فهو الحقيق بالفخر؛ فإنه يتلقى دروسه على انفراد في «فصل السنة الأولى» من طائفة من المعلمين الإنكليز، يُنقَد أقلُّهم مرتبًا خمسًا وثلاثين قطعة من الذهب، ولو شاء القيصر تعليم نجله الوحيد لما فعل أكثر من ذلك. وهذا كله بفضل عناية ديوان المعارف، وحرص القائمين فيه بالأمر على التعليم. قال الأديب: فامتلأنا عجبًا من ذلك الحديث، وانطلقنا حتى إذا جاوزنا مربض الليثين، أخذ كلٌّ منا طريقه إلى داره. ولما بلغت منزلي أخذت مضجعي، فعاودني أرق الليلة الغابرة، فقلت: ما لهذا الأرق من دواء إلا لزوميات أبي العلاء. فقُمتُ إليها وفتحتها، فأخذ نظري فيها قوله: ثم قرأت قوله: فقلت: إي والله، لقد صدق الفيلسوف، تعاف النفوس لقاء شعوب، وتطلب السلامة من عاديات الخطوب، والأعمار كالأطفال كلما طالتْ تخلَّلتها الأقذار، واستبشعت رؤيتها الأبصار. وهكذا أفنيت فحمة الظلام وأنا أُنزِّه النفس بين تلك السطور والكلمات حتى صاح ديك الصباح، فأخذني النوم ولم أنتبه حتى شمر النهار أو كاد، فشمرت إلى الموعد. ولما بلغت المكان المعهود، ألفيت فيه سوريًّا من صفوة الأدباء كانت لي به صحبة قديمة، فقلت: لأمرٍ ما جلس الأديب تلك الجلسة، واختلس من رقدة الزمان تلك الخلسة، فقال بعد أن هشَّ لرؤيتي وبشَّ للقائي: جلست أبث إلى النيل شكاتي من أبنائه، وأنت تعلم أنهم صارمونا على غير ريبة، وقاطعونا عن غير ذنب، وأصبحوا يرموننا بثقل الظل وجمود النسيم، ولم يرعوا حق الجوار، فسموا إقدامنا قحة، ونشاطنا جشعًا، وكدحنا وراء الرزق فضولًا، ونزوحنا عن الوطن عارًا، وضربنا في الأرض شرودًا، وما ذنب من ضاقت عليه بلاده فخرج يلتمس وجوه الرزق في بلاد الله؟ اللهم إنها محاسن عدُّوها عيوبًا، وحسنات سموها ذنوبًا: يهبط السوري مصر لطلب القوت، فإذا أثرى بكده وعمله، وأراد القفول إلى وطنه، حمل تلك الثروة إلى بلاد الدولة العلية، ويهبطها الرومي فيثرى ما شاء ثم يحاربها بتلك الثروة. ومن العجب أن يكثر القال والقيل، ويدعى الأول بالدخيل، ولم يجر للثاني ذكر على اللسان، وهو الحقيق بالجفاء والعدوان. أنسي أبناء اللسان العربي أن جماعة السوريين قد بلغوا في نشر اللغة العربية منزلة لم تبلغها جماعة المبشرين في نشر الملة المسيحية؟! ذكر ابن عقيل ذلك التاجر السائح أنه اتفق له في إحدى سياحاته ببلاد الصين، أن حاول الدخول في مسجد من مساجد المسلمين فيها، فوقف في وجهه خادم المسجد وقال له: إن بيوت الله لا تطأُ أرضها الطاهرة قدمُ غيرِ المسلم، فاخرُجْ منها؛ فإني لك من الناصحين. قال ابن عقيل وقد ساءته قولة الخادم: ومن أين لك الحكم بعدم إسلامي ولم ترني قبل اليوم؟ قال: سمعتك تتكلم بالعربية، ولا نعهد في بلادنا مَن يتكلم بتلك اللغة إلا جالية السوريين من المسيحيين. ولولا أن شهد بعضُ مَن كان حاضرًا ممن يعرفون الرجل بصدق إسلامه لحيل بينه وبين الصلاة. ولو كان نصيب المسلم السوري من التعليم نصيب المسيحي من أبناء بلده؛ لرأيت منه رجلًا إذا تعلم أفاد، وإذا عمل أجاد. هذا صاحب «طبائع الاستبداد» و«أم القرى»؛ بلبل أفلت من يد «الصياد» فغنَّى، وشم نسيم الحرية فتمنَّى، وهذا صاحب المنار فاءت له الحرية بمذقة من الظل، وجادته سماء الاستقلال بقليل من الطلِّ، فصاح صيحة في خدمة الدين اخترقت أحشاء الهند والصين، وذلك صاحب أشهر مشاهير الإسلام، غادر أرض الشام فألَّف، ونزل في دار الأمان فصنَّف، ولكن لأمر سبَق في علم الله قُدِّر على المسلم أن يعيش مع الهَمَل، وأتيح للمسيحي أن يصبح من أهل العلم والعمل.» ثم أمسك سطيح عن الكلام، فقال له صاحبي السوري: لقد ذكرت، يا ولي الله، في عرض حديثك، أننا وإن كنا من أهل العمل والنجدة إلا أن بأخلاقنا بعض العُهْدة، فما عسى يكون ذلك النقص الذي يراه فينا إخواننا المصريون؟ قال سطيح: إنني لا أكذب الله. لقد أكثرتم من التداخل في شئونهم، فعزَّ ذلك عليهم من أقرب الناس إليهم. نزلتم بلادهم فنزلتم رحبًا، وتفيَّأتُم ظلالهم فأصبتم خطبًا، ثم فتحتم لهم أبواب الصحافة فقالوا أهلًا، وحللتم معهم في دور التجارة فقالوا سهلًا. ولو أنكم وقفتم عند هذا الحد؛ لرأيتم منهم ودًّا صحيحًا، وإخلاصًا صريحًا، ولكنكم تخطيتُم ذلك إلى المناصب، فسددتم طريق الناشئين، وضيقتم نطاق الاستخدام على الطالبين، وأنتم تعلمون أن المصري يعبد خدمة الحكومة؛ فهو يصرف إليها همَّه، ويقف عليها علمه؛ فهي إن فاتته فاته الأمل، وفتر نشاطه عن السعي والعمل. وهو لا يفتأ ينتظر الدخول فيها بقية عمره انتظار القوم عودة الحاكم بأمره، فما ضركم لو جاملتموهم فرغبتم عن الانكباب في دخول ذلك الباب. أليس لكم عنه مندوحة، وأمامكم وجوه الرزق كثيرة، ومادتكم في الكسب غزيرة؟ حُبِّبت إليكم الحركة وحُبِّب إليهم السكون، وجُبلتم على الجد وجبلوا على المجون، فاصرفوا نفوسكم عن مزاحمتهم في أعز الأشياء عليهم، حتى تخلق الحاجة في نفوسهم شعورًا جديدًا، فيحس ناشئهم أنه إنما يتعلم لنفسه ولأمته، لا لخدمة حكومته. قال صاحبي: وهل في ذلك ما يأخذه علينا الآخذون، وأنت تعلم أن الحياة مزدحم الأقدام، وملتحم الأقوام؟ فإن كنا قد أخطأنا في فعلنا، فهل أخطأت الحكومة في قبولنا؟ وهل أصاب المصري في بُغضنا؟ قال سطيح: لقد أصبتم في عملكم، وأصابت الحكومة في قبولكم، وما أخطأ المصري في بغضكم. أما أنتم فطُلَّاب للقوت، وطالب القوت ما تعدى، وأما الحكومة، فضالَّتُها عامل ينصح في عمله، فهي أنَّى وجدته طلَبتْه، وأما المصريون، فلأنكم غلبتموهم على أمرهم، بانتشاركم في أنحاء قطرهم، وهم يرون أن فيهم الأكفاء؛ لحمل تلك الأعباء. ولقد كنتم منذ بضع سنين لا تجاوزون ستة الآلاف عدًّا، فأصبحتم اليوم وقد نيَّفتُم على الثلاثين. قال الراوي: ثم سكت سطيح وسكت صاحبي، فقلت: يا ولي الله، إن عندي سؤالًا طالما بحثت في جوابه فلم أقع فيه على الصواب، قال: قل وأوجز. قلت: كلما نظرت في جالية السوريين المسيحيين رأيت بينهم رجالًا إذا هزُّوا أقلامهم أمطرت ذهبًا، وإذا خطبوا بها سطَّرت عجبًا، ولو شئتَ أن أعدَّ منهم عددتُ كثيرًا؛ هؤلاء أصحاب المقتطف، ودائرة المعارف، والضياء، والهلال، والجامعة، وهؤلاء أصحاب الصحف اليومية وغيرها، ولكنني كلما نظرت في جالية السوريين من المسلمين لم أرَ بينهم غير البائع والسمسار، ورائض الخيل والجزَّار؛ فما علة ذلك التفاوت العظيم والقوم يسكنون في فرد إقليم؟ قال: علة ذلك وهْمٌ رسخ في نفوس المسلمين ألا يُدخلوا أولادهم في مدارس المسيحيين، ففاتهم بذلك تحصيل العلم، وماتت أكثر نفوسهم بحياة ذلك الوهم. قلت: لقد أَمِنتْ، بحمد الله، نفوسنا من دخول ذلك الوهم، فأرسلنا من مصر في هذا العام إلى كلية واحدة من كليات المسيحيين ببيروت مائة وخمسين تلميذًا. قال: لقد سلمت نفوسكم من الأوهام، وأصيبت عزائمكم بأنواع السقام. أليس من العار أن تكونوا أكثر مالًا وأعز نفرًا ولا تجدوا في مصر لتعليم أولادكم مستقرًّا، وليست بيروت بأخصب من عروس النيل أرضًا، ولا بأوسع من ملك مصر طولًا وعرضا؟! أيعجز في مصر عشرة ملايين من النفوس عن بناء كلية، ويظفر عُشر معشارهم في بيروت بنَيل تلك الأمنية؟! ثم أمسك عن الكلام وأخذ في تسبيحه، فأخذت بيد صاحبي وانطلقنا في سبيلنا راجعين. ولما بلغنا قصر النيل، تياسر صاحبي وتيامنتُ حتى إذا بلغت الدار، وعاودتني تلك الأفكار، قضيت الليلة على نحو ما قضيت به أختها السابقة، ولبثت بالمنزل إلى وقت التطفيل، ثم دعاني الموعد إلى المسير، فركبت نعلي، وأعملت قدمي، ولكن كان النهار أسرع مني مطية، وأحث سيرًا، فأدركني الظلام قبل أن أدرك المقصد، فنبهت العزيمة، واحتثثت الأقدام حتى بلغت المكان المعهود، وقد أجهدني السير، وكدني النصب، فإذا فيه إنسان ينوح من فؤاد مقروح، فقلت: ما خطبك أيها النائح؟ فقال وهو يَشْرق بعبراته، وأنفاسه تتوقد بزفراته: ومن — يا ترى — أولى مني بالبكاء وقد أقصدني بسهامه القضاء؛ كان لي أخ أسكن إليه، وأعتمد بعد الله عليه. إذا أملقت واساني، وإذا تَربتُ أعطاني. أنام للمرض ويسهر علي، وأمشي للغرض ويجري بين يدي، فما زلت مكفيَّ المئونة بكدحه، غنيًّا عن المعونة بنصحه، حتى انتويت به منذ عام؛ غاله رومي بمُدْيته، وحرمني من حسن طلعته. بقَر بطنه، وحضر دفنه، وحالت بيني وبينه حماية قومه. قال الراوي: ثم أمسك الحزن لسانه، وأسالت الذكرى نفسه، فما زال بين الزفرة والشهيق، حتى أشفقت عليه أن يذوب كمدًا، فأقبلت أُنفِّس عنه بسرد العظات، وأدعوه إلى الأخذ بالتأسي حتى رقأ دمعه، وهمدت نار أحشائه. ولما تماسك بعض الشيء أنشأت أقص عليه خبر سطيح، فارتاح إلى لقائه. وقد حان الوقت فقمنا إليه، وإذا به يقول: «واجد موتور، وساهد مقهور. قد واصل النواح في الغدو والرواح، على دم هدر، وأخ قُبر (أي فلان)، ما دام امتياز الجانب الرومي يطعن بمديته، ويستظل بعلم دولته، والمصري يحمل القتيل، ويخضع خضوع الذليل؛ كأنما دية القتيل المصري كرامة للقاتل الرومي، كما قال شاعركم: ولو شاء لابس الرداء الأحمر؛ لدفع عنكم هذا الهواء الأصفر، وأمتعكم بالحياة في أعطاف العيش الأخضر، ولكنه ترككم نهبًا للامتيازات، وغادر صدوركم ميدانًا للحزازات حتى تسأموا حياة الإذلال، وتسكنوا إلى رجال الاحتلال، ولا تجدوا لكم من وقاية في غير طلب الحماية، وهنالك تتساوى الأقدام، وينشر فوقكم علم السلام. وهذا من دهاء القوم وسياستهم، وحذقهم في الأمور وكياستهم، وكما أن لكل أمة قسمتها من الفضيلة، فلهذه الأمة قسمتها من الحزم وحصافة الرأي، وبُعد النظر في العاقبة، وما اجتمعت هذه الخلال في أمة إلا وكانت خَليقةً أن يتناول حكمها سكان الكواكب، لا هنود آسيا وزنوج أفريقيا. ولما دخلوا مصر دخول الشتاء على الشجر (ويا ليت طريقهم كان على وادي التيه يوم دخلوها)، إذا أهلها فريقان: فريق نظر إلى مساويهم بعين الأرمد، فملأ ماضغيه بمحاسنهم، فكان مثله وإياهم كالظلام والنار؛ يخفي دخانها، ويبدي سَناها، وفريق ركب متن الغلواء في ذم أفعالهم، حسنة كانت أو سيئة، فكان مثله وإياهم كالإنسان والزمان؛ لا يشكر إذا أقبل، ولا يصبر إذا أدبر. ومن تأمل في رقعة شطرنج الشرق، ورأى اليدين اللتين تجولان فيه، وعلم أن الأولى تديرها الأناة السكسونية، وأن الثانية تحركها الخفة الفرنسية، حكم بالفوز للتي يجب أن يحكم لها به كلُّ من فرَّق بين عاقبة البدار تخالطه الخفة، وعاقبة الريث تخطئه الغفلة. ثم أمسك عن الكلام وأخذ فيما كان فيه، فانصرفت بصاحبي، وجعلت أتحرَّى مسرته، وأتوخى تسليته، حتى بلغنا حيث نفترق، فعطفت يمنة وعطف يسرة، وما أنا إلا أن خطوت في طريقي بعض الخطوات حتى لمحت شيخين يمشيان على مهل، فقلت: أُدانيهما فعلِّي أسمع منهما ما يذهب بذلك الهم الذي حملته من حديث صاحبي الموتور، فأسرعت الخطى حتى صرت على مسمع منهما، فإذا أحدهما يقول للآخر: لقد أفاض الفلاسفة في تعريف السعادة، وتفننوا في تصوير اللذة، ولكني لم أجد فيهم من نفذ فهمه إلى حقيقة ذلك التعريف. جهلوا أن السعادة كل السعادة في شياخة السجادة، وأن أسعد الناس حالًا، وأرخاهم بالًا، جالسٌ فوقها؛ يجري رزقه من تحتها، فهي الجنة التي تجري من تحتها أنهار النذور، والكنز الذي لا تفنى ذخائره أمد الدهور. وأسعدُ مِن هذا الحي ميت يسخِّر له الله مَن يبني على قبره قبة عالية، ثم يدعو الناس إلى التبرك بتلك العظام البالية، فتجيء سعادته في مماته على قدر شقائه في حياته، وتطير بذكر كراماته الأنباء، وتحسده على تلك النعمة الأحياء، حتى يقول في ذلك قائلهم: قال الثاني: لقد صدقت في تعريفك، وأنصفت في وصفك، ولكني أعرف للسعادة منهجًا آخر قد سلك فيه بعض الأقوام، فأصبحوا أسعد الأنام. ألم تعلم — وفقك الله — أن السعادة كل السعادة في الوصاية على اليتيم، وفي النظارة على وقف حبس على العظم الرميم؛ يأكل الأول ما شاء ولا محاسبة، ويلتهم الثاني ما أراد ولا مراقبة. وإني أعرف في مصر قومًا قد احترفوا الوصاية على الأيتام، فهم كلما حدث يتمٌ بالبلد رشحوا أنفسهم لتلك الوصاية، وعملوا جهدهم للوصول إلى هذه الغاية. قال صاحبه: صدقت يا أخي، ولكن أتعرف السعيدة من النساء كما عرفت السعيد من الرجال؟ قال: السعيدة من النساء من سهلت لها الأقدار، فأصبحت تدعى شيخة الزار؛ فهي تملأ يديها ذهبًا، وبيتها نشبًا، وترفل في الحرائر من هبات الحرائر، ورأس مالها في تلك التجارة رُقية بأسماء بعض العفاريت الطيارة. تدخل على المقصورات في القصور، والمخدورات في الخدور، فتفتق بطبلها طبل آذانهن، وتهز بأسماء الجن نواعم أبدانهن، وتُعمي بدخان البخور نُجُل أعينهن، حتى إذا امتلكت منهن الوجدان، وصار لها عليهن أي سلطان، حكمت فيهن حكم المنوِّم البارع على النائم الخاضع. لذا تراني ضيق الصدر؛ لضيق ذات اليد. ولقد أعطيت الله عهدًا إن أنا خرجت من هذا المحذور كفافًا، لأحطمن هذا اليراع العاثر، ولأنبذنَّ تلك الحرفة التي اضطرتني إلى التحام الأعراض، والميل مع الأغراض، ثم رفع يديه ضارعًا إلى الحق وقال: اللهم إن كنت تعلم أنني دخلت في هذه الحرفة كارها، وسرت في تلك الطريق مغلوبًا على أمري، فنفِّس كربتي، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.» فقلت له وقد أدركتني رحمة عليه: أراك قد خاصمت نفسك إلى نفسك، فحمدت مغبة الخصومة، ورضيت حكومتك عليك، فلا تجزع بعد ذلك؛ فإنه لا شيء أمحى للخطيئة من التوبة يظهر أثرها في نفس الخاطئ، وإني أرى في نفسك وأتبين في وجهك أثر ماضيك، ولا أعلم فيما أرى شيئًا هو أبلغ في النفوس من يقظة الوجدان وحياة الشعور، فإن كنت قد صدقتني فيما قلت، وكان لسانك شاهدًا عدلًا على قلبك، فأنت حقيق ألا تعود إلى ما أوضعت فيه من الجهالة، وخليق ألا يفت في ساعدك ما وصل إليه أمرك من الفشل، فلا يكبرن عليك أمر الغرامة؛ فما هو ببالغ من نفسك ما بلغته أنت منها، وهلم بنا إلى سطيح يحدِّثك بمأتي حالك، ثم حدثته حديثه، فلبث ينتظر معي الآية، فلما لاحت أخذنا طريقنا إلى سطيح، وإذا به يقول: «ظالم مظلوم، ولائم ملوم، تزيَّا بغير زيه، وأقام في غير حيه، فأصابه ما أصاب الشرقي وقد نزع إلى تقاليد الغربي، فأصبح معنيًّا بهذا البيت. وأحسبه من شعر الكميت: ثم أمسك عن الكلام، فقال صاحبي: إني أتيت تائبًا، وفي الحق راغبًا، وما كنت لولا الحاجة بخابط في تلك الضلالة، لولا أنني رأيت القوم يركبون تلك الطريق، فركبت مركبهم، واقتفيت أثرهم، ولا علم لي بخشونته، فما زال يستتيهني فيه الشيطان حتى ضللت مع الذين ضلوا من قبل، وما أنا في ذلك بأول الخاطئين. ثم انقطع الصوت فقلت: ألا يحدثنا ولي الله عن تلك الكلمة التي أخذها الناس على غير وجهها، فذهبت فيها الظنون مذاهبها، وركبت الأوهام مراكبها، ثم أسكنوها في غير معناها، وأرادوا منها غير ما أرادت منهم، فذلت بهم وذلوا بها، وكان ذلك علة هذه الفوضى التي تراها في الصحف، وذلك الفساد الذي سرى في الأخلاق، ولولاها لما هبط ذلك الواقف بجانبي إلى حاله تلك من سوء المنقلب وشر المصير. قال: عن الحرية سألت، وعلى الخبير سقطت. اعلم يا ولدي أنها معنى الوجود، وملاك الحياة؛ ففي فقدها سجن النفوس، وعقال العقول، وقيد الأفكار، وما امتحنت أمة بمحنة هي أقتل لها من فقد الحرية وخمود الشعور، وإني أراكم على ما أنتم فيه من الضعف والتقاطع قد أمتعكم الله بحرية الحياة، فأمسيتم تتقلبون في نعمة لم تعرفوا لله حق الشكر عليها. ألا تنتشرون في الأرض فتنظروا حال غيركم من الأمم الإسلامية التي سلط الله عليها ما سلط عليكم. تالله إنكم لتجدونهم بحسرة النظر إلى ابتسامة من ثغر تلك العروس التي جلاها لكم الاحتلال فجهلتم قدرها، ولم تدفعوا مهرها، فلما علم منكم ذلك أقام لكم مكانها عروسًا من الشمع يحاول إيهامكم بوجودها؛ كي تخدعوا بالنظر إليها كما خدعتم نيلكم من قبلُ بعرائس الطين بعد عرائس الحور العين. فكان مَثَلكم في ذلك مثل السجين في مكان غاب سجَّانه وفتح بابه، فهو كلما همَّ بالانفلات من ذلك السجن نظر في رجله قيدًا من الخوف، ولمح على الباب حارسًا من الوهم. أفٍّ لكم! لقد من الله عليكم بقسم من الحرية لو قسم على المسلمين في الأرض لوسعهم، فخرجتم به عن أفق الحرية الشرعية، ولم تقفوا به عند حد الحرية الفلسفية، بل رسمتم للحرية تعريفًا أنكره الشرع، وتسخطت له الفلسفة. عرَّفها الأول فقال: إنها تكون في حفظ الدين والعرض والشرف والمال، وأوسعت الثانية دائرة ذلك التعريف فقالت: هي أن يكون المرء حرًّا في عمله ورأيه، على شريطة ألا يدعو ذلك إلى أذى غيره. فما أعجبكم الأول، ولا راقكم الثاني على ما فيه من التسامح، بل زعمتم أن تعريفها الشافي هو أن يعمل المرء ما شاء أن يعمل، ويرى من رأيٍ ما شاء أن يرى، وأن سبيله في ذلك أن يطَّرد به جواد الإرادة المطلقة في ميدان الشهوات، لا يبالي داس به آداب ذلك المجتمع الإنساني أم تخطى أعناق الفضائل. قلت: قد علمت أن الذي نحن فيه لم يكن من الحرية في شيء، فما رأي ولي الله في تلك الصحف التي باتت تنبح بغير فرقان على صاحب الدار والغريب، وتقرِض بلا مبالاة عرض البعيد والقريب؟ أيرى في وجودها ضررًا محضًا أو منفعة خالصة؟ أم هي كالخمر في حاليها قد جمعت بين الإثم والمنافع؛ فوجودها بيننا ضارٌّ نافع؟ قال سطيح: لقد نظرت قبل اليوم في هذا السؤال، وتبينت فيه الهدى من الضلال، فألفيت فيها شرًّا قائمًا، وخيرًا جاثمًا، فرأيت أن أزن الاثنين، فلما حملتهما إلى الميزان ونظرت فيه بعين العرفان، شالت كفة النفع والخير، ورجحت كفة الشر والضير. فقلت: زدني — بارك الله فيك — وأسمعني تأويل ذلك من فيك. قال: اعلم أنه ما من شيء إلا وفيه منفعة ترجى، ومضرة تخشى. أما وجوه النفع في بقاء تلك الصحف فهي عديدة، إلا أنها لا تكاد تتجلى لغير علماء العمران، والباحثين في ترقية شئون بني الإنسان. فمنها أن بقاء تلك الصحف على الحال التي هي عليها عنوان على وجود الحرية في البلاد التي تنشر فيها، فإذا قدم عليكم قادم وقرأ ما يكتب في تلك الصحف — كائنًا ما كان — علم أنكم تتقلبون في نعيم الحرية، وإن جهلتم أنتم قدر هذه المزية. ومنها أن فيما تكنيه مزدجرًا للناس؛ فإنك لتجد من الموضوعات في تلك الصحف الصغيرة ما لا تجد بعضه في أمهات الصحف الكبيرة. هذه بما في نفسها تُصرِّح، وتلك لا تكاد به تُلمِّح. تكتب الأولى ما يقع للغني والفقير، وتسطر ما يحدث للكبير والصغير، وتأبى الثانية إلا أن تراعي المقام، وتحجم فيما يقع من الحوادث عن الكلام؛ إما لصلة تمنعها، أو لرهبة تقطعها. ومنها انتشار اللغة في الجملة بانتشار تلك الصحف، فإنك لا تعدم أن تجد في صحائف الأسبوع أسلوبًا رقيقًا، ومعنًى دقيقًا يعزُّ وجودهما في صحائف اليوم؛ لاشتغال أهلها بتسقُّط الأخبار، وضيق وقتهم عن التأنق في الأساليب، والتماس الشائق من التراكيب. أما أصحابنا فلهم من فسحة الوقت ما يكفي لانتقاء اللفظ، واختيار الموضوع، فإذا شاءوا المدح عرضوا ألفاظ اللغة، ونبشوا بطون الكتب، وقلبوا أحشاء القواميس، ثم استخرجوا من الألفاظ أحلاها وأطلاها، ومن المعاني أسماها وأغلاها، وصاغوا من كليهما مدحة تهز الممدوح هزًّا، وتبزُّ المال منه بزًّا، وهم إذا خلوا إلى شياطينهم، وأرادوا القدح، فقل أعوذ برب الإنس والجان من شر ذلك اللسان. أما وجوه المضرة في بقائها، فقد أصبحت شيئًا يحس، وأصبح مثلها كمثل الهواء، فقد كنا نشعر به ولا نراه، حتى سلطوا عليه ضغط الجو فتكاثف حتى همت الأيدي بلمسه، وتلون حتى وقع من النظر تحت حسه. ومنها دبيب الفساد إلى أخلاق العامة؛ لكثرة ما يقرءون ويسمعون من ألفاظ السباب. وإذا فسدت الأخلاق في أمة، فقد فسد فيها كل شيء. ومنها دخول السقاط من القوم في زمرة المحررين، اللهم إلا نفرًا من أنصار الفضيلة ذهب صرير أقلامهم ضياعًا في وسط تلك الضجة القائمة. وهذا قليل من كثير؛ فانصرف يا ولدي الآن؛ فقد قطعتني عن ذكر الرحمن. انصرفت بصاحبي وقد أخذتْ منه العظة، وتمشَّى فيه الاعتبار، حتى إذا بلغنا حديقة الحيوانات قلت لصاحبي: هذا قصر إسماعيل الذي يقول في وصفه صاحب عيسى بن هشام: «ووصلنا إلى قصر الجيزة، ومتحف الآثار، وملتقى السيارة من سائر الأقطار، فدخلنا روضة تجري الأنهار من بينها، كأنها الجنة بعينها، وقصرًا يقصر عنه الطرف، كما يقصر عنه الوصف، فأخذنا نرتاد خلاله، ونتفيأ ظلاله وقد نظرنا الأسود مقصورات في المقاصير، والأساود مكفوفات في القوارير، ورأينا النمور في الخدور، والرئال في الحجال، والذئاب في القباب، والظباء في الخباء. ولما رأى الباشا الأرض منضدة مرصعة مزردة، حسبها أرضًا مفروشة، ببسط منقوشة، وأشكل الأمر عليه، فهمَّ بخلع نعليه، فقلت له: طريق معبد، لا فرش منجد، وحصباء ومرو، لا بساط وفرو. قال: لمن هذه الجنان؟ وكيف يسكنها الحيوان؟ وما علمت من قبل أن الأسد الضواري تسكن مغاني الجواري، وأن ساكنات البيد تلعب في ملاعب الغيد، فقلت: بيت إسماعيل، طالما كانت حجراته مطالع للأقمار، ودرجاته منازل للأقدار. كان إذا نادى صاحبه فيه: «يا غلام.» شقيت أقوام وسعدت أقوام، ولبَّى نداءه البؤس والنَّدَى، بأسرع من رجع الصدى. هنا كان يفصل الأمر ويُحكم، وينقض الحكم ويبرم، وكان من احتمى بظل هذا الجدار، تحامته غوائل الأقدار. هنا كانت فرائد القلائد، من أجياد الخرائد تختلط بمنثور أزهاره، فترصع لجين أنهاره. هنا كانت تتناثر الجواهر من قدود الحسان، فتشتبه بأثمار الأغصان. هنا كانت تصدح القيان على المزاهر والأعواد، فتجاوبها الوُرْق على الأفنان والأعواد، فأصبح حديقة عامة، وموطئًا للخاصة والعامة، وأصبحت أرضه تُكترى، وجنى أشجاره يُباع ويشترى، ودوَّى فيه صياح النسور، وزئير الأسود، وعواء الذئاب، وهمهمة الفهود، وزال ما كان فيه من عز وطول، ومجد وصول، وأيد وحول. وصدق الكتاب فحق القول: وقصصت على الباشا قصة صاحب القصر، ومليك ذلك العصر، وما كان فيه من الجد الصاعد، والبخت المساعد، وما صار إليه من نحوسة سعده، ثم سكنى لحده، وبعد أن ذاق في هذه الدار؛ دار الفناء، مثل عذاب تلك الدار؛ دار البقاء. وما انتهيت من هذا الحديث حتى انتهينا إلى حيث نفترق، فقصدت داري وقصد داره، ولكنني استشعرت بعد فراقه ميلًا إلى السهر، فعطفت على أحد الأندية، وانتحيت ناحية، وجلست وما كاد يحتويني المكان حتى طلع على النادي ثلاثة من الشبان، شممت من أردانهم أريج الحسب والنسب، وعرفت في وجوههم نضرة النعيم، فدخلوا وهم كأنهم روضة تمشي، وجلسوا وما شككت في أنهم من أقران الثُّريَّا، وكانوا بحيث أسمع ما يقولون، ثم صاحوا بالخادم، فأقبل مهرولًا، فتقدموا إليه بطلب كاسات الراح، فانطلق يعدو وما لبث إلا ريثما عاد يحمل كئوسًا من البلور، ملؤها ذهب سائل، أو أصيل جامد، فصفَّفها أمامهم، وحفَّها بأطباق النُّقل وطاقات الزهر، فقلت في نفسي: لقد أراني في حان، وما كنت لأعدَّ نفسي من أهلها، فهممتُ بالانصراف، ولكن أمسكني حبُّ الاطلاع على ما سيكون من أمرهم، وما يدور من الحديث بينهم، فلبثت أسمع وأرى، وإذا بهم قد استرسلوا في الأُنس، وتبسطوا على السرور، وكانوا كلما أفرغوا كئوسهم امتلأت نفوسهم طربًا، وتهللت وجوههم فرحًا، فما زالوا يستحثون الكئوس إلى أفواههم بحادي الغناء حتى خلعوا رداء الأنفة، وطرحوا مطارف الاحتشام، فقام أحدهم وقد علت الخمر ذؤابته، ورنحت أعطافه، وقال: أخشى أيها الصاحبان أن تميل علينا هذه الصفراء بخديعتها وختلها، فنقع في مثل ما وقع فيه ذلك الشاعر الفارسي الذي يقول: ما زلنا نشرب الخمر حتى بحنا بأسرارنا، فلما رأت منا ذلك أشفقت على نفسها من أن نبوح بسرها، فأمسكت ألسنتنا، فأجابه أحد صاحبيه: وما عساك تخشى منها؟ فهبْ أنها دبَّت منك إلى موضع السر، فهل لك دوننا سرٌّ تطويه أو شيء تخفيه؟ قال: كلا، فإنني لم أكتمك مُذ صحبتك شيئًا من أمري، اللهم إلا واحدة. قال: وما عسى تكون؟ قال: إني أغبطك على أبيك، وأتمنى أن أكون في موضعك، قال صاحبه وقد عراه الدهش: وما الذي غبطت مني حتى بلغ الأمر إلى التمني، ولا أراك دوني في الأشياء؟! فأنت — بحمد الله — في بشاشة من العيش ورخاء من البال. قال: تعلم أن أبي مدير، وأن أباك مستشار بمحكمة الاستئناف، قال: علمت ذلك وما غاب عني أن أباك أعلى من أبي منصبًا، وأكثر مرتبًا. يُنقد أبوك في كل شهر مائة ذهبًا، ويُنقد أبي دون ذلك. قال: أراك تداجي في القول، وتتغابى عن الفهم، وأنت تعلم أنه ما منَّ الله على خلقه بنعمة هي أولى بالشكر، وأحق بالذكر من نعمة الأمن، فقال تعالى معددًا آلاءه على قريش: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ، فجعل سبحانه الأمن من نعمته الكبرى، ومنته العظمى، فمنْ بات منا آمنًا في سربه كان حقيقًا ألا يغفل طرفة عين عن الشكر. وأبوك ينام ملء جفونه لا يبالي أقبل المستشار أم انعقد مجلس النظار؛ فقد تخطاه العزل، وأخطأته عاديات النقل. أما أبي فهو على منصبه الكبير، وأجره الكثير، يلبث الليل والنهار في خوف من المستشار، حتى إن أمثاله من المديرين الذين لم تُشرق عليهم الشمس في بلد إلا وتغرب عنهم في آخر، ليتركون أثاث منازلهم ورياشها مطوَّقة بالحبال؛ لكثرة ما يؤمرون بسرعة التحوُّل والانتقال؛ لذلك ترانا لا نَحلُّ في بلدٍ إلا ونحن من أمرنا على سفر، ومِن غضبِ المستشار على حذر، كأنما عنانا ابن الوليد بقوله: هذا بعض ما نحن فيه. أفلا أغبطك بعد ذلك وأتمنى حالًا كحالك؟! ثم انتثر بعد ذلك عقد المجلس، فمضى كلٌّ لوجهه، وغادرت المكان على أثرهم، ويممت داري فلبثت فيها حتى حان الموعد، فخرجت وما زلت أمشي حتى اشتمل عليَّ الليل، وأسمع صوتًا فأتسمته، فأرى صديقًا لي يتغنى بشيء من الكلام المقفى الموزون، فأجلس على كثب منه وهو لا يراني، وقد شجاني حسن صوته، وكاد يلهيني عن الموعد لطف إيقاعه، فألبث حتى يأتي على نشيده، ثم أتراءى له فأحييه، ونتبسط على الحديث فأسأله: لمن الشعر يا فلان؟ قال: هو بعض ما أعبث به، قلت: لقد أسمعتني منذ الليلة كلامًا لو نحلته ابن أوس ما شك سامعه في أنه من مختاراته، فما لك تكتم الناس مثل هذا الشعر السري، ولو أنك أذعته لغضضت به من كثير من أولئك الذين باتت تطن الصحف بذكرهم؟! قال: ليس من أمري المديح، ولا سبيل إلى إذاعته في تلك الصحف؛ إذ أنا لم أسلك به في تلك الطريق، قلت: فإن أعياك الأمر، فما لك لا تجمعه في ديوان، ثم تخرجه للناس كما يفعل الشعراء ممن هم دونك في منازل الأدب ومراتب القريض؟ قال: كان يكون ذلك حقيقًا بي لو أن من يقرأ الأثر في مصر يقرؤه لذاته، لا لذات صاحبه، ونحن — بحمد الله — في بلد لا تنفق فيه سلعة الأديب ما لم يكن صاحبها حظيظًا عند تلك الصحف، حتى إذا ظهر أثره في الناس قامت تُقرِّظه بصنوف المديح والإطراء، وتنزل نفسها في الدعوة إلى كتابه منزلة أولئك المبشرين في الدعوة إلى دينهم. فلو بُعث اليوم صاحب اللزوميات وحاول أن ينشر في تلك الصحف حرفًا مما أخذه على الأمراء، وأنكره على الكبراء؛ لأبت عليه أن تفسح لذلك الحرف مكانًا بين جداول الأموات، فضلًا عن جداول الأحياء. ألم تر إليها كيف كانت تقول يوم كانت تقرظ الشوقيات، وقد أسندت إلى صاحبها من الألقاب ما تعجز صحف الآستانة عن إسناد بعضه إلى جلالة المتبوع الأعظم وقد أدى فريضة الجمعة، أو تحركت شفتاه بالإنعام على بعض أهل الزلفى برتبة أو وسام. بربك، ماذا رأيت فيها من الآيات؟ وما جاء به صاحبها من المعجزات، اللهم إلا ما يتباصر به علينا من تلك المعاني الغريبة التي ما سكنت في مغنًى عربي إلا وذهبت بروائه؟ قلت: حسبك لا تغضض من شاعر الشرق، ولا تنتقص من أدبه؛ فتالله إنه لظريف الوزن، لطيف القافية، خاطره طوع لسانه، وبيانه أسير بنانه، كأنما يتناول الشعر من كمِّه لسهولة متناوله عليه، إلا أنه مكثار. وقل أن يسلم المكثار من العثار. فشعره كما قال الأصمعي في شعر أبي العتاهية: كساحة الملوك يقع فيه الخزف والذهب. قال: إني لا أرى رأيك فيه، وفي مصر من لو انقطع لصناعة الشعر لوسع الناس إحسانه فيه، ولكن قد ثنى الله عنان الكثيرين عنه؛ إما لشرف يخشى عليه أن يغض منه، وإما لاشتغال بشئون للحياة لا تقوم الحياة إلا بها. وصاحبكم بفضل ما هو فيه من السعة فارغ للشعر، غير مشغول بغيره؛ فالعجب أنه لا يُجيد، وأعجب منه أن يقال إنه مكثار، وقصائده في العام معدودة، وقوافيها مقدرة محدودة! قلت: لا تطل في أمره الجدال، فهذا الحكم منا على رمية السهم، فإن شئت غشيناه، قال: ما أرضاني بحكمه! ثم همَّ بالنهوض فقلت: على رِسْلك حتى يحين الموعد؛ فقد جعل لي آية للقائه، ثم حدثته حديث سطيح وما كان أمري معه، فارتاح إلى لقائه. ولما حان الموعد قمنا إليه، وإذا به ينادي صاحبي بقوله: «شاعر عربي، وأديب سري، طيَّب الله أنفاسه، وازدهت السبق أفراسه، نهَّاز أذنبة الكلام، خلاب أفئدة الأنام، قريب القلب واللسان، صديق الخاطر والبيان، زوته عواثر الجدود عن مظاهر الوجود، فزكا شعره ولم ينبُهْ ذِكْره، ولو أنصفه زمانه لما خمل مكانه، أو لمحته القدرة لما حرم الشهرة. أي فلان، إن ما خضت فيه من أمر صاحبك مع ذلك الواقف بجانبك — فأنتما فيه سواء — زلة في الآراء، وانحراف عن خط الاستواء. أغرقت أنت في القدح، وبالغ صاحبك في المدح، فخرجت بشاعر النيل عن أفق الحسنات، وكاد يسمو به صاحبك إلى سماء المعجزات، ولو أنصفتماه لأنزلتماه في برجه، وأركبتماه فوق سرجه. إنه أرقكم طبعًا، وأجملكم صنعًا، فهو إن ركب الغزل والنسيب كان كأنه يوحى إليه من قريب، وإذا سلك سبيل المديح، فقد عجز عن وصفه سطيح، إلا أنه ضيق المجال، وإن كان واسع الخيال؛ يقع له المعنى الجليل في سبحات الفكر الطويل، فيمسكه خاطره، وتحرص عليه سرائره. والمعاني كالظباء كثيرة النفار، شديدة الأحضار؛ فهي إن لم تجد من نضارة الألفاظ خميلة تسنح فيها، أو لم تظفر من عذوبتها بعيون تنهل من نواحيها، ذهبت عنها إن لم يضق بها المذهب. وكذلك حالها في شعر صاحبكم، فهي إما نافرة وإما حزينة باسرة، ولو أنه منح من دقة المباني ما مُنح من رقة المعاني، فسلم أسلوبه من ذلك التعقيد الذي أخلق ديباجته، لكان شاعركم غير مدافع، وواحدكم غير منازع.» قال صاحبي وهو يكظم غيظه: إنه لم يغادر معنًى من معاني العرب والفرنجة إلا سلخه، ثم مسخه، فإن كان الأسلوب على نحو ما وصفت، وكانت المعاني لغيره، فما عسى يكون فخره علينا؟ وقد ذكر صاحب دلائل الإعجاز أن البلاغة لا تقع في اللفظ، ولا في المعنى، ولكنها تقع في الأسلوب، فمن كان أسلوبه يجري على غير هذا الحد كان خليقًا ألا يسمى بليغًا، وصاحبنا لا يزال مهزول اللفظ، غامض المعنى، يحتاج الناظر في كلامه إلى تخوت الرمل وطوالع التنجيم. وقد قصر همه على اصطحاب طائفة من الألفاظ لا يعدوها إلى غيرها، حتى أصبح بعضها علامة تدل على شعره، وإن كان غفلًا من ذكره. ولقد نظرت في طريقة شعره، فألفيتها في الغارة على صحائف الأولين، فهو لم يغادر معنًى في خدره إلا سباه، ولا لفظًا في وكره إلا أزعجه. ألا ترثي بربك إلى عظام أبي الطيب وهي تئن في قبرها على أبيات شادها صاحبها، وخرَّبها صاحب الشوقيات؟! ولو كشف لك عن مجامع الأرواح في عوالمها، لرأيت منها ثلاثًا قد ضمَّها الحزن، وجمعها الأسى، ولوقع في سمعك صوت أبي عبادة وهو يندب شعرًا دخل عليه الإفساد، وأنين المتنبي وهو يبكي كلامًا ذهب به المسخ، وزفير ابن الأحنف وهو يتحسر على رقة لعبت بها يد السلخ. ومن نظر في قول أبي الطيب: «نود من الأيام ما لا توده.» وفي قول صاحبنا: «يود من الأرواح ما لا توده.» علم أن الثاني أغار على الأول فسلبه مطلعًا أبهى من مطالع الشمس، ولم يقتصر على هذا السلخ حتى تخطاه إلى المسخ، فرفع لفظة الأيام من شطر بيت المتنبي، ووضع مكانها لفظة الأرواح في شطر بيته، ثم جعل مطلعًا من مطالع التهاني أنزل فيه ممدوحه منزلة عزريل من النفوس، فإني لا أعرف أحدًا «يود من الأرواح ما لا توده»، اللهم إلا ملك الموت، فهل بعد هذا نغفر له ضعف الأسلوب؛ لما عساه يقع في شعره من لطف المعاني وجلها على نحو ما سمعت؟ قال سطيح: إنك لا تفتأ تتعقب سيئاته، وتتحامَى ذكر حسناته، فما لك لا تذكر بجانب ذلك قوله في هذا البيت الحكيم: قال صاحبي: لو شئت أن أضع بجوار كل سيئة من سيئاته حسنة من حسناته؛ لنفدت الحسنات وأنا في الربع الأول من ليل السيئات. قال سطيح: إنك إن أخذت عليه أخذه للمعاني، فقد أخطأت مواقع الرأي، فلو طلعت الشمس على جديد لكان صاحبكم خليقًا بما تقول، ولكن ألا ترى أن المعاني كالنقود تداولها الناس وليس عليهم في ذلك من بأس، ولكن بعض ما أوتيه الرجل من الفضل، أصبح داعيًا إلى حسده، والوقوع فيه. قال صاحبي: لو كنت ممن يعرفون الحسد لحسدت ذلك الذي يقول: ولكني لا أنزل بنفسي إلى حسد من يقول: بل أرثي له من التصاقه بمثل هذا الكلام. قال سطيح: وهذا نوع من أنواع الحسد؛ فإنك تعمد إلى ذكر شعر ملؤه الوهن والغميزة، وتعرض عن ذكر ما هو رصين من شعره، فتالله إن في قوله: وفي قوله: لآيات لقوم يعقلون. قال صاحبي: حسبي فيما ذكر، وحسبك فيما تنكره علي من ذلك أن أنشدك هذين البيتين، ثم ذكر بيتين لا يحضرني منهما غير الشطر الأول: قال سطيح: صنع الله لك يا فلان؛ فإني أراك تستبطن أمره، وتستقصي شعره، ولكن هذا لا يعيب من لبث ما أدري كم سنة يضرب على وتر واحد في الغزل والمديح، وهو يأتي في كل ضربة بنغمة جديدة، فلو أنك جئت بأطبع خلق الله على الشعر وكلَّفته ألا ينظم ما عاش في غير المدح، لما غني عن الظهير والمشير، ولما جاء بأبدع مما يجيء به اليوم شاعر الشرق، فاعلم أنه حقيق بالرئاسة عليكم، وأنه في مقدمة أولئك الذين انبروا لتشييد هذه الدولة الأدبية، ورفعوها على ألسنة الأقلام، فإن أنكرته بعد اليوم، فقد أنكرت نفسك، وكذبت حسَّك، فهو عميد رجال هذه الدولة الجديدة، فلا يكن مثلك وإياه كمثل البحتري وذئبه الذي يقول فيه: فما ضركم لو تساندتم جميعًا وأنتم لا تجاوزون منازل القمر عدًّا، فرفعتم من شأن هذه الدولة، وحركتم من الخامدين، وهززتم من الجامدين؟ فإني أراكم بين متفصح على أخيه، ومتنبل على قرينه، وليس هذا صنع من يريد ما تريدون تحاولون رد هذه الدولة إلى شبابها بعد أن خلا من سنها، ولو لم يتداركها الله بذلك الأفغاني لقضت نحبها، ولقيت ربها قبل أن يمتعها بكم، ويمتعكم بها. أدركها الأفغاني ولم يبق فيها إلا الذماء، فنفخ فيها نفخة حركت من نفسها، وشدت من عزمها. أدركها وهي شمطاء قد نهض منها بياض المشيب في سواد الشباب، فشاب قرناها قبل أن تشيب ناصية القرن الخامس، فسودت يده البيضاء ما بيضت من شعرها سود الليالي، وتعهدتها همته بصنوف العلاج حتى استقامت قناتها، وبدا صلاحها. وقد كان الناس في هذا العهد يدينون باللفظ ويكفرون بالمعنى، فما زال بهم حتى أبصروا نور الهدى، وخرجوا بفضله من ظلمات القرون الوسطى. وقام بعده نفر ممن تأدبوا عنه، فكانوا كالسيوف فرجت للرماح ضيق المسالك، فانفسح للمتأدبين المجال، وجال كلٌّ جولته، وتنبه الوجدان، وتيقظ الشعور، وتحرك الفكر حتى أفضى إلى حركة النفس، وظهر أثر جمال الدين في النفوس العالية، وأصبحت تبتدر كلامه الأسماع الواعية، فكان من ذلك أن انطوى أجل التقليد، وبعث الله على يديه ميت اللغة، وأحيا رفات الإنشاء. وغادر — رحمة الله عليه — مصر ولم يضع لنا كتابًا نأخذ عنه، أو مؤلَّفًا نغترف منه، ولكنه ترك لنا رءوسًا تؤلِّف، وأفكارًا تُصنَّف، وكأنه أحس بذلك حين أحس بالموت، فكان يقول وهو يجود بنفسه: خرجنا منها ولم ندع لنا أثرًا ظاهرًا بين السطور، ولكننا لم نغادرها حتى نقشنا ذلك الأثر على صفحات الصدور، فإن لم ترثوا عنا في بطون الكتب، فقد ورثتم عنا في صدور الرجال، فإذا حثوتم التراب على رجل الأفغان، فعليكم برجل مصر. خرج من الدنيا كما خرج سقراط؛ لم يغادر كلاهما مؤلفًا، ولم يدع مصنفًا، فلولا محمد عبده ما عرف رجل الأفغان، ولولا أفلاطون ما ذكر رأس فلاسفة اليونان. ولما سكنت أنفاس الأفغاني بعد أن تجددت بذكره الأنفاس، خلفه حكيم الشرق في دولته، ووطن نفسه على المضي في طريقته، فأسمع الناس في الحق وأسمعوه، ولم يزل بهم حتى غلب حقه على باطلهم، ثم مضى لسبيله. رحمه الله. تفتقت الأذهان وتطلعت العقول إلى البحث، وبرزت اللغة من خبائها تجرُّ مطارف آدابها، وأطل علم الأدب من مناره مشرفًا على النفوس، فأرسل نوره إلى الضمائر، ونفذت أشعته إلى السرائر، فنمى تحت نظره الشعور كما ينمي النبات جادته الشمس بالنظر، أو كسته أشعة القمر، فلطَّف من كثافة النفوس، وهذب من مرارة الأرواح، حتى شفَّت الأولى وعذبت الثانية، وبدأ دور هذه الحياة الجديدة بفضل الأدب وعلمه. واعلم يا ولدي، أن عز الأمم موقوف على عز اللغات، وأن حياة اللغات مستمدة من حياة آدابها، فإذا ظهر علم الأدب في شعب كان ذلك آية لظهوره، وعلامة على استعداده، فهو الذي يهيئه لقبول أسباب الرقي والعمران، ويعده لمساغ أنواع العلاج، ويروِّضه على احتمال المصاعب في سبيل المعالي. ألا ترى أنه يخاطب الشعور، ويحادث الوجدان، فإذا خفق الأول خفقة حرَّك منه، وإذا أغفى الثاني إغفاءة شرد عنه؟ ألا ترى أنه إذا تيقظ الشعور أحس صاحبه بالحاجة إلى معرفة ما يحيط به، فهو يدفعه إلى البحث واكتشاف أسرار الكون، ويدعوه إلى معرفة ماهية العوالم؟ فلو أنك جئت برجل هامد الشعور، جامد الوجدان، وحاولت أن تقنعه أن الناس في حاجة إلى علم الكيمياء مثلًا لما وراءه من المنافع، لنأى عنك بجانبه، ورأى أنك تحاول المستحيل، وتدعو إلى الباطل. كِلْ هذا الرجل برهة إلى علم الأدب حتى يتناول منه ما وراء الوجدان، ثم الْقَه بعد ذلك، فتالله إنك لترى منه ما كنت تراه في نفسك، تراه مدفوعًا بقوة الشعور إلى استنباط الوسائل، والاستعانة بالعلوم والفنون على دفع إغارة النقص الذي أصبح يحس به في نفسه وفي أمته. بُعث صاحب الرسالة ﷺ في عهد كان ربيعًا للغة وآدابها، نضرت فيه الألفاظ، وأورقت المعاني، وقد مات من أمة العرب كل شيء إلا شعورها ولسانها؟ مات منها كل شيء، ولم ينقصها من مواد الحياة شيء، فجاء الكتاب يخاطب منهم ذلك الشعور الحي، ويكلم ذلك الوجدان اليقظ، فسرت في نفوسهم الدعوة سريان الكهرباء، ووقع منهم مغزى الآية في الأفئدة قبل وقوع لفظها في الأسماع، فكان مثل أحرف الكتاب وإن جلت عن المثل، كمثل أحرف البروق هذه مطيتها الأسلاك، تطوف حول المحيط طواف الفكر، وتلك مطيتها الشعور يبلغ بها غاية النفوس قبل رجع البصر. صادفت الدعوة نفوسًا غذتها اللغة، وروتها آدابها، فعرفت قدر الكلام، وبالغت في تكريمه حتى رفعته إلى مواطن الآلهة، وسجدت له سجودها للهُبَل الأعلى. صادفت نفوسًا تملَّكها الوجدان، فأصبحت ترقص لشطر البيت، فهي إن شاء حملها الشاعر إلى مواطن الفناء، وإن شاء وقف بها في مواقف الفخار. صادفت تلك النفوس فلم تصدف عن آياتها، وكان الفضل في ذلك للشعور الذي ولده فيها فهم أسرار اللغة، واستمراء لذة آدابها، وكان من أمر العرب بعد الدعوة ما قد علمت، ولولا آفة أصابت لسانها، وفترة أماتت شعورها، لرأيت أبيض الغرب وأصفر الشرق وصيفين في بيت ذلك العربي الأسمر. هذا هو شأن الدولة التي أدعوكم إلى تأييدها، وهذا هو أثرها في النفوس، فلولاها ما رفعت دولة في الغرب رأسها، ولا خاف الناس بأسها. انظر نظرة في تاريخ دول الغرب، وأمعن قليلًا في البحث عن أسرار مجدها، تجد سر ارتقائها في تضافر كتابها على بث روح التأثير في نفوس العامة، بما يزخرفون لهم من الأحاديث. وقد ساعدهم على ذلك أن الناس هنالك يكتبون باللسان الذي به يتكلمون، فتتسرب إلى نفوسهم معاني الشاعر، وتمتزج بأرواحهم روح الكاتب وإن كانوا لا يشعرون. خذ خطيبًا ذلق اللسان، كثير تزويق الكلام، ملمًّا بالعربية، عارفًا بالأعجمية، وتنقل به بين تلك الأمم الواقف على أسرار لسانها، ثم اندبه ليقف وقفة ويخطب في الناس، وتفرَّس بعد ذلك في وجوه السامعين، وما يرتسم عليها من أثر تحرك النفوس، وتنبيه العواطف، واحفظ ذلك في نفسك، ثم عرِّج به إلى مصر، ودَعْه يقف وقفته، ويستجمع قوته، ويخطب ما شاء من الصبح إلى المساء، وانظر كيف يختلف القياس بين صنوف الناس، فلو أنه نثر على رءوسهم التنزيل، وأتبعه بالتوراة والإنجيل، ما حرك منهم جامدًا، ولا نبَّه خامدًا. وأصل هذا البلاء الذي استعصى معه الدواء، أن لهم لسانين قد تناكرا حتى اختصوا أولهما بالكلام، وجعلوا الثاني من نصيب الأقلام، فمنع اعوجاج هذا من استقامة ذاك، ووقع حاملهما في سوء الخلط والارتباك. فكم ترددت بينهما حيرة الشاعر، وأشفقت من العثار يراعة الناثر! إذا أرضى الشاعر لسان الكلام، أغضب لسان الأقلام، وإذا نزع الكاتب إلى محاسنة العامة، جرَّه ذلك إلى مخاشنة الحامة. دع ما تجنيه الصحف اليومية على لسان هذه الأمة العربية، وما تدخله عليه من لفظ عامي، وأسلوب أعجمي، حتى نعت اللغة نفسها على لسان صاحبكم حيث قال: فإن لم تعاونوا على شفائها، بعد وقوفكم على مكامن دائها، فقد قضيتم عليها بالممات، وعلى أنفسكم بالشتات، وحسبك هذا من سطيح؛ فقد قطعته عن التسبيح. قال الراوي: ثم انقطع الصوت، فقُمنا ثملين مما سمعنا من ذلك الولي، وقلت لصاحبي وهو كالمأخوذ: ما عسى يكون ظنك بصاحبك بعد اليوم؟ قال: لقد صدق فيما وعظ، ورحم الله عبدًا اتعظ، فإن دابرت أديبًا بعدها فلست لأبي، وأشهد الله أنني وقفت يراعتي على التوفيق بين جماعة الأدباء، لعلنا نتساند جميعًا على تأييد هذه الدولة التي لم تكد تدرج من مهدها، حتى وقف بها الضعف على حافة لحدها، ولو لم أكن خامل المنزلة، بعيدًا عن الشهرة، لكنت أول الصائحين غدًا بما وقع في نفسي من كلام هذا الولي الكريم، ولكن من كان مثلي، كان خليقًا أن تردد الصحف صدى صوته؛ لعدم نباهة ذِكره. قلت: لقد أخطأت منافع الرأي، فإن خمولك يجعلك بمنجاة من الحسد والضغينة، فإذا كتبت شيئًا لا تصرف الغيرة عيون القارئين عن الخوض في جمال بيانه، وحسن برهانه، وربما بلغ خمولك من الناس ما لا تبلغه نباهة غيرك، فلا تغبط نبيهًا على منزلة نالها بعد جفاء المضجع وإنصاب البدن، فإن بجانب اللذة التي يشعر بها عند التنويه باسمه آلامًا يضيق عنها مدى الصبر، وإنما تحس بذلك كل نفس أخذت قسمها من الشهرة، ولو أنك وقفت على ما يكابد النبيه من حسد المعاصرين، وكيد المكابرين، لزهدت في عيشه، وفررت من الشهرة إلى الخمول، ولرأيت رأي المعري في قوله: فاعلم أن الشهرة سجن من سجون النفس، يعقلها فيه حب الكمال الإنساني، ويكلها لخفارة الفضيلة، فلا يقوى على البقاء فيه إلا قوي الإرادة، وليس كل من عرفت من النبهاء مضطلعًا باحتمال ما يعرض له من آلام ذلك السجن، ولا قادرًا على مصارعة الهوى. وكم من نبيه أعياه أمر نفسه، فنزع إلى الخمول، واختبأ في ثنايا النسيان، ورأى أن كفة اللذة مرجوحة في باب الشهرة، فنزع إلى كفة اللذة في باب الخمول. لقيت مرة أحد أولئك الذين كانوا من النبهاء، ثم سكنوا إلى عيش الخاملين، فقلت له في ذلك، فقال لي: لقد وفيتُ قسطي من الأولى، وها أنا ذا أستوفيه من الثانية، فقلت له: وماذا أصبت في الحالين؟ قال: أصبت في الأولى لذة تكتنفها الآلام، وأصبت في الثانية ألمًا تحيط به الملاذ. ولقد كنت وأنا في ربيع الشهرة كأني المعني بقول أبي النجم في أرجوزته: وكان شعاري في التمثيل بهذا البيت: فكأن الخامل إذا حاول التسلق إلى مراتب الشهرة جعلني سلمًا لغرضه، واعتمد علي في الوصول إلى غايته، وكأن الناشئ في حرفة الأدب لا يرى لنفسه منفذًا للظهور في غير الغض مني، والوقوع فيَّ، فلا تخلو مقالة يُحبِّرها، أو قصيدة يُقرضها من انتقاصي، والنعي عليَّ فيما أذهب إليه من مذاهب الأدب. كنت أقرأ كل ما يهذي به ويدي قصيرة عن إدراكه لعجزه وخموله، وما يعجزك مثل العاجزين. دعْ ما كنت أكابد من حسد المعاصر، وأقاسي من صرف النفس عن سبيل الهوى، فكم تمنيت مجالس الشراب، والتبسط على اللهو، وحالت بيني وبينها الحوائل! وكم التفتت نفسي إلى ما يدعو إلى التفات النفوس من الشهوات، فحاكمتها إلى سلطان الكمال، وماددتها حبل الجدال، حتى إذا همَّت بالخروج عن دائرة الامتثال، وسئمت صحبتها على تلك الحال، رأيت أن أرفِّه عنها، وأهون عليها، فعمدت إلى الخمول لأجمع فيما بقي من أيام العمر بين اللذتين، وأُسرِّح النفس من ذُلِّ السجن الذي كاد يأتي عليها، وما فعلت ذلك التماسًا لعقوق الفضيلة، أو نزوعًا إلى عيش المستهترين من عبدة الشهوات، فليس ذلك من أمري، ولا هو بملذوذ عند مثلي، ولكني فعلته طلبًا للهدنة بيني وبين الزمان، وإشفاقًا على الحاسدين من حسد أكل صدورهم، وعملًا بقول القائل: كذلك كان يحدثني ذلك النبيه عن آلامه، فهل تغبط بعدها نبيهًا على عيشه، وتتطلع إلى الدخول فيما يخرج عن الطوق؟! ألم تر إلى فريق الفلاسفة كيف أنه اختار العزة، ونفر من الشهرة؟! وهذا «إيبيكير» اليوناني يقول: استر حياتك ما استطعت. قال صاحبي: لقد حببت إليَّ عيش الخامل على ما فيه من غضاضة تلحق بالنفس، وفتور يقع في الهمَّة، وإن كان هذا شأن الضعيف من الناس، فإني أراني قد خُلقت ضعيفًا، ليس في طوقي احتمال ما ذكرت من المصاعب، فلو أنه سلف لي من نباهة الذكر ما سلف لي من الخمول، لقارنت بين الألم في الحالين، وحكمت بين الراجح والمرجوح من الكفتين، ولكن سلني إن شئت عن آلام الخاملين أصورها لك تصويرًا يبلغ منك مبلغ العيان. قلت: مهما تأنقت في التصوير، وأبدعت في التعبير، فإن ذلك لا يكون شيئًا بجانب كلمة يقع بها في عرضك سافل، رجاء أن يجتعل على سبِّك من حاسد يكيد لك، أو معاصر ينفس عليك، وها نحن أولاء قد بلغنا مكان الافتراق، فمني عليك السلام. قال الراوي: ثم أخذ كل منا سَمتَه إلى داره. ولما كان الغد وقد حان الموعد، خرجت أطلب سطيحًا، فأخذت طريقي إليه، ولم يسم لي فيه ما يلفت النظر، ولم يقع بصري على حي أستصحبه، غير أني لم أكد أبلغ مكان اللقاء حتى تراءى لي إنسان لم أدر أخرج من الأرض أم هبط من السماء، فتبينته فإذا هو غلام مراهق يتيمن الناظر بمشهده، كأنه صُوِّر من نفس من ينظر إليه، فدانيته وأنا أُكبره لما ألقى الله عليه من الهيبة، وقد بهرني جماله، وأخذ مني حسن سمته، فما هو إلا أن رآني حتى أقبل بوجهه عليَّ، وخاطبني بلسان عربي قد خلص من لوثة الأعرابية، وسلم من لُكنة الأعجمية. قال بعد أن حياني وسكن إلى وداناني: إن ولي الله يأذن لك أن تنطلق إلى هذه الحاضرة، وأنا ولده، فكن مني بمنزلة العبد الصالح من ابن عمران؛ فقد أذن لي أن أبرح الليلة الغار، ومد لي في أجل الرجوع حتى يلوح النهار، فقلت له وقد تحفظت ما استطعت من أن تبتدرني سقطة في الكلام، فيعدها علي؛ فقد رأيت نفسي أمام عربي في صدر الإسلام قد قوَّم التنزيل من لسانه، وامتزجت الفصاحة بمنطقه وبيانه: ألا أرى الليلة ولي الله وقد كانت بيني وبينه آية للقاء؟ قال: إنه يتهيأ للقاء الخالق، وقد انقطع عن كلام المخلوق. ألا تذكر ما قاله لك يوم ظفرت بلقائه: لقد كُشف لك عن مكاني، وقد آن أواني؟ قلت: ألا أتزود منه بنظرة؟ قال: في غدٍ إن شئت أعد الكَرَّة، فإنه موعود برؤيتك في يوم خروجه من الدنيا. ثم أومأ إليَّ بالمسير، فسرتُ كالمأخوذ ونفسي على غير ما أعهد، كأنما مرت بها لمحة من تلك اللمحات التي تتصل فيها بعالم الملائك، وكنت كلما نظرت إلى ذلك الوجه المقسم وهو يتألق بجانبي، هممت بتصديق المقنع فيما يدعيه في بدره، وما يخيله للناس من ضروب سحره. فما زلت أسايره وما أكلمه هيبة وإجلالًا، وقد كنت آليتُ ألا أبدأه بالكلام حتى عبرنا الجسر، وقطعنا ما بين يديه من الطريق، وقد هممنا أن نعطف يسرة، قال صاحبي: أراك منذ صحبتك صامت اللسان، وإن كنت ناطق الجنان، فما لك لا تحدث ضيفك؟ قلت: إني رأيت — فيما لا يغيب عنك — من أدب المحاضرات ألا يكون كلام الصغير إلا جوابًا على سؤال الكبير، وقد ساورتني منك هيبة، فكرهت أن أبدأك بالكلام فتُنزل أمري على الجرأة عليك، وقد قال الأستاذ الإمام — رحمه الله: «العِلْم من علَّمك من أنت ممن معك.» وإني لخليق ألا أخرج عن أفق القدر الذي حدده لنفسي عِلمي بها، فليس لي عنه متقدم فأغرر بها، ولا متأخر فأغض منها. قال: إني لأرى أناة تحمد، وفضلًا لا يجحد. ولقد أكرمك ولي الله بحسن الثقة، وأكرمني بصحبتك، أيها الأديب، فانطلق بي إلى تلك البقعة التي وقف الشيطان في ساحتها، يستقبل الزائر بابتسامة تستتر تحتها الويلات استتار النار في العود، ويشيع المنقلب عنها بنظرة لو كانت سهمًا لنفذت من صميم الجلمود، قلت: لعلك تعني الأزبكية؟ قال: أي وأبيك، فانطلق بي إليها، قلت: بأي الأندية تريد أن نبدأ؟ قال: بأنفقها سوقًا، وأكثرها فسوقًا، قلت: هذه المراقص المصرية، والمخازي العصرية. ثم هممنا بالعطف على إحداها، فإذا بصاحبي يحد النظر إلى إنسان يتعثر في مشيته، يريد بناؤه أن ينقض عند كل خطوة من خطواته لفرط هزاله، وسوء حاله، عليه لباس قد أخذت منه الأجواء، وتعاقب عليه الصيف والشتاء، وقد نمَّ منه الظاهر على الباطن، فقرأت على وجهه سطور السأم، وآيات الألم، فقلت: إني أرى سيدي ينعم النظر في هذا الإنسان، ولعله قد داخلته رقة عليه، قال: أي وأبيك، إن في هذا الهيكل لنفسًا سجينة، وإن في ذلك الصدر لأسرارًا دفينة، فلو رأيت أن نُدانيه فنستبطن أمره، ونستطلع سره؟ قلت وقد جعلت أُنعم فيه النظر: كأني أعرف هذا الإنسان وإن تنكرت معارف وجهه، وكادت تندرس معالم جسمه. فما زلت أنفيه وأُثبته وهو مشغول عنه بقراءة صحيفة في يده، وقد غمره ما هو فيه من الحزن والأسى، حتى تَحَققتُه فناديته باسمه، فرفع طرفه، ودلف إليَّ مسلِّمًا، وقال لي مغمغمًا: لا تقذِ عينك بالنظر إلى هذه الأسمال، فلولا مطاردة القوم لرأيتني على غير تلك الحال، قلت وقد جال الدمع في عيني جولة لم تخفَ عليه: لعلك لم تحفظ قول التهامي في الدهر وهو يتقلب منه بين اليسر والعسر: ثم التفتُّ إلى صاحبي وقلت له: هذا أحد من طوحت بهم يد السياسة الإنجليزية إلى مهاوي البؤس والشقاء، فإن شئت أن يحدثنا فإن له حديثًا يأكل الأحاديث، قال: ما أشوقني إلى سماعه. ثم انتحينا ناحية وجلسنا، وبدأ ذلك البائس يحدثنا: اللهم إني أعوذ بك من ثلاث: الموت الأحمر، والرداء الأحمر، والكتاب الأحمر. قال صاحبي: على رسلك، أما الموت الأحمر والرداء الأحمر فقد عرفناهما، وفهمنا مغزاهما، فما عسى أن يكون ذلك الكتاب الأحمر؟ قال: وضعه قائد الجيشين، ورافع العلمين، الحاكم بالإرادتين، ووكيل الدولتين، فاتح أم درمان، وحاكم السودان، وصاحب جزيرة أسوان، رافع إرم ذات العماد، وقرين فرعون ذي الأوتاد، واصل أعصاب الفيافي والقفار بأعصاب المدائن والأمصار، ساكن القصر ونابش القبر، ناسف القبة وسالب الجبة — وهو المهدي — رفات المهدي، والجاعل قبته مربطًا للجياد، ومسجده ملعبًا لحُمُر الأجناد، الناقل تلك الكنوز والدفائن إلى تلك المصارف والخزائن، المغربي الذي يستشف أحشاء الخبايا بسحر السياسة، وطلسم الفراسة، ويفك ما عليها من الأرصاد، بدماء أبناء البلاد، بعد تبخيرها ببخور التمويه، تحت ملاءة الترفع والتنزيه؛ ذلكم اللورد الكريم، مخض قانون دولته، ثم استخلص من زبدته ذلك الكتاب الأحمر، وأضاف عليه — حاسبه الله — ما أضاف، وهو اليوم تجري عليه الأحكام في الجيش، وإن لم يوقع عليه أمير، ويشعر به وزير. وللجيش قانون آخر قد اشتملت عليه صدور القوم لا تدركه أبصارنا، ولا تحيط به أوهامنا؛ نقشته يد السياسة على صفحات تلك الصدور، فلا يمسه إلا من مس تراب تلك الجزيرة جثمانه، ولا يراه إلا من رفعت يد الزلفى عنه الغطاء؛ ذلك قانون الإرادة. فالويل لمن وقف وقفة المجرم أمام القانون الأحمر، والويل ثم الويل لمن وقفها أمام قانون الإرادة؛ ذلك الذي نفذت إرادته في أصحاب الثورة السودانية، وكاد يلحقهم — لولا دفاع الله — بإحدى الجزيرتين. وعلى ذكر الثورة، سأتلو عليكما من حديث أصحابها؛ إنهم فتية ربهم أعلم بهم، غُلبوا على أمرهم، وأُخذوا بجريرة غيرهم، وإني أقصُّ عليكما من أنباء الثورة، فقد حضرت أولها وعلمت بآخرها: صدرت مشيئة القائم بالأمر في السودان بجمع ذخيرة البنادق من أيدي الجنود، فتساءل الناس عن هذا النبأ، ومشى بعضهم إلى بعض وقد أرجفوا يومئذ بسقوط الوزارة، وانحراف الأمير عن القوم، فكثر التأويل كما كثر القيل، فتنبأت طائفة أن سبب هذه المشيئة هو التحرز والتوقي من انتقاض الجيش، وقد نما خبر خذلانهم في أوليات الحرب الترنسفالية، وظنت طائفة أخرى أن سببها هو ذلك الفتور الذي زعموا أنه واقع بين الأمير والقوم، وقال ذوو الأسنان منهم: إنها محنة من محن السياسة يبلون بها طاعة الجيش. وقال صاحب الأمر وقد أنهى إليه عيونه أمر تماوج الجيش: إنما نفعل ذلك صونًا للذخيرة من الرطوبة، وحرصًا عليها من الضياع. والمصري من الجنود كخرقاء أصابت صوفًا لا يحسن القيام بحفظ ذخيرته. وقد علمتم حال الزنجي إذا ملكته سورة الغضب، فإنه حاضر الانتقام يغضبه أخوه لبادرة تبدو منه، فلا يرى أهون عليه من الفتك به، وما أردنا بهم إلا رشدًا. ولما كان الليل واجتمع أحداث الضباط في ناديهم، وأخذوا يتحدثون في أمر يومهم، قال قائل منهم: أليس من الخطل أن تبقى هكذا الجنود ونحن في بلد غير أمين، وهذه دماء أعدائنا لا تزال غريضة، وتلك أجسادهم تغدو عليها وتروح عنها جيوش العقبان والرَّخَم، وقد أكل الحقد صدور أهل البقعة، وتغلغل الضغن في نفوسهم، وباتوا يرتقبون نهزة ينتهزونها، وما أحسبهم وقد علموا اليوم بحالنا إلا غادين على مبادئنا لعلهم يثأرون. وكان بقرب ذلك النادي رهط يسترقون السمع، ويتسقطون الخبر، وكانوا ممن بايعوا وشايعوا مع القوم، فهم يعبدون الرداء الأحمر، والفارس الأصفر، فلم يجدوا شيئًا يلقون به صاحبهم هو أقرب زلفى من نقل ما سمعوه، فاستبقوا بابه، ورفعوا إليه الأمر على غير وجهه، فوقع كلامهم في نفسه، ووعدهم خيرًا. وبات يقلب طرفه في أسطرلاب السياسة، ويحسب تقويم كواكب الرأي في أفق الدهاء، وحدث في ليلته تلك أن فرقة من الجنود السودانية عصفت برءوسها النخوة، فعطفت على الذخيرة فارتدتها قسرًا. ولما حاول كبيرهم أن يثني عنها عنانهم، ويحول بينها وبينهم، وفَّوه قسطه من الأذى، ومازالوا به حتى رنحوه لطمًا ولكمًا. فعظم الأمر على صاحب الأمر، وكادت تنخلع شعبة مهجته هلعًا، ويقطع نياط قلبه جزعًا، وتمثل له شخص واشنجتون وفي يده علم الاستقلال، وطار به الوهم إلى لاديسميث، فانحلت منه الأوصال، ونسي أنه بين مصري له وليٌّ من الذلِّ، وزنجي على قلبه أكِنَّة من الجهل، وكذلك لم نجد له عزمًا، فجمع إليه نفرًا من قومه، وشاورهم في الأمر، فأشاروا عليه بالتماسك، وأن يتراءى للجنود في هيئة المتفقد للشئون، المستخف بالكوارث. فخرج وهو مقلقل الشخص على جواده لا يصحبه حرس، ولا يماشيه أحد من قومه، وكان معه عند كل جولة يجولها من خاصته من يقوم بتبليغ مشيئته، وإمضاء أمره، فما زال يستقرئ الوجوه والأبصار، وهو كلما مرَّ بقوم تراصفت أقدامهم، والتصقت أيديهم بجباههم، وانتشرت على وجوههم طبقات من الخشوع. حتى إذا صار بمكان الموقعة، وقد طرح عن منكبه رداء الفزع، نظر فإذا جيش من النسوة يموج بعضهن في بعض، وفي يد كل واحدة منهن هراوة، فما هو إلا أن طلع عليهن حتى عطفن عليه يعبسن بها وجه جواده، فأشفق أن يصيبه عنت منهن، فلوى رأس جواده وأخذ يحتثه هربًا، وما زال يركضه ملء فروجه حتى وصل إلى دار حكمه. فلما آمن في سربه، أصدر مشيئة ثانية بإبقاء الذخيرة في أيدي الجنود حتى يؤتى لهم بسواها من حديثة العهد بالوجود. وبعد أن كان سبب جمعها لوقايتها من الرطوبة، وحفظها من الضياع، أصبح لاستبدال غيرها بها من النافعة عند الدفاع. فدعت مثنوية رأي الحاكم سوء ظن المحكوم، حتى ذهبت الظنون مذاهبها، وحتى قال أحد الجنود السودانية لكبيره وهو يخطبهم ويدعوهم إلى الامتثال: ألم تعلم أن الله — سبحانه وتعالى — لم يخلق خلقًا، ضعيفًا كان أو قويًّا، إلا جعل له من جسمه ما يدرأ به الأذى عن نفسه، وهذه السمكة في قاع البحر قد أنبت لها في ظهرها شوكة تدفع عنها بوادر الشر، فكيف بي وأنا ليس لي ما أذود به الردى عن نفسي إلا تلك الآلة التي نزعتم روحها، فأصبحت كالعصا، وما أردتم بنا الخير، ولكن على كيدنا تعملون. وفي ذلك اليوم، استدعى صاحب الأمر أصحاب ذلك النادي، وقد طرح عنه الأنفة السكسونية، وتزحزح عن عرش الجبرية البريطانية، وأخذ يروض نفسه على التخلق بأخلاق بني الإنسان، وقال لهم وقد مثلوا بين يديه، وما منعهم إلا من استروح روائح الرفق من شمائله: لقد رفع إلينا خبركم بالأمس، وما خضتم فيه من الحديث، فكدنا نعجل العقاب لولا ما سبقت به شفاعة الحلم، فأنتم وإن أخطأكم عاجل العقاب، فلا يخطئكم آجله إذا عدتم لمثل فعلتكم التي فعلتم، فاذهبوا طلقاء السن، فلولا حداثتها لمثَّلنا بكم تمثيلًا، وإياكم وذكر السياسة، فلستم من المنزلة التي يتناول أهلها الكلام فيها، فانزعوا عن شياطين الصحف، فهي إنما تزين لكم من العمل ما لا تحمد له مغبة، ولا تغتبط عاقبة، ولا يقوم بنفوسكم. إن الكهرباء الفرنسية تسري في أعصاب أرض وطئتها قدم الإنجليزي، فهي لها الجسم العازل والحد الفاصل، فما غاب عنا أمركم، ولكن سوف تعلمون من منا يحز الودج أسفًا، ويقلب الكف ندمًا ويقول: يا ليتني لم أتخذ مع الجهل سبيلًا! ولقد كنتم في ضلة فهديناكم، وفي ذلة فأعززناكم، وما كان المصري في العز بأجمل منه في الذل، فحسبكم ما سمعتم، فما بعد اليوم إلا ما علمتم. فخرجوا وهم يحمدون الله على النجاة من مخالب العقاب. وينقضي ذلك اليوم والأحرف البرقية تنبض بأسلاكها، والرسائل بين السردار ونائبه تروح وتغدو على وجهها، وتملأ أنباء الثورة فؤاد السردار رعبًا، فيقول في نفسه: أفتنة في الجيش ولما أَقُم بالأمر فيه غير أيام معدودات؟! فيا سعد كتشنر، كيف تحولت لي نحسًا؟ فيخف إلى العميد فينفض إليه جملة الخبر، ثم يستوزعه الرشاد في العمل، فيلقنه كلمات يلقى بها الأمير. فيصدق الطير ويعود السردار وهو يحمل ذلك الأمر العالي وهنا تمنعني هيبة الأمر عن التعرض لذكر ما جاء في الأمر، فالله عليم بذات الصدور. كل ذلك وحركات السياسة الإنجليزية تجري فوق سكون الجيش، وهو كأنه فوق جارية في عرض البحار نام ربانها، وتولى الموج أمرها، فما لبث أن توج بها رأس الصخر، ثم جعلها سرًّا في جوف البحر. ولما ظفر السردار بمناه، راغ روغة فإذا هو بالسودان، وقد شمرت أيام عيد الفطر، فأمر بتجديدها، وأن تحشر له جنوده من السودانيين والمصريين، ونادى من قبله المنادي: معشر الجنود، كل من نابته ظُلامة، أو نزلت به شكاة، فهذا باب السردار لا يحجبه عنكم حاجب! فطفق الضباط يتسابقون إلى بابه، وجعل يقابلهم على انفراد وهو كلما خلا بأحدهم بالغ في محاسنته ومصانعته، فلا يكلمه إلا وماء البِشر يجول في محياه. وكذلك انقضى اليوم والسردار ينثر عليهم بِدَر المواعيد، فما خرجوا إلا ورءوسهم مملوءة بالأماني، وأيديهم بالآمال. ولقد كان للنعمان بن المنذر بن ماء السماء؛ ملك الحيرة، في كل حول يومان: يوم جعله للنعيم، ويوم للبؤس، فكان يحبو من يلقاه في يوم نعيمه بما يجعله مكفي المئونة طول حياته، ويصب على من يعثر به في يوم بؤسه سوطًا من العذاب، فأراد ملك السودان أن يجري في طريقة ذلك الجبار بإحياء سنته، ففعل شَرْواه، غير أنه زاد عليه فجعل للنعيم شهرًا، وللبؤس شهرًا، فمضى الأول منهما؛ وهو شهر النعيم، والجنود السودانية ترتع وتلعب، والسردار يعطي ويهب، وكبار الضباط تصبح وتمسي على الموائد، والمصريون كأنهم المعنيون بقوله تعالى: فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا. فإذا أيام النعيم ولت، وإذا أيام البؤس حلت، وإذا الموائد رفعت، وإذا العهود نكثت، وإذا الصدور نفثت، علم المصري أنه غُلب على أمره، والزنجي أنه جنى على غيره. وهنا يلوح هلال شهر البؤس يطالع في صحيفة الأفق أسماء أولئك الذين تقاسمهم العزل والطرد، فلم تشرق شمس يومه الأول حتى أصبحت دار الولائم ساحة لانعقاد المحاكم، وأمر السردار أن يكون التحقيق علنًا بعد أن كان سرًّا. وإليك بيان ما وقع في السر والعلانية. استقدم القائم بالأمر في السودان قبل أن يروعه الأمر بالسفر إلى الترنسفال رجلًا من كبار الإنجليز، وكانت الثورة إذ ذاك في عنفوان شبابها، وقد بلغ الخطب أشده كما يزعمون، فولاه أمر التحقيق، وأمره أن يسلك فيه سبيلًا أخفى من السر، وأظلم من الكفر، وقال له: لتكن عيونك في نقل الخبر كنسيم السحر، ينقل عن يانع الزهر، وهو لا تدركه العيون، ولا تحيط بمسراه الظنون، وضع أمامك إبرة الخداع، فهي لا تلبث أن تقتادك إلى الحقيقة، ولا يحزنك اجتماع المصريين؛ فالمصري والمصري كشعبتي المقراض ما اجتمعتا على عمل إلا افترقتا، وليس التفريق بين أنامل اليد وقد التصقت بأعسر من التفريق بينهم وقد اجتمعوا، ولا يغمض عنك أن النثرة من النقود تنثر ما في رءوس الزنوج من الأفكار، وأن التفريق عليهم يدعو إلى التفريق بينهم. وليجتمع فيك ما اجتمع في الرمح من البأس واللين، وليكن كلامك كالنفس في كونيه؛ إن شئت لطَّفت به الحار، وإن شئت فالعكس. ولتتخرق كفُّك بالنوال؛ فقد ضمنت رده إلينا تلك المناجم الذهبية التي نحن فوقها الآن، وادع هؤلاء الزنوج وحدانًا، واخل بهم كما يخلو الشيطان بالإنسان، وكن كالدينار لتجتمع القلوب على الرغبة فيك، ولا تنس كلمة أرستطاليس للإسكندر حين نصح له فقال: واجمع بين بِدَارٍ لا خفة فيه، وريث لا غفلة معه. فخرج من عنده وهو يترسم ذلك الأثر ويقول: إن نفعنا الدهاء فاليوم. ولما خلى بنفسه، وجمع إليه كيده، أرسل خلف العيون فألقى عليهم كلمات يعملون بها. ثم أخذ ينظر في وجوه الحيل، ويستنبط أمثل الطرق، وما زال يستمد قريحته، حتى فتق له الذهن أن يبدأ باستمالة الجنود السودانية، فجعل يدعوهم ليلًا على انفراد، فإذا ظفر بأحدهم هشَّ له وأدنى مُتَّكأه وحدَّثه محادثة القرين، وقد طرح عنه أبهة الرئاسة، وجلس معه على بساط المساواة، حتى إذا سكنت نفسه إلى حديثه، وعلم أنه خلَبه بسياسته وكياسته، طارحه حديث الثورة وما كان منها، ثم استرسل إلى ذكر أسبابها فقال: «إن الأمير — حرسه الله — ليتسخط عند سماع هذا النبأ، وهو اليوم واجد على الجيش لانتقاضه على أولياء الأمر فيه، وما غاب عنه أن أولئك المصريين الذين كفروا بنعمته، كما كفروا بنعمة أبيه من قبلُ، هم الذين استهووكم بالأباطيل، فما فعلوا ذلك إلا نكالًا بكم، حين علموا أننا سنبلغ بكم أسمى المراتب، فنجعل منكم الأمراء والحكام في السودان، ثم نمكن لكم في الأرض. وقد علمتم ما لنا من الفضل على الجنس الأسود، فنحن الأُلي نزعنا عنه أطواق الرق والعبودية، ونحن الأُلي ساوينا بينه وبين الجنس الأبيض، كما ساوى الربيع بين الليل والنهار، وما كنا لنعفو عنكم حتى تنكشف لنا بواطن الأمر، فنعرف أولئك المصريين الذين نفخوا في مناخركم، فركبتم رءوسكم، وطاوعتم أهواءكم، حتى إذا أدرك الجزر بحر الهياج، تسللوا عنكم، وخلفوكم بين السخط والعقاب، فاذكروا لنا أسماءهم لتنظروا كيف نمثل بهم، واعلموا أنكم لا ترون بعد اليوم إلا خيرًا، ولا يرون إلا شرًّا، وما مثلنا معكما إلا كمثل لعاب المُزن تصيب منه الأصداف فيكون درًّا، وتصيب منه الصلال فيكنون سُمًّا.» يقول ذلك والقدح لا يكاد يفرغه السوداني حتى يملؤه الإنجليزي، فإذا نال منه الحديث وأخذت الخمر، استملاه أسماء أولئك الذين يزعم أنهم جروهم إلى عدم الانقياد، فيملي عليه ما يحضره من تلك الأسماء، ولا ذنب لأصحابها إلا أنها مرت بخاطر السوداني حين اضطره ذلك الإنجليزي. هذا ما كان يدور عليه فلك السياسة البريطانية مع الجنود السودانية. أما الضباط منهم، فقد وجدوا السبيل إلى استمالتهم بالمواعيد، فكان إذا خلى بهم ذلك القلب طارحهم ما أسلفنا من الحديث، وزاد عليه فقال: «وما كان لنا في جمع الذخيرة من أرب سياسي كما وسوس لكم أولئك المصريون، ولو شئنا — لا شئنا — أن نوقع بكم، لأمرنا بعمل مناورة حربية، فأتلفنا فيها كل ما بأيديكم من الذخيرة وأنتم لا تشعرون، ولكن فلانًا هو الذي ساقه قائد العجلة إلى ركوب هذا الشطط، فكان جزاؤه الخروج من الجيش، فقد أحفظ العميد، وأغضب الأمة، ونبَّه نيامًا لم توقظهم رعود السياسة منذ ثمانية عشر حولًا، على أننا سنردهم إلى سبات لا يقظة معه، بعد أن نبدد شمل الجيش في أقطار السودان، ولنجعلن كل اثنين منهم كالمتآزيين في مستوًى واحد لا يلتقيان، ولسوف يعلمون من منا أكثر مالًا وأعز نفرًا.» ثم يَستَمْلِيه من تلك الأسماء، فيملي عليه ما شاءت الخمر، وشاء الأمل. ولما اهتدى ذلك المحقق إلى ما لا تهتدي إليه الكهنة والمنجمون من معرفة الغيب، وجمع في خريطته ما يربو على الثمانين اسمًا، خفَّ إلى كبيره وقد حمل ظلمًا. فوالذي علم آدم الأسماء كلها، ما اشتملت خريطة المحقق على اسم وصاحبه غير مكذوب عليه. فقال له كبيره وقد نظر في الأمر نظرة الحكيم: إني لا أرى رأيك في عقاب هؤلاء الثمانين، وما جرت الثورة العرابية إلى ما يقارب ذلك العدد، ولكن نضرب عليهم بالقداح، فمن صادف النحس سهمه حق عليه العقاب، ولا تجاوز تلك القداح أنامل الكفين عدًّا، فإذا فعلنا ذلك أمنَّا شر العاقبة، وفُزنا بالغاية من إرهابهم، وما أحسبهم بعد ذلك إلا قد صدفت قلوبهم، وانصرفت وجوههم عن بعضهم بعضًا. ومتى انتهى فصل العقاب، عمدنا إلى النظر في وجوه مطالبهم، فأدخلنا بعض التعديل على قانون معاشهم، وحبونا بعضهم بالنياشين، فينسيهم ما هم فيه من السرور كل ما لحق بإخوانهم من الشرور. ولقد غضب الإسكندر يومًا على أحد جلسائه فأمر بإبعاده وتفريق ماله على أخصَّائه، فقيل له في ذلك، فقال: فرقت ماله على أحبابه لكيلا يشفعوا فيه. وكذلك كان رأي الحاكم العام في إخواننا الذين سبقت لهم منه الحسنى، وفي الأُلَى حق عليهم منه العقاب. خمدت جمرة الثورة التي كان يحدمها الوهم، وسكن بحر الهياج، ووقف فلك العصيان، وعادت أجرام السياسة إلى الدوران، ورجم الثائرون بشُهب من العذاب، فمن يثر اليوم يجد له شهابًا رصدًا. وهدأ زئير الأسد البريطاني، وأصبح حاكم السودان مبرود الغليل، وحمد العميد مغبة الرأي، وقام الواعد بوفاء الوعود، فحلَّى صدر الدجى بكواكب النياشين، وصدرت نشرة المكافآت وما لغير الزنجي فيها نصيب، وآن لنا أن نشرع في ذكر أسباب الفتنة السودانية؛ فقد علمتما ما كان من أدوارها. لقد أراد الله أن تمتد الثورة من كوخ حقير كما امتد الطوفان من التنور، وسببها كلمة خرجت من ذلك الكوخ، فحملتها الريح إلى آذان الجنود السودانيين. كلمة لأَمَة كانت تحت جندي من السودان جاءها زوجها عشاء، فسألته عن أمر يومه، فذكر لها حديث الذخيرة فقالت له: وما عسى أن تكون حالكم إذا صبحكم العدو أو مساكم؟ فلقد أصبحنا سواسية في العجز، وبات الرجال والنساء كأسنان القوارح: تلك هي الكلمة التي مارت لها جزيرة القوم، واهتز العرش البريطاني، وطار نوم حاكم السودان، ومرت أمامه حوادث حرب الاستقلال مرور الصور المتحركة، تلك هي الكلمة التي اجتمع لها البرلمان، وقرر تخفيض الجيش، وحكم على كل مصري فيه بسوء العيش. ولقد كنت أحد أولئك الذين ضرب عليهم بالقداح. ها أنا ذا وليس وراء ما بي من سوء الحال غاية، ولو لم أكن متخرجًا في المدرسة الحربية لكفاني العلم ذلة الفقر والسؤال، ولكنني خرجت منها كأني المعنى بقول من قال: فلقد لبثت في الجيش مع من فيه بضع سنين، فصبرنا على ما لا يصبر على بعضه كل أولئك الذين سُخِّروا لبناء الأهرام، وإقامة البرابي، وما باتت الإنس والجن مطوية الضمير على الطاعة لسليمان كما باتت تلك الجنود المصرية لرؤسائها الإنجليزية. نعم، ولا لاقى جيش الإسكندر في فتوحاته، ولا جيش نابليون في غزواته، بعض ما لاقته هذه الفئة المصرية في الأقطار السودانية. فلو حاول الإنجليز وصل الكرة الأرضية بإحدى السيارات بمد السكك الحديدية، لما وجدوا من يصابرهم على هذا العمل غير ذلك الجيش، فلقد استفرغوا جهدهم لصيرورة الجيش إلى الحال التي تراها، فتمكنوا فيه من النفوس، وحكموا على الضمائر، فلم تخطئهم وساوس الصدور، ولم تفتهم خطرات الأفكار. دخلوا مصر وفي جيشها من هم أولى سابقة في الفضل، وخصيص في العلم، ومن حنكته السن، وغزته التجربة، وخبطته الحروب، فكنت ترى فيهم المهندس الماهر، والكيماوي الباهر، والمحيط بفن الحرب وعلم التكتيك، ممن تذاوقوا معهم سجال الحرب يوم طرقونا، فأشفقوا أن يكون هؤلاء أمام سياستهم صفًّا صلدًا، فزحزحوهم عن أماكنهم حتى أصبح الجيش عطلًا من كل رجل ركين، ثم نظروا فإذا المدارس الحربية تغذوا أشبال تلك الأسود لبان العلوم والمعارف، فهالهم أمرها، وأسرعوا في سلبها كنز علومها، وتجريدها من حلي فضائلها، حتى أصبحت كالأخيذة السليبة. ثم يتَّموها أساتذتَها، وأراد ربك فأمست وهي أشبه شيء بمصانع الدجاج، يدخل فيها التلميذ فلا يسلخ ستة أشهر حتى يغدو وعلى جنبه سيف صقيل، فهو يوم دخل فيها مثله يوم خرج منها، لا يزيد علمه في الحالين عن يوم خروجه من بطن أمه، وما كانت قوة التصوير الشمسي بأسرع في أخذ الصور من تلك المدرسة في تهيئة التلامذة للدخول في الجيش. فأصبحت بفضل القوم كما ترى، وقد جمدت فيها روح العلوم، ونضبت سيول المعارف، وأقفرت غرفها من نجباء التلامذة، وقام ينعق فيها ذلك القائم بالأمر والنهي هناك، وبات يطلبها كل فَدمٍ وجاهل كما تطلب اليوم الضيعة الخربة. يمشي الكبير من الإنجليز في معسكر الجنود السودانية فيعثر بأولادهم وهم يلعقون فضلات الطعام، وكأنهم وقعوا على تمرة الغراب، فيقف عليهم ويتفرس فيهم، ثم يختار من تدركه السعادة منهم فيقذفه بمنجنيق إرادته على أسوار المدرسة الحربية، فلا يحول الحول حتى ترده إليه وعلى كتفه نجمان من نجوم النحوس، فيغدو اليوم حاكمًا على مَن كان يلتمس فضلات طعامهم بالأمس، وربما كان فيهم عمُّه وأبوه. ويمر ذلك الكبير من الإنجليز على الجنود وهم على مصافهم قيام، فيروقه منظر أحدهم، ويعجبه حسن سمته، وما هي إلا لفتة منه إلى كاتم سره حتى يمسي ذلك الجندي تلميذًا، فلا يهل بالمدرسة شهرًا حتى يوافي إخوانه من الجنود وهو يجر سيفًا لولا الغمد يمسكه لسال خجلًا. شكا ضابط مصري إلى كبيره وهو يحاوره من سوء العيش، وجفوة الرؤساء، وكثرة الأتعاب، وقلة الأعطية، فأجابه الإنجليزي وقد أمال سالفته تيهًا، وثنى عطفه كبرا: إذا أصبح السردار وقد أراد أن يملأ غرف المدرسة الحربية وفناءها من التلامذة، ألا تتم له تلك الإرادة؟ قال المصري: بلى، فلا يكلفه ذلك غير النشر في إحدى الصحف حتى تتواقع التلامذة على بابها تواقع القطا على المنهل العذب، قال الإنجليزي: لهذا أنتم فيما أنتم فيه من البلاء، فهو إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، ولو عاف المصريون ورود هذا المورد، وانصرفت وجوههم عن ذلك الباب، وعزفت نفوسهم عن الولوج فيه؛ لأصبحتم من الإعزاز بحيث نحن الآن، ولكن أنى يكون لكم ذلك وما فيكم إلا من هو معنيٌّ بقول ذلك الشاعر الجاهلي: لذلك تكسرت في المصري الأظفار، وبات مهضوم الجانب، غير مرعي الجناب، يعتوره الذل والخور، وتأخذه سوء القالة، وهو كأنه العمر كلما مر به يوم لحق به النقص. ينظر المصري إلى الإنجليزي وهو كأنه ينظر إليه بالنظارة المعظمة، فيكبره رهبة وإجلالًا، ويتضعضع لرؤيته، وينظر إليه الإنجليزي بتلك النظارة وقد عكسها، فيصغره استخفافًا بشأنه، ويطيل عتاب الخالق الذي فطره على شكله وصورته، ومنحه نعمة التنفس في جو يتنفس الإنجليزي فيه، وهو إن خاطبه خاطبه بلسان لا تجري عليه كلمة تستروح منها روائح الرفق، أو بإشارة يخالطها الجبروت، ويزدهيها البطر. هذا شأن القوم مع الصغار من الضباط. أما الكبار منهم — كبار الرتب والأجسام، لا كبار النفوس والأحلام — فحالهم إلى الرحمة أدعى منها إلى اللوم؛ فلقد سقاهم ساقي السياسة الإنجليزية كئوسًا من منقوع الرعب، فإذا نظر أحدهم بعض كبار القوم أو صغارهم، وقف أمامهم وقفة الجواد وقد رأى الليث، حتى إذا صدر له أمره بشيء كاد يخرج من ظله سرعة لإمضاء ذلك الأمر، فهو إلى إجابة داعيهم أسرع من الصدى، وهو على حفظ أمره أحرص من الفونوغراف على حفظ الصوت. اللهم إن العيش مع الأبيضين وإن أبرد العظام، أروح للنفس من عيش ضباطنا العظام، تراهم وكأن أكتافهم سماء الدنيا وقد تزينت بالنجوم، فيروقك ما ترى ولو كشفتهم لرأيت تحت تلك السماء أفئدة هواء: قال صاحبي وهو مقبل عليه: إني أراك موتورًا، فلا بدع إذا بالغت في النعي على القوم فيما يذهبون إليه من ضروب سياستهم. قال البائس: وما عسى أن تقول إذا حدثتك عن حياة الضابط الإنجليزي في الجيش المصري. يهبط أحدهم مِصْر فما هو إلا أن يشم نسيمها حتى يقابله الآمر بمنصب في جيشها. فإذا سما من رتبة المأمور إلى رتبة الآمر، وأصبح عطاؤه الذي كان لا يتجاوز أيام الأسبوع عدًّا، وقد تجاوز أيام الشهر، ونقلته كيمياء القوة من معدن يُرغب عنه إلى معدن يرغب فيه، وقذفت به يد الطمع من مناجم الفحم إلى كنوز الذهب، وهبت ريح سعوده، ونسي جلود جدوده. نظر إلى المصري تلك النظرة التي أسلفنا وصفها، وقد جعلوا ثوابًا لمن يتعلم العربية منهم في وقت وجيز، فترى قادمهم يصطفي بعض التراجمة أو المتزلفين من الضباط فيأخذ عنهم مبادئ اللغة، ولا يبدأ فيها إلا بحفظ كلمات الهجر والفحش، فإذا وعى منها كلمة وأراد استعمالها فيما وضعت له، أسرع إلى المصري فجبهه بها عن غير ذنب، فتخرج من فيه وهي كأنها حجارة المنجنيق، فإذا أنَّ لصدمتها ذلك المسكين أوسعه سبًا باللغة الإنجليزية. كذلك نصيب كل مصري يخاطبه الإنجليزي بالعربية، ولم يفهم مقصده لتعذر النطق عليه، أو لعذوب الكلام عنه، أو لإيراده على طريقة النطق الإنجليزي، فينطقه بلسان يرتضخ إنجليزية، وحلق كأنه يقيء. ولقد مررت ببعضهم وهو يكاد يقطر غضبًا، وينشق غيظًا، وأمامه مصري قد انفجر في وجهه بركان الغضب الإنجليزي، فبحثت في الأمر فإذا الإنجليزي حديث العهد باللغة. والويل لمن يقع تحت سيطرة الإنجليزي قافلًا من الهند، فإن رجله إلى لكز من يخاطبه أسرع من لسانه إلى سبِّه. ومن لم ير نعيم الدنيا أو يذق عيش الترف، فليقدم الجيش، وينظر الإنجليزي في لين عيشه، ورخاء باله بين مبتسم زمانه، وعز سلطانه. إذا صاح ابتدرت صيحته الألوف، وإذا مشى قامت إجلالًا له الصفوف، وإذا لبس القلنسوة كانت لها في النفوس رهبة التاج، وإذا غضب تقطعت لخوف بطشه الأوداج. يهب من نومه فترامى الخدم على خدمته، كل في شأنه الذي نصب له، فإذا قضى لبانته من مأكله ومشربه وملبسه، قدِّم له الجواد فاستوى عليه، ومضى متباطئًا إلى حيث الجنود مصطفة للتدريب، غير مبالٍ بانتظار تلك المئات، ولا بما يلحق بهم من السأم والملل إذا تأخر أوان تجليه عليهم إلى وقت الضحى، وهم يرتقبونه والليل والصبح خيطان، فإذا صار بحيث تراه العيون سجدت السيوف، وقامت البنادق، وخفتت الأصوات، وجمدت الشخوص، وسكنت الأنفاس لسكون النسيم إجلالًا للقادم، ورهبة للمقبل، وما أسعدهم إذا أجاب على كل هذا بإشارة من رأسه أو من يده، ثم يخترق الصفوف بجواده بهيئة المتفقد، وخلفه أكبر ضابط مصري يكتب عنه ما يملي عليه من ملاحظاته، ثم يركض جواده ملء فروجه إلى ملعب الكرة، بعد أن يرسم لمن ينتدبه مكانه خطة التدريب في غيابه. ومن رآه وهو عائد من ملعبه يجر خلفه الصولجان، وقد أخذ منه الجهد ظنه منقلبًا من إحدى مواقع حرب البوير بعد عراك وصدام، وتعانق والتحام، وروغ وأقدام. قد رنحه الضرب، وأثملته الحرب، يجر من ورائه رمحًا قد جمد عليه النجيع بعدما سالت النفوس. وتحين ساعة عودته إلى مقر حكمه، فيغير من زيه بعد أن يقطع صدر يومه على مائدة الصباح، ثم يوافي ديوان نهيه وأمره، ومظهر علو قدره، فيتربع في دست جلاله، فما سليمان على بساطه، ولا كسرى في إيوانه، بأكثر جلالًا في الصدور، ولا أشد رهبة في النفوس. فإذا قعد للمظالم، والأخذ للمظلوم من الظالم، فهنا لا تسل عن الميل والإجحاف، وسل عن العدل والإنصاف. والويل للمصري يستعدي عليه الزنجي الحاكم الإنجليزي، فإنه مدفوع به إلى أقصى درجات العقاب، قبل أن يعلم الأسباب، فأي مصري لا يفتأ يضرع إلى الله أن يصبغ لون جلده بسواد جدِّه؛ ليخطو إلى السعادة هذه الخطوة، ويحظو عند القوم بتلكم الحظوة. والإنجليزي في الجيش مشغوف بحب الأسود من الألوان، عاملًا بقول الشاعر الحكيم: ولو أنه انقلب إلى بلاده في عهد الحرب البويرية، لرأى ما يروق لعينه فيها من تلك الخرق السوداء؛ خرق الحداد التي تتجمل بها الأذرع هناك، وقلما ترى العين ذراعًا غفلًا منها منذ كانت الحروب الترنسفالية، فيسأل الله دوام تلك الحروب؛ ليدوم عليه وعلى أمته سوادها. وهذا أديم الليل، فليقدوا منه ما استطاعوا إذا أعوزهم النسيج، وعزت الألوان. ثم يعود إلى داره، فينغمس في حوض من الماء، فإذا تم ابتراده فيه تحول عنه إلى المائدة، حتى إذا امتلأ عمد إلى مجلس الشراب، واسترسل فيما هو فيه إلى قبيل تطفيل الشمس، ثم يفزع إلى بارودته فيحتقبها، وينطلق للتصيد في الأودية والغابات وخلفه الكلب والخادم، ولا يعقب حتى يلوح سهيل. هذا كل ما يفعله الإنجليزي في يومه، وهذه عيشته، وتلك حالته. أما الجندي الأشقر؛ صاحب الرداء الأحمر، والعيش الأخضر، والطالع الأزهر، فعيشته أعجب، وسيرته أطرب. يؤتى به من جيشه وهو من عامة الجند فيه، عاطل الذراع، خفيف المتاع، فإذا قدم مصر ليلًا أبى أن تشرق عليه شمسها حتى يكون رئيسًا لمكتب إفرنجي يعنو لأمرته كلُّ مَن فيه من مترجم وكاتب، ثم تسيل له أودية الميزانية بالعطاء، وتفتح أبواب الخزائن، فيمنح من النقود ما شاءت القوة، ومن النفوذ ما شاءت السياسة، حتى يصبح محل الثقة، وموضع السر، ومحور الأشغال، وقطب التنقلات، ومركز التغيرات، فلا يبرم الحاكم الإنجليزي أمرًا دون استشارته، فإذا دخل فيه العُجب، وغلب على نفسه الزهو، نظر إلى المصري تلك النظرة التي أسلفنا نعتها، فتتقاطر على بابه فئات المتزلفين، وأرباب الحاجات، فمن كان له به دخل أو خاصة، كان السعيد المحبو، ومن صلى لغير تلك القبلة كان الطريد المجفو. وأعرف واحدًا منهم قد استطرد به جواد السعادة حتى أصبح قومندانًا لحملة الجيش، وآخر قد سما به سلم العز حتى أصبح من السردار قاب قوسين أو أدنى، وهو اليوم بالسردارية واضعًا إحدى قدميه على العسكرية، والأخرى على الملكية، تجري على سن قلمه أرزاقهم، وتدور على طرف لسانه تنقلاتهم. قال الراوي: ثم سكت قليلًا واستأنف الحديث قائلًا: ولو أنني حدثتك عن ذيل الثورة وما كان فيها من أمر الخائنين منا، لأضفت إلى عجبك من تغطرس الرؤساء استياءك من تدابر المرءوسين. قال صاحبي: وما عسى أن يكون ذلك الذيل؟ قال البائس: مخزية أتى بها مصري، وماذا أقول فيه والزمان أكثر منه وفاء بالعهود؟! خرج من الثورة خروج القدح المنيح، فكبر عليه الأمر، وقد كان ليث كتيبة الجواسيس. على يده خربت تلك البيوت في شهر البؤس، وبيده فتحت تلك الزجاجات في شهر النعيم، وهو أول من طرق الباب على كبيره، وخبَّره بما سمع وما رأى، وأول من دخل في نسبة القوم، فكانوا إذا ذكروه وأعماله قال: ما رأينا غرابًا أشبه بغراب من هذا بنا. قال في نفسه: لقد زجرت يد القدر طيري بالنحوس، ونسي القوم ما قدمت يداي، وما كان أشبهني بالعافية تذكر عند المرضى، حتى إذا زالت عوارض السقم سن صاحبها ذلك الذكر. فوالذي جعل إبليس من المنظرين لآتِينَّ عملًا تأنف الحفظة أن تكتبه عليَّ، ولأعقدن عقدة تحل لها العزائم، فما حقد الخصيان على الفحول بأبرى للصدور من حقدي على هؤلاء الذين فازوا بنعمة المكافآت دوني. ودخل بيت كبير الجيش وهو ظالم لنفسه، قال: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ. منذ حول دعاني سلفك، وقد نما إليه أن جماعة من المصريين ممن ينطوون لكم على غير الجميل، قد قاموا بتأسيس جمعية وطنية تحت كبير من ولد إسماعيل باتت تظلله القلوب، وتحرسه الخواطر. قاموا بتأسيسها منذ خمسة أعوام، وأخذوا في الدعوة إليها حتى اتسعت هالتها، وهالني أمرها، ثم أمرني بالغوص على أسرارها، والوقوف على أمرها، فقمت بتنفيذ مشيئته. وما زلت أخالط الضباط وأنا في لباس من الرياء والتظاهر حتى ظفرت بصديق قد آنس إلى صحبتي، وسكن إلى مودتي، فأكثرت في مسايرته ومجاملته، وسرت أطارحه حديث الوطن، وأبتهل إلى الله ودموع الخداع تتناثر على خدي، وما زلت به حتى سللت نفسه، واختلست لبه، فشفت لي سرائره، وأحطت علمًا بما في قرارة نفسه، وتناولت ما وراء ضميره. فعلمت أنه فرد من أفراد تلك الجمعية، فاسترشدته فأرشدني، وما كاد يستقر في نفسي هذا العلم حتى عدوت لا ألوي على شيء، فطرقت بابها، وساعدني الجد، فغشى الله أبصارهم، وطمس بصائرهم، فأفسحوا لي بينهم مكانًا، وأقسمت لهم يمينًا، وما زلت بهم حتى استفرغت أسرارهم، واستبطنت أمورهم، ووقفت على ورقة التراسل بينهم. وما هي إلا أن سقطت في يدي، حتى تمنيت لو مسخني الله طائرًا، فطرت لساعتي ووقعت في حجر ذلك الكبير. ولما أقبل الليل في لون صحيفتي، رغت روغة فإذا أنا أمامه، فرفعت إليه كل ما وصلت يدي إليه من أخبارهم، فسر حتى عجز عن مداراة سروره. وحال الحول ولم أعلم شيئًا عن أحوالها، وكأنه طوى كشحًا عنها، وتثاقلت أنا الآخر عن تعهُّدها، حتى وقعت حادثة الذخيرة، فقلت في نفسي: ما لهذه الحادثة بدٌّ من سبب، فأطلت البحث، فما زال يقتادني حتى وقف بي على باب تلك الجمعية، وأكبر ظني اليوم أنها أمٌّ لتلك الحوادث، فصحَّت عزيمتي على لقائك وإطلاعك على باطن الأمر حتى تحتاط له، ولا زلت صاحب النظر الأعلى في الأمور. وخرج من عنده وما أدري كيف لم تغربه الأرض ولم ترجمه السماء، ولولا أنني أعلم ما أعد الله له في لوحة البشر من آجل العقاب، لعجبت من حلم الله، فسبحان من وسع حلمه كل شيء! فلقد أجَّل عقاب هذا الأثيم إلى يوم لا تنفعه فيه شفاعة العميد، ولا تغني عنه أساطيل القوم شيئًا؛ يوم يسبح معهم في بحر من العرق كما يسبح اليوم في بحر من الغرور. قال الراوي: ثم أمسك عن الكلام، فقال صاحبي: حسبك ما ذكرت من أمر القوم، فإني أراك تهم بذكر ما ينبغي أن يدرج في أثناء النسيان، فإن كنت لا تزال تعاظم الناس بمصيبتك، فهؤلاء أهل دنشواي قد نسخ ما نزل بهم من العذاب كل ما سلف من أعمال القوم منذ حرقوا (جان دارك) إلى يوم أصْلَوا أهل الأزهر النار، وألقوا بمقاليد الأمر إلى هذا المستشار. فما تلك بيمينك أيها الموتور؟ يستغرب القراء أن نجمع بين هذين الوصفين لموصوف واحد؛ لما يظهر من أن العنف يكون مع القوة، وهي لا توجد مع الضعف في شيء غير متعدد ولو بالاعتبار. أما نحن فنقول: إن العنف قد يكون مظهرًا كبيرًا من مظاهر الضعف، وخصوصًا في سياسة الأمم وحكمها؛ كصفة الكبرياء للتكبر، فإنها لا تكون في الشخص إلا حيثما يذهب شيء من فضائله ومزاياه، فيحل الكبر بهذا الفرع؛ ليكمل صاحبه علاءً في زعمه. وخذ الشراسة مثلًا في بعض الناس، فإنها توجد حينما يعوز المرء شيء من مزايا حسن النظر، وضبط النفس، وسعة الصدر، فتحل الشراسة محله؛ ولذلك تجد أضيق الناس صدورًا من يسب غيره، وأقلهم مقدرة على الإقناع الخطابي من يصيح في وجه محدثه ليحمله على قبول رأيه. كذلك العنف وقوة البطش في حكم الأمم يحل محل حسن السياسة، وقدر المسئولية قدرها في كل عمل. وقلما ترى سياسيًّا محنكًا قادرًا على تصريف الحوادث بالحسنى، والاستنتاج منها بقدر ما تعطيه مقدماتها، إلا كان عادلًا حليمًا بعيدًا عن فعال الظالمين. ••• لا نذهب بالقارئ بعيدًا بضرب الأمثال عن الموضوع الذي نحن بصدده، فهذه مصر يدير دفة سياستها وإدارتها المحتلون من الإنجليز منذ ربع قرن، وهم يقلبونها على كل وجه من وجوه النظام محوًا وإثباتًا، وتبديلًا وتعديلًا، ورفعًا ووضعًا، فلم تكن أمة ألين عريكة، وأطوع في يد العامل منها؛ تشكر حسن الصنيع، وتصبر على الإساءة. ولو كان اللورد كرومر في غير مصر لمج السياسة، وملَّ أن يقيم في قطر واحد مثل هذا الزمن الطويل، حتى قيل إنه فضَّل مرارًا أن يكون قنصلًا جنرالًا في مصر عن أن يكون سفيرًا لدولته في أعظم العواصم الأوروبية، بل فضل هذه الوظيفة على أن يكون عضوًا في وزارة الأحرار، ولو شاء ذلك لحفظ له مركزه في الوزارة الحاضرة. وما ذلك إلا لأنه في مصر يعمل كالملك المطلق الإرادة، لا يشوش عليه مشوش من المراقبات الشديدة، ولا ينغص عليه منغص من الحوادث المزعجة. قضى كل هذا الزمن طيب الخاطر، هادئ البال، قرير العين بهذا السلطان القوي الذي يدير به دولاب الحكومة المصرية، وقد لقي من الأمة مهادًا طريًّا، ومن أمير البلاد مسالمة مرضية، ومن الوزارة استسلامًا ليست العبودية أوفى منها في العبد لسيده. ولكن اللورد في حكومته كان ككل حاكم مطلق يحتاج إلى الأعوان الذين يساعدونه. ومن عادة الملوك أن يختاروا في كل دور من أدوار حياتهم الأعوان الذين يوافقون الظروف؛ ففي دور كان مع اللورد كرومر أعوان مثل الجنرال جرنفيل في الحربية، والكولونيل منكريف في الأشغال، والسير سكوت في الحقانية، والسير إدجار فنسنت أو بالمر وملنر أو غورست في المالية، ثم الداخلية. وفي دور كان معه المستر ماتشل في الداخلية، والمستر كوربيت في المالية، والمستر دانلوب في المعارف، وهلم جرًّا. ولا خلاف في أن هؤلاء يختلفون كفاءة، كما أنهم يختلفون استقلالًا في الرأي مع اللورد، بل مما لا خلاف فيه أن أعوان جنابه في هذا العهد كانوا في وظائف مصرية صغيرة أو صغيرة جدًّا، ثم ترقوا بحسن عناية اللورد وعظيم رعايته، فله عليهم يد الفضل أكثر مما لهم عليه من يد المعونة الكبرى. والزمن الذي كان السير سكوت لا يقبل كل رأي يشار عليه به من الوكالة الإنكليزية في التشريع والقضاء، ويقول إن النظامات القضائية لا تحكي بناء القناطر، وتشييد الجسور قد ذهب بذهابه، وجاء الزمن الذي يضع فيه أساس الإدارة الداخلية في البلاد كلها، ويقول بضرورة الانقلاب العام، وإحلال العنف فيها محل العدل من كان قبل بضع سنوات ضابطًا عسكريًّا صغيرًا يؤدي وظيفة عسكرية محضة. نحن لا نطعن على كفاءة عامل، ولكن نقول بالإجمال إن الذين يتولون إدارة البلاد الآن أعوانًا للورد كرومر تنقصهم تجارب كثيرة، وخبرة كبيرة بأحوال البلاد، حتى يكونوا بعد ذلك منظمين مصلحين، ولا يمكن أن يكون اللورد عاملًا بذاته في كل مصلحة؛ لأن المراقبة العامة تشغله عن المراقبة الخاصة. فإذا حدثت حادثة غير منتظرة في البلاد، حالت بينهم قلة الخبرة وبين تكييفها بحقيقتها، فأعطوها غير حكمها، وبنوا على حدوثها تغييرًا وتبديلًا في النظامات، قد يبعدان بها عن محجة الصواب بعدًا شاسعًا. وكلما سأل جناب اللورد واحدًا من أولئك الأعوان عن سبب حادث ما، أجابه بقدر ما يعلم بالرأي الفطير، فأمره بناء عليه بما يأمر الطبيب ممرضًا يخطئ في أعراض سير المرض والطبيب غير مسئول. فالبلاد سائرة والحالة هذه بآراء أولئك الأعوان على غير خبرة كافية منهم، وبالأوامر المطاعة من جناب اللورد كرومر. وحيث اختلفت حواس السمع والبصر والبيان، اختلفت نتائج الحكم على الأشياء. هذا هو سبب الاختباط الحاصل الآن في إدارة البلاد، وعيوب هذه الإدارة تزداد وضوحًا يومًا بعد يوم، فيوجد في عناصر السياسة المصرية الآن فراغ كبير من حسن النظر والحكمة هو الذي يراد سده بالعنف، والخروج عن منهج الدستور الذي تحكم به البلاد. ومن سوء الحظ أن الدستور وجد ناقصًا في ذاته نقصًا يقولون إن طبيعة البلاد اقتضته، وللورد كرومر في هذا المعنى فلسفة طويلة عريضة في عدة أبواب من تقريره الأخير، حكم فيها حكمًا قاسيًا على استعداد الأمة، وقلة استعدادها للنظامات الدستورية الكاملة. وأضف إلى ذلك الاختباط وسائط شتى تحيط بالوكالة الإنكليزية وكبار موظفي الإنكليز، جعلت همَّها تأويل كل حادثة في مصر بما يوسع مسافة الخلف بينهم وبين المصريين، وتحريف كل كلمة تكتب في الصحف المصرية بما يسوء سمعه، حتى تبقى لهم وظيفتهم على الدوام مصدر نعمة وخير. فلو وجد محللون كيماويون سياسيون خبيرون يحللون عناصر الحوادث التي تحصل في مصر — ويكون لها سوء تأثير عند المحتلين — تحليلًا حقيقيًّا يردون به كل جوهر إلى أصله، وكل معلول إلى علته، وكل نتيجة إلى مقدمتها، ولو وجد من الإنكليز في وظائفهم من لا يخدعهم تحريف المحرفين — والمحتلون أكثر الناس انخداعًا بزخارف المموهين كما قال المرحوم الشيخ محمد عبده؛ مفتي الديار المصرية سابقًا — لما انعكست آية ما بين أبناء البلاد وأولئك المسيطرين. ••• انعكست تلك الآية إلى حد أن يظنوا أن حادثة دنشواي أثر من آثار التعصب الديني القائم الآن بين المصريين والأوروبيين، وهو ظن باطل إن لم يكن خطأ مقصودًا بالذات؛ لتخفيف شناعة ما فعله رجال الاحتلال في هذه الحادثة لدى الرأي العام الإنكليزي. والقارئ لما نشرناه نقلًا عن جريدة التيمس، يرى كيف كان مركز ناظر الخارجية حرجًا في البرلمان وهو يسأل عن نقط كيفية تنفيذ الحكم على الصورة الفظيعة التي حصل بها، فلا يجد له جوابًا سوى أن يعد بالجواب فيما بعد على هذه النقط. سألوه هل حقيقة كان تنفيذ الحكم جهارًا نهارًا على مرأًى من أهل المحكوم عليهم نساء ورجالًا؟ سألوه هل حقيقة كان تنفيذ الحكم بكيفية أن يشنق المحكوم عليه بالإعدام، ثم يبقى معلقًا على مرأًى من بقية المحكوم عليهم به وبالجلد حتى يجلد اثنان؟ سألوه هل حقيقة كان الشنق والجلد على مرأى من الأهل يبكون والنساء يندبن ويعولن؟ سألوه هل كان التنفيذ بواسطة الكابتن متشل؛ مستشار الداخلية (لأنه لا يزال برتبة كابتن في الجيش الإنكليزي)، وقد وصفوه وصفًا مهينًا جدًّا، كما يرى القراء في محضر جلسة البرلمان المنشور اليوم نقلًا عن التيمس. سألوه عن أشياء من هذا القبيل، فكان لا يستطيع أن يجيب بالإيجاب، وهو يعلم أن كل ما سألوه إياه واقع لا ريب فيه، وكان كل ما يقدر عليه في هذا الموقف الحرج أن يعد بالجواب ريثما تأتيه التفصيلات الوافية في ذلك. ولو أجابهم بالإيجاب في ذلك الموقف لساءت حالة الوزارة، وساء حال كبار المحتلين في مصر بما لا يعلم إلا الله نتيجته. ••• على أن اللورد كرومر وجد من هذا المضيق الخطر فرجًا له ولوزير الخارجية في جلسة تالية، فاتَّهم الأمة المصرية كلها بالتعصب الديني على الأوربيين، وقال: إن عمل الحكومة المصرية في حادثة دنشواي كلها كان عملًا استثنائيًّا؛ إخمادًا لثورة خفية في الطبقة النازلة من الأمة. وهدد مصر بمعاملات جائرة، ربما اضطرت لها الحكومة اضطرارًا، وكان هذا ختام فصول الرواية في البرلمان، الذي ترجح عنده الآن أن الأمة المصرية كلها أثيمة مجرمة، لا أهل دنشواي وحدهم، وأن مركز الحكومة الإنجليزية يحف بالأخطار الهائلة إن لم يطلق لها السراح للنهاية في استعمال كل ما تريد استعماله عند الحاجة، مخالفًا للدستور ولطرائق الأمم المتمدنة. ••• ما الذي أوجب اللورد كرومر أن يدافع عن نفسه وعن بقية أعوانه في البرلمان بهذا السلاح الخطر المضر بمصر وأهلها؟ ما الذي أوجب القائمين بإدارة مصر الآن أن يلجئوا إلى هذا العنف المودي بأهلها اتهامًا؟ ما الذي اضطر ناظر الخارجية أن يهدد الأمة المصرية في مستقبلها مثل هذا التهديد؟ أوجب ذلك كله ضعف في سياسة القوم يحاولون سد فراغه بهذا العنف الشديد. ولكن حنانيك أيها اللورد الكريم، وعطفًا أيها العامل المصلح، الذي ما عهدناه يريد لمصر غير الخير والفلاح! وإنصافًا أيها الرجل الشريف النزيه، الذي لا يرضيه أن تضحي مصلحة أمة شكورة، تعرف الجميل لصانعه ولا تنساه، حنانيك أيها اللورد أن يخدعك عجز أعوانك فتحكم خطأ على أمة كتبت صحف تاريخك فيها بيضاء، فتعكسها آية انتقام لا محل له منك بما تجره عليها من الويل والثبور في مصير الأمور. ولما انتهى من القراءة قال صاحبي: لقد أحسن الكاتب، وأصاب الناقد، فغمز بقلمه مكامن الضعف من تلك السياسة، وحسبنا الساعة ما سمعناه، على أنني لا أرى رأيه في النعي على هؤلاء المحتلين فيما يذهبون إليه من مذاهبهم في ضروب الاستعمار، وفنون الاستثمار. إنهم دخلوا في الأرض أصابوا فيها أنعامًا سائمة فاكتسحوها، وقطعانًا سارحة فاغتنموها، ولو أنهم أصابوا نفوسًا تشعر، وأعصابًا تحس؛ لما بلغوا بها المبلغ الذي تراه. أرأيتك كيف يجمل بهم وهم أبطال السياسة وفرسان الدهاء أن يوقظوا بأيديهم هؤلاء النيام، أو يحركوا بقوة العلم هذه الأصنام؟ فمن ذا الذي يقف بعدوه على سبيل الرشاد، أو يمهد لأسيره طريق الفكاك. إنما تلك شمائل الأنبياء، وخلال الأصفياء، لا فرق عندهم بين العباد في سبيل الهداية والإرشاد. قرأت في قاموس وضعه أحد الحكماء من شعراء فارس ألبس فيه الحكمة ثوب الهزل؛ لترغب فيه العامة، ولا ترغب عنه الحامة (الخاصة)، فكان مما استوقف نظرتي، ولفت فكرتي، قوله في تفسير لفظة النبي: «فسرها بالمحب لأعدائه.» وأنك لا تجد — فيما أعلم — بين هؤلاء الناس مهما اختلف القياس من يحب عدوه، ويرجو له الهداية، اللهم إلا تلك الطائفة التي اصطفاها الله فنزَّهها عن الأغراض، وطهَّرها من الأحقاد. والقوم ليسوا — بحمد الله — من تلك الطبقة حتى نحسن الظن بأفعالهم، ونريدهم على أن يعملوا على صلاح عدوهم، فلا تعضنَّهم بأنياب الملام، ودعنا الساعة من ذكر السياسة، فإنني أخشى أن ترتفع أذيال الظلام قبل أن نقضي اللبانة من رؤية تلك المراقص. ثم ودعناه وعطفنا على المرقص، فما هو إلا أن أحلَّنا حتى نظرنا، فإذا امرأة نصف قد تبذلت في لباسها حتى خرج بها التبذل عن أفق الحياء، تكاد تتزايل من فرط التمايل أعضاؤها، وينعقد من شدة التهييف خصرها، فهي تلتوي التواء الحية الرقطاء، وتضطرب اضطراب السمكة حيل بينها وبين الماء، فأجال صاحبي نظرة في أنحاء المرقص ألمَّتْ بجميع ما فيه، ثم دعاني إلى النهوض فنهضت، وما كدنا نجاوز الباب حتى أنشأ يحدثني فقال وهو يخافت من صوته: إني نظرت فما كاد يرتد إلي طرفي حتى ألممت بجميع ما يقع بين تلك الجدران من أسرار هذه المخازي العصرية. قلت: وما عسى أن يكون قد كشف لك منها في هذه اللمحة اليسيرة والنظرة القصيرة؟ قال: رُبَّ نظرة عجلَى تنقطع دونها سوابق الأفكار، وتنكشف أمامها غوامض الأسرار. نظرت في تلك الصفوف فلم ألمح إلا رءوسًا مصرية، وأزياء شرقية، ثم نظرت فإذا الذي يحمل المدام، ويقف موقف الغلام، لا يخرج رأسه عن أفق تلك الرءوس، ثم تنقلت بالنظر إلى الناقر على الدف، والنافخ في القصب، وحاضن العود، وحامل المبذل، وصفعان القوم، فإذا كل أولئك من أولئك من أولئك، ثم أسرعت باللمح إلى تلك النسوة المتبذلات، فإذا جميعهن من المصريات، فأحزنتني الحال، وزادني حزنًا أن رأيت أن المحتلب لهذه الجيوب، والذاهب بتلك الأرباح رومي غير مصري. فهب أن المصري قد أعياه أمر النزوع عن تلك الشهوات، أفلا يعرض له فكر الانتفاع بما يقع وراءها من المنافع، واسترداد هذا المال الضائع! عجبت له؛ أيذهب هو بالإثم، ويذهب بالمنفعة سواه؟! فما ضره — قاتله الله — لو ضم تلك إلى ذاك، فقام بعمل الرومي وخرج من جدث هذا الجمود، ونفض عنه غبار ذلك الخمول؟! قلت: لقد أصبت مواقع الرأي، ولكن الذين تطول ذلك أيديهم من أبناء وادي النيل ليشمخون بأنوفهم عزة عن معالجته؛ لأنهم يرون أن العار كل العار في النزول بالنفس إلى تلك المنزلة. وسيدي يعلم — نفعنا الله بعلمه — أن هؤلاء المصريين وإن تقلبت بهم أحوال غير جميلة، فسُلبوا من الهمة بقدر ما رُزقوا من الخمول، لا يزالون يحفظون في ثنايا النفوس بقية من شمم الآباء، ويخفون في قرارتها صبابة من ذلك الإباء؛ ولذلك ترى المصري كائنًا من كان يؤثر حبس ماله عن استثماره والانتفاع به في أمثال هذه المخازي، فسلوته — على ما أرى — قد أصبحت في الحرص على حياة تلك الذكرى في نفسه، فإنك لا تجد في خلق الله من يسرك مظلومًا من غيره، ويرضيك ظالمًا لنفسه. اللهم إلا هذا المصري المسكين، على أن سيدي — حفظه الله — قد نظر إلى الأمر نظرة عمرانية، فعزَّ عليه أن يرى المصري مأكولًا غير آكل، وقد ألمَّ صاحب المنار الأغر بما نحن فيه، فكتب في ذلك وأبدع. وقال ﷺ: «لعن الله شارب الخمر، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها.» وقد احتمل أكثر المسلمين في مصر كل هذه اللعنات إلا اللعنة الأخيرة، فإنهم حملوها للأجانب، وأعطوهم أجرة حملها الملايين من جنيهات، والألوف من الفدادين. قال صاحبي: ألا ترى أنني كأني نظرت إلى ما كتب بلحظ الغيب، وهذه أمة الفرنسيس — وهي أعرق الأمم مدنية وأقدمها حضارة — لا يزال يرى فيها الرائي من المخازي العصرية أضعاف ما يجده في أمة النيل! ولكن أفرادًا منها قد انبروا إلى التقاف ما تطوح به أيدي المستهترين في مهاوي تلك المخازي، فلا يكاد يخطئهم دينار أو يفلتهم درهم، وقلَّ أن يذهب الغريب في بلادهم بغير الصَّدِئ من تلك النقود. قلت: لقد أجمع المشتغلون بعلوم الاقتصاد على أنه ينبغي أن تترك الأعمال لأربابها، فإذا نظروا إنسانًا مضطلعًا بعمل من الأعمال نابغًا فيه، تركوا له أمر الاشتغال به لينتفع وينفع، وعلموا أن الرومي لا يُجارى في حسن القيام بشئون المنتديات والمراقص، وأنه لا يبارى في الصبر على احتمال ما هو فيه، فأفسحوا له في بلادهم مكانًا، وكانوا له عونًا على انتشار صناعته. هذه باريز على تسابق أهلها وتناحرهم في شئون الحياة، لا تزال ترى في هنَّا وثمَّ منها أماكن للأروام بديعة النظام، لا يزاحمهم فيها مزاحم، اللهم إلا نفرًا من أهلها قد أودعت فيهم طبيعة الاستعداد الرومي، فشاركوهم في صناعتهم، وصابروهم على احتمال ذُلها. قال صاحبي: كان يكون ذلك شبيهًا بالحق في أمم الشرق لو أنهم تركوا مالًا يضطلعون به، وأخذوا فيما فطروا عليه من الاستعداد بالقيام به، ولكنهم تركوا كل شيء، وزعموا أنهم عاجزون. ظنوا بهذا الغربي الكمال، فألبسوه ثوب الإجلال، وغلُّوا أيديهم عن تناول ما يطمح إليه نظره، وحبسوا أفكارهم عن السَّبْح فيما يسبح فيه فكره، قلت: إني أرى مولاي قد قتل شئوننا بحثًا، فليس لي فيها ما أقول. ومرت بنا فترة ونحن سكوت حتى إذا صرنا أمام قصر فسيح من قصور الأغنياء قد خيَّم عليه الديجور، وسكن سكون القبور، نظر إليَّ صاحبي نظرة أدركت مغزاها، فقلت: إنه قصر لغني همه الجمع، وشيمته المنع؛ فهو لا يخشى المعرَّة، ولا يعرف سبيل المبرَّة، وقد بلغ من حرصه على الدانق والحبة أنه إذا أغلس استصبح في داره بالنجوم؛ لذلك لا ترى في فنائها قنديلًا، ولا يعرف الطارق إلى بابها سبيلًا. على أنه قد أفنى ثلاث عمائم ألوانًا، فوقف على أبواب الفناء، وهمَّ سراج حياته بانطفاء. قال صاحبي: عجبت لهذه الحكومات تسرع بالحجر على السفهاء من المبذرين، وتتثاقل عن الحجر على هؤلاء المبخلين! قيل لعمر بن الخطاب: قد جمع فلان مالًا، فقال: وهل جمع له أيامًا؟! ويلي على هذا الغني تُنفِق من عمره الأيام، وتَهدِم من بناء هيكله الليالي، فتسهل عليه النفقة من عمره، وتعز عليه النفقة من ماله، ولو أنصفت الحكومات لسارعت بالحجر على أمثال هذا الغني البخيل! قلت: هب أن تلك الحكومات قد قالت: ليت المشرعين الذين يتفننون في أساليب ما يضعون يقفون لمحة أمام هؤلاء الأغنياء؛ ليعلموا أن الشرائع التي وضعتها يد البشر لا تزال في حاجة إلى الكمال! قال الراوي: ثم ساد بيننا السكوت. ونمرُّ بدارٍ قد سطت عليها غياهب الليل، وخيم تحت سمائها الذل والويل، فيقول لي صاحبي: لمن هذه؟ قلت: هي لرجل كان مكفيَّ المئونة في دهره، مستور المعيشة في عمره، فأبى إلا المتاجرة فيما يخرج عن الطوق، فأكل الطمع منه رأس المال، وردَّه إلى ما ترى من سوء الحال. قال صاحبي: لقد نظرت في سواد هذه الأمة، فلم أجد إلا أحد رجلين: رجل ركب في طبيعته حب العمل، وركز في طباعه التهور في كل ما يأخذ فيه، وهو لا يملك إلا مائة من الذهب، يرمي بنفسه في غمار الاتِّجار بما يخرج عن طوقه، فيسوقه التهور إلى الاستدانة، وتوسيع هالة عمله، فلا يلبث أن تذهب بمائته المقاضاة، ورجل بُني على الحرص، وفُطر على الخمول، وهو يملك الألوف، فيدعوه الحرص إلى حبسها، ويقعد به الخمول عن استثمارها، فلا هو ينتفع بألوفه، ولا الناس تنتفع بوجوده. ثم حانت منه التفاتة إلى السماء، فإذا الظلمة تنجلي عن أطرافها انجلاء الخضاب عن القذال الأشيب، فصاح بي: على رسلك أيها الصاحب؛ فلقد أفجرنا. ألا تنظر بربك إلى الأفق، وقد نظم الفجر حواشيه، فوضح للعين ما قاله فيه صاحب هذا التشبيه: فانطلق بنا إلى بيت من بيوت الله نقضي فيه الصلاة. فانطلقنا إلى مسجد قريب قضينا فيه صلاتنا، ولم نبرحه حتى برحت الشمس خدرها، فقلت له: أعَزَم سيدي على الرجوع إلى أبيه، أم على الأخذ فيما كُنَّا بالأمس فيه؟ قال: إني ليحزنني أن أعود قبل أن أرى أسواق هذه الحاضرة، وأقف على شيء من عاداتها. قلت: لله أبوك، فما عدوت ما في النفس. ثم أخذنا طريقنا إلى الغورية، وتباطأنا في السير ريثما يتعالى النهار، وتبتدئ الحركة في الأسواق. وكنت كلما حدثته في شيء بهرني واسع علمه، فما سألته عن أمر إلا أجابني، فظننت أنه لا يحسن سواه. فما زلنا كذلك حتى بلغنا المكان الذي نقصده، وكان يومنا هذا طليعة لموسم من مواسم العام عند المصريين، فماجت بهم الطرقات، وغصت حوانيت التجر بالمساومين، فأشرق وجه صاحبي سرورًا، وتألق بشرًا حين ظفر بضالته، وأصاب مشهدًا من مشاهد المجتمع البشرى تحشد فيه طبقات الناس، فيجد الناقد السبيل إلى نقد العادات والأخلاق التي يثيرها احتكاك ذات الصدور، ويبرزها تبادل ذات اليد، فيجتلي منها الباحث في علوم الأخلاق ما يجتلي، حتى إذا انقلب عن موقف إشرافه، وموطن تأمله، انقلب مبرود الغليل، جم فوائد الاطلاع، عزيز جانب الإقناع. فما لبث صاحبي أن رمى بنفسه في غمار هذا الزحام، وتعقَّبْته أكاتف مرة، وأزْورُّ أخرى، حتى خلصنا إلى مَرقبٍ يُمكِّننا من الإشراف، ثم أخذنا نتأمل في سواد هذا الناس، فإذا التجار منتشرون على أبواب الحوانيت، وإذا السلع معروضة للمساومة، وقد جعل كلٌّ يبالغ في تنفيق سلعته بضروب التمليق، وصنوف التزويق، فكان التاجر لا يمر به مارٌّ إلا جذب بطرف ردائه، وأرادَهُ على الابتياع من حانوته، مزيِّنًا له حُسن سِلَعه، مُلحًّا عليه بالرجاء، مقسمًا له بكل محرجة من الأيمان أن ما دعاه إلى ابتياعه لا يوجد عند غيره، وأنه إن فاته الظفر به؛ فقد فاته الحظ، وأخطأه التوفيق. وكان كيِّسُهم إذا ظفر بفَدمٍ من أفدام الريف حطَّ عليه بأنواع الدهاء، ثم واثقه على أن يُطرفه بأنفس ما عنده حتى يثلج الرجل إلى قوله، فإذا علم أنه سكن إليه بهره بطائفة من ألفاظ الثناء قد خزنها في رأسه، وادَّخرها لوقتها، فلا يكاد المسكين يفيق من نشوة الفرح بما سمع من الإطراء، حتى يعالجه الخبيث بتعليق سلعة في عنقه، مشفوعة بأخرى فوق رأسه، معززة بثالثة تحت إبطه، فلا يبرح الحانوت حتى تبرح الدراهم مخبأها، فيخرج وقد انتفخت أوداجه من كثرة هذا النفاق، وهبط كيسه من فرط ذلك الإنفاق. وآخر قد تخلَّت عنه العناية، ونام عنده الجد، يمر به الصيد، فلا يحسن إلقاء الحب لما ابتُلي به من حب الصدق، وكراهة تزويق الكلام، فيقف سراة يومه يستقبل من أولئك الأفدام، وهم يلؤمون في المساومة، ويشتطون في الطلب، ويتعنتون في توسم السلع، حتى إذا قلبوا أحشاء الحانوت قلبًا خرجوا كما دخلوا؛ لأنهم لم يأنسوا في رب الحانوت ما اعتادوا أن يسمعوا من صنوف التمليق. قال الراوي: ولبثنا في مرقبنا هذا حتى سامتنا الشمس، ووجدنا مسَّ الهجير، فأومأ صاحبي إليَّ بالمسير، فتسللنا من تلك الجموع حتى انتهينا إلى مكان قد حجبت شمسه، وأطلق سراح نسيمه، فهاج فينا روحه شجون الحديث، فأنشأ صاحبي يقول: «حكي أن أحد الملوك ارتأى أن يفتح مدينتين على حدود ملكه، فكاشف في ذلك أحد وزرائه، وكان حكيمًا مدربًا، فضرب الوزير برأيه فيما أفضى به إليه الملك، ثم قال له: إذا رأى الملك — أيَّده الله — قبل المخاطرة بالمال والرجال أن نعلم علم القوم، فنخرج في سر من الناس، فإذا خالطناهم وعرفنا أوزان رجالهم، ومقياس أخلاقهم، هيَّأنا لهم على قدر ما نرى منهم. فأخذ الملك برأي الوزير، وانطلق اثناهما في زي العامة، حتى بلغا إحدى المدينتين في ضحوة من النهار، فعمدا إلى سوقها الكبرى، وعطفا على حانوت هناك، قد نظمت فيه صنوف الأقمشة، فجلسا إلى ربه وطلبا إليه عرض سلعة سمَّياها له، فقال لهما التاجر: لقد كان في يدي شيء كثير مما تطلبان، ولكنه قد نفد منذ اليوم، وأظنكما لا تصيبان منه في غير ذلك الحانوت. وأشار لهما إلى مكان في زاوية من السوق. فلم يأخذا بإشارته وعمدا إلى تاجر آخر، فكان نصيبهما منه نصيبهما من الأول، فقصدا ثالثًا فكذاك، فعرَّجا على رابع فكذاك، وما زالا يتنقلان من الحوانيت ولا يظفران من أربابها بغير تلك الإشارة، حتى ضاق الملك ذرعا، فكرَّ راجعًا إلى أول من لقياه وقال له: ما لنا كلَّما عطفنا على أحد من تُجَّاركم، وأردناه على ابتياع سلعة من سلعه أبى علينا البيع وصرفنا عنه. بربك إلا ما صدقتنا خبر تلك الإشارة، قال التاجر: أما وقد أقسمت فاعلم أن صاحب الحانوت الذي حاولت صرفكما إليه قد مرَّت به ثلاثة أيام لم يطرقه فيها طارق بخابئة خير، ولم يفتح عليه بشيء من الرزق، وقد أدرَّ الله لأهل السوق أخلاف الأرزاق، فكرهوا أن يصبح صاحبهم ويمسي وهو على غير حالهم من التيسير؛ لذلك تراهم يطلقونه بالطراق لعله يصيب ما يصلح به حاله، ويقوت عياله. قال الملك: بارك الله فيكم وعليكم. ثم أسرع إلى ذلك الرجل فابتاع من سلعه وقْر بعير، حتى كاد يأتي على ما في الحانوت، وتركه وقد أنساه ربح يومه ما مر به من كساد تلك الأيام. قال الراوي: ولما خلا الملك بوزيره، قال له: ما الذي وقفت عليه من أحوال القوم؟ قال الوزير: إن من لبسهم على ظواهرهم راقه منهم ذلك الأدب، وأعجبته تلك المصافاة، ومن استبطن أمورهم وقف منهم على مروءة لا تكون في غير الرجال، وقناعة لا تسكن في غير النفوس العالية، يكسو ذلك منهم حسن الاتحاد، ويزينه الإيثار، ولا أحسبنا بالغين منهم ما نريد حتى نركب الصعاب، ونقاسي العذاب، على أن سكان هذه المدينة لا يربو عددهم على عشرة الآلاف. ثم انطلقا إلى الثانية، فإذا بها تموج بسكانها، فوقفا في سوقها الكبرى وقفة كان فيها الغناء عن كل شيء. كشف لهما من أخلاق القوم ما كشف لنا اليوم من أخلاق أهل هذه الحاضرة، فآنسا منهم الأثرة مكان الإيثار، والتدابر مكان التكافل، فلم يلبثا أن كرَّا راجعين، وما هي إلا دورة من دورات الفلك حتى خفقت راية ذلك الفاتح على أسوار تلك المدينة، وامتنعت عليه الصغيرة حتى همَّ بالانصراف عنها لولا حيلة دبرها الوزير فكان فيها الفتح. وطيب الله ثرى فقيد الإسلام الأستاذ الإمام؛ فقد سمعت عنه كلمة من مأثور القول أفرغتها الحكمة في قالب الاختبار: هذه الأمة حياتها في موتها، قلت: وعلى ذكره — رحمه الله — أروي لك عنه ما يكشف عن اعتقاده الراسخ في أفراد هذه الأمة: «صحبته مرة في إحدى روحاته إلى عين شمس، وكانت لي عليه دالَّة ترفع عني مئونة الاحتشام، وكنت أتبسط معه على الحديث، فكان مما ذكر لي في هذه الليلة، أنه ألقي إليه كتاب كتبه صاحبه وإبليس جاثم بين كتفيه، ينذره فيه بالقتل ويتوعده بالاغتيال. ذكر ذلك كمن يذكر نبأ من الأنباء التي يسوقها الحديث، فلم ألمح على وجهه ما ينمُّ عما وقع في نفسه من أثر ذلك الكتاب، ثم خاض في غير ما أخذ فيه، حتى انتهينا إلى طريق مقفر قامت على عطفيه طائفة من النخيل، وكان لا بد لنا من ركوب ذلك الطريق للوصول إلى الدار، فسَرَيْنا فيه تحت الليل، والظلمة تقبض البصر، وتدعو في كل خطوة إلى الحذر، فقلت له وهو يخوض في أحشاء الظلام: ألا يخشى مولاي — حرسه الله — أن يقوم صاحب الكتاب بالوفاء، فيكمن له في لقمة من لقم هذا الطريق، ويبلغ منه ما بلغ أبو لؤلؤة من الفاروق، فيطعن الإسلام طعنة ثانية تذهب بهذه البقية الباقية؟ فنظر إلى نظرة لمعت في تلك الظلمة لمعانًا ساورتني منه الهيبة، وقال لي: أين يذهب بك يا بني، فتالله إني لأهنئ نفسي إذا وجدت في هذه الأمة من يقدر أن يقول لي أخطأت في وجهي، فكيف بي إذا وجدت من يقوى على رفع يده لقتلي؟» ذلك كان اعتقاده في أمة وادي النيل، ولم يكن رحمه الله منفردًا بهذا الرأي، فقد سمعت غير واحد من الحكماء والأدباء يبالغون في وصف ما نحن فيه، حتى وعيت عن بعضهم كلمة ما درى صاحبها بأي دُرَّة رمى: لقد نزلت هذه الأمة منزلة من الخمول هبطت بها إلى مصاف العجماوات، حتى خشيت أن يُخطئها البعث في يوم البعث. فما ظنك يا سيدي بأمة أصبح بعضها يخشى عليها ألا تُحشر مع الأمم، اللهم إن هذا منتهى أمد الخذلان؛ موت في الدنيا، وموت في الآخرة. ثم قمنا إلى مسجد فقضينا فيه الصلاة، وعطفنا بعده على مطعم، فتناولنا ما نمسك به الرمق، واستأنفنا المسير، وبينا نحن في طريق عابدين إذا لفيف من التلاميذ يهرولون، وهم من أمرهم على عجل، وإذا لفيف آخر على آثارهم. فقال لي صاحبي: ما لي أراهم يسرعون وإلى أين هم ذاهبون؟ قلت: إنهم يؤمون الاحتفال الذي تقيمه نظارة المعارف للألعاب، فتتسابق فيه التلاميذ تسابق الجياد، ويتبارون في الألعاب الرياضية كما يقولون، وهو احتفال يشهده عميد الدولة الإنكليزية، ويتأنق في تزيينه بطل رجال الإنكليز مستشار المعارف المصرية؛ ذلك الذي أبلى البلاء الحسن في قتل النفوس، وإحياء الجسوم، وجعل الجوائز السنية لكل سابق في هذا المضمار؛ لذلك ترى نظار المدارس لا همَّ لهم في غير تعهد الأشباح، والويل لمن يعثر به الجد في يوم ذلك المهرجان، فلا يفوز تلاميذه بجوائز الامتحان. ولقد بلغ من ولوع المستشار برؤية هذا المشهد أنه يستقدم التلاميذ من أطراف البلاد، فيجمع تلميذ رأس التين بتلميذ عابدين، والطالب في أسوان بمثله في حلوان، وحكومة البلاد تقوم بالنفقات على هذه الملاعب وتلك التنقلات. قال صاحبي وهو ملقٍ بسمعه إلي، ومقبل بوجهه علي: لقد أحسن القوم صنعًا فيما يحتفون به من ذلك، ولا أحسبهم إلا مبالغين في الاحتفاء بتعهد الأرواح بعد تعهد الأشباح، فيحسنون جوائز الناجح في العلوم حتى يصح ما يتمثلون به من قولهم: «العقل السليم في الجسم السليم.» فلقد: لو كان ذلك كذلك، لوجدنا سبيلًا إلى مزاحمة الأحياء، وبسط كل رجاء، في اضطراب جده، وإسعاف ذات غيبه، ولكنهم قضوا على أحد هذين السليمين، فاهتموا ببناء أسوار الأبدان اهتمامهم بإقامة الخزان، وارتفاع الأطيان، ومحو آثار تلك الاحتفالات، التي كانت تقام بمدارس الحكومة، على نفقة الحكومة، يشهدها عزيز مصر في حملة عرشه ورجال دولته وسروات أمته، ويلطفون فيها الفائز بكل سنية من الجوائز، فكان الطالب في ذلك العهد يرصد هذا اليوم المشهود، ويرتقب حلوله، وهو منكمش في الدرس، مقبل على التحصيل، مكبٌّ على التشمير في أحد فروع العلم الذي يميل بطبعه إلى النبوغ فيه، حتى إذا حلَّ يوم فخاره بين أترابه، استقبله على عدة، فيدخل فيه دخول المقدام الجسور، ويخرج منه خروج الفاتح المنصور. قال صاحبي: إذا صح أنهم يحتفون بالأشباح دون الأرواح، فقد أحسنوا القيام بالواجب، فإنما هم أعداء لكم، وما رأيت قبلكم من طلب من عدوه صلاح حاله، فلا حياة لهذه الأمة إذا هي لم تستمد حياتها من سوادها، فيقوم من أغنيائها مَن ينعم النظر في صلاح شئونها. بربك، هل رأيت غنيًّا من هؤلاء الأغنياء أصبح وقد خصص شطرًا من دخله لنصرة العلم؟ فما لكم تنْحُون باللائمة على رجال الاحتلال وأنتم أصل ما أنتم فيه من البلاء؟ أوليس حسبكم منهم أنهم لا يضربون على يدي عامل، فما عساهم أن يصنعوا بكم إذا قام لفيف من أغنيائكم وتساندوا بأموالهم على تأسيس كلية؟ أو ما عساهم أن يصنعوا بكم إذا خصص هؤلاء الأغنياء جوائز للفائزين في العلوم، وأرصدوا جعالات لكل بارع في صنوف التأليف، أو معرب لتلك التصانيف التي ضاقت بها رحاب المغرب، وأقفرت منها مكاتب المشرق أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ، قلت: لقد صدق الذي قال: إنما تصلح هذه الحكومة على ظلمها لتلك الأمة على نومها. ثم أردت الترويح عن نفسي بالخوض في غير تلك الأحاديث فقلت له: ما الذي يراه سيدي بشأن تلك الشركة السودانية التي خفق لها العلمان على أطلال أم درمان؟ فالتفت إلي مبتسمًا وقال: وقف شريكان شرقي وغربي أمام المرآة، وفي يد الغربي قطعة من الذهب، فقال له شريكه الشرقي وقد تلطَّف: ألا تعطيني قسمي من تلك التي بيدك؟ قال الغربي: أما وقد أردت القسمة، فاعلم أن التي بيدي هي لي، وتلك التي تراها في المرآة هي قسمك ونصيبك. ذلك مثلكم مع القوم في شركة السودان. قال الراوي: فندمت على هذا السؤال الذي أضفت به همًّا إلى همومي، ثم عزمت في نفسي على الخروج من دائرة الكلام على السياسة، والدخول في باب المحاضرات الأدبية، فقلت له: ألا أحدث سيدي بأحسن ما ورد على سمعي من الحديث، قال: ألطفنا بما عندك. قلت: سكر أحد ملوك الفرس ذات ليلة — وأحسبه قمبيز — فسأل جلساءه وقد علت الخمر ذؤابته: أينا خير؛ أنا أم أبي؟ فكلهم تزلف إليه بتفضيله على والده إلا جليسًا بينهم يقال له: قارون، وكان أكرمهم عليه، وأكثر توفيقًا لديه، فإنه قال له: بل أبوك خير منك. فغضب الملك حتى خافه الجليس على نفسه، فعطف قائلًا: فضلت أباك لأنك كنت عنده، وليس عندك اليوم من هو مثلك. وقد وقع لي ما وقع لهذا الجليس، وركبت ذلك المركب الذي يرمي بصاحبه إلى مواطن الشرور، قال صاحبي: وكيف كان ذلك؟ قلت: جلست مرة على مائدة أحد الكبراء من رجال الإنكليز في الجيش، وأنا إذ ذاك ضابط صغير، وكانت ليلة وداع لعظيم من عظماء القواد في الجيش المصري، انطوت مدة خدمته فيه، وقد شهد المائدة معي لفيف من ضباط الإنجليز والمصريين، وقد أجلسوا بجانب كل مصري منا إنجليزيًّا منهم يحدثه ويباسطه، وكانوا لا يتنازلون إلى الحديث معنا في غير تلك الاحتفالات، التي تطرح فيها أبهة الرياسة، فأخذت في الحديث مع جبار من جبابرتهم أجلسته المصادفة على يميني، وساقنا الكلام إلى ذكر الأتراك وما كان منهم، فقال لي وهو يتكلف البشاشة: أنحن خير أم هم؟ فأجبته بتفضيل الأتراك، وتالله إني ما كدت أنطق بالكاف حتى رأيته وقد تمعَّر وجهه واغتاظ حتى كاد ينشق إهابه غيظًا، فأحسست بالشر، ولكني عمدت إلى الحيلة، فعطفت قائلًا: فضلت الأتراك إذ لولاهم لما رأيناكم، فهم أصل ما نحن فيه اليوم من سعة العيش، وبشاشة الحال، فأشرقت أسارير وجهه، وسُرِّي عنه ما كان قد نزل به من الغضب. قال صاحبي: أولى لك، فلقد نجوت من شرِّ هذا الجليس بفضل ذلك الجليس. وما كدنا نأتي على هذا الحديث حتى دانينا فتًى يتوكأ على عصًا وهو لا يكاد يحمل بعضه بعضًا من فرط الهزال، وما تنطق به معارف وجهه من آيات سوء الحال، يرد عن نفسه حملات الألم، وصدمات السأم، بأناشيد أودعها من الأنين، ما يعلم به الصخور كيف تلين، فاستوقف هيكله أبصارنا، واسترعى صوته أسماعنا، فإذا به يغني هذه الأبيات: ولما أتى على نشيده دانيناه، وبالتحية بادأناه، ثم ابتدره صاحبي بالسؤال: لمن الشعر أيها الأديب؟ قال: لأحد شعراء الوقت، قال: وهل ترى رأيه فيه؟ قال: ومن ذا الذي يخالفه فيما يرتئيه وقد نطق حقًّا ونظم صدقًا؟ قال: وأين أنت من القوم؟ قال: مِن أولئك الذي نقموا الرضا على العهدين، ولم يحمدوا مغبة الحكمين، عهد الدولة التركية وعهد الدولة الإنجليزية؛ ففي أولهما فاضت المظالم، وغاضت الأموال، وفي ثانيهما أخصبت الأرض، وأجدبت الرجال، قال صاحبي: وهل أنت في خفيض من العيش؟ فأجاب الفتى: لا أشكو بحمد الله عسرًا، ولا أرجو يسرًا، وإنما أنا أتفيأ ظل هذا البيت العربي، لذلك الشاعر الأبيِّ: قال صاحبي: وأين مكانك من العلم، وأين منك منزلة الحِلم؟ قال: حسبي أني من تلاميذ حكيم الإسلام الأستاذ الإمام — طيب الله ثراه، وجعل النعيم مثواه — قال صاحبي: إني لأرى رأيًا حصيفًا، وأسمع قولًا شريفًا، فمن أي تلاميذه تكون؟ فقد سمعنا أنهم فريقان؛ فريق قد اختصَّه بسياسته، وفريق قد اختصَّه بعِلْمه، وقد أثنى عليهما العميد، وتنبَّأ لهما بالطالع السعيد؟ قال الفتى: لا علم لي بما تقول؛ فلقد كنت ألصق الناس بالإمام، أغشى داره، وأرِدُ أنهاره، وألتقط ثماره، فما سمعته يخوض في ذكر السياسة — قبحها الله — ولكنه كان يملأ علينا المجلس سحرًا من آياته، وينتقل بنا بين مناطق الأفهام، ومنازل الأحلام، ويسمو بأنفسنا إلى مراتب العارفين بأسرار الخلائق، وحكمة الخالق، وكان ربما ساقه الحديث إلى ذكر أحوال هذا المجتمع البشري، فأفاض في شئون الاجتماع، وحاج العمران، ووقف بنا على أسرار الحياة، ولم يزل ذاك همُّه — رحمه الله — يلقي في الأزهر دروس التفسير، وفي داره دروس الحكمة، حتى مضى لسبيله، فإن كانوا يسمون تلاميذه أحزابًا، ويقسمون تعاليمه أبوابًا، فتلاميذه حزب العلم والعرفان، وتعاليمه سياسة التقدم والعمران، على أنه كان من أشد الناس تبرُّمًا بالسياسة وأهلها، حتى أعلن براءته من الالتصاق بها، فقال عنها في كتاب الإسلام والنصرانية ما قال. لكنه كان يحتك بها ما دعت إلى ذلك الحالة، ويرصد حركاتها رصدًا، ويصدُّ غاراتها صدًّا؛ خشية أن تقطع على العلم سبيله، أو أن تقف عثرة في طريق الفضيلة، ولولا ذلك لقطعت عليه سلك أمانيه، وحالت بينه وبين ما كان يبتغيه، فكم تلطف في ابتزاز قواها، وتحامَى جهده طريق أذاها، حتى إذا ظفر بطلبته، وفاز برغبته، واستمد منها ما شاء تحت حماية الإفتاء، عطف على العلم بذلك الإمداد، ورد عليه ما سلبت يد الاستبداد. ولعله أوهم العميد بيقظة حزب جديد ليرد عاديته، ويفسد عليه سياسته في مصادرة العلم، ومصارعة الحلم. أما ترى بربك أثر ذلك في المدارس، وما عبثت به يد ذلك السائس؟ ولولا أن الإمام مادَّهم حبل الوداد، وجاذبهم فضل النصح والإرشاد، لأصابه ما أصاب حكيم الأفغان، وقضي على هذه الأمة بالحرمان؛ فلقد كان يغدو على الوكالة ويروح عنها ليدفع عنا شرَّة القوم، ويصلح ما تفسده أهل الدسائس، فكم زحزح عنا حادثًا، ودفع كارثًا، ولو كان حيًّا يوم دار الفلك لنا بالنحوس في دنشواي؛ لرأيت غير الذي رأيت من ذلك القصاص. ولما ارتفع صوت العميد بذلك التهديد والوعيد، ولما نزع إلى كتابة ذلك التقرير الذي جاء أبلغ ما تملي الضغينة على الموتور، فكان فيه كثير جموح اليراع، ضعيف جانب الإقناع؛ كأنه يكتب مقالة خيالية إلى مجلة سياسية، وقف فيها وقفة المدافع عن نفسه. لحق النبي عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى، فارتدت طائفة من جفاة العرب وكادوا يفتنون الناس لولا حكمة الصديق، وعزمة الفاروق، فما غض أمر الردة من شرف النبوَّة، ولا نال من عصمة الرسالة، ولبث الإسلام إسلامًا، ومات الأستاذ الإمام — رحمه الله — فصبأ بعض حزبه — كما يدعون، وأستغفر الله لهم مما يقولون — فما غض ذلك من كرامة حكيم الإسلام، ولا مسَّ من سيرة ذلك الإمام. أراد بعض مريديه أن يغني غناءه، وأن يفعل شرواه في التوفيق بين صوالح القوم وصوالحنا، فرمى بنفسه في أحضانهم، وليست له مكانة الإمام من نفوسهم، ولا منزلته في قلوبهم، فقصر ولا بدع، وأخفق ولا عجب، فإن الفراغ الذي تركه الإمام لا يشغله الألوف من أولئك الذين يرفعون العقيرة بالصياح، وينعون عليه مذهبه في الإصلاح، ولما ظهر ذلك المريد بمظهر الاتصال بالقوم، أنكر الناس منه ذلك، فطارت حوله الشبهات، وانبسطت فيه الألسن، وأخذته سهام الأقلام، على أنه وإن أخطأه التوفيق في عمله، فما أخطأه حسن القصد، ولا جازته سلامة الطوية. فوجد بعض المرائين السبيل إلى تشويه سمعة الإمام بعد موته، وبالغوا في ذم حزبه، وزادهم ضغنًا أن قرءوا في تقرير العميد ما قرءوا، وظنوا أن هناك حزبًا يعمل، ولو أراد الله خيرًا لهذه الأمة لسخَّر لها من تلاميذ الإمام مَن يقوم بالدعاء إلى التئام ذلك الحزب الذي أودع فيه الإمام من أسرار حكمته، ما كشف لهم عن حقيقة المصير الذي أصبحنا نساق إليه سوقًا أعجلنا عن النظر في أمورنا، فأمسينا أتباعًا لكل ناعق. قال صاحبي وقد هاله ما سمعه: أكان يكون بين ظهرانيكم أمثال أولئك الأمناء على تعاليم ذلك الحكيم ولا تتعلقون بأذيالهم؟ على أني لا أرى فيكم إلا ناعيًا عليهم مشهِّرًا بهم، فإن كنت لم تكذبني القول، فتلاميذ الإمام حقيقون باللوم؛ لأنهم يعلمون الحق، ولا يدعون إليه، علموا أن لا حياة لهذه الأمة بغير الجامعة، فما لهم لا يواصلون قرع أنوف الأغنياء بالمواعظ، ولا يوالون الصياح بطلب تأسيسها، فتلتقي أصواتهم بالنداء في أنحاء القطر، ولكنهم سكتوا؛ اللهم إلا شاعرًا منهم قد قرض قصيدة، وقاضيًا قد حبر مقالة في سبيل الجامعة، درج كلاهما في أثناء النسيان، فجمد الأغنياء عن البذل لجمود أولئك الوعاظ عن الكلام، وتدفقوا في إنشاء الكتاتيب حين ساقتهم الحكومة إلى ذلك، ولو علموا أن انتشار التعليم الناقص شر على الناس من بقاء الجهل، لما بذلوا في سبيله ما بذلوا، فكان مثلهم في ذلك كمن يحاول النجاة من أنياب النمر ليقع تحت براثن الليث؛ لأنهم إنما يستبدلون بانتشار الكتاتيب داء الجهل، ولكن بداء الغرور، فسبيل الإصلاح أن ينشأ الكتاب، وتُبنى الجامعة في وقتٍ معًا، حتى إذا أخرج الأول نصف إنسان، أطلعت الثانية إنسانًا كاملًا، فتكفل هذا الكامل بصلاح ذلك الناقص، فتتماسك الأمة، ويكثر فيها الدعاة إلى الخير، فليس بينها وبين الحياة إلا أن يخرج لها العلم الصحيح رجالًا يقودون الأفكار، ويسلكون بها سبيل الرقي. ومن رأى أن هذه الأمة لا تنهض إلا بتعليم مجموعها، وتهذيب أفرادها؛ فقد أخطأ مواقع الرأي؛ فكم نهضت أمة بفرد، وأسست دعائم دولة على عزائم آحادٍ وفَّوا قسطهم من العلم الصحيح، وأخذوا نصيبهم من الإقدام! وقد انصرف إلى الصياح بطلب انتشار العلم، ونسوا أن ذلك لا يغني عنهم شيئًا إذا أعوزتهم تربية القادة، وعزَّهم بناء الزعماء، فاعلم أن بناءة الرجال لا تكون إلا في بناء الجامعة. قال الأديب: وهل يكفي العلم وحده لصلاحنا، ونحن على ما ترى من الخلق والدين؛ فسوق عن أمر الكتاب، وطاعة للهوى، فلا وازع من الدين، ولا زاجر من الخُلُق، فإذا تزعزعت العقيدة ولم يطمئن الطبع، قل أن ينجع في الناس علاج العلماء، أو تأخذهم صيحة الخطباء. قال صاحبي: صدقت، ولكن ما تراه أنت خطبًا كبيرًا لم يكن في نظر الحكمة إلا أمرًا يسيرًا، وإني ذاكر لك دواء هذا الداء، وهو أيسر مما في نفسك، فلا تنزل أمري معك على المزاح، ولا يصغرن في عينيك مأتى ما ألقي عليك، فرُبَّ مؤرب من العقد ضلت حله الحكماء، واهتدت إليه خطرة من الفكر يرمي بها أحد العامة، وتغفل عنها عقول الحامة (الخاصة). ولعلك إذا سمعت أن الدواء الناجع، والعلاج النافع، لا يحتاج إلى مقدمات طويلة، أو فلسفة جليلة، أصغرت ما كنت تكبر، واستنزرت ما كنت تستغزر، فاعلم أنه إذا أُقفلت أبواب المنتديات، وأُطفئت أنوار الحانات قبل منصف من الليل، انحرف عنكم جارف هذا السيل. هذه لندرة لا تكاد ترى في حوانيتها ساهرًا، ولا تجد في طرقاتها عابرًا إذا انقضى الثلث الأول من دولة الظلام، وتلك (فينا) يجمع فيها الليل بين الجفون والكرى، ويحول الظلام بين الأرجل والسرى، فإذا شب الليل أو كاد، سكنت حركة العباد، فما لكم لا تأخذون نفسكم بتقاليد تلك الخلائق، وقد ائتمروا بأوامر الخالق. وما لكم لا ترجعون إلى الفطرة البشرية، أو تخضعون لنواميس السنة الكونية، فتجمعوا في ذلك بين الدنيا والدين، ولا تعقوا أوامر الكتاب المبين. يا ويلكم، أحييتم ليالي العمر بالآثام، وأمتم أيامه بالمنام، فعكستم الفطرة ولا بدع إذا عكست آمالكم، وخابت أعمالكم، خذوا مضاجعكم إذا طرَّ شارب الظلام، واهجروها إذا تنفَّس الصباح؛ ففي ذلك صحة لأبدانكم، وسلامة لأديانكم. إذا شئت أن تعرف ما وراء ذلك من المنافع، فإني أعد لك منها ولا أُعددها، منها الرجوع إلى المعيشة المنزلية التي انحلت بزوالها روابط الأهل والأقارب، ويبس ما بين البيوتات فتناكر الأخَوانِ، وتدابَر الجارانِ، وأقفرت المنازل من أنس السمر، وألف الناس الجلوس في المنتديات حتى إنهم ليوحشون ديارهم لقلة زوَّارهم، وأصبح المرء في داره حاضرًا كالغائب، مقيمًا كالنازح، يعلم من حال البعيد عنه من حال القريب منه. ومنها اجتياز العقبات التي أقامتها المنتديات والحانات في سبيل الاجتماعات — كان المصريون في العهد الذي نسميه اليوم بعهد الظلام يجتمعون في الدور، ويتزاورون في القصور، وكان سراتهم وذوو اليسار منهم يجلسون في بيوتهم للسمر، فيغشاها العالم، ويؤمها الكاتب، ويقصدها التاجر، وينتجعها الأديب، فتجري بينهم الأحاديث، وتقوم سوق المناقشات. يحدث الحادث فيخوضون في ذكره، وتنزل النازلة فيجمعهم الألم على العمل على إزالتها، وتطل رءوس المشروعات فلا يفتئون يتبيَّنون معارفها، حتى يقتلوا شئونها بحثًا، ويقفوا على وقائعها جدالًا، وينزل بأحدهم المكروه فلا يزالون ينطلقون بالسعي له حتى يأخذوا بيده، وينهضوا به من عثرته. عقدت بينهم الزيارات عرى المودات، فتراهم وهم كأنهم أهل بيت واحد يألم الجار للجار، ويأخذ الناهض بيد ذي العثار. بربك هل نهضت أمة بغير إدمان المجتمعات؟ وهل أخصبت مودة إذا هي لم يتعهدها أهلها بالزيارات؟ لقد جار في حكمه من قضى على المصريين باستحالة الاتفاق، وجعل تلك الكلمة التي رمى بها حكيم الأفغان أساسًا لحكمه، فصرفه التقليد عن النظر إليها بعين عقله، فمن أين للمصريين أن يتفقوا إذا هم لم يجتمعوا؟! ومنها اقتصاد المال، وأنت ترى أن هذه الستة الأفدنة تكاد تبلع ما تخرجه أرض وادي النيل من الخيرات، ولا يغرنَّك ما ترى في عاصمة الفرنسيس، فإن أهلها من الأكياس الذين يَصِلُون سهر الليل بالنهار لاصطياد الذهب، ولكن من جيب الغريب، ونحن إنما نفعل ذلك ليذهب الغريب بأموالنا، ويسخر من جهالنا.
محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م. محمد حافظ إبراهيم: شاعِرٌ مِصْريٌّ ذائِعُ الصِّيت، يُعدُّ مِن أبرزِ الشُّعراءِ العربِ في العَصرِ الحَدِيث، ومن أقطابِ مَدرسةِ الإِحْياءِ والبَعْثِ الشِّعريةِ التي يَنتمِي إلَيْها شُعراءُ أَمْثالُ أَميرِ الشُّعراءِ أحمد شوقي، ومحمود سامي البارودي. وقد حظِيَ بألقابٍ مُتعددةٍ أَشْهرُها: «شاعِر النِّيل» و«شاعِر الشَّعْب». وُلِد «محمد حافظ إبراهيم فهمي المهندس» المَعروفُ ﺑ «حافظ إبراهيم» عامَ ١٨٧٢م بقَريةِ ديروط بمُحافظةِ أسيوط، من أبٍ مِصريٍّ وأمٍّ تُرْكية، ماتَ أبوَاه وهُو صَغِير، فانتقَلَ إلى العيشِ في القاهِرة؛ حيثُ كفَلَه خالُه، وكانَ فَقِيرًا يَعملُ مُهندسًا في مَصْلحةِ التَّنظِيم، ثُمَّ رَحلَ معَ خالِه إلى مَدينةِ طنطا حيثُ دَرَسَ هناكَ في الكُتَّاب، وخلالَ تلك الفَترةِ تأثَّرتْ نفْسُه عِندما شعَرَ أنَّ خالَه ضاقَ بكَفالتِه ذَرْعًا، ممَّا دفَعَه إلى الرَّحيلِ عَنْه. عمِلَ بعدَها في مكتبِ المُحامي محمد أبو شادي أحدِ زُعماءِ ثُورةِ ١٩١٩م، واطَّلعَ في ذلك الوقتِ على كثيرٍ مِن كتبِ الأدبِ والشِّعرِ خاصةً ما كتَبَه الشاعِرُ محمود سامي البارودي، ثم ترَكَ العملَ في المُحاماة، وتوجَّهَ للالتحاقِ بالمدرسةِ الحربيةِ وتخرَّجَ فيها عامَ ١٨٩١م ضابطًا برُتْبةِ مُلازمٍ ثانٍ في الجيشِ المِصْري، أُرسِلَ بعدَها معَ الحملةِ المِصريةِ المتوجِّهةِ إلى السُّودان، وما لبِثَ بعدَها أنْ أُحِيلَ مِنَ الجيشِ إلى الاستيداعِ بمُرتَّبٍ ضَئِيل، بعدَما ثارَ هناكَ معَ مجموعةٍ من زُملائِه الضبَّاط، حيثُ لم يَطِبْ لَهم العَيشُ هُناك. وفي عامِ ١٩١١م عُيِّنَ رئيسًا للقسمِ الأدبيِّ في دارِ الكُتب، وتَرقَّى في المَناصِبِ حتى أصبحَ وكيلًا لدارِ الكُتب، وقد حصَلَ على البَكويَّة عامَ ١٩١٢م، وتُوِّجَ بلقبِ «شاعِر النِّيل». حظِيَ بتقديرِ خُصومِه قبلَ أنصارِه، فبالرغمِ من انْتِمائِه إلى مَدرسةِ الإِحياءِ والبَعثِ الشِّعرية، فإنَّ كُلًّا مِنَ العقَّاد وخليل مطران لم يَجِدْ بُدًّا مِن إنصافِ الرَّجُل، تَقديرًا لمَكانتِه الشِّعرية، وإنِ اختَلَفا معَه في المَذهبِ الشِّعري؛ حيثُ كانَ العقَّادُ ديوانيًّا بَينما كانَ مطران رُومانسيًّا، وقد جمعَتْ بينَ حافظ وشوقي أَميرِ الشُّعراءِ صَداقةٌ حَمِيمةٌ استمرَّتْ إلى أنِ انتقَلَ حافظ إلى الرَّفيقِ الأَعْلى عامَ ١٩٣٢م.
https://www.hindawi.org/books/91575858/
المرأة الجديدة
قاسم أمين
يقصد قاسم أمين بـ«المرأة الجديدة» المرأة التي بدأ ظهورها في الغرب منذ عصر التنوير، وهي المرأة التي بدأت تلعب دورًا اجتماعيًّا وثقافيًّا رئيسًا في مجتمعها ودولتها، بعد أن كانت مهمشة ومقصية في عصور ما قبل التنوير الأوروبي، ويرى قاسم أمين أن الرؤية الاجتماعية السائدة عن المرأة في عصره داخل المجتمع المصري تشبه إلى حد كبير تلك الرؤية ما قبل التنويرية، وهي رؤية تتعارض مع الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها رجالًا كانوا أو نساءً، كما أنها رؤية تتعارض مع الفهم الصحيح للدين، فالإسلام كفل للمرأة حق التصرف في أملاكها، كما كفل لها حق التعلم وحرية العمل والمشاركة الاجتماعية والثقافية النهضوية في البناء الحضاري، والفهم المنغلق لدور المرأة إنما يمكن رده إلى الجهل والاستبداد بالدين والتمسك بالعادات والتقاليد المنافية لفطرة الإنسان والمخالفة للنظرة الأخلاقية القويمة.
https://www.hindawi.org/books/91575858/0.1/
الإهداء
فيك وجدت قلبا يحب، وعقلا يفتكر، وإرادة تعمل. أنت مثلت إلى المودة في أكمل أشكالها، فأدركت أن الحياة ليست كلها شقاء، وأن فيها ساعات حلوة لمن يعرف قيمتها. من هذا أمكنني أن أحكم أن هذه المودة تمنح ساعات أحلى إذا كانت بين رجل وزوجته. ذلك هو سر السعادة الذي رفعت صوتي لأعلنه لأبناء وطني رجالا ونساء.
قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل. قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل.
https://www.hindawi.org/books/91575858/
المرأة الجديدة
قاسم أمين
يقصد قاسم أمين بـ«المرأة الجديدة» المرأة التي بدأ ظهورها في الغرب منذ عصر التنوير، وهي المرأة التي بدأت تلعب دورًا اجتماعيًّا وثقافيًّا رئيسًا في مجتمعها ودولتها، بعد أن كانت مهمشة ومقصية في عصور ما قبل التنوير الأوروبي، ويرى قاسم أمين أن الرؤية الاجتماعية السائدة عن المرأة في عصره داخل المجتمع المصري تشبه إلى حد كبير تلك الرؤية ما قبل التنويرية، وهي رؤية تتعارض مع الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها رجالًا كانوا أو نساءً، كما أنها رؤية تتعارض مع الفهم الصحيح للدين، فالإسلام كفل للمرأة حق التصرف في أملاكها، كما كفل لها حق التعلم وحرية العمل والمشاركة الاجتماعية والثقافية النهضوية في البناء الحضاري، والفهم المنغلق لدور المرأة إنما يمكن رده إلى الجهل والاستبداد بالدين والتمسك بالعادات والتقاليد المنافية لفطرة الإنسان والمخالفة للنظرة الأخلاقية القويمة.
https://www.hindawi.org/books/91575858/0.2/
مقدمة
كان الأوربيون يرون رأينا اليوم في النساء، وأن أمرهم مقصور على النقص في الدين والعقل، وأنهن لسن إلا عوامل الفتنة وحبائل الشيطان، وكانوا يقولون: إن ذات الشعر الطويل والفكر القصير لم تخلق إلا لخدمة الرجل، وكان علماؤهم وفلاسفتهم وشعراؤهم وقساوستهم يرون من العبث تعليمها وتربيتها، ويسْخرون من المرأة التي تترك صناعة الطعام وتشتغل بمطالعة كتب العلم، ويرمونها بالتطفل على ما كانوا يسمونه: خصائص الرجال. فلما انكشفت عنهم غشاوة الجهل، ودخل حال المرأة تحت انتقاد الباحثين، اكتشفوا أنهم — هم أنفسهم — منشأ انحطاطها وسبب فسادها، وعرفوا أن طبيعتها العقلية والأدبية للترقي كطبيعة الرجل، وشعروا أنها إنسان مثلهم، لها الحق في أن تتمتع بحريتها، وتستخدم قواها وملكاتها، وأن من الخطأ حرمانها من الوسائل التي تمكنهم من الانتفاع منها. ومن ذلك الحين، دخلت المرأة الغربية في طور جديد، وأخذت في تثقيف عقلها وتهذيب أخلاقها شيئا فشيئا، ونالت حقوقها واحدًا بعد الآخر. واشتركت مع الرجال في شئون الحياة البشرية، وشاركتهم في طلب العلم في المدرسة، وسماع الوعظ في الكنيسة. وجالستهم في منتديات الأدب، وحضرت في الجمعيات العلمية، وساحت في البلاد، ولم يمض على ذلك زمن طويل حتى اختفت من عالم الوجود تلك — الأنثى — تلك الذات البهيمية التي كانت مغمورة بالزينة، متسربلة بالأزياء، منغمسة في اللهو، وظهر مكانها امرأة جديدة، هي المرأة شقيقة الرجل، وشريكة الزوج، ومربية الأولاد، ومهذبة النوع. هذا التحول هو كل ما نقصد. غاية ما نسعى إليه هو أن تصل المرأة المصرية إلى هذا المقام الرفيع، وأن تخطو هذه الخطوة على سلم الكمال اللائق بصفته، فتمنح نصيبها من الرقي في العقل والأدب، ومن سعادة الحال في المعيشة، وتحسن استعمال مالها من النفوذ في البيت. إذا تم ذلك، فنحن على يقين لا يزعزعه أدنى شك من أن هذه الحركة الصغيرة تكون أكبر حادثة في تاريخ مصر. إذا كان هذا هو اعتقادنا، فهل يصح أن يصدنا عن المثابرة في السعي إلى تحقيق آمالنا أن الجمهور من العامة لم يلتفت إليه، أو أن بعض الكُتاب أظهروا السخط عليه، ما بين منتقد لم يتفق رأيه مع رأينا، وساخر يقضي عمره في السفاسف، ومغتر ينكر علينا حسن نيتنا. نحن لا نكتب طمعا في أن ننال تصفيق الجهال وعامة الناس الذين إذا سمعوا كلام الله، وهو الفصيح لفظه، الجلي معناه، لا يفهمه إلا إذا جاء محرفا عن وضعه، منصرفا عن قصده، برأي شيخ هو أجهل الناس بدينه! ولا يحبون الوطن إلا إذا تمثل لأعينهم في صورة قبيحة، وأخلاق رثة، وعادات سخيفة! وإنما نكتب لأجل العلم، وعلى الخصوص للناشئة الحديثة التي هي مستودع أمانينا في المستقبل، فهي التي — بما اكتسبته من التربية العلمية الصحيحة — يمكنها أن تحتل مسألة المرأة المكان الذي تستحقه من العناية والبحث. لم نر هذه الدفعة حاجة إلى التكلم على الحجاب من الجهة الدينية؛ فإن ما أوردناه في كتاب (تحرير المرأة) من النصوص القرآنية، صريح في إباحة كشف الوجه واليدين، ومعاملة النساء للرجال، وقد وافقنا على ذلك كثيرٌ من علماء المسلمين الذين نقلنا آراءهم. أما أن فريقا آخر من الفقهاء استحسن التشديد في الحجاب، فهذا رأي لا يلزمنا الدين باتباعه. وإذا كان في هذه المسألة قولان، فمن الصواب أن يرجح القول الموافق للحرية الإنسانية وللمصلحة العامة. وأما الأمر الثالث، وهو حكم الشرع في هذه المكالمة، فالمعروف أن الشرع إنما حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية، وأخبار الصدر الأول مستفيضة بمكالمة النساء للرجال، وحديثهم معهم في الملأ دون الخلوة، وكفاك أن نساء النبي — وهن اللاتي أُمرن بالمبالغة في الحجاب — كن يحدثن الرجال، حتى إن السيدة عائشة كانت قائدة عسكر، ومديرة له في وقعة الجمل المعروفة، وما إخال أن مكابرًا يقول إنها لم تكن تكلّم أحدًا منهم إلا ذا محرم. هذا هو رأي رجل عرف الناسُ جميعهم مكانه من الدين، ولو كان أهل الأزهر يشتغلون بفهم مقاصد دينهم بدلا من اشتغالهم بالألفاظ والتراكيب النحوية واللغوية، لما اختلفوا معنا في شيء مما قلناه. ومن العيب أن الجرائد وأصحاب الأفكار يرمون — كل يوم — علماء الدين الإسلامي بأنهم السبب في انحطاط وتأخر الأمم الإسلامية عن سواها في المدنية، ويصفونهم بالتساهل في فهم الدين، وعدم مراعاة أحكامه، ثم إذا تحركت غيرة لعرض رأي يظن أن فيه خيرًا للأمة، تحولت أنظارهم إلى هؤلاء العلماء، واستفتوهم عن رأيهم فيه. وغاب عنهم أن الذين يحاربون الإصلاح ولا يفرضون لتعلمهم العلوم العصرية فائدة تعود عليهم في تهذيب عقل أو استكمال أدب، أو تقويم عمل، ولم يقبلوا تدريس علمَي الجغرافيا والتاريخ، إلا رغم أنفهم ليس لهم مقام — لا من العلم ولا من الدين — يسمح لهم بإبداء رأي في شأن من شئون الأمة، فضلا عن مسألة من أهم مسائل الاجتماع البشري. والمطّلع على الشريعة الإسلامية يعلم أن تحرير المرأة هو من أنفس الأصول التي يحق لها أن تفخر بها على سواها؛ لأنها منحت المرأة من اثنى عشر قرنا مضت — الحقوقَ التي لم تنلها المرأة الغربية إلا في هذا القرن وبعض القرن الذي سبق؛ حتى إنها لا تزال محرومة من بعض الحقوق، وهي الآن مشتغلة بالمطالبة بها. فإذا كانت شريعتنا قررت للمرأة كفاءة ذاتية في تدبير ثروتها والتصرف فيها، وحثت على تعليمها وتهذيبها، ولم تحجر عليها الاحتراف بأيّة صنعة، أوالاشتغال بأي عمل، وبالغت في المساواة بينها وبين الرجل إلى حد أن أباحت لها أن تكون وصية على الرجل، وأن تتولى وظيفة الإفتاء والقضاء، أي: وظيفة الحكم بين الناس بالعدل، وقد ولى عمر — رضى الله عنه — على أسواق المدينة نساء، مع وجود الرجال من الصحابة وغيرهم، مع أن القوانين الفرنسية لم تمنح النساء حق الاحتراف بصنعة المحاماة، إلا في العام الماضي. إذا كانت شريعتنا تحامي عن المرأة إلى هذا الحد، وتمنحها هذه الدرجة من الحرية، فهل يجدر بنا — في هذا العصر — أن نغفل مقاصد شرعنا، ونهمل الوسائل التي تؤهل المرأة إلى استعمال هذه الحقوق النفسية، ونضيع وقتنا في مناقشات نظرية لا تنتج إلا تعويقنا عن التقدم في طريق إصلاح أحوالنا؟ لا أظن أن ذلك يليق بنا، وأرجو أن كثيرًا من القراء يرون مثل رأينا.
قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل. قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل.
https://www.hindawi.org/books/91575858/
المرأة الجديدة
قاسم أمين
يقصد قاسم أمين بـ«المرأة الجديدة» المرأة التي بدأ ظهورها في الغرب منذ عصر التنوير، وهي المرأة التي بدأت تلعب دورًا اجتماعيًّا وثقافيًّا رئيسًا في مجتمعها ودولتها، بعد أن كانت مهمشة ومقصية في عصور ما قبل التنوير الأوروبي، ويرى قاسم أمين أن الرؤية الاجتماعية السائدة عن المرأة في عصره داخل المجتمع المصري تشبه إلى حد كبير تلك الرؤية ما قبل التنويرية، وهي رؤية تتعارض مع الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها رجالًا كانوا أو نساءً، كما أنها رؤية تتعارض مع الفهم الصحيح للدين، فالإسلام كفل للمرأة حق التصرف في أملاكها، كما كفل لها حق التعلم وحرية العمل والمشاركة الاجتماعية والثقافية النهضوية في البناء الحضاري، والفهم المنغلق لدور المرأة إنما يمكن رده إلى الجهل والاستبداد بالدين والتمسك بالعادات والتقاليد المنافية لفطرة الإنسان والمخالفة للنظرة الأخلاقية القويمة.
https://www.hindawi.org/books/91575858/1/
المرأة في حكم التاريخ
لا يمكن معرفة حال المرأة اليوم إلا بعد معرفة حالها في الماضي. تلك هي قاعدة البحث في المسائل الاجتماعية، فإننا لا يمكننا أن نقف على حقيقة حالنا في أيّ شأن من شئوننا، إلا بعد استقراء الحوادث الماضية والإلمام بالأدوار التي تقلبت فيها، وبعبارة أخرى: يلزم أن نعرف من أية نقطة ابتدأنا؛ حتى نعلم إلى أية نقطة نصل؟ ذكر شيخ المؤرخين (هيروديت) أن علاقات الرجل بالمرأة كانت متروكة إلى الصدفة. ولا تفترق عما يشاهد بين الأنعام. وكان الشأن إذا ولدت المرأة ولدًا أن يجتمع القوم متى وصل الولد إلى سن البلوغ، وينسبوه إلى أشبه الناس به. وهذه العادة كانت معروفة —أيضًا — عند القبائل الجرمانية وعند العرب في الجاهلية. وقد جاءت روايات السياح المعاصرين لنا مؤيدة لما جاء به التاريخ؛ فإن جميع السياح الذين طافوا بلاد (تايتي) وجزائر (مركيز) وغيرهما من أقاليم أستراليا وزيلندا الجديدة، وبعض بلاد الهند وأفريقيا، ذكروا أن الزواج غير معروف في تلك البلاد. ولا خلاف في أن المرأة التي هذه حالها، تعيش مستقلة، تعول نفسها بنفسها، مساوية للرجل في جميع الأعمال، بل لها من المزية عليه أن نسب الأولاد في الغالب بها وحدها، فالمرأة في هذا الدور الأول هي ذات الشأن في الهيئة الاجتماعية، وربما كانت تشترك في الدفاع عن قبيلتها مع الرجال، ويدل على ذلك ذكر وقائع الفارسات في التواريخ القديمة، ووجود عادة منتشرة إلى الآن في بعض البلاد، تقضي بتجنيد النساء كما تجند الرجال، ومن هذا القبيل أن ملك (سيام) كان له عدد من النساء عَهِد إليهن بحراسته، وكان الملك (الداهومية بها نزن) الذي استولى الفرنساويون على بلاده من بضع سنين، خمسمائة جندي من الرجال وخمسمائة من النساء. ولما ودّع الإنسان بداوته، واتخذ وطنا قارّا، واشتغل بالزراعة وجد نظام البيت، ومن أهم ما ساعد على تشكيل العائلة، أنه كان لكل عائلة معبودٌ خاص بها تختاره من بين أسلافها، كما كان جاريا عند اليونان والرومان والهنود والجرمانيين، وكما هو جار إلى الآن عند الأمم المتوحشة، وله بقية في بلاد الصين، وكانت العائلة تقدم القربان إلى آلهتها، فكان هذا باعثا للرجل على استبقاء ذرية تقوم بتأدية الخدمات الدينية. وترتب على دخول المرأة في العائلة حرمانها من استقلالها؛ لذلك نرى رئيس العائلة عند اليونان والرومان والجرمانيين والهنود والصينيين والعرب مالكا لزوجته، وكان يملكها كما يملك الرقيق بطريق الشراء، بمعنى أن عقد الزواج كان يحصل على صورة بيع وشراء، وهذا أمر يعلمه كل مطلع على القانون الروماني، وذكره المؤرخون، ورواه السياح المعاصرون لنا، يشتري الرجل زوجته من أبيها فتنتقل إليه جميع حقوق الأب عليها. ويجوز له أن يتصرف فيها بالبيع لشخص آخر. فإذا مات انتقلت مع تركته إلى ورثته من أولادها الذكور أو غيرهم. ومما يتبع هذه الحال أن المرأة لا تملك شيئا لنفسها ولا ترث وإن يتزوج الرجل بعدة نساء؛ لأن الوحدة في الزواج تفرض المساواة بين الزوجين في الحقوق والواجبات. ثم خفت صولة الرجل على المرأة نوعا بتأثير الحكومة، فردت إليها حق الملك كله أو بعضه، وحق الإرث تاما أو ناقصا على حسب الشرائع، ولكن حماية الحكومة للمرأة لم تبلغ في أيّ بلد من البلاد إلى حد أنها سوّت بين الرجل والمرأة في الحقوق، فالمرأة في الهند كانت مجردة عن شخصيتها الشرعية، وعند اليونان كانت السناء مكلفات بأن يعشن في الحجاب التام. ولا يخرجن من بيوتهم إلا عند الضرورة، وعند الرومان كانت المرأة في حكم القاصر، وفي مبدأ تاريخ أوربا عندما كانت خاضعة إلى سلطة الكنيسة والقانون الروماني، كانت في أسوأ حال، حتى إن بعض رجال الدين أنكروا أن لها روحا خالدة، وعرضت هذه المسألة على المجمع الذي انعقد في ماون في سنة ٥٨٦ فقرر بعد بحث طويل ومناقشة حادة أن المرأة إنسان، ولكنها خلقت لخدمة الرجل. وكان من الضروري أن تعيش تحت قوامة رجل وهو أبوها قبل زوجها، ثم زوجها بعد الزواج، وأحد أبنائها إذا مات الزوج، وأحد أقاربها من الذكور أو أقارب زوجها إن لم يكن لها أولاد، ولا يجوز لها في أية حال أن تتصرف بنفسها، وكانت غير أهل للشهادة في العقود، ولا للوصاية على أولادها القصَّر، ولا لأن تكون حكما أو أهل خبرة، وشوهد في بعض ولايات سويسرا أن شاهدة امرأتين تساوي شهادة رجل واحد، ولا تزال آثار هذه الأحكام باقية إلى الآن في كثير من مماليك أوربا؛ ذلك لأن مبدأ تشكيل الحكومة كان على صورة العائلة. والحكومة التي تؤسس على السلطة الاستبدادية لا ينتظر منها أن تعمل على اكتساب المرأة حقوقها وحريتها. هذا الضرب من الحكومة الاستبدادية هو أول حكومة سياسية ظهرت في العالم، وقد اضمحل ثم زال بعد أن أقام أجيالًا في البلاد الغربية، وحل محله النظام الدستوري المؤسس على أن الحاكم ليس له حق على الأشخاص ولا على الأموال إلا ما تفرضه القوانين. ولكنه لا يزال سائدا في الشرق بعامة، حيث نرى سكان الصين والهند وبلاد العرب والترك والعجم خاضعين إلى سلطة حكومة لم تتغير عما كانت عليه من آلاف من السنين. وجود التلازم بين الحالة السياسية والحالة العائلية في كل بلد؛ ففي كل مكان حط الرجل من منزلة المرأة، وعاملها معاملة الرقيق حط نفسه وأفقدها وجدان الحرية. وبالعكس في البلاد التي تتمتع فيها النساء بحريتهن الشخصية، يتمتع الرجال بحريتهم السياسية، فالحالتان مرتبطتان ارتباطا كليا. وآن لسائل أن يسأل: أيُّ الحالتين أثرت في الأخرى؟ نقول: إنهما متفاعلتان، وإن لكل منهما تأثيرًا في مقابلتها. وبعبارة أخرى: إن شكل الحكومة يؤثر في الآداب المنزلية، والآداب المنزلية تؤثر في الهيئة الاجتماعية. انظر إلى البلاد الشرقية، تجد أن المرأة في رق الرجل، والرجل في رق الحاكم، فهو ظالم في بيته مظلوم إذا خرج منه. ثم انظر إلى البلاد الأوربية تجد أن حكوماتها مؤسسة على الحرية واحترام الحقوق الشخصية، فارتفع شأن النساء فيها إلى درجة عالية من اعتبار وحرية الفكر والعمل، وإن كن لم يصلن إلى الآن إلى مستوى ما أعدلهن، ثم انتقل إلى بلاد أمريكا؛ تجد الرجال مستقلين في معيشتهم الخاصة استقلالً تامًا، وأن سلطة الحكومة وتداخلها في شئون الأفراد يكادان أن يكونا معدومين؛ ولهذا زادت حرية النساء فيها عما هي في أوروبا بكثير، حيث تساوى المرأة والرجل من البلاد الأمريكية في جميع الحقوق الشخصية، وفي بعض تلك الولايات تمت المساواة بينهما أيضا في الحقوق السياسية. مضت سنتان والنساء بحكم القانون يستعملن حقوقهن السياسية، فينتخبن نواب الأمة وينُبن بأنفسهن عنها، ويجلسن في مراكز القضاء، ويؤدين ما دون ذلك من الوظائف العمومية، ومن العدل أن النساء قد قمن بهذه الواجبات الجديدة على وجه من الرزانة وحصافة الرأي وسلامة الذوق لا ينقص عما يقوم به الرجال. وهذه التجربة بالنسبة لقصر مدتها لا تصلح أن تكون دليلا مقنعا لإثبات استعداد المرأة في القيام بمهام الحكومة، لكنها تحمل على حسن الظن بفطرة المرأة. وما دام الحال على هذا المنوال، فلهن الحق في الاستمرار. مضى اليومَ ست سنين ونحن نجرب النساء في استعمال حقوقهن السياسية، وقد أعلنت رأيي في جلسة سابقة، وصرحت بالفوائد التي أظهرتها التجربة، والآن أقول: إن ما شاهدته في هذه الست أقنعني إقناعا تاما بأننا أصبنا في تخويل النساء حق الانتخاب. وأن مساواة المرأة للرجل في الحقوق السياسية قد نجحت بالتجربة نجاحا لا يماري فيه أحد. لقد مضى ثماني سنين والنساء يتمتعن في أرضنا بالحقوق السياسية، وكل يوم يمر يزيد الأهالي ثقة بالنساء، وفي رأيي أن هذه نتيجة حسنة؛ لأنها موافقة لمصالح أمتنا). إن ولاية (بومنج) هي المكان الوحيد الذي تتمتع فيه النساء بجميع الحقوق السياسية الممنوحة للرجال بلا فرق بين الصنفين، وهذا الإقدام من أمتنا، التي أرشدها حب الحق والعدل إلى إصلاح خطأ طال عليه الزمن، قد وجه أنظار العالم إلينا، ولئن زعم أخصامنا أننا لا نزال في دور التجربة، فكلنا يعلم أن هذا الدور قد انقضى بالنسبة لنا. وإني أصرح هنا بأن اشتراك النساء في أعمال الحكومة مع الرجال، ترتب عليه أن القوانين عندنا أصبحت أحسن مما كانت عليه، وأن عدد الموظفين الأكفاء وصل إلى درجة لم نعهدها من قبل، وأن حالتنا الاجتماعية ارتقت كثيرًا، وهي الآن تفوق ما عليه سائر البلاد الأخرى، وأن جميع المصائب التي كنا نهدد بحلولها، مثل فقد النساء رقة الطبع، واضطراب النظام في معيشتنا المنزلية، لم نر لها أثرًا إلا في مخيلات خصومنا. إن السواد الأعظم من نسائنا قدرن حقوقهن الجديدة حق قدرها، واعتبرن القيام بها واجبا وطنيا، وبالجملة فإني أقول: إن تجربة اثنتي عشرة سنة مع النجاح الباهر، قد مكنت في عقولنا ونفوسنا أن مساواة المرأة للرجل لا يرتاب فيه. وكل هذه المقدمات تنساق إلى طلب الكمال في حالتنا الاجتماعية؛ حتى نجعل ولاية (بومنج) نجما يهتدي به العالم في الحركة العظيمة التي تصعد بالإنسان ذروة الحرية). وليس علىَّ أن أضيف على آراء هؤلاء الرجال العظام إلا أن قانون سنة ٦٩ لا يزال معمولا به إلى الآن في (بومنج)، وأن ثلاث ولايات أمريكية قد حذت حذو تلك الولاية، وخولت النساء الحقوق السياسية، وهي ولاية (آوته) و(كولورادوا) و(إيداهو). أما في باقي ولايات أمريكا، فالمرأة لم تنل إلى الآن حقوقها السياسية، لكن كل مطلع على حركة الرأي العام فيها لا يشك أنها ستنال هذه الحقوق في زمن قريب جدا. وإليك رأي رجلين من أكبر رجالها السياسيين. قال (سميلون) العضو في مجلس شيوخ الولايات المتحدة: «إني أعتقد أن انتشار الفسق في مدننا الكبيرة، لا يمكن أن يضيق نطاقه إلا إذا منحت النساء حق الانتخاب.» ومن رأي (جيلبير هافيه) وهو أيضا من أعضاء مجلس الشيوخ: «أن فساد الأخلاق السياسية لا يصلحه إلا اشتراك النساء في الانتخابات؛ لأننا نعلم أن الخمارة هي مجلس البلدية ومركز الانتخابات؛ وما ذلك إلا لأن الخمارة هي المحل الوحيد الذي لا تدخل فيه المرأة.» لعل القارئ يستغرب كيف أن الرجال في أمريكا يرون أن لا سبيل إلى محاربة الفسق وفساد الأخلاق إلا بمعرفة النساء. هذا أمر يحتاج إلى البيان؛ ولذلك أنقل هنا رأي القاضي الأمريكاني (جون لينجمان). كان الرجال قبل اشتراك النساء في الوظائف العمومية إذا اجتمعوا في مكان واحد لا يخلو جيب واحد منهم من مسدس، فإذا قام نزاع خفيف بين بعض الحاضرين، لم يكن ينتهي عادة إلا بقتل أو جرح، وكان المحلفون يحكمون في الغالب ببراءة الجانين، فلما اشتركت النساء في الوظائف القضائية مع الرجال، نتج عن ذلك معاقبة المذنبين، وكذلك كان المحلفون لا يهتمون بالعقوبة على السكر والقمار، فتغير الحال الآن، وقد ترتب على حضور النساء في الجلسات اننا نرى الآن قاعدتها متحلية من النظام والأدب والوقار بأكثر هما مما كان يعرف فيها من قبل. ولم يترتب على اشتغال النساء بالوظائف العمومية أنهن أهملن ما يجب عليهن في منازلهن، ولم يصل إلى علمي أن زوجًا اشتكى زوجته بسبب اشتغالها عن مصالح منزلها بالمصالح العامة، ولم أر شقاقا بين زوجين بسبب اختلاف آرائهما السياسية ولم أسمع به، على أني أعرف عدة عائلات ينتمي فيها الزوج إلى حزب، والزوجة إلى حزب آخر. على أن المرأة الأمريكية منحت في جميع الولايات المتحدة حظًا عظيما من الحقوق العمومية؛ فلها أن تحترف بحرفة المحاماة، وتترافع أمام جميع المحاكم. يوجد قضاة من النساء في ولايات (كانساس) و(بومنج) و(كولمبيه) و(شيلي) و(زيلندا) وغيرها، وعين بعض أفرادهن في وظيفة نائب عمومي. ويوجد عدد عظيم منهن في نظارات الخارجية والداخلية والحربية. أما عدد النساء المشتغلات بتحرير العقود الرسمية. والنساء القسيسات. والمهندسات ومديرات الجرائد، والمستخدمات في الرصد خانات والبوسطة، والتلغرافات، فلا يكاد يحصى. إذا زرت مدرسة عمومية، وجدت البنات يدرسن مع الصبيان في مكان واحد، والأستاذ الذي يلقي الدرس رجلا أو امرأة بلا فرق، وإذا دخلت في معمل علمي وجدت بنات محنيات الرءوس على آلة الميكروسكوب، وبجانبهن شبان من طلبة العلم، الكل مشتغل بفحص مسألة من علم التشريح، ويزورك أحد مكاتبي الجرائد من غير أن يسمي نفسه، فتجد أنه امرأة، وتروم استدعاء أحد الأطباء المشهورين، فتجد عدد الأطباء من النساء مساويا لعدد الأطباء من الرجال، وإن لم يكن مساويًا في بعض الجهات، فهو من الكثرة بحيث لا يعد التطبيب منهن من قبيل النادر. ويكفي لبيان ارتقاء شأن المرأة الأمريكية أن تقول: إنه تبين من الإحصائية التي عملت في سنة ١٨٨٠ أن النساء المحترفات بالعلوم والأديبات فقط بلغ عددهن خمسا وسبعين في المائة، و٦٣ في المائة في التجارة، و٦٢ في المائة في الصناعة. فإذا انتقلنا من أمريكا إلى إنجلترا، وهي أقرب الأمم إليها، وجدنا أن اشتغال النساء بالعلوم والصنائع لا يقل تقريبا عما يشاهد في أمريكا، فقد نتج من إحصائيتها الأخيرة أن مليونا منهن يشتغلن بالعلوم والأديبات، وثلاثة ملايين بالتجارة والصناعة. وللنساء الإنجليزيات حتى الانتخاب في المجالس البلدية وفي مجتمعات المعارف، والجمعيات الخيرية، ولم يفت النساء التمتع بهذه المزايا حتى في المستعمرات الإنجليزية «كالكاب» و«كندا» و«أستراليا». أما مسألة منحهن الحقوق السياسية، فهي لا تزال في دور التحضير، وأول طلب تقدم من النساء الإنجليزيات إلى مجلس النواب كان في سنة ١٧٦٦، وأمضى عليه ستمائة ألف امرأة، وأول مشروع تقدم إلى مجلس النواب لتخويلهن الحقوق السياسية كان في سنة ٦٧ وكان من حسن حظه أن العلامة «استيوارت ميل» هو الذي أخذ على نفسه المدافعة عنه أمام المجلس. فاكتسب في الحال ثمانين صوتا من النواب. كما أذكر بينهم «ديزرائيلي» و«غلادستون» وفي سنة ٧٢ تقدم المشروع ثانيا ونال ١٥٩ صوتا، وفي سنة ٧٣ نال ١٧٢ صوتا، وما زال يتقدم من حين إلى حين، ويكسب أصواتا جديدة حتى توفرت له الأغلبية في سنة ٩٧ فأقر عليه مجلس النواب، ولم يبق لنفاذه إلا تصديق مجلس الأعيان. وفي فرنسا لم تصل حركة الأفكار في شأن النساء إلى هذا الحد، فعدد المشتغلات من النساء بممارسة العلوم قليل، وعدد الموظفات في المصالح الأميرية يكاد يكون محصورًا في مصلحة البوسطة والتلغراف والتليفون، والحرفة التي اتجهت إليها على الخصوص نساء فرنسا هي التجارة، وقد خاب ظن «فيكتور هيجو» أكبر شعراء العصر في فرنسا الذي قال: «إن القرن الثامن عشر قرر حقوق الرجال، وسيقرر القرن التاسع عشر حقوق النساء» حيث قد انتهى القرن التاسع عشر ولم يتم شيء كبير من الإصلاحات التي يطالب بها كثير من رجال فرنسا، غير أنه في هذه السنين العشر الأخيرة حصل تخدم محسوس في حركة الأفكار الفرنساوية، انتهى بنيل النساء حق الانتخاب في المجالس التجارية، وفي العام الماضي صدر القانون الذي يخوّل النساء الاحتراف بصنعة المحاماة. وحال النساء في الممالك الأوربية الأخرى لا يختلف إلا قليلا عن حال النساء في فرنسا. أما مملكة روسيا، فمركزها الجغرافي قضى بأن تتأثر بالعادات الشرقية؛ ولهذا فقد عاش نساؤها من أهل الطبقة العالية والطبقة الوسطى محجوبات كنساء الشرق، مسجونات في البيوت، محرومات من التربية والتعليم، وليس لهن من الحقوق إلا ما تسمح به رحمة أزواجهن وأوليائهن، ولم تبطل هذه العادة من البلاد الروسية إلا في سنة ١٧٢٦ حيث صدر أمر عال من «بطرس الأكبر» بإلغاء الحجاب مرة واحدة، ثم توالت بعده الإمبراطورة «كاترين» فتممت عمله واشتغلت من سنة ١٧٦٢ إلى ١٧٩٧ بتأسيس المدارس للبنات، ونشرت بينهن التربية العقلية والأدبية. ولكن لما تولى الملك ألكسندر الأول وكان يبغض الحرية، وقفت هذه الحركة حتى تولى الملك ألكسندر الثاني، وكان ميالا إلى ترقية بلاده، محبا لتقدمها، فأبطل استعباد الرجال (السرفاج) وأنشأ مدارس كثيرة للبنات للتعليمين الابتدائى والثانوي كن يتعلمن فيها العلوم التي يتعلمها الذكور، وأول مدرسة أنشئت على هذا النمط كانت في سنة ١٨٥٧، ولكن لم يمض على هذه النهضة العظيمة زمن كبير حتى رأت الحكومة الروسية أن تقدم النساء في المعارف له أثر كبير في حالة الأمة السياسية، وأن حزب المعارضين للحكومة أخذ ينمو، فأقفلت في سنة ١٨٦٢ أبواب المدارس العالية في وجوه الرجال والنساء، ولكن النساء لم يقبلن أن ينتكسن في الجهل بعد أن ذقن طعم الحرية والعلم. فرحل الكثير منهن عن وطنه طلبا للمعارف، وأخذن يهاجرن إلى فرنسا وسويسرا وألمانيا لتحصيلها، وطفقن في مهاجرهن يطعنّ في الحكومة وينشرن أفكارهن في الكتب والجرائد، ويشتركن في المؤتمرات مع الرجال، فكانت عاقبة إقفال المدارس اشتداد ثورة الأفكار عما كانت عليه من قبل. فطنت الحكومة إلى هذا الأمر، وعرفت أنها أخطأت، فقررت في ١٨٨٩ إعادة تلك المدارس، وقد زاد عددها من ذلك العهد إلى الآن زيادة ظاهرة. عاشت المرأة حرة في العصور الأولى، حيث كانت الإنسانية لم تزل في مهدها. ثم بعد تشكيل العائلة، وقعت في الاستعباد الحقيقي. ثم لما قامت الإنسانية على طريق المدنية تغيرت صورة هذا الرق، واعترف للمرأة بشيء من الحق، ولكن خضعت لاستبداد الرجل الذي قضى عليها بألا تتمتع بالحقوق التي اعترف لها بها. ثم لما بلغت الإنسانية مبلغها من المدنية، نالت المرأة حريتها التامة، وتساوت المرأة والرجل في جميع الحقوق، أو على الأقل في معظمها. أربعة أحوال يقابلها أربعة أدوار من تاريخ التمدن في العالم. فالمرأة المصرية هي اليوم في الدور الثالث من حياتها التاريخية، بمعنى أنها في نظر الشرع إنسان حرٌ، له حقوق، وعليه واجبات، ولكنها في نظر رئيس العائلة وفي معاملته لها ليست بحرة، بل محرومة من التمتع بحقوقها الشرعية، وهذه الحال التي عليها المرأة اليوم هي من توابع الاستبداد السياسي الذي يخضعنا ونخضع له. ومع أن الاستبداد السياسي أصبح في حالة النزع، وأشرف على الفوات، بحيث لا ترجى له عودة، لا يزال الرجال عندنا يستبدون على نسائهم. وما سبب ذلك إلا أن قوانيننا السياسية قد ارتقت قبل أن نرتقي، وسبقتنا إلى ما لم نصل إليه بعد، فهي تقرر أن كل فرد منا له أن يتمتع بحريته وحقوقه الشرعية، لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى، ونحن معاشر الرجال لم يزل راسخا في طبعنا حب الاستئثار بمزايا الحرية وعدم احترام حقوق النساء. وهذا يدل على أن سلطان الأخلاق القديمة لا يزال نافذا في نفوسنا، وله أثر ظاهر في أعمالنا، فقوانيننا وضعت لأمة حرة، وأخلاقنا لا تزال أخلاق أمة مسترقة؛ لهذا نرى رجالا وردوا موارد العلم، وتنقلوا من مدرسة إلى مدرسة، ومن درجة إلى درجة، حتى حازوا على لقب علمي، وفقهاء يعلمون الحقوق، وشعراء من نوابغ العصر، على ما يقول العارفون بفنهم، وكتابا نصبوا أنفسهم لإفادة الناس بجرائد تلقب بالعلمية، أو الأدبية، أو الفنية، أو ما شئت من هذه الألقاب، وخطباء مشهورين يحبون الحرية والاستقلال. رأينا جميع من ذكرنا وعندما سمعوا القول بأن للمرأة حقًا مهضومًا، وأنها إنسان محروم، وأخذوا يتساءلون: هل يسوغ لها أن تخرج من سجنها؟ أو يرفع عنها غطاء من جهلها؟ وبعد طول التساؤل رجعوا إلى ما هو مركوز في طباعهم فأنكروا عليها هذا الحق، وحكموا عليها بأن تبقى في ظلمات الجهل وفي السجن المؤبد؟ فهل كان ذلك لأن المسألة عويصة تحتاج إلى العناء في حلها، وتقبل اختلاف الآراء فيها؟ كلا، وإنما نحن نتصور الحرية، ولا نشعر في الحقيقة بحبها، ونعرف حق الغير ولا نجد من أنفسنا احتراما له. نحن في دور التمرين على العمل بالأخلاق الحرة، ونحتاج إلى زمن لترسخ في نفوسنا، أما الأوربيون، فإنهم يقدرون الحرية حق قدرها، ويحبونها ويحترمونها في غيرهم، كما يقدرونها ويحبونها ويحترمونها في أنفسهم. وهذا شأن من له إحساس حقيقي بمزية فضيلة من الفضائل. فإنما الفاضل من يجل الفضيلة أينما كان مظهرها، قال «كوندوروسيه»، الأصولي الشهير في هذا المعنى: أما أن لا يكون حق حقيقي لأحد من الناس، وأما أن يكون لكل فرد حق مساو لحق الآخر، ومن جرد غيره من حقه مهما كان دينه أو لونه أو صنفه، فقد داس بقدميه حق نفسه. لهذا يشتغل محبو الترقي في أوربا لتحسين حال المرأة وإيصالها من الكمال فوق ما وصلت إليه الآن، وآلوا على أنفسهم أن يجاهدوا في هذا السبيل؛ حتى يبلغ النساء مرتبة الرجال، فيساوينهم في جميع الحقوق الإنسانية. ولا أنكر أن عددا غير قليل من الغربيين لم يزل يجادل في صحة أصل المساواة التامة بين الصنفين. فهناك مذهبان يتزاحمان: هكذا انقسم العالم الإنساني في كل إلى فريقين: فريق المحافظين، وفريق المصلحين، كلاهما يريد الخير ويطلب السعادة للنوع، ولكنهما يختلفان في طريق الخير وسبل السعادة. ومن تتبع سلسلة التاريخ في جميع الأزمان يعلم علم اليقين أن المرأة في كل زمان وفي كل مكان قائمة بوظيفتها الطبيعية، ولكنها مستعدة بضروب من الاستعداد إلى ضروب من الكمال، وإنها سارت وتسير في طريق الكمال التدريجي متنقلة من منزلة إلى أرقى منها، ومن مرتبة إلى أرفع منها. فالقول بلزوم بقائها على حال واحدة لا تتغير ولا تتبدل هو خروج بها عن القوانين الطبيعية التي قضت بتغير حالها في الماضي، وتهيئتها الآن للانتقال من طورها الحالي إلى طور آخر. وبالجملة فالاختلاف بيننا وبين الغربيين منشؤه أن الغربيين فهموا طبيعة الإنسان واحترموا شخصيته فمنحوا المرأة ما منحوا أنفسهم من الحقوق في جميع ما يتعلق بالحياة الخاصة، ولم ينازعها أحد منهم في حق التمتع بحريتها في الأعمال البدنية والعقلية، إلا ما حرمته الآداب. وسووا بينها وبين الرجل في كل ذلك، وإنما اختلفوا في مسألة مساواتها بالرجل في الحياة العامة؛ فيرى بعضهم أن اشتغالها بالأعمال يخرجها عن دائرة وظيفتها الطبيعية، ويرى البعض الآخر أن هذه الوظيفة الطبيعية لا تشغل حياة المرأة كلها، ولا تشغل كل امرأة، فقرروا المساواة بينها وبين الرجال أيضا فيما يتعلق بالحياة العامة. أما نحن فإننا لا ننظر إلى المرأة نظرنا إلى الرجل، ولم تستعد عقولنا إلى إدراك هذه الحقيقة الظاهرة وهي أن المرأة إنسان مثل الرجل، فجردناها عن استعمال جميع حقوق الإنسان، وحرمانها من جميع مزايا الحياة الخاصة والعامة، أما اشتغال المرأة بالأعمال العامة، فهو مما لا يدخل تحت مطالبتنا في هذا الكتاب؛ ولهذا لا نرى فائدة في الكلام فيه، وأما ما يتعلق بالحياة الخاصة للمرأة، فهو الذي نقصد البحث فيه، وهذا البحث يتناول ثلاث مسائل: وسنتكلم عليها على هذا الترتيب، ويلي ذلك مبحث في التربية والحجاب، ثم خاتمة تحتوي على حالة الأفكار الآن في مصر بالنسبة للنساء.
قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل. قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل.
https://www.hindawi.org/books/91575858/
المرأة الجديدة
قاسم أمين
يقصد قاسم أمين بـ«المرأة الجديدة» المرأة التي بدأ ظهورها في الغرب منذ عصر التنوير، وهي المرأة التي بدأت تلعب دورًا اجتماعيًّا وثقافيًّا رئيسًا في مجتمعها ودولتها، بعد أن كانت مهمشة ومقصية في عصور ما قبل التنوير الأوروبي، ويرى قاسم أمين أن الرؤية الاجتماعية السائدة عن المرأة في عصره داخل المجتمع المصري تشبه إلى حد كبير تلك الرؤية ما قبل التنويرية، وهي رؤية تتعارض مع الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها رجالًا كانوا أو نساءً، كما أنها رؤية تتعارض مع الفهم الصحيح للدين، فالإسلام كفل للمرأة حق التصرف في أملاكها، كما كفل لها حق التعلم وحرية العمل والمشاركة الاجتماعية والثقافية النهضوية في البناء الحضاري، والفهم المنغلق لدور المرأة إنما يمكن رده إلى الجهل والاستبداد بالدين والتمسك بالعادات والتقاليد المنافية لفطرة الإنسان والمخالفة للنظرة الأخلاقية القويمة.
https://www.hindawi.org/books/91575858/2/
حرية المرأة
لم يخطئ قدماء الفلاسفة في مسألة خطئهم في معنى الحرية الإنسانية؛ وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن الله خلق الناس على قسمين: قسم ميزه بالحرية، والقسم الآخر قضى عليه بالرق. وكانت معيشة الأحرار بعيدة عن الاستقلال، ومتأثرة بسلطة رؤساء العائلات ورؤساء الحكومة. والتاريخ يحدثنا بأن الحكومة في تلك الأعصر الخالية كانت تتداخل في كل ما يتعلق بالحياة الخاصة، وكان لها الشأن الأول في نظام العائلة، والتربية، والديانة، والأخلاق والعواطف؛ حتى إنها كانت تحدد في المعاملات التجارية أثمان البضائع، وقد وصلت بها الأثرة بالتداخل في شئون الحياة الخاصة، إلى حد أن قوانين اليونان القديمة كانت تحجر على النساء الخروج من منازلهن إلا في أحوال مبينة، فكانت المعيشة الاجتماعية هي أشبه شيء بالعيشة العسكرية، يأمر الحاكم حينما يريد بما يريد، وما على المحكومين إلا أن يطيعوا أوامره. ولما تقدم العالم في المدنية، تخلص الفرد شيئا فشيئًا من سلطة الهيئة الاجتماعية، ووسع في دائرة حريته. وانعكس الأمر، فما كان في السابق أصلا عاما، أصبح الآن من المستثنيات، ومن ثم صارت غاية التمدن أن ينال الفرد أقصى ما يمكن من الاستقلال والحرية. ذلك لأن الإنسان ترقى في فكره، فهو يرى أن تسليم نفسه إلى تصرف الحاكم أمر لا تسلم به لمنزلته من الإنسانية، ولا يتفق مع راحته وسعادته؛ ولهذا فهو لا يقبل أن يتنازل لأحد عن حريته. ولا أن يأتمن أحدًا عليها ولو كان أقرب الناس إليه، ولا يسمح بأن يترك منها إلى الحكومة إلا بقدر ما يلزم تركه؛ لتتمكن من تأدية وظيفتها، وهي المحافظة على الأمن العام في الداخل، والمدافعة عن سياج الأمة في الخارج، وأيضا القيام بالأعمال التي تعود منفعتها على الجميع. بحسب هذا الشرط يخضع الفرد إلى ما تقرره عليه من الأعمال والأموال، أما إذا أرادت الحكومة أو أيّ فرد من الناس أن يدخل في عمل من أعماله أو شأن من شئونه الخاصة، فإنه يشعر بثقل الضغط عليه، ويجد في نفسه ألم الظلم. ولذلك سببان: فوضع قاعدة واحدة لجميع الأعمال الخاصة بكل فرد لا يسهل على الطباع البشرية قبوله. فالحرية هي قاعدة ترقي النوع الإنساني ومعراجه إلى السعادة؛ ولذلك عدتها الأمم التي أدركت سر النجاح من أنفس حقوق الإنسان. ومن المعلوم أن المقصود من الحرية هنا هو استقلال الإنسان في فكره وإرادته وعمله متى كان واقفا عند حدود الشرائع، محافظًا على الآداب، وعدم خضوعه بعد ذلك في شيء لإرادة غيره، اللهم إلا في أحوال مستثناة، كالجنون والطفولية، حتى بالنسبة للأطفال رأى علماء التربية الصحية أن الضغط على الأطفال مميت لعزيمتهم، ورجحوا أن يترك الطفل يتصرف في نفسه بحرية، وإنما على والديه إرشاده ونصحه. ليس مرادنا أن نقول: إن المرأة اليوم تباع وتشترى في الأسواق، ولكن ليس الرقيق هو الإنسان الذي يباح الإتجار به فقط، بل الوجدان السلم يقضي بأن كل من لم يملك قياد فكر وإرادته وعمله ملكا تاما فهو رقيق! لا أظن أن القارئ يختلف معي في الرأي إن قلت: إن المرأة في نظر المسلمين على الجملة ليست إنسانا تاما، وإن الرجل منهم يعتبر أن له حق السيادة عليها، ويجري في معاملته معها على هذا الاعتقاد، والشواهد على ذلك كثيرة. فليس من الأدب في كثير من العائلات ألّا تقبل المرأة يد الرجل عند السلام عليه، ولا من الأدب أن تجلس النساء مع الرجال، ولا من الأدب أن يأكلن معهم. وقد رأيت مرارا بعيني أن الرجل يجلس على مائدة الطعام، وامرأته قائمة تطرد الذباب عنه، وابنته تحمل قلة الماء. نعم، إن معاملة الرجل للمرأة على هذه الطريقة الفظة المستهجنة تشاهد في الغالب في بعض الطبقات، خصوصا في بلاد الأرياف، لكن استعباد المرأة في الطبقات الأخرى وفي المدن موجود على أشكال أخرى. فالرجل الذي يحجر على امرأته ألا تخرج من بيتها لغير سبب سوى مجرد رغبته في أن لا تخرج، لا يحترم حريتها، فهي من هذه الجهة رقيقة بل سجينة، السجن أشد سلبا للحرية من الرق. ولا يقال: إن عدد الرجال الذين يسجنون نساءهم صار اليوم قليلا، فإنه وإن قل بالنسبة إلى الماضي، لكن كلنا نعلم أن من النادر جدا أن تكون المرأة متروكة لإرادتها واختيارها في ذهابها وإيابها، على أن كلامنا الآن، إنما هو في مقام المرأة في نفس أغلب الرجال وما يجب عليها في اعتقادهم أن تعمل به وأن تكون عليه، فسواء قل احتباس المرأة أو لم يقل، فالمرأة المقصورة في بيتها التي لا تفارقه عندهم خير امرأة. ولو أخذ المسلمون برأي الجهال من فقهائهم، وهم أهل الرأي عندهم، لرأوا من الواجب عليهم أن يسجنوا نساءهم وألا يسمحوا لهن بالخروج إلا لزيارة الأقارب في العيدين، ورأوا من الأفضل ألا تخرج من بيتها في جميع الأحوال، وقد عدوا من مفاخرهم ألا تخرج المرأة من خدرها إلا محمولة إلى قبرها! ولا شك أن تقرير الحق للرجل في سجن زوجته ينافي الحرية التي هي حق طبيعي للإنسان. والمرأة التي يسوقها والدها كالبهيمة إلى زوج لا تعرفه، ولا تعرف شيئا من أحواله معرفة تسمح لها بأن تتبين حقيقة أمره، وتحصل لنفسها رأيا فيه، لا تعتبر حرة في نفسها، بل تعد في الحقيقة رقيقة، ومن المعلوم أن عموم الآباء في جميع طبقات الأمة يزوجون بناتهم على هذه الطريقة، فيتخابرون مع الخطّاب، ثم يعقدون عقد الزواج، أما هن فلا رأي لهن في هذا الأمر الخطير الذي في ذلك كحال المرأة؛ إذ هو أيضا لا يعلم من أحوال مخطوبته شيئا؛ لأن الرجل يمكنه أن يتخلص من عواقب جهله بأن يطلقها في أيّ وقت شاء، أو يتزوج غيرها مثنى وثلاث ورباع، أما المرأة التي تبتلى برجل لا ترضى نفسها بمعاشرته، فليس لها إلى الخلاص منه سبيل، فتزويج المرأة برجل تجهله، وحرمانها حق التخلص منه، ومع إطلاق الإرادة للرجل في إمساكها وتسريحها كيف يشاء، هو استعباد حقيقي. والمرأة التي يجب ألا تتعلم فروض العبادة، كما يقول الفقهاء ومن أخذ عنهم، أو يجب ألا تتعلم إلا مقدارا ومحدودا من مبادئ بعض العلوم، تحسب رقيقة؛ لأن قهر الغرائز الفطرية والمواهب الإلهية على لزوم حد مخصوص، ومنعها عن النمو إلى أن تبلغ الكمال الذي أعدت له، يعد استعبادا معنويا. والمرأة التي تلزم بستر أطرافها والأعضاء الظاهرة من بدنها، بحيث لا تتمكن من المشي ولا الركوب، بل لا تتنفس ولا تنظر ولا تتكلم إلا بمشقة، تعد رقيقة؛ لأن تكليفها بالاندراج في قطعة من قماش إنما يقصد منه أن تمسخ هيئتها وتفقد الشكل الإنساني الطبيعي في نظر كل رجل ما عدا سيدها ومولاها. وبالجملة، فالمرأة من وقت ولادتها إلى يوم مماتها هي رقيقة؛ لأنها لا تعيش بنفسها ولنفسها، وإنما تعيش بالرجل وللرجل، وهي في حاجة إليه في كل شأن من شئونها، لا تخرج إلا مخفورة به. ولا تسافر إلا تحت حمايته ولا تفكر إلا بعقله، ولا تنظر إلا بعينه؛ ولا تسمع إلا بإذنه، ولا تريد إلا بإرادته ولا تعمل إلا بواسطته، ولا تتحرك بحركة إلا ويكون مجراها منه. فهي بذلك لا تعد إنسانا مستقلا. بل هي شيء ملحق بالرجل. انظر إلى صبي لا يزيد عمره عن خمس عشرة سنة، وقارن بينه وبين والدته، تجد أنها أحط منه في العقل والمعلومات والتجارب، وأنه أكبر منها شأنا، ليس فقط فيما يتعلق بالأمور الخارجة عن المنزل، بل في نفس بيتها. كيف لا وهو الذي يأمر وينهى فيه. وهو الذي ينوب عنها في إشغالها وادارة بيتها وتدبير ثروتها؟ انظر إلى امرأة تمشي في الطريق، ومعها خادم، تجد في نفسك لأول وهلة أن الخادم يشعر من نفسه أنه هو صاحب الإرادة والرأي والقوة، وكأن لسان حاله يقول: إني اؤتمنت على هذه الذات الجاهلة الضعيفة، وعلى ملاحظتها وحراستها وحمايتها. لا حظ أن امرأة محجبة تمر على جماعة من أهل الخلاعة تجد أنهم لا يتحاشون من أسماعها كل ما يخطر على بالها من العبارات المخلة بالأدب. وفي بعض الأحيان يترامون عليها بأجسامهم ويلمسونها بأيديهم، مع أنه لم يصدر من تلك المرأة حركة يرتاب فيها وتغريهم بالاندفاع عليها والتهافت على هذه الأفعال القبيحة، لم تصبر المرأة على هذا الاعتداء من الرجال ساكنة خائفة لا تنبعث إلى دفاع؟ ولم لا يجرؤ هولاء الرجال على إتيان ما يأتونه من الأقوال والأعمال الشنيعة مع امرأة سافرة؟ هل ذلك لأن المرأة المبرقعة أشد فتنة للرجال بجمالها من النساء السافرات؟ كلا وإنما وقر في نفوس الرجال عندنا أن البرقع والحبرة هما عنوان الجهل والضعف وآية الانخداع، ورأوا في عائلاتهم أن المرأة ليست محترمة، ولا تحس باحترامها لنفسها، وأنها سهلة القيادة، لينة المغمز، تتبعه لأول إشارة بيده أو كلمة يرميها، وأنها تخشى الرجل ولا تجرؤ على تأديبه، فاستخفوا بها، وتجاسروا على امتهانها، وتعودوا على ألا يحترموا امرأة مبرقعة إلا إذا وجد معها رجل ولو كان خصيّا! فهل هذه الذات الحقيرة متمتعة بحريتها؟ وهل مع هذا الامتهان تعد نفسها نفس إنسان؟ سيقول قوم: كيف لمدع أن يدعي أن المرأة مستعبدة عندنا، مع أنا نراها في مكانة من السلطان على قلب الرجل منا بحيث تسخره لإرادتها وأهوائها، وتصرفه عن أعماله لقضاء رغائبها، وأن الرجل ليتجشم الأسفار ويتردد بين المدينة والأخرى لينتقي لزوجته لباسا، أو يختار لها نوعا من أنواع الحلي يرضي بها هواها، ويقضي به رغبتها؛ ليستجلب رضاها، ثم هي سيدة بيته، لا يرفع فيه إلا ما رفعت، ولا يضع فيه إلا ما وضعت، فهل مع هذا كله يقال: إن المرأة مسترقة للرجل؟ نعم، لا ننكر شيئا من هذا كله، ولكننا ننكر أن يكون ذلك عاما عند جميع الناس، كما ننكر أنه ناشئ عن احترام الرجل للمرأة واعتقاده باستحقاقها لهذه المعاملة بما لها من العقل والأدب، وما كسبته من حق الصحبة الناشئ عن عقد الزواج، وإنما يرفع المرأة أحيانا إلى تلك المنزلة إفراط في الشهوة من الرجل، يحدثه براعة في الجمال أو تفنن في ضروب الاحتيال. فهي سيدته ما تعلقت بها شهوته، فإذا خمدت نيران الشهوة وعاد ما بينهما إلى المعروف مما بين رجل وزوجته سقطت المرأة من أوج عزتها إلى حضيض الذلة، ولبست ثياب الاسترقاق. سيقال أيضا: أن حرية المرأة تستلزم في الواقع أن يعاملها الرجل باحترام، وألا يضغط على إرادتها وفكرها. وأن يسمح لها بالخروج للزيارة والرياضة، ولكن ما العلاقة بين حريتها وكشف وجهها، واختلاطها بالرجال، ومعاملتها لهم؟ فالجواب: أن إلزام النساء بالاحتجاب هو أقسى وأفظع أشكال الاستعباد؛ ذلك لأن الرجال في أعصر التوحش كانوا يستحوذون على النساء، إما بالشراء كما بيناه، وإما بالاختطاف. وفي كلتا الحالتين كانوا يعتبرون أنفسهم مالكين نساءهم ملكا تاما، وتبع ذلك أن الرجل جرد امرأته عن الصفات الإنسانية خصصها بوظيفة واحدة وهي أن تمتعه بجسمها، فأقرها في مسكنه. وألزمها بأن تلازمه ولا تخرج منه؛ حتى لا يكون لأحد غيره حظ في أن يتمتع بها، ولو بالنظر أو الحديث، شأن المالك الحريص على ملكه الذي يريد أن يستأثر بجميع مزايا المتاع الذي يملكه. ولما كان من المحال ألا تعرض ضرورة تقضي على المرأة بالخروج من منزلها في بعض الأحيان، أراد أن يتبعها بالحجاب، حيث سارت فألزمها بستر وجهها إذا خرجت. هذا الحجاب الذي قرره الرجل في الأصل على زوجته تتعدى بعد ذلك إلى البنات والأمهات والأخوات، وإلى عموم النساء؛ لأن كل امرأة هي زوجة أو كانت زوجة، أو مستعدة لأن تكون زوجة. فالحجاب هو عنوان ذلك الملك القديم، وأثر من آثار تلك الأخلاق المتوحشة التي عاشت بها الإنسانية أجيالا قبل أن تهتدي إلى إدراك أن الذات البشرية لا يجوز أن تكون محلا للملك لمجرد كونها أنثى، كما اهتدت إلى أن تفهم أن سواد البشرة ليس سببا لأن يكون الرجل الأسود عبد الأبيض. وليس من الغريب بقاء الحجاب بعد زوال السبب الذي أوجده، أي بعد خروج المرأة عن ملكية الرجل، فقد جرت سنة الله في خلقه بأن الانتقال من طور إلى طور آخر لا يكون دفعة واحدة، وإنما يحصل بضروب من التغيير ربما لا يحس بها من كانوا موضوعًا لها، فكثيرًا ما يظن الناس استحالة انتقالهم عن حالة من الحالات، مع أنهم سائرون عنها منتقلون إلى غيرها، متحولون إلى إرادتهم أو أحسن منها، وهم لا يشعرون، حتى إذا انتهت الحركة إلى غايتها ظهر لهم أنهم صاروا إلى الطور الذي كانوا من قبل ينكرون. فلما بطل حق ملكية الرجال على النساء اقتضت سنة التدريج أن تعيش النساء في حالة وسط بين الرق والحرية حالة اعتبرت فيها المرأة أنها إنسان، لكنه ناقص غير تام. كبر على الرجل أن يعتبر المرأة — التي كانت ملكا له بالأمس — مساوية له اليوم، فحسن لديه أن يضعها في مرتبة أقل منه في الخلقة، وزعم أن الله لما خلق الرجل وهبه العقل والفضيلة، وحرمها من هذه الهبات، وأنها لضعفها وقلة عقلها وميلها مع الشهوات يلزم أن تعيش غير مستقلة تحت سيطرة الرجل، وأن تنقطع عن الرجال وتحتجب بأن تقتصر في بيتها وتستر وجهها إذا خرجت؛ حتى لا تفتنهم بجمالها أو تخدعهم بحيلها، وأنها ليست أهلا للرقي العقلي والأدبي فيلزم أن تعيش جاهلة. وذلك هو السر في ضرب الحجاب، وعلة بقائه إلى الآن، فأول عمل يعد خطوة في سبيل حرية المرأة، هو تمزيق الحجاب ومحو آثاره. ولما كانت تهمة المرأة بنقصان العقل هي الحجة التي اتخذها الرجل لاستعبادها، وجب علينا أن نبحث في طبيعة المرأة؛ لنعلم إن كانت — كما يقال — أحط من طبيعة الرجل أم لا؟ إذا سألنا الرأي العام فالجواب سهل معلوم. ولكن الرأي العام لا يصح أن يكون له صوت في مسألة علمية كهذه؛ لأن مبنى الرأي العام القضايا المشهورة، التي صاغتها العادة وقررتها الألفة بدون بحث ولا تنقيب، فهي مرجع العامة في أحكامها، يردون إليها كل حادث طبيعي أو اجتماعي لا يعرفون أسبابه، والرأي العام يعتبر أن تغير كل عادة ألفها مخالف للطبيعة؛ لأنه لا يفرق بين العادة والطبيعة؛ حيث يظن أن ما هو حاصل الآن كان كذلك وسيبقى إلى الأبد. ولا ريب أن المرأة اليوم أحط من الرجل في الجملة، ولكن علينا أن ننظر هل هذه الحال طبيعية لها أو ناشئة عن طرق تربيتها؟ تلك هي المسألة التي يلزمنا لحلها أن نرجع إلى الأصول العلمية؛ لنعلم ما تقرره فيها. رأي العلماء أنه لا يصح الحكم على طبيعة المرأة ومبلغ استعدادها للكمال الإنساني بآثارها التي صدرت منها إلى الآن. وإنما يصح ذلك بعد أن تملك من حريتها ما يملك الرجل، وبعد أن تشتغل بتثقف عقلها مدة من حريتها ما يملك الرجل، وبعد أن تشتغل بتثقيف عقلها مدة من الزمن تساوي المدة التي قضاها الرجل في تربية ملكاتهم العقلية والأدبية، غير أنهم حكموا بأن المرأة ليست مثل الرجل في الخلقة وأنه يوجد بين الصنفين اختلافات تشريحية وفسيولوجية يتميز بها كل صنف عن الآخر. ولكن ليس في هذه الاختلافات ما يدل على أن أحد الصنفين أرقى من الآخر أو أحط منه. ذلك ما يستنتج من كلام العلامة (جاك لوربيب) في كتابه المسمى: (المرأة أمام المعلم). وقال الأستاذ فرشلو: «إني ألقيت دروسًا كثيرة في العلوم الحسابية وعلوم الأخلاق والفلسفة لطلبة العلم، وكان بينهم كثير من النساء، والذي شاهدته بنفسي هو أنه لا يوجد فرق بين الصنفين، وكانت نسبة الدرجات بينهما واحدة». «ما أكفر الرجل! ألجأه كبره أن يزوّر حتى في علم التشريح، فلم يكتف بأن يغتصب المحل الأول في العالم، بل أراد أن يبرهن أن المرأة أقل منه في الإنسانية، وأنها في مرتبة بين القرد والإنسان؛ ولهذا فيكون له الحق في أن يجردها من الحقوق التي منحها نفسَه، كأنه نسي أن الذات التي يريد أن يحط بقدرها هي أمه، والحقيقة أن المرأة — أمام علم التشريح — ليست أقل درجة من الرجل ولا أرقى منه، وإنما تختلف عنه؛ لأن لها وظائف تقوم بها غير وظائف الرجل». «إن السبب في أهم ما تختلف فيه المرأة عن الرجل من الجهة الأدبية هو الاستعباد الذي استولى على المرأة زمانًا طويلًا؛ حيث تغلب الرجل على المرأة في الطبقة السفلى بقوة عضلاته، وفي الطبقات الأخرى بعلو معارفه وتربيته، وهذه المنزلة المنحطة قضت على المرأة بأن تستعمل حيل الرقيق لتدافق نفسها، ويظهر أن الرجل يمتاز عليها بقوة عزيمته وزيادة الثبات في أعماله، ولكنها تمتاز عليه في قوة الإحساس وتحمل الآلام، وهي تصبر على الأمراض والعلميات الجراحية صبرًا يعجز عنه الرجل، وربما كان السبب في ذلك أنها أقل أثَرَةً من الرجل، أو أنها اعتادت على الاستسلام والخضوع. وتتميز المرأة على الرجل أيضا بأنها أضعف شهوة منه، فالحب عند الرجل ميل شهواني إلى استيفاء اللذة الجسدية، والحب عند المرأة وداد قلبي غايته امتزاج الروحين، واستدل على ذلك بأن الرجال يستعملون جميع أنواع الحيل والخديعة مع النساء لاستمالتهن، والكثير منهن مع ذلك يدافعن عن عرضهن، ويتغلبن على شهواتهن وقال: «إنه إذا عكس الأمر وفرضنا أنه أبيح للنساء أن يستعملن مع الرجال — لاستمالتهم — ما يستعمله هؤلاء الآن مع النساء فربما لم يستطع رجل أن يحافظ على عفته!» وقال: «إن حب المرأة للخير من المألوفات المشهورة، أما الرجل فيسود عنده حب النفس؛ لذلك تراه يفتكر أولا في نفسه ثم في أولاده، بخلاف المرأة، فهي تفكر أولا في غيرها ثم في نفسها، فهمُّ الرجل أن يكون سعيدًا، وهم المرأة أن تجعل الغير سعيدًا، وهذا الإحساس يشاهد في جميع أعمال الحياة، صغيرها وكبيرها، وأعظم مثال لإيثار المرأة غيرها على نفسها هو حب الأم لولدها، فهي تحبه أكثر مما يحبه أبوه، وتحبه مهما كانت عيوبه، بل يمكن أن يقال: إنه كلما كان ولدها سيّئ البخت زاد حبها له، والأب على عكس ذلك». فالمرأة في رأي أعظم العلماء وأدقهم بحثا مساوية للرجل في القوى العقلية، وتفوقه في الإحساسات والعواطف، وإنما يظهر للناظر وجود فرق عظيم بينهما في العقل؛ لأن الرجال اشتغلوا — أجيالا عديدة — بممارسة العلم، فاستنارت عقولهم، وتقوت عزيمتهم بالعمل، بخلاف النساء، فإنهن حرمن من كل تربية، فما يشاهد الآن بين الصنفين من الفروق هو صناعي لا طبيعي. لا نريد بهذا التساوي أن كل قوة في المرأة تساوي كل قوة في الرجل، وكل ملكة فيها تساوي كل ملكة فيه، ولكنا نريد أن مجموع قواها وملكاتها يكافئ مجموع قواه وملكاته، وإن كان يوجد خلاف كبير بينهما؛ لأن مجرد الخلاف لا يوجب نقص أحد المتخلفين عن الآخر. فعلى أي دليل علمي يستند الرجال لاستعباد النساء؟ وبأي حمق جاز لهم أن يحرموهن من حريتهن؟ لنفرض جدلا أن عقل المرأة أقل من عقل الرجل، فهل نقصان العقل في شخص يبيح أن يجرد من حريته؟ أما يوجد بين أفراد الرجال اختلاف في العقول أكبر من الاختلاف الموجود الآن بين الرجال والنساء؟ أليس عقل المصري يختلف باختلاف طبقات الأمة المصرية، ومع ذلك نرى جميع الرجال متساوين في تمتعهم بحريتهم البدنية؟ ألا يوجد بين نسائنا المصريات من هن أكبر عقلا وأكمل أخلاقًا من أزواجهن أو آبائهن أو أبنائهن؟ لا يصح أن يكون اختلاف العقول سببًا لتجريد الإنسان عن حريته بل الذي يجر إليه الاختلاف إنما هو أن يعلو فكر على فكر فيقوده بقوة الإقناع أو تسود إرادة على إرادة بقوة الاستمالة؛ حتى تسخرها على طوع منها. ما قررته الشريعة الإسلامية من حقوق المرأة — وقد أشرنا إليه في ما تقدم — يقودنا إلى أن هذه السلطة الأدبية هي التي ترمي إليها الآية الشريفة التي ذكرت أن الرجال قوامون على النساء، وقد نحت الشرائع الأوربية هذا النحو فخولت للرجل مثل هذه السلطة على زوجته وسمتها: سلطة الزوجية، ومع ذلك فكل إنسان يرى النساء الغريبات متمتعات بحريتهن. ولنفرض جدلا — أيضًا — أن حجاب النساء وسيلة لصيانتهن عن الفساد، فهل يكفي ذلك لحرمانهن من حريتهن؟ إذا كانت معاملة الرجال للنساء جالبة للفساد، فلماذا تُداس حرية المرأة وتحترم حرية الرجل؟ هل يختلف نظر العدل بالنسبة إلى الرجل والمرأة، وهل يوجد حقان: حق للرجال وحق للنساء؟ أليس كل ذي اختيار موكولًا إلى اختياره يتصرف به كيف يشاء متى لم يخرج في عمله عما حدده له الشرع والقانون؟ نرى أن مسئولية المرأة في هذه الدنيا، وفي الآخرة، لا تقل أمام الشرع عن مسئولية الرجل، ونرى أن القوانين لا تعافيها من العقوبات إذا ارتكبت جريمة، ولا تقضي بتخفيف عقوبتها، بل نرى أن الرأي العام جسم مسئوليتها، حتى جعلها أشد من مسئولية الرجل، فإذا استهوى رجل عمره أربعون سنة بنتا عمرها خمس عشرة سنة، وانتهز فرصة ضعفها وفسق بها، يحكم الرأي العام أن هذه البنت الصغيرة هي التي فقدت شرفها، ويهمل شأن الرجل كأنه لم يأت منكرا! أليس ذلك لأن الشرع والرأي العام يعترفان أن المرأة مسئولة عن أعمالها؟ فإن كانت مسئولة بهذه الدرجة أليس ذلك لأن الشرع والرأي العام يعترفان أيضا بأنها حرة مختارة؟ لا أظن أن عقلا يقبل أن تعتبر المرأة إنسانًا كامل العقل والحرية من جهة استحقاقها لعقوبة الشنق إذا قتلت، ثم تعتبر إنها ناقصة العقل، بحيث تحرم من حريتها في شئون الحياة العادية! اعتقاد الرجل أن امرأته إذا منحت حريتها تسيء استعمالها لا يبيح له حرمانها منها؛ لأنه لا يباح لإنسان أن يتعدى على آخر بسلب حريته والسيطرة على إرادته بحجة أنه يريد منعه من ارتكاب خطيئة. ولو جاز — لدفع ضرر محتمل الوقوع — تجريدُ الإنسان عن حريته لوجب وضع تسعين في المائة من الرجال تحت قانون الحجاب؛ منعًا لهم من الفساد! بل لو قبلت المرأة أن يوضع عليها الحجاب لم يعتبر قبولها هذا التزامًا صحيحًا بحيث يمتنع عليها بعد ذلك أن تحل عقدته؛ لأنه التزام باطل؛ لمنافاته للطبيعة البشرية والقواعد الشرعية. على أن ما قيل من أن حرية النساء تعرضهن للخروج عن حدود العفة، كله كلام لا أصل له، تبطله التجارب وينبذه العقل؛ إذ أن التجارب المؤسسة على الشاهدات الصحيحة تدل على أن حرية النساء تزيد في ملكاتهن الأدبية وتبعث فيهن إحساس الاحترام لأنفسهن، وتحمل الرجال على احترامهن. ولا نذهب في تأييد هذا الرأي مذهب غيرنا بالإتيان بإحصاء مخترع لا حقيقة له، نشره بعضهم في الجرائد الهزلية تفكهةً للقرّاء، ونسب فيه إلى أحد العلماء أنه شاهد أن المرأة الألمانية تخون زوجها سبع مرات! والبلجيكية ست مرات وأربعة أخماس المرة! والهولندية أربع مرات! والطليانية مرة وخمسة أسداس! والفرنساوية مرة واحدة! وهكذا إلى أن وصل إلى التركية، والمراد بها الشرقية، أنها لا تخون زوجها إلا عشر المرة الواحدة! ولا نسند رأينا إلى قضايا مسلمة تؤخذ من غير دليل، كما يفعل أولئك الذين يدعون أن المرأة متى جلست مع الرجال في مكان واحد مدة خمس دقائق، وجب محو اسمها من قائمة النساء الفاضلات! فإن كل قضية لا ترجع إلى أحد أنواع البدهيات المعروفة عند أهل النظر لا تصح أن تكون مقدمة لدليل، أولئك جماعة لو طولب الواحد منهم بدليل على ما يقول لما وجد في خزانة مخه إلا أن الرجل والمرأة، هما دائما في طوع شهواتهما، هكذا شأنهما، يستعملان من أنفسهما الأخلاق التي جُبلا عليها، ويعتقدان أنها أخلاق الإنسانية كلها، فهما في نظر أنفسهما يمثلان الرجل من حيث هو، والمرأة على حالتها المعهودة اليوم تمثل في نظرهم المرأة من حيث هي، وما دروا أن الرجال يختلفون في أخلاقهم ومزاياهم إلى ما لا نهاية له، على حسب الزمان والمكان وطرق التربية، وأن المرأة تختلف خلائقها وآدابها على نحو ما يختلف به الرجال. هذا الاختلاف الذي يعرض في حياة النساء الأدبية ينشأ غالبًا من اختلاف العادات. أول شيء يطلبه الرجال عندنا من المرأة هو أن تكون عفيفة، ولهم الحق في أن يطلبوا منها أن تكون متحلية بهذه الفضيلة، ولكنهم بذلوا ما في وسعهم لمحو هذه الفضيلة، وجعلها من المستحيلات؛ وذلك لأن نظام المعيشة عندنا يبعث في المرأة شدة الميل إلى الشهوات؛ فإن سجن المرأة والتضييق عليها في وسائل الرياضة، يعرضانها دائما لضعف الأعصاب، ومتى ضعفت الأعصاب اختل التوازن في القوى الأدبية، هذه حقيقة يلزم أن يعترف بها كل إنسان، فإن من الحقائق الثابتة أن الجسم إذا كان قويًا وكان القلب يرسل الدم إلى جميع خلايا الجسم تشعر نفس الإنسان بقوتها، فكما لا تنهزم عند ملاقاة المصاعب والمتاعب المادية، فهي لا تضعف عن مقاومة الأهواء والنزعات الرديئة، ومن المشاهد أن التعب الشديد والمرض المضعف يعقبهما فتور في الجسم وانحلال في القوى يؤثران في الإرادة وفي العزيمة، فكما إذا حاول الجسم نهوضًا لا يكاد يستطيعه فيسترسل مع الميل إلى الراحة كذلك تشعر النفس بعجزها عن ضبط أهوائها ومقاومة كل ميل تقتضي مدافعته جهدًا ومشقة. لا شك أن قوة البنية وسلامة الأعصاب هما من أهم أعوان الإنسان على ضبط نفسه. وإن ضعف البنية واعتلال الأعصاب هما من أهم الأسباب التي تجعل الإنسان آلة تلعب بها الشهوات والأهواء. فإن كانت في حاجة إلى الاستشهاد برأي بعض العلماء على ما نقول فإني أنقل ما قاله رجل أجاد درس علم التربية وهو الدكتور فلوري. قال في كتابه المسمى (جسم وروح الولد): «إن آلة العقل هي المخ، فكل انحراف يعرض في الصحة البدنية يؤثر فيه، فإذا استوفينا شروط صحة الجسم، أمكننا أن نحصل سلامة الإرادة وقوة الحكم، ونحسن في أخلاق المرء وآدابه». فالنساء المسجونات يحسبن قبل كل شيء نساء مريضات؛ ولهذا فهن أشد تعرضًا لمطاوعة شهواتهن من النساء اللواتي يتمتعن بحريتهن! فإذا اقترن الحجاب بالبطالة، ولا يمكن انفكاك الحجاب عنها, تبعها قتل كل فضيلة في نفس المرأة. هذا التلازم بين الحجاب والبطالة لا يروق لبعضنا التصريح بوجوده، وربما يعجبهم أن يقال: إن نساءنا المحجبات عندهن واجبات عديدة تشغل أوقاتهن، وإن منحهن الحرية المطلوبة قد يكون سبب في تحويل عنايتهن عن هذه الواجبات وتوجيهها إلى أمور لا يعود منها نفع على المرأة ولا على بيتها. ولكن نحن لا يهمنا إلا تقرير الحقيقة كما هي. نحن نقول: إن وجود الواجبات شيء والقيام بها شيء آخر، وإن نساءنا اللاتي لا عمل لهن، ولا شأن لهن خارج المنزل لا يجدن من الوقت ما يسع القيام بواجباتهن لأزواجهن وأولادهن، وأنهن تركن شئون الحياة البيتية إلى غيرهن. بخلاف النساء العربيات اللاتي اتسعت دائرة أعمالهن حتى كادت تساوي دائرة أشغال الرجال. فإنهن يجدن مع ذلك الوقت الكافي لتأدية جميع واجباتهن المنزلية وما سبب ذلك إلا أن العمل يدعو إلى العمل، والراحة تدعو إلى الراحة. ثم إن الطريقة التي يربى بها الأطفال في البيوت لها مدخل عظيم من انحطاط الآداب أيضا. يمكنني أن أجاهر هنا بلا تردد أن صبيًا من أولادنا، ذكرا كان أو أنثى، لا يزيد عمره عن عشر سنوات قد يحشد إلى ذهنه من الألفاظ والصور المحركة للشهوة، وينمو في قلبه من الميل مع ما تدعو إليه غريزة التناسل، ويبلغ مع ذلك ما لا يبلغه شاب أو شابة في سن الخامسة عشرة أو الثامنة عشرة من أبناء البلاد الأوربية. وليس لاختلاف الإقليم دخل في ذلك، وإن كان له أثر فهو أثر ضعيف، وإنما الأثر الحقيقي هو لطريقة تربية الأطفال. لو كان الرجال الأذكياء والمتعلمون منا يلاحظون ما يقع ويقال أمامهم كل يوم، لو كانوا يفكرون في ما يعرض على أعينهم وآذانهم في الطرق والمجتمعات في كل آن، لاتفقنا جميعا في هذه المسألة وغيرها من المسائل الأخرى التي لا سبب لاختلاف الرأي فيها إلا اهتمام بعضنا بالانتصار على بعض وعدم اهتمام أحد منا بأن يفهم ما يقول الآخر. لو أمكننا أن نفصل جميع المؤثرات المادية والأدبية التي تتكون منها إحساسات الطفل وأمياله لرأي القارئ بنفسه أن البنت التي تربى في عائلة مصرية لا يمكن أن تنمو فيها خلالُ الفضائل. ويكفينا آن نذكر هنا أمثالا من هذه المؤثرات التي تقع في العائلات المتوسطة التي هي أحسن الطبقات أدبًا. فمنها أن أقارب الأطفال لا يتحاشون — غالبًا — تسمية كل شيء باسمه الحقيقي ويذكرون الوقائع التي تجري بين الزوج وزوجته أمامهم، بدون أن يخطر على بالهم أن يأمروهم بالخروج في هذا الوقت إلى مكان آخر، وأيضا أول شيء يأتي على لسان الزائر إذا صادف بنتا صغيرة في بيت هو أن يسألها إذا كانت تريد أن تتزوجه أو تتزوج بابنه الصغير، وإذا كانوا عدة زائرين سألها كل واحد عمن أعجبها من بينهم! ومنها حضور الأطفال في حفلات الأفراح، ومشاهدتهم رقص الباغيات، وسماعهم الأغاني التي تدور كلها على الحب الشهواني. بمثل هذه المناظر، وبمثل تلك العبارات تتنبه البنت الصغيرة إلى ما كان يجب أن تغفل عنه، وينبت فيها الميل الشهواني. ثم إذا عرف أن بنتا عانقت صبيًا في أثناء اللعب، يوجه اللوم عليها من أهلها، ويقال لها: إنها أتت أمرًا فاضحًا، فإذا سألت البنت: أيّ عيب في ما فعلت؟ أجابها المسئول بما يعن له، وما تسمح له به تربيته، وكلما تقدمت الصبية في السن زاد الحجر عليها وإبعادها عن مخالطة الرجال، وفي هذا من استلفات ذهنها إلى ما بين الصنفين من الاختلاف ما يضطرها إلى البحث في هذا الأمر الذي يشغلها ويشغل أهلها إلى هذا الحد، فتسأل عنه من تثق به من زميلاتها، فتتعلم منهن بعضه، وتشتغل مخيلتها بفهم الباقي. فهذه العيشة التي تمر على البنت، وأهم ما فيها عندها الرجل وأحواله، ونسبها إليه وعلاقاتها به، وبعدها عنه وقربها منه، هي بلا ريب أعظم مؤثر في مزاجها؛ لأنها تجعل للوظائف التناسلية الشأن الأول في حياتها. ولتأكد الرجال من صحة ما ذكرنا، وشعورهم بأن النساء لا همَّ لهن ولا شاغل لعقولهن إلا شأنهن مع الرجال، لا ترى رجلًا بين المصريين يأتمن زوجته، ويرضى بمعاملتها لرجل أجنبي عنها، وفي بعض البيوت لا يأتمن الرجل شقيقه، ولا يسمح لامرأته أن تكلمه أوتكشف وجهها عليه ولو كان حاضرًا معهما، وكذلك في كثير من العائلات لا يختلط الرجل بشقيقة زوجته. وليس من رأيي أن أعيب الرجال والنساء على سوء ظن بعضهم ببعض إلى هذا الحد؛ لأن عوائدنا وتربيتنا الحالية قضت عليهم بألا يثق بعضهم ببعض، وجعلت الحجاب الوسيلة الوحيدة لصيانة النساء، ولم تجعل من الدين ولا من المرؤة ولا من كرم الخلق ولا من حسن الأدب أدنى وسيلة لصيانة العفة والتنزه عن الفحش. بقي الحجاب إلى الآن مستمرا للأسباب التي بيناها، أي: لأنه كان تابعًا لهيئتنا الاجتماعية الماضية، من الجهة السياسية والعقلية والأدبية، كنا محكومين بالاستبداد، فظننا أن السلطة العائلية لا تؤسس إلا على الاستبداد، فسجنا نساءنا وسلبناهن حريتهن، وملكنا وحدنا حق قيد الزواج، واستعملنا في تربية أولادنا الأمر والنهي، والإخافة والضرب، وكنا جهالًا فتخيلنا أن المرأة لا وظيفة لها ولا عمل لها إلا أن تكون موضعًا لشهوة الرجل، وواسطة من وسائط مسرته، وفاتنا أنها هي أيضا إنسان مثلنا، وأن لها الحق في أن تسعى إلى طلب سعادتها بالوسائل التي وضعها الشارع تحت تصرف الرجال لطلب سعادتهم، فلما أسقطنا منزلة المرأة بغير حق انتقم الحقُّ منا وشدد انتقامه، فحرمنا كذلك من السعادة الحقيقية، وانحطت أخلاقنا وفسدت تربية أولادنا، واستولى الحزن واليأس على قلوبنا، حتى ظن الكثير منا أن حياة الأمم الإسلامية اقتربت من نهايتها، ولم يبقَ لها في التزاحم العام نصيب من النجاح. وأخذوا يتباهون بالمدنية الإسلامية القديمة كلما تحدث الأوربيون بعلومهم وفنونهم، ويفتخرون بالتمدن العربي في الأعصر الماضية كلما ذكر التمدن الغربي الحديث، كما تسلي نفسها عجوز وصلت إلى سن الشيخوخة بتذكار جمالها مدة صباها. لكنا اليوم قد تغيرت حالتنا الاجتماعية تغيُّرا كليًّا، فأصبحنا أحرارا ونحب الحرية، وبدأ التعليم الصحيح في أن ينتشر بين أفراد أمتنا، وتهيأت عقولنا إلى إدراك منزلة الإنسان في الوجود ومرتبة المرأة في البيت، وشأنها في العالم، فهل يليق بنا بعد هذا أن نحافظ على العادات والتقاليد القديمة، ونحرص على عادة الحجاب، ونتخذها وحدها وسيلة لصيانة المرأة ؟ أو يكون من الأليق بنا أن نبحث عن وسيلة أخرى تكون موافقة لحالتنا الجديدة التي انتقلنا إليها ويكون من شأنها أن ترتقي بنا إلى ما هو خير منها؟ وبعبارة أخرى يوجد مذهبان: أما الحجاب فضرره أنه يحرم المرأة من حريتها الفطرية، ويمنعها من استكمال تربيتها، ويعوقها عن كسب معاشها عند الضرورة، ويحرم الزوجين من لذة الحياة العقلية والأدبية، ولا يأتي معه وجود أمهات قادرات على تربية أولادهن، وبه تكون الأمة كإنسان أصيب بالشلل في أحد شقيه. «إن من العصمة ألا تحد» فالأجساد في صيانة، وأغلب القلوب في خيانة! وأما الحرية فمزاياها هي إزالة جميع المضار التي تنشأ عن الحجاب، وسبق ذكرها وضررها الوحيد أنها في مبدئها تؤدي إلى سوء الاستعمال، ولكن مع مرور الزمن تستعد المرأة إلى أن تعرف مسئوليتها، وتتحمل تبعة أعمالها وتتعود على الاعتماد على نفسها والمدافعة عن شرفها؛ حتى تتربى فيها فضيلة العفة الحقيقية، التي هي ترفع النفس المختارة الحرة عن القبيح، لا خوفا من عقاب ولا طمعًا في مكافأة ولا وجود حائل ليس في الإمكان إزالته بل؛ لأنه قبيح في نفسه. وليس من الممكن أن تصل المرأة إلى هذه المنزلة الأدبية ما دامت في الحجاب، ولكن من السهل جدًا أن تصل إليها بالحرية. تصل إليها كما وصلت إليها غيرها من النساء الغربيات، فإنا نرى أنه كما زيد في حرية المرأة الغربية زاد عندها الشعور بالاحترام لنفسها ولزوجها ولعائلتها. قال الهامة (مانتجازا): (أعظم شيء يؤثر في أخلاق البنات الحرية التي تعطى إليهن من عهد طفولتهن). وقال: «إن الفضائل الجليلة التي تشاهد عند النساء اللاتي يتمتعن بحريتهن لا يصح أن تنسب إلى الإقليم؛ لأني وجدت هذه الفضائل في «بيونس–آيرس» التي تشتد فيها الحرارة ويصفو فيها أديم السماء، وتنمو فيها الثرثرة العمومية، ولو كان لطبيعة الإقليم مثل هذه الأثر في الأخلاق لفسدت أخلاق النساء في تلك البلاد. كانت البنات لا يخرجن من الأديرة إلا عند الزواج، وكن جاهلات بكل ما يتعلق بالحب فكن يتلقين دروس الحب من غير الزواج في أغلب الأحيان؛ ذلك لأن من القواعد العامة أن البنت التي لا تختار زوجها بل تكلف بقبوله تكون قد قطعت نصف المسافة التي توصلها إلى الخطيئة، فلا شيء يقي البنت من الفساد مثل اختيارها زوجها بنفسها بعد أن تعرفه وتقارن بينه وبين غيره من الرجال». وقال في وصف نساء وطنه: «إن المرأة الطليانية أقل من غيرها عفة؛ لأنها تتزوج غالبًا من غير أن تحب زوجها. وكذلك الحال تقريبا في نساء فرنسا». أما النساء الإنكليزيات والأمريكيات والألمانيات، فأثنى على كمال عفتهن ونسبها إلى طرق تربيتهن وتمتعهن بالحرية والاستقلال في أعمال الحياة. فالحجاب والحرية وسيلتان لصيانة المرأة، ولكن ما أعظم الفرق بينهما في النتائج التي تترتب عليهما! حيث إن الوسيلة الأولى تضع المرأة في وصف الأدوات والأمتعة، وتجني على الإنسانية، والثانية تخدم الإنسانية، وتسوق المرأة في طريق التقدم العقلي والكمال الأدبي. فقد رأيت مما ذكرناه أن ما اخترناه في تربية المرأة ووقاية عفتها ليس مبنيا على أمر نظري لا يستند إلى واقع بل هو مؤسس على المشاهدة والتجربة. وصل احترام الرجل الغربي لحرية المرأة إلى حد أن الأب يخجل من نفسه أن يفتح الخطابات التي ترد لابنته، وكذلك الزوج يرى الأجدر به ألا يفتح الخطاب الذي يرد إلى امرأته، وهذه المسألة الأخيرة كانت موضوع بحث مهم بين أعضاء جمعية المحامين الفرنساويين من منذ عشر سنين تقريبا، وتقرر فيها أن سلطة الزوج لا تتيح له أن يطلع على أسرار زوجته؛ لأن هذا العمل يعد تجسسًا مهينا لحرية المرأة وشرفها. نعم، إن أغلب الزوجات يطلعن أزواجهن على ما يرد إليهن من الخطابات، كما أن أغلب الأزواج يعرضون المراسلات التي ترد إليهم على زوجاتهم، ولكن يوجد فرق عظيم بين ما يحصل بالرضا وما يعد واجبًا بمقتضى حق يدعى. بلغ من أمر احترام الرجل الغربي لحرية المرأة أن بنات في سن العشرين يتركن عائلاتهن ويسافرن من أمريكا إلى أبعد مكان في الأرض، وحدهن أو مع خادمة، ويقضين الشهور والأعوام متغيبات في السياحة، متنقلات من بلد إلى أخرى. ولم يخطر على بال أحد من أقاربهن أن وحدتهن تعرضهن إلى خطر ما. كان من حرية المرأة الغربية أن يكون لها أصحاب غير أصحاب الزوج، ورأي غير رأي الزوج، وأن تنتمي لحزب غير الحزب الذي ينتمي إليه الزوج، والرجل في كل ذلك يرى أن زوجته لها الحق في أن تميل إلى ما يوافق ذوقها وعقلها وإحساسها، وأن تعيش بالطريقة التي تراها مستحسنة في نظرها. ومع كل ذلك ترى نظام بيوت الغربيين قائما على قواعد متينة! ونرى هؤلاء الأمم في نمو مستمر! ولم يحل بهم شيء من المصائب التي يهددنا بها، أولئك الكتاب والفقهاء من قومنا الذين أطالوا الكلام من شرح المضار التي تنتج عن إطلاق الحرية للنساء! فكثيرا ما سمعنا منهم أن اختلاط الرجال بالنساء يؤدي إلى اختلاط الأنساب، وأنه متى اختلطت الأنساب وقعت الأمة في هلاك. فهذه ممالك أوربا جميعًا، نساؤها ورجالها مختلطون، في كل أطوار الحياة وفي كل آن، وها هم إخواننا وأبناء وطننا المسيحيون، واليهود الذين تركوا عادة الحجاب من عهد قريب، وربوا نساءهم على كشف وجوههن، ومعاملة الرجال، فأين هم من الاختلال والهلاك؟! دلت التجربة على أن الحرية هي منبع الخير للإنسان، وأصل ترقيه، وأساس كماله الأدبي، وأن استقلال إرادة الإنسان أهل عامل أدبي في نهوض الرجال، فلا يمكن أن يكون لها إلا مثل ذلك الأثر في نفوس النساء. غاية الأمر أن كل تغيير يعرض على الأنظار في صورة مشروع يلتمس قبوله ولم يكن بدأ الناس فيه من قبل هو في الحقيقة فكر سبق أوانه وقت عرضه؛ ولهذا لا يفهمه ولا يقدره حق قدره إلا العدد القليل ممن يمتد نظرهم إلى ما يمكنه المستقبل من الحوادث. انظر إلى حالة مصل: عاشت الأمة المصرية أجيالا في الاستعباد السياسي، فكانت النتيجة انحطاطا عاما في جميع مظاهر حياتها، انحطاط في العقول وانحطاط في الأخلاق، وانحطاط في الأعمال، وما زالت تهبط من درجة إلى أسفل منها حتى انتهى بها الحال إلى أن تكون جسمًا ضعيفا عليلا ساكنا يعيش عيشة النبات أكثر من عيشة الحيوان، فلما تخلصت من الاستعباد رأت نفسها في أول الأمر في حيرة لا تدري معها ما تصنع بحريتها الجديدة. وكان الكل لا يفهم لهذه الكلمة معنى، ولا يقدر لها قيمة، وكان الناس يستخفون ويهزءون بالحرية، بل ويتألمون منها، وينسبون إليها اختلال عيشتهم وعلل نفوسهم، فكم من مرة سمعنا بأذننا أن سبب شقاء مصر هو تمتعها بالحرية والمساواة ؟! ثم اعتاد القوم شيئًا فشيئًا على الحرية، وبدءوا يشعرون بأن اختلال عيشتهم لا يمكن أن يكون ناتجًا عنها، بل له أسباب أخرى، وتعلق بنفوس الكثير منا حب الحرية، حتى صاروا لا يفهمون للوجود معنى بدونها، ولنا الأمل في أولادنا الذين يشبون على الحرية التامة، يجنون جميع ثمراتها النفيسة التي من أهمها تهيئة نفوسهم للعمل، عند ذلك يعرفون جيدًا أن الحرية هي أساس كل عمران. وهكذا يكون الحال بالنسبة لحرية النساء. أول جيل تظهر فيه حرية المرأة تكثر الشكوى منها، ويظن الناس أن بلاء عظيمًا قد حل بهم؛ لأن المرأة تكون في دور التمرين على الحرية، ثم مع مرور الزمن تتعود المرأة على استعمال حريتها وتشعر بواجباتها شيئا فشيئا، وترقى ملكاتها العقلية والأدبية، وكلما ظهر عيب في أخلاقها يداوى بالتربية؛ حتى تصير إنسانا شاعرًا بنفسه. ذلك لأن النمو الأدبي لا يختلف في سيره عن النمو المادي، فكما أن الطفل يحبو قبل أن يمشي، ويتعلم المشي بالتدريج، فيمسك الحائط ويستند على يد مرضعته، ثم متى تعلم المشي وحده، لا يحسنه إلا بعد تمرين يدوم مدة أشهر يقع في خلالها مرات كثرة، كذلك الإنسانية في سيرها الأدبي لا تنتقل من حال إلى حال أحسن منها إلا بالتدريج، وبعد تمرين طويل يعرض لها فيه كثير من التخبط والاختلاف والتجارب المؤلمة؛ حتى تستقيم في سيرها. تلك سنة الفطرة، فلا يجوز لنا أن نتخيل أن في إمكاننا الخلاص منها ولا الفرار من قيودها، كذلك لا يكون من الحكمة أن نرجع إلى الوراء أو نوقف تقدمنا إلى الأمام. فإن أركنا أن نصل إلى الغاية التي وجهنا إليها آمالنا فما علينا ألا أن نستسلم إلى حكم السنة الإلهية، ونقبل المتاعب والمشاق التي بدونها لا يمكن الوصول إليها، وإلا كان مثلنا كمثل أب مجنون خاف على ولده إذا مشى أن يسقط على الأرض، فمنعه المشي حتى كبر، فعاش مقعدا مشلول الرجلين.
قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل. قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل.
https://www.hindawi.org/books/91575858/
المرأة الجديدة
قاسم أمين
يقصد قاسم أمين بـ«المرأة الجديدة» المرأة التي بدأ ظهورها في الغرب منذ عصر التنوير، وهي المرأة التي بدأت تلعب دورًا اجتماعيًّا وثقافيًّا رئيسًا في مجتمعها ودولتها، بعد أن كانت مهمشة ومقصية في عصور ما قبل التنوير الأوروبي، ويرى قاسم أمين أن الرؤية الاجتماعية السائدة عن المرأة في عصره داخل المجتمع المصري تشبه إلى حد كبير تلك الرؤية ما قبل التنويرية، وهي رؤية تتعارض مع الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها رجالًا كانوا أو نساءً، كما أنها رؤية تتعارض مع الفهم الصحيح للدين، فالإسلام كفل للمرأة حق التصرف في أملاكها، كما كفل لها حق التعلم وحرية العمل والمشاركة الاجتماعية والثقافية النهضوية في البناء الحضاري، والفهم المنغلق لدور المرأة إنما يمكن رده إلى الجهل والاستبداد بالدين والتمسك بالعادات والتقاليد المنافية لفطرة الإنسان والمخالفة للنظرة الأخلاقية القويمة.
https://www.hindawi.org/books/91575858/3/
الواجب على المرأة لنفسها
أول ما يستوقف نظر الشرقي الذي يحل في مدينة من مدن أوربا هو المركز المهم الذي تشغله المرأة فيها، ويظهر له من أول وهله أن التقسيم المصطلح عليه في بلادنا بين العيشة الداخلية والعيشة الخارجية. هذا التقسيم الذي يحول بين اشتراك الصنفين في جميع أطوار الحياة ومظاهرها، ليس من القواعد المعترف بصحتها في تلك البلاد. فإذا ترك أوربا وجال في أرض أمريكا، شخص بصره مندهشًا من المنظر العجيب الذي يراه، واستولى الاستغراب على عقله إلى درجة الاضطراب، فيجد أن تقسيمه الغريب قد اضمحل حتى كاد يكون معدومًا، ويرى النساء يشتغلن بأشغال الرجال، والرجال يعملن أعمال النساء بلا فرق، ويسمع أهل أمريكا يتهمون سكان أوربا بأنهم سكان ظالمون نساءَهم، مجحفون حقوقهم، كما يرمي الأوربيون رجال الشرق باستعمال الاستبداد مع نسائهم! هذا المنظر يراه الشرقي ويستغربه في أول الأمر ثم ينساه، ولا يفكر فيه بعد ذلك، فيعيش بجانب الغربيين وهو لا يعرف شيئا من أحوالهم، وإن أتى ذكرها عفوا في بعض الجرائد أو الكتب، فلا يحرك ذلك في نفسه أدنى شوق للوقوف على معرفة حقيقتها واستطلاع ما خفي منها. ذلك لأنه وقر في نفسه أن عاداته هي أحسن العادات، وأن كل ما خلاها ليس جديرًا بالتفاته واهتمامه. لكن طالب الحقيقة الذي تعود على طريقة الانتقاد العلمي لا يحكم في الحوادث الاجتماعية على هذا الضرب من التساهل. فإن رأى يومًا في إحدى الجرائد أن (الست غوردون) ترافعت أمام محكمة فرانسسكو الجنائية ودافعت عن رجل متهم بالقتل، ثم رأى يوما آخر في مجلة أن الست (كاري رينار) إحدى قسيسات الولايات المتحدة، خطبت في الكنيسة في مدينة لوروا على ملأ عظيم من الرجال والنساء. ثم رأى مرة أخرى أن الست (ستون) تدرس الاقتصاد السياسي في كلية شيكاغو لطلبة العلم ذكورًا وإناثا. ثم علم أن لتلك المحامية زميلات يشتغلن أمام جميع المحاكم، ولتلك القسيسة زميلات في كثير من الكنائس، ولتلك الأستاذة زميلات في أغلب المدارس، وأن تلك النسوة قائمات بأعمالهن على طريقة لا تزيد ولا تنقص في الإتقان عما يقوم به الرجال في أعمالهم فماذا يعتقد حينئذ؟ يعتقد أن قول الشاعر: هو قول لا ينطبق على الحقيقة في شيء، فلا يصح الاستناد عليه في الرد علينا، ونحن نعذر الشاعر الذي لم يفعل سوى حكاية حال النساء التي وجدهن عليها في عصره، ولكن هل يمكن أن نعذر أنفسنا في اعتقادنا أن النساء لا يصلحن إلا لجر الذيول، مع أن نظرة واحدة في الأعمال النفيسة التي يأتي بها النساء في الغرب تكفي في العلم بأن حياة المرأة تصلح أن تكون مملوءة بشيء أفضل من اللهو واللعب وجر الذيول؟! هذه الصورة التي شخص بها الشاعر صورة المرأة ليست صورة المرأة الحقيقية؛ لأنها ليست صورة إنسان، بل ولا حيوان! إذا ليس في الوجود حيٌّ إلا وله وظيفة يؤديها وعمل يشتغل به، ولا يوجد بين أنواع الحيوانات، من أفضلها إلى أدناها فرد إلا وهو خاضع لقانون التزاحم في الحياة. إذا أردنا أن نرتب أعمال الإنسان بحسب أهميتها نجد أنها تنقسم إلى ثلاثة أنواع: ومن البدهيّ أن كل تربية صحيحة يجب أن تمكن الإنسان من القيام بهذه الأعمال، وأن تراعي هذا الترتيب الطبيعي. فالمعارف التي تضمن سلامة الحياة والقيام بالضروريات والحاجات اللازمة لها هي أهم من غيرها، فيلزم أن تفضل على المعارف التي تختص بالواجبات العائلية؛ لأنه لا يمكن القيام بأيّ واجب عائلي إلا بعد قضاء الواجبات الأولى. كذلك المعارف التي ترشد الإنسان إلى معرفة واجباته العائلية هي مقدمة على المعارف التي تختص بالواجبات الاجتماعية؛ لأن قوة الهيئة الاجتماعية متوقفة على حسن نظام البيوت. إذن تقرر ذلك نقول: إن التربية التي تشمل هذه الأنواع الثلاثة على الترتيب الذي وضعناه، هي لازمة للرجال والنساء على حد سواء. ولكن، دعنا الآن من المزايا والحقوق السياسية، فإني ما طلبت المساواة بين الرجل والمرأة في شيء منها؛ لا لأني أعتقد أن الحجر على المرأة أن تتناول الأشغال العمومية حجرا عامًا مؤبدًا — هو مبدأ لازم للنظام الاجتماعي، بل لأني أرى أننا لا نزال الآن في احتياج كبير لرجال يحسنون القيام بالأعمال العمومية. وأن المرأة المصرية ليست مستعدة اليوم لشيء مطلقا، ويلزمها أن تقضي أعوامًا في تربية عقلها بالعلم والتجارب؛ حتى تتهيأ إلى مسابقة الرجال في ميدان الحياة العمومية. لهذا نترك الكلام على الأعمال والمعارف التي تتعلق بالنوع الثالث، ونقتصر في الكلام هنا على الأعمال والمعارف التي تختص بالنوعين الأولين. مهما اختلف الناس في فهم طبيعة المرأة لا يجوز أن يدعي أحد أنها يمكنها أن تستغني عن الأعمال التي تحافظ بها على قواها الحيوية وتعدها للقيام بحاجات وضرورات الحياة الإنسانية. كذلك مهما اختلفنا في تحديد وظيفة المرأة في العالم، لا بد أن نعترف أنها لا يمكنها أن تتخلى عن الأعمال والمعارف التي تتعلق بواجباتها العائلية. إذن فكل تعليم يتعلق بهذين النوعين من الأعمال يكون نافعًا، وكل تربية تؤهل المرأة إلى المدافعة عن نفسها وتحسين حال بيتها هو أيضا نافع. يظن الكثير منا أن المرأة في غنى عن أن تتعلم وتعمل، ويزعمون أن رقة مزاج النساء ونعومة بشرتهن، وضعف بنيتهن يصعب معه أن يتحملن متاعب الكد وشقاء العمل. ولكن هذا الكلام هو في الحقيقة تدليس على النساء، وإن كان ظاهره الرأفة عليهن. والناظر في أحوال هيئتنا الاجتماعية يرى من الوقائع المحزنة ما يجعله على بينة من ذلك. يرى أن الرجل والمرأة هما خصمان لا يتفقان إلا للحظات قليلة، وأنهما يتحاربان آناء الليل وأطراف النهار، يريد الرجل أن ينتهز ضعف المرأة وجهلها؛ ليجردها عن كل ما تملكه، ويستأثر وحده بالمنافع، وتجتهد المرأة على قدر إمكانها في الدفاع عن نفسها، ولا تجد إلى ذلك سبيلا. ولو جمعت الوقائع القضائية بين الصنفين في كتاب لكانت أحسن ما يمكن أن يكتب للدفاع عن حقوق المرأة. لا أظن أني مبالغ إن قلت: إنه متى اختلطت مصلحة الرجل بمصلحة المرأة، لأى سبب من الأسباب، سواء كان لزواج وقع بينهما أو لاشتراك في ملك آل إليهما أو لتعهد ارتبطا به، فأول ما يسبق إليه فكر الرجل هو أن يسلب من المرأة ما يستطيع من حقها، والمسكينة غافلة عن الأخطار التي تحدق بها، وان اكتشفتها فلا يكون في الغالب إلا بعد خرابها. وعلى أية حال، متى وقعت في الشرك لم يبق لها من حيلة إلا البكاء والعويل؛ لأنها ترى نفسها في حيرة وارتباك، لا تدري معهما ماذا تصنع للخلاص. وكل المصريين يعلمون أن النساء في الوجه القبلي بعامة كن محرومات من حقوقهن في التركات التي يرثن فيها بمقتضى أحكام الشريعة، وأن هذه الحال بقيت مستمرة إلى أن دخل نظام المحاكم الأهلية في الصعيد، حتى إن بعض المديرين الذين أخذ رأيهم في تشكيل المحاكم الجديدة في الوجه القبلي كانوا يعدون من موانع تشكيلها أنها لو شكلت يكون من أحكامها أن يعطى النساء حقوقهن في التركات، وأن في هذا تغييرًا كبيرًا للعادات المتبعة في تلك البلاد! وليس في هضم حقوق النساء شيءٌ من الغرابة، ولا هو مما يوجب الدهشة لأحد. نحن نفهم أن رجلا يعيش في عالم الخيال يكتب في مكتبه على ورقة أن ليس على النساء إلا أن يقرن في بيوتهن خاليات البال، تحت كفالة وحماية الرجال، نفهم ذلك؛ لأن الورق يتحمل كل شيء! وليس من الصعب وضع نظريات خيالية على هذه الطريقة؛ إذ يكفي في ذلك تركيب بعض جمل مسبوكة في قالب لطيف؛ ليقيم الكاتب نفسه مشروعًا حكيمًا، ويحكم على القوانين والعادات والأخلاق. وإنما يجد الصعوبة رجلٌ اعتاد على أن يحل النظريات ويختبرها بقياسها إلى الواقع. فإنه إذا أراد مثلا أن يحصل لنفسه رأيًا في ماهية حقوق النساء التي نحن بصددها. يجب عليه أولًا أن يسوق نظره إلى الوقائع التي تمر أمامه، أعني أن يطبق نظريته على الواقع ويتصورها في ذهنه منفذة ومعمولا بها في قرية، ثم في مدينة، ثم في إقليم، وتتمثل أمامه النساء في جميع أعمارهن وأحوالهن وطبقاتهن، فيراهن بنات ومتزوجات ومطلقات وأرامل، ويراهن في المدرسة وفي البيت، وفي الغيط وفي الدكان، وفي الأماكن الصناعية ويقف على سلوكهن مع أزواجهن وأولادهن وأقاربهن والأجانب، ثم يعرف البلاد التي للنساء فيها شأن غير ما لنسائنا في بلادنا، وكيف أنهن يستعملن حقوقهن والنتائج التي ترتبت على هذا الاستعمال، ويقف على حالة المرأة في الأزمان الخالية والتقلبات التي طرأت عليها. ذلك عمل ليس بالسهل؛ لأنه يحتاج إلى معلومات جمة ومشاهدات كثيرة. فإذا توفر له ذلك كله، لم يتيسر له أن يحكم في المسألة حكما قاطعا؛ لأنه يعلم أن رأيه قائم على مقدمات ظنية، فلا تكون نتائجها إلا تقريبية؛ لذلك تراه دائما على طريق البحث لا يركن إلى ما وصل إليه جهده، إلا ليضعه قاعدة لعمل مؤقت، ولا يأنف من تعديل رأيه بحسب ما يقتضيه الحال ويظهره العمل. والأمر بالعكس عند صاحب النظرية الخيالية، فهو يعتقد أن قضيته تشبه قضية حسابية فهي لا تخطئ أبدا، مع أنها مؤلفة مع معان عامة مهمة لا يستقر الذهن فيها على شيء محدود — مثل ضعف المرأة، وقوة الرجل، وتقسيم المعيشة إلى داخلية وخارجية وهكذا — هذه المعاني تملأ عقله؛ ولكونها مجردة عن الوقائع والمشاهدات فهي في الحقيقة ألفاظ يكون عنها قاعدة عامة صالحة لكل زمان ومكان. فهو لا ينظر إلى الأشخاص الحقيقيين، ولا يرى نفسه محتاجًا إلى أن ينظر إليهم، ولا أن يبحث في أحوالهم، ولا يخطر بباله أن للمادة الإنسانية صورة غير الشكل الخيالي الذي ملك عقله؛ لذلك لا يهتم بأن يرى تلك المادة في صورة امرأة راعية أو زراعية أو صانعة أو تاجرة ولا يبحث أن كانت غنية أو فقيرة، عائشة وحدها أو في عائلة، ساكنة في المدن أو القرى أو البادية. هذه الصورة العديدة المختلفة لا تنفذ إلى مداركه، ولا تقر فيها؛ لأن جميع نوافذها قد سُدت بحسم النظرية التي احتلت عقله من أوله إلى آخره، حتى لم يبق فيه مكان لشيء آخر. فهو أن كتب أو تكلم لا يكتب ولا يتكلم عن امرأة حية ذات لحم ودم وإحساس ووجدان، وإنما يكتب ويتكلم عن المرأة التي في ذهنه. وهي امرأة شابة سنها بين العشرين والثلاثين، جميلة المنظر رقيقة الطبع، شهوية المزاج، تكفي إشارة منها لكي تنال ما تشتهيه نفسها؛ لأنها ذات ثروة عظيمة، أو لأن لها بعلًا وافر الثروة ولا يبخل عليها بشيء، أما أخلاقها فانحطاط النفس، والميل إلى الكذب، والاحتيال والتطلع إلى أعمال السوء، لا يحول بينها وبين ذلك إلا الحكم عليها بملازمة البيت والاحتجاب عن الرجال. ولا نرى في تمثيل المرأة في أذهاننا بهذا إلا توارثنا آراء العرب فيها؛ ذلك أن حياة العرب كانت حياة حرب وقتال، وأرزاقهم كانت من الغنائم، وغنيٌّ عن البيان أن أمة معاشها متوقف على القتال لا يمكن أن يكون فيها للمرأة شأن كبير؛ إذ المرأة في هذه المعيشة لا تستطيع أن تجاري الرجل؛ ولذلك نزلت درجتها عندهم وسقطت منزلتها بينهم، حتى حسبت من المتاع وأدوات الزينة، وتناولها السلب وعُدَّت من الغنائم كما عد غيرها من الأموال. ومن هذا نتج التسري وتعدد الزوجات. وكما أن المرأة لم يكن لها عمل عند الأمة العربية؛ لانحصار المعيشة كلها في الغزو والدفاع عن القبيلة كذلك لم يكن لها عمل في العائلة؛ لأن التربية عندهم كانت قاصرة على تغذية جسم الطفل بالرضاعة والأكل؛ حتى ينشأ رجلا مقاتلا، لا عالما فاضلًا. فلا عجب إذا رأينا في كلام العرب وشعرهم وقصصهم، بل وفي مؤلفات فقهائهم وعلمائهم وفلاسفتهم، ما يدل على احتقارهم للمرأة. هذا هو منشأ تولد صورة المرأة في عقول المسلمين، وهي صورة حقيقية إذا نظر إلى الماضي، ولكنها مزورة إذا نظر إلى الحال والمستقبل؛ ذلك لأن المرأة المصرية اليوم لا تشابه المرأة العربية التي كانت تعيش من آلاف السنين، لا في الظاهر ولا في الباطن، وتختلف عنها في الملبس والمأكل والمسكن وفي العادات والأخلاق والحاجات والضرورات؛ لأن الحاجة الاجتماعية والاقتصادية التي هي موجودة فيها الآن تغيرت تغيرًا كليا عما كانت عليه في الماضي، وتبع هذا التغيير لوازم وحاجات كانت مجهولة عند نساء العرب. فالمرأة العربية كانت تكتفي من طعامها بخبز من شعير، ومن ملبسها بقميص من قطن، ومن مسكنها ببيت من شعر، وتحصيل ذلك وتدبيره لا يحتاج إلى علم واسع وحذق كبير. والمرأة العربية عاشت جاهلة بالشئون المعيشية، والمرأة العربية كانت مستعبدة؛ لأنها كانت في الحقيقة متاعا يدخل في حوزة الرجل بالسلب، أو بعقد هو أقرب للبيع منه إلى الزواج. أما الآن فنحن في عصر أمن الناس فيه بعضهم بعضا، واستقر النظام فيهم، لم تبق الحرب شغلا شاغلا لجميعهم؛ ليدفع بعضهم غائلة بعض، وأصبح الناس غير محتاجين إلى الغزو في كسب أرزاقهم، فبعد أن كانت قيم الرجال تغلو وترخص، وتعلو وتنحط، على حسب غنائمهم في القتال، وحسن بلائهم فيه، وبعد أن كان الفائق في الشجاعة وقوة البأس هو صاحب السلطان الأعلى، والضعفاء كلهم تحت كنفه، انقلب الحال، ولم يبق للقتال حاجة إلا في أحوال مخصصة يتولاه فيها أناس معروفون، وأقبل أفراد الأمة رجالا ونساء، بعضهم على بعض، يتنافسون في أمور أخرى، فمنهم المتنافسون في المجد بالعلم، ومنهم المتسابقون إليه بالثورة، وفيهم المجدون في طلبه بالصناعة والتجارة والزراعة، واتسع الميدان لتجادل العقول، والمرأة إنسان مثل الرجل زينتها الفطرة بموهبة العقل، فحق لها أن تسمو اليوم إلى ما يقرب من درجته، إن لم تستطع أن تساويه فيها، ثم تبع هذه الحالة كثرة الحاجات، وأصبح المقصر في سعيه، الساقط في عزمه، القاعد في كسله وجهله مهددا بالموت، محفوفًا بخطر العُدم، وفتح على الناس بذلك باب جهاد جديد، فأهل البلد الواحد يتزاحمون في طرق الكسب ويتدافعون في سبله بوسائل العمل وحيل العقل، وجميعهم يزاحم الأجنبي الذي سهل عليه مخالطتهم بسهولة المواصلة، وتوافر أسباب الأمن، وما هذا الجهاد بالهين السهل، بل هو ما يحتاج إلى أعمال القوى العقلية والبدنية أكثر مما يحتاج إليه القراع بالسيوف والمراماة بالسهام. ولقد استدار الزمان على المرأة ورجع بها إلى قانون الفطرة، فعرض لها من الحاجات ما لا يمكن معه أن تعيش مقصورة في بيتها، فهي مضطرة — رغمًا عنها — أن تدخل ما دخل الرجال فيه وأن تعمل لتكسب وتعيش، وتغلو وتعلو، فهي بحكم هذه الضرورة في أشد الحاجات إلى تعلم ما يمكنها من بعض الغلبة في هذه المزاحمة العظيمة. وما نسمعه الآن من صياح النساء وعويلهن وشكواهن من الرجال لعدم القيام بالإنفاق عليهن، أو اغتيال حقوقهن ومن أحاديث تطوح الكثير منهن في مهاوي الرذيلة لسد بعض الحاجات — يؤيّد ما قلنا، ويظهر لكل نظر صواب ما بينا. وإنا نسأل مجادلينا فيما نحن بصدده: هل يمكنهم أن يقولوا: إنه لا حاجة للمرأة تدعوها إلى معرفة وجوه الكسب وارتفاع المكانة؟ أو يقولوا: إنها في حاجة إلى ذلك، ولكن — واأسفاه، ليس في فطرتها ولا فيما وهب الله لها من القوى ما يهيئها لأخذ أُهبتها في هذا الجهاد. هذه المسألة لا تحل ببعض كلمات مثل: كون المرأة ضعيفة أو قاصرة العقل؛ لأن الضعيف والقوى وصاحب العقل الكبير، وذا العقل الصغير، والجاهل والعالم كلهم يستوون أمام ضرورات الحياة، وإنما الذي يفيد في فهم حقيقة هذه المسألة وحلها، هو أن يعرف أولا هل يوجد نساء ليس لهن عائل يقوم بحاجاتهن، أو يوجد لهن عائل لكن كسبه لا يكفي لقضاء ما يحتجن إليه؟ ثم إذا كان يوجد نساء من هذا الصنف فما عددهن، وهل هو كثير أم قليل؟ والذي يمكننا الرجوع إليه في ذلك هو تعادل أهالي القطر المصري الذي حصل في سنة ١٨٩٧، وهو آخر إحصاء جرى، جاء في هذا الإحصاء أن جملة النساء المصريات اللاتي يشتغلن بصنعة أو حرفة هو ٦٣.٧٣١ أي: أنه يوجد الآن في مجمع المصريات اثنتان في كل مائة امرأة يشتغلن بالزراعة، ولا النساء الأجنبيات اللاتى بلغ عدد المحترفات منهن بصنعة عشرين في المائة. وإذا رجعنا إلى مشاهداتنا نجد أن النساء اللاتي لا عائل لهن يزدن عن هذا المقدار أضعافه؛ لأن الأغلب منهن يعيش عالة على أقاربهن، ومنهن من يستعمل لكسب العيش وسائل لا يعرف بها، وأضيف على هذا الصنف أولئك الزوجات اللاتي لا يكفي كسب أزواجهن لضرورات معيشتهن ومعيشة أولادهن، فهن مع أزواجهن دائمًا في نزاع وشقاق، ثم تزدحم أقدامهن في ساحات المحاكم الشرعية للمطالبة بالنفقة، فإذا قدر القاضي للزوجة قرشين في اليوم صاح الزوج: هذا كثير، وعدد هؤلاء النسوة لا ينقص عن مجموع من سبقهن. إذا سلمنا أن عدد النساء المصريات اللاتي ليس لهن عائل لا يزيد عن اثنين في المائة من مجموع النساء المصريات، أفلا ينبغي لهؤلاء — النسوة اللاتي قضت عليهن ضرورات الحياة بمزاحمة الرجال الأقوياء لكسب عيشهن أن يتهيأن إلى النجاح قبل الدخول في معترك الحياة بالوسائل التي يستعد بها الرجال أنفسهم؟ وهل يكون من الحق والعدل أن يحرمن من التربية التي تؤهلهن للدفاع عن أنفسهن؟ وهل من مصلحة للرجال أو لعموم الهيئة الاجتماعية أن يعيش هؤلاء النساء ضعيفات جاهلات فقيرات؟ نحن لا نجادل في أن الفطرة أعدت المرأة إلى الاشتغال بالأعمال المنزلية وتربية الأولاد، وأنها معرضة لعوارض طبيعية كالحمل والولادة والرضاع لا تسمح لها بمباشرة الأعمال التي تقوى عليها الرجال، بل نصرح هنا أن أحسن خدمة تؤديها المرأة إلى الهيئة الاجتماعية هي أن تتزوج وتلد وتربي أولادها، هذه قضية بدهية لا تحتاج في تقريرها إلى بحث طويل، وإنما الخطأ في أن نبني على ذلك أن المرأة لا يلزمها أن تستعد بالتعليم والتربية للقيام بمعاشها وما يلزم معيشة أولادها إن كان لها أولاد صغار عند الحاجة. وذلك لأنه يوجد في كل بلد عدد من النساء لم يتزوجن وعدد آخر تزوج وانفصل بالطلاق أو بموت الزوج، ومن النساء من يكون لها زوج، ولكنها مضطرة إلى كسب عيشها بسبب شدة فقره أو عجزه أو كسله عن العمل. ومن النساء عدد غير قليل متزوجات وليس لهن أولاد، كل هؤلاء النسوة لا يصح الحجر عليهن عن تناول الأشغال الخارجية عن المنزل بحجة أن لهن رجالا قائمين بمعاشهن، أو لأن عليهن واجبات عائلية، أو لوجود عوارض طبيعية تحول بينهن وبين العمل. نحن لا نقول للمرأة: اهجري الزواج ولا تبغي النسل، أو اتركي زوجك وأولادك في البيت، واقضي أوقاتك في الطرق وعيشي ما يعيش الرجال. فأنا نكرر القول بأننا نود أن تكون كل امرأة زوجة، وأن تكون كل زوجة أُمّا، ولكن هذا لا ينسينا أن الواقع هو غير ما نتمنى؛ إذ الواقع أن عددا عظيمًا من النساء ليس لهن عائل ولا واجبات عائلية. هذا القسم من النساء هو قليل عندنا اليوم بالنسبة للبلاد الغربية، فإننا لو أخذنا آخر إحصائية في فرنسا، لوجدنا أنه يوجد ٣٦٢٢١٧٠ من النساء غير متزوجات، و٢٠٠٦٠٧٧٨ أرامل و٩٢٤٢٨٦ متزوجات، وليس لهن أولاد، أي: يوجد في فرنسا زيادة عن خمسة ملايين من النساء صالحات للعمل، مضطرات إليه، بدون أن يكون في أعمالهن ضرر يلحق بعائلاتهن. ولكن مع مرور الزمن وتقدم المدنية في بلادنا، سيزداد عدد النساء الخاليات عن الزواج، وبدل أن يوجد اليوم اثنان في المائة من النساء المصريات يتعيشن بصنعة أو حرفة سيوجد عن قريب أضعاف هذا العدد؛ ذلك لأن الحوادث الاجتماعية خاضعة لقوانين طبيعية يسهل معها العلم بما سيكون من أمرها في المستقبل. لهذا يمكننا أن نؤكد أن عدد النساء المحترفات لا بد أن يزداد في كل سنة عن الأخرى؛ لأننا سائرون في الطريق الذي سارت فيه أوربا قبلنا. ولا خلاف في أن عدد الزواج في أوربا هو أقل منه في الشرق، وسبب ذلك أن الواحد منهم لا يتزوج بالسهولة التي يتزوج بها الواحد منا، فان الأوربي يطلب من الزوجة قرينًا يرافقه طوال حياته، وصاحبًا يشاركه في جميع أعماله وأفكاره وعواطفه، فهو يطلب لها جميع الصفات التي يبحث عنها الواحد منا إذا أراد أن يتخذ له صديقًا، فالعثور عليه يكون صعبًا، وأضيف على ذلك سببًا آخرَ، وهو أن الحالة الاقتصادية في البلاد المتمدنة لا تسمح للفرد أن يكون قادرًا على كسب عيشه قبل بلوغه سن الثلاثين إلا في النادر؛ لأنه يصادف في طريقه مزاحمات عظيمة، وعليه أن يخرق الصفوف التي أمامه، هذا أن ساعده الحظ وحسن الاستعداد على نيل مركز في التجارة أو الصناعة أو الحرف الأدبية، والكثير منهم يقضي حياته في البحث ولا يجد شيئًا. ومن الاحتياط عندهم ألا يتزوج الشخص قبل أن يكون على ثقة من وسيلة للرزق يحصل بها على ما يكفي لمعاشه ومعاش أولاده؛ لأنهم يشعرون بما يجب عليهم لعائلاتهم، ولا يرضون أن يكونوا سببا في شقاء أزواجهم وأولادهم، فإنما الجاهل هو الذي يحمله الطيش في التعجيل بالزواج، ويستهين بما تفرضه عليه تلك الزيجة، ولا يعرف لأهله حقا عليه. فنحن مساقون في هذا الطريق بقوة لا يستطيع أحد مقاومتها، ويظهر لي أن الزواج عندنا قد بدأ في التناقص، فإني أعرف كثيرا من الذكور والإناث تجاوزوا السن الذي يحصل فيه الزواج عادة، ولزمتهم العزوبة مختارين أو مختارين، ولكن لا أدري هل ذلك عام أو خاص ببعض المواضع، وإنما يمكنني أن أحقق أن متوسط السن الذي يحصل فيه الزواج زاد عما كان عليه في الماضي، فهو الآن ما بين العشرين والثلاثين في الغالب، وكان فيما مضى سن البلوغ، وكثيرا ما كان يحصل الزواج قلبه. وليس يفيد شيئا أن يصبح أرباب الأقلام عندنا ناقمين على ما وصلت إليه حالنا اليوم وما ستصل إليه على مر الأيام وأن يستشهدوا بما وقعت فيه أوربا من نقصان عدد الزواج فيها، واحتراف النساء بأشغال الرجال، ذلك لا يفيد؛ لأنه لا يمكن أن يترتب على هذه الشكوى أثر ما في مجرى الحوادث في العالم، ولو كانت الشكوى تكفي لتغيير الحال لكان الأمر سهلا! والحقيقة أن أهم عامل له أثر في حال الأمة هي حالتها الاقتصادية، ومع الأسف هذه الحالة الاقتصادية ليس في إمكان أحد من الناس أن يحكم عليها ويدبرها كيف يشاء. نعم يوجد والكد والاشتغال بأعمال الرجال، أيّ: مسترجلات إذا شئت، وهن النساء اللاتي زهد فيهن الرجال فلم يرغب أحد في زواجهن، والأرامل اللاتي توفي أزواجهن، والمطلقات اللاتي تركهن أزواجهن، هؤلاء النسوة لم يقترفن ذنبا على الهيئة الاجتماعية، فما من واحدة منهن إلا وكانت تتمنى أن تجد رفيقا صالحا يحبها وتحبه، ويساعدها وتساعده، ما من واحدة منهن إلا وتبكي في وحدتها سوء حظها، وتأسف على ضياع الأماني التي قضت حياتها في انتظارها. ولكن ما الحيلة إذا كان نظام الوجود يقضي بأن كثيرًا من النساء يعشن في الوحدة والانفراد، ويسعين ويعملن لكسب قوتهن وقوت أولادهن وبعض أقاربهن من القواعد والعاجزين عن الكسب. يقول المعترضون: إنهم لا يمنعون النساء الفقيرات من مباشرة أعمال الرجال، والاختلاط بهم، كما أنهم لا يمنعون المرأة من التعليم إذا كان لازمًا لكسب عيشها؛ لأن الضرورات تبيح التعليم إذا كان لازما لكسب عيشها؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات. وقد اتفق جميعهم على هذا الرأي، حتى حضرة العالم العلامة — (هكذا هو لقب نفسه على ظهر كتابه) — الذي انتدب عن فقهاء الأزهر للرد على (تحرير المرأة). فكلهم يرون أن منع المرأة من كشف وجهها، ومن الخروج من بيتها، ومزاولة أعمال الرجال، والاختلاط بهم، ومن التعليم الذي يؤهلها إلى هذه الأعمال هو خاص بغير الفقيرات من النساء اللاتي تلجئهن الضرورة إلى السعي لتحصيل أرزاقهن. ويتبين من هذا أنهم متفقون معنا في حالة الضرورة ولكنهم يخالفوننا في غيرها، فهم يرون أن الإباحة يلزم أن تكون خاصة لهذه الحالة فقط، وبهؤلاء النسوة، ونحن نرى أنها يلزم أن تكون عامة شاملة لجميع النساء والأحوال. ولو شاءوا أن يفهموا ما يقولون، وأن يقفوا على ما يفضي إليه رأيهم هذا، لوافقونا في رأينا وحكموا حكمنا؛ لأنهم يقولون: إن المرأة تفارق الحجاب وتتناول من الأعمال ما يتناوله الرجال إذا مست الحاجة إلى ذلك. ولا يخفى أن كل نفس حية معرضة لانتياب الحاجات ونزول الضرورات. والعمل الذي تدفع إليه الضرورة وتحمل عليه الحاجة لا يكفي في القيام به على الوجه اللازم أن تتوجه المرأة إليه وتدخل فيه، بل يلزم قبل الدخول فيه أن تكون نفسها مستعدة تمام الاستعداد لمباشرته والإتيان به على وجه يوصل إلى المرغوب، وهذا الاستعداد لا يكون إلا بالتربية والعلم، والتمرين والممارسة، واختبار الناس. فلو حرمت المرأة من التأهب لملاقاة الضرورات حتى وقعت فيها لم تستطع للخلاص منها سبيلا. وكان حرمانها من هذا التأهب عبارة عن تسليمها للهلاك. ويا عجبا! كيف نتوقع الخيبة للرجل منا إذا كان ناقص التربية، قليل المعرفة، عديم الاختيار، ولا نتوقع تلك الخيبة للمرأة إذا اشتركت معه في هذه النقائص؟! وحوادث الفقر، والطلاق، وموت الزوج، والعزوبة كلها حوادث جارية، وتقع في كل آن، ولما كان الاطلاع على الغيب أمرًا غير ميسور للإنسان وجب أن تستعد كل امرأة لهذه الحوادث قبل أن تقع فيها. لهذا نرى أن من أهم ما يجب على الآباء أن يعدوا بناتهم لاستقبال هذه الحوادث بما يدفع شرها ويقي من ضررها، ويمهد لهن سبيل الوصول إلى حظ من السعادة في هذه الحياة. نعم، نرى أنه يجب على كل أب أن يعلم ابنته بقدر ما يستطيع ونهاية ما يمكن، وأن يعتني بتربيتها كما يعتني بتربية أولاده الذكور، فإذا تزوجت بعد ذلك فلا يضرها عملها بل تستفيد منه كثيرا، وتفيد عائلتها، وإن تتزوج أو تزوجت ثم انفصلت عن زوجها لسبب من الأسباب الكثيرة الوقوع، أمكنها أن تستخدم معارفها في تحصيل معاشها بطريقة ترضيها، وتكفل راحتها واستقلالها وكرامتها. وسواء نظرنا إلى الفوائد المادية التي ينالها صاحب العلم من علمه، أو نظرنا إلى اللذة المعنوية التي يذوقها فالتعليم على كل حال مطلوب. «رأيت في أمريكا الصبيان والبنات يذهبون إلى مدرسة واحدة، ويجلسون على مكتبة واحدة بعضهم بجانب بعض، ويسمعون دروسًا واحدة ويرتاضون معا، فإذا أتموا دروسهم استمر هذا الاختلاط حيث ترى البنات في المعامل والمصانع يشتعلن ويستخدمن في (اللوكاندات) الكبيرة لمسك الدفاتر ويربين الأطفال في المدارس الابتدائية، ويطلبن العلم في مدارس الطب، وترى منهن قسيسان يخطبن في الطرق وأعضاء في الجمعيات الخيرية، ورئيسات في المجالس البلدية، وما أشبه ذلك، إذا أردت أن تعرف ما هو سبب هذه العادات العربية، وما هو المقصود من تربية النساء على هذه الطريقة، وما هي الواجبات التي يتأهبن لأدائها بهذه التربية فعليك أن تتأمل في هذه المسألة لكي تقف على سرها. إذا فكرت فيها تعلم أنه يوجد تياران متعاكسان يقابلهما حالتان للمرأة مختلفتان، وبيان ذلك أن بقيت عزبة تضطر إلى أن تجاهد في سبيل الحياة كالرجل الذي يناضلها، فأحسن تربية توافقها هي تربية كتربية الرجال، أما إذا تزوجت فحمل المعاش يكون على زوجها، وهي تشتغل بإدارة منزلها وتربية أولادها، ولكن من ذا الذي يعلم مستقبل البنت، وهي في السنة العاشرة من عمرها؟ وما الذي يعلمه الآباء أمام هذا المستقبل المجهول؟ رأى الأمريكان أن من الفطنة أن يعملوا كأن بناتهم لا يتزوجن، وأن يربوهن كالذكور من جهة التعليم والاستقلال في السير، فالأب الأمريكي يربي ابنته على أن تعتمد على نفسها؛ لأنه يجعله مستقبلها، فإن صادفت زوجا يريد أن يضع يده في يدها ويقطع معها طريق الحياة كانت هذه التربية أحسن ما يؤهلها للقيام بواجباتها العائلية، وإن لم يوجد أحد يرغب الاقتران بها فقد خلص الأب من اللائمة؛ حيث إنه تبصر في المستقبل وعمل ما يمكن أن يعمل ليعدها للغلبة على ما تلاقيه أمامها من الصعاب ومرارة الحياة». كذلك يمكن للمرأة أن تشتغل بجميع الأعمال التي قوامها الترتيب والتنظيم ولا تحتاج إلى قوة العضلات والأعصاب كالتجارة فكم من بيوت تجارية ارتفعت بأيدي النساء بعد أن كانت سقطت من أيدي الرجال، وكذلك يمكن للنساء مزاولة جميع الحرف الأدبية. أن المرأة المصرية إذا احتاجت اليوم إلى كسب معاشها بنفسها لا تجد عملا تتناول منه ما تقتات به إلا بعض الأعمال الشاقة السافلة كالخدمة في بعض البيوت، أو الجولان في الطرق لبيع السلع الزهيدة القيمة، فمنع النساء عن الاشتغال بما يشتغل به الرجال كأنه في الحقيقة تخصيص لهن بمثل هذه الأعمال الدنيئة التي لا ينال بها إلا القليل التافه، وحرمان لهن من الأعمال الشريفة التي تعود على أربابها بالمكاسب الوافرة. هذه المنزلة المنحطة هي التي نريد استبدالها بأرفع منها. يجب أن تربى المرأة على أن تكون لنفسها — أولا — لا لأن تكون متاعًا لرجل ربما يتفق لها أن تقترن به مدة حياتها. يجب أن تربى المرأة على أن تدخل في المجتمع الإنساني وهي ذات كاملة لا مادة يشكلها الرجل كيفما شاء. يجب أن تربى المرأة على أن تجد أسباب سعادتها وشقائها في نفسها لا في غيرها. بماذا نقابل رجلا ينصحنا بقوله: ربوا أبناءكم ليكونوا أزواجا فقط، ولا تعدوهم إلا للزواج؟ لا ريب أنا نقابله بالسخرية والاحتقار؛ لأننا نعلم أن الرجل لا بد له — أولا — أن يكون إنسانا مستعدًا لأن يلاقي من المشاق والمصاعب ما يلاقيه الإنسان، وأن ينال من السعادة ما يليق بالإنسان أن يناله، فمتى تعلم وصار قادرا على كسب عيشه، وكان متجملا بحسن الأخلاق، كان بالطبع زوجا صالحا، فكيف نقبل نصيحة من يقول لنا: أعدوا بناتكم لأن يكن فراشا فقط، ولا تعدوهن لغير ذلك من مقاصد الحياة وغاياتها؟! نتج من كل ما تقدم أن للمرأة حقًا في أن تشتغل بالأعمال التي تراها لازمة للقيام بمعاشها، وأن هذا الحق يستدعي الاعتراف لها بحق آخر وهو أن توجه تربيتها إلى الطرق التي تؤهلها إلى الانتقال بجميع قواها وملكاتها. وليس معنى ذلك لزام كل امرأة بالاشتغال بأعمال الرجال وإنما معناه أنه يجب أن تهيأ كل امرأة للعمل عند مساس الحاجة إليه.
قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل. قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل.
https://www.hindawi.org/books/91575858/
المرأة الجديدة
قاسم أمين
يقصد قاسم أمين بـ«المرأة الجديدة» المرأة التي بدأ ظهورها في الغرب منذ عصر التنوير، وهي المرأة التي بدأت تلعب دورًا اجتماعيًّا وثقافيًّا رئيسًا في مجتمعها ودولتها، بعد أن كانت مهمشة ومقصية في عصور ما قبل التنوير الأوروبي، ويرى قاسم أمين أن الرؤية الاجتماعية السائدة عن المرأة في عصره داخل المجتمع المصري تشبه إلى حد كبير تلك الرؤية ما قبل التنويرية، وهي رؤية تتعارض مع الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها رجالًا كانوا أو نساءً، كما أنها رؤية تتعارض مع الفهم الصحيح للدين، فالإسلام كفل للمرأة حق التصرف في أملاكها، كما كفل لها حق التعلم وحرية العمل والمشاركة الاجتماعية والثقافية النهضوية في البناء الحضاري، والفهم المنغلق لدور المرأة إنما يمكن رده إلى الجهل والاستبداد بالدين والتمسك بالعادات والتقاليد المنافية لفطرة الإنسان والمخالفة للنظرة الأخلاقية القويمة.
https://www.hindawi.org/books/91575858/4/
الواجب على المرأة لعائلتها
إلى هنا كان كلامنا في التربية والأعمال التي لا بد منها لحفظ وجود المرأة على الوجه اللائق بها. ونريد الآن أن نتكلم على الأعمال والتربية التي تلزم للمرأة لتكون نافعة في عائلتها. وجميع الناس متفقون على أن قوام العائلة ونظامها في يد المرأة، ولكن ليس كل كالناس سواء في فهم هذه القضية، فالجمهور الأعظم من الناس يفهمون أن معنى ذلك هو أن تقوم المرأة بخدمة زوجها وأولادها إن كانت العائلة فقيرة، أو تدبر أعمال الخدمة للذين يؤدون هذه الأعمال بأوامر تصدرها إليهم ومراقبتها لهم إن كانت العائلة غنية. إلى هذا الحد يقف فكرهم: هكذا بخسنا المرأة حقها في جميع الأحوال، فبعد أن حرمناها حريتها وأفقدناها استعدادها للقيام بضرورات حياتها انتهى بنا الحال إلى أن ضيقنا دائرة أعمالها، حتى في العائلة. وهذا أقوى دليل على أن كل ما يختص بارتقاء المرأة يرتبط بعضه ببعض، فالمرأة المهذبة الحرة هي التي يمكن أن يكون لها نفوذ عظيم في عائلتها، والمرأة الجاهلة المستعبدة لا يمكن أن يكون لها من النفوذ في عائلتها أكثر مما يكون لرئيسة الخدم في البيت. ظن المسلمون أن تمتع المرأة بحريتها، واشتغالها بما يهتم به الرجال والتوسع في تربيتها يفضي إلى إهمالها في القيام بما يجب عليها في الشئون العائلية، فوضعوا بينها وبين العالم الخارجي حجابًا تامًا؛ حتى لا يشغلها شيء عن معاشرة زوجها وإدارة منزلها وتربية أولادها. ولكن انظر إلى النتيجة تجد أنها خلاف ما قصدوه؛ حيث إن المرأة المصرية لا تعرف كيف تعاشر زوجها، ولا يمكنها أن تشتغل بإدراة بيتها ولا تصلح لأن تربي أولادها. ذلك لأن جميع أعمال الإنسان مهما اختلفت وتنوعت هي صادرة عن أصل واحد وهو عمله وإحساسه، فإن كان هذا الأصل راقيًا كان أثره في كل شيء كبيرا نافعا حميدا وإن كان منحطًا كان أثره في كل شيء حقيرًا ضارا غير محمود. فالوظيفة الحقيرة التي تؤديها المرأة المصرية عندنا اليوم في العائلة هي لمنزلتها من ذلك الأصل المتقدم ذكره، ولكن عجز نسائنا الآن عن القيام بالأعمال التي ينبغي أن تناط بهن لا يحملنا على اليأس من ارتقائهن ولا على الحكم باستحالة بلوغهن إلى الحد الذي يرجى لهن. إذا أردت أن تعرف مقدار جهل الأمهات عندنا بأبسط مبادئ التربية، انظر إلى إحصائيات وفيات الأطفال عندنا وإحصائيات تلك الوفيات في مدينة مثل (لوندره) تجد أن عدد الموتى من أطفالنا يزيد عن ضعف عدد الموتى من أطفال مدينة (لوندره) وقد اطلعت على إحصائية مصلحة عموم الصحة التي نشرت في هذا العام فوجدت أن عدد المتوفين بين الأطفال الذين لم يتجاوز عمرهم خمس سنين هو في مدينة القاهرة ١٤٥ في الألف ويقابل ذلك في مدينة (لوندره) ٦٨ في الألف. فإذا كانت صحة أولادنا، ومرضهم وحياتهم وموتهم متعلقا بالطريقة التي يتبعها النساء في تربيتهم، أفلا يكون من ضعف العقل وسخافة الرأي أن نكل أولئك الأولاد إلى ما يقترحه الجهال، ونتركهم إلى خرافات المراضع ونصائح العجائز تتصرف فيهم كيف تشاء؟! إن الأمهات الجاهلات يقتلن في كل سنة من الأطفال ما يربو على عدد القتلى في أعظم الحروب! وكثير منهن يجلبن على أولادهن أمراضًا وعاهاتٍ مزمنة تصير بها الحياة حملا ثقيلا عليهم طول عمرهم، وليس لهذا البلاء سببٌ في الأغلب سوى جهل الأمهات بقوانين الصحة، لو كانت أم الطفل تعرف أن كل ما يتعلق بتغذية الطفل ومسكنه وملبسه ونومه ولعبه له أثر على جسمه، لأمكنها أن تتخذ له وقاية من العلل بقدر معارفها الصحية، ولو علمت كل أم أن أغلب الأمراض التي تنهك جسم ولدها لا تصيبه من غير سبب، وأنها المسئولة عن صحته ومرضه لما تساهلت في وقايته من كل من شأنه أن يضر ببدنه، ولكن كيف تصل إلى معرفة ذلك من جهلها الذي يخيل لها أن المسببات تقع بلا أسباب أو تحصل بأسباب خارقة للعادة؟! لا ينبغي هنا أن أشرح بالتفصيل كل ما يليق أن يعرفه القراء في هذا الموضوع، وإنما نقول بالإجمال: إن التربية الجسمية للولد وحدها تستدعي معارف كثيرة، يتعلق أغلبها بقوانين الصحة، وأن معرفة هذه القوانين تحتاج إلى مقدار عظيم من معارف أخرى لابد منه ليتيسر فهمها. فعلى الأم أن تعرف أفضل الطرق لتغذية الأطفال؛ لأن الانتظام في نمو الجسم يرتبط دائما بانتظام التغذية، وجود الأنسجة، وخصوصًا النسيج المخي، تتعلق بجودة التغذية حتى قال بعض علماء الطب: إن الأمم التي تفضل غيرها في التغذية تفوق سواها في القوة، وتتغلب على غيرها من الأمم. وعلى الأمم أن تعرف كيف تقي جسم ولدها من أعراض الحر والبرد، وما هو الماء الذي ينبغي استعماله في نظافة جسمه من حار أو فاتر أو بارد، وعليها أن تعرف أن للهواء والشمس أثرًا حميدًا في الصحة، فلا تحرمه من التمتع بهما. وهكذا يقال في الأشياء الأخرى كالنوم واللعب وما أشبه ذلك. ثم يجب عليها من فترة إلى أخرى أن تكون على علم تام بنفس الطفل، ووظائف قواه العقلية والأدبية، وإلا كانت أول عامل في فساد أخلاق ولدها. انظر إلى ما تعمله امرأة مصرية مع ولدها تجده مما لا يصدر عن إنسان عاقل يقدر لعمله نتيجة، مثال ذلك أنها تمنعه من اللعب كي لا يشوش عليها، وهي لا تدري أنها بمنعها إياه من اللعب تقف في سبيل نموه، وإذا أرادت أن تؤدبه هددته بما لا تستطيع أو بما لا تريد أن تنفذه أو خوفته بموهومات تثير في ذهنه خيالات ربما لازمته مدة حياته، وإذا أرادت أن تكافئه، وعدته بوعود لا تفي بها، فتكون له بذلك قدوة في الكذب، وتحدث في نفسه ضعف الثقة بالقول، وهي في أغلب حالاتها تظهر الغضب عليه، وتنهره بالصوت الشديد وتزعجه بحركات التهديد، كأنها تريد أن تثبت له بأقوى الدلائل أنها عاجزة عن ضبط نفسها وسياسة قواها، وربما كان السبب الذي أثار غضبها لا يستحق من ذلك كله شيئًا، فإذا رأت منه انفعالا مما صدر منها لم تلبث أن تضمه وتقبله، وتظهر له غاية الندم على ما صدر منها، والولد المسكين لا يدري كيف استحق غضبها أولا، ثم رضاها ثانيا. هذه العيوب ليست خاصة فقط بالأمهات، بل تجد كثيرا من الآباء عندنا؛ لجهلهم بالطبيعة الإنسانية يستعملون في تربية أولادهم طرقا لا تقل في الشناعة والسخافة عما تستعمله النساء. ومن أقبح ما يصنعه كثير من الآباء مع أبنائهم، أن يشتم ويسب الوالد ولده بألفاظ لا يدري الطفل معناها، فيجيبه الولد بمثلها، فإذا أحسن الإجابة ضحك أبوه مسرورا، واستبشر بنجابة ولده! وكذلك ترى الواحد يأمر ولده أمرًا لا داعي له فيخالفه الطفل فينقض عليه كالوحش فاقد الشعور، ويضربه في أي مكان يصادفه من جسمه، ولم يكن ذلك إلا لأنه يرى في عدم طاعة ولده إخلالا بسلطته وامتهانا لعظمته. ولو كان هذا الأب يعقل ما يفعل وعلم أن كل ما يعود عليه الطفل في نشأته يحدث في نفسه أثرا يكون مبدأ لملكة راسخة فيها، لما عوده على ما لا يحسن أن يراه منه في كبره، ولو علم أن المقصود من التربية ليس أن يتعود الطفل على أن يطيع كل أمر يصدر إليه، وإنما الغرض منها أن يتعود على أن يحكم نفسه لاجتنب الأمر والتهديد والضرب، فإن هذه الوسائل لا تهيئ الطفل إلى أن يحكم نفسه، وإنما يتمرن الطفل على أن يحكم نفسه إذا اجتهد أبواه في إقناعه وتنبيه عقله إلى عواقب أفعاله؛ حتى يتولد في نفسه اعتقاد ثابت بأن ما يصيبه من خير أو شر فهو من كسبه. أفضل طريق للتربية يؤدي إلى هذه الغاية (أن يحكم الشخص نفسه) هي أن يترك الطفل وميله، يعمل العمل حسب ما يسوقه إليه خاطره، ولا يتداخل المربي إلا ببيان ما ينتج عن هذه الأعمال بصورة نصيحة وإرشاد، فإذا لج الصبي في مخالفة النصيحة تركه حتى يقع في عاقبة عمله، لكن مع المراقبة الدقيقة؛ كي لا يكون ضرر العمل شديدًا، وإنما يسوغ الردع والمنع في الأحوال النادرة التي يعرض الصبي نفسه فيها للخطر. بهذه الطريقة يستعد الطفل إلى أن يكون رجلا يعتمد على نفسه في الوقت الذي لا يجد بجانبه أحدا يدفع عنه ويحافظ عليه. يمكنني أن أقرر بوجه الإجمال حقيقة أود أن يطلع عليها كل أب وأم، وهي أن جميع العيوب التي تشاهد عند الأطفال، مثل الكذب والخوف والكسل والحمق، هي ناشئة من جهل أبويه بقواعد التربية، وأن من السهل إزالة هذه العيوب بالوسائل الأدبية، وقد يتوصل لإزالتها بالوسائط الطبية. إذا كانت وقاية الطفل من الأمراض وتطهيره من العيوب مما يحتاج إلى معلومات كثيرة كما ذكرنا. فالوقوف على غرائز الطفل الطيبة وغرض الصفات الحميدة في نفسه يحتاج إلى معارف أدق ومعلومات أوفر. يظن الجمهور الأعظم من الناس أن التربية من الهنات الهيئات، ولكن من يعرفها حق المعرفة يعلم أن لا شيء من الشئون الإنسانية — مهما عظم — يحتاج إلى علم أوسع ولا نظر أدق ولا عناء أشق مما تحتاج إليه التربية، أما من جهة العلم فلأنها تحتاج إلى جميع العلوم التي توصل إلى معرفة قوانين نمو الإنسان الجسماني والروحاني، وأما من جهة المشقة والعناء، فلأن تطبيق هذه القوانين على ما يلائم حال الطفل من يوم ولادته إلى بلوغه سن الرشد يحتاج إلى صبر ومثابرة في العمل ودقة في الملاحظة والمراقبة قلما يحتاج إليها عمل آخر. لا يؤخذ من ذلك أني أذهب إلى أن كل أم يجب عليها أن تحيط بتلك العلوم الواسعة، ولكن أقول: إن جميع الأمهات يجب عليهن أن يعرفن كلياتها، وكلما زاد علم الواحدة منهن بأصول تلك العلوم وفروعها، زادت قوة استعدادها لتربية أولادها. يرى أني أهملت شان الآباء عند الكلام على التربية وليس ذلك من باب السهو؛ بل لأن مدار التربية كلها على الأم، فالولد ذكرا كان أو أنثى، من وقت ولادته إلى سن المراهقة، لا يعرف قدوة له سوى والدته، ولا يعاشر غيرها، ولا يرد على حواسه إلا الصور التي تعرضه لها، فنفسه صحيفة بيضاء، وأمه تنقشها كما تشاء، ويتم نقش الصحيفة وتكون كتابا مسطورا عندما يبلغ الطفل سن الرابعة عشرة، كما قال (ألفونس دوريه) وليس في إمكان الناشئ بعد ذلك أن يضيف على ما رسا في نفسه، أو ينقص منه إلا شيئا قليلا لا يترتب عليه تغيير الكتاب. هذا السر في احترام الغربيين نساءهم، وتقديسهم أمهاتهم. فهم يعلمون أن كل ما هم عليه من الصفات الحسنة والأخلاق الطيبة، هو من فضل أمهاتهم اللاتي أودعن فيهم بضعة من أرواحهن، وهي خير بضعة كانت عندهن، إن كان بين الغربيين من يشعر من نفسه بحب الحق والميل إلى جميل الفعال ويقدر شرف النفس قدره، ويرأف بالفقير ويتألم لأنين المريض ويرحم الحيوان، إن كان يوجد بينهم من حواسه ليست إلا الصور التي تعرض لها، فنفسه صحيفة بيضاء وأمه جعلت الترتيب والنظام قاعدة عمله، والجد والاجتهاد مشتهي نفسه، إن كان فيهم من يجد في نفسه احتراما لدينه وتكريما لشأن وطنه وشوقا إلى طلب الكمال في كل شيء، فليس ذلك لأنه قرأ في الكتب أو تعلم في المدرسة أن هذه الصفات ممدوحة، ولو كان الأدب يعلم بالحفظ لكان إصلاح العالم من أسهل الأمور، وإنما كان ذلك لأن والدته أرادت أن يكون على هذه الصفات، وكابدت ما لا يوصف من المتاعب لطبعها في نفسه وتثبيتها في طبعه. فهي التي كانت تحرص ألا يقع تحت حواسه صورة قبيحة، وهي التي كانت تقدم إليه صور الأشياء الجميلة على أشكالها المختلفة، وهي التي كانت تعوده على العادات النافعة شيئا فشيئا حتى رسخت فيه كما ترسخ جذور النباتات في الأرض. هذه الوظيفة التي تقوم بها الأمهات في تلك البلاد هي أهم وأنفع ما يعمله إنسان حيٌّ على وجه الأرض، إذن لا يوجد شيء أهم ولا أنفع من تهذيب نفوس الأطفال وإعدادهم لأن يكونوا رجالا صالحين. من هذا يتبين أن عمل المرأة في الهيئة الاجتماعية هو تكوين أخلاق الأمة، تلك الأخلاق التي أثرها في الاجتماع، من حيث ارتقاء الأمم وانحطاطها، يفوق آثار النظامات والقوانين والديانات. لهذا لا يوجد بين الغربيين من يجهل مقام المرأة في الوجود الاجتماعي وشأنها في العائلة ولا بأس من أن نورد هنا شيئا من كلام بعض فلاسفتهم؛ لنبين للقراء منزلة النساء في رأيهم. قال (سيملس): «للمرأة في تهذيب النوع الإنساني أكثر مما لأيّ أستاذ فيه، وعندي منزلة الرجل في النوع من منزلة المخ من البدن ومنزلة المرأة منزلة القلب». وقال (شيلر): «كلما وجد رجل وصل بعمله إلى غايات المجد، وجدت بجانبه امرأة محبوبة». وقال (روسو): «يكون الرجال كما تريد النساء، فإذا أردت أن تجعل الرجال من ذوي الهمة والفضيلة، فعلّم النساء الهمة والفضيلة». وقال (فنلون): «إن الواجبات التي تطالب بها النساء هي أساس الحياة الإنسانية فالمرأة تدير جميع شئون العائلة، وبهذا العمل يكون لها أعظم نصيب في إصلاح الأخلاق أو إفسادها، ليست الأمة صورة تقوم بنفسها كما يتخيل، وإنما هي مجموع العائلات، وما من أحد يمكنه أن يهذب العائلة سوى المرأة». وقال «لامارتين»: «إذا قرأت المرأة كتابا فكأنما قرأ زوجها وأولادها». وأمثال هذه الحكم مما نطق به العلماء والفلاسفة، وما ورد في مؤلفاتهم لبيان ما للمرأة من الأثر في إصلاح أخلاق الأمم بلغ من الكثرة حدا بحيث لا تمكن الإحاطة به. «ما سمعنا في تاريخ من التواريخ، ولا في سفر من الأسفار، ولا في خبر من الأخبار أن أمة من الأمم أو دولة من الدول تقدمت بنسائها وارتفع شأنها بإناثها، وهذه الدول الأوربية ارتفعت في هذه الأيام واشتهرت بالعلوم والمعارف والحرف والصنائع، واختراع الأمور العظيمة التي عم نفعها، فأيّ شيء من هذه العلوم والمعارف، وأيّ أمر من مخترعات الحرف والصنائع اشتهرت به امرأة من النساء؟ والذي يقرأ هذه السطور يحق له أن يظن هذا العالم الأزهري وأمثاله لم يطلعوا على تاريخ من التواريخ ولا سفر من الأسفار ولا خبر من الأخبار! فالنساء اللاتي خلد التاريخ ذكرهن لشهوتهن بالعلوم والمعارف، أو بالأعمال العظيمة لسن بذوي العدد القليل، وتوجد مؤلفات ضخمة تشتمل على تراجم حياتهن، وليس في إمكاننا أن نأتي هنا على ذكر أعمال بعض من اشتهر من النساء في التاريخ، وربما تسمح لنا الفرصة كتاب لذلك، إنما يمكننا أن نؤكد هنا إلا أنه لا يوجد علم من العلوم ولا فن من الفنون إلا وقد برهنت المرأة فيه على أنها مستعدة لأن تصل إلى أعلى مراتب الكمال الإنساني. وإني أستلفت العالم الأزهري خصوصا إلى سلف أمته الصالح ليعلم أن تاريخ دينه لم يخل من ذكر النساء اللاتي كان لهن أجمل الأثر فيه. على أن الأمر لا يحتاج تحقيقه إلى التاريخ، فقد وجد في القرن الذي نحن فيه كثير من النساء اللاتي ارتفع شأنهن وذاع ذكرهن في جميع الممالك المتمدنة. هذه (مارية متشل) اكتشفت نجمًا ذا ذنب سمي باسمها، وعينت مديرة (الرصد خانه) في أمريكا، ومعلمة لعلم الفلك، ولها مؤلفات كثيرة في هذا لعلم. و (كارولين هرشل) اكتشفت سبعة نجوم، فمنحها مجمع علمي ﺑ (لوندره) الميدالية الذهبية. و(تريز دويافير) لها مؤلفات عظيمة في الجغرافيا وفي علم طبقات الأرض، وكانت عضوًا في المجمع العلمي بمدينة (منخ). و«صوفي جرمين» لها اختراعات جليلة في العلوم الطبيعية. وكل أهل العلم يعلمون أن (المركيزة دوشاتليه) هي التي نشرت مذهب نوتوني في فرنسا (وكلمنس رويه) هي التي نشرت مذهب (داروين) و(مدام استيل) هي أول من عرف ألمانيا لأوربا، وكذلك (مدام تارنوسكي) هي التي نشرت مذهب (لمروزو) في البلاد الروسية. أما عدد الفلاسفة والأدباء من النساء اللاتي نشأن في هذا القرن الذي سبق لا يمكن حصره في مثل هذا الكتاب، ولكني لا أرى بدا من ذكر اثنتين من بينهن لم يسبقهما رجل في فن الكتابة، وهما (مدام لا فايت) و(جورج سند). على أن الارتباط الذي ادعيناه بين تقدم الأمم وارتقاء حال النساء، لم نقصد به أن المرأة تفيد الأمة مباشرة باختراعاتها العلمية، ومذاهبها الفلسفية، وإنما نعني به بخاصة ما لها من العمل في إصلاح العائلة ثم الأمة على الوجه الذي بيناه. بعبارة أخرى نقول: إن ظهور رجل عالم أو حكيم فاضل في أمة يعد من الحوادث التي يشترك في أحداثها سببان: من هذا يتبين أن شخصية الإنسان الأدبية تتكون من عاملين عامل طبيعي، عامل صناعي، وليس في استطاعتنا أن نؤثر في الأول، ولنا على الثاني سلطة واسعة؛ حيث إنه يمكننا بالتربية الأولى أن ننمي غريزة الطفل، إن كانت غريزة صالحة، ونكملها ونزيدها حسنا، ويمكننا أن نضعف من أثرها أن كانت بضد ذلك، نعم أن لهذه السلطة الثانية جدا تنتهي إليه، ولكن سعة دائرتها تمكننا من الانتفاع بها انتفاعا عظيما إذا عرفنا كيف نتصرف فيها واهتدينا إلى طرق التربية الصحيحة. فهذه التربية الأولى — وزمامها في يد المرأة — هي التي أكسبتها ذلك المقام الرفيع الذي لا يعلوه مقام في الهيئة الاجتماعية. وليس تأثير المرأة في العائلة مقصورًا على تربية الأطفال، بل المشاهد بالعيان أن المرأة تؤثر على جميع من يعيش حولها من الرجال، فكم من امرأة سهلت على زوجها وسائل النجاح في أعماله، وأعدت له أسباب الراحة والاطمئنان؛ ليتفرغ لأشغاله، وكم من امرأة شاركت زوجها أو أخاها أو والدها في متاعبه، وكم من امرأة طيبت قلب الرجل وقوت عزيمته في حالة اليأس والقنوط، وكم رجل طلب المجد ومعالي الأمور طمعا في إرضاء محبوبته، فبلغ الغاية مما طلب. «إني أهدي هذا الكتاب إلى الروح التي ألهمتني أحسن ما وضعته من الأفكار، إلى صديقتي وزوجتي التي كان غرامها بالحق والعدل أعظم ناصر لي، والتي كان استحسانها من أكبر المكافآت التي أرجو نيلها على عملي، كان لها في جميع ما كتبته إلى الآن، ولها في هذا الكتاب حصة من العمل لا تنقص عن حصتي فيه، وأكبر أسفي أن هذا الكتاب طبع بالحالة التي هو عليها الآن قبل أن تعيد النظر فيه، ولو كان في استطاعة قلمي أن يعبر عن نصف ما دفن معها من الأفكار العالية، والوجدان السامي لانتفع العالم به أكثر مما ينتفع بجميع ما أكتبه صادرا عن فكري ووجداني بدون مشورة عقلها الفريد». وكانت زوجة (باستور) الشهير مشاركة له في جميع مباحثه العلمية وبنت (لمبروزو) تشتغل إلى الآن مع والدها، ومن هذا القبيل أن (مارك) الشهير فقد بصره فلم يجد له معينا على معيشته إلا ابنته، فكانت تلقي دروسًا بالأجرة، وتمد والدها بما تكسب من دروسها، ثم إنها كانت تحثه على إتمام بحثه العلمي، وتكتب ما يمليه عليها؛ حتى صار بمعونتها من أشهر علماء التاريخ الطبيعي. هذه الأمثلة، وغيرها مما يطول شرحه، تدلنا على أن المرأة المهذبة يمكنها، فضلا عن تربية أولادها، أن تعمل كثيرا من الأعمال لمصلحة الرجال وسعادتهم، وأي مصلحة للرجال أعظم من أن يعيش وبجانبه رفيقة تلازمه في الليل والنهار، في الإقامة والسفر، في الصحة والمرض، في السراء والضراء، رقيقة ذات عقل وأدب، عارفة بحاجات الحياة كلها، تهتم بكل شيء يمس بمصلحة زوجها ومستقبل أولادها، تدبر ثروته، وتحافظ على صحة وتدافع عن شرفه، وتروج أعماله، تذكره بواجباته، وتنبهه إلى حقوقه، وتعرف أنها باجتهادها تجد في منفعتها كما تجد في منفعة زوجها وأولادها؟ وهل يسعد رجل لا يكون بجانبه امرأة يهبها حياته، وتشخص الكمال بصداقتها أمام عينيه فيعجب بها، ويتمنى رضاها، ويتوسل إليها بفضائل الأعمال، ويدنو منها بعقائل الصفات ومكارم الأخلاق، صديقة تزين بيته، وتبهج قلبه، وتملأ أوقاته، وتذيب همومه؟ هذه الحياة التي لا يشعر الرجال عندنا بشيء منها هي من أعظم الينابيع للأعمال العظيمة، وأقول ولا أتردد فيما أقول: «إذا لم تبلغ رقة الإحساس عندنا إلى حد يرتبط الرجال فيه مع النساء على نحو ما ذكرنا، واستمر الرجال على إهمال النساء وتركن في هذه الحالة الساقطة التي يتألم الكل من آثارها وهم لا يشعرون، ولم يبادروا بإعداد المرأة بالتربية إلى أن تكون رقيقة مساوية للرجل، وعشيرة عارفة بإدارة بيتها وصديقة تفدي زوجها بأعز ما لديها. وأما محيطة بما يجب عليها لأولادها، عارفة بطرق تربيتهم، فكل ما فعلناه إلى الآن وكل ما نفعله في المستقبل لترقية شأن أمتنا يضيع هباء منثورًا! هذا هو الحق الذي انتهينا إليه عند بحثنا عن أسباب تأخر الأمم الشرقية عموما والإسلامية خصوصا. هذا الرأي الذي عرضناه على القراء أولا، نعرضه عليهم الآن مرة ثانية، وكل ما نرجوه منهم هو ألّا يضربوا به عرض الحائط كما أشار عليهم كثير من أصحاب الأفكار والكتاب الذين طعن أغلبهم في كتاب (تحرير المرأة) قبل أن يقرؤه. لا خلاف في أن الأمم الإسلامية في حالة ضعف تستدعي المبادرة إلى علاجها، فيتعين علينا أن نشخص هذا الداء بمعرفة أسبابه أولا، ثم نبحث عن دوائه، كما يفعل كل طبيب يهتم بعلاج مريض، فما هي أسباب الداء؟ أسبابه تنحصر إما في الإقليم، أو في الدين، أو في العائلة، أما الإقليم فلا يصح أن يكون سبب الداء؛ لأنه من المعلوم أن الأمة المصرية من أقدم الأمم، ويعترف لها المؤرخون بالسبق في الابتكار ثم إلى العرب ثم إلى أوربا. وظهر فيها أول دين كبير في العالم، وتمتعت مدة قرون بمدينة مشهورة لا تزال آثارها إلى الآن، وستبقى خالدة في ما لا يزال، وحكمت نفسها ودبرت أمورها مدة أجيال، بل أتى عليها زمن تغلبت فيه على ما جاورها، وبعد عنها من الأمم العظيمة، وقهرتها وأخضعتها لحكمها. ثم بعد فقد استقلالها حافظت على وجودها وهيئتها رغما عما طرأ عليها من المتقلبات والمظالم والمصائب التي توالت عليها، وهذا يدل على أنها وهبت في طبيعتها حياة قوية، وأنها مستعدة للمقاومة في المزاحمة مع الأمم الأخرى، فإذا كان الإقليم لم يعق الأمة المصرية عن إتيانها بأعظم الأعمال، ولا عن تأسيس الشرائع وابتكار العلوم والفنون، فلماذا يصير مانعًا لها من الترقي في هذه الأيام التي قد تلطفت فيها بلا ريب درجة حرارة الإقليم؟ على أنه لم يثبت بأدلة صحيحة يسندها العلم أن الحرارة تؤثر في الجسم والعقل تأثيرا سيئا وغاية ما ينشأ عن اختلاف الأقليم تفاوت في الأمزجة والأخلاق بين الأمم، فمن المشاهد أن سكان الشرق يمتازون بالذكاء وسرعة الفهم وقوة الذاكرة، وهذه الصفات النفسية تعرضهم ما قد ينقصهم من الجلد والمثابرة في العمل. وفي الشرق أقاليم باردة وسكانها ليسوا أقل انحطاطا في المدينة من سكان الأقاليم الحارة. وأما نسبة تأخر المسلمين في المدنية إلى الدين الإسلامي فهو خطأ محض، من ذا الذي يقول: إن الدين الإسلامي، الذي يخطاب العقل ويحث على العمل والسعي، يكون هو المانع من ترقي المسلمين؟ وقد برهن المسلمون أن دينهم عامل من أقوى العوامل للترقي في المدنية، ولا يجوز بعد سطوع هذا البرهان التاريخي أن يرتاب أحد في هذه المسألة. نعم إن الدين الإسلامي الصحيح قد تحول اليوم عن أصوله، واستتر تحت حجب من البدع، ووقف نموه، وانقطع ارتقاؤه من عدة قرون، وظهر لهذا الانحطاط الديني أثر عظيم في أحوال المسلمين، ولكن هذا الانحطاط الذي ينسب إليه بعض الكتاب الغربيون تأخر المسلمين في المدنية يحتاج نفسه إلى سبب يرد هو إليه، فهو سبب ثانوي لا أولي. وعلى هذا فليس ما نراه في أحوال المسلمين ناشئًا عن السببين المذكورين، فإن أحدهم لا تأثير له بالمرة، والثاني يعد من الأسباب الثانوية، بقي عندنا السبب الثالث، فهو الذي ينبغي أن تنسب إليه هذه الحال التي نشكو منها، فانحطاط المسلم كانحطاط الهندي والصيني وجميع سكان الشرق ما عدا اليابان، ناشئ من حالة العائلة في هذه المجتمعات. وذلك أن العائلة هي أول شيء يقع تحت حواس الإنسان في أول نشأته، وهي الشيء الثابت المستمر الذي يراه دائمًا، فإذا رأى الطفل فيها مثال الترتيب والعمل ورفعة النفس ورقة العواطف، تعلقت نفسه بهذه الخلال، وبهذا التعلق يخطو الخطوة الأولى في سبيل ارتقائه، حتى إذا صار رجلا وجد من حاله الشخصي ما يساعده على هذا الارتقاء. فالارتقاء حينئذ له دوران: فإن أهمل الإعداد في الدور الأول استحال صعود الشخص في درجات الارتقاء، ومهما حفظ بعد ذلك من العلوم في المدارس، ومهما كانت التعاليم الأدبية الدينية التي تلقى عليه، فهو يعيش كالطائر الذي قص جناحه، كلما هم أن يطير سقط، ومتى تحقق بالتجربة من عجزه استسلم إلى حظه، ورضي به، وانتهى الحال إلى أن يفضله على كل شيء سواه. ذلك لأن التعليم، سواء كان دينيا أو علميا، لا يمكن أن يكون له أثر نافع إلا إذا وجد من النفس عونا على النجاح، كما أن البذرة مهما كانت جيدة لاتنبت إلا في الأرض الصالحة لنموها. يقضي أولادنا الآن أوقاتهم في تعلم القراءة والكتابة واللغات الأجنبية، ومطالعة العلوم سنين، ثم ينتقلون إلى علوم أخرى أعلى وأرفع من تلك، فإذا انتهت مدة الدراسة ودخلوا في ميدان الحياة العمومية انتظرنا منهم أن يكونوا بيننا رجالا ذوي إحساس شريف وعواطف كريمة وأخلاق حسنة، وهمم عالية، رجالا يشعرون ويعملون، ورجونا منهم أن نجني ثمار هذا التعليم الذي بذل في سبيله النفيس من الوقت والمال، ولكن، واأسفاه! نرى آمالنا فيهم خائبة، نرى لهؤلاء الشبان المتعلمين قلوبا يابسة وهمما صغيرة، وعزائم ضئيلة. أما العواطف فهي بالتقريب، فيهم معدومة، فلا يروق لأعينهم منظر جميل، كما لا ينفرهم مشهد قبيح، ولا يعطفهم حنو، ولا تبكيهم مرحمة، ولا يحترمون كبيرا، ولا يستصغرون صغيرا، ولا تحركهم منفعة إلى عمل مهما عظم نفعه. وليس لذلك من سبب سوى أن التربية لم تتناول وجدانهم في كل السنين، هذا الوجدان الذي هو المحرك الوحيد للعمل لا يظهر ولا يقويه ولا ينميه إلا التربية البيتية، ولا عامل لها في البيت إلا الأم، فهي التي تلقن ولدها. احترام الدين والوطن والفضائل، وتغرس في نفسه الأخلاق الجميلة، وتنفث فيها روح العواطف الكريمة، وأشد من هذا كله أثرًا في نفسه ظهورها في عينيه متحلية بهذه الصفات، فيقلدها من غير فكر، ثم يعتاد على ذلك شيئا فشيئا؛ حتى تصير هذه الصفات حاجات لنفسه لا يمكن أن تنسلخ عنها. ولا يكون لنفسه شيء من ذلك إذا قضى زمن صباه ولم ترد عليه صورة من هذه الصور، ولم ينطبع في روحه مثال من هذه الأمثلة، فلو أدركها بعد ذلك بالتعليم كانت محفوظات في ذهنه لا ينفذ منها شيء إلى باطن نفسه، فلا يحدث له شعور صحيح يكون داعيًا للعمل وحاثا عليه. من هذا ترى شعراءنا ينمقون القوافي في وصف ما يكابد العاشق من مرارة العشق وآلامه، وهم لا يعشقون، وخطباءنا يلقون على أسماع غيرهم أحسن المقالات في حب الوطن، والحث على القيام بالواجبات الوطنية، ولا يأتي قائل منهم بشيء يبرهن به على أنه شاعر بما يقول، وترى أن أهل الدين الذين وقفوا حياتهم على خدمته أقل الناس شعورًا بالإحساس الديني الحقيقي، وترانا جميعا منصرفين عن كل شيء ونحن نطلب كل شيء! «هذه أول مرة انكشفت فيها لعينى هذه الجزيرة بعد انسلاخها من حكم الدولة، وإعطاء أوربا إياها هدية لثاني أنجال ملك اليونان! وقد حاولت، حال المرور، بها أن أتذكر بحسرة وجزع الحوادث التي سبقت أو اقترنت أو نتجت عن هذا التغيير، من قتل وسفك دماء مسلمي هذه الجزيرة وما نالهم من الذل والمظالم، ثم مصادرة من بقي منهم في أموالهم وثمرات أتعابهم، كمسلم حقيقي يألم بمصائب أخيه فلم تجد نفسه في جسمي دما يتأثر ولا بقلبي محلا للأسف أو الرحمة». «ولما تساءلت مع وجداني عن سبب هذه الجمود وعدم المبالاة بما دهمنا من النوائب والمصائب، قلت: لعل ذلك لكثرة ما لحقنا منها؛ حتى تدمم القلب وأوشك أن يقال عنه: «تكسرت النصال على النصال». «وقد بدا لنفسي جواب آخر على عدم الاكتراث بما أصاب مسلمي كريد، لم يبعد عني اختلاج النفس بالأسف على مصائبهم فقط، بل أوشك أن يخجلني، حيث مر بخاطري حسبان ذلك المصاب، ذلك أني قبل المجيء إلى الإسماعيلية كان آخر سفري على خط السويس من جهة القاهرة محطة الزقازيق، ثم اتجه القطار بنا نحو الإسماعيلية. وهي المرة الأولى في حياتي التي مررت بها على (التل الكبير) والقصاصين و«المحسمة» و«نفيشة» هذه المواقع التي اتخذت خطوطا للدفاع ضد الجيش الإنكليزي في سنة ١٨٨٢ والشأن أن المرور على مثل هذه البقاع للمرة الأولى يحرك لوعة الأسف وذكرى ضياع مجد البلاد واستقلالها، ومع ذلك لم أجد ألما أو اضطرابًا. هذا ما كتبه أحد رجال المصريين المشهورين بالذكاء ومحبة الوطن وإذا أردنا أن نصدق في القول مثله يجب علينا أن نعترف أننا إذا مررنا أيضا على هذه البقاع وشاهدناها، فلا تتحرك نفوسنا أكثر مما تحركت نفسه، ولا تشعر بأكثر مما شعرت. ومن البَدَهي أن هذا الجمود، كما سماه صاحب هذه المقالة، ليس منشؤه أن إبراهيم بك الهلباوي رجل جاهل أو لا يعرف أن محبة الوطن واجبة، وليس سبب هذا الجمود ما توهمه حضرته من أن قلوبنا صلبت؛ لكثرة ما لحقنا من المصائب؛ لأن توالي المصائب لا يذهب بالشعور من النفس ولا يضعفه بل يزيد الشعور ويقويه ويعلّم الصبر ويشد العزائم. وإنما السبب الحقيقي لفقد الشعور إلى هذا الحد هو إهمال تربية العواطف عندنا في زمن الطفولية، وتبع ذلك أن أعصابنا أصبحت لا تتأثر إلا بالإحساسات المادية التي تقع عليها مباشرة، وصارت غير قابلة للتأثر بالمعاني النفيسة. رأيت مدة وجودي في فرنسا طفلا عمره عشر سنين كان يتفرج بجانبي على فرقة من العساكر الفرنساوية وهي عائدة من حرب التونكين، فلما مر أمامه حامل العلم وقف هذا الغلام باحترام ورفع قبعته وحيا العلم وصار يتابعه بنظراته حتى غاب عنه، فأحسست أن الوطن تجسم لهذا الطفل في العلم الذي مر أمامه، وأثار فيه جميع الإحساسات التي بعثها فيه ما تربى عليه من حبه حتى خلته رجلا كاملا، أما الرجال والنساء الذين كانوا يشهدون هذا المنظر فقد وصلت بهم قوة الشعور إلى أنهم صاروا يعملون أعمال الأطفال، فكان الكثير من النساء يقبل العساكر ودموع الفرح تسيل على خدودهن، وأغلب الرجال كانوا يرقصون ويغنون ويلقون بقبعاتهم في الطريق. بمثل هذه المناظر وبما يدور فيها من الأحاديث أمام الأطفال ينغرس الشعور الوطني في نفوسهم ويزهر ويثمر، وهكذا الحال في تربية الفضائل الأخرى. فانحطاط المصري إنما هو ناشئ من حرمانه من هذه التربية الأولى ينمو الطفل بيننا كما ينمو النبات، ولا يهتم أحد من أهله إلا بإعطائه التغذية والملبس، فهم يعتنون به كما يعتني أيّ إنسان بحيوان يحبه، فكل بناء يقام بعد ذلك على هذا الأساس هو بناء على الرمل لا يلبث أن ينهار مهدوما. وبالجملة: إن التربية تنقسم إلى قسمين: أما التربي العقلية فمنبعها المكاتب والمدارس وأما التربية الروحية فلا تكتسب إلا في العائلة، ولا يمكن اكتسابها في العائلة إلا إذا كانت الأم في أول من يدبرها، ولا يمكن أن تدبرها الأم إلا إذا كانت على جانب عظيم من الرقي العقلي والأدبي؛ لهذا قلنا: إن المصريين إذا أرادوا أن يترقوا وجب عليهم أن يعملوا لارتقاء شأن المرأة المصرية. ومما يوجب الأسف أن المصريين لم يفهموا إلى الآن هذه الحقيقة تمام الفهم، في حين أن رجالا من مسلمي الهند قد صعدوا بفكرهم وتوصلوا بأبحاثهم إلى إدراك شأن المرأة في الهيئة الاجتماعية وأحاطوا بما لوظيفتها من الأهمية، وقد قام رجلان من أعاظمهم؛ أحدهما الأمير عليّ القاضي والثاني عناية حسين. «ما من مقياس يقاس به ارتقاء الأمم مثل منزلة المرأة فيها، فإذا أراد مسلمو الهند أن يرتقوا وجب عليهم أن يعيدوا للمرأة المنزلة الرفيعة التي كانت فيها في صدر الإسلام». «وكفى من تاريخ روسيا الحديث دليلا على ارتباط تقدم الأمم المادي والمعنوي بمقام المرأة فيها، فقد بقي نساء الأشراف في روسيا متحجبات إلى بداية القرن الثامن عشر، يعشن في بيوت، بل في سجون لا يدخلها النور ولا الهواء، أسدلت الأستار على كواها، وأحكمت الأقفال على أبوابها، ووضعت مفاتيحها في جيوب الآباء والأزواج، وإذا أريد نقلهن من مكان إلى آخر نقلن في محفات متحجبات متبرقعات كما تنقل النساء في بلاد الهند، فلما ففكت قيود النساء، وجارين الرجال في العلم والتهذيب، وصرن من دعائم الهيئة الاجتماعية، صارت بلاد الروس من أعظم ممالك الأرض». «كانت شمس المعارف في المشرق فانتقلت إلى المغرب، فمنه يجب أن نستمد النور وكل من يسعى في إعلاء شأن نسائنا له عندنا شكر، ولكن لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». «ولا بد أن يسأل سائل: هل كان نساء الخلفاء وغيرهن من النساء يبرزن ملتفات بالأكفان، كالنساء الشرقيات في مدن الشرق الآن؟! ويظهر لي أنهن لم يكن يلبسن غير النقاب، يسترن به وجوههن كما تستر النساء الأستانة الآن باليشمك، فيخفي غضون الشيخوخة، ويظهر جمال الصبا، أما البرقع الشامل للوشاح والنقاب والخمار، فلم يشع إلا في أواخر عهد السلاجقة، وأما الاحتجاج بالبردة على ما هو شائع الآن عند مسلمي الهند وغيرها من البلدان، فلم يكن مصروفا في تلك العصور، والنساء من الطبقات العليا كن يظهرن أمام الرجال غير متبرقعات». «واستخدام العربِ الخصيانَ في عهد معاوية، آخذين ذلك من الروم، واقتبسوا نظام الحريم في عهد الوليد الأموي الثاني، وأمر المتوكل — نيرون العرب — بفصل النساء عن الرجال في الولائم والحفلات العمومية، ولكن بقيت النساء يختلطن بالرجال إلى أواخر المائة السادسة للهجرة وكن يقابلن الزوار ويعقدن مجالس الأنس، ويمضين إلى الحرب لابسات الحديد، ويساعدن إخوانهن وأزواجهن في الدفاع عن القلاع والمعاقل». «ولما اضمحل شأن الخلفاء في أواسط المائة السابعة ومزق التتار شمل الدول العربية، قام العلماء يتجادلون في هل الأليق بالنساء أن يظهرن أيديهن أو أقدامهن؟!» «ولدينا نقطة أخرى عظيمة الأهمية لا أدري مندوحة من الكلام فيها والبحث فيما يتعلق بشأنها؛ إذ لا ترتقي أمة ولا تسمو مملكة إلا بواسطتها، وهذه النقطة هي تربية البنات. إذا لم تتحققوا أيها السادة أن النساء والرجال توأمان عاملان في الهيئة الاجتماعية، أنهم إما أن يقوموا معا، وإما أن يسقطوا معا، فلا سبيل إلى الرقي ولا وسيلة إلى التقدم والنجاح، تذكروا أن الطفل هو والد الرجل، وأنه متى كانت الأمهات جاهلات لا يقدر على بث أنوار المبادئ الأدبية والتهذيبية في نفوس أولادهن ولا يرقين عقولهن ولا يقوين أبدانهن بالوسائل الصحية، فإننا نبقى إلى الأبد في آخر صف من صفوف الأمم». فانظر إلى ما يكتبه رجال من أهل الفقه والعلم في الهند، وإلى ما كتبه فقهاؤنا وكتابنا حيث قالوا: إن المرأة لا شأن لها في ارتقاء الأمم، وإنها لا يجب أن تتعلم إلا ما يلزمها من فرائض دينها للعبادة، ولا يسوغ لها أن تتعلم لقراءة والكتابة، وقاموا جميعهم ينصحون الناس بتشديد الحجاب عليهم، ويحذرونهم من السير في طريق الكمال الذي أشرنا إليه؛ بحجة أنه تقليد للغربيين في عاداتهم، ويوهمون أن الغربيين أنفسهم متألمون من حال نسائهم. وقد بينا بالتفصيل الأسباب الاجتماعية التي يلزم لأجلها العناية بشأن المرأة وإخراجها من الحجر الذي سقطت تحته أزمانا طويلة، وبرهنا على أنها هي صاحبة السلطة على الأخلاق، والقابضة على زمام الآداب، وأنها هي التي تسوق الأمم في طريق الخير والشر، وأنها لا يمكنها أن تحسن القيام بهذه الوظيفة الاجتماعية، إلا إذا كانت على جانب عظيم من العقل والعلم والأدب. نقول هذا مع اطلاعنا على ما كتب في شأن المرأة الغربية، ومع علمنا بما هي ولا نرى مانعًا من السير في تلك الطريق التي سبقتنا فيها الأمم الغربية؛ لأننا نشاهد أن الغربيين يظهر تقدمهم في المدنية يوما فيوما، ونرى أن البلاد التي يتمتع فيها النساء بحريتهن وبجميع حقوقهن هي التي تسير كالدليل أمام الأخرى وتهديدها في سبيل الكمال في المدنية، ومن جهة أخرى نرى أن جميع الأم التي حطت من شأن نسائها على غاية من الضعف، وهي في ذلك على درجة واحدة أو نسب متقاربة، لا يظهر التفاوت بينها مع اختلاف الأقاليم وتباين الشعوب والأديان. هذا هو المشاهد الواقع تحت أنظارنا، ولا يمكن لعاقل أن يجادل فيه. أما ما زعموه من أن الأوربيين يتألمون من حال نسائهم أو يشتكون من بعض مطالبهن فذلك موضوع آخر غير ما نحن فيه، ومسألة النساء التي هي موضوع بحثنا في بلادنا غير مسألتهن في ما يكتبه بعض الكتاب الغربيين، فإننا في هذه البلاد نطالب بمنح المرأة حريتها الجسمية، وإنالتها حقوقها الشرعية، وتهذيبها وتمكينها من أداء وظائفها في البيت، وهذا الطلب لا ينازعنا فيه غربي مما انحطت درجته في العقل والإحساس. وإنما يشكو بعض الكتاب الغربيين من سوء استعمال بعض النساء لحريتهن، ومن طلبهن مساواة الرجال في حقوقهم السياسية. وحينئذ فالاستدلال بآراء هؤلاء الكتاب للرد علينا هو مغالطة أو خلط بين موضوع وموضوع؛ إذ كل إنسان يميز بين تقرير الحق وبين استعماله. هذه حرية الصحافة هنا وفي بعض بلاد أوربا قد ساء استعمالها إلى حد أن صار كل إنسان يتألم منها، ولكن لم يفكر عاقل في أن يدعي أن الواجب هو الحجر على الأفكار؛ لأن هذا الدواء يكون أمر من الداء الذي يرام معالجته. فالأسباب التي يبني عليها كتابنا رأيهم في الحجر على حرية النساء هي عين الأسباب التي انتحلتها الحكومة الشرقية لحرمان أبنائها من حرية القول والكتابة والعمل، وهي التي أغرت متأخري المسلمين بقفل باب الاجتهاد في التوفيق بين أحكام الدين وحاجات الأمم على اختلاف الأمصار والأعصار، مع عدم الخروج عن الأصول العامة التي قررها الكتاب والسنة الصحيحة، وهي التي زينت للآباء عندنا أن يستعملوا في تربية أولادهم وسائل القسوة والغلظة، وهي التي كانت تقضي على الحكام عندنا، من عهد ليس ببعيد، بوضع تعريفة للبائعين يحددون فيها أثمان اللحم والخضار والمسلي وأغلب ما يباع ويشترى في الأسواق. ومنشأ ذلك كله الاهتمام بإزالة المضار التي تظهر في بعض أحوال البشر، والغفلة عن المحافظة على منافعهم، وقد يكون من أسباب تلك الغفلة أن وجوه المنافع في أحوال الناس، وهي جهات حسنها تخفى عادة على من ينظر إليها نظرًا سطحيًا، أما وجوه الضرر فتظهر عادة للعموم؛ لأنها تتشكل بأشكال الجرائم والفظائع التي تنفر منها النفوس، فأول ما تتجه إليه النفس النافرة هو أن تمحو هذا بأية طريقة، وأقرب الطرق وأسهلها في بادئ الأمر هو العنف والشدة. ولكن المتأمل إذا تروى في الأمور، يجد أن لسير الإنسانية قوانين خاصة يجب مراعاة أحكامها في نمو الحياة واستكمال قواها، سواء في الأفراد أو في الاجتماع، وأن كل مخالفة لهذه القوانين لها أثر سيئ وضرر عظيم يلحق الفرد أو الهيئة الاجتماعية. إذا تقرر هذا فسلب المرأة حريتها هو أكبر مخالفة لقوانين نموها العقلي والأدبي، فالتعويل على حرمان المرأة من حريتها في إلقاء ضرر سوء استعمال ذلك الحق ربما يفيد في منع بعض النساء من إتيان ما ينشأ عنه ذلك الضرر، ولكن من المحقق أنه بجانب هذه الفائدة الخاصة المؤقتة يجلب ضررا عاما مستمرًا وهو تعطيل النمو في ملكات صنف النساء بتمامه. وبالجملة، فإننا لا نهاب أن نقول بوجوب منح نسائنا حقوقهن في حرية الفكر والعمل بعد تقوية عقولهن بالتربية، حتى لو كان من المحقق أن يمررن في جميع الأدوار التي قطعتها وتقطعها النساء الغربيات؛ لأننا على ثقة من أن جميع المطالب التي يطمح إليها نساء الغرب في هذه الأيام ليست من الوسائل التي يعضل حلها، ويدوم القلق بسببها، بل يقضي فيها المستقبل بحكم العقل والحق. ورب سائل يسأل: إلى متى تنتهي هذه الأدوار التي تنتقل فيها النساء؟ فالجواب أن ذلك سر مجهول ليس في طاقة أحد من الناس أن يعلمه، وكما أننا نجهل ماذا يكون حال الرجل بعد مائتي سنة؟ كذلك لا يمكننا أن نعرف ماذا يكون حال المرأة بعد مرور هذه المدة؟ وإنما نحن على يقين من أمر واحد وهو أن الإنسانية سائرة في طريق الكمال، وليس علينا بعد ذلك إلا أن نجدّ السير فيه ونأخذ نصيبنا منه.
قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل. قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل.
https://www.hindawi.org/books/91575858/
المرأة الجديدة
قاسم أمين
يقصد قاسم أمين بـ«المرأة الجديدة» المرأة التي بدأ ظهورها في الغرب منذ عصر التنوير، وهي المرأة التي بدأت تلعب دورًا اجتماعيًّا وثقافيًّا رئيسًا في مجتمعها ودولتها، بعد أن كانت مهمشة ومقصية في عصور ما قبل التنوير الأوروبي، ويرى قاسم أمين أن الرؤية الاجتماعية السائدة عن المرأة في عصره داخل المجتمع المصري تشبه إلى حد كبير تلك الرؤية ما قبل التنويرية، وهي رؤية تتعارض مع الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها رجالًا كانوا أو نساءً، كما أنها رؤية تتعارض مع الفهم الصحيح للدين، فالإسلام كفل للمرأة حق التصرف في أملاكها، كما كفل لها حق التعلم وحرية العمل والمشاركة الاجتماعية والثقافية النهضوية في البناء الحضاري، والفهم المنغلق لدور المرأة إنما يمكن رده إلى الجهل والاستبداد بالدين والتمسك بالعادات والتقاليد المنافية لفطرة الإنسان والمخالفة للنظرة الأخلاقية القويمة.
https://www.hindawi.org/books/91575858/5/
التربية والحجاب
لو لم يكن في الحجاب عيب إلا أنه مناف للحرية الإنسانية، وأنه صادر بالمرأة إلى حيث يستحيل عليها أن تتمتع بالحقوق التي خولتها لها الشريعة الغراء والقوانين الوضعية في حكم القاصر، لا تستطيع أن تباشر عملا ما بنفسها، مع أن الشرع يعترف لها في تدبير شئونها المعاشية بكفاءة مساوية لكفاءة الرجل، وجعلها سجينة، مع أن القانون يعتبر لها من الحرية ما يعتبره للرجل — لو لم يكن في الحجاب إلا هذا العيب — لكفى وحده في مقته، وفي أن ينفر منه كل طبع غرز فيه الميل إلى احترام الحقوق والشعور بلذة الحرية. ولكن الضرر الأعظم للحجاب فوق جميع ما سبق هو أنه يحول بين المرأة واستكمال تربيتها. إذا تقرر أن تربية المرأة من الضرورات التي لا يمكن أن يستغني عنها، فما هي التربية التي تناسبها؟ هل يناسبها تربية كتربية الرجل؟ أو تُخص بتربية أخرى؟ وهل يمكن تربيتها مع الحجاب؟ أم لا بد فيها من البطالة؟ وهل يعمل فيها على قواعد تأخذ من العلوم الغربية الحديثة؟ أم يرجع فيها إلى أصول المدنية الإسلامية القديمة؟ هذه المسائل تدخل في باب التربية والحجاب، وقد دار البحث والجدل فيها في العام الماضي بين كثير من الكتاب، والآن نريد أن نبدي فيها عن غاية من الوضوح. ففي المسألة الأولى — لا نجد من الصواب أن تنقص تربية المرأة عن تربية الرجل. أما من جهة التربية الجسمية؛ فلأن المرأة محتاجة إلى الصحة كالرجل، فيجب أن تتعود على الرياضة كما تفعل النساء الغربيات اللاتي يشاركن أقاربهن الرجال في أغلب الرياضات البدنية، ويلزم أن تعتاد على ذلك من أول نشأتها وتستمر عليه من غير انقطاع, وإلا ضعفت صحتها وصارت عرضة للأمراض؛ ذلك لأن النواميس الطبيعية تقضي بضرورة التوازن بين ما يكسبه الجسم وما يفقده؛ بحيث لو اختل هذا التوازن فسدت الصحة, واختل نظامها. والأمراض التي تصيب الإنسان بسبب إهماله استعمال قواه الجسمية ليست بأقل عددًا ولا بأخف ضررًا من الأمراض التي تصيب من ينفق قوته ولا يعوّض بالتغذية ما فقد منها. ثم إن ما تقاسيه المرأة من الآلام والمشقات حين الولادة في مرة واحدة, ربما يزيد على ما يعانيه الرجل من المتاعب طول حياته, ولا يحتمله من النساء إلا القويات المزاج، الصحيحات الأجسام كنساء القرى المتعوّدات على العمل البدني المتمتعات بالهواء النقي, أما نساء المدن المحرومات من الحركة والتمتع بالشمس والهواء، فلا قدرة لهن على احتمال هذه المشقات؛ ولذلك فإن أكثرهن يعشن عليلات بعد الولادة الأولى، وكثيرا ما يهلكن فيها؛ فقد بلغ عدد من يموت منهن في النفاس أكثر من ثلاثين في الألف. وكما تلزم العناية بصحة المرأة لوقايتها من الهلاك والأمراض، كذلك يلزم العناية بصحتها؛ حرصًا على صحة أولادها ووقايتهم من العلل؛ لأن ما يعرض على مزاج الأم وما يكون فيه من الاستعداد للمرض، ينتقل بالوراثة إلى الأولاد. وأما من جهة التربية الأدبية، فلأن الطبيعة قد اختارت المرأة وندبتها إلى المحافظة على آداب النوع، فسلمتها زمام الأخلاق وائتمنتها عليها، فهي التي تصنع النفوس، وهي ساذجة لا شكل لها، فتصوغها في أشكال الأخلاق، وتنشر تلك الأخلاق بين أولادها، فينقلونها إلى من يتصل بهم فتصبح أخلاقا للأمة بعد أن كانت أخلاقا للعائلة، كما كانت أخلاقا للعائلة بعد أن كانت أخلاقا للأم. هذا يدلنا على أن المرأة الصالحة هي أنفع لنوعها من الرجل الصالح, والمرأة الفاسدة هي أضر عليه من الرجل الفاسد. ولعل هذا هو السبب في ما وقر في نفوس الناس في كل زمان من أن الرذيلة الواحدة إذا تدنست بها المرأة حطت من قدرها أكثر مما تحط من شأن الرجل لو تدنس بها، وأن الفضيلة تعلي من شأن المرأة ما لا تعليه من شأن الرجل. بقي علينا الكلام على القسم الأخير من التربية، وهو التربية العقلية، هذه التربية هي عبارة عن تعلم العلوم والفنون، والغاية التي ترمي إليها، هي أن يعرف الإنسان ما في الكون من الموجودات وفيها نفسه، حتى إذا عرف ذلك على حقيقته أمكنه أن يوجه أعماله إلى ما يعود عليه بالنفع ويتمتع بلذة المعرفة، فيعيش سعيدًا. والمرأة كالرجل على حد سواء في الاحتياج إلى الانتفاع بالعلم والتمتع بلذته، ولا فرق بينها وبينه في التشوق إلى استطلاع عجائب الكون والوقوف على أسراره؛ لتعلم مبدئها ومستقرها وغايتها. ومهما عظم اشتغال المرأة، متزوجة أو خالية، ذات أولاد أم لا، فإنها تجد من الوقت ما تثقف فيه عقلها، وتهذب نفسها. ولو خصص نساؤنا للمطالعة عُشر الوقت الذي يقضينه في اليوم في البطالة ولغو الكلام والخصام، لارتقت بفضلهن الأمة المصرية ارتقاء باهرًا. ولا تتحصل المرأة على المطلوب من هذه التربية العقلية بتعليمها القراءة والكتابة واللغات الأجنبية، بل تحتاج أيضا لتعلم أصول العلوم الطبيعية والاجتماعية والتاريخية؛ لكي تعرف القوانين الصحيحة التي ترجع إليها حركات الكائنات وأحوال الإنسان، كما أنها تحتاج إلى تعليم مبادئ قانون الصحة ووظائف الأعضاء؛ حتى يمكنها أن تقوم بتربية أولادها. والمهم في هذه التربية هو تشويق عقل المرأة إلى البحث عن الحقيقة، وليس حشو ذهنها بالمواد حتى إذا انتهت مدة تعليمها في المدارس، استمر شوقها إلى الحق فتتحرك دائما وتعتبر به. وأضيف على ذلك أنه ينبغي على البنت أن تتعلم صناعة الطعام وترتيب البيت. ولا بد هنا من استلفات النظر إلى وجوب الاعتناء بتربية الذوق عند المرأة، وتنمية الميل في نفسها إلى الفنون الجميلة. وإنى على يقين من أن أغلب القرّاء لا يستحسنون أن تتعلم البنات الموسيقى والرسم؛ لأن منهم من يرى ألا فائدة في الاشتغال بهذه الفنون، ومنهم من يعدها من الملاهي التي تنافي الحشمة والوقار، وقد ترتب على هذا الوهم الفاسد انحطاط درجة هذه الفنون في بلادنا إلى حد يأسف عليه كل من عرف مالها من الفائدة في ترقية أحوال الأمم. فن التصوير والرسم له فائدة لا تقل عن فائدة العلم؛ لأن العلم يعرفنا الحقيقة، وهذا الفن يحببها إلينا؛ لأنه يبديها لنا على الشكل الأكمل الذي يتخيله صاحب الفن، فيبعث فينا بذلك الميل إلى الكمالِ، والكمالُ شيء يدركه عقلنا، لكنه لا يقع تحت حواسنا، فلا يمكننا أن نتصوره إلا إذا صار مجسما أمامنا في شكل لطيف نحس به، ومتى رأيناه في هذا الشكل تعلقت نفسنا بمحبته، وكلما كان صاحب الفن ماهرًا في صناعته كان صنعه أقرب للكمال، وكانت النفس أكثر ميلا إليه، وأشد إعجابا به، وأعظم سرورًا بالإحساس به. «إن الموسيقى تبعث الحياة في الجماد، ويسمو بها الفكر، ويرتقي الخيال، وتبث في النفس الفرح والسرور، وترفعها عن الدنايا، وتميل بها إلى الجمال والكمال، فهي من عوامل الأدب للإنسان». هذه هي التربية التي نود أن تكون للبنات، وقد بيناها إجمالا؛ لأن المقام لا يسمح ببيانها تفصيلا. هذه هي التربية الكاملة التي تيسر للمرأة الجمع بين واجباتها المختلفة المتعددة، فتعدها لأن تكون إنسانا يكسب عيشه بنفسه، وزوجة قادرة على أن تحصل لعائلتها أسباب الراحة والهناء، وأمًّا صالحة لتربية أولادها. متى انتهت تربية البنت باتخاذ ما يلزم من الوسائل لتنمية قواها الجسمية، وملكاتها العقلية، تكون قد بلغت سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمرها، فما الذي ينبغي أن تكون عليه بعد ذلك؟ وكيف تعيش؟ أتحجب في بيتها، وتمنع عن مخالطة الرجال؟ أو تطلق لها الحرية في ذلك؟ هذا هو موضع البحث في المسألة الثانية والثالثة، وسنتكلم عليهما معا؛ لما بينهما من الارتباط. رأى المنتقدون على (تحرير المرأة) أننا تطرفنا في مسألة الحجاب، وأننا نشرنا برفعه تقليدًا للعادات الغربية. وزعموا أن الحجاب لا يوجب انحطاط المرأة ولا يترتب عليه ضرر لها؛ ولذلك ذهبوا إلى وجوب استبقائه والمحافظة عليه، وقالوا: إن الذي حط بالمرأة عن منزلتها، إنما هو عدم التربية، فلو تربت تربية حسنة لأمكنها، وهي في الحجاب، أن تقوم بواجباتها أحسن قيام. على أننا بعد أن دققنا النظر في جميع ما قيل أو كتب في هذا الشأن، لا نزال على رأينا، ولم يزدنا تكرار البحث فيه إلا وثوقًا بصحة ما ذهبنا إليه. ولا نرى سببا للخلاف بيننا وبين مناظرينا إلا الاختلاف في فهم معنى التربية، فهم يرون أن التربية هي التعلم، وذلك يتم على رأيهم بمكث الصغير في المدرسة سنين محدودة، تكون نهاية عمله فيها الحصول على الشهادة الدراسية، وأنه متى نال هذه الورقة السميكة، التي سماها بعض ظرفاء الفرنساويين (جلد حمار)! عُدّ بالغًا في العلم والأدب حد النهاية. ونحن على خلاف ما رأوا نعتقد أن التربية لا تقوم بالمكث في المدرسة والحصول على الشهادة، وإنما كل ما يستفيد الصبي من ذلك في أيام التحصيل الأولى هو الاستعداد لتكميل عقله وخلقه. ذلك لأن الصبي في السنة الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمره لا يعرف من العلم إلا نظريات عامة ومسائل كلية يحفظها في جمل مختصرة، ومهما كانت هذه القضايا علمية أو أدبية، فلا قيمة لها إلا بظهورها في العمل، وذلك يكون بالمشاهدات والتجارب التي تحدد دائرة تطبيقها والحد الذي يفصلها عن غيرها، وتبين الأحوال التي تدخل فيها أو تخرج عنها، وجهات نفعها وضررها، هذه التطبيقات هي الواسطة الوحيدة في فهم القواعد على حقيقتها، فإذا انعدمت لا تكون هذه القواعد إلا ألفاظًا وخيالاتٍ. لهذا لا يخطر على بال رجل عاقل أن يسلم نفسه إلى طبيب يوم خروجه من المدرسة، ولا يختار محاميًا للدفاع عنه يوم نيله للشهادة، وهو لم يتمرن على العمل زمنا كافيا! وكذلك الحال في الأدب والأخلاق؛ إذ لا شيء على الإنسان أسهل من أن يعلم مقدار الفائدة في ضبط شهواته وقهره نفسه. ولكن لا شيء أصعب في العمل من أن يأتي ذلك بالفعل؛ لأن قهر الإنسان لهواه وجعله تحت سلطان العقل يستدعيان قوة عظيمة في الإرادة، ولا توجد هذه القوة في الإرادة بإقامة الحوائل المادية بينه وبين النقائض، ولا بمجرد حشو ذهنه بالقواعد الأدبية، وإنما تتولد بالتعرض لملاقاة الحوادث والتعود على مغالبتها والتغلب عليها. فمزاولة الأعمال ومشاهدة الحوادث، واختبار الأمور ومخالطة الناس والاحتكاك بهم والتجارب، كل هذه الأشياء هي منابع للعلم والآداب الصحيحة، بها ترتقي النفوس الكريمة؛ حتى تبلغ أعلى الدرجات، وأمامها تنهزم النفوس الضعيفة وتسقط إلى أسفل الدرجات. «لا فائدة من التربية التي تجعل الإنسان مستودعًا لأفكار غيره؛ لأن الكلمات التي توضع في الكتب لا يمكن أن تنتج معاني إلا على نسبة التجارب المكتسبة». «إن ترتيب الحوادث وسير الوجود يرشدنا إلى أن الأمم التي بلغت فيها همة الإنسان منتهاها، وهي ملجأ الحياة الأدبية الصحيحة؛ حيث تثبت الأخلاق وتبقى المحامد، وبيانه أن المؤثر الأدبي إنما يجعل المرء قادرًا على قهر النفس والتغلب على هواها، وليس من درس يتعلم فيه الرجل قهر نفسه وقيادة زمامها أشد فعلا من الحياة العملية التي يتعلم فيها أن لا اعتماد إلا على نفسه، وليس من مربٍّ يأخذ بمجامع القلوب أكثر من تلك الحياة، فهي التي تقود المرء إلى الحياة الحقيقية، وهي المدرسة الطبيعة التي تريه كيف يتحمل المتاعب والرزايا، وهي الأسهل تناولا والأكثر شيوعًا وطلابا، تلك ضرورات أشد فعلا في النفوس من وعظ الواعظين ونصح الحكماء والمرشدين الذين يدخل كلامهم من إحدى الأذنين ويخرج من الأخرى؛ ذلك لأن الأعمال تدعو إلى العمل أكثر من الأقوال». فالتجارب هي أساس العلم والأدب الحقيقيين. والحجاب مانع للمرأة من ورود هذا المنبع النفيس؛ لأن المرأة التي تعيش مسجونة في بيتها، ولا تبصر العالم مالا من نوافذ الجدران أو من بين أستار العربة، ولا تمشي إلا وهي كما قال الأمير عليّ القاضي: «ملتفة بكفن»، لا يمكن أن تكون إنسانا حيا شاعرًا خبيرًا بأحوال الناس, قادرا على أن يعيش بينهم. ولا يكفي لإخراج المرأة المصرية من هذا الحياة الصناعية التي يشكو الكل منها، أن تمكث بضع سنين في المدرسة، ثم تنتقل منها إلى بيت تحتجب فيه بقية عمرها، بل يلزم أن تستمر في الاعتناء بجسمها وعقلها بعد المدرسة، ونشركها في حياتنا الطبيعية، يلزم أن نضع يدنا في يدها، ونسير معها في الأرض، ونريها عجائب الكون ولطائف الصناعة ودقائق الفنون وآثار الزمن الغابر، واختراعات الزمن الحاضر، يلزم أن تقاسمنا أفكارنا وآمالنا وأفراحنا وآلامنا، وتحضر مجالسنا، فتستفيد مما يعرض فيها من الأخلاق والأفكار والمباحث، وتفيدنا على رعاية الحشمة والتأدب في القول. يقول معترض: «إنا نراك تريد أن تحسن حال المرأة المصرية بحملها على تقليد المرأة الغربية، فهلا أعرت تمدننا القديم الذي كان من أصوله احتجاب النساء — نظرةً، وهل من نفوس كريمة يهزها ذكرى مجدها القديم فتلتفت إلى أصوله لفتة علمية ترى أنه هو المجد الصحيح الذي يجب أن نشد له رواحل العزائم، والذي سيتضح للعالم أجمع يومًا ما أنه هو نفس الكمال الذي ينشده الإنسان ويلتمسه الوجدان؟». هذا الاعتراض ربما يلذ للقارئ سماعه لطلاوة لفظه، وربما ينجذب إليه؛ لأنه يحرك الميل الغريزي في كل إنسان إلى التعلق بآثار الآباء والأجداد. ولكن الأجدر بنا أن نجعل للفظ تأثيرا فينا إلى حد يذهلنا عن الحق، وعلينا أن نأخذ أهبتنا لمقاومة سلطة العادات الموروثة إذا خشينا أن تسلبنا إرادتنا واختيارنا، والتعلق بالتقاليد الراسخة لا يحتاج إلى التحريض والترغيب؛ لأنه حالة لازمة للنفس آخذ بزمامها، فهي مستغرقة فيها من ذاتها، وإنما الذي يحتاج للتشويق والتشجيع هو التخلص من ماضٍ ضار، واعتناق مستقبل نافع. إذا أمكنا أن نأخذ تلك الأهبة كان، أهم ما يجب علينا أن نلتفت إلى التمدن الإسلامي القديم ونرجع إليه، ولكن لا لننسخ منه صورة، ونحتذي مثال ما كان فيه سواء بسواء، بل لكي نزن ذلك التمدن بميزان العقل ونتدبر في أسباب ارتقاء الأمة الإسلامية وأسباب انحطاطها، ونستخلص من ذلك قاعدة يمكننا أن نقيم عليها بناء ننتفع به اليوم وفي ما يستقبل من الزمان. ظهر الدين الإسلامي في جزيرة العرب بين قوم كانوا يعيشون في حال البداوة، أي في أدنى الحالات الاجتماعية، فأوجد بينهم رابطة ملية، وأخضعهم إلى رئيس واحد، ووضع لهم شرعا نسخ ما كان عندهم من العادات المتبعة في معاملاتهم من قديم الزمان، ولما أمرهم بالجهاد أخذوا يحاربون الأمم الأخرى، واستولوا عليها، ولم يكن ذلك بامتيازهم على من جاورهم من الأمم في العلوم والصنائع، ولكن كان يروح الوحدة التي بعثها الإسلام فيهم، مع استعدادهم الفطري للقتال، فلما اختلطوا بالمصريين والشاميين والفرس والصينين والهنود، وغيرهم وجدوا عند هؤلاء الأمم كثيرًا من العلوم والصنائع والفنون، فاستفادوا منها ونقلوا معظمها إلى لسانهم، سمحوا لأولئك المغلوبين، أن يأتوا في ترقيتها بما شاءوا، وظهرت عند ذلك نهضة علمية، كما هو الشأن في الأمم عقب كل انقلاب يجري لغاية صالحة، استمرت مدة أربعة قرون تقريبا. على هذين الأساسين شيدت المدنية الإسلامية: ولكن لما كان العلم في تلك الأوقات في أول نشأته، وكانت أصوله ضروبًا من الظنون لا يؤيد أكثرها بشيء من التجارب، كانت قوة العلم ضعيفة بجانب قوة الدين، فتغلب الفقهاء على رجال العلم، ووضعوهم تحت مراقبتهم، وزجوا بأنفسهم المسائل العلمية وانتقدوها. وحيث إنهم لم يأتوا إليها من بابها، ولم يجهدوا أنفسهم في فهمها، أخذوا يؤولون الكتاب والأحاديث بتأويلات استنبطوا منها أدلة على فساد المذاهب العلمية وحملوا الناس على أن يسيئوا الظن بها، وما زالوا يطعنون على رجال العلم ويرمونهم بالذندقة والكفر حتى نفر الكل من دراسة العلم وهجروه، وانتهى بهم الحال إلى الاعتقاد بأن العلوم جميعها باطلة إلا العلوم الدينية، بل غلوا في دينهم وشطوا في رأيهم حتى قالوا في العلوم الدينية نفسها إنها لا بد أن تقف عند حد لا يجوز لأحد أن يتجاوزه، فقرروا أن ما وضعه بعض الفقهاء هو الحق الأبدي الذي لا يجوز لأحد أن يخالفه، وكأنهم رأوا من قواعد الدين أن تسد أبواب فضل الله على أهله أجمعين. هذا النزاع الذي قام بين أهل الدين وأهل العلم، ولا أقول بين الدين والعلم، لم يكن خاصًا بالأمة الإسلامية، بل وقع كذلك عند الأوربية، ولكن لما كانت هذه الأمم قد ورثت علوم اليونان والرومان والعرب، كان وصول تلك العلوم إليها قرب تمام تكوينها، لم تحتج أروبا إلى زمن طويل في اكتشاف الأصول الحقيقية لتلك العلوم، وقد نالت منها في مائتي سنة ما لم ينله غيرها في آلاف السنين، وتوالت الاكتشافات العلمية يجر بعضها بعضا ويرشد بعضها إلى بعض، فمنها اكتشاف قوانين سير الكون، وتحليل الضوء، وسرعة سيره، وكيفية تكون الأصوات وسرعتها وشكل اهتزازتها، وعلمت ماهية الحرارة، وكيفية تكون الكرة الأرضية وحقيقة شكلها، وتكون الأرض وتقادم الإعصار عليها وعلى سكانها، وضروب التغيرات التي طرأت عليها والأدوار التي تقابلت فيها من وقت أن كانت كتلة نارية إلى أن ظهر عليها النوع الإنساني بعد جميع الأنواع الأخرى. ثم عرفت قوانين الحياة، ووظائف الدورة الدموية والتنفس والهضم، وخصائص قوى الإدراك، وكيف تتكون خلايا الجسم وكيف تعيش وكيف تفنى؟ وصححت وكملت أصول الكيمياء والطبيعية. من هذه الاكتشافات أخذ الكتاب والفلاسفة ما دعت إليه الحاجة ليعلموا الإنسان من أين أتى وإلى أين يذهب وما هو مستقبله، ووضعوا أساس العلوم الأدبية والاجتماعية والسياسية. بكشف هذه الحقائق شيد العلم بناء متينا لا يمكن لعاقل أن يفكر في أن يهدمه، ولهذا تغلب رجال العلم على رجال الدين في أوربا بعد النزاع والجهاد، وانتهى الحال بأن صار للعلم سلطة يعترف له بها الناس كافة. إنه يجب على كل مسلم أن يدرس التمدن الإسلامي ويقف على ظواهر وخفاياه؛ لأنه يحتوي على كثير من أصول حالتنا الحاضرة، ويجب عليه أن يعجب به؛ لأنه عمل انتفعت به الإنسانية وكلمت به ما كان ناقصا منها في بعض أدوارها، ولكن كثيرًا من ظواهر هذا التمدن لا يمكن أن يدخل في نظام معيشتنا الاجتماعية الحالية. أما من جهة النظامات السياسية، فلأننا مهما دققنا البحث في التاريخ لا نجد عند أهل تلك العصور ما يستحق أن يسمى نظاما، فإن شكل حكومتهم كان عبارة عن خليفة أو سلطان غير مقيد، يحكم بواسطة موظفين غير مقيدين، فكان الحاكم وعماله يجرون في إدارتهم على حسب إرادتهم، فإن كانوا صالحين رجعوا إلى أصول العدالة بقدر الإمكان، وإن كانوا غير ذلك خرجوا من حدود العدالة وعاملوا الناس بالعنف، ولم يكن في النظام ما يردهم إلى أصول الشريعة. ربما يقال: إن هذا الخليفة كان يولى بعد أن يبايعه أفراد الأمة، وأن هذا يدل على أن سلطة الخليفة مستمدة من الشعب الذي هو صاحب الأمر, ونحن لا ننكر هذا، ولكن هذه السلطة التي لا يتمتع بها الشعب إلا بعض دقائق هي سلطة لفظية، أما في الحقيقة، فالخليفة هو وحده صاحب الأمر، فهو الذي يعلن الحرب ويعقد الصلح، ويقرر الضرائب ويضع الأحكام ويدير مصالح الأمة مستبدا برأيه ولا يرى من الواجب عليه أن يشرك أحدًا في أمره. ومن الغريب أن المسلمين في جميع أزمان تمدنهم لم يبلغوا مبلغ الأمة اليونانية، ولم يتوصلوا إلى ما وصلت إليه الأمة اليونانية من جهة وضع النظامات اللازمة لحفظ مصالح الأمة وحريتها، فقد كان لتلك الأمم جمعيات نيابية ومجالس سياسية بها من الحكام في إدارة شئونها. وأغرب من هذا أن أمراء المسلمين وفقهاءهم لم يفكروا في وضع قانون يبين الأعمال التي وجدوا أنها تستحق العقاب ويحددوا العقوبات عليها، بل تركوا حق التعزير إلى الحاكم يتصرف فيه كيف يشاء، مع أن بيان الجرائم وعقابها هما من أوليات أصول العدالة. ولست محتاجا أن أقول: إنهم ما كانوا يعرفون شيئا من العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فإن هذه العلوم حديثة العهد، وإذا أراد مكابر أن يتحقق من ذلك، فما عليه إلا أن يتصفح مقدمة ابن خلدون، وهو الكتاب الفرد الذي وضع في الأصول الأجتماعية عند المسلمين يرى أن الأصول التي اعتمد عليها لا يخلو معظمها من الخطأ، ويندهش على الخصوص عندما يرى أن هذه الكتاب الذي وضع للبحث في المسائل الاجتماعية، لم تذكر فيه كلمة واحدة في العائلة التي هي أساس كل هيئة اجتماعية، فإذا كانت حالتهم السياسية هي كما ترى، فما الذي يطلب منها أن تستعيره منها؟ كذلك إذا نظرنا إلى حالتهم العائلية نجد أنها مجردة عن كل نظام؛ حيث كان الرجل يكتفي في عقد زواجه بأن يكون أمام شاهدين، ويطلق زوجته بلا سبب أو بأوهى الأسباب، ويتزوج عدة نساء بدون مراعاة حدود الكتاب. كل ذلك كان واستمر إلى الآن على ما هو مشهور، ولم يفكر أحد من الحكام أو الفقهاء في وضع نظام يمنع انحلال روابط العائلة، وأقل ما كان يلزمهم لرفع ذلك الخلل أن يقروا مثلا إيقاع الطلاق. وعقود الزواج والرجعة لا بد أن تكون أمام مأمور شرعي؛ حتى لا تبقى هذه الشئون موضعا للريب ومحلا للشبهة ومثارا للنزاع والشقاق. أين هذه الفوضى من النظامات والقوانين التي وضعها الأوربيون لتأكيد روابط الزوجية وعلاقات الأهلية؟ بل أين هي من القوانين اليونانية والرومانية التي لم تغفل في جميع أدوارها عن أهمية العائلة وشأنها في الهيئة الاجتماعية؟ فأي شيء من هذا يمكن أن يكون صالحا لتحسين حالنا اليوم؟ بقي علينا أن نلتفت إلى التمدن الإسلامي من جهة الآداب، يعتقد أهل عصرنا أن المسلمين السابقين كانوا حائزين لجميع أنواع الكمالات الأخلاقية الصحيحة، وهو اعتقاد غير صحيح، أو على الأقل مبالغ فيه. أما من جهة أصول الأدب، فالمعلوم أن المسلمين لم يأتوا للعالم بأصول جديدة، فقد سبق المسلمين أمم كاليهود والنصارى والبوذيين والصينيين والمصريين وغيرهم، وقد كانت تلك الأمم تعرف تلك الأصول، وضمنتها كتبها، ونزلت على بعضها في وحي سماوي. وأما من جهة عمل المسلمين على مقتضى تلك الأصول الأدبية، فالتاريخ يشهد على أن كل كعصر لا يخلو من الطيّب والرديء والحسن والقبيح. وقد وصلت إلينا أخبار العرب مدونة في الكتب التاريخية والأدبية، فكشفت لنا الغطاء عن أخلاقهم ومعاملاتهم، واطلعنا على شعرهم وأمثالهم وأغانيهم فما وجدنا زمنا من الأزمان خاليا من الآداب الفاسدة والأخلاق الرذيلة والطبائع الدنيئة. رأينا الدولة العربية من بعد وفاة النبي — صلى الله عليه وسلم — إلى آخر أيامها ممزقة بالمنازعات الداخلية الناشئة على التباغض والحقد وحب الذات، حتى في الأوقات التي كانت فيها الدولة مشتغلة بأهم الحروب مع الأمم الأخرى رأينا أحد أولاد عليّ — رضي الله عنه — تزوج بأكثر من مائة امرأة حتى التجأ والده أن ينصح الناس بألا يزوجوه بناتهم؟ ورأينا من الرجال من كان يعترض النساء في الطريق ويختلس النظر إليهم من خروق الحائط! رأينا من أمرائهم وأعاظمهم من كان يشرب الخمر؛ حتى لا يعي ما يقول في مجالس تحضرها الجواري وتطرب الحاضرين بنغمات الموسيقى!.. رأينا من شعرائهم من يستجدي العطايا ويمد يده ملتمسا رزقه من فضلات الأمراء والأغنياء، ومنهم من يمدح نفسه ويثني عليها، ويذهب في ذلك إلى حد ليس بعده إلا الجنون، أو يتغزل في ولد، أو يهجو خصمه بعبارات الفحش وألفاظ الوقاحة التي يستحى من تصورها، فضلا عن التفوه بها! رأينا من مؤرخيهم من يزور في التاريخ ومن فقهائهم من يخترع الأحاديث ويضعها لغايته الذاتية! فأيّ زمن من الأزمان السابقة كان منزهًا عن العيوب حتى يصح أن يقال: إنه نموذج الكمال البشري؟ الكمال البشري لا يجب أن نبحث عنه في الماضي، بل إن أراد الله أن يمن على عباده فلا يكون إلا في المستقبل البعيد جدا. من أغرب ما اعتاد عليه العقل الإنساني أن يظن أن العصر الذي هو فيه أحط منزلة في الكمال من العصر الذي سبقه. ومنشأ ذلك أن الأبناء ينشئون على احترام آبائهم وتعظيم كل ما يصدر عنهم، فالكمال عندهم ما وجدوا عليه آباءهم، ويزيد ذلك تقريرا في نفوسهم أن الآباء يستهجنون دائما ما صار إليه أبناؤهم مما لم يكن معهودا لهم، لا يستطيعون أن يغيروا أنفسهم، فيكون وهم الأبناء وغرور الآباء كل منهما عونا للآخر على استقباح الحاضر وعبادة الماضي. ولو صح ما يزعمون لكان أكمل إنسان هو أول من وجد من نوعه، ولاستمر النقض عصرًا بعد عصرا إلى هذا اليوم، ولكانت نهاية الإنسان أن يصير حيوانا أعجم، أنه من الثابت أن عصورًا مضت على النوع الإنساني وهو في أدنى مراتب الإنسانية، ثم ارتقى بالتدريج إلى أن وصل إلى هذه الدرجة العليا التي يحق له أن يفتخر بها. متى تقرر أن المدنية الإسلامية القديمة هي غير ما هو راسخ في مخيلة الكتاب الذين وصفوها بما يحبون أن تكون عليه، لا بما كانت في الحقيقة عليه، وثبت أنها كانت ناقصة من وجوه كثيرة، فسيان عندنا بعد ذلك أن احتجاج المرأة كان من أصولها أو لم يكن، وساء صح أن النساء في أزمان خلافة بغداد أو الأندلس كن يحضرن مجالس الرجال أو لم يصح، فقد صح أن الحجاب هو عادة لا يليق استعمالها في عصرنا. ونحن لا نستغرب أن المدينة الإسلامية أخطأت في فهم طبيعة المرأة وتقدير شأنها، فليس خطؤها في ذلك أكبر من خطئها في كثير من الأمور الأخرى. وغني عن البيان أننا عند كلامنا على المدينة الإسلامية لم نقصد الحكم عليها من جهة الدين، بل من جهة العلوم والفنون والصنايع والآداب والعادات، التي يكون مجموعها الحالة الاجتماعية التي اختصت بها؛ ذلك لأن عامل الدين لم يكن وحده المؤثر في وجود تلك الحالة الاجتماعية فهو على ما به من قوة السلطان على الأخلاق لم ينتج إلا أثرا مناسبا لدرجة عقول وآداب الأمم التي سبقت. والذي أراه أن تمسكنا بالماضي إلى هذا الحد هو من الأهواء التي يجب أن ننهض جميعا لمحاربتها؛ لأنه ميل يجرنا إلى التدني والتقهقر، ولا يوجد سبب في بقاء هذا الميل في نفوسنا إلا شعورنا بأننا ضعاف عاجزون عن إنشاء حال خاصة بنا تليق بزماننا ويمكن أن تستقيم بها مصالحنا، فهو صورة من صور الاتكال على الغير، كأن كلا منا يناجي نفسه قائلا لها: اتركي الفكر والعمل والعناء، واسترخي؛ فليس في الإمكان أن نأتي بأبدع مما كان! هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه، وليس من دواء إلا أن نربي أولادنا على أن يعرفوا شئون المدينة الغربية ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها. إذا أتى هذا الحين — ونرجو ألا يكون بعيدا — انجلت الحقيقة أمام أعيننا ساطعة سطوع الشمس، وعرفنا قيمة التمدن الغربي، وتيقنا أنه من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسسا على العلوم العصرية الحديثة، وأن أحوال الإنسان مهما اختلفت وسواء كانت مادية أو أدبية خاضعة لسلطة العلم. لهذا نرى أن الأمم المتمدنة على اختلافها في الجنس واللغة والوطن والدين متشابهة تشابها عظيما في شكل حكومتها وإدارتها ومحاكمها، ونظام عائلتها، وطرق تربيتها ولغاتها وكتابتها ومبانيها وطرقها، بل في كثير من العادات البسيطة كالملبس والتحية والأكل، أما من جهة العلوم والصنايع فلا يوجد اختلاف إلا من حيث كونها تزيد أو تنقص في أمة عن أمة أخرى. من هذا يتبين أن نتيجة التمدن هي سوق الإنسانية في طريق واحد، وأن التباين الذي يشاهد بين الأمم المتوحشة أو التي لم تصل إلى درجة معلومة من التمدن منشؤه أن أولئك الأمم لم تهتد إلى وضع حالتها الاجتماعية على أصول علمية. هذا هو الذي جعلنا نضرب الأمثال بالأوربيين ونشيد بتقليدهم، وحملنا على أن نستلفت الأنظار إلى المرأة الأوربية. هذه مسألة تحديد حقوق المرأة وتربيتها قد اجتهدت كثيرا في أن أقف على رأي علماء المسلمين فيها، من المتقدمين أو المتأخرين، فما وجدت شيئا، وقد نبهني أصحابي إلى كتاب ألفه في هذا الموضوع حضرة الشيخ حمزة فتح الله المفتش بنظارة المعارف، وقد قرأته من أوله إلى آخره، فوجدته يحتوي على كل شيء، ولكنه لم يشتمل على شيء مما وضع الكتاب لأجله! ومن الغريب أن الذين لم يرق في نظرهم إعجابنا بالأوربيين اضطروا جميعهم بمن فيهم الشيخ الأزهري أن يستشهدوا في الرد علينا بآراء بعض العلماء والكتاب الأوربيين، نساء ورجالا! فإن كان منهم من يقول:إني قليل الاطلاع على ما كتبه المسلمون، قصير الباع في علومهم، فأنا لا أجادله في هذا، وإنما يسرني ويملأ قلبي بهجة أن أرى كتابا إسلاميا، قديما أو جديدا، يحتوي على حقوق المرأة وما يجب عليها من حيث هي امرأة وزوجة وأم وفرد من أمة، فإن جاءني من يزعم قلة اطلاعي وقصر باعي بكتاب مثل هذا، أثقلته حمدا وشكرا. وسيقول أرباب الأفكار عندنا: إنا نسلم بأن المدنية الأوربية صحيحة حسنة نافعة بالنسبة للعلوم التي توصلت إلى جمعها وإنمائها واستخدامها، ولكنها فاسدة رديئة ضارة بالنسبة للأخلاق والآداب التي تلازمها في كل مكان وصلت إليه. فهم يعترفون للغربيين بأنهم أرقى منا في العلوم والفنون والصنايع، ويعترفون بأن معارفهم أوصلتهم إلى توجيه أعمالهم في طريق تحصيل منافعهم بأحسن الوسائل الموصلة إلى السعادة في هذه الدنيا، ولكنهم متى رأوا طرق معاملاتهم بعضهم مع بعض، وخصوصا كيفية معاملة رجالهم لنسائهم، أو سمعوا بها، تغير حكمهم عليهم تغيرا كليا، وأعرضوا عن فهم ما هم فيه، وصرحوا بأنهم أحط منا في الآداب. هذا الاعتقاد يشبه أن يكون عاما فينا كما يلاحظ من يقرأ الجرائد ومن يلتفت إلى الأحاديث التي تدور بين الناس، وهو اعتقاد لا يصعب علينا بيان سببه. ذلك آثارهما محيطة بنا من جميع أطرافنا، فكلما التفتنا إلى جهة من جهاتنا وجدنا أثرا منها مشهودا، نراها في البيت في مأكلنا ومشربنا وملبسنا، وجميع أدوات المنزل وأثاثه، نراها في المدرسة مدة التعليم، ثم من النظامات التي تدور عليها جميع أصول وفروع إدارتنا وحكومتنا، نراها في الطريق على شكل عمارات فاخرة وجوانب كبيرة وبساتين منتظمة، وشوارع نظيفة تسير فيها العربات والآلات البخارية والكهربية، وبالجملة نرى في كل آن وفي كل مكان برهانا ماديا لا يمكن معه إلا التسليم بأننا متأخرون عن الغربيين كثيرا في المعارف العلمية والصناعية. وكأنما نريد أن نمحو العار الذي يلحقنا من هذا الاعتراف ونأخذ بثأرنا، فلا نجد وسيلة لذلك إلا أن ندعي أننا أرقى منهم في الآداب، وأنهم إن سبقونا في الماديات ومظاهرها فقد سبقناهم في الروحانيات وسرائرها. وإنما سهل علينا التمسك بهذه الدعوى؛ لأن التقدم في الماديات مما يقع تحت الحس، فلا يمكن إنكاره، أما التقدم في الأمور المعنوية فهو مما لا يدرك إلا بالعقل، فلا يقف عليه كل إنسان ويجد المكابر في غيبته عن الحس مجالا للإنكار، وقد يساعد المكابر في مكابرته ما يراه أو يسمع به في البلاط الغربية من كثرة الملاهي ومسارح الشهوات وغير ذلك من سيئ العادات التي يتبرأ منها الغربيون أنفسهم ويتألمون لانتشارها، والعقلاء منهم يسعون في محوها أو تقليلها، ولكنهم يأسفون على أن مساعيهم تعجز عن الوصول إلى ما يتمنون، فاغتنمنا فرصة وجود هذه العيوب، وأقمنا منها حجة لتأييد دعوانا. ومما أخذناه على الغربيين في آدابهم تكشف نسائهم واختلاطهن بالرجال، وتمتعهن بالحرية التامة واحترام الرجال لهن، وكثير منا يعد هذه العادات أسبابا لفشو الفساد فيهم، ويعتقدون أن جميع نسائهم لا يعرفن العفة، وكل الرجال مجردون من الغيرة. ولما كانت غاية التمدن هي تهذيب النفس وتطهيرها من الرذائل والابتعاد بها عن المنكرات والخبائث، ونشر الفضيلة بين الناس، كان لنا الحق في احتقار المدنية الأوربية، إن صح ما اعتقدناه فيها. ولكن هل هذا الاعتقاد صحيح؟ إن العداوة القديمة التي استمرت أجيالا بين أهل الشرق والغرب، بسبب اختلاف الدين، كانت ولا تزال إلى الآن بسبب في جهل بعضهم أحوال بعض، وأساء كل منهم الظن بالآخر، وأثرت في عقولهم حتى جعلتهم يتصورون الأشياء على غير حقيقتها؛ إذ لا شيء يبعد الإنسان عن الحقيقة أكثر من أن يكون عند النظر إليها تحت سلطان شهوة من الشهوات؛ لأنه أن كان مخلصا في بحثه محبا للوقوف على الحقيقة، وهو ما يندر وجوده، فلابد أن شهوته تشوش عليه في حكمه، وأدنى آثارها أن تزين له ما يوافقها وتستميله إليه، وإن كان من الذين لا منزلة للحق من نفوسهم — وهم السواد الأعظم — ضربوا دون الحق أستارًا من الأكاذيب والأوهام والأضاليل مما تسوله لهم شهوتهم؛ حتى لا يبقى لشعاع من أشعة الحق منفذ إلى القلوب. وزد على ذلك أن التربية العلمية لم توجد في العالم الغربي إلا من زمن قريب، وهي لا تزال إلى الآن مفقودة في الشرق، والمحروم من هذه التربية لا يسهل عليه أن يبني أحكامه على مقدمات صحيحة؛ لأن الجاهل يستمد حكمه من إحساسه لا من عقله، فهو لا يستحسن الشيء؛ لأنه مطابق للحق، وإنما يعتقد الشيء مطابقًا للحق؛ لأنه يستحسنه، بخلاف المتعود على الأبحاث العلمية، فإن عقله ينخدع بإحساسه، فكلما أراد أن يشتغل بمسألة طبيعية أو تاريخية مثلا، جمع الحوادث التي تتعلق بها ورتب الوقائع واستنبط منها القاعدة التي يحكم بصحتها بناء على ما حصل من المقدمات، غير صادر في ذلك إلا عن حب الحقيقة، فإذا عرض له أن يشتغل بالنظر في حال جاره أو عدوه استعمل الطريقة التي ألفها، وسلم بما تؤدي إليه من النتائج وخضع لها ولو كانت مخالفة لما يهواه. ولقد وصل الغربيون إلى درجة رفيعة من التربية، واشتغل كثير ممن كملت فيهم تلك التربية بالبحث عن أحوال الشرقيين والمسلمين، وكتبوا في عادتهم ولغتهم وآثارهم ودينهم، وألفوا فيها كتبا نفيسة أودعوها آراءهم من نتائج بحثهم. وامتدحوا ما رأوه مستحقا للمدح، وقدحوا في ما رأوه محلا للقدح، غير ناظرين في ذلك إلا إلى تقرير الحق وإعلان الحقيقة، صادفوا الصواب أم أخطئوه. أما عندنا فلم تبلغ التربية من الناس هذه المبلغ؛ ولهذا كان حكم كتابنا في هذه الأشياء في قيادة الشهوات وتحت سلطة الإحساس والإلف والعادة، ومن وجد لشعاع الحق لمعانا في بصيرته، ووجد من خوف اللائمة عقيدة في لسانه تمنعه من إظهاره، أو حمله الرياء على إطالة القول في تأييد ما لا يعتقده، فإذا وجد بينهم مخلصًا في القصد طالب للحق وجهر به، كان نصيبه أن يتهم بالتجرد عن الوطنية وبالعداوة للدين والملة — وأشدهم اقتصادا في ذمه يرميه بالبطش والخفة؛ توهما منه أن الاعتراف بفضل الأجنبي مما يزيد طمع الأجانب فينا، وأن إظهار عيوبنا مما يوقع اليأس في قلوبنا. ولا عذر لهم في حكمهم هذا إلا أنهم قد جروا فيه على سنتهم في سائر أحكامهم، وإلا فهم مخطئون؛ لأن السبب في طمح الأجانب فينا ليس هو اعترافنا بانحطاطنا، وإنما هو نفس ذلك الانحطاط الذي عرفه الأجانب منا قبل أن نحس به من أنفسنا، فهم قد اكتشفوا ما كانت عليه بلادنا منذ خمسة آلاف سنة، ووقفوا على أخلاق المصريين وتفصيل أحوالهم في معيشتهم أيام الفراعنة، وجمعوا من حقائق ذلك الوقت شيئا كثيرا لم يصل إلينا إلا منهم، وقليل منا من يعرفه! فلا عجب أن يكونوا أسبق منا إلى معرفة حالتنا الحاضرة. نقصها وكمالها. ثم لا خوف أن يلحقنا اليأس عند شعورنا بانحطاطنا؛ لأن اليأس إنما يكون عند استحالة الخلاص من التهلكة، وليس لهذه الاستحالة محل بالنسبة إلينا، خصوصا أن الأمم لا تقف في حياتها عند حد، بل هي موضوع للتقلبات والتغيرات، وتتوارد عليها أحوال القوة والضعف والشدة والرخاء، فلا تدوم على حال، وإذا عرضت عليها الشدة يوما لا تلبث أن تخرج مها بجهدها واجتهادها. وبدهيّ أن التوجه إلى الإصلاح والكمال لا يمكن إلا بعد شعور بالنقص، فلما لم تستشعر الأمة بتأخرها عن الأمم الأخرى، وتقصيرها عن الوصول إلى ما وصل إليه من غايات الكمال لا تنبعث إلى التقدم ولا تتحرك لإدراك غاية من هذه الغايات؛ ولذلك كان تنبيه الأمة إلى نقصها وإشعارها بحقيقة منزلتها من بقية الأمم أول فرض يجب القيام به، كما أن شعور الأمة بهذا النقص يعد أول خطوة في سبيل ترقيتها. لهذا لا نتردد في أن نصرح بأن القول بأننا أرقى من الغربيين في الآداب، هو من قبيل ما تنشده الأمهات من النغائم لتنويم الأطفال! وغاية ما في الأمر أن تقدم الأوربيين علينا من هذه الجهة لا يقام الدليل عليه بآثار مادية، كتقدمهم في العلوم والصنائع. وإنما يعرفه من خالطهم واختبرهم في ظاهر شئونهم وباطنها حتى وقف على منزلتهم من الخصائص الأدبية. ينقسم الأوربيون، كما تنقسم سائر الأمم، إلى ثلاث طبقات: عليا، ووسطى ودنيا، فأما الطبقة الدنيا فأكبر حظها من التربية معرفة القراءة والكتابة وقليل من مبادئ العلوم، وهم في أخلاقهم الشخصية أشد فسادا من عامتنا في أخلاقهم. وأما الطبقة العليا فتصيب حظًا عظيما من التربية العقلية، ولكن يغلب عليها ما يغري به الغنى والبطالة، وتستولي عليها الشهوات، فهو يتفننون في اللذائذ تفنن أهل الجد في الاختراعات والصنائع. وسبب ذلك أن التمدن الذي يعيشون فيه قد يسهّل لهم إرضاء شهواتهم، ويجدون من الوسائل لذلك ما لا يوجد عندنا، فأبدعوا في اختراع طرق التلذذ، وأعطوها الأشكال التي تجذب النفوس إليها، فالكهرباء مثلا التي تضيء المدن وتنقل الأخبار، وينتفع منها الزراع والتجار والصانع والمسافر والمريض، تقوم لأرباب الخلاعة بخدمات من الوجه الذي يناسبهم. وكذلك ترى لهم جرائد وكتبا وميادين تمثيل تختص بهم، كما أن لهم الجنان الناضرة والقصور الشاهقة. هذا الفساد مما تتحمله المدنية المغربية وتصير عليه؛ لأنها لا تستطيع محوه، فإن هذه المدينة مؤسسة على الحرية الشخصية. فهي مضطرة لأن تقبل ما يتبع هذه الحرية من الضرر؛ لأنها تعلم أن منافعها أكثر من مضارها. فوجود الفساد في الغرب إنما هو لاحق طبيعيي من لواحق الحرية الشخصية ونتيجة من نتائجها في الطور الأدبي الحالي الذي توجد فيه تلك البلاد الآن. ولا يشك أحد في أنه مع مرور الزمن وانتشار المعارف، وتحسين طرق التربية في طبقات الأمة، عاليها ودانيها، تتهذب النفوس شيئا فشيئا، وتقرب من الكمال الذي هو ضالتها. غير أنه لا يفوت القارئ أن هذا الفساد الذي ذكرناه في الأمم الغربية لم يضعف فيهم الفضائل الاجتماعية التي هي الركن الأقوى لبناء الأمم، وما يتبع تلك الفضائل من بذل الأنفس والأموال في سبيل تعزيز الوطن أو الدفاع عنه، فأدنى رجل في الغرب كأعلى رجل فيه إذا دعا داع إلى هجوم أو قيام لدفاع، أو إلى عمل نافع، يترك جميع لذائذه وينساها، وينهض لإجابة الداعي ويخاطر بنفسه ويبذل ماله إلى أن يتم للأمة ما تريد، فأين حال هاتين الطبقتين من هذه الفضائل الجليلة في الأمم الغربية من حالة الأمم الشرقية؟ وأما الطبقة الوسطى فلا ريب أنها أرقى من التي تقابلها عندنا، نحن في الحقيقة لا نعرف من أحوال الغربيين إلا بعض ما ظهر منا، والكثير منا لا تزيد معرفته على ما عرف منها في الشوارع والقهاوي، وما قرأه في بعض القصص والحكايات، وليس من الحق ولا من العدل أن نظن هذه الظواهر هي صورة تامة لحقيقة منزلتهم من الأدب. من أراد أن يكون حكمه فيهم صحيحا، فعليه أن يلم بجميع مظاهر حياة تلك الأمم ويقف على جميع الإحساسات والعواطف التي تحرك نفوسهم، وهذا أمر يحتاج لمعرفة تامة بلغتهم وتاريخهم وعاداتهم وأخلاقهم، فإذا تمت للباحث هذه الشروط أمكنه أن يعرف لم يهب رجل ألماني حياته ويترك زوجته وأولاده مساعدة لأمة البوير؟ ولماذا يحتقر عالم من العلماء طيب العيش ولذائذ الحياة ويرجح الاشتغال بحل مسألة أو كشف غامضة أو فهم علة؟ وكيف أن سياسيا واسع الثروة عالي المقام يفني زمنه في تدبير الوسائل لإعلاء شأن أمته، وربما حرم نفسه راحة النوم من ذلك السبيل؟ وما هو المحرك للسائح الذي يقضي الشهور والسنين بعيدا عن أهله وبلده؛ لكشف منابع النيل مثلا؟ وما هو الإحساس الذي يرضي القسيس بالمعيشة بين المتوحشين مع ما يتكبده من أنواع العذاب، وما يحيط به من الأخطار؟ وما هذا الوجدان الذي يسوق الغني إلى أن يبذل آلافا من الجنيهات لجمعية من الجمعيات الخيرية أو لعمل يعود نفعه على أمته أو على الإنسانية؟ إذا علم السر في هذه الصفات ومصادر هذه الأعمال الجليلة، ثم علم ما بين أعضاء العائلات من الوفاق والائتلاف والمحبة، ونظر إلى ما في معاملاتهم من الصدق في القول والغيرة على الحق ونمو إحساس الشرف والميل إلى مساعدة الضعيف والفقير، والرأفة بالحيوان، فلا شك أنه ينتهي من هذا العلم بنتيجة صحيحة، وهي أن هؤلاء القوم على جانب عظيم من الأدب والفضيلة؛ لأن هذه الأعمال والأحوال تدل على ضعف سلطان حب النفس، كما تدل على نمو الإحساس بحاجة كل من أفراد الأمة إلى الآخر، والترقي الأدبي إنما هو التضامن بعينه. وليس هذا بغريب، فإن التقدم في العلوم يؤدي إلى التقدم في الآداب والأخلاق، لا ريب أن الارتقاء العقلي يصحبه الارتقاء الأدبي دائما، فإن العلم هو المادة التي يتغذى منها الأدب، لا أقول: إنه لا يوجد الأدب إلا حيث يوجد العلم، وإنما أقول: إن أدب الجاهل لا يمكن أن يكون ثابتا في نفسه مثل ثبات الأدب في نفس العالم، العلم يخاطب العقل والحقائق العلمية لا تطلب أن يسلم بها من غير مناقشة، بل تحتاج إلي بحث وتعب وشغل، والاعتياد على الاشتغال بالعلم يكسب الاعتياد على ضبط النفس، الذي هو أهم أركان الأدب، فإن هم شخص أشربت نفسه العلم أن يعمل أمرا مخالفا للآداب نزع منه نازع إلى النظر في ذلك الأمر، وآثاره ومزاياه ومضاره، ثم رجع إلى نفسه ليعلم هل هو يصح لها أو لا يصح؟ ويندر حينئذ أن يقدم عليه. أما الجاهل فإن كان فاضلا لم تكن الفضيلة فيه إلا عادة مجردة، وهو مستعد للإذعان إلى ما يتأثر به، حسنا أو قبيحا، ومائل إلى قبول ما يرى أغلب الناس عليه بدون بحث، فإذا انقطعت العادة مرة، وذاق لذة الرذيلة، انفلت قياد نفسه من يده، واستحال عليه أن يرجع إلى ما كان عليه من قبل. رأينا أن العلم يقوي حكم العقل ويهذب النفس، وأضيف على ذلك أنه يعظم الإحساس الديني، وليس في ذكر هذه العبارة خروج عن الموضوع؛ لأن الدين والأدب يرجعان في الحقيقة إلى شيء واحد. «ليس العلم منافيا للإحساس الديني، كما يزعم كثير من الناس، بل ترك العلم هو المنافي للدين، ولنضرب لذلك مثلا فنفرض أن عالما من كبار المؤلفين يصنف الكتب ويقرر الحقائق، والناس يثنون عليه ويطلقون ألسنتهم بمدحه، ولكنهم مع ذلك لم يروا من كتبه إلا أغلفتها، ولم يقرءوا شيئا منها، ولم يجهدوا أنفسهم يوما في فهم ما احتوت عليه، فماذا تكون قيمة هذه المدح في نظرنا؟ وما الذي نعتقده في صدق هؤلاء المادحين إن جاز لنا أن نقيس عظائم الأشياء بصغارها؟ نقول: إن الناس يعاملون الكون وخالقه بهذه المعاملة! وأدهى ما يأتون من تلك المعاملة أنهم لا يكتفون بأن يعيشوا ويموتوا وهم لا يعرفون حقيقة من حقائق تلك الأشياء التي ينادون بأنها من أبداع البدائع وأغرب الغرائب، بل ينحون باللائمة على من يشتغل بفهم حقائقها، والوقوف على ما أودع فيها من الأسرار، ولو فقهوا لعلموا أن إهمال العلم هو الضعف للإحساس الديني، بل الماحق له. أما خدمة العلم فهي عبادة يؤديها القلب؛ لأن خدمة العلم في اعتراف ضمني بأن للمخلوقات قيمة عالية، وأن الذي أوجدها له شأن أعلى ومقام أسمى. خدمة العلم هي احترام للكون وصانعه يؤديه طالب العلم، لا بمجرد الفم واللسان ولكن ببذل وقته وفكره وعمله». نستنتج مما سبق أن تقدم الغربيين في العلوم ساعد كل المساعدة على ترقيتهم في الأدب، وأن تأخر المعارف عندنا كان سببا في انحطاط أدبنا. وهذه حوادث عائلاتنا وما يجرى فيها بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، والزوج وزوجته مما لا يحتاج بيانه إلى تفصيل. وهذه حوادث القرى وما يشاهد فيها من الحسد والتباغض والخيانة والمنازعات والجرائم والبهيمية التي يحار العقل فيها، وهذه حوادث الوطن وما يرى في روابط أهله من الانحلال، وتفرقهم في الرأي في أحقر الشئون وحرصهم على المال ألا ينفقوه في سبيل أية منفعة من المنافع العامة، وضنهم بشيء من أوقاتهم للفكر في أية مصلحة من مصالح بلادهم، كل هذا برهان على انحطاط أخلاقنا، وما يكون عندنا من محاسن الأخلاق، كالكرم المعهود في كثير من بلاد الأرياف، يرجع في الحقيقة إلى عيب من العيوب كالتنافس في حب الشهرة؛ ولهذا ترى الكثير من أعيان البلاد، المشهورين بإكرام الضيف والمبالغة في الاحتفال به، يسيرون في سائر شئونهم على خلاف مقتضى الكرم؛ فيظلمون الفقير ويطمعون في أموال الضعفاء في أقاربهم، وخصوصا النساء منهم، ويضيقون على عائلاتهم في المعيشة، ويأتون من ذلك ما تأباه النفس الكريمة. وحال الأمة التركية لا يختلف في ذلك عن حالنا، نعم، في بعض بلاد الريف هناك رقي في الأدب والأخلاق، وامتياز لها على الأخلاق والآداب المصرية، ولكن لا سبب لذلك ألا أن التركي يعيش في قريته بغاية السذاجة، وعلى ضرب من سعة العيش، فلا يجد ما يحمله على ارتكاب ما يخالف الآداب الحسنة، وهو بعيد عن كثير من الرذائل؛ لأنه يجهلها ولا يتصور وجودها، فإذا فارق قريته وسكن مدينة من المدن رأيته لا يجاريه أحد في مسابقة أهلها إلى مراتع اللذات ومسارح الشهوات، وفاق أمثاله في جميع العيون الأخرى! بالجملة نقول: إن التمدن الأوربي ليس خيرا محضًا، فإن الخير المحض ليس موجودا في عالمنا هذا؛ لأنه عالم النقص، وإنما هو الخير الذي أمكن للإنسان أن يصل إليه الآن. فقد أتم به شيئا مما كان ينقصه، وارتقى به درجة من الكمال. ومهما كانت هذه النتيجة صغيرة، في جانب ما ينتظر للنفس الإنسانية من الكمال، فإنه ينبغي لنا أن نقنع بها، وعلى المستقبل أن يصل بأهله إلى ما هو أعلى منها. ومن الخطأ ما يتوهمه الكثير منا أن الترقي يحصل في بعض شئون الأمة، ولا يؤثر في سائرها، والصواب أن الترقي لا يكون ترقيا صحيحا إلا إذا وجد منه روح تظهر في جميع شئون الأمة، جزئياتها وكلياتها، حتى إذا شاء باحث أن يحلل جملته وجدها مركبة من جزئيات من الترقي تظهر في المسكن والمطعم والملبس والمباني والطرق والجمعيات والأفراح والمآتم وأساليب التعليم والتربية، والتياترات والملاهي، كما تظهر في الصنائع والتجارة والزراعة والعلوم والفنون، وعلى الجملة يجد أثرا للترقي في جميع مظاهر حياتها العقلية والأدبية. ذلك لأن الحالة العقلية والحالة الأدبية متلازمتان تلازما تاما بل هما في الحقيقة حالة واحدة، وإنما وضع لهما اسمان بحسب اختلاف الجهة التي ينظر منها إليها، فإن كل معلوم يرد على العقل يفيده معرفة جيدة، ثم هو بهذه الإفادة نفسها يدخل في نظم سلوكنا، ولو كان العلم مقصورًا على المعرفة فقط وليس له أثر في العمل لفقد معظم أهميته إلّم نقل كلها. وأما اختلاف عادات الغربيين عن عاداتنا، وخروج نسائهم مكشوفات الوجوه واجتماعهن مع الرجال، وتمتعهن بالحرية، واحترام الرجال لهن، فليس مما يدل على انحطاط الآداب عندهم. نعم، يعد الكثير منا هذه العادات عيوبا، ولكن إذا سئلت: لماذا يعامل الغربيون نساءهم على هذه الطريقة؟ لماذا يحترم الرجل منهم امرأته ويجلسها عن يمينه ويحب أن تكون نبيهة متعلمة؟ لماذا يسمح لها أن تخرج متى شاءت وتسافر وتخالط الرجال والنساء؟ لماذا كل هذه الحرية وكل هذا الاحترام؟ فجواب الواحد منا لا يكون إلا أن هذه هي عادتهم السيئة. ولكن هذا الجواب لا يفيد شيئا؛ لأنه يستدعي سؤالا آخر، وهو: لماذا كانت هذه العادة؟ وهنا يتيسر له الجواب. لو كان موضوع بحثنا عادة من عادات أمة متوحشة لسهل علينا أن نقول: إن هذه العادة طرأت عليها بحكم الحوادث، وتلك الأمة تعمل تحت سلطانها بدون أن تفكر فيها، وهي تجهل أصلها وارتباطها بأحوالها كما تجهل الأثر الذي ينشأ عنها في شئونها. ولكن مما لا يسلمه العقل أن أهل أوربا وأمريكا يسيرون على هذه العادة من غير شعور منهم بأسبابها ونتائجها، ويصعب على العقل أن يظن أن علماءهم الذين يجهدون أنفسهم كل يوم في اكتشاف أسرار الطبيعة، وأن هؤلاء الذين بحثوا عن الميكروبات ووجدوها وبينوا أنواعها ووصفوها بأدق أوصافها وربوها واستولدوها، غفلوا عن هذه العادة وأهملوها. والحقيقة أنهم درسوها درسا تاما، كغيرها من المسائل الأخرى وقارنوا بينها وبين عاداتنا الشرقية، ولا أعلم أن واحدا منهم قام ينادي قومه يوما ويحثهم على تغييرها، بل الكل متفقون على أن حجاب النساء هو سبب انحطاط الشرق. وأن عدم الحجاب هو السر في تقدم الغرب، وإنما الخلاف يوجد بينهم في تحديد حقوق المرأة السياسية كما بيناه. هذا الإجماع أمر جدير بأن يستوقف نظرنا. وجد بين الغربيين رجال يرون أن الملكية الخاصة هي سرقة، وأن الأموال يجب أن تكون ملكا شائعا بين جميع أفراد الأمة. وظهر فيهم من يقول بإلغاء نظام الزواج؛ حتى تكون العلاقات بين الرجل والمرأة حرة لا تخضع لنظام، ولا يحددها قانون، وخرج منهم طائفة تنادي بهدم كل نظام وشرع. ولا تعترف الحكومة مهما كان شكلها بحق الوجود، ومع ذلك لم يخطر على بال واحد منهم أن يطلب حجاب النساء. بل ترى الأمر بالعكس، فإن المتطرفين من أرباب المذاهب يطلبون التوسع في حرية المرأة والزيادة في حقوقها إلى أن تصير مساوية للرجل، فهم على شططهم متفقون في ذلك مع أرباب المشارب المعتدلة. فما هو سر هذا الاتفاق وما سببه؟ لأن الأوربيين لا يحبون التغيير في عاداتهم؟ كلا. فإن التغيير عندهم هو قانون تقدمهم، ومن ألقى نظرة عامة في تاريخهم من قرن واحد يجد أنهم غيروا كل شيء عندهم، غيروا حكومتهم ولغتهم علومهم وفنونهم وقوانينهم وملابسهم وعاداتهم، وأن كل ما وصت إليه هذه الأمور معرض الآن لانتقاد الباحثين منهم ومهدد بالتغيير والتبديل من وقت إلى آخر. كذلك لا يصح أن يكون من أسباب هذا الاتفاق ما يقال من أن الأوربيين لا يقدرون شرف النفس حق قدره ولا يغارون على نسائهم، هذا القول الذي سمعته من كثير من الناس لا يمكن أن يصدر إلا من قليل الخبرة، ناقص المعرفة، لم يقف على شيء من أحوال سكان تلك البلاد، فهو لا يدري منها أكثر ما يدريه من أحوالنا سائح غربي يدور في (الأزبكية) وما جاورها، ويكتب من عوائدنا ما يراه من الطائفين حول تلك الأماكن المشهورة. إذن فما هو السبب؟ السبب هو أن مسألة حقوق المرأة وحريتها ليست في الحقيقة مجرد عادة، نرى الغربي يرفع قبعته إذا أراد التحية، والشرقي يحرك يده ويضعها على رأسه، فهذه عادة من العادات يمكن أن يكون لها ارتباط بتاريخ الشرق والغرب، ولكن أهميتها لا تتعدى الموضوع الصغير الذي وضعت لأجله، ولا يمكن أن يترتب عليها نتيجة في الحياة الشخصية أو العامة، أما كون المرأة تتعلم أو لا تتعلم، وتعيش مسجونة في البيت أو متمتعة بحريتها، وتخالط الرجال أو لا تخالطهن، وما هي حقوقها في الزواج والطلاق، وماذا يكون شأنها في العائلة وفي الأمة؟ فهذه أولا مسألة اجتماعية، فهي بذلك مسألة علمية، ولا غرابة بعد ذلك في حصول الاتفاق فيها. لهذا يلزمنا بدل أن نهزأ بالغربيين ونحكم عليهم بمقتضى قاعدة تخيلناها، وهي أنهم ضلوا عن الحق فيما يختص بشأن النساء عندهم، يلزمنا بدل ذلك أن نقف على أفكارهم في هذه المسألة، ونبحث في آرائهم وفي أسباب النهضة العظيمة التي قام بها الرجال والنساء في هذا القرن، وندرس جميع نتائجها الحالية، وبعد ذلك يمكن أن نكوّن لأنفسنا رأيا صحيحا مؤسسا على النظريات العقلية الصحيحة ومؤيدا بالتجارب والوقائع.
قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل. قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل.
https://www.hindawi.org/books/91575858/
المرأة الجديدة
قاسم أمين
يقصد قاسم أمين بـ«المرأة الجديدة» المرأة التي بدأ ظهورها في الغرب منذ عصر التنوير، وهي المرأة التي بدأت تلعب دورًا اجتماعيًّا وثقافيًّا رئيسًا في مجتمعها ودولتها، بعد أن كانت مهمشة ومقصية في عصور ما قبل التنوير الأوروبي، ويرى قاسم أمين أن الرؤية الاجتماعية السائدة عن المرأة في عصره داخل المجتمع المصري تشبه إلى حد كبير تلك الرؤية ما قبل التنويرية، وهي رؤية تتعارض مع الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها رجالًا كانوا أو نساءً، كما أنها رؤية تتعارض مع الفهم الصحيح للدين، فالإسلام كفل للمرأة حق التصرف في أملاكها، كما كفل لها حق التعلم وحرية العمل والمشاركة الاجتماعية والثقافية النهضوية في البناء الحضاري، والفهم المنغلق لدور المرأة إنما يمكن رده إلى الجهل والاستبداد بالدين والتمسك بالعادات والتقاليد المنافية لفطرة الإنسان والمخالفة للنظرة الأخلاقية القويمة.
https://www.hindawi.org/books/91575858/6/
خاتمة
ابتدأ المصريون في هذه السنين الأخيرة يشعرون بسوء حالتهم الاجتماعية، وبدت عليهم علامات التألم منها، وأحسوا بضرورة العمل على تحسينها وصلت إليهم أخبار الغربيين واختلطوا وعاشروا الكثير منهم، وعرفوا مبلغ تقدمهم، رأوا أنهم متمتعون بطيب العيش واتساع السلطة ونفوذ الكلمة وغير ذلك من المزايا التي وجدوا أنفسهم محرومين منها، والتي لا قيمة للحياة بدونها، أنبعث فيهم الشوق إلى مجاراتهم، والرغبة في الحصول على تلك النعم، وقام بيننا المرشدون وتزاحموا على بث الأفكار التي اعتقدوا أنها تهدي الأمة إلى طريق النجاح، هذا يدعو إلى العمل النشاط، وذاك إلى ائتلاف القلوب والاتحاد ونبذ أسباب الشقاق، وآخر إلى حب الوطن والتفاني في خدمته، وغيره إلى التمسك بأحكام الدين، وهلم جرا. ولكن فات هؤلاء المرشدين أمر واحد، وهو أن هذه الكلمات ومشاكلها لا يمكن أن يكون لها في حياة الأمة أثر يذكر إذا وصلت إلى النساء وأدركت معانيها وتعلقت نفوسهن بحبها وتوجهت ميولهن إليها؛ حتى يمكنهن بعد ذلك أن يضعن أولادهن بأحسن الصور التي تمثل كمال الإنسان في أذهانهن. ذلك لأن كل حال اجتماعية لا يمكن تغييرها إلا إذا وجهت التربية نحو التغيير المطلوب، ولأنه لا يكفي في الإصلاح، مهما كان موضوعه، مجرد الحاجة إليه، ولا أمر تصدره الحكومة بحمل الناس عليه، ولا خطبة تلقى على مسامعهم لترغيبهم فيه، ولا كتب تؤلف في بيان منافعه ولا مقالات تنشر لشرح مزاياه. فإن هذه الأمور كلها لا أثر لها إلا في إرشاد الأمة وتنبيهها إلى سوء حالها، ولكنها ليست من الوسائل التي تغيير الأمم وتحولها من حال إلى حال؛ لأن كل تغيير في الأمم إنما يكون نتيجة لمجموع فضائل وصفات وأخلاق وعادات لا تتولد في النفوس ولا تتمكن منها إلا بالتربية، أي: بواسطة المرأة. فإذا أراد المصريون أن يصلحوا أحوالهم فعليهم أن يبتدئوا في الإصلاح من أوله، يجب عليهم أن يعتقدوا بأن لا رجاء في أن يكونوا أمة حية ذات شأن بين الأمم الراقية ومقام في عالم التمدن الإنساني قبل أن تكون بيوتهم وعائلاتهم وسطا صالحا لإعداد رجال متصفين بتلك الصفات التي يتوقف عليها النجاح. ولا رجاء في أن البيوت والعائلات تصير ذلك الوسط الصالح إلا إذا تربت النساء وشاركن الرجال في أفكارهم وآمالهم وآلامهم إلّم يشاركنهم في جميع أعمالهم. هذه الحقيقة مع بساطتها وبداهتها قد اعتبرها الناس يوم جاهرنا بها في العام الماضي ضربا من الهذيان، وحكم الفقهاء بأنها خرق في الإسلام، وعدها الكثير من متخرجي المدارس مبالغة في تقليد الغربيين، بل انتهى بعضهم إلى القول بأنها جناية على الوطن والدين، وأوهموا فيما كتبوا أن تحرير المرأة الشرقية أمنية من أماني الأمم المسيحية تريد بها هدم الدين الإسلامي ضدها من المسلمين فليس منهم. غير ذلك من الأوهام التي يصغي إليها البسطاء ويتلذذ باعتقادها الجهلاء لعدم إدراكهم منافعهم الحقيقية. ونحن لا نريد أن نرد عليهم إلا بكلمة واحدة وهي: أن الأوربيين إذا كانوا يقصدون الإضرار بنا، فما عليهم إلا أن يتركونا لأنفسنا، فإنهم لا يجدون وسيلة أوفى بغرضهم فينا من حالتنا الحاضرة. هذا هو الحق الذي لا ريب فيه، ومهما اجتهد قوم في إخفائه وغفل آخرون عنه فلا بد أن ينجلي للكل، عاجلا أو آجلا، شأن الحقيقة في جميع الأزمان. وكل ناظر في أحوال هيئتنا الاجتماعية الحاضرة يجد فيها ما يدل على أن النساء عندنا قطعن طور الاستعباد، ولم يبق بينهن وبين الحرية إلا حجاب رقيق، إذا يرى: «هذا وإني أرفع صوتي بالشكوى من كثرة ما يجمع الفقراء من الزوجات في عصمة واحدة، فإن الكثير منهم عنده أربع من الزوجات أو ثلاث أو اثنتان، وهو لا يستطيع الإنفاق عليهن، ولا يزال معهن في نزاع على النفقات وسائر حقوق الزوجية، ثم إنه لا يطلقهن ولا واحدة منهن، ولا يزال الفساد يتغلغل فيهن وفي أولادهن، ولا يمكن له ولا لهن أن يقيموا حدود الله، وضرر ذلك بالدين والأمة غير خاف على. أحد، وقد حدث في هذا العام أن كثيرًا من النساء اللواتي حُكم على أزواجهن بالأشغال الشاقة مؤبدًا أو بالسجن المؤبد، أو بالحبس مدة طويلة تشكون إلى نظارة الحقانية من حالتهن التعيسة؛ حيث لا سبيل لهن من الانفصال من أزواجهن، ولا يوجد لهن عائل يقوم بنفقاتهن ومعاش أولادهن، فاضطرت نظارة الحقانية إلى استفتاء حضره مفتي الديار المصرية عن الوجوه الشرعية التي يمكن اتخاذها لإزالة أسباب الشكوى، فبحث حضرته في هذه المسألة وفي مسائل أخرى تشابهها، واستنتج من فقه المالكية إحدى عشرة مادة، وقدمها إلى نظارة الحقانية، وإليك بيانها ننشرها إفادة للقراء. وكل ضرب الآجال لاعتداد زوجة المفقود إذا كان في ماله ما تنفق منه الزوجة، أو لم تخش على نفسها الفتنة وإلا رفعت الأمر إلى القاضي ليطلق عليه متى ثبت له صحة دعواها. باطلاعنا على خطاب فضيلتكم المؤرخ ٤ الجاري نمرة ١٩ وعلى المشروع المرفق به المشتمل على إحدى عشرة مادة مستخلصة من مذهب الإمام مالك رضي الله عنه, المطلوب إبداء رأينا فيه. قد رأينا ما رأيتموه، ووقعنا عليه بالموافقة، وشكرنا همتكم العالية على اعتناء فضيلتكم بهذا الخطاب الجليل وطيّه المشروع المذكور يا أفندم. الفقير سليم البشري، المالكي خادم العلم والفقراء بالأزهر ٦ ربيع آخر سنة ١٣١٨. هاتان المسألتان: مسألة تعداد الزوجات، ومسألة تخويل المرأة حق الطلاق. هما من أهم المسائل التي استلفتنا إليها الأنظار في كتاب (تحرير المرأة) ويسرنا أن عالما عظيما وفقيها حكيما مثل حضرة الأستاذ الشيخ محمد عبده رأى أنهما جديرتان بهمته، فأيد بصوته المسموع ما اقترحناه فيهما. جميع هذه العلامات وغيرها مما يلاحظ في البيوت كل يوم تنبئنا بأن حالة المرأة المصرية آخذة في التحسن والترقي. غير أن هذه الحركة لم تصدر عن نظر وروية، بل حدثت فينا بالتأثر عن مخالطة الغربيين، وبمقتضى حكم الناموس المعروف عند علماء التاريخ الطبيعي القاضي بأن كل حيوان يتطبع بطبيعة الوسط الذي يعيش فيه. والدليل على أن لا دخل لإرادتنا في هذه الحركة أننا عندما قلنا بوجوب المحافظة عليها، وإعدادها حتى نبلغ منها الغاية لاقينا معارضة شديدة، حتى ممن ظهرت مبادئ هذا التحول في نفوسهم وبدت بوادره في بيوتهم. ولا عجب في ذلك، فإن شأننا أن نتبع أهواءنا في جميع أعمالنا. وقد أطلنا الوقت الذي يجب فيه أن نعرف ماذا نريد؟ إن كان مقصدنا من الحياة أن يعيش كل منا بضع سنين يقضيها في أيّ حال كانت، واستوى لدينا العز والذل. والغنى والفقر، والحرية الرق، والعلم والجهل، والفضيلة والرذيلة. فأرى أن ما منح إلى الآن للمرأة المصرية من الحرية والتربية لا داعي له. ولا أجد مانعًا من أن يتمتع الرجل بعدة نساء، ويتزوج كل يوم امرأة ثم يطلقها في اليوم التالي ويسجن زوجاته وبناته وأخواته وأمه وجدته إذا شاء! يوجد في أفريقيا وآسيا أمم عديدة تعيش النساء فيها مدفونات في البيوت بحيث لا يرين إنسانا ولا يراهن أحد. ويوجد بين هذه الأمم من وصلت عندها حياة المرأة من الحقارة إلى حد أنه متى توفي زوجها وجب عليها أن تعدم نفسها؛ لكيلا تتمتع بالحياة بعده! فما علينا إلا أن نوجه أنظارنا إلى هؤلاء الأمم ونسألهم عن سر تقدم نسائهم في الجهل والاحتجاب، لعلنا نجد عندهم ما يقوي حجتنا في تشديد الحجاب والحجر على المرأة! أما إذا كان المقصد هو ما نقرؤه ونسمعه كل يوم من أن المصريين يريدون أن يكونوا أمة حية راقية متمدنة فلنا أن نقول لهم: «توجد وسيلة تخرجكم من الحالة السيئة التي تشتكون منها، وتصعد بكم إلى أعلى مراتب المدن، كما تشتهون وفوق ما تشتهون، ألا وهي تحرير نسائكم من قيود الجهل والحجاب، هذه الوسيلة نحن لم نبتكرها، وليس لنا فضل في اختراعها؛ فقد استعملتها أمم من قبلنا وجربتها وانتفعت منها. انظروا إلى الأمم الغربية تجدوا بين نسائها اختلافات عظيمة. تجدوا أن تربية المرأة الأمريكية وأخلاقها وعاداتها وآدابها غير تربية وأخلاق وآداب المرأة الفرنساوية، وأن هذه تختلف من كل هذه الوجوه عن المرأة الروسية، وأن المرأة الطليانية لا تشبه في شيء من ذلك المرأة السويدية ولا الألمانية، ولكن هؤلاء النساء على اختلاف الإقليم والجنس واللغة والدين بينهن اتحدن، واجتمعن في أمر واحد وهو أنهن يملكن حريتهن ويتمتعن باستقلالهن. هذه الحرية هي التي أخرجت المرأة الغربية من انحطاطها القديم، فكما أضيف عليها التعليم وجهت إرادتها إلى أن تشترك مع الرجال في تقدم الجمعية التي تنسب إليها، وتم هذا الاشتراك بإتيانها أعمالا مفيدة تختلف بلا ريب عن أعمال الرجال، ولكن لا تنقص عنها في الأهمية فالتاجر الذي يقضي نهاره في حانوت لبيع بضاعته، والكاتب الذي يمضي بضع ساعات في ديوان من دواوين الحكومة يشتغل فيه بتحرير إفادة إلى مصلحة أخرى. والمهندس الذي يبني قنطرة لتسهيل المواصلات بين البلاد. والطبيب الذي يقطع عضوا ليحيى باقي أعضاء الجسم، والقاضي الذي يفصل في المنازعات التي تقوم بين الناس، جميع هؤلاء وغيرهم لا يوجد منهم واحد يحق له أن يدعي أن عمله يفيد الهيئة الاجتماعية أكثر من عمل امرأة تهدي إلى الجمعية رجلا وتربيه على أن يكون نافعا لنفسه ولأهله ولأمته. نحن لا نقول لكم كما يقول غيرنا: اتحدوا، كونوا عون بعضكم لبعض، أو طهروا أنفسكم من العيوب التي تعهدونها في أخلاقكم. أو اخدموا أهلكم ووطنكم، أو ما يماثل ذلك من الكلام الذي يذهب في الهواء. نحن نعلم أن تغيير النفوس لا تنفع فيه نصيحة مرشد ولا أمر سلطان ولا سحر ساحر ولا كرامة ولى. وإنما يتم. كما ذكرنا، بإعداد نفوس الناشئين إلى الحال المطلوب إحداثها. ذلك هو السير الطبيعي البعيد الأمد المحفوف بمصاعب. ولكن أسهل المصاعب هي التي تنتهي بالفوز والنجاح. وأقرب الطرق هي التي توصل إلى المقصد.
قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل. قاسم أمين: كاتب، وأديب، ومصلح اجتماعي مصري، وأحد مؤسِّسي الحركة الوطنية المصرية، ويعد من أبرز رواد حركة تحرير المرأة مطلع القرن العشرين. وُلد «قاسم محمد أمين» عام ١٨٦٣م. وتلقى دروسه الأولى في مدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث سكن في حي الحلمية الأرستقراطي، والتحق بمدرسة التجهيزية (الثانوية) الخديوية، وتَعَلَّم فيها الفرنسية، وانتقل بعدها للدراسة بمدرسة الحقوق والإدارة آنذاك، وحصل منها على الليسانس، وهو في العشرين من عمره. عمل بالمحاماة، إلَّا أنه ما لبث أن تركها، حيث سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا أبدى فيها تفوقًا في الدراسة خلال أربع سنوات، وقرأ في تلك الفترة لكبار المفكرين الغربيين أمثال: ماركس، ونيتشه، وداروين، وزادت صلته هناك بالإمامين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعندما عاد إلى مصر عام ١٨٨٥م، عمل في النيابة المختلطة، ثم انتقل بعدها بعامين من النيابة إلى قسم قضايا الحكومة، وظل يترقى في المناصب إلى أن وصل إلى منصب مستشار وهو في سن الحادية والثلاثين. كان له نشاط فكري وثقافي واجتماعي واسع، حيث صدرت له مجموعة من المقالات غير موقعة بجريدة المؤيد، كما أصدر كتاب «المصريون» بالفرنسية، وكان يرد فيه على هجوم الدوق الفرنسي داركور على مصر والمصريين، وأصدر بعدها أشهر كتبه؛ «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، ويعد هذان الكتابان من أهم الكتب التي تم تأليفها عن المرأة مطلع القرن العشرين، وتجسدت النشاطات الاجتماعية لقاسم أمين في مشاركته بالجمعية الخيرية الإسلامية التي كانت تنشئ مدارس للفقراء، وتغيث المنكوبين والمعوزين وتقدم المساعدة إليهم. توفي عام ١٩٠٨م عن عمر يناهز خمسة وأربعين عامًا، قضاها في الإصلاح الاجتماعي والأدبي والثقافي، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والسياسيين، أمثال حافظ إبراهيم، وخليل مطران، وعلي الجارم، وسعد زغلول، ومحمد حسين هيكل.
https://www.hindawi.org/books/51630730/
مذكرات نجيب الريحاني
نجيب الريحاني
تبرز من بين صفحات هذا الكتاب، مذكرات رائد الكوميديا المصرية والعربية، الضاحك الباكي «نجيب الريحاني» ذلك الممثل العبقري، والموهوب الفذ، الذي استطاع أن يحوذ إعجاب الناس وحبهم، إن الريحاني لم يكن فقط مبدعًا في فنه بل كان مخلصًا له، وراهبًا في مسرحهِ، فكان خير له أن يقضي نحبه فوق المسرح، من أن يموت على فراشه كما يقول. عُرف نجيب الريحاني بأمانته وصدقه، فكان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يميل إلى المواربة والمداراة؛ لذا فقد آلى على نفسه في عرضه لهذه المذكرات أن يسجل ما بها من حقائق مهما كان فيها من ألم يناله قبل أن ينال غيره ممن جمعته به أية جامعة أو رابطة، ويصارح الريحاني القارئ في هذا الكتاب، فيقول له: «بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يُشعِر بالإقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة في هذه الآونة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هادئ البلبال.»
https://www.hindawi.org/books/51630730/0/
مقدمة
قبل أن أسمح لنفسي بنشر مذكراتي، فكرت في الأمر كثيرًا، لا لشيء إلا لأنني خلقت صريحا، لا أخشى اللوم في الحق، ولا أميل إلى المواربة والمداراة. فهل يا ترى أظل فيما أكتب متحليا بهذه الخليقة؟ أم يدفعني ما درج الناس عليه من مجاملة إلى المواجهة والتهرب؟ ذلك هو موضع التفكير الذي لازمني قبل أن أخط في مذكراتي حرفا واحدا. أما وقد ارتضيت، فقد آليت على نفسي أن أملي الواقع مهما حاقت بي مرارته، وأسجل الحقائق مهما كان فيها من ألم ينالني قبل أن ينال غيري ممن جمعتني بهم أية جامعة، وربطتني بهم أقل رابطة. ومضيت في مذكراتي على هذه الوتيرة، فإذا بي أشعر في دخيلة نفسي أنني أؤدي واجبا مفروضا، هو في الحقيقة تسجيل صحيح لناحية من نواحي تاريخ الفن في بلادنا العزيزة، وأصارح القراء الأفاضل بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يشعر بالإقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة في هذه الآونة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هادئ البلبال. على أنني في مذكراتي هذه تناولت الكثيرين بما قد لا يرضيهم، ولكن أحدا لا يستطيع أن يناقضني في حرف واحد مما أثبت هنا، لأنه إن حاول أن يفعل، وقفت الحقائق حائلا بينه وبين ما يريد. فهناك الزميل القديم علي يوسف مثلا … لقد شرحت الكثير مما كان بيني وبينه من مواقع حربية في ميدان الغرام والهيام، وكذلك الحال مع السيدة (ص. ق) التي بلغ تنازعنا عليها حد شك المقالب، وتدبير الفصول الساخنة … كل ما ذكرته عنهما حقائق صادقة. ولعل بعض من تحدثت عنهن قد يسوءهن أن أكشف عن حقيقة رابطتهن الأولى بالمسرح بعد أن أصبحن في سمائه كواكب لامعة. وقد سبق لهن أن تحدثن إلى الصحف كثيرا، وشرحن تاريخ حياتهن كثيرا، ودبجن المقالات كثيرا، فشرحت كل منهن كيف كانت تمثل أمام المرآة، وكيف شغفت بالتمثيل منذ الصغر، وكيف عشقت الفن لذاته … وكيف، وكيف مما لست أذكره، ولكن هل ذكرت في أحاديثها — ولو من باب تقرير الواقع (وبلاش المجاملة حتى) — شيئا عن كيف تقف على المسرح، وكيف تنطق أبجديته؟ أبدا … وكأنه من العار عليها إذا اعترفت بأنها كانت ممثلة في فرقة الريحاني … (وبلاش) مبتدئات يا سيدي!!
نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية. نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية.
https://www.hindawi.org/books/51630730/
مذكرات نجيب الريحاني
نجيب الريحاني
تبرز من بين صفحات هذا الكتاب، مذكرات رائد الكوميديا المصرية والعربية، الضاحك الباكي «نجيب الريحاني» ذلك الممثل العبقري، والموهوب الفذ، الذي استطاع أن يحوذ إعجاب الناس وحبهم، إن الريحاني لم يكن فقط مبدعًا في فنه بل كان مخلصًا له، وراهبًا في مسرحهِ، فكان خير له أن يقضي نحبه فوق المسرح، من أن يموت على فراشه كما يقول. عُرف نجيب الريحاني بأمانته وصدقه، فكان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يميل إلى المواربة والمداراة؛ لذا فقد آلى على نفسه في عرضه لهذه المذكرات أن يسجل ما بها من حقائق مهما كان فيها من ألم يناله قبل أن ينال غيره ممن جمعته به أية جامعة أو رابطة، ويصارح الريحاني القارئ في هذا الكتاب، فيقول له: «بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يُشعِر بالإقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة في هذه الآونة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هادئ البلبال.»
https://www.hindawi.org/books/51630730/1/
نجيب الريحاني كما عرفته
ليس غريبا أن تفكر دار الهلال — بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاة نجيب الريحاني — في إصدار مذكراته التي خصها بها في حياته، وكتبها لها بقلمه، فشعارها كان دائما — ولا يزال — «لا يصح غير الصحيح، ولا يبقى إلا الأصلح». ونشر هذه المذكرات، وفي هذه المناسبة بالذات، تكريم للفن الأصيل في شخص كرس حياته لفنه. وحينما دعتني دار الهلال أن أقدم لهذا الكتاب عن مذكرات أخي وصديقي الراحل نجيب الريحاني، غرقت في لجة من الذكريات، وعادت ذاكرتي إلى أيامنا الماضية، ومرت بخاطري صور الكفاح، وأدركت أنه ليس من السهل على المرء في بعض الأحيان أن يعبر عن نفسه، خصوصا حينما طالعت المذكرات، ووجدت أن الراحل الكريم قد وفى كل نقطة حقها، بصراحته المحبوبة وأسلوبه الشائق. ومن بين صفحات مذكراته برزت حياته الحافلة التي كرسها للمسرح وحده، وبرزت صور الكفاح حية نابضة بالحياة. هذه المقدمة إذا ليست إلا مجرد خواطر … وذكريات … وصور، جمعتها أشتاتا من ذاكرتي، صورة من هنا، وصورة من هناك … والصورة الأولى أن الريحاني لم يكن مجرد ممثل يكسب عيشه من مهنة التمثيل، بل كان فيلسوفا وفنانا … فنانا أصيلا عاش لفنه فقط، ولقي الاضطهاد والحرمان وشظف العيش في سبيل مثله العليا. كان الريحاني يمكن أن ينشأ موظفا ناجحا، وكان أهله يعملون لهذه الغاية. ولكن حب التمثيل كان يجري في دمه، فكان كل ما يكسبه من وظيفته ينفقه في إشباع هوايته، ثم دفعته هذه الهواية إلى هجر الوظيفة، مما أثار استياء أهله. وعانى في سبيل تحقيق حلمه التشريد والجوع والحرمان، وكان من فرط حبه لفنه يلجأ إلى الوظيفة كلما أعيته الحيل، ليجمع بعض المال الذي يتيح له العودة إلى التمثيل … ولقد كافح الريحاني وجاهد حتى انتصر. وكثيرا ما كان تمثيله الرائع يسيطر على مشاعري، فإذا حاولت أن أبدي له إعجابي بتفوقه، نهاني عن ذلك، وشبه نفسه بالعابد القانت، الذي يسعى إلى التقرب إلى الله دون أن يراه. وكان من رأيه أن الممثل الأصيل لابد أن يسعى إلى الكمال المطلق، ويظل يسعى طوال حياته للوصول إلى هذا الكمال … دون أن يراه أو يصل إليه! ولقد كان نجيب يقدس فنه ويحترمه، وكان يكره الاتجاه الذي كان سائدا في تلك الأيام، والذي يدفع الممثل إلى تعاطي الخمر أو المكيفات قبل الصعود إلى خشبة المسرح، على زعم أن الخمر تشجع الممثل على مواجهة الجماهير وتقوي أداءه. ولم يحدث في حياة الريحاني أن شرب كأسا من الخمر قبل التمثيل … وكان من فرط احترامه لفنه يعتكف في غرفته بالمسرح قبيل التمثيل بنصف ساعة على الأقل، ولا يسمح لإنسان — مهما كانت الظروف — أن يعكر عليه عزلته المقدسة. وفي عزلته هذه كان ينفرد بنفسه ليهيئها لمواجهة الجماهير، ويتقمص الشخصية التي سيمثلها، ويندمج في الدور الذي سيؤديه … وكنت إذا رأيته وهو يغادر غرفته الخاصة في طريقه إلى المسرح لأداء دوره، خلته من فرط الانفعال شخصا آخر. والواقع أنه يكون في تلك اللحظة شخصا آخر فعلا: يكون الشخصية التي سيؤدي دورها في مسرحيته. وقد بلغ من حب الريحاني لفنه أنه لم يطق اعتزال المسرح بناء على مشورة الأطباء عام ١٩٤٢، وكان الدكتور روزات قد نصحه بالابتعاد عن المسرح ستة أشهر حرصا على صحته، فما كان من الريحاني إلا أن قال: «خير لي أن أقضي نحبي فوق المسرح، من أن أموت على فراشي»! ولعل «نجيب» هو الممثل الوحيد — بل رئيس الفرقة الوحيد — الذي كانت تسره إجادة أفراد فرقته. وكان بعد أن يفرغ من أداء دوره يقف بين الكواليس، ويظل يشجع أفراد فرقته بالإشارات والإيماءات، بل يقدم هدايا شخصية للمجيدين. وكانت الصحف تتهمه بالكسل، ولكنه لا يعبأ بالاتهام ويقول: «خير لي أن أواجه الجمهور بمسرحية واحدة كاملة، من أن أقدم له عشر مسرحيات ضعيفة، أو فيها مواضع ضعف». ولهذا السبب كان يهتم جدا بالبروفات، وكثيرا ما كان يقضي شهرا كاملا في إجراء التدريبات على فصل واحد من فصول مسرحياته. ولم يكن الريحاني الفنان يعبأ بالمادة في سبيل الإتقان، وكثيرا ما أنفق، وأغرق في الإنفاق، وركبته الديون، في سبيل إخراج مسرحية يريد أن يبلغ بها حد الكمال. كان لا يبخل على فنه أبدا، بل لقد كان يتبرم من امتلاء المسرح في الليالي المزدحمة، فقد كان يرى أن هذا الازدحام يحرمه من الجو الهادئ الذي يتيح له الإجادة. كان يفرح للجمهور المحدود، وكانت مواهبه بالفعل تبرز وتتجلى وسط المتفرج الهادئ، مع ما في ذلك من الفوارق المادية بالنسبة إليه كصاحب فرقة. وكان يشترط — لدى تعاقده مع المتعهدين والجمعيات الخيرية — ألا تباع تذاكر أعلى التياترو في الأوبرا بمصر، والهمبرا بالإسكندرية، على أن تقتطع قيمة ما تدره هذه الأماكن من الأجر الذي يتقاضاه شخصيا. ••• لقد كان فنانا أصيلا، مؤمنا بفنه ورسالته، وقد كوفئ على جهوده الصادقة وصبره وإيمانه، فقد انتزع تقدير الجميع واحترامهم واعترافهم بفنه. ولكن أكبر مكافأة وأعزها بالنسبة للريحاني كانت من أمه التي حاربت فنه واحتقرته، فقد أثمرت جهوده زهوا وفخارا من الأم بعمل ابنها، لذلك لم يكن يمل من رواية القصة التالية، في فخر وإعزاز وسعادة: «كانت والدتي تأنف من مهنة التمثيل، وتكره أن يعرف عني أنني ممثل. وحدث أن كانت رحمها الله في عربة «المترو» عائدة إلى المنزل في مصر الجديدة، فسمعت رهطا من الركاب يتذاكرون شئونا فنية ورد أثناءها اسمى، فأرهفت أذنها لسماع الحديث، وأصغت إليه بكل انتباه دون أن تشعرهم. وما كان أشد دهشتها حين سمعتهم مجمعين على الثناء علي، وامتداح عملي، والإشادة بمجهودي … أتدري ماذا كان من هذه الوالدة العزيزة، التي تحتقر التمثيل وتنكره؟ لقد وقفت وسط عربة «المترو»، واتجهت إلى أولئك المتحدثين، وقالت بأعلى صوتها: «الراجل اللي بتتكلموا عنه ده يبقى ابني، أنا والدة نجيب الريحاني الممثل»! … وخللي بالك من «الممثل» دي، وهي الكلمة التي كانت أمي تأنف أن «أوصم» بها، قد أضحت موضع زهوها وفخارها! وفي هذا اليوم، يوم المترو الذي لا أنساه، تفضلت والدتي رحمها الله، فشرفتني بالحضور إلى تياترو الأجيبسيانة خصيصا لمشاهدة ابنها الذي يقدره الناس دونها ويمتدحونه، فكان هذا اليوم من أسعد، إن لم أقل أسعد، أيام حياتي»! ولقد عاش الريحاني ليرى تكريم فنه والاعتراف به، فحين دعت شركة جومون الفرنسية عددا من كبار الممثلين والممثلات، وكان من بينهم الممثلان العملاقان «رايمو وفيكتور بوشيه»، ليشهدوا تمثيله أثناء إخراج فيلم ياقوت، بباريس، بلغ من إعجابهم به أن طلبوا إليه دعوة فرقته لتقديم حفلات في المدن الفرنسية، كلون من ألوان الفن الشرقي، بل وتعهدوا بالإشراف على هذه الحفلات! وفي حفلة أقامها نادي الضباط المصري قدم الريحاني مسرحية «حكم قراقوش» فهرع إلى تهنئته والإعجاب به سير سايمور هيكس، عميد المسرح الإنجليزي إذ ذاك، وقرر أنه إنما يشهد ممثلا في الصف الأول من الممثلين العالميين. ولقد لقي الريحاني تكريم عظماء عصره، وكان من بين المعجبين به طلعت حرب، وسعد زغلول، وهدى شعراوي، وتوفيق نسيم، وغيرهم. ولقد كانت للريحاني مبادئ في التمثيل ينفرد بها، فقد كان رحمه الله يعتنق مبدأ في «الميزانسين» — أي ترتيب حركة وأوضاع الممثلين — تخالف المألوف … كان يترك للممثل الحرية في تغيير ما يشاء منها كل ليلة حسبما يقتضيه تكييف الممثل لميله واتجاهاته، ولكنه مع ذلك كان يتمسك بحرفية ألفاظ المسرحية دون تغيير أو تبديل! ••• والصورة الثانية هي صورة الريحاني الممثل الكوميدي، الذي أجبره جمهوره إجبارا على المسير في الاتجاه الكوميدي. ولقد كان الريحاني يحب الدراما، وربما كان ذلك بسبب الظروف القاسية التي مرت به. وكان على قدر مرحه وفكاهته، يعاوده الحزن في فترات متقطعة لمأساة أصغر إخوته «جورج الريحاني» الذي اختفى قبل موته بسنوات طويلة لغير ما سبب. وقد ظل سبب اختفائه حتى مات نجيب الريحاني — ولا يزال — لغزا غامضا تكتنفه الإشاعات، فمن قائل إنه أسلم وانضم إلى جماعات الصوفية، ومن قائل إنه ترهب واعتكف في أحد الأديرة! وكان الريحاني يحن من وقت إلى آخر للدراما، ولكنه كان لا يلقى تجاوبا من الجمهور، ويقول الريحاني نفسه عن ذلك: «بلغ ما اقترضته عندما تحولت للدراما أربعة آلاف جنيه، وكان عدد الدائنين ثمانية وعشرين، فتصور مقدار ما كانت تسببه لي هذه الديون من ارتباكات متوالية، ثم تصور حالتي النفسية إزاء ذلك، ثم أعرني انتباهك لأقص عليك أن نكبتي لم تقف عند هذا الحد، إذ أصبحت هدفا لسخرية القوم، وشماتة الغير، وتهكم صاحبة الجلالة الصحافة … كل هذه الحملات التي انصبت على رأسي متتابعة، كانت لأنني تجاسرت على «قدس» الدراما من غير «إحم» ولا «دستور!». نعم … أجبره جمهوره على ترك الدرامة، فقد كان الجمهور يراه فكها بالسليقة، أو كما عبر عنه أحدهم: «لا تتمالك أن تراه حتى تضحك، ولو من تكشيرته ووجهه المكفهر»! والواقع أنه حتى في تعبيراته وإيماءاته وحركاته كان فكها غير متكلف. كانت الفكاهة في دمه، وكان الممثل المفضل عنده هو شارلي شابلن، الذي كان يعتبره فيلسوف الفن، ولك أيها القارئ أن تقارن بين المعجب والمعجب به. لقد كان كلاهما فيلسوفا، وكانت فلسفة الضحك على نقائص المجتمع الذي يعيش فيه، فلسفة إصلاح تهدف إلى علاج هذه العيوب بإبرازها في شكل يجعلنا نضحك منها ونسخر! ومع ذلك فقد كان لا يفتأ يعاوده الحنين إلى الدراما، فلما كتب عليه ألا يمارسها، كان يرضي ميله هذا بتغذية مسرحياته الفكاهية بالكثير من الدراما، ولولا محاولاتي الدائمة للحد من هذا الاتجاه، تمشيا مع رغبات الجمهور الذي كان يرى أنه خلق للفكاهة، لتمادى فيه! ••• «حين رأيت من الجمهور المثقف، ومن عامة الشعب هذا الإقبال المنقطع النظير، رأيت أن أستغله استغلالا صالحا، وأن أوجهه التوجيه النافع، فرحت أنقب عن العيوب الشعبية، وأبحث عن العلل الاجتماعية التي تنتاب البلاد. ثم أُضمِّن ألحان الروايات ما يجب من علاج ناجع لمثل هذه الأدواء. كذلك راعيت في كثير من هذه الألحان أن تكون أداة لإيقاظ شعور الجمهور، وتعويده حب الوطن، وإعلاء شأنه، والمحافظة على كرامته، والتغني بمجده الخالد، وعزه الطريف التالد. وكان من آثار هذا الإقبال، وذلك النجاح، أن تضاعف الخصوم والحساد، واختلفت أسلحة كل منهم في حربي: فمنهم من كان يطعن من الخلف بخسة ودناءة، ومنهم من كان يغازلني جهارا على صفحات الجرائد اليومية»! وأشهد أن الريحاني لم يأبه بهذه الحملات على شخصه، وظل سادرا في حملاته التهكمية اللاذعة، فالريحاني إذن قد مهد بفنه للثورة الحديثة التي حررت مصر من الأدواء التي ضحك منها وتهكم عليها، وعلى رأسها الاستعمار والاستبداد والطغيان والاستغلال. واستمع إلى أغاني سيد درويش التي ضمنها الريحاني مسرحياته، تستمع إلى ثورة متأججة في سبيل العزة والكرامة والحرية. لقد كان الريحاني هو الفنان الوحيد الذي وقف في وجه السراي، وتهكم على الجالس على العرش، وأبرز مساوئ محترفي السياسة وأضحك الناس عليهم جميعا، مما أثار حقدهم وغضبهم. ••• «كانت لوسي صديقة لي، وكانت عونا في الشدة، ومساعدا يشد أزري، ويشدد عزمي، ولئن ذكرت في حياتي شيئا طيبا، فأنا أذكر أيام زمالتها، وعهد صداقتها». وكان الريحاني يؤمن بالحظ والفأل والأحلام. استمع إليه يقول حين اختلف مع صديقته لوسي وفارقته: «في أواخر عام ١٩٢٠ كان الخلاف قد دب بين الصديقة لوسي وبيني، فافترقنا إلى غير عودة، ويقيني أن هذا الفراق كان أولى النكبات التي صبها القدر فوق رأسي، وساقها إلي حلقات متتالية، يأخذ بعضها برقاب بعض. ذلك لأن ما كان يغمرني من خير جارف، أضحى بعد ذلك البحر جفافا من كل ناحية، بل وشرا مستطيرا حتى لقد اقتنعت تماما أن هذه الفتاة كانت هي مصدر الأرزاق، وأنها إنما حملت في جعبتها بسمات الدهر، وحظ العمر»! ولعل إنسانية الريحاني تبرز وتتجلى في أبرز صورها في جهوده التي بذلها في أواخر أيامه، لحث الحكومة على إقامة ملجأ للممثلين المتقاعدين، وحين شيد بيته الذي مات قبل أن يسكنه، كان يريد أن يخصصه بعد وفاته لهذا الغرض النبيل، ولولا أن المنية عاجلته، لكان قد أتم الإجراءات الرسمية، وتم له تحقيق أمنيته. ••• هذا هو الريحاني الذي تقرءون مذكراته اليوم … الريحاني الفنان الأصيل، الذي كرس حياته لفنه الذي أحبه، وضحى بكل شيء في سبيله، ولقي الاضطهاد والحرمان والجوع في سبيله. وإن لهذا الكتاب لمعنى جليلا … معناه أن الريحاني الفنان لم يمت، ولكنه خالد في قلوب محبيه … معناه أن الفنان الصادق لا يموت.
نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية. نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية.
https://www.hindawi.org/books/51630730/
مذكرات نجيب الريحاني
نجيب الريحاني
تبرز من بين صفحات هذا الكتاب، مذكرات رائد الكوميديا المصرية والعربية، الضاحك الباكي «نجيب الريحاني» ذلك الممثل العبقري، والموهوب الفذ، الذي استطاع أن يحوذ إعجاب الناس وحبهم، إن الريحاني لم يكن فقط مبدعًا في فنه بل كان مخلصًا له، وراهبًا في مسرحهِ، فكان خير له أن يقضي نحبه فوق المسرح، من أن يموت على فراشه كما يقول. عُرف نجيب الريحاني بأمانته وصدقه، فكان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يميل إلى المواربة والمداراة؛ لذا فقد آلى على نفسه في عرضه لهذه المذكرات أن يسجل ما بها من حقائق مهما كان فيها من ألم يناله قبل أن ينال غيره ممن جمعته به أية جامعة أو رابطة، ويصارح الريحاني القارئ في هذا الكتاب، فيقول له: «بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يُشعِر بالإقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة في هذه الآونة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هادئ البلبال.»
https://www.hindawi.org/books/51630730/2/
أوَّل الطريق
لست في حاجة إلى أن أرجع بالذاكرة إلى التاريخ الذي تلقفتني فيه كف العالم، فأقول مثلا إنني ولدت لخمس خلون من شهر كذا عام كذا … أو أن ولادتي اقترنت بظهور كوكب دري في الأفق اعتبره أهلي طالع يمن وإقبال … أو … أو مما لا أرى فيه للقراء من فائدة، ويكفي أن أقفز بهم إلى سن السادسة عشرة، حين غادرت مدرسة الفرير بالخرنفش، بعد أن تزودت بالمئونة الكافية من تعليم وخبرة. كنت في عهدي هذا أميل إلى دراسة آداب اللغة العربية، وأتوسع في الحصول على أكبر قسط من فنونها ولاسيما الشعر وتاريخ الشعراء. لم أكتف إذ ذاك بما كنت أتلقى في المدرسة فجيء لي بمدرس خاص اسمه الشيخ بحر، كان يسر كثيرا حين كنت ألقي بعض المحفوظات بصوت جهوري، ونبرات تمثيلية، وإشارات تفسيرية، وما إلى ذلك مما كان يعتبره الشيخ بحر نبوغا وعبقرية. أما كيف تولدت عندي هواية التمثيل فقد نشأ ذلك من إعجاب أستاذي الشيخ بحر بي وبإلقائي، كذلك كانت المدرسة تكلف طلبتها بين وقت وآخر بتمثيل بعض الروايات على مسرحها، وكثيرا ما كنت أندب لتمثيل الأدوار الهامة في هذه الروايات. وحين هجرت المدرسة اندمجت في سلك موظفي البنك الزراعي بالقاهرة. وتشاء المصادفات الغريبة أن يكون بين موظفي البنك في ذلك العهد الأستاذ عزيز عيد الذي لم يكن عمله هذا يمنعه عن موالاة التمثيل. وهنا أرى أن أشير إلى أول رواية اشتركت في تمثيلها وهي رواية (الملك يلهو) وكان قد ترجمها أديب اسمه أحمد كمال رياض (بك). وإذا كنت قد أشرت إلى أول رواية فليسمح لي القارئ العزيز أن أعرج على أول غرام علق به قلبي. كنا نجلس في قهوة إسكندر فرح المجاورة لمسرحه بشارع عبد العزيز (موضع سينما أولمبيا الآن) وكان بين الممثلين من زبائن هذه القهوة الممثل القديم علي أفندي يوسف الذي أصبح بعد ذلك من عتاة متعهدي الحفلات. وكان لعلي «قطقوطة» من بين الممثلات ما تزال إلى اليوم في عنفوان … «الشيخوخة» تحتل أحد أركان قهوة الفن، كما كانت في الماضي تأوي إلى مثل هذا الموضع من قهوة إسكندر فرح، وتلك «القطقوطة» هي السيدة (ص. ق). كان علي يوسف يعتز بصداقة هذه الفتاة «باعتبار ما كان»، فلما كنت أذهب لأشاركهما في الحديث، كانت نظرة فابتسامة فمش عارف إيه … فشبكان!! وظلت أواصر الصداقة تنمو بيني وبين فتاة علي يوسف هذه، بينما كانت تتراخى بينها وبين صديقها، دون أن يعلم الرجل من أمرنا شيئا!! وأخيرا «لعب الفار في عبه» … وقاتل الله الفيران كلها من أجل خاطر هذا الذي لعب في عب أبي يوسف. أقول إن الشك بدأ يساوره، لكنه كان علي جانب كبير من اللؤم، فلم يبد لنا شيئا مما في نفسه، وعمل على مراقبتنا من حيث لا نشعر!! كنت في ذلك الوقت «ظبيا» في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمري، ومع عدم المساس بفضيلة التواضع أرى ألا مانع من الاعتراف أن «خلقتي» لم تكن لتقارن ﺑ … أستغفر الله العظيم، خلقة الصديق اللطيف علي يوسف، زد علي ذلك أنني كنت موظفا مضمون الإيراد، في حين كان منافسي (يا مولاي كما خلقتني). كل هذه العوامل شدت أزري وقوت سببي فاتفقت مع الغزال النافر، على تمضية نهاية الأسبوع في الإسكندرية بعيدا عن علي يوسف ورقابته القاسية. ومعروف أن يوم الأحد هو موعد العطلة الأسبوعية في البنوك، فحصل الرضا والاتفاق بيني وبين … محبوبي!! على أن نغادر القاهرة ظهر السبت إلى الثغر، ثم نعود منه صباح الاثنين ولكن اسمع ماذا حدث …. قبل موعد الخروج من البنك زارني في مكتبي الصديق علي يوسف وألح علي في أن أقرضه شيئا من المال لأنه دعا بعض زملائه إلى نزهة خلوية، ولذلك يحتاج إلى كذا من»الفلوس»!! فأعطيته ما طلب … وأنا أحمد الله على «زحلقته» وأدعو بطول العمر لأصدقائه أولئك الذين شغلوه عني في هذا الظرف السعيد. وودعت أبا يوسف إلى الباب وعدت إلى مكتبي مطمئنا. وفي الموعد المحدد قصدت إلى محطة سكة الحديد فوجدت «الكتكوتة» على أحر من الجمر في انتظاري على رصيف القطار الذي امتطيناه وقلوبنا ترقص فرحا. وسار القطار بنا ينهب الأرض نهبا ونحن نحلم بالسعادة التي سترفرف علينا بأجنحتها في الثغر الباسم! ووصل بنا القطار إلى الإسكندرية فنزلنا نسير وخلفنا «الشيال» يحمل حقيبتنا «المشتركة» وما كدت أسير خطوات متأبطا ذراع المحبوبة، حتى برز أمامي عزرائيل! في ثياب الصديق الملعون … علي يوسف!! لقد اقترض اللعين مالي … واشترى منه تذكرة السفر وجاء معنا في عربة أخرى بالقطار نفسه، وراح يستقبلنا هاشا باشا مرحبا، وهو يمد يده لي بالتحية شاكرا إياي على قيامي بدفع نفقات السفر، لحضرته ولحضرة بسلامتها «الست المصونة والجوهرة المكنونة» … التي استلبها مني وتركاني أعض بنان الندم … ولات ساعة مندم!! أصارحك أيها القارئ الحبيب بأن الدنيا أظلمت في عيني في تلك اللحظة. وأحمد الله إذ كنت خلوا من السلاح. ولم أكن أحمل حتى ولا سكينة البصل، فأغسل بها الشرف الرفيع من الأذى!! وذهب العاشقان بينما ظللت واقفا في مكاني، حتى دنت ساعة القطار العائد إلى مصر فامتطيته وجئت أضرب أخماسا في أسداس!! ولنعد إلى غرامي بالتمثيل. لم أكن في هذا الوقت أميل للكوميدي، بل كانت كل هوايتي منصبة على الدرام وحده. وكم كنت أستظهر قصائد هيجو وأشعار المتنبي ولزوميات أبي العلاء المعري، ثم أخلو بنفسي في المنزل، وهات يا إلقاء، وخذ يا تمثيل، حتى ضجت والدتي وكاد «يهج» من البيت إخوتي. ومع ذلك فإنني لم أكن أعبأ بمثل هذه العراقيل، وما دمت أرضي هوايتي، فبعدها الطوفان. وفي سنة ١٩٠٨ استقال الأستاذ عزيز عيد من عمله في البنك وألف فرقته التمثيلية الأولى، مشتركا مع الممثل القديم سليمان الحداد. وقد احتلت هذه الفرقة مسرح إسكندر فرح بشارع عبد العزيز. وكانت رواياتها تترجم عن الفرنسية وكلها من نوع الفودفيل، ولعل القراء الأفاضل لم ينسوا بعد روايات «ضربة مقرعة» و«الابن الخارق للطبيعة» و«عندك حاجة تبلغ عنها» و«ليلة زفاف». وهذه الأخيرة ترجمها الأديب الكبير إلياس فياض. وقد كنت بحكم ارتباطي برابطة الزمالة مع الأستاذ عزيز في البنك عضوا في الفرقة، وكانت تسند لي في هذه الروايات أدوار ثانوية صغيرة. ولم يكن هذا ليضيرني لأني — كما قلت — لم أكن أميل لهذا النوع إطلاقا. وهنا كان إهمالي لعملي في البنك قد بلغ حدا لا يحتمله أحد والشهادة لله. فكم من ساعات بل أيام كنت أتغيبها وكم من ممثلة كانت تقتحم علي مكتبي في البنك — وخصوصا منية القلب الست «ص!». ولم تجد إدارة البنك إزاء هذه الحالات الصارخة إلا أن تستغني عن عملي. وأي عمل يا حسرة؟ هو أنا كنت باشتغل؟! لم يكن لي مثوى بعد هذا «الرفت» القاطع إلا «قهوة الفن» — أمام تياترو إسكندر فرح — أو منزل (حبيبة الفؤاد) في غيبة «صديق الطرفين» الأخ علي يوسف! وما دام الحديث قد جرنا إلى هذين الصديقين فلنعرج عليهما بحادثة أخرى كاد يغمى علي بعدها. ذلك أن الفتاة — باعتبار ما كان — اتفقت وإياي على إشارة معينة هي أنها إذا وضعت نورا في النافذة، كان معنى ذلك أن عليَّ بن يوسف غائب عن البيت، وأن في وسعي أن أزورها، والعكس بالعكس. وفي إحدى الليالي تراءى لي أن نورا يشع من النافذة، فعرفت أن الطريق خال وأن السنافور مفتوح، فخلعت حذائي وتأبطته ثم صعدت درجات السلم بلا حركة، وطرقت الباب طرقا خفيفا جدا. وإذا الفاتح!! الفاتح هو غريمي العزيز علي يوسف!!! الذي تناول الحذاء من يدي، وتركني أعدو، إلى الشارع ببذلتي حافي القدمين!!! أعود إلى قهوة الفن إياها. فأقول إنني اتخذت منها — بعد فصلي من البنك — محلا مختارا. وبعد أيام صادفني فيها الأستاذ أمين عطا الله فعرض علي أن أسافر معه إلى الإسكندرية بدال اللطعة اللي أنا ملطوعها، لأن أخاه الأكبر المرحوم سليم عطا الله ألف فرقة هناك هي محل عطف البلدية التي تساعدها بإعانة مالية. وقبلت بالطبع هذا العرض ولاسيما أن المرتب كان مغريا جدا … أربعة جنيهات مصرية في الشهر! وهو أول مرتب ذي قيمة تناولته من التمثيل. كانت فرقة المرحوم سليم عطا الله معتزمة تمثيل رواية (شارلمان الأكبر)، ولما كان العرف يقضي إذ ذاك بأن يسند دور البطولة إلى مدير الفرقة — وهو سليم عطا الله — فقد كان نصيبي هو الدور الثاني وهو دور شارلمان نفسه! وتهيأت لي الفرصة التي كنت أرقبها من زمن، وهي أن يسند إلي دور في إحدى الدرامات. وفي نهاية الفصل الثالث من الرواية مشهد رائع وحوار بديع، بين (شارلمان) وبين بطل الرواية (سليم عطا الله) وقد أجهدت نفسي في أداء هذا المشهد وبذلت قصارى جهدي. فكان لي ما ابتغيت. إذ حالفني النجاح بشكل لم أكن أنتظره، حتى لقد أفهمني الكثيرون أنني طغيت على البطل نفسه وأغرقته في لجة الإعجاب التي سبحت فيها ظافرا. وحين أسدل ستار هذا الفصل، هالني أن جمهرة من الفضلاء والأدباء — وأغلبهم من أصدقاء مدير الفرقة — صعدوا إلى المسرح وقابلوا المدير في غرفته، وطلبوا استدعائي حيث أجزلوا تهنئتي، ونصحوا للمدير بالاحتفاظ بي، لأنني سأكون — على حد قولهم — ممثلا لا يشق لي غبار. وفرحت، لا بل «ظقططت» بعد هذا المديح الذي انهال علي من حيث لا أحتسب. وفي صباح اليوم التالي استدعاني الأستاذ سليم مديرنا (رحمه الله) فقلت يا واد جاك الفرج! وظللت أخمن وأحذر مقدار العلاوة التي سيتحفني بها وإن كنت أنا شخصيا قانعا بالجنيهات الأربعة التي ربطت لي. وحبكت أزرار جاكتتي، ودخلت على مديري باسما متهللا معللا نفسي بالآمال قائلا في سري … إنه يكفيني أن تكون العلاوة جنيها واحدا و«خليني» لطيف، لأن (الطمع يقل ما جمع). وبعد هذا الحوار الظريف بيني أنا نجيب الريحاني وبين نفسي التي هي أمارة بالسوء، ابتدرني المدير قائلا بتلك الجملة المأثورة التي لا يزال صداها يرن في أذني: – أنا متأسف جدا يا نجيب أفندي لأن الفرقة استغنت عنك …! يا نهار زي الحبر يا أولاد!! استغنت عني!! وهل يعتبر النجاح جرما يعاقب عليه الممثل؟ وإذا كان الأمر كذلك فلم لم تصدر لي الأوامر قبل التمثيل حتى كنت ألجأ إلى السقوط التام والفشل الزؤام؟! نهايته. لم أجد فائدة من الأخذ والرد فأخذتها من قصيرها وعدت أدراجي إلى القاهرة، وفي قهوة الفن متسع للجميع!! ومن فات قديمه تاه!!! طال بي عهد الخلو من العمل، فحفيت قدماي سعيا، حتى كانت سنة ١٩١٠، حيث عثرت على وظيفة في شركة السكر بنجع حمادي فسارعت إلى تسلم عملي هناك، مبتعدا عن العاصمة وما فيها من شقاء، تاركا خلفي ذلك الوسط الخبيث، وسط التمثيل الذي أعشقه وأتمناه!! وأظهرت نشاطا في العمل بشركة السكر كان موضع ثناء رؤسائي وإعجابهم. وبسم لي الدهر بعد عبوس وحالفني بعد خصام، وظللت أشق طريق المستقبل راضيا مطمئنا. ودام الحال على ذلك سبعة أشهر فإذا المثل الخالد: «عند صفو الليالي يحدث الكدر». أقول إن هذا المثل تراءى لي شبحه بعد هذه الأشهر السبعة فقوض ما بنيت للمستقبل من قصور الآمال، وحملني توا من حال إلى حال. هذا «الكدر» سببته واقعة … قاتل الله الشيطان … واقعة أذكرها هنا من باب التسجيل فقط، وإن كان الخجل يكسوني كلما طوح بي الفكر إلى تلك الذكرى البعيدة، ولكن ما باليد حيلة!! كان باشكاتب الشركة رجلا مسنا اسمه (عم. ت) وكان رحمه الله على نياته وإذا ضربه أحد على خده الأيمن أدار له الأيسر، وكان كل همه أن يتلو الإنجيل ويستوعب معانيه. وكان مسكني مواجها لمسكنه وقد ولدت هذه الجيرة بيننا اتصالا وثيقا. كانت السيدة حرم (العم ت) على جانب كبير من الجمال. وكانت في سن تسمح لها بأن تكون ابنة (للعم ت) لا زوجة له. كذلك كان الحال معي. وإلى هنا تسير المسألة في مجراها الذي ترسمه طبيعة كل شيء. وفي أحد أيام الشهر السابع، اضطرت الأعمال حضرة الباشكاتب إلى السفر لمصر في مهمة مصلحية، وإذ ذاك خلا الجو للشباب. وحلا له أن يمرح، فحدث أن اتفقنا على ألا تغلق السيدة بابها الخارجي، حتى أستطيع المرور في منتصف الليل! وتم الترتيب كما اتفقنا، وذهبت السيدة إلى مخدعها بعد أن تظاهرت أمام خادمتها أنها أقفلت الأبواب. ولكنني لا أدري أي شيطان دفع بهذه الخادمة اللعينة إلى القيام بعد ذلك وإحكام القفل من الداخل. وحان موعد اللقيا فتسللت، وما أشد دهشتي حين وجدت الباب موصدا دون غرامي وأحلامي. واستشرت الشيطان فيما أفعل فدلني — قاتله الله — إلى منفذ في السقف (منور) تدليت منه ولكن الخادمة استيقظت في نفس اللحظة، وظنتني لصا يسطو على المتاع، فصرخت بصوتها المنكر، وصحا الجيران، ووفد الخفراء وألقي القبض علي. وكانت فضيحة اكتفوا عقبها بفصلي من عملي فعدت إلى محلي المختار في قهوة الفن بشارع عبد العزيز. لم يعد لي مجال في البيت بعد فصلي من شركة السكر، لأن والدتي كانت قد ضاقت بي، فأقفلت بابها دوني. وأنا رجل لم أعتد أن أطأطئ هامتي أمام أي خطب. فما العمل؟ وماذا أفعل لأحصل على القوت الضروري؟ أقسم أيها القراء الأعزاء أنني قضيت ثماني وأربعين ساعة لم أذق خلالها للأكل طعما. لا زهدا مني، ولا أسفا على شيء، ولكن لأنني لم أجد وسيلة أكتسب بها ثمن «لقمة العيش بلا أدام». ومع ذلك لم أحن رأسي ولم تذل نفسي، وبقيت أنا كما أنا ويفعل الله ما يشاء. ولو كان أمري قاصرا على الجوع وحده لهان، ولكنني لم أجد كذلك مكانا آوي إليه كلما أدركني الليل، وذهب كل حي في المدينة يلتمس الراحة في فراشه. لذلك كنت أقضي الليالي وحيدا، أمكث في (قهوة الفن) إلى موعد التشطيب في الساعة الثانية من كل صباح، ثم أغادرها إلى كوبري قصر النيل، فأجوب تجاه الجزيرة سائرا على قدمي، حتى إذا أعياني الكد والنصب، استلقيت على الإفريز جانبا وتوسدت حجرا من أحجار الطريق مستريحا، إلى أن ترسل الغازلة أشعتها، فأستيقظ من نومي «الهنيء» وأعود أدراجي إلى المقر الرسمي (قهوة الفن). وإن نسيت فلن أنسى يوما قمت فيه من النوم، وتلفت فإذا تحت وسادتي «كنز»!! كنز ثمين يا سادتي لا يعرف قيمته إلا المفلسون!! هذا الكنز هو … أتعرفون ما هو؟ «قرش تعريفة»!! وافرحتاه! خمسة مليمات … حتة واحدة!! ما هذا الفتوح؟ وما هذه البشرى؟ حقا يا سادتي إذا كان المثل يقول «الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يشعر به إلا المرضى» … إذا كان المثل يقول ذلك فإنني أخالفه، وأقول: القرش التعريفة كنز في جيوب الأغنياء لا يحس به إلا المفلسون. وعنها وسعت على نفسي في الإفطار، وإن شا الله ما حد حوش …! فقد أكلت طعاما دسما عماده الفول المدمس والسلطة والطعمية، والعيش كمان، لأن أيامها كانت الدنيا مبحبحة و«القرش التعريفة» ثروة!! وفي إحدى الليالي، وبينما كنت أقطع الجزيرة كعادتي كل مساء بعد تشطيب قهوة الفن، كان الظلام حالكا وكنت أتلمس مكانا أستريح فيه، فتعثرت قدمي بشيء تحسسته فإذا هو إنسان!! وحين استيقظ، وجدت فيه صديقي العزيز الكاتب المعروف الأستاذ محمود صادق سيف!! يا للداهية ما الذي جاء بك إلى هنا يا محمود؟ فأجابني بصوته الأجش إياه: «هو الذي جاء بك أنت يا نجيب!!». قلت: إذن كلانا يسكن «فندقا واحدا»، وانطلقت منا ضحكة عالية هتكت أسرار الليل! وقمنا نسير سويا، وكل منا يشكو حاله لزميله. فاتفقنا على أن نتلاقى معا بعد منتصف كل ليلة لنتسامر، ونقتل الوقت في الحديث قبل أن يقتلنا جوعا. وسارت الأيام معنا سيرها العادي، إلى أن جاءني الزميل صادق سيف يوما وهو مبتهج متهلل، وقال: «اسمع يا نجيب … فيه فكره عال! يمكن ينصلح معها الحال». إيه هيه؟ أجاب صادق: «إن صاحب مكتبة المعارف كلفني أن أعرب عن الفرنسية أجزاء بوليسية من رواية اسمها «نقولا كارتر»، واتفق معي على أن أتناول منه نظير ذلك مائة وعشرين قرشا عن كل جزء، وبما أن هذه الأجزاء ستصدر أسبوعية، فسيكون هذا القسط من حقنا كل أسبوع … وبما أنك تجيد الفرنسية كما أجيد أنا العربية فهيا بنا نشترك في العمل ونقتسم الثمن مناصفة!». وفي الحال نفذنا الفكرة وظللنا نتقاضى الأجر فرحين مغتبطين. ولعل مما يجدر ذكره في هذه المناسبة، أن أقول إن صاحب مكتبة المعارف كان يدير فندقا في أعلى المكتبة، فاتفق وإيانا على أن نستأجر إحدى غرف الفندق نظير مبلغ خمسة قروش عن الليلة، وكان يخصمها من الأجر الذي نتقاضاه منه عن تعريب أجزاء روايات نقولا كارتر!! والطريف أن الحجرة كانت تحتوي على سرير، وكنبة مفروشة، فكان السرير بالطبع موضع نزاع دائم بيني وبينه على أن نتناوب احتلاله ليلة بعد أخرى، بحيث ينام أحدنا فيه ليلة، بينما يكون زميله نائما فوق الكنبة!!! وبعد فترة من الوقت قابلني الأستاذ مصطفى سامي، وأبلغني أن فرقة شقيقه الشيخ أحمد الشامي تحتاج إلى مترجم ينقل إلى العربية روايات الفودفيل الفرنسية من نفس النوع الذي كان يعربه الأستاذ عزيز عيد وتمثله فرقته، واتفقت أنا على الانضمام إلى فرقة الشيخ أحمد الشامي، كمعرب وممثل بماهية قدرها أربعة جنيهات في الشهر. والفرقة كانت جوالة تجوب مدن القطر من أقصاه إلى أقصاه، وكانت بطبيعة الحال إذا نزلت في بلدة اضطرت إلى البقاء فيها أسابيع، وربما أشهرا. فنزول أفرادها في فنادق كان من المتعذر جدا لأن هذا يكلف الفرقة مصاريف باهظة. ومن ثم كانت الإدارة تعمد إلى استئجار بيت من (بابه) ينزل فيه الجميع ويطلق عليه اسم «بيت الإدارة». ولما كانت هذه البيوت غير مفروشة، فقد كانت تصدر إلينا التعليمات من إدارة الفرقة، قبل مغادرتنا القاهرة، كي يستعد كل منا بما يحتاجه من «مراتب» ومخدات و«ألحفة»، وكم كان منظرنا باعثا على الضحك حين كنا نلف المرتبة والمخدة واللحاف في «بقجة» ونقصد إلى محطة السكة الحديد. نزلنا أولا في بني سويف، وصحبت «بقجتي» إلى البيت الذي قادونا إليه «بيت الإدارة». وبعد بني يوسف انتقلنا إلى غيرها، وظللنا كالمستكشفين بلد «تشيلنا» وبلد «تحطنا» حتى أتينا على آخر حدود مصر في أقصى الصعيد. وقد كان الناظر إلى بيت الإدارة في أي بلد من البلاد، يتراءى له فريق من المهاجرين لفظتهم أوطانهم وراحوا يبتغون العيش في بلاد الله … لخلق الله! ولما كنت من صغري أحب (أتعايق وأتهندز)، فقد كان يضايقني أن تقصر يدي دون الحصول على أجر مكوى ملابسي. ولكن كانت الحاجة تفتق الحيلة. وما دامت هناك «مراتب» أرضية فقد أغناني الله عن المكوى، وتعسف المكوجية، ذلك أنني كنت أرتب «البنطلون» ترتيبا منظما كما يفعل «المكوجي»، وأضعه بهذه الكيفية تحت «المرتبة»، فإذا نمت فوقها فعلت بالبنطلون نفس ما تفعله المكواة. وفوق كل ذي علم عليم! أما المشاجب، أو بالعربي الذي نفهمه نحن وأنتم «الشماعات»، فلم تكن لنا بها حاجة. ففي الحبال التي كنا نمدها في الغرف متسع للجميع، إذ كنا نعلق ملابسنا، أو بمعنى أصح ننشرها فوق هذه الحبال كما يفعل العرب الرحل إلى وقتنا هذا. وأعود إلى العمل فأقول إنني ترجمت للفرقة رواية «الابن الخارق للطبيعة» ورواية «عشرين يوما في السجن». وبعد أن «شطبنا» على الوجه القبلي عدنا أدراجنا إلى القاهرة، لا لنحط بها الرحال ولكن لنستعد إلى غزو «الوجه البحري» وقد كان، إذ قمنا من فورنا «وفتحنا» طنطا!! في (بيت الإدارة) بطنطا، وفي الساعة العاشرة من صباح أحد الأيام، بينما كنت أقوم بعملية «التمرغ» فوق المرتبة إتماما لكي بنطلوني، إذ طرق الباب طارق، وفتح أحد زملائي، فإذا الطارق والدتي بعينها!! وا كسوفاه! وا خجلاه! لقد كنت والله أتمنى أن تشق الأرض في تلك اللحظة وتبتلعني حتى لا تراني «أمي» على الحال التي كنت بها، خصوصا وأنني كنت (عامل أبو علي) طالع فيها، ومتظاهر بأنني في غير حاجة إلى أهلي ما داموا ينكرونني، ويرون في التمثيل رأيا لا أقرهم عليه. وقد سبق أن قلت بأنني كنت مطرودا من بيتي، لأن والدتي ساءها أن أكون ممثلا …. تصور يا سيدي القارئ حالي في اللحظة التي اقتحمت فيها والدتي (بيت الإدارة)، وشاهدت ما يحوي من (موبيليا فخمة) وأثاث فاخر، وأنا الذي لم أحن رأسي في الماضي لإرادتها، ولم أطأطئ قامتي، لأدخل في روعها أنني على أحسن حال في عملي، ولست محتاجا لخير يأتيني على يد أهلي! أقول تصور هذا، ثم احكم بعد ذلك على الظرف القاسي الذي كنت فيه حين وصولها، لاسيما وأنها لم تدبر جهدا في إظهار نوع من العتاب هو أقرب إلى الشماتة منه إلى أي شيء آخر! والآن دعني أشرح لك سبب مفاجأة والدتي في هذا الحضور الذي لم أكن أتوقعه. وصل خطاب لي بعنوان المنزل (في القاهرة) من شركة السكر (بنجع حمادي) تدعوني فيه للعودة إلى استئناف عملي بها، ورأت والدتي أن تحمل الخطاب بنفسها إلي، إذ دار بخلدها أنني ربما رفضت أن أجيب الشركة إلى طلبها، وإذ ذاك تعمل هي (الوالدة) على ضرورة إقناعي بهجر التمثيل … اللي صفته كيت وكيت … من مأثور الكلمات التي كانت تخلعها الوالدة على هذا الفن … الغلبان! حدث بين بعض موظفي الشركة وبين العم (ت) خلاف استحكمت حلقاته، ولكنهم لم يتمكنوا منه، ولم يجدوا سببا مبررا لفصله من عمله، فهداهم تفكيرهم إلى استعمال الحيلة كي يحملوه على الاستقالة. والحيلة هي أن يعيدوني إلى عملي بالشركة، وإذ ذاك لا يجد غريمي العم (ت) مناصا من هجر الشركة، لا بل من هجر البلدة بما فيها. إن لم يكن اتقاء للفضيحة، فخشية تجدد الماضي بين روميو (الذي هو أنا)، وبين جولييت (وهي الحرم المصون). قلت إن والدتي حملت إلي خطاب الشركة، وذلك بعد أن أضناها البحث عن مقر الفرقة التي أعمل بها. فكم وجهت السؤال إلى هنا وهناك، وكم نقبت عن أسر الممثلين تسائلهم عن أخبار أبنائهم، وأين يحطون الرحال. وأخيرا اهتدت إلى أننا نقيم إذ ذاك في طنطا، فجاءت على عجل. لم أتوان بعد الاطلاع على خطاب الشركة في جمع عزالي، وهي عبارة عن المرتبة واللحاف والمخدة والكام هدمة، والعودة سريعا إلى القاهرة، تاركا الجمل بما حمل ومنها إلى نجع حمادي حيث استلمت عملي، وأنا أقسم جهد أيماني أنني لن أعود إلى التمثيل مهما حدث، ومهما كانت الأسباب!! فهل بررت بقسمي هذا أم حنثت!! قدمت أن السبب في استدعاء الشركة لي هو تطهيق العم (ت) ليأخذها من «قصيرها» ويولي الأدبار!! ولذلك رأى الرؤساء من باب النكاية فيه، أن يجعلوه تحت رياستي، وأن يكون من اختصاصي أن أراقب أعماله!! ومع ذلك لم ييأس العم (ت)، ولم يتبرم بهذه التصرفات، بل لم يحرك ساكنا … وأخوك تقيل! وقد رأيت أن «أتلم» شوية وألايمها، فعاملته أحسن معاملة، وصرنا من هذا الحين أصدقاء أعزاء. واتجهت بكليتي إلى إتقان عملي ومراعاة الواجب فارتفعت بأخلاقي إلى مستوى لا بأس به. وفضلت فيما يختص بعلاقاتي بالجنس اللطيف أن أترك ما لقيصر لقيصر، وأن أخليني لطيف، وبلاش «المسخرة» بتاعة زمان. وقد كان! ولم يمض وقت طويل حتى حزت ثقة مدير الشركة وغيره من الرؤساء، فارتفع بذلك مرتبي إلى أربعة عشر جنيها في الشهر. وظللت قرابة العامين هانئا بعيشي راضيا بما كتب لي في سجل الحياة. ونظرت فإذا بي أقتصد من هذا المرتب في تلك المدة مبلغا يزيد على مائتي جنيه. ولما كان عام ١٩١٢ تسلمت — وأنا في نجع حمادي — خطابا من الأستاذ عزيز عيد (وكان في القاهرة طبعا) يخبرني فيه أن التمثيل قد ارتفع شأنه، وأن الأستاذ جورج أبيض عاد من أوربا، وهو ينوي تأليف فرقة بعد أن تلقى الفن في الخارج على نفقة صاحب السمو الخديو وأن … وأن …. وبعد تلاوة الخطاب أقول لك الحق، (زقزق) عقلي. وازنت بين ما يحويه هذا الخطاب من مزخرفات ومشوقات، وبين ما أنا فيه من نعمة شاملة وراحة كاملة. وأخيرا فضلت البقاء في نجع حمادي، ولتفعل فرقة جورج أبيض بالممثلين ما تشاء. ومر بعد ذلك وقت بدأت أرى فيه الصحافة تهتم بالتمثيل، والجرائد اليومية تكتب عن فلان وفلان من زملائي، وتأتي على ملخصات للروايات التي تعرض، وكيف أن فلانا أجاد دوره، وأن السيدة (فلانة) بلغت في دورها حدا بعيدا من الإتقان. أقول كنت أقرأ هذه الأشياء وأنا قابع في نجع حمادي، فخارت قوة المقاومة في نفسي، ولم أعد أحتمل البقاء في أقاصي الصعيد، تاركا هذا العالم الجديد يفتح ذراعيه لزملائي الأقدمين فعولت على الحصول على إجازة أقضيها في القاهرة لأرى عن كثب هذا الفن الذي أزهرت أيامه، وارتفعت أعلامه. وجئت إلى القاهرة بإجازة شهرين، وكنت أحمل في جيوبي إذ ذاك مائتين من الجنيهات الذهبية الصفراء، كانت كل ما ادخرته من مرتبي في السنوات الماضية. ورحت أشاهد تمثيل جورج أبيض، وأتوسع في الإنفاق هنا وهناك، كمن ينتقم من أيام «الجفاف» التي أمضيتها في الصعيد. ولم تأت نهاية الإجازة إلا بعد أن أتت على آخر قرش أبيض من قروشي المدخرة للأيام السوداء. وأخيرا اقترضت أجرة القطار إلى نجع حمادي في الدرجة الثالثة يعني «ترسو». وكان الله بالسر عليما. وهناك ساءت أحوالي، وعادت (غية) التمثيل تتراءى لي في الغدو والرواح، فلم يهنأ لي بال ولم يرتح لي فؤاد. وأذكر أن صديقا لي هو الدكتور جودة (طبيب الأسنان المعروف الآن) كان معي في نجمع حمادي، فكنت أجبره على الإنصات لي، حين كنت أقف أمامه لألقي قطعة تمثيلية مما رأيته أثناء زيارتي الأخيرة للعاصمة، فأقلد تارة جورج أبيض وتارة أخرى عزيز عيد أو أحمد فهيم، أو غيرهم من كبار الممثلين!! وكم ضاق بي الدكتور جودة ذرعا، وعمل على التهرب مني حين كنت أجبره على سهر الليالي، لا في طلب المعالي، بل في وجع دماغه بأقوال لويس الحادي عشر، وصرخات القائد المغربي عطيل، وتأوهات الملك أوديب وغيرهم من بقية الشلة المحترمة التي يتزعمها أستاذنا الكبير جورج أبيض. وهكذا كان صديقي الدكتور جودة بمثابة (الجمهور)، الذي ألقي عليه ما اقتبسته من قطع تمثيلية، علقت بذهني حين كنت أشاهد روايات فرقة الأستاذ جورج أبيض الأولى. لم يكن حظ «جمهوري» المسكين، (وهو الدكتور جودة) مقصورا على سماع مقتطفاتي «الأبيضية»، بل كنت أعمد أيضا إلى تأليف منولوجات وأزجال مثل معي فيها، وأغان ومنثورات فنية كنت أحمله «بالعافية» على سماعها، فإذا «زعل» فإن نهر النيل يمر بنجع حمادي، وماؤه ولله الحمد غزير فليشرب منه من يشاء …! وشاء الله بعد فترة من الزمن أن يزداد «جمهوري»، وأن يجد الدكتور من يحمل العبء عنه والصعب دونه، إذ وفد على نجع حمادي المهندس الظريف الأستاذ محمد عبد القدوس منقولا إلى مدرسة الصنايع هناك. ائتلفنا إذ ذاك ائتلافا تاما، وتسلينا بكل ما في هذه الكلمة من معنى، وتباحثنا كثيرا في فنون «الدردحة». ولست أدري أكنت أتلقى هذه الفنون على يد كندس، أم كنت ألقنه إياها. ولكنني أعترف على كل حال أنه كان «مدردرح جاهز» قبل أن ينزل ركابه في بلدة نجع حمادي. كان عبد القدوس من هواة التمثيل، وكان حاله كحالي في جنون الفن. ولذلك كانت كل اجتماعاتنا جنانا في جنان! فهو يلقي علي منولوجا مثلا، بينما كنت أنا أجلس منه في مكان «الشعب» من الممثل، ثم يأتي دوري فألقي قطعة تمثيلية يحتل هو في أثناء إلقائي مكاني … بصفة «متفرج» وهكذا، إلى أن يأذن الليل بالرحيل. وكم من سهرات لطيفة ونزه ظريفة ليس من حقي (وحدي) أن أغامر بوصفها، وإن كنت من ناحيتي أسمح للصديق عبد القدوس أن يتولى عني هذا الوصف!؟ ولم يطل مقام كندس في نجع حمادي، بل غادرها منقولا أو مرفوتا لست أدري، وإنما الذي أدريه أنه ترك وحشة وفراغا لم أكن أتوقعهما. وتدافعت الأيام متشابهة، إلى أن وصل لنجع حمادي رجل أجنبي ومعه زوجه (وهي فرنسية) وكان الرجل منوما مغناطيسيا، أتى يحيي بعض حفلات في «البندر». كنا نشاهده فيها يقوم ويؤدي بعض تجارب مستغربة من النوم الذي نراه من «الحواة» وأمثالهم. على أن موضع الدهشة من الأمر هو تمكن زوجه من علم الكف، إذ كانت حين تتفرس في كف إنسان، تقرأ ما فيها وكأنها تتلو من كتاب بين يديها. وكم تمنيت أن أريها كفي، ولكن المبلغ المحدد لذلك كان مبالغا فيه. ولذلك فضلت التريث عسى أن يبعث الله بالفرج!؟ وفي إحدى الليالي ذهبت في «شلة» كبيرة من الأصدقاء إلى حضور حفلة لذلك «المنوم»، وبعد انتهائها تقدم الزوج يعلن أنه سيوزع تذاكر «لوتريه» ثمن الواحدة عشرون مليما بينها تذكرة واحدة تكسب؟ وما هو المكسب …! هو أن يزور صاحبها بمصر اليوم التالي مقر هذا الزائر كي تقرأ المدام كفه، وتطلعه على ما خفي من أمره. واشتريت كغيري تذكرة، وأنا أدعو الله أن أكون الفائز، لأنني كنت — كما قدمت — في شوق زائد إلى هذه «العملية»؟ ولما انتهى توزيع التذاكر، وتدافع الأصدقاء وغيرهم لحضور عملية السحب، بقيت في مكاني مشفقا. وظهرت النتيجة فإذا الفائز زميل لي في الشركة اسمه عبد الكريم أفندي صدقي. وبعد أن قمت بعملية «لعن سنسفيل» أبو الدهر القاسي والحظ العاثر، لم أجد بدا من الذهاب إلى عملي في الشركة كالمعتاد. فلقيني زميلي عبد الكريم صدقي ينعى حظه الذي (مش ولابد). الله إزاي يا سي عبد الكريم؟ أنت إمبارح كسبان «لوتريه» تسوى الشيء الفلاني، والنهارده العصر عندك «رنديفو». الله أكبر ناقصك إيه يا خوي؟ وأجابني الصديق قائلا: «ما هو ده اللي مجنني. لأنه صدر لي أمر بالسفر دلوقت حالا لمأمورية لا تنتهي إلا بعد أسبوع، والرجل وامرأته يغادران نجع حمادي غدا. ولم يبق على القطار الذي أستقله غير دقائق معدودات!!؟ وما إن سمعت هذه «البشرى»، حتى قلت في نفسي جاك الفرج يا أبو النجب!! وقبل أن أنبس ببنت شفة. واصل الصديق حديثه قائلا: «وبما أنني مش رايح أستفيد من التذكرة دي فخذها أنت وروح شوف بختك عند الوليه وجوزها»!!
نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية. نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية.
https://www.hindawi.org/books/51630730/
مذكرات نجيب الريحاني
نجيب الريحاني
تبرز من بين صفحات هذا الكتاب، مذكرات رائد الكوميديا المصرية والعربية، الضاحك الباكي «نجيب الريحاني» ذلك الممثل العبقري، والموهوب الفذ، الذي استطاع أن يحوذ إعجاب الناس وحبهم، إن الريحاني لم يكن فقط مبدعًا في فنه بل كان مخلصًا له، وراهبًا في مسرحهِ، فكان خير له أن يقضي نحبه فوق المسرح، من أن يموت على فراشه كما يقول. عُرف نجيب الريحاني بأمانته وصدقه، فكان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يميل إلى المواربة والمداراة؛ لذا فقد آلى على نفسه في عرضه لهذه المذكرات أن يسجل ما بها من حقائق مهما كان فيها من ألم يناله قبل أن ينال غيره ممن جمعته به أية جامعة أو رابطة، ويصارح الريحاني القارئ في هذا الكتاب، فيقول له: «بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يُشعِر بالإقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة في هذه الآونة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هادئ البلبال.»
https://www.hindawi.org/books/51630730/3/
ثروة أضعتها
تناولت التذكرة التي «عليها العين»، وقبل الموعد المحدد كنت بين يدي الرجل وجلست المدام تقرأ كفي. ويا للغرابة والدهشة! إنني لم أتعود في حياتي أن ألقي القول جزافا، كما أنني لست ممن يصورون من الحبة قبة، بل ولا أميل إلى التهويل والمبالغة في الوصف … فهل تصدقني — أيها القارئ — إذا قلت لك: إن هذه السيدة أخبرتني بأشياء حدثت لي في الماضي، كما لو كانت معي، وأنها قصت علي ظروفا خاصة اجتزتها بنفس النمط الذي ذكرته؟ حقا لقد خبلت عقلي بما ألقت إلي من تاريخ حياتي الماضية، وتركتني ذاهلا أفكر كيف يمكن لامرئ مهما بلغ عمله أن يقف على مثل هذه التفاصيل الدقيقة المدهشة؟!! وبعد ذلك تنبأت لي بما سيكون عليه مستقبلي! كان ذلك عام ١٩١٣، وأقسم بالله غير حانث أنني ما زلت طيلة هذه الأعوام التالية حتى الآن أجتاز من أدوار حياتي مراحل سبق أن تنبأت لي بها هذه السيدة! كنت أيامها موظفا بسيطا في شركة السكر أتقاضى مرتبا لا يزيد على أربعة عشر جنيها، ولم يكن أمامي ما يبشر بصلاح الأحوال أو تبدل الأيام، ومع ذلك فقد قالت لي إن حياتي عبارة عن ضجة صاخبة، وأن أموالا كثيرة ستتداولها يدي، وأنني سأنتقل من فقر إلى غنى ومن غنى إلى فقر، ثم يعود الغنى، ثم … وهنا خانتني الذاكرة بكل أسف، إذ لست أعي تماما ما انتهى إليه تنبؤها، وهل أوصلتني في أخرياتي إلى هضاب الفقر المدقع، أم إلى وديان الثراء الممتع؟! على أنني رحت أجول بالذاكرة في تأويل هذه التنبؤات فأما الفقر … فهذا شيء متوفر والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. وأما الغنى، فمن أين يأتيني يا ترى؟ فتشت عن قريب لي من ذوي الثراء، ورحت أبحث عن شجرة العائلة، وأدرس أصولها وفروعها، لعلي أعثر على واحد بينهم لا وريث له قائلا: «يمكن يا واد يشوفك في وصيته بحسبة كام ألف مصري يبحبحوك» … أمال بس منين رايح يجيني الغنى يا اخواتي إن ما جاش بالطريقة دي، هل يأتي من التمثيل؟ اسم الله … ده اخوانا باسم الله ما شاء الله مكانش يلف الشهر إلا والجعيص فيهم يستلف قد ماهيته مرتين!! نهايته لم يفدني التفكير شيئا، ولم يسعفني قاموس الأسرة ولا شجرتها المباركة، بما يروي غليلي، فتركت الأمور تجري في أعنتها ونمت بعد ذلك خالي البال هادئ البلبال! طيب البال عرفناه، ولكن البلبال إيه كمان؟ والله ما أنا عارف. لم يقتصر ما أفضت به إلي هذه العرافة على موضوع الفقر والغنى، بل باحت لي بأشياء سرية في حياتي الخاصة. وأصارحكم يا سادتي أن هذه الأشياء وقعت بحذافيرها بعد سنوات منذ ذلك التاريخ! هذا ولعل أحدا يتساءل عن السر في عدم اقتنائي السيارة. السبب أن هذه العرافة المدهشة تنبأت بأن هناك تصادما سيحدث لسيارة أكون فيها! ومع أنها ذكرت لي. أن «ربنا إن شاء الله، حايجيب العواقب «سليمة»، إلا أنني خشيت من ذلك اليوم، فامتنعت بتاتا عن اقتناء سيارة لنفسي. كما أنني إذا دعيت لركوب إحدى سيارات الغير، أو حتى سيارة «تاكسي»، أتوسل إلى السائق بكل عزيز لديه أن يرحم شباب العبد لله، وأن يسير على أقل من مهله، لأني مش مستعجل أبدا …! ومش مستعجل هذه … أقولها دائما كلما ركبت سيارة، حتى ولو كان باقي على القطار الذي سأسافر فيه دقيقة واحدة. وكلمة في أذنك أيها القارئ الحبيب لم أقلها لغيرك والله إلى اليوم. تلك هي أنني أفضل دائما ركوب عربات الخيل، لا رفقا بالعربجية بل حرصا على حياتي الغالية! والحنطور فوقك يا أتومبيل! وغادرتنا العرافة. ثم مضت بعد ذلك فترة زاد فيها اعتقادي بصحة نبوءاتها لأن الكثير منها كان قد تحقق في خلال تلك الفترة. وفي صباح أحد الأيام — وكنا في عام ١٩١٤ — تسلمت وأنا في مكتبي بإدارة شركة السكر في نجع حمادي إشعارا بوصول خطاب مسجل (مسوكر) باسمي، فوقعت بإمضائي هذا الإشعار وقلبي يرقص فرحا، لأنني ذكرت ما قالته لي قارئة الكف من أنه سيأتي علي وقت ألعب فيه «بالفلوس» لعب. وهنا أتعبت فكري في البحث عن مصدر هذا الخطاب «المسوكر» وإذا كانت فيه أموال فمن أين أتت يا ترى؟ أقول إن أفكارا كثيرة دارت في رأسي دون أن أهتدي إلى حل هذا اللغز. وأخيرا قلت في نفسي، اصبر يا واد حبتين. ويكون الجواب في إيدك، ويا خبر بفلوس بكره يبقى بلاش! وصبرت على نار إلى أن أشرقت أنوار ساعي البريد، فخطفت منه الخطاب خطفا وفضضته استعدادا لإخراج الشيكات التي احتواها المظروف!! ولكن … آه … قاتل الله «لكن» هذه التي تقلب الأوضاع وتعكس القصد على القاصد! أتدرون يا سادتي … من أين صدر هذا الخطاب المسجل؟ من المكتب المجاور لمكتبي!! من مدير الشركة! وهل تعلمون ماذا جرى؟ رفت من خدمة الشركة بسبب كيت وكيت وكيت. وهذه «الكيتات» ليس فيها بحمد الله ما يخل بالنزاهة والأمانة ولكن فيها … بكل أسف … ما فيها والسلام! وأبصرت أمامي فإذا ساعي البريد واقف ينتظر البقشيش! وما فيش لزوم لشرح ما جرى له بالتمام والكمال! نهايته. نقدتني الشركة ماهية ثلاثة أشهر كمكافأة، وقد بلغت قيمتها بعد خصم الوفورات التي كنت أقتصدها من الماهية الشهرية مبلغ سبعين جنيها. كانت كل زادي وعتادي الذي عدت به من نجع حمادي إلى القاهرة. وهو كما ترى مبلغ لا بأس به إذا قيس بما عاد به زميلي الطيب الذكر حنين من خفين! وصلت إلى القاهرة أحمل هذا المبلغ. فكان أول ما اتجه إليه فكري هو البحث عن الزملاء الأقدمين والصحب الأولين. وكانت ثروتي هذه … وما لازمني من «الوجاهة» إياها سببا في أن يلتف حولي رهط منهم. آل يعني الواد وارث! وهات يا بعزقة، وهات يا صرف إلى أن صحوت فجأة فإذا ما بقي بعد الأسبوعين الأولين مبلغ وقدره ستة وعشرون جنيها فقط لا غير! وبعدين إذا صرفتهم أعمل إيه وأسوي إيه؟ وآكل منين؟ وأنا يا مولاي كما خلقتني. ولا فيه شغلة ولا مشغلة! وبناء عليه أصدرت فيما بيني وبين نفسي قرارا صممت على تنفيذه. وهذا القرار هو أن ألايمها بالتي هي أحسن وألم إيدي شوية. وأنقذ ما يمكن إنقاذه من القرشين اللي فاضلين. وكفاية علي ريال في اليوم أكل وشرب ومصاريف نثرية. وبهذه الطريقة آمن شر الدهر الخئون لغاية ما يحلها من لا يغفل ولا ينام! وبعد إصدار هذا القرار بساعة وعشرين دقيقة تماما قصدت إلى حيث كانت تعمل فرقة الأستاذ جورج أبيض (على فكرة) كان مصرحا لي بالدخول مجانا كأرتست. فدخلت الصالة وجلست أشاهد رواية (أوديب الملك) وبينا أنا أذرف الدمع ثخينا على هذا الملك المنكوب إذ وفد الأستاذ سليم أبيض (شقيق أوديب) ومدير إدارة الفرقة وجلس بجانبي. وحين رآني متأثرا، فاتحني بحقيقة مرة كان أثرها في نفسي أبلغ من أثر الفكرة التي حلت بأوديب المسكين! هذه الحقيقة هي أن إيراد الفرقة خسع خالص، والليلة لازم الممثلين يقبضوا القسط، والإدارة مش لاقيه تقبضهم. وعلشان كده قصدتك يا نجيب في حسبة خمسة وعشرين جنيها بس، ندفع منهم قسط الممثلين وتاخدهم بعد يومين اثنين. يومين بالعدد. وأخويا جورج ضامن يا نجيب! وهنا أسقط في يدي، ولعنت الظروف التي قادت قدمي إلى المسرح في تلك الليلة الليلاء التي قررت فيها بدء حياة جديدة للتدبير والاقتصاد. ولم يكن هناك بد من الاعتذار، فاعتذرت بالطبع وكلما تكرر الرجاء تمسكت بالاعتذار. ولكن قوة الأستاذ سليم أبيض في الإقناع، وبراعته في وصف الحالة الراهنة من جهة، ومحبتي للفن من جهة أخرى، هذه العوامل لم تدع لي سبيلا كي أرفض فقلت له: «اسمع يا خواجه سليم … مفيش في جيبي غير ٢٦ جنيها، فإذا كنتم عاوزين ٢٥ جنيها على شرط أنكم ترجعوهم بعد يومين صحيح فأنا مستعد … وأهو الجنيه الفاضل يكفيني اليومين دول». وظهر أن «سليم أبيض» كان في هذه اللحظة واقعا من السما، وأنا الذي تلقفته. لأنني أحسست أن ماء الحياة قد عاد إلى وجهه، فوعد ووعد، بينما قلت في نفسي: «يا واد الفلوس رايحين رايحين فخليهم يروحوا بالجملة أحسن من سلسلتهم بالقطاعي!». وتناول الخواجة سليم مبلغ الخمسة والعشرين جنيها في التو واللحظة، وترك في جيبي جنيها يقضي الليالي وحيدا بعدهم! فلما أحسست بالنكبة التي حلت بي إذ ذاك رحت أضرب أخماسا في أسداس. وأندم على ما فعلت، ولات ساعة مندم. وانقضى الموعد المضروب فذهبت إلى الخواجة سليم أرجو وأتضرع شاكيا مرارة الزمن وشدة الحاجة، لكن أخوك «تقيل» فلا جواب غير: «الصبر طيب يا أخي. هو احنا حناكلهم عليك والا إيه؟» فأقول له: «لا يا سيدي أنا عارف إنكم مش رايحين تاكلوهم علي. لكن أنا شخصيا عاوز آكل بهم، والا يعني عاوزني آكل طوب!». ولم تفد الالتماسات. بل لم يرق الخواجة سليم لحالي. إلى أن أتيت على آخر مليم من الجنيه (اليتيم) الذي أبقاه لي سليم أبيض. وكنت أسكن في مصر الجديدة، فاضطررت والحالة هذه إلى اقتراض نصف فرنك قيمة أجرة المترو، ولولا ذلك لافترشت الغبراء والتحفت السماء كما يقول الشعراء! نهايته. بعد عشرين يوم كاملة، بدأ الأستاذ سليم يشعر نحوي بعاطفة الشفقة والرحمة، فكان يعطيني بين يوم وآخر شلنا، أو نصف ريال (على الحساب). وأذكر أن أكبر دفعة تناولتها على الحساب كانت ثلاثة عشر قرشا عملة صاغ ميري. فتصور يا سيدي القارئ كم من الأعوام يجب أن تمر لاستهلاك ديني إذا سار السداد على هذه الوتيرة؟ شغل فكرك واستعن باللوغارتمات وحساب المثلثات، ثم نبئني بالنتيجة …. وبعد أن أقرضت فرقة الأستاذ جورج أبيض ٢٥ جنيها مصريا ولم يبق معي من المبلغ الذي عدت به من نجع حمادي غير جنيه واحد، وبعد أن قبلت الدفعات التي كان الأستاذ سليم أبيض يحن بها علي، من شلن لنصف ريال إلخ … بعد ذلك تألفت فرقة (أبيض وحجازي)، وكان على رأسها بالطبع الأستاذان جورج أبيض وسلامة حجازي. ولم يكن يدفع للممثلين إذ ذاك أجر معلوم، بل نص الاتفاق على أن يكون العمل بالمساهمة، أي يربط للممثل عدد من الأسهم ثم يوزع الإيراد على الأسهم، وكل واحد وبخته بقى. عرض علي الأستاذ جورج أن انضم إلى الفرقة ممثلا ويمكن يفرجها ربك وتفوز بحقك! وقبلت هذا العرض، وكل أملي أن أفوز بجزء من مالي الضائع، الذي سبق أن اقترضه مني سليم أبيض لدفع أجور ممثلي فرقة أخيه. لكن كانت النتيجة ويا للأسف، هي نفس النتيجة التي فاز بها إبليس حين طمع في الجنة. رأيت بين أفراد الفرقة السيدات روز اليوسف وسرينا إبراهيم ونظلي مزارحي وغيرهن، ثم الأستاذ عمر وصفي ومحمود رحمي وفؤاد سليم وعبد العزيز خليل وعبد المجيد شكري، و«شلة» من قدماء «المنشدين»، مثل الشيخ حامد المغربي وغيرهم. وجدت نفسي «تقليعة» بين هؤلاء السادة النجب، إذ ظهر لي أنهم كانوا يئنون من مصيبة الأسهم والإيراد، فما بالك إذا زادوا واحدا يعتقدون أنه سيقتطع جزءا من الإيراد، تنقص به حصة الجميع بمقدار ما ستنال أسهمي من نصيبه؟ ولاسيما أن إيراد الواحد منهم، أو حصة أسهمه جميعا، لم تكن لتصل في كثير من الأوقات إلى أكثر من ٣٥ قرشا صاغا أميريا لا غير؟ القصد، بدأ زملائي الأعزاء في توضيب «المقالب النضيفة» للعبد لله. ولم أكن في ذلك الوقت أعرف عنها كثيرا ولا قليلا، إذ كان الوسط جديدا علي كما كنت أنا جديدا عليه. وكان بطل «شك المقالب» وانتقاء النكات «المستوية» في مادة «التأليس» على محسوبكم الفقير إليه تعالى، هو والدنا الأستاذ الأفخم عمر وصفي. لقد كان يهون علي والله كل شيء، وكل شقاء، اللهم إلا ذلك النوع من «التأويز» و«المسمسة» و«التهزئ» اللي ما فيش منه. وكان علينا في إحدى الليالي أن نمثل رواية (صلاح الدين الأيوبي)، وكان الأستاذ جورج يضطلع فيها بدور (قلب الأسد) بينما اختاروا لي دورا صغيرا حقيرا، هو دور (ملك النمسا). وكل ما يفعله هو أن يقف من جورج أبيض موقف المبارز، ويتكلم اللي فيه القسمة. كده، كلمتين قول تلاتة، وكان الله يحب المحسنين. كانت الحرب الكبرى قد أعلنت في هذه الآونة، وكانت الصحف والمجلات المصرية والأجنبية تنشر صورا لملوك الدول المتحاربة، ومن بينها صورة الإمبراطور (فرنسوا جوزيف) إمبراطور النمسا في ذلك الحين. وقد تراءى لي أن أتقمص شخصية هذا الإمبراطور، مادام دوري هو (ملك النمسا)، فأقفلت على نفسي باب حجرتي بالمسرح، وجلست أمام المرآة ورحت ألتمس في عقاقير الميكياج ومعداته، ما جعلني الإمبراطور جوزيف بعينه وبلحيته المتدلية على جانبي وجنتيه إلى أسفل ذقنه، وكأنها «معرفة» الأسد. وحين جاء وقت ظهوري على المسرح لم يتمالك الناس أنفسهم من الضحك، حتى أن الأستاذ جورج أبيض لما دخل المسرح ثائرا في دوره (قلب الأسد) وفوجئ بمظهري هذا، تبخرت حماسته وانطفأت شعلته وأحسست أنه يغالب عاصفة من الضحك تكاد تنفجر على شفتيه وبين أسارير وجهه!! كل ذلك وأنا واقف في مكاني لا أبتسم ولا أخالف طبيعة الموقف … آل يعني الفن واخد حده قوي … مع ملك النمسا!! أقول إن جورج دخل ثائرا وهو يصرخ مرددا كلمة (قلب الأسد) المأثورة: «ويل لملك النمسا من قلب الأسد» ولكن ويل إيه وبتاع إيه … ما خلاص جورج ما بقاش جورج والمسرح بقى عيضة، والحابل اختلط بالنابل زي ما بيقولوا. نهايته. انتهت هذه الليلة ولا أدري كيف انتهت، ولكن الذي أدريه هو، موال الدوكا «والتقريق» الطازة الذي أنصب علي من شيخ طائفة المطفشين الأستاذ عمر وصفي. ولنترك هذا جانبا وأعرج على مناقشة ظريفة جرت في تلك الليلة. كنت أقطن في مصر الجديدة، ولذلك كنت أستقل ترام المترو عقب التمثيل. وكان لي صديق قديم كان زميلا منذ أيام البنك الزراعي، وكان هو الآخر يسكن بجواري في مصر الجديدة، وكثيرا ما كنا نتلاقى في قطار المترو في ذهابه وفي إيابه. أذكر في تلك الليلة، ليلة (صلاح الدين الأيوبي)، أن لقيني هذا الصديق في «المترو» بعد انتهاء التمثيل، وبعد التحيات المعتادة سألته: «أين قضيت سهرتك هذا المساء؟» فأجابني بأنه كان يشاهد رواية (صلاح الدين) وتبرع فقص على نبأ عن واد … ممثل ابن كلب … يا فندم … طلع في دور ملك النمسا … إنما كان حتة واحد زي (الإمبراطور فرنسوا جوزيف) بحيث الناس كلهم ماتوا م الضحك على شكله … و…. إلخ من أنواع الشتائم! لذلك رأيت أن أقطع سلسلة شتائم إعجابه، فقلت له: «تعرف ابن الكلب دا … يبقى مين؟». فقال: «أبدا». فقلت له: «هو محسوبكم يافندم … هو العبد لله يا أخينا!!» نهايته. لم يرتح زملائي في الفرقة ولم يطب خاطرهم إلا بعد أن صدر الأمر برفتي والاستغناء عني. بحجة عدم لياقتي للتمثيل بتاتا. وتفضلت الإدارة المحترمة فنصت في ميثاق «الرفتية» على أنني لن أفلح في التمثيل، ولن أكون في يوم من الأيام ممثلا، حتى ولو كان ثانويا!!! بعد هذه الوثيقة القيمة والشهادة البينة، سدت في وجهي الأبواب وضاقت السبل حتى لم أجد طريقا أسلكه لكسب العيش. قيل في الأمثال إن (من جاور الحداد انحرق بناره). وأنا قد جاورت أستاذنا عمر وصفي وزملاءه مدة من الزمن، فقد حق علي أن أقتبس بعض تعاليمه وأدرس طائفة من خططه. الغاية. لا أريد أن أطيل عليك، فقد رأيت أن أسلم خطة هي تحريض ممثلي الفرقة على رفع راية العصيان على الإدارة، وشق عصا الطاعة على المديرين، والانسحاب أفرادا وجماعات وقد نجحت خطتي مع الكثيرين الذين أسرعوا في هجر فرقة أبيض وحجازي، والمناداة بالاستقلال التام … والجوع الزؤام! وكان على رأس العصاة الأستاذ عزيز عيد والسيدة روز اليوسف، وقد انضم إلينا بعد ذلك من غير أعضاء الفرقة الأستاذ أمين عطا الله، وكان في ذلك الحين، ولا حياء في الواقع كان زي حالتنا مش لاقي ياكل، كما كان الأستاذ أمين صدقي هو الآخر «سارحا» بكام رواية من مؤلفاته ومقتبساته. وبالاختصار اجتمع كل متعوس على خايب الرجا، كاستيفان روستي، وحسن فايق، وعبد اللطيف جمجوم، وسبعة ثمانية من العواطلية إياهم. وقررنا أن نؤلف فرقة تضرب فرقة أبيض وحجازي على حبابي عينيها. لعل واحدا من القراء الأعزاء لم ينس قصة جحا حين رغب في الزواج من ابنة السلطان: فقد راح جحا ينشر في الناس أن الأمر سوي نهائيا، وأنه لم يبق على زفافه من ابنة السلطان إلا أن يجمع المهر اللازم، وأن يرضى السلطان بالمصاهرة!! اسم الله … أمال إيه اللي تم يا سي جحا؟ كذلك نحن. اجتمع الممثلون، ولم يبق على تأليف الفرقة إلا … وجود رأس المال. ظللنا نتناقش في الموضوع، وانتهى الأمر باقتباس نظام المساهمة الذي كانت تجري عليه فرقة الأستاذ أبيض وحجازي. وكان السائر في شارع عماد الدين يشاهد على يساره، بعد أن يجتاز شارع فؤاد الأول، مقهى كان يديره أحد النزلاء اليونانيين (ومن غيرهم يا ترى يفتح في مصر المقاهي). وكان اسم هذه المقهى (متروبول). وأرجع بالقارئ العزيز إلى ذلك العهد الذي أتحدث عنه، فأقول إن إخواننا «المنشقين» عن فرقة أبيض وحجازي، جعلوا من مقهى «المتروبول» هذا محلا مختارا يأوون إليه إذا ما ارتفع قرن الغزالة (هذا خيال بديع، أرجو أن يسامحنا السادة البلغاء في استعارته)، ومعناه بالعربي الذي أفهمه أنا ويفهمه رعايا كشكش بك من سكان عمدية كفر البلاص وضواحيه، معناه عند طلوع الشمس، فعند طلوع الشمس كان «جرسونات» قهوة متروبول يستقبلون وفودنا و«يصطحبون» بوجوهنا. وكنا إذا جلسنا لا نغادر المكان إلا ساعة التشطيب بعد منتصف الليل بساعتين على الأقل. أمال إيه … حانروح فين … لا وظيفة ولا يحزنون! كانت هذه القهوة دارا للندوة، أو برلمانا يعقده الممثلون، فيتناقشون في أقرب السبل للحصول على المال الذي يستطيعون به أن يؤلفوا فرقتهم المشتهاة. وقد رأى — الله يرضى عنهم — الجرسونات أننا أصبحنا (بمضي المدة) أصحاب محل، وبذلك ينطبق علين قانون الأعضاء. وهذا القانون ينص على أنه إذا جلس واحد منا، فلا لزوم لأن يتقدم الجرسون، «متمسحا» لمسح الطاولة، أو «تطويقها» في حركة الانتظار التقليدية إياها … لعل الزبون «يحس» من نفسه، فيطلب «اللكوم» أو السكر زيادة أو واحد مضبوط على الريحة! أقول كنا نجلس في هذه القهوة متمتعين بحصانة «جرسونية» وكنا نبني في مناقشاتنا مستقبلا من الآمال. وأذكر أن أحد زبائن القهوة الذين كانوا يترددون عليها كثيرا دون أن تكون لديهم مثل «حصانتنا» واسمه السيد «بحري»! أذكر أن شيئا من الصداقة تولد بينه وبيننا. فكان بين وقت وآخر، يعطف على بعضنا بسيجارة، أو يحتم أن يطلب لنا طلبا، «واحد قهوة مثلا أو فنجان شاي!». وقد رأى صاحب القهوة (اليوناني) أن يستفتي السيد بحري في أمرنا، فسأله عنا وعن أحوالنا، وما السبب في معيشة «العواطلية» التي نحياها دون أن نشق لنا طريقا في عباب هذه الحياة؟ فلما عرف منه أننا طائفة من الممثلين، وأنه لا ينقصنا إلا الحصول على مبلغ ضئيل لا يتعدى العشرة جنيهات، أقول لما وقف الرجل على مطلبنا هذا، أظهر منتهى الاستعداد للدفع! فكان ذلك مفاجأة عجيبة لم نكن ننتظرها. وقد أنعم كل منا فكره في تأويل هذه الأريحية التي نبتت مرة واحدة، كما يتفجر الينبوع العذب من الصخر الجدب. قال أحدنا: «إن هذا العمل من الخواجة بشير بالنجاح، لأنه رجل يعرف من أين تؤكل الكتف، ويستحيل أن يغامر بدفع رأس المال، إذا لم يكن واثقا من استرداد مبلغه هذا أضعافا مضاعفة». أما أنا فقد ذهبت في التفسير مذهبا خالفت به الجميع، فمع اغتباطي بتساهيل الله، على يدي الخواجة صاحب قهوة متروبول، قلت لإخواني بأنني لا أرى دافعا لتصرف الخواجة إلا أنه «طهق» من «خلقتنا». فأراد أن يتخلص منا بأي طريقة، مهما كان فيها من تضحية مالية، وسواء أكان هذا هو السبب أم ذاك، فقد وصلنا إلى بغيتنا وحصلنا على مبلغ الجنيهات العشرة. وكم كان ظريفا من بعض إخواننا أن يقترحوا «توزيع» المبلغ علينا، وبلا فرقة، بلا دياولو، وليحيا «اصرف ما في الجيب يأتك ما في الغيب!». ودون أن أطيل عليك أقول إن هذا المذهب لم يجد أنصارا كثيرين. فتقرر أن نستعمله في الغرض الذي دفع من أجله، وبدأنا نؤلف فرقتنا من العبد لله، والأساتذة عزيز عيد، وأمين عطا الله، وأمين صدقي، واستيفان روستي، وحسن فايق، وعبد اللطيف جمجوم، والسيدة روز اليوسف وغيرهم.
نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية. نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية.
https://www.hindawi.org/books/51630730/
مذكرات نجيب الريحاني
نجيب الريحاني
تبرز من بين صفحات هذا الكتاب، مذكرات رائد الكوميديا المصرية والعربية، الضاحك الباكي «نجيب الريحاني» ذلك الممثل العبقري، والموهوب الفذ، الذي استطاع أن يحوذ إعجاب الناس وحبهم، إن الريحاني لم يكن فقط مبدعًا في فنه بل كان مخلصًا له، وراهبًا في مسرحهِ، فكان خير له أن يقضي نحبه فوق المسرح، من أن يموت على فراشه كما يقول. عُرف نجيب الريحاني بأمانته وصدقه، فكان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يميل إلى المواربة والمداراة؛ لذا فقد آلى على نفسه في عرضه لهذه المذكرات أن يسجل ما بها من حقائق مهما كان فيها من ألم يناله قبل أن ينال غيره ممن جمعته به أية جامعة أو رابطة، ويصارح الريحاني القارئ في هذا الكتاب، فيقول له: «بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يُشعِر بالإقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة في هذه الآونة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هادئ البلبال.»
https://www.hindawi.org/books/51630730/4/
في المسرح الكوميدي
أما المسرح الذي وقع عليه الاختيار كي تعمل به فرقتنا الجديدة فهو مسرح برنتانيا القديم. وأطلقنا على فرقتنا الجديدة اسم «فرقة الكوميدي العربي» واتفقنا على أن نفتتح العمل برواية «خلي بالك من إميلي»، وكان قد نقلها عن الفرنسية الأستاذ أمين صدقي. وجاء أول توزيع الأدوار، فاختصوني بدور «برجيه» والد إميلي: وهنا أستميح القراء الأفاضل في وقفة، على الهامش، تلجئني إليها أهمية ذلك التاريخ الذي أسرده بصدق وأمانة. لا شك أنني كنت في ذلك الحين أهوى التمثيل من كل قلبي، ولكنه ميل كان منصبا على نوع واحد من هذا الفن هو «الدرام». أما الكوميدي فلم أكن أشعر نحوه بأية عاطفة. كما أنني كنت أحس أنني لم أخلق له، وإذا ما بدا لي أن أظهر في دور كوميدي فسيكون السقوط حليفي. والطماطم … من الجمهور نصيبي! والآن فلنعد إلى مواصلة حديثنا فنقول إن «برجيه» هذا جندي بوليس قديم، له ابنة جميلة كان يعيش عالة على كدها وسعيها، أو «بالمفتشر» عايش على قفا بنته، وإن المؤمن لا يستحي من الحق! الدور جامد، وبطل من أبطال الرواية، وفوق هذا وذاك فهو فكاهي خفيف. اعتذرت أولا عن قبوله ثقة مني بأنه أكبر من أن أستطيع إجادته. ولكن اعتذاري هذا رفض رفضا باتا، لا لاعتقاد الفرقة بقدرتي، بل بحجة أنه لا يوجد ممثلون يكفون لأداء أدوار الرواية. يعني يا سي عزيز عيد، أروح أنا في ستين داهية علشان حضرتك مش لاقي ممثل يعمل «برجيه»؟! اعتذرت عن قبول الدور الذي أسنده إلي عزيز عيد، وهو دور برجيه، وتوسلت أن يعفوني من أدائه، ولكن لم تفد توسلاتي واسترحاماتي، فرأيت ألا بد مما ليس منه بد. فقبلت الدور مرغما وذهبت إلى المنزل فأغلقت على نفسي الحجرة، ورحت أرسم له شخصية أؤديه بها. ووقفت أمام المرآة ألقي جمل الدور واحدة إثر أخرى، وأرقب ما يرتسم على وجهي من تعبيرات، متلمسا السبيل إلى إجادتها، ولكن … والحق أقول، أحسست نفسي سمجا ثقيلا. أخيرا جددت الاعتذار لعزيز عيد، فأمعن في الرفض، وكنت كلما اقترب اليوم المحدد للافتتاح ازداد خفقان قلبي، و«تلخلخت ركبي»، وركبني مائة عفريت وعفريت. تصور أيها القارئ العزيز جبانا داخل اليأس قلبه واحتل فؤاده! لقد كان هذا حالي ليلة البدء بالتمثيل، فدخلت حجرة المكياج وأتممت تلوين وجهي، كي أظهر بمظهر العجوز الشيخ «برجيه» الله يمسيه بالخير. واعتزمت — مادام ساقط ساقط — أن أغامر، وأن أخدها بالعريض، وأطلع فيها مرة واحدة. وخليه سقوط بالشرف: اقتحمت المسرح وتشجعت وأديت الدور. ولشد ما كانت دهشتي حين سمعت أرجاء الصالة تضج بالضحك ويتجاوب التصفيق جوانبها!؟ لم أكن أصدق أنني أنا الذي أنتزع هذا الضحك وذاك التصفيق من الجمهور. وأنه لابد وأن يكون غيري مصدرهما، فنظرت خلفي وإلى جانبي لعل ممثلا مختبئا يضحك الناس دوني، ولكن لم أجد! ولست أغالي حين أعترف من غير تواضع، والأجر على الله، بأن دوري فاز بقصب السبق وأن إخواني، مع أنهم كانوا أبطال الكوميدي في مصر، وعماد الفكاهة فيها، لم ينلهم مثل ما نالني. وإني لأذكر في هذه المناسبة حادثا طريفا لا بأس من سرده. من فائق النجاح! قابلت في آخر الليل المدير المالي: وهو الخواجة (صاحب قهوة متروبول)، ولم يكن يعرف أنني أمثل. بل كان يزعم أنني أحد مديري الفرقة وبس! سألت «الخواجة» عن رأيه في الرواية وممثليها، فقال باللهجة العربية الممتزجة «بالجريجية». «يا سلام! يا سلام فري … دي خاجه تمام … خاجه خلوه … الراجل فري دي برجيه إيه ابن الكلب ده!!». ثم تفضل فوجه إلي هذا السؤال «من خنزير عجوز برجيه دي مسيو نجيب؟» فأجبته: «أهو واحد ممثل. بكره تعرفه والسلام». وفي اليوم التالي، كان «الخواجة» قد عرف من زملائي أن الخنزير العجوز برجيه لم يكن إلا … نجيب الريحاني، ومن ثم جاء يضاعف تهنئته لي. ويعتذر عن إعجاب أمس المقرون بالسباب. وبعد أيام من عمل فرقتنا في مسرح برنتانيا القديم رأينا الإيراد بدأ «يخسع»، وحالة الأسهم في هبوط مخيف. فلم يكن الدخل يزيد في ليلة من الليالي عن العشرة جنيهات أو الثمانية كان الجزء الأكبر منها يدفع في إيجار التياترو. والباقي يقسم على أسهم الممثلين. فكان يخص السهم إذ ذاك «ثلاثة تعريفه». وإذا «نغنغت» الحالة في إحدى الليالي، ارتفع نصيب السهم إلى سبعة عشر مليما أو ثمانية عشر. ولم نكن نعمل طيلة أيام الأسبوع، بل كنا نكتفي بثلاث ليال فقط كنت أحصل في أثنائها على مبلغ يتراوح بين الاثني عشر والأربعة عشر قرشا أسبوعيا. أما بقية أيام الأسبوع، فقد كانت تشغلها البروفات. والبروفات بالطبع لا أجر عليها. كنت أسكن كما سبق القول — في مصر الجديدة — وكانت أجرة المترو عشرة مليمات في الذهاب ومثلها في الإياب. فأين لي العشرون مليما أدفعها للحضور والعودة في أيام البروفات!! وبعد محاولات ومحاولات، صدر الأمر بإعفائي من الاشتراك في البروفات ماعدا البروفة النهائية، فقد تحتم علي حضورها. وفي ميدان الاقتراض والسلفيات متسع للجميع. القصد، مر علينا عهد كاد قحطه يودي بنا، فرحنا نتلمس السبل للتغلب عليه. وكان بين ممثلي الفرقة شاب ممتلئ بالنشاط هو المرحوم أحمد حافظ شقيق الأستاذ عبد المجيد شكري الممثل بفرقة الأستاذ يوسف وهبي. طلع علينا المرحوم أحمد حافظ بفكرة نالت من الجميع حسن القبول، هي أن يسافر إلى المنصورة لترتيب حفلات تحييها الفرقة هناك. ووافق الجميع بالطبع، فغادرنا أحمد حافظ إلى المنصورة، ولم يمض عليه فيها يومان، حتى كتب خطابا إلى الأستاذ عزيز عيد يبشره فيه أن الدنيا «قهقهت» لنا مش بس ضحكت. وأن الطلبات تنهال عليه للحصول على التذاكر، وأن إيراد الليلة في المنصورة لن يقل عن الستين جنيها … وأن …. «وظأططنا»، وانقلبت أتراحنا أفراحا، وظللنا ننتظر اليوم الموعود بصبر نافد. إلى أن حل الأوان، فقصدنا إلى «أرض الميعاد» … المنصورة، في القطار الذي يغادر العاصمة قبيل الظهر. وأذكر أن أحدا منا لم يتناول طعاما إذ ذاك. لأن الحالة لم تكن تسمح بشراء رغيف واحد … ولو حاف. ولكي أكون أمينا في سرد الحوادث أعترف بأننا اقترضنا أجرة سكة الحديد على الحساب، كما أن الجوع ظل «يشاغبنا» ويتلاعب بأمعائنا طول الوقت الذي قضيناه في القطار. كل هذا ونحن نأمل أن نجد طعامنا في المنصورة بعد تسلم الإيراد «العظيم» من الأمبرزاريو (المتعهد) أحمد حافظ. الله يرحمه ويحسن إليه. ووصلنا إلى المنصورة، وحملنا أمتعتنا، وبلاش أطول في الوصف اللي مافيهش فايده … ويكفي أن أقسم أننا ظهرنا على المسرح في تلك الليلة ببطون خالية وأمعاء خاوية … وبس!! تبخرت الأماني والآمال. وضاعت الوعود الحلوة التي كانت تزخر بها خطابات مندوبنا، في الوجه البحري. بلغ إيراد الليلة الأولى أربعة جنيهات مصرية لا غير … وخرم حساب أحمد حافظ ذلك التخريم الذي أترك تقديره لخيال القارئ العزيز. ويلاه ما حيلتي. ويلاه ما عملي. على رأي المنولوج إياه! وماذا نفعل بالقروض التي فتحنا بها حسابات جارية هنا وهناك! نهايته، أترك ذلك برضه لذكاء القراء الأعزاء. وفي آخر الليل وبعد التمثيل خرجت من المسرح وحيدا فعثرت في طريقي على بائع سميط عال، وجبنه رومي، فجرت بيننا مفاوضات انتهت بالرضا والاتفاق على شراء سميطة واحدة بالممارسة. ومعها قرطاس دقة «فوق البيعة». وسرت في طريقي أقضم السميطة قضما، وما هي إلا خطوات حتى لقيني الصديق «الأمبرزاريو» أحمد حافظ. وبعد التحية المناسبة للمقام. من داهية تسم الأبعد، إلى غور جاك دم يلهف القفا! بعد تبادل هذه التحيات التي لابد منها في مثل هذه الظروف، سألني إلى أين أقصد، فقلت إلى اللوكاندة بالطبع. فضحك ضحكة هتكت ستر الليل وقال «تعال أنا عازمك الليلة في فسحة على كيفك!!». عازمني! عازمني إيه يا بلا، وأنا مافيش في جيبي ثمن حتة جبنة أغمس بها السميطة؟ فقال «ولا يهمك». ثم داعب بأصابعه جيوب صديريته فسمعت رنين النقود التي كدت أنسى لونها. فاطمأنت نفسي وقبلت أن أمضي السهرة معه. وهنا أستميح القراء في أن أمر على تلك السهرة مر الكرام، وأن ألقي على تفاصيلها طشت غسيل. مش ماجور بس!! ويكفيهم مني أن أقول إنها كانت ليلة «بوهيمية» وإننا توسعنا إذ ذاك في الانبساط، كأنه كان آخر زادنا!! كل ذلك وأنا أخشى ألا يغطي ما في جيوب زميلي حافظ نفقات هذه الليلة. وفي صباح نهاية السهرة خلوت بالسيد السند، وسألته عما لديه من النقود؟ فأخرجها … وإذا بالمجموع ثمانون قرشا صاغا ليس إلا! فلما تقدم كشف الحساب، اتضح أن المطلوب منا أربعة جنيهات!! يا نهار زي الكوبيه يا أحمد يا حافظ! هي كل سكك كده؟ نهايته. لم تفد التوسلات والاسترحامات. فكانت نجاتنا على يد مجهول. الله لا يغلب له وليه. ولكي أخلص ذمتي. أقول بأنني بعد سنوات كثيرة من هذه الحادثة، وبعد أن ألفت فرقتي التي تحمل اسمي، ذهبت إلى المنصورة لإحياء حفلات بها. وقصدت إلى المكان المعهود خاصة لمقابلة ذلك «الجندي المجهول»، ودفع ما في عنقنا من دين وفوقه ولو كلمة متشكر أو ممنون … إلخ، ولكن أقول مع الأسف الشديد إنني لم أعثر عليه طيلة إقامتي في المنصورة … فعوضه على الله، ومين قدم شيء بيداه التقاه! وهنيالك يا فاعل الخير. ولما كان الشيء بالشيء يذكر، فلا بأس من أن أشير هنا إلى خناقة لرب السما، وقعت بين السيدة روز اليوسف وبين الأستاذ عزيز عيد، كان من نتاجها أن وقع طربوش الثاني أسيرا في يد الأولى. فكان نصيبه منها التقسيم إلى أربعة أجزاء متساوية. هذا عدا ما حدث «للزر» الذي لم يبق منه «فتلة» … توحد الله. لم يكن بالطبع لدى الأستاذ عزيز طربوش آخر، كما أنه ما فيش لزوم أقول لك إن الحالة المالية لم تكن تسمح بشراء رباط جزمه، مش طربوش كمان. واضطر عزيز أن يسير في الشارع «حافي» الرأس … أو عاريه. ولم يكن التمدن في ذلك الحين قد طلع علينا بمودة «الاسبور» الحالية، التي تبيح السير بلا طربوش. ولو فرض حتى وكانت هذه المودة موجودة، فإن السيد عزيز آخر من يلجأ إليها. نهايته. لم يكن حظ ليالي المنصورة الباقية من وجهة الإيراد خيرا من الليلة الأولى. فقد كانت الحالة نايمة إلى درجة لا يتصورها أحد. وكنا عايشين على القدرة. ومن غير تطويل أو شرح، أقول إننا فتحنا قرضا جديدا في المنصورة لأجرة العودة بسكة الحديد إلى القاهرة. لم تكن هذه الأهوال المتلاحقة لتدخل اليأس إلى قلبي، بل كانت تملؤني يقينا باقتراب ذلك اليوم الذي يعرف فيه الناس لهذه المهنة حقها، ويغيرون آراءهم بالنسبة لها. أضف إلى ذلك أنني عقدت العزم على أن أجاهد ما استطعت، واضعا نصب عيني هدفا واحدا، هو حمل الناس على الاعتراف بالتمثيل كمهنة تشرف أصحابها وتتشرف بانتسابهم لها. كان اتفاقنا مع إدارة تياترو برنتانيا (القديم) جائرا بالنسبة لنا، ففكرنا في الانتقال إلى مسرح آخر على قد الحال، يكون إيجاره أقل من إيجار ذلك المسرح الذي كان يلتهم أرزاقنا التهاما، وانتهينا إلى اختيار تياترو الشانزلزيه بشارع الفجالة. اتفقنا مع إدارة تياترو الشانزلزيه على أن نشغله بفرقتنا (الكوميدي العربي)، وبدأنا في إجراء البروفات. وفي أحد الأيام، وبينما كنت جالسا مع بعض زملائي أمام الباب الخارجي، إذ هبط من الترام شخص يحمل بين يديه حقيبة، بل قل «بقجة». – سلام عليكم يا جماعة. – عليكم السلام يا أخينا … إيه خير إن شاء الله!! – أنا عبد اللطيف المصري، ممثل كبير، وسمعت أن عندكم شغل وعاوز أشتغل وياكم!! – أهلا وسهلا … تفضل يا سيدنا تناول كام سهم أنت راخر!! ذكرت هذا الحادث، لأن عبد اللطيف المصري هذا أصبح فيما بعد ممثل دور (زعرب)، التابع الخاص لكشكش بك عمدة كفر البلاص، كما سيأتي القول في حينه، ولا مانع هنا من أن أذكر أن عبد اللطيف رأى أن يشارك الزميل أمين عطا الله في مسكنه، وكان عبارة عن غرفة في أعلى بناء التياترو أثثها أمين أثاثا فاخرا، بالنسبة للحالة إذ ذاك يعني زي ما تقول مرتبة ولحافا ومخدتين وقلة وكباية … ورأسك تعيش!! سكن عبد اللطيف مع أمين، فكان اجتماعهما كاجتماع القط والفأر. وقد كنت أود — لولا الإطالة — أن أشرح بعض المقالب التي كان يدبرها أمين لزميله، والتي كانت تحتاج في كثير من الأوقات إلى عقد لجنة مصالحات خاصة لإصلاح ذات بينهما. ولكني أرجئ ذلك إلى مناسباته. أخرجنا في «الشانزلزيه» طائفة من الروايات، منها «عندك حاجة تبلغ عنها» و«ضربة مقرعة» و«الابن الخارق للطبيعة» و«المهرج بلفجور». حدث في أحد الأيام أن تراءى للزميل علي يوسف أن يسير بي إلى مكان غير مأمون العاقبة، فكانت النتيجة أن قبض علينا. وكان في جيبي إذ ذاك خمسون قرشا أخرجتها «وغمزت» بها جندي البوليس الذي زغللت عيناه وتراخى في حماسة. وشاور عقله في تذليل هروبنا، ولكن «أبا يوسف» أخذته العزة بالإثم فصرخ صرخة مضرية وقال: »انت عبيط يا نجيب! ليه تدي العسكري فلوس؟ دلوقت تشوف رايح يجري إيه؟». وما إن سمع الجندي هذا التحدي لمقامه الكريم في أثناء تأديته وظيفته، حتى غلا الدم في عروقه، وأخذته نخوة «الحكام» العظام، وأضاف إلى تهمتنا الأصلية، تهمة أخرى فرعية، هي الشروع في … رشوة!! قلت (بس) ختمت على روسنا يا سي علي يا يوسف!! وبدل تهمة واحدة بقو اثنين، ووقعنا في سين وجيم، وقول علينا يا رحمن يا رحيم. فقال: «يا شيخ ما يهمكش. شد حيلك دلوقت تشوف». فشديت حيلي ودخلت معه القره قول. فماذا شفت؟ ألقوا بنا في «الحاصل» أو الحبس القذر بين المتشردين واللصوص، وأذكر أنني كنت في ذلك اليوم أرتدي بدلة بيضاء. الله يا سيدي على التيل الأبيض من نومه على الأسفلت طول الليل! إن ما قاسيته في هذه الليلة لا يمكن أن أنساه، كما أنني لا أنسى كلما ذكرت آلامي أن أعترف بجميل السيدتين سرينا إبراهيم ونظلة مزارحي، اللتين برزتا لنا في صباح اليوم التالي كملائكة الرحمة، وقد حملتا إلينا الفطور والسجاير وكل ما خف حمله ولم يغل ثمنه. ونترك هذه الحوادث ونعود إلى المسرح فأقول إنني بدأت أشعر أن قدمي قد ثبتت تماما، وأنني أصبحت شيئا مذكورا، أجيد تنفيذ ما يجول في مخيلتي من أفكار فنية. إذ كنت أدرس دوري وأعرف كيف أرضي الجمهور، وكيف أتعمق إلى قرارة الشخصية التي تسند إلي. ومع ذلك لم تكن حالة الفرقة من الوجهة المادية تسر أحدا. فظللنا نفكر في طريق الإصلاح، لعل وعسى يفرجها من لا يغفل ولا ينام. وهبط علينا علي يوسف في تلك الأثناء باقتراح لم نتأخر في تنفيذه، قال: «إن السيدة منيرة المهدية اشتهرت في عالم الغناء، فماذا لو جعلنا منها ممثلة تظهر كذلك على المسرح؟». وحصل الرضا والاتفاق على أن تمثل السيدة منيرة المهدية في كل ليلة فصلا من إحدى روايات الشيخ سلامة حجازي، ثم نمثل نحن روايتنا كالمعتاد. على أن يكون الإيراد مناصفة بين الفرقة ومنيرة. واختير لأول ظهور المطربة الكبيرة الفصل الثالث من رواية «صلاح الدين الأيوبي»، وفيه تغني القصيدة المشهورة «إن كنت في الجيش أدعى صاحب العلم». ونجح برنامجنا والحق يقال، وأقبل الناس إقبالا لم نكن ننتظره. كانت السيدة منيرة في ذلك العهد تقطن في مصر الجديدة. وبما أنني من سكان هذه الضاحية، فقد اختارتني إدارة الفرقة كي أراجع للمطربة أدوارها نهارا، وأدخل لها ما تمثله مساء. وفي اليوم الأول دخلت منزلها أمشي على استحياء، يعروني ثوب من الخجل. وتقدمت ربة البيت … لا لتراجع معي الدور، ولكن لتداعب حيوانا أليفا كانت تقتنيه. أتدري ما هو «عرسة»، أي والله عرسة! والعرسة كما يعرف أصحاب البيوت حيوان كل همه ارتكاب جرائم القتل خنقا ضد الطيور المنزلية المفيدة كالدجاج والحمام. ولكن «عرسة» الست منيرة كانت يا أخي شيء إلهي محبوبة من الجميع. وجدت أن مراجعتي للست لا فائدة منها، لأن النظرة في وش «العرسة» خير لها ألف مرة من التطلع إلى العبد لله …! وفي الحال اعتذرت للفرقة عن أداء هذه المهمة. والبركة في الإخوان، اللهم زد وبارك. قلت إن الجمهور تهافت على مسرحنا، وارتفع رقم الدخل ارتفاعا غير منتظر. ولكن لم تمض مدة طويلة حتى شعرت السيدة منيرة أنها هي وحدها المقصودة بهذا الإقبال، وأن اسمها هو الذي يجذب الناس إلى ارتياد التياترو، وأنه من الغبن لها أن نشاركها في الإيراد نصفا بنصف. ومن ثم صممت على فصم الارتباط. وأنتم من هنا يا أولاد الناس وأنا من هنا، ولقد صح تقدير «الست» … فما كادت «تسلت» يدها من الفرقة، حتى انسحب على أقدامها الخير الذي عمنا ردحا من الزمن. وعدنا إلى «غلب الزمان». دخل النحس علينا بعد أن فارقتنا وما خلنا أنه نسينا وعرف مضيفين غيرنا. ولكن لا، ما يمكنش نهرب منه. ولو كنا في بروج مشيدة! وبعد مدة قضيناها. في تلطيش من اللي قلبك يحبه، جاء من يقترح علينا اقتراحا جديدا. كان إخوان عكاشة يعملون على مسرح دار التمثيل العربي، وكان حالهم كحالنا. يعني كنا في الهوا سوا. بس إحنا أميز منهم شوية. لأنهم كانوا … الله لا يوري عدو ولا حبيب. والاقتراح هو أن نعقد اتفاقا مع «العكاكشة» على العمل في مسرحهم. مع بقاء الفرقتين مستقلتين الواحدة منهما عن الأخرى، بمعنى أن كلا منهما تمثل ليلة. والإيراد المتجمع يقسم مناصفة بين الفرقتين. وعقد الاتفاق بالفعل، وانتقلنا من الشانزلزيه إلى دار التمثيل العربي بشارع الباب البحري لحديقة الأزبكية. وكانت نتيجة هذا الاتفاق على رأي المثل، كالمستجير من الرمضاء بالنار! ويحضرني بهذه المناسبة حادث وقع في الليلة الأولى من عملنا بدار التمثيل العربي لا بأس من ذكره. كثيرا ما كانت الغيرة على مصلحة العمل تدعو السيدة روز اليوسف إلى الوقوف موقف العناد التام مع الأستاذ عزيز، وكم لهما من مناقشات انقلبت إلى مشاحنات فمصادمات … إلخ. ففي الليلة الأولى وقع ما أدى إلى إصرار الاثنين على عدم الظهور على المسرح مطلقا. وكان عليهما رفع الستار فلما حان الموعد ورأيت حرج الموقف. حملت عزيزا بين يدي وقذفت به إلى خشبة المسرح بعد أن رفع الستار، فوجد نفسه أمام الجمهور واضطر إلى التمثيل. ودخلت السيدة روز اليوسف واندمجت في دورها وكأن شيئا لم يحدث على الإطلاق. وانتهت الليلة على خير. وظننت أن كل شيء قد انتهى، ولو من ناحيتي أنا. ولكن الغريب أن الأستاذ عزيز تقدم إلي في حركة عصبية غريبة، وطلب مني أن أدخل معه في «دويللو». يا دي الداهية يا أولاد … «دويللو» كده حتة واحدة! وفكرت طويلا قبل أن أجيبه إلى طلبه، ثم شاورت عقلي، بم أجيب؟ وإذا نزلت على تلك الرغبة فأي سلاح أختار؟ وهل هناك ما يمنع إذا صارحته بأن تكون «الصرمة» سلاحنا في مبارزة سلمية كهذه؟ «فالصرمة» على كل حال سلاح إذا طال عمره ما هو مسيح نقطة دم واحدة! دارت هذه الأفكار في مخيلتي، ولكنني فضلت أن أحتفظ بهذا الاكتشاف الثمين في عالم المبارزة فتركت عزيزا دون أن أفوه بكلمة. وقد قلت إننا بعد أن هجرتنا السيدة منيرة اتفقنا مع فرقة أبناء عكاشة على أن نعمل في مسرح دار التمثيل العربي ليلة بينما تعمل الفرقة العكاشية ليلة أخرى وهكذا. وسار الحال على هذا المنوال إلى أن كان شهر مارس عام ١٩١٦ حيث أحسسنا أن وجودنا مع العكاشيين لم يزدنا إلا خيالا، فنشدنا الاستقلال وقررنا أن نترك ما لعكاشة لعكاشة، وننقل حالنا ومحتالنا إلى تياترو برنتانيا مرة أخرى. ومن فات قديمه تاه. وبعد أن عملنا مدة شعرت أنني أزداد كل يوم نجاحا عن سابقه، وأن الجمهور يرمقني بشيء من انتباهه، ومع ذلك فقد كنت مهضوم الحق لا من الناحية المادية وحدها، بل ومن الناحية الأدبية كذلك. فتشجعت وطلبت إلى الأستاذ عزيز عيد أن يضع اسمي في إعلانات الفرقة، وأن تكلأني الإدارة بشيء من الرعاية من حيث تعريف الجمهور بممثل يحب الجمهور نفسه أن يعرف عنه الكثير. ولكن عزيزا رأسه وألف سيف، مش ممكن وضع الاسم. يا سيدي يهديك، مافيش فايدة. فلما فكرت في واقع الأمر، ورأيت الحالة المؤلمة التي تعيش فيها الفرقة قلت: سيبك يا واد. بلا فرقة بلا دياولو. وما دامت الفرقة «ميتانة ميتانة» فأشرف لي أنني أموت بعيدا عنها، وأريح نفسي من قرفها. وفي شهر مايو من عام ١٩١٦، وما زلت أذكر التاريخ تماما، هجرت فرقة الكوميدي العربي دون أن أفكر في العمل الذي أعيش منه. وظللت شهرا ونصف شهر أقدح زناد الفكر، وأعرض على بساط البحث، اقتراحات كثيرة، بمشروعات أعمال واسعة النطاق، النجاح فيها مضمون ٢٤ قيراطا. ولكن آخ يا خسارة. مافيش فلوس! وفي تمام الساعة الواحدة من مساء يوم أول يونيو عام ١٩١٦ كنت جالسا في بوفيه تياترو برنتانيا. مفلسا كالعادة. وإذا بي أرى شخصا يهبط علي في سترة فاخرة وعصا ذهبية المقبض وخاتم يلعب شعاعه بالنواظر. فلما جلس إلى جانبي أخرج من جيبه علبة سجاير فاخرة من الفضة وفي حركة أرستقراطية فخمة، ناولني سيجارة!؟ أتدري يا عزيزي القارئ من هو هذا «الوارث» العظيم الذي وصفت. أنه استيفان روستي، زميل العناء والشقاء، استيفان اللي كان زي حالاتي يشتهي سيجارة ماركة الحملي … والا حتى ماركة الكوز! إيه يا ولد النعمة اللي ظهرت على جتة اللي خلفوك دي، ومنين العز دا كله؟ تكونش «سطيت» على خزينة البنك الأهلي؟ والا قتلت واحد بنكير ولطشت اللي في جيبه؟ وبكل برود هز استيفان رأسه وقال: «لا هذا ولا ذاك، المهم أن ربنا فرجها علينا والسلام». وبعد مناقشات لاستطلاع سر هذا الثراء المفاجئ، ذكر لي استيفان أن هناك «كباريه» خلف برنتانيا يطلقون عليه اسم «أبيه دي روز» وأنه وجد هناك عملا يتقاضى عليه ستين قرشا في كل مساء! يا نهار أبوك زي الكرمب يا استيفان يا روستي؟ ستون قرشا في الليلة، يعني قد ماهية العبد لله في الشهر إذا كانت الحالة رايجة كمان! وراح استيفان يشرح لي ماهية عمله. فإذا به يظهر خلف ستار من الشاش أثناء انطفاء الأنوار في المحل، فيؤدي من مكمنه هذا بعض حركات هزلية، وغير هزلية. يعني بالعربي «خيال ظل» … فقلت له: «إنني أعلم أن سمعة هذا المكان لا تتفق وكرامة الإنسان» … فأجاب: «وأنا مالي ومال الكلام الفارغ ده. أنا راجل باشتغل من «وراء الستار» ولا حد عارفني ولا حد شايفني». «ثم أن الوقت اللي بامضيه في عملي لا يزيد عن ربع ساعة في كل ليلة، ألهف فيهم الستين صاغ، ولا حد شاف ولا حد دري!». وفكرت مليا ثم وضعت يدي في جيبي فإذا بها تخرج بيضاء من غير سوء. يعني من غير تشبيه ولا تمثيل. كان الفلس ضاربا أطنابه بشكل يخلي الواحد يبيع هدومه. أخيرا مددت يدي إلى استيفان، وقلت: «ألا مافيش عندكم شغلة لواحد زيي؟ أي دور، خدام، سيد، باشا، بيه، أفندي، واحد مش لاقي اللضا، أي دور أنا قابل. ثم مش طمعان كمان، نص ريال في الليلة كويس قوي، وثمانية صاغ كمان … رضا!». وتركني استيفان بعد أن وعدني خيرا. وفي المساء تلاقينا أمام باب «الأبيه دي روز» فقادني إلى صاحب الملهى وكان إيطاليا اسمه الخواجة «روزاتي». وكان اسكتش «خيال الظل» المزمع إخراجه في تلك الليلة يحتاج إلى ظهور خادم بربري، فقدمني استيفان لروزاتي قائلا إنني ممثل كبير مشهور، وإنني، ولم يكمل استيفان سلسلة المحاسن والأوصاف، لأن الرجل قاطعه قائلا بالفرنسية: «لا لا، أنا مش عاوز ممثل كبير وشهير، وبتاع … أنا عاوز ممثل كل شيء كان لأن الدور مش مهم». وهنا تدخلت أنا في المناقشة وقلت للخواجة: «أنا يا أفندم ممثل بسيط على قد الحال. لا أنا شهير ولا أنا كبير». فقال: «أنا مش رايح أدفع أكثر من أربعين قرشا». فأبرقت أساريري، ونظرت إلى استيفان نظرة استفهام، لأنني لم أكن أصدق أن أحصل على مرتب كهذا! وأشفقت على نفسي خوفا من أن يكون هذا المبلغ هو المرتب الشهري. وليس اليومي! وحين زالت معالم الدهشة من نفسي، هنأني استيفان وقادني إلى مدير المسرح ومعاونة المسيو روزاتي، وهي فتاة رائعة الجمال كانوا يسمونها «ليليان الجميلة». وهناك أفهمتنا ليليان موضوع «خيال الظل» الذي سنؤديه في تلك الليلة، وكانت إدارة الملهى قد أعلنت في جميع أنحاء القاهرة عن مفاجأة كبرى: هي أن هناك سيدة باريسية ذات جمال فاتن وحسن رائع، ستبدو للجمهور خلف الستار الشفاف ثلاث ليال سويا، وفي الليلة الرابعة تظهر بشكلها الطبيعي، وأمام الستار لا خلفه. ونجحت هذه الدعاية في جلب الجماهير الغفيرة طيلة الليالي الأربع، ولما آن وقت ظهور المفاجأة المدهشة، عرف الناس أن السيدة الباريسية الفاتنة، لم تكن إلا استيفان روستي بعينيه وأنفه و«شنبه». وبعد ذلك بدأنا نمثل على المسرح روايات باللغة الفرنسية ذات فصل واحد: عمادها من الذكور شخصان … أنا واستيفان أما السيدات … فقد كان الخير كثيرا … والكباريه فيه الصنف ده على قفا من يشيل … فماذا كان يحدث أثناء التمثيل وهل نجحنا في عملنا أو كان الفشل حليفنا؟ الإجابة على هذا السؤال تتضح لك حين تعلم أن المتفرجين كانوا ينتهزون فرصة التمثيل فيديرون ظهورهم إلى المسرح، ويتحدثون بعضهم إلى البعض الآخر، هازلين مصفقين ضاحكين، أما نحن، فقد كنا نمثل للمقاعد وحدها. واللي مش عاجبه يشتغل في برنتانيا، بدال ما يشرب م البحر؟
نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية. نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية.
https://www.hindawi.org/books/51630730/
مذكرات نجيب الريحاني
نجيب الريحاني
تبرز من بين صفحات هذا الكتاب، مذكرات رائد الكوميديا المصرية والعربية، الضاحك الباكي «نجيب الريحاني» ذلك الممثل العبقري، والموهوب الفذ، الذي استطاع أن يحوذ إعجاب الناس وحبهم، إن الريحاني لم يكن فقط مبدعًا في فنه بل كان مخلصًا له، وراهبًا في مسرحهِ، فكان خير له أن يقضي نحبه فوق المسرح، من أن يموت على فراشه كما يقول. عُرف نجيب الريحاني بأمانته وصدقه، فكان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يميل إلى المواربة والمداراة؛ لذا فقد آلى على نفسه في عرضه لهذه المذكرات أن يسجل ما بها من حقائق مهما كان فيها من ألم يناله قبل أن ينال غيره ممن جمعته به أية جامعة أو رابطة، ويصارح الريحاني القارئ في هذا الكتاب، فيقول له: «بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يُشعِر بالإقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة في هذه الآونة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هادئ البلبال.»
https://www.hindawi.org/books/51630730/5/
كشكش بك
في إحدى الليالي، استلقيت على الفراش واستعرضت أمام مخيلتي كل ما مر بي من تجارب حلوها ومرها، ووقفت أمام الكثير منها استخلص ما تبعها من خير أو شر، فإذا بي أجد مواضيع هي الترجمان الصادق لتلك الحياة التي نقضيها في هذا العالم المضطرب. وفي فجر هذه الليلة، ولست أدري أكنت في تلك اللحظة نائما أم مستيقظا، وإنما الذي أؤكده أنني رأيت بعيني رأسي خيالا كالشبح، يرتدي الجبة والقفطان وعلى رأسه عمامة ريفية كبيرة، فقلت في نفسي. ماذا لو جئنا بشخصية كهذه وجعلناها عماد رواياتنا. ولم أتوان في نفس الدقيقة، وكانت الساعة الخامسة صباحا، فقمت من فراشي وأيقظت أخي الأصغر، وكان لي خير عون وساعد، ورحلت أملي عليه هيكل الموضوع الذي صممت على إخراجه، وكان عبارة عن أن عمدة من الريف وفد إلى مصر، يحمل الكثير من المال فالتف حوله فيها فريق من الحسان أضعن ماله وتركنه على الحديدة، فعاد إلى قريته يعض بنان الندم، ويقسم أغلظ الإيمان أن يثوب إلى رشده، وألا يعود إلى ارتكاب ما فعل. ولما أشرف الخواجة روزاتي صاحب ملهى «الأبيه دي روز» على الإفلاس وكاد يقفل «الملهى»، تقدمت إليه أرجو تأجيل «النطق بالحكم» بضعة أيام، حتى أضع رواية قد تكون الداء الشافي لداء الكساد!! وقبل الرجل ما اقترحت عليه، فكان أن وضعت أولى روايات كشكش بك، وكانت عبارة عن اسكتش فكاهي، يستغرق عشرين دقيقة، موضوعه كما ذكرت، وجعلنا اسم الرواية «تعالي لي يا بطه». وفي ظهر يوم الافتتاح كنا نجري البروفة النهائية، وقد أحسست حينذاك أن روايتي هذه تعتبر مثلا أعلى في السخافة، وأنني لو كنت بين الجمهور أثناء تمثيلها لما وسعني إلا أن ألعن خاش المؤلف، والمؤلف، بالطبع، هو أنا والمخرج برضه أنا، والملحن … أنا أيضا! فقلت: آه يا وقعتي يا أنا، وقبضت على قلبي بيدي من هذه اللحظة إلى مساء اليوم المذكور، حيث قصدت إلى المسرح أسير هائما وساقاي لا تستطيعان حملي. وجلست أمام المرآة أصنع لنفسي «مكياجا»، وأضع للمرة الأولى «ذقن كشكش بك». وانتهيت من مهمتي ونظرت إلى شكلي في المرآة، ولا أنكر عليك يا سيدي القارئ أنني شاهدت وجها «فنيا» يطابق الشخصية التي رسمتها في مخيلتي … شخصية العمدة الريفي الساذج الذي أشاب الزمان قرنيه، وما تزال أشعة السحر تبدو في عينيه. وتوكلنا على الله ورفعنا الستار، واقتحمت المسرح بجبتي وقفطاني، ويا قاتل يا مقتول!! كنت مضطربا بالطبع، وكان يلوح في خيالي سوء المصير إذا ما قدر لنا السقوط والفشل. إذ أين أذهب؟ ومن أين لي الأربعون قرشا التي أتقاضاها عن كل ليلة، والتي تدفع عني هموم الزمان وغوائل الحدثان؟ وانتهى التمثيل، وما أدري والله العظيم على أي حال انتهى؟ وهل نجحت الرواية أم سقطت؟ وهل نالت القبول من مديرنا العزيز الخواجة روزاتي، أما سببت له امتعاضا فوق ما كان يشعر به من «اشمئناط»؟! القصد. رأيت أن أرجئ الاستفسار عن ذلك كله إلى اليوم التالي، فلبست معطفي ورفعت «ياقته» أخفي بها أطراف وجهي عن الأعين، وتسللت على مهل متخذا طريقي إلى الخارج دون المرور على الخزينة … على غير العادة طبعا، لقبض الأربعين صاغا اليومية. وفي اللحظة التي كدت أسلم فيها ساقي للريح عند الباب الخارجي، لمحتني وكيلة الملهى — وكانت صديقة للخواجة — فصرخت تناديني، وكبل الوهم قدمي فوقفت في مكاني دون حراك، وقلت: آخ … جالك الموت يا تارك … التياترو!! وجاءت إلي الفتاة تهنئني بحرارة، وتحدثني أعذب حديث، وهي تبتسم ابتسامة الحبور والانشراح!! ولكنني مع ذلك كنت أشك في الأمر، وأخشى أن تكون المسألة «تأليس في تأليس»، وأن هذه التهنئة التي غمرتني بها ربما كانت تخفي وراءها «التهزيء التام والطرد الزؤام»! إلا أنها جذبتني من يدي، فمشيت خلفها متثاقلا إلى أن وجدتني وجها لوجه أمام الخواجة «روزاتي»، الذي استقبلني متهللا هاشا باشا وصافحني قائلا: «أنا ما كنتش أظن أبدا أنك ممثل عظيم بالشكل ده!! أنت هايل قوي، مبروك مبروك!!». فقلت له: «العفو … يا خواجتنا بس إيدك على جيبك بقى واتحفني، بالريالين الفينو!! الله يطمنك». ووضع الرجل يده في جيبه وأخرج ستين قرشا ناولني إياها وهو يقول: «أنت ماهيتك من النهارده كده!!». ووضعت المبلغ في جيبي وقابلت استيفان روستي خصيصا لأقول له: «ما حدش أحسن من حد. والروس ساوت بعضها يا قفا!!». ولما اقترب الأسبوع الأول من نهايته، كنت قد أعددت رواية جديدة بالريالات الثلاثة التي ارتفعت إليها ماهيتي اليومية!! وفي هذه الرواية ارتقى كشكش بك عمدة كفر البلاص، وصار يستصحب في تنقلاته أمينا خاصا — هو «ادلعدي» زعرب (شيخ الغفر)، وقد أسندت هذه الشخصية إلى السيد عبد اللطيف المصري. ونجحت هذه الرواية كما نجحت سابقتها، ورأى صاحب الملهى بعد ما شاهد من ازدياد الإقبال، أن يرتقي بالنظام بعض الشيء، فجعل رسم الدخول خمسين مليما بعد أن كان الدخول بلا رسوم. وكتب الله لنا «الفتوح» فلم يقف مرتبي عند القروش الستين. إذ اتفق معي صاحب الملهى على أن يكون لي إلى جانب الماهية، حصة تعادل خمسة في المائة من الدخل، نظير التأليف والإخراج، فأقبلت الدنيا ترفرف بجناحيها، وبدأت «أحمر» عيني للبؤس القديم الخالي وأضربه بالشلوت كمان! وأخرجت روايتي الثالثة باسم «بكره في المشمش»، وبعدها وقفت كل أوقاتي على العمل وحده، أخرج من المسرح ليلا إلى المنزل توا، ومن المنزل صباحا إلى المسرح، لا أعرف للراحة طعما، ولا لمباذل الحياة معنى، وأصبحت الرجل الكامل الذي يعرف قيمة الوقت. فلا يفرط في دقيقة منه دون عمل يؤديه فيه. وفي ذلك الحين كان التمثيل في نظر الخاصة وباء يهربون منه ويبتعدون عنه، ولكني شاهدت ظاهرة غريبة قوت من عزيمتي وشدت أزري فيما عولت عليه! هذه الظاهرة أنني كنت في أحد الأيام جالسا في محل (جروبي) القديم، وتصادف أن كان يجلس إلى الطاولة المجاورة لي اثنان تبدو عليهما الوجاهة التامة، ويخيل للرائي أنهما من طبقة الباشاوات، أرباب المعاشات. وكان أحدهما قد راقت له الخلوة فراح يقص على صاحبه نبأ سهرته بالأمس، ويروي له ما شاهده قائلا: «… وبعدين يافندم راح على المسرح عمك كشكش بك ده … وهات يا ضحك». وفي يوم آخر كنت أسير في حي الأزبكية، الله يرحم أيامه، فلقد كان في ذلك الحين باسم الله ما شاء الله!! أقول كنت أسير، فإذا بي أسمع رهطا من النسوة ترتفع أصواتهن بإنشاد لحن من روايتي «بلاش أونطه»، وشعرت بعد ذلك أنني كلما مررت في طريقي، أرى الأصابع تمتد بإشارة نحوي، بينما الأفواه تردد: «هذا كشكش بك»! كنت قد بلغت سن الاقتراع قبل ذلك الحين بثمانية أعوام، فدفعت البدلية وعوفيت من الخدمة العسكرية. وبعد الأعوام الثمانية وقع شيء من الجفاء بيني وبين أحد الجيران، فما كان منه إلا أن أبلغ إدارة القرعة أنني هارب من التجنيد، فاستدعيت في يوم الفرز العام، وذهبت لأثبت سوء نية هذا الجار، وأقدم البرهان القاطع على دفعي للبدلية. فلما بلغت المكان ورأيت الزحام، انتحيت جانبا ووقفت أنتظر دوري. فسمعت أحد الجنود يهتف باسم (نجيب الريحان)، فأجبت النداء على اعتبار أنه ربما نسي الياء الأخيرة في (الريحاني). وقادني الجندي إلى إحدى الغرف، وقد كنت على يقين أنني واجد فيها مجلس القرعة المؤلف من فريق من الضباط، ولكن شد ما كانت دهشتي حين ألفيت الجلوس رهطا من المشايخ المعممين، وليس بينهم حتى ضابط واحد يخزي العين، سلام عليكم … عليكم السلام. وتفرس في أحد المشايخ، وأشار لي بالجلوس فلما جلست قال لي: «اقرأ الربع الأخير من سورة الأعراف!». أعراف … وأنا منين أعرف سورة الأعراف يا سي الشيخ؟ قال: «أمال طالب المعافاة من القرعة العسكرية وبتدعي أنك حافظ القرآن ليه؟». وحقق المشايخ ودققوا، فاتضح أن هناك فقيها اسمه (الشيخ بخيت الريحان)، وأنه حين طلب للقرعة التمس المعافاة لأنه من حملة القرآن الكريم، فجيء به للامتحان. وقد اختلط الأمر على الجندي وقت النداء فنطق بكلمة (نجيب) بدل بخيت. وانتهى هذا الموقف الحرب والحمد لله بسلام، بعد أن قدمت الدليل القاطع والبرهان الساطع على أنني سبق أن دفعت البدلية بالكمال والتمام منذ ثمانية أعوام. ولما رأى الخواجة «روزاتي» صاحب الملهى ذلك الإقبال المتزايد، والتهافت المتوالي، والرقي في «صنف المتفرجين» رأى أن يتبع قاعدة العرض والطلب التي يفهمها «المدردحون» من مهرة التجار، فبعد أن كان رسم الدخول خمسين مليما للعموم، أصبح على درجتين أولى بخمسة عشر قرشا وثانية بعشرة قروش. ولقد أثبت هذا الارتفاع بعد نظر روزاتي، فإن الإقبال كان كما هو مع تضاعف الإيراد بطبيعة الحال. وهناك ظاهرة لطيفة بدت للعيان، ذلك أن موعد افتتاح الملهى كان الساعة التاسعة من كل مساء، وكان البرنامج يشمل أشياء غير روايتنا، لذلك لم يكن الستار يرفع للتمثيل قبل الساعة الحادية عشرة، وفي هذا الموعد بالذات كانت المقاعد تمتلئ حتى آخرها، أما قبل ذلك فكنا نشاهد المكان شبه «القاع الصفصف» زي أسيادنا البلغاء ما بيقولوا!! فهذه الظاهرة السارة، أثبتت لصاحب رأس المال، أن العبد لله كان بمثابة البيضة الذهبية، أو المنجم الذي يدر الربح الحلال، فلقد كان الإيراد اليومي لمسرحه يتراوح بين الثلاثين والأربعين جنيها بعد مصروفاته جميعها وهو مبلغ لم يكن أحد يحلم به!! هذا من جهة مدير المحل، أما من ناحيتي أنا فقد كنت قانعا بما قسم لي، أنظر بعين الرضا إلى ذلك الربح الذي يدخل خزينة الرجل، معترفا بما طوقني به من جميل لست أنساه، وفضل وجب علي أن أرعاه. ذلك أنني على مسرحه ظهرت، وبين جدرانه اشتهرت. وقد أحس مني هذه العاطفة فتوثقت بيننا صلة الود وتمكنت عرى الصداقة، مما كان سببا في مواصلة النجاح. قلت إننا عودنا الجمهور أن نخرج له في كل أسبوع رواية جديدة، وقد كان في ذلك العمل إرهاق لي فلم يكن في طاقتي أن أمثل وأجري البروفات اليومية، ثم أضيف إلى ذلك مهمة وضع الروايات وتأليفها، فلما شعر الخواجة روزاتي بذلك، بادرني برغبته في أن أنتقي مساعدا يعاونني في التأليف، كي أوقف جهودي على التمثيل … فنثرت بين يدي كنانة الأصدقاء القدماء، الذين قاسوا معي العناء، وشربوا وإياي كئوس البؤس والشقاء. فكان أن اخترت من بينهم الأستاذ أمين صدقي. وبانضمامه إلينا أصبحت الفرقة تضم من السادة البائسين السابقين أربعة هم محسوب السيادة وأمين، واستيفان روستي، والواد زعرب الذي هو عبد اللطيف المصري على سن ورمح!! ولما كانت لكلمتي عند روزاتي قيمتها، فقد رأيت أن أبذل «نفوذي» خي يا خي … في أن أحصل للزملاء الأكرمين على ماهيات ذات شأن يستعينون بها على «قضاء حقوق للعلا قبلهم»!! كما كان يقول الشعراء ويطردون بها كابوس الشقاء القديم. وإنه ليسرني أن أقول بأن مسعاي قد نجح والحمد لله. وإن الأعزاء — بما فيهم استيفان — قد نالوا ما كانوا يشتهون من مرتب مرتفع. وبعدما كان استيفان هو الذي يتوسط لأجلي، انعكست الآية فرددت له جميله يا أفندم وأهي دنيا قلابة …. يوم كده ويوم كده!! ارتفع مرتبي إلى سبعة وعشرين جنيها في الشهر، وقد كان هذا المبلغ رقما قياسيا لم تعهده المسارح من قبل، ولم يصل إليه ممثل في ذلك الحين، الذي كان الجنيه فيه يسوى الشيء الفلاني والشيء العلاني! ولقد كان الجميع يتحدثون بهذه القيمة ويتنادرون بها في مجتمعاتهم، مما كان محلا للاستغراب من زملائي الأقدمين … أولئك الزملاء الذين أصدروا علي منذ سنوات سابقة لهذا التاريخ حكما — مشمولا بالنفاذ — يقضي بطردي من فرقة أبيض وحجازي!! ليه؟ لأنني لا أصلح للتمثيل بتاتا، ولا أليق للظهور على المسرح … بل ولعل القارئ العزيز يذكر أنني قلت فيما سبق بأن أولئك الإخوان تنبئوا — الله يصبحهم بالخير — بأنني لن أكون في يوم من الأيام ممثلا ناجحا، وأنه خير لي أن أبحث عن مهنة أخرى آكل منها عيش، بدل ضياع وقتي فيما لا فايدة منه ولا عايدة!! قلت إن مرتبي كان موضع استغرابهم، ولم أقل حسدهم لأنهم بدءوا في ذلك الوقت، وفي ذلك الوقت فقط، يكتشفون مواهبي الرائعة! وفني البديع! وتمثيلي المدهش! بل ويتنبئون لي بمستقبل زاهر وعهد باهر. عيني يا عيني على التنبؤات، التي كانت على طرفي نقيض مع ما سبق أن شرفوني به من تنبؤات … برضه!! لم يقتصر نجاح أعمالي على الوجهة العامة، بل كان له أثر شخصي خاص، فقد كنت شابا في مقتبل العمر، قيافة، على سنجة عشرة، أعيش في وسط تغمره الروح الأجنبية. وكل هذه ميزات ترفع من شأن المرء في نظر الكل، ولا سيما الجنس اللطيف. لهذا أصبحت في ذلك الوقت، مطمح الكثيرات من الزميلات وغير الزميلات، ولكنني في هذا الحين قد طرحت الأفكار القديمة ظهريا، وانتويت أن أخلص لعملي وحده، وأن أدع لغيري مداعبات «المعلم» كيوبيد ومناوراته. ذلك ما عاهدت نفسي على انتهاجه إذ ذاك. وأرجو أن يسمح لي القارئ العزيز أن أشير إلى أنني ما ذكرت هذه الناحية الدقيقة، وهي أنني كنت هدفا لسهام الكثيرات من أعضاء الجنس اللطيف. أقول إنني لم آت على هذه الناحية الدقيقة، إلا لأنبه الأذهان إلى حادثة خاصة لم يئن أوان سردها بعد. وقد كانت سببا مباشر في تغيير مجرى حياتي، وفي إيجاد اتجاه جديد حملني تياره بقوة جارفة. ولست أريد التبسط في شرحها حتى يجيء دورها. فمهلا وإن غدا لناظره قريب!! وأعود فأقول إن أعمالنا في ملهى الأبيه دي روز نجحت نجاحا متواصلا. وإن الإيراد الصافي الذي كان يتقاضاه المسيو روزاتي كان يتراوح بين الثلاثين والأربعين جنيها في اليوم الواحد. وقد كان هذا النجاح الفذ داعيا أصحاب الملاهي الأخرى إلى أن يحذوا حذو «الأبيه دي روز» وينسجوا على منواله، فراحوا يتلمسون السبل إلى ذلك، ويجهدون أنفسهم في الوصول إلى ما وصل إليه مسرحنا. وكان في مقدمة تلك الملاهي (كازينو دي باري) الذي كانت تديره إذ ذاك مدام مارسيل لانجلو «مكان سينما استديو مصر (ريتس الآن)». وجاءت مدام مارسيل بالزميل القديم الأستاذ عزيز عيد، وجعلته على رأس فرقة ظلت تواليها بالعناية والاهتمام، ولكن للأسف لم تسفر هذه التجربة عن شيء من النجاح قل أو كثر!! ولأسباب مجهولة باء مسرح الكازينو بالخسران المبين. وراحت مدام مارسيل تفتق ذهنها في ابتكار الأساليب المتنوعة، فتناولت أشخاص الممثلين بالتغيير والتبديل، وفعلت مثل ذلك مع المديرين أيضا، إلى أن هداها التوفيق إلى الأستاذين مصطفى أمين وعلي الكسار. وهنا فقط بدأت فرقة (كازينو دي باري) تحتل مكانا هاما في عماد الدين، كما بدأ نجم الأستاذ الكسار يتلألأ في ذلك الحين إلى جانب نجمي، وأوجدت الظروف من الفرقة — التي كان على رأسها — منافسا قويا لفرقتنا الناجحة. ونترك ذلك جانبا فنقول إننا أخرجنا مع الأستاذ أمين صدقي روايات «خليك تقيل» و«هز يا وز» و«اديله جامد». وأظن القراء الأعزاء يذكرون ما سبق أن قلته، من أن معدل الرواية كان أسبوعا واحدا نخرج بعده الرواية الجديدة. ولكن النجاح الكبير الذي واجهناه أغرانا بمدها إلى أسبوعين لكل رواية، ومع ذلك فقد كان الجمهور يوالينا بإقباله وتشجيعه، اللذين تعودناهما منه منذ البداية. وبينما كنا على وشك إخراج روايتنا الرابعة، انضم إلينا زميلنا العزيز الأستاذ عزيز. لم يكن النجاح الذي بلغناه يروق في أعين الكثيرين من حسادنا، هؤلاء وجدوا مرتعا خصيبا فيما كان بيني وبين مسيو روزاتي من صداقة، نبتت على أثر ارتباط مصالحنا المشتركة. ولذلك بدأ أولئك الحساد يعكرون الجو بيننا ويتلمسون أسباب الشحناء، باذلين في ذلك جهودا غير محمودة، إلى أن وقفوا على ناحية الضعف في الرجل، فضربوا على وتر حساس استطاعوا بواسطته أن يتغلغلوا إلى دخيلة الرجل، ويوهموه أنني أناوئه فيما استطاب من صداقة خاصة للبعض، ويعلم الله أنني بريء من هذا الفعل، وأنني كنت أعرف للرجل جميله علي، فلم تحدثني نفسي يوما بنكرانه. وأحسست أن العلائق بيننا بدأت تتراخى من ناحيته، وأن الدسائس وجدت طريقا إلى قلبه، فلم أتوان في مفاتحته في الأمر، ولكنه أنكر وجود شيء من سوء التفاهم … ولاح لي من هذا الإنكار أنه كان إلى الإثبات أقرب. فقلت له مادام الصفاء بيننا على حاله فأريد كبرهان قطعي أن ترتفع ماهيتي إلى ثلاثين جنيها في الشهر، أي أن أحصل على ثلاثة جنيهات فقط كعلاوة شهرية، وهو مبلغ ضئيل بالطبع بالنسبة لما كان يربحه، ولكنني ما كدت أتقدم إليه بهذا الطلب حتى رفضه بشكل أثارني، وزاد على رفضه تأنيبا لم أتحمله، وتعريضا لم أجد معه بدا من إنذاره بترك العمل بعد مهلة أسبوع آخر. ويظهر أنه فهم إنذاري هذا على غير حقيقته، ظنا منه أنها مناورة أطالعه بها، وأنني لن أجد مع غيره عملا كالذي كنت أباشره وإياه، لذلك أجابني بأن الباب مفتوح واللي مش عاجبه … مع السلامة!! لم تكن مدة التعاقد بيننا قد انتهت بعد، وكانت الشروط تقضي بدفع مائة جنيه غرامة لكل من يخل بما ورد في العقد، ومع ذلك قررت الإخلال بعد مهلة الأسبوع الذي ضربته له، كي يجد في أثنائه من يحل محلي في مسرحه، ومادام الباب مفتوحا كما يقول فلأعمل أنا على قفله بالضبة والمفتاح؟! ولقد شجعني على إتيان ما فعلت، أن مفاوضة كانت تجري في ذلك الحين بيني وبين المرحوم الخواجة «ديموكنجس» على أن أتفق معه على العمل في مسرح جديد اسمه «الرينسانس» في شارع بولاق «فؤاد الأول» (٢٦ يوليو الآن)، وموقعه في المكان الذي يشغله اليوم محل (إخوان شملا). وانتهى الاتفاق بيني وبين مسيو كنجس على أن أتناول مرتبا شهريا قدره مائة وعشرون جنيها. وقبضت منه بالفعل عربونا يعادل ماهية نصف شهر، أي ستين جنيها، فكانت هذه المرة الأولى التي أقبض فيها من عملي مثل هذا المبلغ الضخم دفعة واحدة!! وبعد نهاية المهلة المعطاة إلى الخواجة روزاتي، انتقلت بحول الله وقوته إلى تياترو «الرينسانس»، وبدأت مع الفرقة نجري بروفات فيه لا نلوي على شيء. وبدأ مديرنا القديم يشعر بالخسارة التي حلت به، وراح يعض بنان الندم على ما جره إليه دس الدساسين، وأكاذيب المنافقين. فماذا هو فاعل إذ ذاك؟ وما الطرق الذي يسلكه؟ راح يجرنا إلى المحكمة المختلطة مطالبا إيانا بتعويض قدره ألف جنيه مصري، وبعدم استعمال اسم «كشكش بك» باعتباره صاحب المحل الذي ابتكر هذا الاسم. وبعد مرافعات ومداولات أخذت دورا كبيرا في ساحة المحكمة، صدر الحكم، فإذا هو يقضي برفض طلبات المدعي مع إلزامه بدفع مبلغ المائة جنيه المنصوص عليها في العقد المحرر بيني وبين المسيو روزاتي. وزاد هذا الحكم أن سجل لي في حيثياته اسم «كشكش بك» بصفتي أول مبتكر له، وأول مؤلف استعمله. وأسقط في يد الرجل، وكان ذلك نهاية ملهى «أبيه دي روز». وتألفت فرقتنا الجديدة في «الرينسانس» من السادة إياهم الذين كانوا دعامة أبيه دي روز، وهم الأربعة الكرام «أمين صدقي واستيفان روستي وعبد اللطيف المصري والعبد الفقير، وانضم إلينا لأول مرة عبد اللطيف جمجوم. وبدأنا عملنا فتبعنا جمهورنا الذي تكون في الملهى السابق، وتضاعف الإقبال عن ذي قبل وكتب الله لنا ما كنا نرجو من نجاح وتوفيق. وحين كنا نعد روايتنا الأولى، تناقشنا في اختيار الاسم الذي نطلقه عليها وانتهينا إلى قبول اقتراح أحدنا، وهو أن نجعل الاسم أداة لإغاظة خصمنا الذي رفع علينا الدعوة في المحكمة، ولم يكن الحكم قد صدر إذ ذاك — وهذا الاسم هو «إبقى قابلني!!». ولعله من المناسب هنا أن نقول إن تلك التسمية كانت بداية لاكتشاف جديد في عالم التمثيل، وهو مراعاة «التأويز والتريقة» على الغير، باستعمال اصطلاحات وأمثال يذهب الخصوم في تفسيرها مذاهب شتى: ويطبقونها على ما يكونون فيه من حالة نفسية. ولقد انتشر هذا (الاكتشاف) انتشارا سريعا حتى صار قاعدة، أو تقليدا أو دستورا للفرق، حين اختيار أسماء رواياتها. إذ كانت كل واحدة تراعي في هذه التسمية أن ترد ردا محكما على الاسم الذي تكون الفرقة الأخرى قد اختارته لرواياتها الجديدة … وهلم جرا. واستمرت رواية «إبقى قابلني» تمثل شهرا كاملا دون أن يقل إقبال الجمهور أو ينقص إيراد الشباك، مما حمل «المسيو ديموكنجس مؤجر الملهى» على تمام الثقة بأننا نسير إلى الأمام، وبأنه كان على حق حين رغب في الاتفاق معنا. وبعد شهر أخرجنا رواية «كشكش بك في باريس»، فكان نصيبها من النجاح نصيب سابقتها. وأخذ اسم كشكش بك ينتشر بين الطبقات، ويسري فيها مسرى الكهرباء، حتى جرى على كل لسان في الدور والقصور والميادين والأزقة. ولم يعد أحد في مصر كلها قاصيها ودانيها لم يردد هذا الاسم، بل ويبتسم حين يطرق سمعه. وكانت ثالثة رواياتنا «وصية كشكش» فلم تقل من حيث النجاح والفوز عن سابقتها. وفي شهر مايو سنة ١٩١٧ انتهت مدة التعاقد بين الخواجة ديموكنجس وصاحب الملك فلم يشأ ديمو أن يجدده، بل رأى بثاقب بصره أن يستقل بمسرح جديد يكون ملكا خاصا به، ففاتحني في الأمر، ووافقته على وجهة نظره، لأن قيمة الإيجار الذي يدفعه كانت كبيرة جدا. وراح ديمو يبحث عن المكان الجديد فوقع اختياره على «قهوة» في شارع عماد الدين، مقامة على قطعة من الأرض يمتلكها البنك العقاري المصري، وبعد المعاينة اللازمة اتفقنا على احتلالها وإقامة مسرح مكانها. وتقرر أن يبدأ العمل فورا في الهدم والبناء وقدرت المدة اللازمة لذلك بأربعة أشهر قضيناها معطلين عن العمل. ولكن كانت جيوبنا والحمد لله تحوي ما يكفينا ألم الفاقة وشظف العيش الذي قاسيناه في أيامنا الخالية … الله لا يرجعها ولا يورينا وشها! وانتهت المدة المقررة فإذا نحن أمام مسرح كامل البناء وإن كان من غير سقف، ومع ذلك تقرر استئناف العمل، ولنكتفي بتغطية الصالة بالقماش حتى يحلها الحلال، ثم ننظر في موضوع وضع السقف اللازم!! وجاء دور اختيار الاسم الذي نطلقه على مسرحنا هذا، ففكرت في اختياره على أن يكون معروفا للمصريين والأجانب على حد سواء، لأني لاحظت أن أولئك الأخيرين بدءوا يتهافتون (كزبائن) مستديمين لفرقتنا، بحيث أصبح الإقبال موزعا بين الفريقين (المصريين والأجانب) على حد سواء. ووقع اختياري على اسم الأجبسيانة فأطلقناه على مسرحنا هذا، وقد كان افتتاحه مبدأ في التاريخ الجديد لشارع عماد الدين. وبعد قليل من الزمن كان اسم مسرحنا يطغي على اسم الشارع لامتداد سمعته واتساع نطاق شهرته. وهنا أرى أن أعود قليلا إلى موضوع بناء مسرح الأجبسيانة فأقول إن المال الذي كان المسيو كنجس يملكه قد نضب قبل أن ينتهي العمل، فاضطررت أن أمده بما بقي لي من «شقا العمر كله» حتى أصبحت على الحديدة «وعدنا إلى ما كنا فيه من البؤس إياه». ومن فات قديمه تاه!! في هذه الأيام ساقت لي الأقدار فتاة فرنسية ما تزال ذكراها إلى اليوم عالقة في ذهني لا ينسيني إياها كر الغداة ومر العشي. هذه الذكرى الجميلة، أستميح القراء في أن أقف وإياهم إزاءها برهة. كانت «لوسي دي فرناي» — وهذا هو اسمها — صديقة لي، وكانت عونا في الشدة، وساعدا يشد أزري ويشدد عزمي. ولئن ذكرت في حياتي شيئا طيبا، فأنا أذكر أيام زمالتها وعهد صداقتها. ولأذكر لك أيها السيد القارئ مثلا من أمثلة الحياة التي كنت أحياها مع «لوسي». وصلت إلى القاهرة إحدى الفرق الإفرنجية، وكانت تعمل في مسرح الكورسال، (الذي بنيت في موضعه عمارة عدس بشارع عماد الدين الآن). وكنت شغوفا بمشاهدة تمثيل تلك الفرق، وقد كان في مكنتي كممثل — أن أطلب تصريحا مجانيا للدخول، يعني «بون» بلغة الفن!! ولكنني كنت أرى في ذلك ما يخجل، وكنت أفضل أن أدفع ثمن التذكرة مهما كلفني ذلك. وفي إحدى الليالي أعلنت الفرقة عن تمثيل رواية كنت شغوفا — أنا ولوسي — بمشاهدتها، ولم أكن أمتلك في هذه الليلة غير اثني عشر قرشا، فاتفقت وفتاتي على أن نحتل مقعدين في أعلى التياترو، وكان ثمن التذكرة خمسة قروش، فدفعت نصف الريال ولم يبق إلا نصف فرنك. وكان الجوع قد أخذ من لوسي كل مأخذ، وهداها تفكيرها إلى خطة قررت تنفيذها. فقادتني إلى قهوة قريبة، وهناك طلبت (واحد شاي). فلما جاء الجرسون بالطلب، شربت الشاي من غير سكر، ثم فتحت حقيبتها ووضعت فيها جميع قطع السكر التي أحضرها الجرسون! أما الحكمة في ذلك فهي أن الفتاة كانت قد دبرت في المنزل بعض الخبز وقليلا من الشاي، ولم ينقصها إلا السكر! فلما انتهى التمثيل وقصدنا إلى منزلنا، أعدت الشاي مع ما تهيأ لها من السكر الذي ملأت به حقيبة يدها في أول الليل، وجلسنا نتناول عشاءنا «عيش وشاي وبس!». ونعود إلى العمل فأقول إن مسرح «الإجبسيانة» أعد بالفعل، بس من غير سقف … فجمعت الفرقة بعد أن أعددت مع الأستاذ أمين صدقي أولى الروايات التي أزمعنا إخراجها وهي رواية «أم أحمد». وقد انضم إلى الفرقة في هذه الأثناء الأستاذ حسين رياض وفي يوم ١٧ سبتمبر سنة ١٩١٧، افتتحنا مسرح الإجبسيانة، وبدأنا عملنا فيه بنجاح كان فاتحة سعيدة. وإن شئت أن أحدثك عن الإقبال الذي كانت تتمتع به فرقتنا من الجمهور، فيكفي أن أقول لك إن شباك التذاكر كان يقفل قبل موعد التمثيل بأكثر من ساعة لنفاد التذاكر. وفي أواخر عام ١٩١٧ استأثرت رحمة الله بالفقيد الكريم الشيخ سلامة حجازي، فامتلأت قلوبنا حزنا عليه، ورأيت أن الواجب يدعونا جميعا إلى إعلان الحداد العام، وتعطل العمل في المسرح ليلة بهذه المناسبة. ولكن المسيو كنجس رفض أن يجيبنا إلى تلك الرغبة قائلا إنه يكفي لإعلان الحداد وقف التمثيل بضع دقائق!! وانتهى هذا التضارب في الرأي إلى انسحابي من الفرقة نهائيا، وتصميمي على التضحية بعملي مهما كانت النتيجة. وأسند صاحب التياترو دوري في رواية «دقة بدقة» إلى الأستاذ حسين رياض، وسار العمل في (الإجبسيانة) بعد انسحابي بضعة أيام لا تتجاوز الأسبوع، ثم تدهورت الفرقة وانفض الناس من حولها، واضطر المسيو كنجس إلى إقفال مسرحه، والعودة إلى الدخول معي في مفاوضات جديدة. لم تكن تعجبني خطة كنجس في إدارة الفرقة، ولذلك عرضت عليه اقتراحا يتضمن كف يده عن الإدارة، بل وعن كل شيء في نظير أن يتقاضى ٣٠٪ من الإيراد يوميا! فقبل، ومن تلك اللحظة بدأ تاريخي في إدارة الفرقة التمثيلية. جردت ما في جعبتي من متاع، فإذا الخزينة لا تحوي غير خمسين جنيها فقط لا غير!! ومع ذلك ألفت الفرقة وقبل الممثلون بارتياح كبير أن يعملوا تحت إدارتي، فأعددنا رواية «حماتك تحبك» من وضع الأستاذ أمين صدقي. وبعدها رواية «حلق حوش». وبعد شهرين هما — نوفمبر وديسمبر — عدت إلى جرد الخزينة للاطمئنان على حالة الاحتياطي، ولكنني رأيت رأس المال كما كان … خمسين جنيها بلا زيادة ولا نقصان! أي أنني استطعت «موازنة» الميزانية بأن جعلت الإيرادات مساوية للمصروفات، وكان الله يحب المحسنين! لكن ده مش الغرض يا محترم! إحنا عاوزين غير كده. نهايته. فكرت كثيرا في طرق الإصلاح. فرأيت أن «كازينو دي باري» المجاور لنا، والذي تديره مدام مارسيل، «لانجلو»، ويعمل به الأستاذ علي الكسار، أقول رأيت بعد البحث الدقيق أن هذا الكازينو قد احتكر إقبال الجمهور، الذي كان يقصده زرافات ووحدانا ويملأ مقاعده ومقاصيره. ما العمل إذن؟ فلأوقف التمثيل في مسرحي ليلة أمضيها بهذا الكازينو لأدرس عن كثب علة هذا الإقبال وسببه. لم أتوان لحظة في تنفيذ تلك الخطبة، فقصدت في الحال إلى دي باري وقضيت به ليلة كاملة (كمتفرج)، فأدهشني أن أرى أن كل ما هناك عبارة عن (استعراض) يغلب فيه العنصر الإفرنجي، وتتخلله بضع مواقف فكاهية يظهر فيها الأستاذ علي الكسار. لم تكن تلك الاستعراضات تحوي موضوعا ما. ولا معاني خاصة، ولكن كانت فخامة المناظر وعظمتها، و«تابلوهات» الرقص … هي كل ما يشتمل عليه البرنامج! يا لله!! مادام الأمر كذلك، فلماذا أتعب نفسي «وأشغل مخي» في الإتيان بالموضوعات، والبحث عن الروايات ذات المغزى. وما دام الجمهور يستريح ويقبل على النوع الاستعراضي فماذا يمنع أن نقدم له ما يشتهيه؟ صممت بعد هذه السهرة على عمل رواية استعراضية، على شرط أن يكون العنصر المصري فيها غالبا على الإفرنجي، وأطلعت زميلي الأستاذ أمين صدقي على هذه النية. وفي الحال وضعنا «هيكل» رواية «حمار وحلاوة»، وبدأ الأستاذ أمين يضع أناشيدها على أوزان موسيقية مطروقة، بينما جعلت كل همي في ترتيب المناظر، و«توضيب» الستائر وإمداد الفرقة بما ينقصها من عناصر الرقص والإنشاد. انتهت الرواية وأجرينا بروفاتها اللازمة، ورفعنا الستار عنها في أول ليلة، بعد أن «خرشمت» صحة الاحتياطي، وتلفت أمله وأنزلته من رقم الخمسين إلى الصفر، وأصبحت قبل رفع الستار … إيد ورا … وإيد قدام! فإما إلى الصدر، وإما إلى القبر. وأهي تخريمه يا صابت يا اتنين عور!! كان إيراد الليلة الأولى ٣٥ جنيها فقط. إنما الذي شعرنا به هو الاستحسان العام الذي قوبلت به الروايات من الجمهور وقد كان هذا الاستحسان أقوم إعلان لنجاحنا. فقد كان الإقبال يتزايد يوما عن آخر. ويكفي أن أقول لك بأن الخزينة عمرت في نهاية الشهر الأول، وقفز رقم الصفر الذي كان يحتلها إلى ٤٠٠ جنيه. لم يكن النجاح مقتصرا على الناحية المادية، بل هناك نجاح أدبي آخر، ملأ نفسي سرورا وقلبي انشراحا، ذلك أنه في إحدى الليالي طرق باب المسرح طارق، وجيء به إليّ، فإذا هو أستاذي القديم (الشيخ بحر) مدرس اللغة العربية، الذي سبق أن قلت إن الفضل يعود إليه في تدريبي على إلقاء المحفوظات العربية في المدرسة بطريقة خطابية مقبولة. جاء أستاذي الشيخ بحر يهنئني بعد مشاهدته الرواية، ويفاتحني بما شمله من سرور بنجاح تلميذه. وأقسم أيها السادة أن تهنئة الشيخ كانت عندي أكبر من مبلغ الأربعمائة جنيه التي عمرت بها خزانتي إذ ذاك. كان الأستاذ أمين صدقي يتقاضى مرتبا شهريا قدره ستون جنيها، ولكنه بعد أن شاهد ذلك الإقبال المنقطع النظير وهذا الإيراد الضخم، رأى أن يملي علي شروطا جديدة فجاءني مطالبا بالاشتراك معي في الإيراد مناصفة بدل أن يتناول مني أجرا! دهشت لذلك طبعا وأجبته بأنني أعارض في ذلك، وإن كنت لا أمانع في رفع مرتبه إلى الدرجة المناسبة. وتمسك كل منا بوجهة نظره. فأضرب الأستاذ أمين عن الكتابة، حينما طلبت إليه أن يبدأ في وضع الرواية الثانية على غرار «حمار وحلاوة» …. واضطررت إذ ذاك أن أبحث عن شخص آخر يقوم بمهمة وضع الأزجال. وأعلنت فعلا عن حاجتي هذه إلى كثيرين ممن حولي، فتقدم البعض لأداء هذا العمل. وأذكر من بينهم الأساتذة حسني رحمي المحامي والأستاذ إميل عصاعيصو، وقد كان ذلك أول عهدي به. وكذلك جاءني زميل قديم ممن كانوا معي في البنك الزراعي هو المسيو جورج. ش. فقلت للأخير إنني أرغب في وضع أنشودة تلقيها طائفة من المرابين «الفايظجية» وقانا الله وإياكم شرورهم!! وفي اليوم التالي حضر السيد (جورج) وأطلعني على زجل ظريف وقع مني موقع الاستحسان. فسألته: «أنت حقا مؤلف هذا الزجل؟». وأجاب بالإيجاب. فقلت: «إذا كان هذا صحيحا فأنا أعينك في الحال …». إلا أنه لم يكد يغادر غرفتي حتى دخل صديق لي أكتفي بأن أرمز لاسمه بحرفي (ت. م)، وقال إن واضع الزجل ليس جورج. ش، ولكن صديق له اسمه (بديع خيري)، وكل ما هناك أن اتفاقا عقد بين الاثنين (بديع وجورج) مضمونه أن يتخصص الطرف الأول في التأليف، ويقوم الطرف الثاني بعملية البيع. وزاد الصديق على ذلك أن في استطاعته أن يعمل على فض هذه الشركة الوهمية، وأن يتصل بالمؤلف مباشرة. واهتممت بما أبداه الصديق (ت. م) وطلبت إليه المبادرة بتنفيذ قوله، فلم يتوان صاحبنا — كتر خيره — بل جاءني في مساء اليوم التالي يجر خلفه فتى ممشوقا. ولم يشأ صديق الطرفين (ت. م) أن يترك المسألة تمر طبيعية، بل ضحك وقال لي ما نصه: «ما تتغرش في نفخته دي. دا خجول لدرجة ما تتصورهاش، بس العبارة إنه شرب دلوقت ثلاث كاسات نبيت، علشان يتشجع!». وتناقشنا بعض الوقت مناقشة دلتني على أن الفتى جد مهذب، وأنه حقا خجول، حسن التربية، جم الأدب. ولعله من الظريف أن أقول إنه بعد فترة قصيرة انكمش صدره العريض وتقلص قوامه الممشوق، وحل به اضطراب غريب. فأومأ لي الصديق (ت. م) قائلا: «اتفرج صاحبنا فاق من الثلاثة نبيت وبقت حالته عبر!». وقد سألت «بديعا» أهو حقا صاحب زجل «الفايظجية» الذي سبق أن جاءني به المسيو جورج، من يومين، فتردد في الإجابة، وتغلب عليه الخجل والكسوف، وراوغ كي يغير مجرى الحديث، ولكنني أقفلت في وجهه كل أبواب التخلص حتى اعترف. قلت له إنني أريد منك زجلا جديدا تلقيه طائفة من الأعجام وفدت لزيارة كشكش بك عمدة كفر البلاص، فمتى تتم هذا الزجل؟ فلم يتوان في التأكيد لي بأن في استطاعته الفراغ منه في صباح اليوم التالي. وقد كان عند وعده، إذ جاءني في نفس الموعد يحمل الزجل المطلوب ومطلعه! هاي هاي أعجام إخوانا … كفر البلاص قدامنا. أعجبت بالزجل وبخفة الروح التي تمشت في ثناياه، فلم يغادر بديع المسرح قبل التوقيع على عقد اتفاق بالعمل معي بمرتب شهري قدره ستة عشر جنيها مصريا. ولعل القارئ يذكر ما قلته من أن المال الاحتياطي بلغ في خزينتي في نهاية الشهر الأول من تمثيل رواية «حمار وحلاوة» أربعمائة جنيه. والآن أقول بأن هذا المبلغ تضاعف دون زيادة أو نقصان عند ختام الشهر الثاني، أي أني وجدت بين يدي إذ ذاك ثمانمائة جنيه مصري … جنيه ينطح جنيه! عدت بذاكرتي في هذه الحالة إلى حالة البؤس والشقاء، وجبت في عالم الخيال لحظات أفكر في السعادة وأسبح في بحار الآمال قائلا: «أتكون السعادة يا ترى في الحياة أو العظمة أو المال …؟». وحين دارت برأسي هذه الأفكار ذكرت حادثا وقع لي حين كنت أعمل في شركة السكر بنجع حمادي. ذلك أنه وصل إلى المدينة في أحد الأيام فيلسوف فرنسي كان قد نزل عن ثروته للأعمال الخيرية مكتفيا بالكفاف، وجعل همه في إلقاء محاضرات شبه صوفية. وذهبت مع الذاهبين لسماع محاضرة هذا الفيلسوف، لا حبا في السماع ولا رغبة في العلم، بل لمآرب أخرى! ولئن تسألني عن هذه المآرب … الأخرى، فلا تنتظر مني جوابا شافيا، وكفاني أن أصرح لك بأن هذه المحاضرات كان يقصد إلى سماعها أناس كثيرون من الجنسين اللطيف والخشن …. أعود إلى الموضوع فأقول بأن الذي استرعى سمعي في محاضرة هذا الفيلسوف الجملة الآتية: «أيها السادة … لقد أجهدت نفسي في البحث عن السعادة، فعرفت أنها ليست في هذه الحياة الدنيا إلا لفظا بلا معنى وكلمة بلا مغزى! كنت غنيا واسع الثراء … ولكن ذلك لم يجلب لي السعادة … فتشت عنها في مملكة الحب، فكان لدي أجمل من وددت، ومع ذلك كان هذا الحب أمامي سرابا خلف لي حسرة وتعاسة. جربت الجاه والترف، جلت في ميادين الصداقة، وأقسم أنني لم أعثر على المسمى الجميل الذي يطلقون عليه اسم السعادة، ولذلك رجحت … لا بل آمنت بأن هذا العالم خلو من السعادة. وأننا إن افتقدناها فلن نجدها إلا في عالم آخر غير هذا العالم، وفي حياة أخرى باقية غير هذه الحياة الفانية!». انتهى بتصرف!! أقول إنني حين وجدت بين يدي ثمانمائة جنيه ترددت في أذني كلمات هذا الفيلسوف العجر، فضحكت ملء شدقي وقلت في نفسي: أين هذا العاجز الغبي، كي أقوده إلى عالم السعادة التي ضل سبيلها وفقد طريقها؟ نهايته … لست أريد التوسع في هذه الناحية فقد لمست السعادة وقطفت إذ ذاك ثمارها وضربت عرض الحائط بالفيلسوف الفرنسي وبنظرياته البائدة. بعد أن انفصل عنا الأستاذ أمين صدقي، أعددت رواية سميتها «على كيفك» وهي التي وضع أزجالها الصديق الجديد بديع. وقد كنت في أثناء تمثيلها أدرس حالات الجمهور النفسية، وأرقب مقدار الأثر الذي تحدثه تلك الأزجال الجديدة في نفسه. وقد سرني أنه كان يتقبلها قبولا حسنا، بل وأحسست فوق ذلك أن جميع الطبقات كانت تستريح لسماعها وتقبل عليها أحسن إقبال. وقد رأيت إزاء ذلك أن أشجع هذا الفتى الجديد «وأفتح نفسه» للعمل، فرفعت مرتبه من ١٦ جنيها شهريا إلى ثلاثين جنيها دفعة واحدة. ولقد تغير الحال تغيرا مدهشا، واتسعت دائرة الأعمال وأضحى مسرح الأجبسيانة مقصد الرواد من كل حدب وصوب. حتى في الأيام التي كان يعبر عنها بالأيام «الميتة» وهي الاثنين والثلاثاء والأربعاء. قضينا شهرين في تمثيل رواية «على كيفك» كان الرصيد بعدهما قد بلغ ثلاثة آلاف جنيه، وقد كان قبل تمثيلها ثمانمائة فقط. وبعد أن رأيت هذا النجاح المطرد عولت على أن أجتهد في إرضاء جمهوري، وأن أبادله تلك الثقة التي أولاني إياها. ففكرت في الاستعانة بمؤلف ثالث للاشتراك في بناء هيكل الروايات، وفي استنباط موضوعاتها وابتكار نكاتها، وقد وقع اختياري على الكاتب الأديب الأستاذ حسين شفيق المصري، فاتفقت وإياه توا. ووضعنا إذ ذاك رواية (سنة ١٩١٨–١٩٢٠) وقد نسيت أن أذكر أن ملحن أناشيد هذه الروايات الثلاث (حمار وحلاوة وعلى كيفك وسنة ١٩١٨–١٩٢٠) كان المرحوم كاميل شامبير. في هذا الوقت كان النوع الذي نخرجه قد طغى على كل ما عداه في مصر، حتى كاد الدرام والتراجيدي يندثران فلم تقم لهما قائمة، وأصبحت الفرقة المخصصة لهما «تنش طير». فلما ساءت الحال أمامها وأعرض الناس عن تمثيلها، تقدم بعضهم إلى الأستاذ جورج أبيض ينصح له أن يحاربنا في نوعنا، وأن يختط لفرقته خطة جديدة، ما دام الناس يقبلون علينا هذا الإقبال العظيم. وانقاد جورج لنصيحة أصدقائه. وكان في هذا الوقت قد عثر على الفتى الصغير حامد مرسي، فجاء به ينشد بعض القصائد القديمة بين فصول رواياته. وكلف الأستاذ جورج المرحوم عبد الحليم دولار المصري أن يضع له رواية تماثل رواياتنا، فكان أن قدم له رواية «فيروز شاه»! ولم تحدث هذه المنافسة الجديدة أي أثر من ناحية عملنا، بل ولم نحس نحن بأن هناك منافسا جديدا نزل السوق أمامنا! ولكن كانت هناك ظاهرة جديدة كان لها شأنها من وجهة نظري أنا، أقصها عليك فيما يلي! لم يكن لدي الوقت بالطبع لأذهب إلى تياترو جورج أبيض كي أشاهد روايته، ولكن بعض ممثلي فرقتي كانوا ينتهزون فرص خلوهم من العمل فيذهبون لمشاهدتها، حتى إذا ما عادوا سمعتهم ينشدون أناشيدها البديعة، ويرددون ألحانها القوية، التي لمحت فيها اتجاها جديدا، وروحا جديدا … بل فنا جديدا يسمو على كل ما عداه مما سبق أن قدمناه. سألت عن الملحن؟ فقيل لي إنه شاب إسكندري لم يكن له سابق عهد بالتلحين المسرحي، وإن ألحانه هذه هي الأولى له في هذا المضمار. أما اسمه … فسيد درويش. عجبت لذلك، وفكرت طويلا في اجتذابه، ولكنني — وقد عهدني القراء صريحا في كل ما خططت في هذه المذكرات — لا أرى ما يحول دون إبداء ما اعتراني في هذه اللحظة من أفكار. أقول إنني وجدت نفسي بين عالمين متناقضين. هل يحسن بي أن أتفق مع هذا الملحن؟ أم الأجدر أن أغضي عن ذلك؟ وإذا اتفقت، فماذا تكون النتيجة لو عمل معي شهرا أو شهرين حتى إذا ما تمكنت ألحانه من أفئدة جمهوري، و«خدوا عليها» تركني أعض بنان الندم، أو أملي علي شروطها قاسية، كتلك التي كانت سببا في انفصال زميلي السابق أمين صدقي!! وهل الأولى أن أسير في خطتي مع الجمهور الذي رضي من ألحاني بما قسم أو أقفز بهذه الألحان إلى العلا … دفعة واحدة؟! وأخيرا تغلبت على محبتي للفن، فقررت الاتفاق مع سيد درويش مهما كان وراء ذلك من تضحية، إذ أنني وجدت من الإجرام حرمان الفن من شخص كسيد درويش. كان المرحوم الشيخ سيد يتقاضى ثمانية عشر جنيها في الشهر من الأستاذ جورج أبيض، فرفعت هذه القيمة إلى أربعين دفعة واحدة، وتعاقدت مع الرجل، وكان مرتب الأستاذ بديع خيري قد وصل في هذا الحين إلى الخمسين. أعددنا رواية أطلقنا عليها اسم «ولو»، ووضع بديع أول زجل منها وهو عبارة عن شكوى يتقدم بها جماعة من «السقايين» يشرحون للجمهور آلامهم في الحياة، ومطلع هذا الزجل هو «يعوض الله … يهون الله، ع السقايين، دول غلبانين، متبهدلين م الكبانية، خواجاتها جونا، دول بيرازونا في صنعة أبونا، ما تعبرونا يا خلايق». سلمنا الزجل للشيخ سيد درويش، وقد كانت ميزته رحمه الله أن يضع لكل لحن ما يوافقه من موسيقى، وأقصد بهذه الموافقة التعبير الصادق للمعنى العام، بل ولكل لفظ من ألفاظ الكلام، حتى كان المرء يدرك من أول وهلة ما يرمي إليه هذا الكلام عند سماع الأنغام. تسلم الشيخ سيد لحن السقايين، ولكنه لم يعد إلينا في الموعد المضروب، بل ولا في اليوم التالي!! حتى إذا كان اليوم الثالث قصد إليه أحد أصدقائنا فسهر معه الليل بطوله. وكانت شكواه أن قريحته اليوم متحجرة وأنه قضى الأيام الثلاثة الماضية يقدح زناد الفكر عله يصل إلى النغم الموافق دون جدوى!! وفيما هما يتحدثان، وقد كانت أضواء النهار في تلك اللحظة تطارد جيوش الظلام!! صادفهما أحد «السقايين» وكان يحمل قربة الماء على ظهره ويجوب الحواري، وكان يسير إذ ذاك في حي المنشية بالقلعة — وسمعاه ينادي بأعلى صوته وبنغمته التقليدية الخاصة قائلا: «يعوض الله» فتنبه الشيخ سيد، وأمسك بذراع صديقه وهتف كما هتف أرشميدس (الفيلسوف اليوناني) من قبل حين وفق إلى نظرية الثقل النوعي في أثناء استحمامه فخرج عاريا يجري في الشوارع ويصيح (أوريكا. أوريكا) أي وجدتها. وجدتها!! نعم لقد هتف سيد درويش حين سمع نداء السقا فقال لصديقه: «خلاص خلاص يا فلان، لقيت اللحن اللي أنا عاوزه!». وفي المساء حضر رحمه الله وأسمعني اللحن فكدت أطير به فرحا، وفي الوقت نفسه حضر الأستاذ بديع فأسمعني زجلا رائعا مطلعه: «نبين زين ونخط الودع وندق لكم ونطاهر … ونحبل اللي ما تحبلش ونفك كمان اللي تشاهر». وفي اليوم التالي كان الشيخ سيد قد وضع له اللحن المناسب، ثم لحن عقب ذلك زجل استقبال كشكش «ألفين حمد الله على سلامتك … يا أبو كشكش فرفش أدي وقتك» … فكان اللحن كذلك بدعة. وهكذا ظل بديع يتحفني بأزجال من النوع الممتاز فيلحنها سيد تلحينا شائقا، ومن ثم ظهرت رواية «ولو» للجمهور في ثوب قشيب من بديع البيان، وصفاء الألحان، وقد أحسست أن المتفرج كان يسبح في أثناء التمثيل في عالم علوي تهزه نشوة السرور والإعجاب، فيقابل كل كلمة أو نغمة بالتصفيق والترحيب. ولست أجد وصفا وجيزا لنجاح «ولو» غير أن أقول إنها جاءت آية وكفى …. وفي هذا الحين كانت شهرتي قد امتدت وصيتي قد بعد، وأرى ألا يقف التواضع في سبيلي إذ صرحت بأنني أصبحت موضع أحاديث الناس في كل مكان … حتى لم يعد يتردد على ألسنتهم غير تلغراف الحرب العالمية، وروايات نجيب الريحاني. وهنا يحلو لي أن أعود إلى ذكرى حلوة، ذلك أن والدتي كانت إلى هذا الحين تأنف من مهنة التمثيل، وتكره أن يعرف عني أنني ممثل وقد سبق أن رويت الكثير في هذا الشأن. حدث إذ ذاك أن كانت رحمها الله في عربة «المترو» عائدة إلى المنزل في مصر الجديدة، فسمعت رهطا من الركاب يتذاكرون شئونا فنية ورد في أثنائها اسمي، فأرهفت دون أن تشعرهم، وما أشد دهشتها حين سمعتهم مجمعين على الثناء علي وامتداح عملي والإشادة بمجهودي!! أتدري يا سيدي القارئ ماذا كان من هذه الوالدة العزيزة التي تحتقر التمثيل وتنكره؟ لقد وقفت وسط عربة المترو، واتجهت إلى أولئك المتحدثين وقالت بأعلى صوتها: «الراجل اللي بتكلموا عنه ده يبقى ابني! أنا والدة نجيب الريحاني الممثل!»، وخلي بالك من الممثل دي! «الممثل» هذه الكلمة التي كانت أمي تأنف أن «أوصم» بها، أضحت موضع زهوها وفخارها! فاللهم سبحانك ربي ما أعمق حكمتك؟! وفي هذا اليوم، يوم المترو الذي لا أنساه، تفضلت والدتي رحمها الله فشرفتني بالحضور إلى تياترو الأجبسيانة، خصيصا لمشاهدة ابنها الذي يقدره الناس دونها، ويمتدحونه؟! فكان هذا اليوم من أسعد، إن لم أقل أسعد أيام حياتي. ومما زاد في اغتباطي إلى جانب ذلك ما لمسته من رقي الطبقات التي كانت تقصد إلى مسرحنا، وفي مقدمتهم شباب الهاي لايف وفتياته، وأكرم الأسر في مصر، وأعلاها مكانة، وقد كان صاحب السمو الأمير إسماعيل داود في مقدمة الذين أعجبوا بي، فتفضل وأبرز هذا الإعجاب في إطار من التكريم لست أنساه، إذ كان يتفضل بدعوة الفرقة بجميع أفرادها إلى مسكنه العامر حيث تحيي حفلات خاصة ما كان أحلاها وأبهاها.
نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية. نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية.
https://www.hindawi.org/books/51630730/
مذكرات نجيب الريحاني
نجيب الريحاني
تبرز من بين صفحات هذا الكتاب، مذكرات رائد الكوميديا المصرية والعربية، الضاحك الباكي «نجيب الريحاني» ذلك الممثل العبقري، والموهوب الفذ، الذي استطاع أن يحوذ إعجاب الناس وحبهم، إن الريحاني لم يكن فقط مبدعًا في فنه بل كان مخلصًا له، وراهبًا في مسرحهِ، فكان خير له أن يقضي نحبه فوق المسرح، من أن يموت على فراشه كما يقول. عُرف نجيب الريحاني بأمانته وصدقه، فكان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يميل إلى المواربة والمداراة؛ لذا فقد آلى على نفسه في عرضه لهذه المذكرات أن يسجل ما بها من حقائق مهما كان فيها من ألم يناله قبل أن ينال غيره ممن جمعته به أية جامعة أو رابطة، ويصارح الريحاني القارئ في هذا الكتاب، فيقول له: «بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يُشعِر بالإقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة في هذه الآونة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هادئ البلبال.»
https://www.hindawi.org/books/51630730/6/
في خدمة الوطن
وإذا كنت إلى جانب ذلك أفخر بشيء آخر، فهو ما كنت أحظى به من تقدير الزعيم الخالد سعد زغلول، الذي كان يتفضل بتشريف حفلاتي، والتردد باستمرار على مسرحي لمشاهدة التمثيل، وإظهار الإعجاب بين وقت وآخر. وكل ذلك ملأني سرورا وفخرا كان لهما الفضل الأول في اجتهادي وموالاتي للعمل بنشاط ورغبة. كان هذا منذ سنوات عديدة. فهل تدري ماذا كان في هذا العام (١٩٣٦)؟ لقد تقدمت إحدى الجمعيات الخيرية إلى وزارة معارفنا الجليلة، ترجو السماح لها بدار الأوبرا الملكية لإحياء حفلتها السنوية، على أن تكون فرقة الريحاني هي التي تقوم بالتمثيل!! فكان جواب الوزارة أن لا مانع من التصريح بالدار، على شرط ألا يسمح لفرقة الريحاني بالتمثيل على مسرحها!! يالله!! الفرقة التي كانت منذ سنوات عديدة موضع تقدير الأمراء والزعماء والعظماء والكبراء!! تصبح اليوم غير أهل للظهور على مسرح الأوبرا — كما ظهر غيرها من فرق خلق الله؟! ألا سامحك الله يا وزارة المعارف. وسامح رجالك العاملين. في إحدى الليالي طرقت بابي فتاة بارعة الجمال، صغيرة السن تبدو عليها مظاهر الأرستقراطية، ومعالم «الأبهة» والفخفخة!! نظرت إلي من فوق لتحت!! وقالت: «أنت اللي بيسموك كشكش؟» فأجبت: «أيوه يا ستي أنا كشكش» فضحكت ضحكة فيها غير قليل من الاستخفاف وقالت: «النبي حارسك، أمال فين دقنك يا دلعدي؟». نهايته أقول بأنني رغم هذا «استظرفت» الفتاة، وأعجبت بخفة روحها، ولطف حديثها، فسألتها عن اسمها وأجابت بأنها زينب صدقي!! طيب وعاوزة إيه يا ست زينب يا صدقي؟ عاوزة أشتغل ممثلة يا كشكش يا بيه!! أهلا وسهلا م العين دي والعين دي. أصبحت زينب صدقي من هذه الليلة ممثلة بالفرقة. ولعل زينب لا يضيرها أن أصارح الجمهور بأنها لم تكن يوم أن قصدت إلى المسرح ميالة إلى التمثيل كل الميل، ولم تكن هوايتها للفن هي التي دفعت بها إلينا، وربما كان القصد قتل الوقت والتسلية، لأنها كانت في أخلاقها وحديثها أقرب إلى الطفولة منها إلى أي شيء آخر، ومع ذلك فقد أحبها كل من يظلهم سقف المسرح من ممثلين وممثلات، مصريين وأجنبيات، وهوت إليها أفئدتهم جميعا. وفي المقدمة (لوسي فرناي) الفتاة الفرنسية التي ذكرتها آنفا والتي عرف القراء أنها كانت شريكة لحياتي في تلك الآونة!! نعم أضحت لوسي وزينب صديقتين لا تفترقان. قلت إن إقبال الطبقات الراقية على الأجبسيانة كان بالغا أشده، حتى أن الكثيرين كانوا يحجزون مقاعدهم قبل موعد التمثيل بأيام. وأذكر على سبيل التخصيص ذلك الرجل الذي أكن له إلى اليوم احتراما وتقديرا كبيرين، إلا وهو الأستاذ عبد السلام ذهني المستشار بمحكمة الاستئناف المختلطة (سابقا)، وصاحب المواقف المشهورة في الدفاع عن لغة البلاد بين جدران تلك المحكمة. كان عبد السلام في ذلك الحين محاميا ببني سويف، وكان «زبونا» مستديما للأجبسيانة. وفي اليوم الذي يشعر أن مرافعته في إحدى القضايا قد تجبره على البقاء هناك إلى القطار الأخير. أقول إنه كان في هذه الحالة يحجز مقعده في التياترو بالتلغراف، ثم ينزل من القطار إلى التياترو مباشرة!! وحين رأيت من الجمهور المثقف، ومن عامة الشعب هذا الإقبال المنقطع النظير، رأيت أن أستغله استغلالا صالحا، وأن أوجهه التوجيه النافع. فرحت أنقب عن العيوب الشعبية، وأبحث عن العلل الاجتماعية التي تنتاب البلاد. ثم أضمن ألحان الروايات ما يجب عن علاج ناجع لمثل هذه الأدواء. كذلك راعيت في كثير من هذه الألحان أن تكون أداة لإيقاظ شعور الجمهور، وتعويده حب الوطن وإعلاء شأنه، والمحافظة على كرامته، والتغني بمجده الخالد، وعزه الطريف التالد. وكان من آثار هذا الإقبال وذلك النجاح أن تضاعف الخصوم والحساد، واختلفت أسلحة كل منهم في حربي، فمنهم من كان يطعن من الخلف بخسة ودناءة، ومنهم من كان ينازلني جهارا على صفحات الجرائد اليومية (إذ لم يكن للصحف الأسبوعية وجود في ذلك الحين). ولم يكن القارئ يفرد بين يديه إحدى الصحف إلا وجد فيها نهرا أو نهرين يتغنى كاتبهما بلعنة خاش كشكش وروايات كشكش واللي خلفوا كشكش كمان!! ومع كل ذلك لم أكن أعير هذه الحملات أي التفات، ولم أكن أحدث نفسي بالرد على أي كاتب. وتحضرني في هذا المجال عبارة قالها أحد النقاد وهو الأديب المعروف الأستاذ حامد الصعيدي (الموظف الآن بالبرلمان): ذلك أنه قال يوما لبعض صحبه: «إيه اللي رايحين نعمله في راجل نفضل نشتم فيه في الجرايد، يقوم حضرته يرد علينا بكلمة: «ولو»، وهو اسم الرواية التي كنت أمثلها إذ ذاك!! على أن ذلك كله لم يؤثر من ناحية الإقبال أي تأثير — ولئن كان هناك شيء من ذلك فقد كان تأثيرا عكسيا، لأن الجمهور كان يتهافت على حضور حفلاتنا تهافتا لا مثيل له. وفي ذلك الحين ظهرت طوائف «البلطجية» الذين كانوا يحومون حول أولاد الذوات من رواد مسرحنا، كالمرحوم علي كامل فهمي وأمثاله من الشبان الوارثين والسراة. وقد شاءت دناءة بعض حسادي أن يتخذوا من أولئك البلطجية أداة لحربي، وقد كانوا يثيرون القلاقل، ويقومون بمشاجرات عنيفة داخل التياترو، ولست أنسى أن رصاصة مسدس أطلقت علي شخصيا أثناء التمثيل … ولكن الله سلم. وفي ليلة أخرى أطلق مأفون علي حصا من نبلة كادت تصيب عيني إلا قليلا!! فكرت كثيرا في هذه الحوادث فرأيت ألا سبيل إلا محاربة الداء بالداء، فبحثت عن رئيس تلك العصابات وعلمت أنه (يوسف شهدي)، فجئت به، وعرضت عليه العمل بماهية يتقاضاها وأفهمته أن وظيفته هي حفظ نظام الصالة!! ولقد أفلحت خطتي هذه، فوقفت المشاغبات نهائيا. وسار الحال من تلك اللحظة على ما يرام!! كانت رواية «ولو» قد استغرقت في عرضها على الجمهور ثلاثة أشهر متوالية، لم ينقص الإيراد اليومي فيها عن الثمانين جنيها. وكثيرا ما كان يزيد على ذلك، مما شجعنا على العناية بالرواية التالية، وقد اخترنا لها اسم «إش»، وهي أيضا من تلحين فقيد الموسيقا المرحوم الشيخ سيد درويش، كما أن واضع تلك الأزجال هو الزميل بديع خيري، الذي أضحى من ذلك الحين إلى اليوم وإلى غد وإلى أن نلقى الله، خلا وفيا وأخا عزيزا نتبادل الثقة ونتعاون في السراء وفي الضراء. نالت رواية «إش» استحسانا مدهشا. وجاءت ألحانها بدعة من ناحيتي التأليف والتلحين. ويكفي أن أنبه الأذهان إلى اللحن الذي امتدت شهرته فتخللت الدور والقصور، وأنشده الكبير والصغير في عاصمة القطر وفي ريفه. ألا وهو «يا أبو الكشاكش كان جرى لك إيه يا هلترى. دقنك شابت في المسخرة وأمور الفنجرة». وفي هذه الآونة كان الزعيم الراحل سعد «طيب الله ثراه» يؤلف الوفد المصري للقيام إلى مؤتمر الصلح في فرساي كي يدافع عن حق مصر في الاستقلال، ويعمل على استخلاص حقها ورفع الحماية الجائرة عن كاهلها. وكان رحمه الله ينادي بضرورة الاتحاد وجمع شمل الأمة تحت لواء واحد والتفاف عناصرها في كتلة واحدة مهما اختلفت النحل وتباينت الأديان والملل. ولقد انتهزت هذه الفرصة فضربت على تلك الوتيرة وضمنت رواية «إش» لحنا تلقيه طائفة من سياس الخيل، جاء في ختامه هذا المقطع: «لا تقول نصراني ولا يهودي ولا مسلم يا شيخ اتعلم. اللي أوطانهم تجمعهم. عمر الأديان ما تفرقهم». وهكذا ظلت فرقتنا تؤدي واجبها الوطني على قدر ما تسمح به جهودنا المتواضعة. ولم أشأ أن أقف عند هذا الحد بل ساهمت في التبرع المادي، فدفعت لخزينة الوفد مبلغا شكرني من أجله المرحوم فتح الله بركات، وأولاني من عبارات التقدير ما لا أنساه. وفي ذلك الحين — يعني في عز النغنغة والنجاح — كانت مطربة القطرين السيدة فتحية أحمد ضمن أعضاء الفرقة، وكانت إذ ذاك طفلة صغيرة تنال من إعجاب الجمهور واستحسانه قدرا وافرا، لأنها فضلا عن كونها مطربة جلية الصوت، ساحرة الغناء، كانت خفيفة الظل رشيقة الحركة دائمة الابتسام على المسرح. وكثيرا ما كنا نعد لها قطعا تلحينية في صلب الرواية كانت تقوم بها على خير الوجوه، وفي إحدى الليالي زارني أحد الأصدقاء ومعه فتى صغير السن، لطيف المظهر، تبدو في عينيه دلائل النبوغ الذي لا يزال المستقبل يحجبه إلا على الخبير المتمكن وقد طلب مني الصديق أن الحق هذا الفتى بفرقتي، قائلا إن لديه موهبة قل أن توجد فيمن هم في سنه، وهي أنه يمتاز بحنجرة موسيقية نادرة، وصوت ساحر خلاب، وذاكرته فنية قوية. لم أشك لحظة في أن الفتى يتمتع بهذه الأوصاف جميعا، فهل تدري من هو الفتى الصغير الذي نعنيه؟ هو الموسيقار الكبير الأستاذ محمد عبد الوهاب، ولولا أن المجال لم يكن يسمح بضمه إلى الفرقة لانتظم في سلكها إذ ذاك. كان المال ينهال على خزينة تياترو الأجبسيانة كالمطر الغزير وبشكل لم يكن أحد ينتظره أو يتصوره، وكلما ارتفعت أرقام الأرباح، ارتفعت معها عقائر الخصوم والحساد، وامتلأت أعمدة بعض الصحف بالطعن في كشكش من جميع النواحي. والظريف في الموضوع أن صاحب شخصية كشكش كان مجهولا من الناس طرا، فلم يكن يعرف شكله أحد، ولم يكن إنسان يدري أهو أبيض أم أسمر؟ فتى أم شيخ؟ مطربش أم معمم، ذلك لأنني كنت أظهر على المسرح بالجبة والقفطان وباللحية الطويلة الوقور، ولم أكن أكثر الظهور في الشوارع والطرقات، كذلك لم تكن الصحف الأسبوعية قد انتشرت، بل ولم تكن قد ظهرت وامتلأت صفحاتها بالصور كما هو الحال الآن، تلك الصور التي أوقفت القراء في أنحاء مصر وغيرها على «أشكال» الممثلين والممثلات، وقربتهم إلى الأذهان، بحيث أصبح من السهل الآن على كل امرئ أن يتعرف على أقل مخلوق أو مخلوقة من ممثلي المسرح وممثلاته. ويحلو لي الآن في هذا الصدد أن أقول، بأن وفرة المال بين يدي كانت تنسيني في كثير من الأحوال المواضع التي كنت أحفظ فيها النقود، من ذلك أنني وضعت يوما في «القمطر»، وأرجو أن يسامحني القراء في استعمال هذا اللفظ، لأنني لم أسمع به إلا من صديق لي قال إن المجمع اللغوي وضعه بدل كلمة «الدولاب»، فأردت أن أنتهز الفرصة وأتفلسف على قرائي المحبوبين، أمال يعني حاتفلسف على مين غيرهم؟ ع المتفرجين؟ … نهايته. وضعت يوما في «قمطر» التواليت (لم يخبرني صديقي على الاسم الذي انتخبه المجمع بدل كلمة التواليت) وضعت فيه مبلغ ثلثمائة جنيه مصري، ثم نسيت هذا المبلغ بعد ذلك، ولم أعره أهمية، لأن الخير كثير، وستر المولى كان متوافرا للغاية. وبعد عشرين يوما من هذا الحادث تصادف أن كانت «لوسي» تنظف أدراج القمطر — يا سلام أنا داخله في مزاجي كلمة القمطر دي بشكل؟! — فعثرت على ٣٠٠ جنيه، سلمتها لي بعد أن فركت أذني بأصابعها الجميلة وهي تقول: «خلي بالك من فلوسك يا نجيب أحسن ييجي يوم تحتاج لها» …. كانت نصيحة ثمينة من «لوسي» ولكنني لم أعمل بها. وكم أتمنى من صميم الفؤاد أن تعود تلك الأيام بأموالها المغدقة أو المغرقة … كي أعمل بنصيحة لوسي — والله العظيم — ولا أفرطش في القرش الأبيض علشان ينفع في اليوم الأسود!! وفي يوم آخر كنا «بنعزل» — اعذروني إذ لم أجد كلمة لغوية تفيد معنى النقل من بيت لبيت غير دي — وفيما نحن نرفع بساط غرفة النوم وجدنا تحته ثمانين جنيها!! أما قفاطين كشكش فلم تكن تخلو يوما من كبشة نقدية «مبعزقة» في جيوبها هنا وهنا!! فكانت لوسي — الله يمسيها بالخير — تتولى جمعها في كل مساء وتسلمها لي مقرونة بالنصيحة إياها!! لعل واحدا يسأل: «ما علة هذا النسيان؟» وردا عليه أقول إنني كنت دائم التفكير في عملي، وفيما يجب أن تكون عليه الرواية الجديدة، وما هي العيوب الاجتماعية المتفشية في البلاد كي نعالجها فيما نقدمه للجمهور بين ثنايا ألحان الرواية وموضوعها؟ وقد كانت نتيجة هذا التفكير المتوالي السرحان … المتوالي برضه!! قلت إنني كنت أدير الفرقة لحسابي الخاص نظير حصة مقدارها ٣٠٪ من الإيراد يتقاضاها المسيو ديمو كنجس صاحب التياترو. وقلت إن التياترو لم يكن مسقوفا، بل مغطى بالقماش وكانت الأرضية ترابا في تراب، ومع ذلك لم يكن الكبراء يأنفون ارتياده، أو ينقطعون عن زيارته، أحصى المسيو ديمو كنجس نصيبه في العام الأول فإذا به ثمانية آلاف وخمسمائة جنيه مصري!! وهذا المبلغ هو ثلاثون في المائة فقط من الإيراد! فكم يكون نصيبي أنا … يا صاحب السبعين في المائة الباقية!! س — وسين تساوي … حوالي عشرين ألف جنيه تقريبا!! فأخ … أخ من زمان وفلوس زمان! ومن أظرف ما كان يتردد على ألسنة الناس في عهد «النغنغة» أن نجيب الريحاني اشترى عزبة، وأطلق عليها اسم «حمار وحلاوة»، فإذا سأل سائل: «وأين مقر هذه العزبة؟«أجاب بعضهم: إنها في الشرقية، وفي مركز فاقوس كمان!! وربما تطور به الخيال فقال: «وفي زمام بلد اسمها منزل نعيم على حدود نجع عودة، وعمدتها بالأمارة اسمه الحاج عبد الوهاب». وبعد هذا التعيين المدهش، كدت أنا نفسي أصدق أنني أمتلك عزبة بحق وحقيق … مين عارف يمكن صحيح؟؟ ولذلك انتهزت فرصة وجود صديق لي من أعيان تلك الناحية، فسألته فيما بيننا: هل صحيح يا خوي عندكم عزبة ملكي اسمها حمار وحلاوة؟ وللأسف نفى لي صديقي هذا «الحلم» اللطيف، مؤكدا أنها مجرد إشاعة عارية من الصحة مختلقة من أساسها! ولو كان قلم المطبوعات يهتم في ذلك الحين بإصدار بلاغات التكذيب، لتوسلت إليه أن يفعل، بعد أن استفحلت تلك التهمة، ووجدت بين عباد الله خلقا كثيرا يؤمنون بها! حتى خشيت أن تنمو عائلتي، ويظهر لي مئات من الأقارب الذين لا أعرفهم، والذين ربما تكون رابطة القرابة الوحيدة بيني وبينهم هي … حمار وحلاوة ليس إلا!! على أن الظريف أن بعضهم كان يقول في بعض الأحيان، إن العزبة ليست في الشرقية، بل في المنوفية، وفي يوم ثالث تكون في الدقهلية، وهكذا ظلت «حمار وحلاوة» تتناولها حركة التنقلات — كما تتناول السادة الموظفين — إلى أن تبخرت يا حسرة … ولم يبق لها وجود في غير أدمغة مخترعيها. على أنني كنت أستطيع بلا شك لو عمدت إلى الاقتصاد المعقول — وبلاش التقتير — أن أملك عزبا بعدد رواياتي، وأن يكون في حوزتي بدل حمار وحلاوة بس — ولو، وإش، وعلى كيفك … وأخيرا «٢٤ قيراط» التي لم يحن وقت الكلام عنها بعد. وقد دار حوار بيني وبين المستر هورنيلو (مدير الأمن العام إذ ذاك). وكانت التقارير والمعلومات التي جمعها له مخبروه حملته على أن يأمر بمصادرة الرواية التي كنا نستعد لإخراجها واسمها (قولوا له). ولكن لم تمض على هذه المصادرة أيام حتى قامت الثورة في مصر قاصيها ودانيها، واشتركت الطوائف والطبقات جميعها في مظاهرات وطنية حارة، فخرجت مع أعضاء فرقتي (ممثلين وممثلات) ننشد على أنغام أوركستر الفرقة نشيد الكشافة. قلت إن شعوري هو الذي كان يدفعني إلى العمل بنشاط وهمة. ولم أكن بطبيعة الحال أرغب من وراء ذلك جزاء ولا شكورا. ولكن الخصوم والحساد والناقمين، جزاهم الله عن المروءة والشهامة كل خير! في الساعة الحادية عشرة من مساء إحدى الليالي جاءني الأستاذ مصطفى أمين (وقد كان قبل ذلك شريكا للأستاذ علي الكسار في فرقة كازينو دي باري) جاءني مصطفى إلى منزلي يلهث من التعب ويقول: «انج بنفسك يا نجيب فإنك الليلة مقتول لا محالة»! كيف؟ وبيد من؟ ومن الذي يفكر في إعدامي؟ قال: «هم مواطنوك المصريون! هذا فظيع … فظيع!». وراح الزميل مصطفى يقص ما حدث، قال: «إنني آت من الأزهر الشريف حيث عقد اجتماع حافل تبودلت فيه الخطب الحماسية، وقد وقف شخص من خصومك على المنبر، وبدون أن يدعوه أحد للكلام سمم أذهان المستمعين بأكاذيبه مدعيا أنك (دسيسة إنجليزية)، وأن السلطة العسكرية قد أمدتك بالمال لتلهي الشعب برواياتك عن المطالبة بأمانيه العالية! ولما كانت الجماهير في أوقات الثورات تنساق بلا روية، فقد هتف الناس ضدك وصمموا على قتلك!». يا للصدمة! ينتقل الواقع من اليمين إلى الشمال في طرفة عين، وينقلب الحق سريعا إلى بهتان ومين؟! القصد، ثارت زميلتي «لوسي فرناي»، وخشيت علي سوءا فصممت على أن نسرع بهجر المنزل توا قبل أن تحل النكبة. وكانت ليلة لن أنساها! أخذنا عربة. وكنت في تلك الساعة أحس أن قلب العزيزة لوسي يكاد يقفز من بين جنبيها، وكان يخيل إلي أنني أسمع دقاته وهو يعلو ويهبط، إذ وقفت على سلم العربة لتحول بيني وبين أنظار المارة، وتستحث الحوذي أن يلهب ظهور خيله كي يبتعد بنا عن منزلنا قبل أن تغشانا الغاشية. نعم لم تشأ لوسي أن تجلس بجواري طول الطريق فظلت على هذه الوقفة حتى وصلنا إلى فندق «هليوبوليس هاوس» أمام المكان الذي تقع فيه الآن لوكاندة هليوبوليس بالاس بمصر الجديدة، ولم تكن هذه قد شيدت بعد. وهناك في إحدى غرف «هليوبوليس هاوس»، نزلت مع لوسي وكانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحا. بقيت في هذا الفندق عدة أيام لم تلهني فيها المخاوف عن واجبي الوطني، فقد كنت آتي إلى المسرح في كل صباح، فأجتمع بالممثلين والممثلات وغيرهم، لنرتب أمورنا ولننظر في شئوننا. ولم تكن هذه الشئون غير مظاهرات نقوم بها هنا وهناك (لأن جميع المسارح كانت معطلة بأمر السلطة). ومضت على ذلك الحال أيام استقرت فيها أمور العامة، وسمحت السلطات لسعد زغلول «رحمه الله» بمغادرة منفاه في مالطة إلى «فرساي»، حيث عقد مؤتمر السلام كما كانوا يدعونه، وكانت النتيجة الطبيعية لذلك أن تفتح المسارح ودور اللهو، وأن تعود إلى ما عهده الجمهور فيها من تسلية، وأن تكون هذه العودة بشروط فيها شيء من الشدة، كتحديد مواعيد السهر، وكدقة المراقبة التي فرضتها الداخلية عليها، ونقول الداخلية ونحن على يقين من أنها كانت «مظلومة»، لأنها لم تكن إلا «مخلب القط» في أيدي السلطة الأجنبية! ما علينا فلندع شأن السياسة، ولنبق في محيطنا الذي نحن بصدده. جاهدنا بعد أن عادت البلاد إلى ما يقرب من الحالة الطبيعية في أن يسمح لنا بتمثيل روايتنا المصادرة «قولوا له»، وقد سرني أن أصل إلى مبتغاي بعد أن كدت أيأس من الوصول إليه. وجاءت الليلة الأولى لظهور الرواية … فكيف أصفها؟ وأين لي قدرة الكاتب النحرير لأستطيع الدقة في التعبير؟ كانت هذه الليلة عيدا شاملا لكل من احتوته دار التمثيل، سواء في ذلك الممثلون أو المتفرجون. أما تأثير الرواية فتصور قنبلة تنفجر في مكان آهل، ثم تصور ما يكون لها من دوي يهز الجماد ويحرك الصخور! ظهرت الرواية على أثر المظاهرات التي اشتركت فيها جميع الطبقات، وقد راعينا أن ندخل في صلب الرواية ألحانا وطنية على ألسنة كل طائفة من الطوائف التي قامت بهذه المظاهرات، بحيث لم ندع واحدة منها إلا أرضيناها بما كان يلقيه الممثلون، حين يتقمصون شخصيات أفراد تلك الطوائف على المسرح، واحدة بعد أخرى. وناهيك بأزجال يضعها بديع ويلحنها سيد درويش! وإذا كان للنسيان أن يجر أذياله على الذكريات جميعا، فإني على يقين من أنه لن يمحو من مخيلتي، ذلك المظهر الفاتن الذي بدا من الجمهور في اللحظة التي تحرك فيها الستار مرتفعا عن الفصل الأول في هذه الرواية في كل مساء! هتاف يرتفع إلى عنان السماء، وتصفيق يكاد يصم الآذان، أما حين أظهر على المسرح بعد ذلك، فلك أنت يا سيدي القارئ أن تقدر ما كنت أقابل به من الجمهور! دعني أقرب لك الواقع فأقسم أن الدموع كانت تغالب الموقف في عيني، وكان قلبي يطفر اعترافا بالجميل لأبناء الوطن، الذين تهافتوا على أخ لهم يشعر أنه لم يؤد من الواجب عليه إلا قليلا. ومع ذلك فقد ارتفع في نظرهم قدره وسما بينهم ذكره، حتى كدت والله أعذر حسادي فيما فعلوا من محاربتي، لأن هذه المظاهرة الكاملة — بل وأقل منها — كان يكفي لكمدهم ولإشعال نار الحقد بين ضلوعهم. وبعد أن انتهت الأيام التي قدرناها لرواية (قولوا له)، كنا قد أعددنا الرواية التالية واخترنا لها اسم (رن) … وقد جاءت كسابقتها شعلة من الوطنية متأججة، ولهبا من الحماس تشتعل ناره ويلتهب أواره، وقد ظهر فيها مع (كشكش بك) تابعه وأمينه (زعرب)، ونجحت بالفعل رواية (رن) كما نجحت سابقاتها. على أنه يحلو لي في هذا الوقت أن أعترف بحقائق لم أكن أطالع بها إذ ذاك غير المخلصين من المحبين. فإنني كنت كلما خلوت بنفسي وحاسبتها على ما أديت للفن من خدمات تستحق أن توصلني إلى ذروة الشهرة التي اعتليتها، وإلى أفق الصيت الذي لا يحد مداه، أقول إنني كنت أحاسب نفسي، فأجد أعمالي كلها من الناحية الفنية — صفرا على الشمال! وليس لها من قيمة إلا ما فعلت في الأفئدة من إشعال جذوة الوطنية بين الجماهير، وهذا وحده ليس كافيا لأن يكون مطية ذلولا تطفر بي في ميدان الشهرة هذه الطفرات المتواليات، ولذلك أردت أن أشبع حاستي الفنية، وأن أستبدل بهذا النوع الحالي من الفن نوعا جديدا أرضي به ضميري وجمهوري في آن واحد! ولكنني بعد أن أعملت الفكر كثيرا، خفت أن يرى الناس نوعا لم يألفوه من قبل. وبذلك يهجرونني فأكون كالغراب حين فتنه مشي العصفور فعمد إلى تقليده، ولما أعيته الحيل فضل العودة إلى مشيته الأصيلة ولكنه كان قد نسيها، فظل على الحال التي نراه بها من القفز الثقيل الظل. فماذا أفعل للتوفيق بين النظرتين؟ نظرت حولي فألفيت الأستاذ عزيز عيد خاليا من العمل بعد أن فشل مشروعه في كازينو دي باري، ذلك المشروع الذي افتتحه برواية «حنجل بوبو». وكان حوله طائفة من الزملاء أعيتهم البطالة: فاستدعيت عزيزا وأشرت عليه بتأليف فرقة تجمع بعض البارزين من الممثلين. ثم صممت على أن أتخذ لها مسرحا مستقلا، فاستأجرت كازينو دي باري بالذات، وكانت قيمة الإيجار ألفي جنيه في العام. وكنت قد قرأت رواية فرنسية أعجبني اسمها «اللحية الزرقاء»، فاتفقت مع الكاتب المرحوم محمد تيمور بك على أن يقتبسها ويمصرها. ثم عهدت إلى الأستاذ بديع خيري في وضع أزجالها، وإلى المرحوم الشيخ سيد درويش أن يلحن هذه الأزجال. فأثمرت جهود أولئك الفطاحل عن الدرة التي أطلقنا عليها اسم «العشرة الطيبة». وتألفت الفرقة من الأستاذ عزيز والسيدة روز اليوسف والأساتذة محمود رضا ومنسي فهمي ومختار عثمان واستيفان روستي والمطرب زكي مراد والمطربة برلنته حلمي والسيدة نظلي مزراحي وغيرهم، وقد مكثوا يؤدون بروفات هذه الرواية مدة أربعة أشهر كاملة كنت أدفع فيها مرتباتهم. أخرج عزيز الرواية. ويهمني هنا أن أقول بأنني اعتنيت بها عناية فائقة، فلم أغلل يدي عن الصرف، ولم أحجم عن بذل كل ما تطلبه إظهارها في المظهر اللائق من مال قل أو كثر أما المناظر فقد عهدت في رسمها إلى الأستاذين أحمد لطفي (الموظف الآن بمصلحة المساحة)، وعلي حسن الذي تخصص في إيطاليا لهذا العمل، ثم قصدت إلى خان الخليلي فحصلت على مجموعة شائقة من التحف القديمة والملابس الأثرية ذات القيمة، وكان من بينها ما ارتداه أو استعمله بعض مشاهير القواد والفاتحين من العصور السابقة. وفي اليوم المحدد لظهور الرواية، كان مجموع ما صرف في سبيل إعدادها إلى اللحظة التي يرفع فيها الستار عن أول مشاهدها مبلغ ثلاثة آلاف جنيه مصري. وكانت رواية «العشرة الطيبة» هذه أول عهد الأوبرا كوميك والأوبريت في مصر! كان موضوع الرواية يتضمن تبيان شيء من استبداد الشراكسة، وكانت تركيا قد خرجت إذ ذاك من الحرب العالمية مقهورة، وكانت الأفكار في مصر تعطف عليها وتحن إليها، كما كانت حاقدة على الإنجليز لوقوفهم في سبيل نهضة مصر أولا، ولأنهم كانوا أقوى عامل في هزيمة تركيا ثانيا. ولذلك استغل خصومي الموقف، وراحوا يعيدون فريتهم السابقة من أنني دسيسة إنجليزية، وأن القصد من عرضي لرواية «العشرة الطيبة» هو تجسيم مساوئ الأتراك في عين المصريين، وتقريب الإنجليز لقلوبهم. وهذا مع أن الرواية ليس فيها أقل رائحة يشتم منها أي عطف على الإنجليز، أو أي إساءة للترك. ولكن ماذا أفعل مع من لا يتورعون؟ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ. ولم تكن تمر ليلة إلا ويقف في إحدى مقاصير كازينو دي باري في أثناء التمثيل، أو في فترة الاستراحة، خطيب ينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويهتف بسقوط الريحاني (داعية الإنجليز وربيب نعمتهم). كل ذلك وهم يعرفون تماما أن الريحاني كان هدفا لنقمة الإنجليز وسلطتهم العسكرية في مصر، وكثيرا ما كان يقف بين المتفرجين بعض العقلاء والمتنورين، فيردون على سفاسف أولئك الخطباء ويسفهون آراءهم. ولكنني مع ذلك أعترف بأن دعاة السوء قد استطاعوا التأثير في بعض السذج بهذه الدعاية. فلما رأيت هذه النتيجة طلبت إلى الصديقين المرحوم محمد تيمور بك والأستاذ بديع خيري، أن يقصدا إلى أحد البارزين من أعضاء الوفد المصري الذين يعتقد الشعب بآرائهم، ويطلبا إليه أن يتفضل بمشاهدة تمثيل الرواية، ثم يحكم بعد ذلك من الناحية الوطنية لها أو عليها. فكان أن وقع اختيارهما على المرحوم مرقص حنا، وكان إذ ذاك وكيلا للجنة الوفد المركزية. فذهبا إليه، وفي المساء نفسه حضر رحمه الله في رفقة السيدة قرينته والآنسة كريمته السيدة عايدة هانم (قرينة الأستاذ مكرم عبيد). وفي اليوم التالي تفضل المرحوم مرقص حنا فنشر في الصحف رأيه الصريح، مقرظا الرواية نافيها عنها كل ما يذيعه المغرضون لحاجة في نفس يعقوب. فكان هذا التصريح الكبير من رجل مثله له مكانته في قلوب الأمة، معولا دك حصون خصومي ودورهم على أعقابهم خاسرين. ومع ذلك فإن فرارهم من الميدان العام لم يكن ليحول بينهم وبين بث دعايتهم، كل وما يقدر عليه. ولعله من الظريف أن أروي في هذه المناسبة ما وقع بين واحد منهم وبيني شخصيا! كان ذلك في سنة ١٩٢٠، حين وفد إلى مصر الممثل الفرنسي الكبير (جان كوكلان). وكانت الصداقة قد ربطت بيني وبينه موثقا، فدعاني إلى مشاهدة إحدى رواياته في حفلة (ماتينيه) بتياترو برنتانيا القديم. ولبيت الدعوة، وكان إعجابي بالرواية شديدا بحيث كنت من أكثر المتفرجين تصفيقا. وهنا التفت إلي الشخص الجالس في المقعد المجاور لي ولم يكن بالطبع يعرف من أنا، وقال ما نصه: «أيوه كده … أهو دا التمثيل الصحيح مش الراجل كشكش اللي بيضحك على عقلنا بكلامه الكارع». وتمشيت معه في الحديث، فوصفت كشكش بأنه دجال لا أقل ولا أكثر. «وتبحبح» الرجل معي بحبحة «فضفض» فيها بكل ما يأكل قلبه من حقد. وأنا أنصت إليه بكل انتباه. ويظهر أن الشك داخل الرجل أخيرا، فسألني عن شخصيتي، وتطمينا له أجبته بأنني وإن أكن «شقيق» نجيب الريحاني، إلا أنني لا أقر خطته في المسرح، ولا أوافق مطلقا على النوع الذي يعرضه أخي الدجال! والآن نترك السادة الخصوم، وندع تأثيرهم في أذهان الجمهور، وننظر إلى هذا الأثر في نفسي. فأقول بكل صراحة إن شيئا من اليأس قد داخلني، وزاد منه أن توالت علي صدمات مالية قاسية. فقد اشتريت قبل ذلك قدرا هائلا من الفرنكات والليرات والأسهم والماركات، فهبطت أسعارها جميعا. وكان التدهور المادي شنيعا فأحسست بعده فعلا بهبوط حالتي المعنوية، حتى لم أكن أتمالك نفسي على خشبة المسرح … ودب في عملي نوع من الإهمال الذي انقلب إلى فوضى تفشت في ثنايا المسرح، وكادت تقلبه رأسا على عقب. وكانت ثالثة الأثافي أن تغير شعور كل من المرحومين عزيز عيد والشيخ سيد درويش نحوي، وسمعت من بعض المتصلين بهما أنهما ينويان رفع راية العصيان، ويتحدثان بأن الإيراد الذين يدخل جيبي من فرقة الكازينو — ولست ممثلا فيها — يجب أن يكون من حقهما وحدهما. وحين وصل إلى سمعي هذا الخبر، قصدت إليهما وصارحتهما بأنني رجل لا أحب العمل إلا في وضح النهار. ثم سردت عليهما ما وقفت عليه من شأنهما، وأتبعته بأنني على تمام الاستعداد لنفض يدي من المشروع وتركه لهما بخيره وشره، فعليهما أن يذهبا بالفرقة حيث شاءا، وأن يكفياني مئونة النظر في أمرها. وكان ذلك الإجراء الحاسم فصل الخطاب بيني وبينهما، وتضافر الاثنان في إخراج رواية (شهر زاد). فاتني أن أذكر حادثا له أهميته، في مذكرات كهذه، يقصد بها وجه التاريخ الصحيح، الذي آليت على نفسي فيه منذ البداية أن أكون صريحا في سرد الحقائق، وإن آذت مرارتها شخصي في بعض الأحايين. في سنة ١٩٢٠ تقدمت إلى ثلاث فتيات منهن طفلة يبلغ سنها حوالي الأحد عشر أو الاثني عشر عاما، وطلبن الالتحاق بالفرقة! فلم أتأخر عن إجابة هذا الطلب، وأضحت الفتيات (رتيبة وإنصاف وفاطمة رشدي) من أفراد فرقتي، وأريد إلى جانب ذلك أن أقول بأنني لاحظت في الصغرى ذكاء وقادا، وهواية شديدة للتمثيل، ورغبة أكيدة في العمل للتقدم على خشبة المسرح، بعكس شقيقتيها اللتين شعرت أن ميلهما كان متجها إلى إلقاء المقطوعات التلحينية. هذا ما رأيت إثباته قبل العودة إلى المدى الذي تركت القارئ عنده. وهناك شيء آخر تدفعني الصراحة كذلك إلى إبدائه، وهو أنه في أواخر عام ١٩٢٠ كان الخلاف قد دب بين الصديقة (لوسي دي فرناي) وبيني، فافترقنا إلى غير عودة. ويقيني أن هذا الفراق كان أول النكبات التي صبها القدر فوق رأسي وساقها إلي حلقات متتالية يأخذ بعضها برقاب بعض. ذلك لأن ما كان يغمرني من خير جارف، أضحى بعد ذلك البحر جفافا من كل ناحية، بل وشرا مستطيرا، حتى لقد اقتنعت تماما أن هذه الفتاة كانت هي مصدر الأرزاق، وأنها إنما حملت في جعبتها بسمات الدهر وحظ العمر.
نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية. نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية.
https://www.hindawi.org/books/51630730/
مذكرات نجيب الريحاني
نجيب الريحاني
تبرز من بين صفحات هذا الكتاب، مذكرات رائد الكوميديا المصرية والعربية، الضاحك الباكي «نجيب الريحاني» ذلك الممثل العبقري، والموهوب الفذ، الذي استطاع أن يحوذ إعجاب الناس وحبهم، إن الريحاني لم يكن فقط مبدعًا في فنه بل كان مخلصًا له، وراهبًا في مسرحهِ، فكان خير له أن يقضي نحبه فوق المسرح، من أن يموت على فراشه كما يقول. عُرف نجيب الريحاني بأمانته وصدقه، فكان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يميل إلى المواربة والمداراة؛ لذا فقد آلى على نفسه في عرضه لهذه المذكرات أن يسجل ما بها من حقائق مهما كان فيها من ألم يناله قبل أن ينال غيره ممن جمعته به أية جامعة أو رابطة، ويصارح الريحاني القارئ في هذا الكتاب، فيقول له: «بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يُشعِر بالإقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة في هذه الآونة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هادئ البلبال.»
https://www.hindawi.org/books/51630730/7/
كشكش تقليد
وقد اشتركت مع الحاج مصطفى حفني، وقمت بالفرقة إلى سوريا ولبنان في أولى رحلاتنا الفنية. وقد رميت بهذه الرحلة أولا وقبل كل شيء، إلى الترويح عن نفسي بعدما لحق بي من أسى، وتجديد نشاطي الذي تضاءل، والتخلص مما حل بي من فتور وسقم. ونزلنا في بيروت وكلنا آمال بالنجاح الذي ينتظرنا فيها. ولكن بكل أسف ضاعت الآمال من الليلة الأولى، وبلينا بالكثير من الإخفاق الذي لم نكن نتصوره. أما علة ذلك فهي أن الأستاذ أمين عطا الله (وقد كان ممثلا بفرقتي قبل ذلك بسنوات)، استطاع إذ ذاك أن ينسخ جميع رواياتي فألف فرقة من مواطنيه في سوريا، وعرض بضاعتنا كلها، ولم ينس أن يغتصب كذلك اسم (كشكش بك). وأحب أن أنصفه فأقول إنه لم يأخذ الاسم على علاته، بل تصرف فيه من حيث الشكل فضم «الكافين» في بيروت وفتحهما في دمشق، في حين أنهما مكسورتان في مصر! هذا هو كل التصرف الذي أدخله أمين عطا الله على عمدة كفر البلاص! المهم أن الناس هناك اعتبروني مقلدا لكشكش بك الأصلي، الذي هو أمين عطا الله، وزاد الطين بلة أن هذا الكشكش بك كان سوريا، وقد مكنه ذلك من معرفة عادات مواطنيه، والوقوف على ما يرضيهم وما لا يرضيهم، فكان يؤدي لهم ما يرغبون كما يرغبون. وهذه الرغبة أن القوم هناك يميلون إلى الكوميدي المفتعل، بمعنى أن الممثل يجب أن «يتمرمغ» في الأرض، أو يخبط دماغه في الحيط، أو … أو إلخ، وقد تعمق معهم أمين في هذا النوع، أما نحن فقد حافظنا على روح رواياتنا، وعرضناها مقتطعة من عادات الحياة المصرية، فإنها كانت بعيدة عن عادات إخواننا السوريين، ولذا أصبحت أنا كشكش «التقليد» في حين أضحى أمين عطا الله في نظرهم كشكش «الأصلي». وقد كنت أسمع بأذني بعض الناس هناك يقولون: «هايدا مانه كشكش، هايدا تقليد!» فكنت آخذ هذا الوصف في «أجنابي» فأقول في سري … سبحان مغير الكشاكش! المهم لم تنجح الرحلة من الوجهة الفنية ولا من الناحية المادية، فقد كانت النتيجة أن الإيرادات والمصروفات كانا متوازيين، أي أن الميزانية كانت متوازنة فلم نخسر ولم نكسب هذا من الناحية العامة. أما من وجهة نظري الشخصية فقد كان هناك شيئا متناقضان، يدخل أحدهما في باب الخسارة والثاني في كفة الربح، فالخسارة كان مبعثها أن التسلية والترويح اللذين قصدت إليهما من الرحلة أتيا بنتيجة عكسية وزادا من همومي، وأما من ناحية الربح فلها قصة! في أول حفلاتنا هناك لفت نظري في المقصورة الأولى سيدة «بتلعلع» وقد ارتدت أفخم ملبس وتحلت بأبهى زينة. لم أعرفها حقا، ولكنني تنبهت لوجودها وفي فترة الاستراحة بين الفصول، أدهشني أن وجدت هذه السيدة بذاتها تحضر لتحيتي وتهنئتي في حجرتي بالمسرح. ويظهر أنها لاحظت ما أنا فيه من ارتباك، فدفعها ذكاؤها إلى أن تعرفني بنفسها فقالت: «إلا أنت مش فاكرني والا إيه؟ أنا بديعة مصابني اللي قابلتك في مصر وكتبت وياك كنتراتو ولا اشتغلتش!». وبعد أداء ما قضى به الواجب من أهلا وسهلا، وإزاي الصحة وسلامات، عرفت منها أن الدافع لها على هجر مصر، بعد أن اتفقت على العمل في فرقتي، هي أنها استرجعت للشام على عجل لأمور قضائية تتصل بعملها الفني هناك. وقد عرفت إذ ذاك أنها كانت تعمل بنجاح تام كراقصة وأن اسمها ذاع في أنحاء سوريا ولبنان. كما أنها كانت قد اشتركت في فرقة أمين عطا الله، وحفظت الكثير من مقطوعاتنا الغنائية التي ورثها عنا أمين … ونحن على قيد الحياة. ثم سألتني السيدة بديعة: «هل إذا التحقت بفرقتك يكون لي نصيب من النجاح في التمثيل؟». فأجبتها: «إنك لا تنجحين على المسرح فقط، بل إنني أتنبأ لك بمستقبل تصلين فيه إلى مراتب النجوم من أقرب طريق وفي أسرع وقت». وفي تلك الليلة جددنا عقد الاتفاق على العمل، وانضمت بديعة إلى الفرقة، وظهرت معنا لأول مرة بمرتب شهري قدره أربعون جنيها مصريا. وكان أول اشتراك فعلي لها معنا في بيروت حيث ظهرت في أدوار غنائية، فنالت ما كنت أوقن به من نجاح. كان في ذمة «ديمو» لي مبلغ ستمائة جنيه كتأمين، فلما اتفقت على القيام بالرحلة تراضينا على أن أدفع له مبلغ خمسة جنيهات عن كل يوم من أيام تغيبنا في هذه الرحلة. إلا أنه انتهز فرصة غيابي فرفع هذه الدعوى مطالبا إياي بتعويض مالي لما سببته له من خسائر «بامتناعي» عن العمل في مسرحه! واخد بالك!! نهايته استمرت هذه المنازعات حوالي شهرين، وانتهت والحمد لله في مصلحتي! وفي أوائل سنة ١٩٢٢ تقدمت إلي شركة سجاير ماتوسيان تعرض مشروعا للاتفاق معها على أن تعمل فرقتي ثلاثة أشهر في الإسكندرية لحسابها. وكانت طريقة الشركة أن تضع في علب سجايرها كوبونات يستطيع الزبون أن يقدمها لعامل شباك التياترو فيحصل بواسطتها على تنزيل. وافقت على مشروع شركة ماتوسيان بالطبع، وبدأنا عملنا في تياترو كونكورديا بالميناء الشرقي بالإسكندرية، من أول شهر مارس وانتهى في مايو. وكانت هذه المدة فرصة استطاعت السيدة بديعة في أثنائها أن تحفظ أدوارا في رواياتي القديمة التي لم تكن يد السيد أمين عطا الله قد وصلت إليها، كما أن لهجتها السورية بدأت تنقلب في هذه الأشهر الثلاثة، وعدت إلى مصر، فشعرت بشيء غير قليل من الضيق، واحتل قلبي نوع من اليأس زاد في إضرامه موت والدتي. وكأن قسوة القدر لم تكتف بهذه الكارثة، ففجعتني بأروع منها! ذلك أن أصغر إخوتي وأقربهم إلي وأعزهم على نفسي … بل قل إنه كان التعزية الوحيدة لي، والأمل الباسم في حياتي، هذا الشقيق المحبوب، اختفى في ذلك العام المنحوس — ومازال إلى هذه اللحظة التي أسطر فيها مذكراتي، دامع العين، مفتت الكبد جريح الفؤاد، أقول مازال شقيقي هذا مجهول المصير مني ومن محبيه وأصدقائه — ولم تكن منزلته لديهم لتقل كثيرا عنها لدي فاللهم صبرا جميلا. وبعد أن انتهت مدة الثلاثة أشهر التي اتفقنا فيها مع شركة سجاير «ماتوسيان» للعمل بتياترو «كونكورديا» بالإسكندرية، تقدم إلي متعهد يعرض علي أن تقوم الفرقة إلى سوريا مرة أخرى في رحلة فنية، ويسوؤني أن أقول إنها لم تكن أحسن حظا من سابقتها، خصوصا وقد لقيت في أثنائها من تعنت الممثلين الشيء الكثير. عاد إلي إذ ذاك فتوري القديم، وكدت أيأس من مواصلة العمل، لولا خبر نما إلي وأنا في ربوع لبنان. أما الخبر فهو أن الأستاذين يوسف وهبي وعزيز عيد قد عادا من إيطاليا، وقررا تأليف فرقة يهيئان لها مسرحا في شارع عماد الدين. ولقد كان مجرد علمي بذلك باعثا لي على إشعال جذوة النشاط في نفسي، فعقدت العزم على العودة إلى مصر وموالاة العمل فيها، مهما كانت الأحوال ومهما حكمت الظروف. كان ذلك في يناير عام ١٩٢٣، وهنا يجدر بي أن أنوه باكتشاف وفقت إليه! ذلك أن صديقي بديع خيري كان إلى هذا التاريخ زجالا فحسب، ولم يكن قد اشتغل بالتأليف بعد. فلما وجد مني اهتماما بالبحث عن رواية أقابل بها المنافسين المستجدين، تقدم إلي في حيائه المعروف وهو يقول بأنه انتهز بعض فرص الخلو من العمل واشترك مع شقيقي الأصغر في وضع رواية «على قد الحال». كان أخي الصغير صديقا حميما لبديع. وكان كل منهما يخلص الود لصاحبه، وقد تآلفت روحاهما، واتحدت أفكارهما، فكان الواحد منهما يجد في زميله الأخ الشقيق لا مجرد صديق. وقد ظن الاثنان أن في مقدورهما أن يخلقا من نفسيهما مؤلفين، ولكن واحدا منهما لم يطلعني على هذا السر الدفين. ومن ثم راحا يعملان فيما بينهما، فوفقا إلى رواية فرنسية اسمها «الفانوس السحري، أو علاء الدين» وهي إحدى قصص «ألف ليلة». فلما انتهيا منها، رغبا أن يبرهنا على قدرتهما بطريق غير مباشر، ولذلك لم يعرضا روايتهما علي بل راحا «يسرحان» بها على الفرق الأخرى لعل واحدة منها تضع في عينها «حصوة ملح»، وتشتري الرواية. وفي ذلك البرهان القاطع الذي يقدمانه لي، ويحملاني به على الإقرار لهما بأنهما مؤلفان لا يشق لهما غبار! على أن الفرق التي قصدا إليها السيدان المؤلفان لم تر في الرواية رأيهما، فلم تقبل إحداها الشراء!! كما أن بديعا وأخي لم يجرآ على مفاتحتي في الأمر، ومن ثم أودعا الرواية في المهملات بمنزل الأستاذ بديع، وأبقياها كهدية منهما إلى جياع الفيران، إذ لم تحن الفرصة لبعثها! ومضت السنوات على ذلك إلى أن عادت الفرقة من سوريا — وكنت كما قدمت — في أشد الحاجة إلى رواية أقابل منافسي. فتقدم إلي الأستاذ بديع «باقتراحه المتواضع» الذي سبق بيانه! اطلعت على الرواية فوجدتها من «حسبة ٢٥:٣٠ منظرا» ومع أنها كانت كلعب الأطفال أو عبث المبتدئين، إلا أنني أحسست فيها ثمرة يمكن اجتناؤها وأساسا يصح البناء عليه، وإذ ذاك اشتركت مع بديع في «توضيبها»، وصبها في القالب المرضي الذي يضمن لها النجاح المنشود، وكان أن أطلقنا عليها اسم «الليالي الملاح». وكان هذا أول عهد بديع بالتأليف الروائي، ومن ذلك اليوم سار ملازمي في كل ما نضع للمسرح من روايات. حدثتك يا سيدي القارئ عن «بديع» والآن فلتسمح لي أن أحدثك كذلك عن «بديعة». قلت إنني اتفقت وإياها على أن تعمل بفرقتي، وأمضينا اتفاقا «في أثناء وجودنا بسوريا»، ينص على أن تتقاضى أربعين جنيها شهريا، فلما عدنا إلى مصر، بدأنا إجراء بروفات «الليالي الملاح». وكم قاسى الممثلون في تلك البروفات، وكم بذلوا من جهود جبارة لم تكن السيدة بديعة قد اعتادتها في عملها مع غيرنا. وإني لأذكر أنها كانت في كثير من الأحوال تبكي وتنتحب و«تقطع» شعرها من الجذور بعد أن ينهكها التعب، وتتوتر أعصابها من العمل المتوالي في البروفات. ولم يكن ذلك ليقلل من قسوتي أو يثبط من عزيمتي، فقد آليت على نفسي أن أجعل منها عروسا للمسارح، وكوكبا يلمع في أفق الفن. ولم أقصر في إطلاعها على هذه الرغبة في بعض الأحايين، فكان ذلك يدفعها إلى تحمل الألم، حتى إذا ما بلغ غايته، تملكها الغضب وغادرت المسرح باكية صاخبة ولسان حالي يقول: «برضه ولو!». كانت بديعة فنانة بفطرتها، وكانت تهوى المسرح بطبيعتها، وكنت أحس ذلك منها، وأرى في قوامها وفي جمالها ما يساعد على تكوين عقيدتي التي أبديتها، وهي أنني لابد وأن أجعل منها الممثلة التي أبتغيها، ولذلك لم أكن أولي غضبها و«عصبيتها» أية عناية. بل بالعكس، كانت كلما ازدادت غضبا ازددت قسوة ونضالا في سبيل مصلحتها من ناحية ومصلحة عملي من الناحية الأخرى. وأخيرا آن أوان اقتطاف الثمرة، وجاء الوقت الذي شاءت فيه العناية أن تنيلنا أجر ما بذلنا من جهود. فظهرت «الليالي الملاح» آية فنية رائعة، وبدت فيها «بديعة مصابني» كوكبا هل على الجمهور في صورة ملكت لبه، واحتلت مكامن إعجابه. وزاد الإقبال وتحسنت الأحوال، وبدأ الناس يتحدثون في كل مكان عن ممثلتنا الجديدة فيقرظها عارفوها، ويرفعها غيرهم إلى أسمى مكان من إعجابهم! وهنا فقط عرفت بديعة سر التدقيق في «البروفات»، ورأت بعينيها أن نجاحها لم يكن إلا وليد تلك الجهود التي أبكتها فيما مضى فأغضبتها المرة تلو المرة. أراني ملزما بتحليل نقطة في منتهى الأهمية، ولو من وجهة نظري أنا، كانت بديعة هاوية خالصة الهواية وكانت — وما تزال على ما أعتقد — شعلة من النشاط، فجاء نجاحها المجيد بعد ذلك حافزا قويا حملها على مطالبتي بموالاة العمل لإخراج رواية جديدة. وكأنها ظنت أن تأليف الرواية لا يكلفنا شيئا من العناء. وما هي إلا أيام معدودة أجتمع فيها بزميلي بديع ونتبادل الرأي ثم تنتهي الرواية وتكون معدة للمسرح! حاولت أن أفهمها خطأ ما ذهبت إليه، وأبين لها أن المسألة أبعد مما يتراءى لها، ولكن! كيف أصل إلى موضع الاقتناع منها؟ ومضى الشهر الأول والنجاح حليف «الليالي الملاح»، ولم نكن قد أنهينا من الرواية التالية غير الفصل الأول. وبعد أيام تبعه الثاني، وكانت بديعة أشبه بالسوط يلهب ظهورنا، ويستحثنا على الإسراع وبذل الهمة «للفراغ من دي المهمة»! فلما أبطأنا بعض الشيء لم تجد إلا أن ترميني بالكسل. وقد كانت سامحها الله، أول من خلع علي لقب البطولة في هذه الرذيلة. وقد وجدت دعايتها من أذهان الناس مرتعا، فأصبحت في نظرهم جميعا شخصا كسولا، ولزمني هذا الوصف «بهتانا» إلى اليوم، كذكرى من ذكريات السيدة بديعة مصابني. وأقول بهتانا لأنني لا أرى مسوغا له، ولا أرضى أن أوصف به! وأعددنا بقية الرواية الثانية «الشاطر حسن» وكان من أثر استعجال بديعة، أن أخرجنا الرواية قبل تهيئة الفصل الأخير منها، فظهر في اليوم الأول مفككا لا ضابط له، إلا أننا استطعنا بحمد الله أن نصلح ما أفسدت السرعة منه. فاحتلت الرواية مكانها من إعجاب الجمهور، وكانت كسابقتها من حيث النجاح والإقبال. ويهمني أن أعترف هنا، بأن بديعة كانت تنتقل في كل يوم من نجاح إلى نجاح، حتى جاءت الرواية الثالثة «أيام العز»، وفيها ارتكز مجد بديعة على أساس ثابت، وأضحت العروس التي تنبأت بها، والمعدن الذي كشف الصقل جوهره، فبدا للعيان لامعا كشمس الضحى. كان هذا حال بديعة بعد الرواية الثالثة، فإذا كانت قد رمتنا بالكسل قبل أن تصل إلى هذه الدرجة من السمو، فماذا بربك تكون حالتنا في نظرها وهي تريد أن تظهر كل يوم في رواية جديدة؟ وقد قلت فيما قبل إن الزميل بديع خيري كان إلى ما قبل ظهور رواية «الليالي الملاح» زجالا فحسب. إلا أنني حين اطلعت على أثره في تلك الرواية عرفت أنه مؤلف بغريزته، وأن أثوابه تخفي تحتها عبقريا لا ينقصه إلا أن يرفع عنه ستار الخجل الذي يكسوه، وإلا أن يحل من قيد التردد الذي يعروه. هذا ما تأكدت منه بعد درس روايته الأولى التي اشترك معه فيها أخي الصغير. وتوالت الروايات التي اشترك معي في تأليفها بديع، وفي خلال تلك المدة كسبت في شخصه أكبر معين لي في عملي، إذ اتحدت أذواقنا، وائتلفت أرواحنا، وأصبح كل منا للآخر أخا روحيا أو تكملة لابد منها للثاني. لقد قلت في مناسبات كثيرة إن بديعا الزجال كان آية من آيات النبوغ في فنه، وهاأنذا أؤكد أن تلك المكانة من الزجل لمست فيه أضعافها في التأليف، ورسم الحقائق والأخلاق المصرية الصميمة، والقدرة على إلباسها الثوب الحقيقي الخلاب في أسلوب يلذ للمرء أن يتابعه بشغف وانتباه. أضحى بديع خيري إذن زجالا ومؤلفا في وقت واحد. وقد ساعدني ذلك على التفكير في إخراج الكوميدي المصري الصميم. هذا ما أرى من واجبي أن أثبته للحقيقة والتاريخ قبل أن أواصل السير في سرد الوقائع التي بدأت بها. اشترك معي بديع في «الليالي الملاح» و«الشاطر حسن» و«أيام العز» … وقد كان نجاحها بليغا، كما كان أثر بديع وبديعة فيها واضحا جليا. وهنا … معذرة يا قرائي الأعزاء إذا عدت بكم ثلاث سنوات إلى الوراء، لأسجل حادثا له أهميته الاجتماعية والفنية. في سنة ١٩٢١ روعت مصر من أقصاها إلى أقصاها إثر اكتشاف حوادث جنائية في الإسكندرية لم يكن للبلاد بها عهد من قبل، وتلك الحوادث هي استدراج بعض النسوة إلى مكان معين، وسلب حليهن ثم قتلهن أشنع قتلة، والتمثيل بجثثهن ثم دفنهن تحت الجدران. وكان أبطال هذه العصابة امرأتين «ريا» و«سكينة» وزوج إحداهما واسمه «حسب الله». كان اكتشاف هذه الجنايات حديث الناس جميعا. ولما كنت أشعر بأنني خلقت للدراما لا للكوميديا، فقد عولت على اقتباس موضوع من هذه الحوادث الدامية وإخراجه على المسرح. وهذه النزعة — نزعة الدرام — يظهر أنها تسكن أدمغة رجال الكوميدي جميعا، فكل منهم يعتقد — إن حقا وإن باطلا — بأنه مبرز في هذا النوع، وأنه إذا اتجه إليه فاق نفسه في الكوميدي بمراحل. ولعل القراء يعرفون كيف عقد شارلي شابلن عزمه على إخراج دوري نابليون وهملت، وكيف صرح مرارا بأنه سيكون المجلى فيهما. نهايته … أعددت رواية «ريا وسكينة» وأخرجتها في مسرح برنتانيا، ففاق نجاحها كل حد، بحيث كنت أسمع بأذني النحيب والبكاء صادرين من الناس طرا. وكم سمعت البعض ينادون بالصوت العالي: «بزياده بقى … قتلتونا يا ناس …». كان الممثل حسين إبراهيم يقوم بدور «ريا»، وكانت بديعة تظهر في دور إحدى الضحايا التي تفتك بهن العصابة. كما اضطلعت أنا بدور سفاك اسمه مرزوق. وما دمت قد أشرت إلى ما كان لهذه «الدرام» من تأثير عميق في الجمهور، فلا مانع من ذكر هذه الواقعة. حدث عندما كنا نمثل هذه الرواية في يافا، أن كان أحد المشاهد حاميا بيني وبين بديعة، وكان الحوار بالغا أشده، حين تقدمت من الفريسة وأطبقت أصابع اليدين حول عنقها وهي تتلوى — كالطير يرقص مذبوحا من الألم — وأرجو السماح يا حضرات القراء في الاستشهاد بهذا المثل … واستحملوا فلسفتي … ربنا ما يوريكم مكروه. أقول بينما المناقشة حادة، وأنا أقوم بمهمة الخنق خير قيام، إذ بي أسمع صوتا يدوي من أقصى الصالة صائحا: «دشرها ولاك … العمى بعينتينك …!». وأتبع حضرته هذا القول بطلقة من غدَّارته، كادت ترديني على خشبة المسرح … لولا أنني أخدتها من قصيره، وبرطعت إلى الخارج تاركا الفريسة تعرف شغلها مع صاحب هذا الاحتجاج العملي الغريب في نوعه! أما وقد انتهينا من ذكر ما نسينا فلنقفز بعد ذلك ولنواصل ما انقطع. عرفتم أنني صادفت في أثناء عملي في شركة السكر بنجع حمادي عرافة فرنسية تنبأت لي بسنوات أعوم في أثنائها في الفلوس عوم، وأن هذه السنوات ستتبعها أخرى عجاف، وهكذا دواليك. انقضت سنوات القحط والنحس والبلا الأزرق. فاستمع يا سيدي وارث معي للحال التي كنت فيها. لعلك تذكر المسيو ديمو كنجس … صاحب تياترو برنتانيا، وكيف فتحت أبواب النعيم باتفاقي وإياه على العمل في مسرحه، ذلك العمل الذي در عليه ربحا لم يكن يتصوره، وملأ خزانته بمال لم يكن يمتد إليه أمله حتى في أحلامه. وإنه وإن كان لي أن أتحدث بنعمة ربي، فإني أقول إنني نقلت هذا الرجل إلى سماء الثروة الجارفة، إذ كان إيراده السنوي من المسرح ثمانية آلاف جنيه أو يزيد. فهل عرف لي هذا الجميل؟ وهل قدر لي ذلك الصنيع؟ الجواب على ذلك: أنه اتفق مع الحاج مصطفى حفني «مدير مسرح برنتانيا» على أن يشتركا في إتمام بناء التياترو (لأنه كان إلى هذه اللحظة، على الله، سقف خيش وجدران مترين طوب وأرضية من الرمل و… إلخ). ولكن للأسف كان الشرط الأساسي أن يخرجاني منه، وأن يجلبا فرقا أجنبية من الخارج للعمل به، الواحدة تلو الأخرى. ألحفت في الرجاء لعلي ألين قلب هذين الشريكين، وبعد مقت وفلقة قلب، تفضلا وتنازلا وقبلا أن يسمحا لي بالتمثيل في فترات متقطعة، بين سفر فرقة أجنبية ووصول أخرى، وفي أيام الصيف القائظة التي يرفض الأجانب أن يعملوا في أثنائها! برضه معلهش يا زهر إذ لم يكن أمامي إلا قبول ما يملى على من قاسي الشروط. آدي دقة! أما الأخرى. فقد كان لي في أحد البنوك الأجنبية سندات تقدر بمبلغ ثلاثة آلاف جنيه كنت أقترض عليها إذا ما أعوزني المال. إلا أنني فوجئت بحجز تحفظي على هذه السندات، لأن رجلا أتى من عرض الطريق ادعى أنني مدين له بمبلغ مائة جنيه! ولذلك رفض البنك أن يجيب مطالبي، وتوقف عن إقراضي أي مبلغ، بالرغم من توسلاتي إليه أن يحتفظ بمبلغ الدين، بل بأضعاف أضعافه، إذ أين المائة من الثلاثة آلاف. عام بأكمله قضيته دون أن أجد قرشا واحدا، في حين أنني أملك في البنك آلاف الجنيهات! أما ثالثة الأثافي، ولا مانع من الاعتراف بأنني أستعمل هذا الاصطلاح غصبا عن عين زميلي بديع خيري، ورغم معارضته، لأنه يدعي أن مافيش حاجة في الدنيا اسمها «ثالثة الأثافي»، وأنه لا يفهم لها معنى، ومع أنني أوافقه على أنني أنا أيضا لا أفهم لها معنى إلا أنني برضه أستعملها لأني سمعتها من أحد الفضلاء المبجلين أعضاء بسلامته المجمع اللغوي! أقول إن ثالثة الأثافي «واللي يزعل يشرب من الزير»، أنني صدمت صدمة نفسانية قاصمة، لا تقاس بجانبها الصدمات المادية مهما اشتدت. صدمة جاءت في الصميم، فضعضعت حواسي، وأسلمتني إلى اضطرابات عصبية قاسية كنت في أثنائها في حاجة إلى من يواسيني … ولكن أين لي أن أجده؟ لست أريد التوسع في شرح تلك الصدمة مكتفيا بهذه الإشارة الموجزة حتى لا أسيء إلى أحد. قلت إنني قبلت شروط الشريكين ديمو كنجس والحاج مصطفى حفني، ورضيت أن أعمل في «برنتانيا» في فترات متقطعة، فأعددت رواية «البرنسيس» مع زميلي بديع، وقد كانت أول محاولة حقيقية لنوع الكوميدي في مصر، وإن كانت أشربت ببعض نواحي «الأوبريت». وفي هذه الرواية — وللمرة الأولى — خرجت عن شخصية كشكش، وظهرت في دور آلاتي بائس يعزف على القانون اسمه «المعلم حسنين»، كما ظهرت بديعة في دور «عيوشة». ونجحت الرواية كما كان مقدرا لها، وتوطد مركز بطلتها بديعة في عالم التمثيل. ولولا أن الرواية كانت تعرض في فترات متقطعة لواصلت نجاحها يوميا، ولآتت أكلها كما كنا نبغي. ولكن آه! ثم آه! … من الحاج حفني. ومن أجواقه التي كانت كأجواق «أبو حجاب»، الذي يقولون إنه لا ودى ولا جاب!! وبعد رواية «البرنسيس» أخرجنا رواية «الفلوس»، ثم رواية «لو كنت ملك» ثم «مجلس الأنس». وفي هذه الأيام، كنا كالأيتام في مأدبة اللئام، إذ لم يكن لنا — كما شرحت — مسرح ثابت نعمل فيه، كما أن الدرام قد طغى على مصر فاشتهر فيها اسم «مسرح رمسيس»، وعمل عميده يوسف وهبي ومخرجه عزيز عيد، على ترجمة أحسن منتجات الغرب الأدبية، وعرضها على الجمهور في ثوب قشيب ومظهر خلاب، لفت هذا النوع أنظار الناس قاطبة، فتهافتوا على مشاهدته، وولوا وجوههم شطره، وتركنا نتابع سيرنا الأعرج تحت رحمة الحاج مصطفى حفني، وفي ظل رضائه عنا حينا وغضبه علينا أحيانا، فكانت محاولاتنا الكوميدية تنجح في محيطها المحدود، ولكن لم يكن لها مثل ذلك الدوي الذي كان يتمتع به الدرام إذ ذاك. أي والله مدهش! ذلك التفسير لنصوص العقد، الذي أجبرتني الحالة على توقيعه مع الحاج مصطفى حفني مدير تياترو برنتانيا. كان بين الشروط التي أملاها «الحاج» أن تحيي الفرقة أربع حفلات نهارية (ماتنيه) في كل أسبوع، وإذا «امتنعت عن إحياء إحدى هذه الحفلات كان عليها أن تدفع غرامة مقدارها ثمانية جنيهات. هذا هو الشرط. وقد كان يحدث في شهور القيظ أن يفتح شباك التذاكر لحفلات الماتينيه، ولكن العامل «لا يصطبح» بابن حلال يوحد الله. لأن الناس كانوا يفضلون سهر الليالي على حجز أنفسهم عصر كل يوم في ذلك العرق المحرق. فإذا جاء أوان رفع الستار وجدنا التياترو خاويا على عروشه، ومقاعده أفرغ من فؤاد أم موسى. ولذلك كنا نتفق مع الحاج مصطفى على إلغاء الحفلة. وفي أواخر يوليه من عام ١٩٢٤ انتهت مدة التعاقد. وفيما أنا مستعد لنقل الحال والمحتال — أي ما أملك في المسرح من ملابس ومناظر وأدوات وستائر — وقف الحاج مصطفى يحول بيني وبين نقل أي «قشايه» … إيه يا سيدنا؟ — لأنك مدين لي بمبلغ سبعمائة وعشرين جنيها؟ – يا خبر زي بعضه … وبتوع إيه دول يا حاج؟ – بقى يعني مش عارف حضرتك؟ بتوع الماتينات اللي بسلامتك رفضت تشتغلها! – لكن دا مش بسلامتي بس اللي رفض، دا بسلامتك أنت كمان لأن مافيش حد جه، ولأنك كنت حاتخسر ثمن النور وأجرة العمال! – لا. مافيش كلام من ده!! وطبعا انتهت المناقشة وانفض المشكل على أن (ما فيش كلام من ده). وضاعت ملابسي ومناظري وستائري الغالية في شربة ماء. والظريف أن الحاج مصطفى بعد الرجاء الحار، والوسائط الكثيرة، قبل أن يكتفي بهذه الأشياء … ويتنازل — وخد بالك من يتنازل — عن بقية ما في ذمتي من أموال نظير الامتناع عن «إحياء» الحفلات الميتة إياها!! بعد هذه الفصول السخنة، وبلاش الكلمة الثانية، يئست من هذه الحياة، التي أنكر الناس فيها الوفاء وباعوا الأصدقاء، فاعتزمت أن أرحل بعيدا عن أناس اشتريتهم، فباعوني، وأخلصت لهم فأنكروني. ثم فكرت أن أجد في الزواج تعزية أو شبه تعزية، فكان قراني ببديعة مصابني، وامتلأ رأسي بفكرة النزوح عن الوطن، والبحث ولو عن فائدة واحدة من الفوائد الخمس، التي يقولون إنها مقرونة بالسفر. وفي أحد الأيام نصحت لي بديعة أن نتسلى بشم الهواء في مصيف روض الفرج فرافقتها، وما كدنا نصل حتى طرق أذني صراخ شخص يوزع رقاع إعلان وهو يقول بصوته المنكر: «الحق هنا يا جدع، تعالى شوف كشكش الأصلي يا جدع، هنا ملك الكوموكودو — أي والله هكذا قال — الحق قبل ما يلعب». وتراءى لبديعة أن تقف هنيهة لتناقش ذلك «الإعلانجي» في صيغة ندائه، ولم يكن بالطبع يعرف شخصيتها، فجرى بينهما الحوار التالي: ورأيت أن الخناقة قد تطول وتتشعب البحوث فتجر إلي توتر العلائق بين كشكش الأصلي وبين حرم كشكش التقليد، اللي هو أنا، فجذبت بديعة ودخلنا لنشاهد (الكوموكودو) كشكش اللي مش تقليد!! ورفع الستار وظهر «المبروك»، فرقص ومثل وغنى وأنشد، فكدت أطير … لا من السرور، ولكن لأن كشكش ذلك الاسم الذي كنت أعتز به أضحى على هذه الحال من الهوان، يتلاعب به مثل هذا الإنسان «ويمرمغ» به الأرض. ولست أخفي على القارئ أنني لولا وجود بديعة إلى جانبي في تلك اللحظة، يعلم الله أنني ربما ألقيت نفسي في النيل منتحرا، وبلاش الغلب الأزلي ده!! نهايته. كانت هذه السهرة (الروض فرجية) سببا في القضاء على ترددي في السفر، فلم ينقض الليل، حتى كنت في صباح اليوم التالي قاصدا إلى قلم الجوازات، لاستخراج جواز السفر لي ولبديعة. وبعد الانتهاء من الإجراءات اللازمة قابلني الممثل (فريد صبري). فلما عرف أنني قاصد إلى أمريكا الجنوبية، أظهر الرغبة في مرافقتي، فأفهمته أنني لا أضمن أن أعمل هناك، وقد يقتصر الأمر على تبديل الهواء وانتجاع الصحة. فأجابني بأن الأمر من وجهة نظره على حد سواء. لأنه — وهكذا قال — مقطوع من شجرة، ولا يهمه ما يأتي به السفر، وبناء عليه لم أمانع في أن يصحبني كما صحبني الممثل محمود التوني. وقصدت إلى إحدى شركات الملاحة، وهناك فهمت أن باخرة اسمها «غريبالدي» تقوم من جنوا قاصدة إلى البرازيل. فاسترحت إلى قطع التذاكر بها، وقلت لابد وأن إيطاليا إذا أطلقت اسم زعيمها العظيم «غريبالدي» على إحدى بواخرها، فإن هذه الباخرة لابد أن تكون عروس زميلاتها الأخريات. وغادرت مصر إلى جنوا، وفي معيتي بديعة مصابني وفريد صبري ومحمود التوني وجوجو ابنة بديعة … شايف المعية يا عم!! وظللت أمني نفسي بعظمة «غريبالدي» وأبهتها وفخامتها، حتى إذا وصلنا إلى جنوا تبخرت هذه الأحلام. لأن تلك «الغريبالدي» شبهت لي بقارب من قوارب الصيد، أو بسفينة من ذلك النوع القديم الذي علق أثره بأذهاننا من عهد الدراسة، والتي كان الفينيقيون يتنقلون عليها بين ثغور البحر الأبيض. وهنا قلت كيف يتسنى لهذه «القربة» أن تخطو خطوة واحدة في المحيط الأطلنطي؟ نهايته. سارت غريبالدي «تهكع» بنا، موجة تشيلها، وموجة تحطها، إلى أن اجتزنا مضيق جبل طارق، ودخلنا مياه المحيط وهنا كان الغلب الأزلي!! بل هنا كان التحقيق العملي للمثل المعروف وهو: «كالريشة في مهب الريح» أي والله ريشة!! ولكي تفهم قيمتها في المحيط أقول إنها قضت بنا فيه أو قضينا بها في المحيط خمسة وعشرين يوما في حين أن غيرها من بواخر خلق الله يقطع هذه المسافة في أسبوع. كان هذا حال «غريبالدي» أما ركابها فربنا ما يوري عدو ولا حبيب. ملك دوار البحر بديعة فلم تعرف رأسها من رجليها. وطرح التوني وفريد صبري أرضا، لكن أرض إيه؟ هي فين الأرض؟ قول طرحا خشبا!! وهذه كانت حالة الركاب جميعا، ولم تكن مقصورة على زملائي، ولم يكن بين الجمع إلا فرد واحد لم يستطع البحر ولا دواره، بل ولم تستطع «غريبالدي» «بخيابة» قدرها أن تؤثر فيه أي تأثير. فكان يغدو ويروح واضعا يديه في جيوبه، ضاحكا من هذا ومن ذاك ممن كانوا يتلقحون في الممرات. هذا الفرد الواحد هو أنا. ولكن ما ذنبي وقد خلقت مني الأقدار «سندبادا بحريا» في آخر الزمن؟ ولقد كنت أنتهز بعض فرص هدوء البحر فأجمع زملائي، و«أسليهم» بعمل بروفه … على رواية «هملت»، وغيرها من «الدرامات»، لأن الموقف لم يكن يتحمل عمل بروفات كوميدي!! وبعد هذه النكبات المدلهمات، شاهدنا أرضا عن بعد. فقلت: «الله يرحمك يا خريستوف كولومب ويحسن إليك. ولو أنك كنت السبب في المرار الذي شربناه من حفيدتكم المحترمة «غريبالدي» إذ لولا أنها طلعت في مخ حضرتكم فاكتشفتم أمريكا، ما فكرت في النزوح إليها!!
نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية. نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية.
https://www.hindawi.org/books/51630730/
مذكرات نجيب الريحاني
نجيب الريحاني
تبرز من بين صفحات هذا الكتاب، مذكرات رائد الكوميديا المصرية والعربية، الضاحك الباكي «نجيب الريحاني» ذلك الممثل العبقري، والموهوب الفذ، الذي استطاع أن يحوذ إعجاب الناس وحبهم، إن الريحاني لم يكن فقط مبدعًا في فنه بل كان مخلصًا له، وراهبًا في مسرحهِ، فكان خير له أن يقضي نحبه فوق المسرح، من أن يموت على فراشه كما يقول. عُرف نجيب الريحاني بأمانته وصدقه، فكان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يميل إلى المواربة والمداراة؛ لذا فقد آلى على نفسه في عرضه لهذه المذكرات أن يسجل ما بها من حقائق مهما كان فيها من ألم يناله قبل أن ينال غيره ممن جمعته به أية جامعة أو رابطة، ويصارح الريحاني القارئ في هذا الكتاب، فيقول له: «بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يُشعِر بالإقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة في هذه الآونة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هادئ البلبال.»
https://www.hindawi.org/books/51630730/8/
في أمريكا الجنوبية
عملت الباخرة بأصلها، وأوصلتنا إلى بلاد القارة الجديدة، بعد أن قطعنا الأمل من هذا الوصول، معتقدين أن الله سبحانه وتعالى قد اختارنا طعاما طيبا لأسماك المحيط الجائعة …! مررنا أولا بمضيق رائع المنظر عند بلدة «سانتوس»، فأنسانا جماله وفتنته ما لاقينا من عذاب غريبالدي «صبحا ومسا» على رأي ليلى بنت الصحراء …! وفي الميناء، عقب أن رست الباخرة، وأقصد القارب الذي حملنا، شاهدت «شحطا»، (والشحط على ما يتراءى لي من غير الرجوع إلى معاجم اللغة هو المارد الطويل العريض) واقفا تماما كما وقف ديلسبس على مدخل القنال، وقد ظننته لأول وهلة تمثالا رخاميا، إلا أنه راعني أن أجد سلاسل من ذهب تحلي صدره، وتتدلى إلى جيوب صديريته. وأخيرا عرفت أنه من إخواننا السوريين الذين يقابلون الرواد والسائحين، ليقودوهم إلى فندق المدينة. فتقدمت إليه وحييته، ثم أفهمته من أنا!! ولكنه هز كتفيه من غير مبالاة وقال: «شو بيكون كشكش هيك … مغنواتي؟». وأخذتها في عظمي، وقلت … بشرة خير، والله اطمأنينا على الشغل. نهايته. وذهبت ورفاقي (بديعة وابنتها جوجو والتوني وفريد صبري) إلى الفندق، وهناك استودعتهم الله، وقلت فلأذهب لارتياد المدينة، لعلي آتيكم منها بنبأ. أو لعلي أستطيع تهيئة فرصة لإحياء حفلة أو حفلتين، وصحبني محمود التوني ورحنا نجوب سانتوس شمالا وجنوبا وشرقا وغربا. سانتوس!! إنها قرية أو ضيعة، أو قل ما شئت. نظرت إلى التوني متسائلا! «أنحن في أمريكا؟ أمال المغربلين تبقى إيه يا وله؟ نهايته لقينا في تجوالنا في أحد الشوارع رجلا ذا مهابة، قدمه إلينا دليلنا، فعرفنا أنه يدير أكبر فندق في المدينة. وأنه هو الآخر سوري من علية القوم هناك. وحين قدمني إليه باسم «كشكش بك»، لاحت على الرجل دلائل الشك والريبة … ثم ما لبث أن أخذته نعرة الصراحة ففاجأني قائلا: «شو ها الحكي!! أنت ما لك كشكش. لأني أنا شفت كشكش السنة الماضية بمدينة حمص في الشام … وكان إله لحيه، وحضرتك هلا حليق» …! على أنني لم أحتج إلى وقت طويل لإقناعه بأنني كشكش صحيح، وبأن اللحية التي رآني بها جاهزة. سر الرجل بذلك ووعدني بالعون، وقال إنه سيهيئ للفرقة فرصة العمل في فندقه في نفس المساء، والغريب أن عادتهم جرت على تناول الغداء في الساعة الحادية عشرة صباحا، والعشاء في السادسة والنصف. وكان علينا بالطبع أن نجاري القوم فيما درجوا عليه. فبعد أن مضت ساعة أو ما يزيد دعينا إلى ردهة الفندق، فإذا بها ملأى بالسيدات والرجال من أرقى الطبقات، وإذا النبأ قد سرى بينهم متضمنا أن فرقة (غنائية) …! غنائية وحياتك!! قد وصلت من مصر، وأنها ستطرب الحضور بأصواتها الرخيمة!! الرخيمة! يا دي الليلة اللي زي بعضها يا أولاد … والرخيمة دي نجيبها منين؟ ثم إذا فرضنا أنني مطرب … وخستكت حبتين، فماذا أقول عن صوت التوني وزميله فريد صبري؟ هل امتدت إليهما الخستكة مني عن طريق العدوى مثلا؟!! وأخيرا طرأت فكرة!! فلتكن بديعة هي المطربة، ولنكن نحن جميعا مذهبجية التخت!! ولم نتوان لحظة في تنفيذ هذه الفكرة السديدة، فتوسطت بديعة أريكة الطرب وجلسنا حولها، نخزي العين، وفشر تخت الشيخ سيد الصفتي في زمانه!! وألقت بديعة قطعا وطنية حماسية من ألحان روايتنا، بينما كنا نحن نردد كالمذهبجية بحق وحقيق. وانتهت الحفلة بنجاح ما بعده نجاح. و«هاص بنا جمهورنا العزيز، فنلنا من إعجابهم وتقديرهم ما نؤكد أننا غير جديرين به إطلاقا!!». وأخيرا نصح لنا بعض الراسخين أن نولي وجوهنا شطر مدينة سان باولو (على بعد ساعتين في القطار من سانتوس)، وأفهمنا الناصحون أنها مدينة عامرة بمحبي الفن الذين يعشقون التمثيل، ويودون أن نتيح لهم فرصة مشاهدته. وكان ذلك في شهر نوفمبر من عام ١٩٢٤، فعقدنا العزم على الرحيل إلى سان باولو، وامتطينا القطار، وكم كانت دهشتنا بالغة حين أطللنا من النوافذ، وشاهدنا المناظر التي تجل عن وصفها الألسن، وتتضاءل إلى جانبها أشهر المناظر السويسرية وأبدعها. وفي هذه المدينة عرفنا حقا أننا اجتزنا البحر إلى أمريكا، فهي مدينة كبيرة عامرة وبها جالية سورية تتحكم في أغلب المرافق، بين تجارة وصناعة وأعمال مجدية مثمرة. نزلنا في فندق كبير يديره نزيل سوري، وكان خبر قدومنا قد سرى مسرى الكهرباء، فكان في استقبالنا جمهور يربو على الخمسمائة شخص، أكرموا وفادتنا وأنزلونا منهم على الرحب والسعة. ومنذ اليوم الأول أظهروا لنا رغبتهم في مشاهدة بعض رواياتنا: فأفهمتهم بأن رحلتنا لم تكن فنية، وأننا ما قصدنا بها إلا الاستجمام والراحة، ولذلك لم نصحب فرقة من الممثلين الذين يمكن أن نعمل معهم. فطمأنونا من هذه الناحية، وأبلغونا أن في المدينة جمعية من الهواة، ما لبث أعضاؤها أن وافونا حيث نزلنا، فإذا على رأسها الشاب جورج أستاتي. نجل المرحومة السيدة ألمظ أستاتي (وقد كانت من مشهورات ممثلات فرقة الأستاذ جورج أبيض قبل ذلك وهي شقيقة السيدة إبريز أستأتى قرينة الأستاذ أمين عطا الله). والظريف أن جورج أستاتي كان يمثل رواياتي هناك، ويطلق على نفسه اسم (كشكش البرازيلي)، كما كان زوج خالته (الأستاذ أمين عطا الله) يفعل في سوريا ولبنان!! ووجدت من أفراد هذه الجمعية البرازيلية شابا اسمه جبران طرابلسي، وقد قرأت في جريدة الأهرام أنه يعمل الآن على رأس فرقة في الأرجنتين متخذا لنفسه (شكشك بك). آل يعني تصرف في اسم كشكش، فقلب كيانه!! ألفت الفرقة إذن مستعينا بأولئك الهواة، وكنت — من قبيل الاحتياط — قد حملت معي طائفة من أهم رواياتي. ورأيت أن أبدأ بزيارة إدارات الصحف كلها قبل أن أبدأ عملي، وقد قابل أصحابها تأليف الفرقة مقابلة مستحبة! إلا أنني شعرت بأن هناك بونا كبيرا بين ما قوبلنا به من صحافة الجالية السورية، وما قابلتنا به الصحافة الوطنية (البرازيلية). ذلك لأنني أحسست في كتابات الأخيرة شيئا من روح التهكم وعدم المبالاة بما يمكن أن تفعله فرقة «شرقية». وقد علمت أخيرا أن سبب هذا الفتور إنما يرجع إلى الجفاء بين أهل البلاد الأصليين وبين ضيوفها النازحين، لتمكن الأخيرين من امتلاك أعنة البلاد الاقتصادية. وجدت نفسي في موقف هو الحرج بعينه، ولكنني مع ذلك أقدمت مستعينا بالله على تذليل ما يعتورني من صعاب. استأجرت المسرح أربع ليالي بإيجار يعادل خمسين جنيها عن الليلة الواحدة، وعدت إلى الفرقة أجاهد معها في إعداد روايات ريا وسكينة، والبرنسيس، وأيام العز، التي أطلقنا عليها اسم (حلاق بغداد)، وأجهدت نفسي في البروفات، خصوصا بعد أن تكهرب الجو، ورأيت أمامي أعينا مفتحة تريد أن تنتهز فرصة تنال فيها من الشرق والشرقيين. وأقول لك الحق إنني ذكرت ما كان يجب أن أذكره في هذه الآونة! وهو أنني كنت بعملي هذا سائرا في أحد طريقين، فإما للصدر وإما للقبر. ومضت أيام اقتربنا بعدها من الموعد المحدد للتمثيل، فتساءلت عن حركة بيع التذاكر، وهالني أن أعرف بأن المبلغ الذي جمع إذ ذاك وصل إلى ألفي جنيه!! راعني ما شهدت فعدت إلى نفسي أحاسبهم. ترى ماذا تكون الحال لو قدر الفشل لنا؟ ثم ماذا أكون أنا في نظر أولئك الناس الذين أحسنوا بنا الظن …؟ ونظرت من خلال ثقب في الستار قبيل التمثيل فما أروع ما شهدت! طوائف من أرقى الطبقات رجالا وسيدات تشع من نحورهن وأصابعهن أنوار الحلي البراقة والماسات ذات اللون الأصفر الفاقع الذي لم أر له مثيلا في غير البرازيل. وقد خيل إلي وأنا أنظر إلى السيدات إذ ذاك بأن هنالك قطعة متماسكة من الجواهر أو صفوفا متراصة من اللآلئ. ورفع الستار فمثلنا رواية (ريا وسكينة) وهي من فصل واحد انتهى دون أن أتبين له في نفوس الجمهور نتيجة … ثم جاء أوان البدء في رواية (البرنسيس). وهي تبدأ بظهور بديعة على المسرح أولا، وبعد فترة طويلة أظهر أنا … فعكفت في غرفتي أعالج تهيئة وجهي بالميكياج وأنا أرتجف لوعة، وتملكني خوف أحسست معه كأني مبتدئ لم يعهد أضواء المسرح، ولم يبد أمام الجمهور من قبل. ثم أرهفت أذني منصتا لأقوال بديعة، أستشف أثرها في أفئدة الناس. وقد سرني أن وجدتها تمثل في إقدام وشجاعة، وكأننا على مسرحنا المعتاد في مصر. وكان أن ظهرت أنا أيضا متشجعا حتى أتممنا الفصل الأول بين عاصفة من التصفيق والهتاف، وامتلأ المسرح بالصحفيين والمهنئين، وغرقنا في لجة من القوم الذين أحاطوا بنا إحاطة السوار بالمعصم. وقد كان فخر أفراد الجالية السورية بإخوانهم المصريين لا يقدر. وانتهت الليلة ونحن نحمد الله كل الحمد، على ما أنعم علينا من توفيق حمل البرازيليين أنفسهم على تقديرنا ورفع شأننا. ارتفع شأننا بعد النجاح الذي لقيناه في (سان باولو)، وقد ظهر ذلك بصورة واضحة في نادي (سبورتنج كلوب)، الذي أنشأته الجالية السورية في تلك المدينة. ذلك أن النادي دعانا إلى مشاهدة مباراة في كرة القدم، بين فريقه وفريق البرازيل … وكان المتفرجون يزيدون على العشرين ألف متفرج امتلأت بهم جوانب الملعب. فما كدت وبديعة نظهر أمام هذا الجمع الحافل، لنأخذ أماكننا، حتى سمعنا هتافهم صاعدا إلى أجواء الفضاء (فيفا ريحاني) وفيفا معناها يحيا … وأنت فاهم طبعا …! وقد قلت إن أسباب النزاع كانت متوافرة بين النزلاء السوريين وبين أهالي البلاد الأصليين، لتمكن الأولين من القبض على ناصية الحركة الاقتصادية والمالية دون الآخرين. ولذلك شاهدنا في ملعب الكرة قوة كبيرة من الجند كاملة السلاح، استعدادا لما عساه يحدث من احتكاك بين أفراد فريقي المتفرجين الذين عزل أحدهما عن الآخر، فجلس السوريون في ناحية والبرازيليون في الناحية الأخرى، ووضع بينهما فاصل من الجند المدجج بالسلاح حتى لا يغير أحدهما على الآخر، إذا ما توترت الأعصاب عقب هدف من الأهداف، أو إصابة لاعب من لاعب. على أن المعجزة التي تمت هي أنني كنت والحمد لله بمنجى من الأذى المتوقع، لأنني شملت برضاء الخصمين. وكنت بمثابة الضيف المرموق بعطف الفريقين. ومن أمثلة الرضا التي حبانا بها الوطنيون في البرازيل، أن صحافتهم بعد أن شاهدت رواياتنا، عادت فأثنت على التمثيل بمستطاب الثناء، بعد أن كانت مقابلتها لنا قبل ذلك فاترة غير مطمئنة. وفي فترة الاستراحة بين نصفي اللعب، أي (الهافتايم) بلغة الرياضيين، أو (الانتراكت) بلغتنا احنا يا ممثلين، عاد الهتاف يدوي (فيفا ريحاني)، وقد اشترك فيه الجميع حتى خلت نفسي رئيسا لجمهوريتهم، أو فاتحا لمالطة. أو على الأقل جبت الديب من ديله!! واستؤنف اللعب، فهطل المطر مدرارا كأفواه القرب. أقول لك الحق دي فلسفة مني. لأن المطر كان مدرارا صحيح … لكن مش كأفواه القرب. لكن نعمل إيه في فلاسفة اللغة، الذين يأتوننا بتشبيهات مش معقولة أولا ومستحيل تحصل ثانيا. القصد يا سيدي نزل المطر كأفواه القرب وأمرنا لله، ومع ذلك ظل اللاعبون في تنافسهم دون أن يتوقفوا، مع أن الكرة كانت تعوم في بحر خضم. وانتهى اللعب بفوز السوريين، ثم ابتدأت المعركة التي كان البوليس يخشاها. ومحسوبك وبديعة ومن معنا … «فككان». وبعد أن أحيينا ليالينا الأربعة في سان باولو، ألح الأهلون علينا في البقاء مدة أخرى. فحاولنا أن نجد ليالي خالية في أحد المسارح الهامة، واستطعنا بعد جهد أن «نربط» أربع حفلات أخرى، نالت من النجاح حظا لا يقل عن سابقتها. وهنا كان الطمع قد فعل مفعوله في أحد أفراد الفرقة وهو (فريد صبري)، وقد كنت أمنحه في رحلتنا هذه مرتبا شهريا قدره ثلاثون جنيها مصريا، في حين كان يتقاضى في مصر حسبة «خمسة ستة جنيه». رفع فريد راية العصيان، فجاء يملي شروطه قائلا إن مرتبه إذا لم يرفع إلى تسعين جنيها كما يرفع مرتب التوني إلى سبعين فإنهما سيضربان عن العمل!! طيب واشمعنى يعني الفرق ده بينك وبين التوني؟ ولم لا تتساويان في المرتب؟ القصد؟ لم أجد مشقة في استمالة التوني إلى صفي، إذ كان من قدماء ممثلي فرقتي، وكان لين العريكة سهل القيادة. أما زميله الثائر فقد فضلت أن أقطع الصلة به، وأن أعيده إلى مصر قبل أن ينفث أفكاره في بقية الصحب الذين جمعتهم من بين هواة (سان باولو)، وسلمت فريد صبري حسابه، وفوقه حق «الشبرقة» كمان، وقطعت له تذكرة السفر إلى مصر، وودعته، واحنا من هنا وأنت يا بن الناس من هنا. وقصدنا بعد ذلك إلى العاصمة (ريو دي جانيرو). وكانت الشهرة والصيت قد سبقانا إليها، ولذلك استقبلنا فيها استقبالا حافلا، ونجحنا في حفلاتنا الثمان التي أحييناها بتلك المدينة، وكان متوسط إيراد الحفلة الواحدة ٥٠٠ جنيه. وما كدنا ننتهي من هذه الحفلات حتى استدعينا ثانية إلى سان باولو، وهناك أقمنا حفلتين. بعد أن انتهت حفلاتنا الناجحة في سان باولو، بدت لنا فكرة الرحيل إلى الأرجنتين، أي الجمهورية الفضية، ولكن وجدت مشكلة عويصة، هي التشديد المتناهي في الكشف الطبي على العيون قبل اجتياز الحدود، ولن يدخل البلاد شخص يثبت الطبيب وجود التراخوما في عينيه! تتوسط جمهورية أرجواي جمهوريتي البرازيل والأرجنتين، وقد نصح لنا بعض الصحب ألا نقصد إلى هاتين الجمهوريتين رأسا، بل نمر بأرجواي أولا، وهناك نعمل على الاتصال بسوري كبير يشتغل في تجارة الحرير، وله في جمهوريات أمريكا الوسطى كلمة مسموعة ونفوذ طائل، وركبنا البحر إلى (مونتيفديو) في أرجواي، وفي المحطة التي رست فيها السفينة على الميناء كنت جالسا في صالون الدرجة الأولى بها، فسمعت أشخاصا يخترقون صفوف الركاب وينادون بأعلى أصواتهم: «سنيور ريحاني سنيور ريحاني». وما كدت أسمع النداء حتى اعتقدت أن هناك مكيدة دبرت لنا، وأنهم لا شك آخذونا من الدار إلى النار. وجاءت بديعة وقد كسا وجهها الاصفرار، وكاد يغمى عليها. وتقدمت من هذا المنادي متصنعا الشجاعة، (قال الشجاعة قال وأنا ركبي عاملة زي الشخشيخة!) وقلت: «هاأنذا». فابتسم الرجل وقدم نفسه إلي فإذا به صحفي عرف بمجيئنا فوصل ومعه المصورون لالتقاط صور لنا، وعمل أحاديث معنا! الله يغمك يا حضرة الزميل الفاضل (باعتباري الآن صحفيا ولو خارج الهيئة)، وأنت كركبت مصارين السنيور ريحاني! نهايته كان عدد أفراد الفرقة ثمانية أشخاص بما فيهم أنا وبديعة، ولما كان كلانا في الدرجة الأولى فإننا لم نشعر بصعوبة كبيرة في إجراء الكشف، وأما ركاب «السكندو» فقد كانت الدقة رائد الطبيب عند توقيع الكشف. وكان من سوء الحظ أن تكون عينا محمود التوني موئلا بل مخزنا لحبوب «التراخوما»، فمنع من النزول إلى البر بتاتا. وبعد جهاد ومشاوير من هنا لهنا، صرح له على شرط السفر فورا إلى الأرجنتين دون تمضية وقت طويل في أرجواي. لغاية هنا كويس، لكن إيه اللي رايح يوصله الأرجنتين يا نضري؟ ذهبنا لقطع تذاكر السفر بحرا إلى «بونس أيرس» فطلب منا مبلغ ثمانمائة جنيه كتأمين بمعدل مائة جنيه لكل شخص، حتى إذا ظهر أن شخصا واحدا مصابا بالتراخوما ضاع علينا المبلغ جميعه. يادي الحوسه! ما هو ظهر معنا شخص واحد عنده تراخوما توزع على أورطه بحالها! وعقدنا مؤتمرا منا ومن التاجر السوري الكريم، الله يمسيه بالخير، وفي هذا المؤتمر تفتقت الأفكار عن حيلة لطيفة هي أن تسافر بديعة بحرا مع الخمسة السليمين وبذلك نطمئن على استرداد التأمين، وهو في هذه الحالة ستمائة جنيه. أما أنا ومحمود فلنجتز الحدود سرا ولنغامر بالهرب على أن يعاوننا ذلك الشهم السوري وأعوانه. وأقلعت السفينة ببديعة وبقية الفرقة. أما أنا والتوني فقد صحبنا رجل من قبل تاجرنا الكبير يحمل معه خطابا إلى رجل آخر في مدينة أخرى. وامتطينا قطار السكة الحديد، ومكثنا فيه ثلاثة أيام بلياليها نجوب مجاهل أمريكا، مجاهلها والله العظيم. وبلد تشيلنا وبلد تحطنا، وفي كل منها يسلمنا شخص إلى آخر وهذا يسلمنا إلى غيره. وفي كل مرة يصحبنا خطاب من محطة التصدير، إلى محطة التوريد! وكأننا بضاعة مهربة: كوكايين، هيرويين، حشيش، إلى آخر اللستة إياها. وفي المرحلة الأخيرة، وبعد الليالي الثلاث، وصلنا محطة صغيرة على شاطئ نهر، وفيها نزلنا وأشار دليلنا بإصبعه إلى الشاطئ الآخر من النهر قائلا: «شايفين الكشك اللي هناك ده. أهو إذا نفدتم منه بقيتم في أرض الأرجنتين. ويبقى في إمكانكم تحطوا صوابعكم في عينين الجعيص، حتى لو ظهرت التراخوما في دمائكم مش بس في عنيكم!». كلام طيب … لكن ننفد من الكشك إزاي يا أخينا؟ اتكلوا على الله! واتكلنا على الله. أمال حانتكل على مين؟ واجتزنا النهر في رفقة الدليل العزيز بعد أن نصح لنا بالجلد وتصنع الشجاعة حتى لا يبدو علينا خوف مريب. فقلت للتوني. «تشجع» فأجاب: «ما تخافش أنا قلبي جامد» وأبصرت فإذا هذا القلب «الجامد» وقد وصل في سقوطه جنوبا إلى كعب صاحبه. ومال دليلنا على حارس الحدود فتسارَّا قليلا ثم أفهمه أنني وزميلي صديقان له وأننا حضرنا لمشاهدة حفلات الكرنفال المقامة إذ ذاك في بلاد الجمهورية الفضية. وتنفسنا الصعداء أنا والتوني، وتملكنا في هذا الحين مرح كمرح الأطفال، فعدونا بأخف ما حملتنا أقدامنا إلى القرية كي نأخذ القطار إلى بونس أيرس، وتقدمت متلهفا إلى عامل الشباك أطالبه بتذكرتين إلى المدينة التي نقصدها، فنظر إلينا وهز كتفيه بابتسامة لم نفهم لها معنى وأخيرا قال: «متأسف جدا. لقد تأخرتم لأن القطار مر صباح أمس!». صباح أمس! وما هو موعد القطار التالي إذن؟ … قال: «بعد أسبوع؟!». أسبوع!؟ وتقولون إنكم في بلاد متمدنة؟ أسبوع يا بني آدم في قارة اسمها أمريكا؟! دي أفريقيا على كده رايتها لبن يا أولاد العم سام! القصد. أصبحنا أمام الأمر الواقع. وما باليد حيلة. ولكن أين نقضي هذا الأسبوع. ونحن في قرية لا تزيد مساكنها عن مائة بيت؟ ولكن إذا نسيت كل شيء فلن أنسى اسم هذه القرية التي أرتني الويل وسواد الليل، اسمها يا عزيزي الفاضل، «سان جوزيه» وينطقون هذا الاسم في الأرجنتين «سان خوسيه». التفت إلي التوني وقلت له: «أين نمضي الأسبوع ده يا وله؟» ثم غادرنا المحطة، واجتزنا البلد كلها بيتا بيتا في حسبة خمس دقائق، وهنا أشير إلى ظاهرة غريبة، وهي أن السوريين في أمريكا الجنوبية كاليونانيين تماما في مصر. وأني لأذكر أن اللورد كرومر كتب في أحد تقاريره السنوية، حين كان عميدا لبريطانيا في مصر، جملة مأثورة ترجمتها «إنك لو رفعت حجرا في إحدى قرى الصعيد «الجواني» لابد واجد تحته بقالا يونانيا». ولو أن كرومر كان معنا لكتب جملته هذه عن إخواننا السوريين في البرازيل والأرجنتين. وفي أثناء اجتيازنا للشارع الوحيد في «سان خوسيه» هذه قابلنا رجل تفرس في وجوهنا. وكلمة من هنا وكلمة من هنا، حصل التعارف. إنه سوري يسكن في سان خوسيه، بشرة خير. قادنا إلى فندق البلدة، آل فندق آل، إنه بيت به حجرة أرضية هي اللوكاندة! وفي هذه اللوكاندة، أو الحجرة بمعنى أصح سرير واحد وكنبة! وبس والله العظيم، أما الأرضية فطبقات من التراب بعضها فوق بعض، وكذلك الحال في السرير حتى لقد ظننت أنهم في كل يوم «يتربونه» لا ينظفونه! كنت أحمل في هذه الأثناء مبلغا يربو على الألف وخمسمائة جنيه! جلست فوق السرير المترب العالي والتفت خلفي فإذا نافذة خشبية يستطيع الواقف في الخارج أن يمد يده منها ويخطف الفلوس. وإذا ساقه الشر، فيمكن أن «يخطف» روحي كمان من غير إحم ولا دستور، إذ لا يكلفه الأمر سوى تناول زمارة رقبتي وضغطها بإحدى يديه. ويا لوكاندة ما دخلك شر! لعب الفار في عبي، فجمعت مجلس شورى القوانين، المكون مني أنا رئيسا، ومن محمود التوني سكرتيرا وأمينا للصندوق وأعضاء كمان. وتباحثنا في الأمر واستقر رأينا على أن نقتسم النوم بيننا، فأنام ليلة يسهرها هو كنوبتجي يحمل النقود بين يديه بينما ينام هو في الليلة الثانية واحتل أنا مكانه … وهكذا دواليك! دواليك دي مش على مزاجي أبدا، لكن استحملها مني الله لا يسيئك! القصد أمضينا ليالي هذا الأسبوع الذي طال وكأنه عام، أمضيناه زي ما أمضيناه والسلام. وجاء القطار بعد ذلك يتمخطر، فركبنا إلى بونس أيرس حيث تنتظرنا بديعة مع بقية «الشلة». ويغادر هذا القطار محطة «سان خوسيه» في الساعة الثانية بعد الظهر ويصل إلى بونس أيرس في الثامنة من صباح اليوم التالي. جلسنا في أحد صالونات القطار. وحين أرخى الليل سدوله — شايف إزاي بنعرف نتفلسف ونقول سدوله — حين أرخى الليل سدوله جعلنا الصالون عربة نوم. لأن المقاعد تحول أسرة حسب النظام المتبع في هذه القطارات. وأستطيع أن أقول إننا هنئنا حقا بالنوم في القطار، بعد أن استرحنا من نظام النوبتجية الذي لازمنا ست ليال سويا. إلا أن شيئا غريبا وغريبا جدا لاحظته! حوالي الساعة الثالثة صباحا — في دغششة الفجر يعني — صحوت من النوم فلم أسمع صوت القاطرة. فظننت أن القطار وصل إلى إحدى المحطات، ونظرت من النافذة فإذا المياه تغمرنا من الناحيتين! … أيقظت التوني وسألته: «إحنا يا وله وقت ما نمنا كنا راكبين وابور بحر والا وابور بر؟» فدهش لهذا السؤال وأطل هو الآخر من النافذة قائلا: يا خبر أبيض نكونش غرقنا. والا متنا وجم الملايكة يحاسبونا؟! تملكتنا الحيرة حقا. ورحنا نسعى بالسؤال إلى أن عرفنا السبب فبطل العجب. هناك نهر كبير يجتازه القطار، لا بواسطة كبرى كما هو الحال عندنا وعند غيرنا من عباد الله في جميع بلاد الدنيا، بل بواسطة صنادل يضعون عربات القطار فوقها بالقطاعي، وتسير الصنادل فتنقل العربات من شاطئ إلى شاطئ، دون أن يشعر الركاب بهذه العملية على الإطلاق! والله عشنا وشفنا! خلصنا على كده ونقلت شحنة القطار إلى البر الثاني، وواصل سيره إلى بونس أيرس. وقبل أن نصل إليها بساعتين أو يزيد خرج بسلامته سي محمود التوني يتمشى في ردهة القطار، ويتعاجب اسم الله بشبابه وسحنته الرمادي إياها. أنا عيني بترف يا أخواتي … لازم الواد الملعون ده مش راجع إلا لما يجيب لي مصيبه وياه! في هذه الأيام كانت هناك خلافات ومشاحنات سياسية بين البرازيل والأرجنتين. وكانت هذه المشاحنات قد كهربت الجو بين أهالي البلدين، وكثرت العيون والأرصاد في قطارات السكة الحديدية، إذ جندت الأرجنتين كثيرين من المخبرين وخصصتهم للخدمة في القطارات. قابل التوني في طريقه أحد جرسونات القطار فجرى بينهما حديث. والتوني الله لا يكسبه يعرف له كلمتين ثلاثة إسبانيولي: سأله الجرسون: «حضرتك برازيلي؟» وأجاب التوني متعنطزا: «لا فشر أنا شمالي!» آل يعني أمريكاني أصلي من الولايات المتحدة. ولم يدر العبيط أنه زاد الطين بلة. عاد إلي حضرته شامخا يقص حديثه مع الجرسون، فقلت: «بس والله وديتنا في شربة ميه يا سي التوني. يعني مش كفايه ان التراخوما بتعتك تشحططنا الشحططة دي وتلففنا في المجاهل اللي ما قدرش خريستوف كولومب يوصل لها. وفي الآخر كمان تسلط علينا فلسفتك تخرب بيوتنا!؟». لم أكمل هذا الحديث حتى فتح باب الصالون «خواجة» طويل عريض وطلب منا أوراقنا! أوراقنا!! والله جالك الموت يا توني أنت ونجيب!! هو احنا يا حسرة معانا أوراق؟ … داحنا تفليتة، وهربونا أولاد الحلال. ونظر إلي التوني وأراد أن يمدني بشعاع من عبقريته. فوضع يده في جيبه وقال لي بالعربية: «طلع الباسبورت وحطه في عينه كمان». وسارعت لاعنا أبا خاشه قائلا له: إوعى تعملها يا ابن الفرطوس، أحسن نروح في داهية. هي الباسبورتات بتوعنا عليها تأشيرة بدخول الأرجنتين يا مفش، واقتنع التوني بقولي فأخرج يده من جيبه من غير باسبورت ولا دياولو وتشجعت ثم قلت لهذا الخواجة: «ليست معنا أوراق باسبورت لأننا لسنا آتين من الخارج، بل كنا نزور صديقا لنا في «سان خوسيه» ونحن عائدون الآن إلى بونس أيرس، وإذا شئت برهانا على قولي فانتظر حتى نصل إلى العاصمة، وهناك ترى زوجتي وابنتي ينتظراني على الرصيف. وظللت أتلطف مع صاحبنا هذا وأداري سوأة التوني إلى أن وصلنا بالسلامة، دون أن يفارقنا مخبر الهنا. وكانت دهشتنا عظيمة حين رأيت بديعة وجوجو والبقية المحترمة، وقد أحضروا معهم جوقة موسيقية، تقول لجوقة حسب الله قومي وأنا أقعد أزمر مطرحك وهات يا طبل وهات يا عزف. وكان استقبالا فخما لم يستطع معه مخبر الأنس أن يقول لي تلت التلاتة كام. وكانت بديعة قد أعدت معدات العمل، واستأجرت المسرح الذي نعمل به، فلما حان موعد التمثيل، لم يتملكنا شيء من الاضطراب الذي شعرنا به في أول مرة بسان باولو، بل ظهرنا بقلب جامد، ونجحنا نجاحا «جامدا» كذلك. وطنطنت الصحف هناك بالفرقة وأفرادها ومقدرتهم التمثيلية، وخلعت علي لقب «برافتشيني دلاكايرو» أي برافتشيني بتاع القاهرة. وبرافتشيني هذا، هو ممثل من أساطين الفن في تلك البلاد. كانت محبة إخواننا السوريين لي وللفرقة طوال المدة التي تنقلنا فيها بأمريكا الجنوبية مما يجل عن الوصف. أحيينا أربع ليال في بونس أيرس كان النجاح فيها حديث الجميع، ثم زرنا مدن روساريو وقرطبة وتوكومان. وهناك كنت أنشر الخريطة بين يدي، وأضع إصبعي عند المكان الذي نحن فيه ثم أنقله إلى موقع مصرنا المحبوبة، فأقول … إحنا فين وأنت فين يا حبيبتي يا مصر؟ وهل يكتب الله لنا أن نعود إليك في سلام وخير؟ بعد اجتياز هذه المجاهل التي ليس لها أول يعرف ولا آخر يوصف؟! وبعد ذلك عدنا إلى بونس أيرس مرة أخرى، ومثلنا بعض الروايات. والغريب أن الجمهور كان لا يكاد يسمع صوتي من بين الكواليس قبل الظهور على المسرح، حتى يصرخ مصفقا، وكأننا نمثل بين جمهورنا المحبوب في مصرنا العزيزة. بعد أن أنهينا عملنا في بلاد الجمهورية الفضية (الأرجنتين)، عولنا على العودة من نفس الطريق، ولنأخذ الخط إيابا كما قطعناه ذهابا، فنزلنا أولا في أرجواي، وهناك أحيينا حفلتين في (مونتفيديو)، ثم قصدنا إلى البرازيل، فلما حططنا الرحال في عاصمتها (ريودي جانيرو)، وجدنا ترحيبا لا داعي لوصفه، ووجدنا كذلك رغبة من الجمهور في معاودة التمثيل، فوافقت هذه الرغبة هوى في نفوسنا، ولم نتردد في القبول، وفي مدينة ريودي جانيرو تياترو اسمه المسرح الإمبراطوري، لم أجد له مثيلا في أية ناحية من نواحي العالم، لا سيما في اتساعه وكثرة مقاصيره ومقاعده، ذلك الاتساع الذي تأكدنا لأول وهلة أن الجماهير مهما احتشدت فلن يمتلئ بها أبدا. استأجرنا هذا التياترو، وقلنا إننا نحسد إذا استطعنا أن نجد متفرجين يملئون ربع مقاعده. فلما جاء يوم الشباك، وذهبت في الساعة الثامنة صباحا لأسلم التذاكر لعامل الشباك، راعني أن أجد زحاما لم يسبق لي عهد به، لا في تلك المدينة حين نزلناها أول مرة، ولا في غيرها من المدن التي ارتدناها. وقبل الغروب قصدت إلى التياترو فآلمني أن أجد ساحته أفرغ من فؤاد أم موسى. يا لله أين ذهب القوم الذين احتشدوا صباحا؟ وهل كانت مجرد مظاهرة قاموا بها ثم «افرنقعوا بعد أن تكأكئوا على المسرح كتكأكئهم على ذي جنة»!! شايفين الجملة يا خلق؟ أهو كل يوم من ده. أما أشوف بقى أنا والا المجمع بتاعكم!! القصد نرجع إلى لغتنا العربية المفهومة، فأقول إنني أخذت بحالة الهدوء السائد حول المسرح، وقلت والله باين ختامه قرف وليس مسكا! فلما وصلت إلى شباك التذاكر للاطمئنان على الحالة، لم أجد العامل في مكانه، بل وفوق ذلك وجدت الشباك مقفلا!! يا دي الوقعة اللي زي بعضها يا عالم!! إيه الحكاية؟ وما التدبير وما العمل؟ على رأي المرحوم الشيخ سلامة حجازي!؟ أخيرا عثرت بعامل الشباك في مقهى مجاور للتياترو!! أنت فين يا بني؟ وهل ده وقت قعدة القهوة؟ وكيف تقفل الشباك في مثل هذا الوقت، ثم تأتي للسرمحة والقنزحة والمش عارف إيه؟؟ وبكل ثبات أجابني العامل: «لقد أقفلت الشباك بعد أن انتهت مأموريتي، لأن جميع التذاكر قد نفدت!!». نفدت … نفدت؟ وأظن يا إخواني لو جمعنا سكان البرازيل، واستلفنا عليهم كبشتين تلاته من سكان الأرجنتين وأرجواي، يمكن ما يملوش التياترو!! القصد. جاء أوان التمثيل فنظرت من خلال فجوة صغيرة في الستار، فرأيت الجماهير كالنمل الزاحف، والمقاعد ليس بينها واحد خلا من صاحبه. ونجحنا بحمد الله، ثم اتخذنا طريقنا إلى سان باولو، حيث حالفنا النجاح كذلك، وواصلنا طريق العودة إلى أوربا، بعد أن مكثنا عاما بأكمله في ربوع أمريكا الجنوبية والسفر منها وإليها. وعرجنا على باريس، وأخذت معي كذلك محمود التوني، على سبيل أن نتفرج ع الدنيا!! إلا أن الدنيا التي قصدناها كانت أبعد شيء عنا، إذ أمضينا في باريس خمسة عشر يوما، لم نزر خلالها متحفا ولا رأينا مسرحا، بل كان همنا كله البقاء في جاليري لافاييت. فقد كنا نقصد إلى هذا المحل يوميا من التاسعة صباحا إلى الثامنة مساء، لنشتري كل ما طاب لنا من ملابس، وما راق لنا من أدوات وكماليات. وكم مرة اتفقنا على قضاء السهرة في دار السينما أو في مسرح معين، حتى إذا حان الحين كان التعب قد تملكنا، ولا نجد إلا أن نتخذ سبيلنا إلى الفندق لننام، كي نستأنف في اليوم التالي زيارتنا المعتادة لجاليري لافاييت. عدنا من أمريكا بمبلغ يزيد على ألف جنيه. وقد تسألني كيف يقف الإيراد عند هذا الحد الضئيل، إذا ما قيس بالنجاح المتواصل الذي نجحناه، فأجيبك بأن العام الذي قضيناه في أمريكا لم تتح لنا الظروف أن نعمل فيه أكثر من نيف وثلاثين ليلة، وما ذلك إلا لمصادفة عدم خلو المسارح أثناء وجودنا في بعض المدن التي حللنا بها. ولولا ذلك لبلغت مكاسبنا أضعاف أضعاف ما عدنا به. قلت إننا تركنا أمريكا وفي حوزتنا ألف وبعض ألف من الجنيهات. وقد كانت الأيام الخمسة عشرة التي قضيناها في باريس، بل قل في جاليري لافاييت، كفيلة بالتهام هذا المبلغ إلى آخره. بحيث لم يبق معنا أجر العودة إلى مصر، مما اضطرنا إلى أن نرسل إليها في طلب ذلك الأجر تلغرافيا. وقد كان فوصلنا بطريق البرق مبلغ مائة جنيه. نقول إن جاليري لافاييت التهم كل ما كان معنا، فقد انفتحت أنفسنا لشراء كل ما وقعت عليه أنظارنا سواء من الملابس أو الموبيليا، حتى لكأننا كنا نلم في آخر زادنا. فلما وصلنا ثغر الإسكندرية وجدنا الأستاذ أمين صدقي ويظهر أنه كان على نار في انتظارنا … إذ عرفنا منه أن خلافا دب بينه وبين شريكه الأستاذ علي الكسار، وأنهما فضا الشركة التي كانت قائمة بينهما، ولذلك فإنه يرى أن أتفق وإياه في عمل متحد. ولم أمانع في تلبية هذه الرغبة، فألفنا فرقة للعمل في دار التمثيل العربي. وكان لواء البطولة النسائية فيها معقودا على هامة بديعة مصابني والمطربة فتحية أحمد، أخرجنا رواية «قنصل الوز» وعقبها رواية «مراتي في الجهادية»، وهنا دب شقاق بيني وبين بديعة، وإنني وإن كنت لا أجد معنى للتوسيع في تبيان ما وراء هذا الشقاق، إلا أن ذلك لا يحول دون ذكر منشئه … ولو من باب تسجيل الواقع إن لم يكن من باب التفكه، فقد كان سبب غضب بديعة مضحكا حقا!! في أثناء رحلتنا الأمريكية، كنت أنتهز فرصة الخلو من العمل في ساعة الظهيرة مثلا، أو بعد التمثيل مساء، فألعب «برتيتة» بلياردو. إلا أن ذلك لم يكن يرضي بديعة، فكانت تغضب وتكثر من الشكوى وترميني بالإهمال الشنيع. ولا تنسى وهي تشكو للأصدقاء وغير الأصدقاء أن تقول لهم كبرهان على إهمالي … جملتها المأثورة: «دا مهمل خالص يا اخواني …! دا بيلعب بلياردو يا عالم» … تقولشي يعني البلياردو ده منكر!! أو حرمه ربنا … وغضبت عليه الملايكة؟ وأنا خلقت عنيدا وإن كنت في دخيلة نفسي أكره هذا الخلق … ولكن ما حيلتي وقد تكونت هذه الخليقة معي؟ نهايته امتلأ رأس بديعة بفكرة واحدة … وهي أنني مدمن إهمال!! طبعا إذا كنت بالعب بلياردو … لأ ومش بس كده، وباشرب سجاير كمان. ما علينا. بعد أن أخرجنا روايتي «قنصل الوز» و«مراتي في الجهادية» تركت الفرقة تعمل لحساب أمين صدقي في دار التمثيل العربي بعد أن أمضيت في العمل فيها شهرين. في هذه الأثناء كان زميلي الأستاذ بديع خيري يؤلف لفرقة الأستاذ علي الكسار، فعدنا إلى الاتفاق من جديد، ثم جاءني الحاج مصطفى حفني وألح في أن أستأجر مسرحه (برنتانيا). ولما كنت أعتقد أن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، فقد تشددت في أن ينص في عقد الاتفاق على غرامة مائتي جنيه، يدفعها الطرف الذي يقف دون تنفيذ أي شرط من شروط التعاقد. ومع ذلك فإنه لم تمض على إمضاء هذا العقد عدة أيام حتى جاءني الحاج مصطفى يتدثر بثوب من الخجل، يحمل في إحدى يديه العربون الذي تقاضاه مني وفي اليد الأخرى الغرامة المتفق عليها وهو يرجو ويسرف في الرجاء. الله إيه الحكاية يا حاج مصطفى؟ الحكاية أن الست منيرة عاوزه التياترو وجابت لي ناس جامدين فاضطررت أن أكتب معها كنتراتو!! شيء جميل قوي يا سي الحاج!!! أخيرا أشفقت عليه، ولم أر أن أعامله بأفعاله، فأحللته من العقد، وتناولت العربون والغرامة التي اعتبرتها حصة من بضاعتنا ردت إلينا. ولعل القارئ العزيز لم ينس بعد حكاية الملابس والمناظر التي استولى عليها الحاج مصطفى، بحجة سداد ديون ما أنزل الله بها من سلطان. وفي هذا الحين وقع ما كان يخشى من سوء التفاهم الذي استحكمت حلقاته بين بديعة وبيني فافترقنا. وبحثت عن مسرح آخر غير مسرح برنتانيا. فلما أعياني ذلك فكرت في إنشاء مسرح خاص. كانت تقع في ملتقى شارعي عماد الدين وقنطرة الدكة قهوة اسمها «راديوم». وكان إلى جانبها صالة تحمل الاسم نفسه، وكانت ملاصقة لتياترو «رمسيس»، فاستوليت على هذه الصالة وأنشأت في مكانها «مسرح الريحاني». وبينما أنا أفكر في تأليف فرقتي، هبط علي الزميل القديم علي يوسف، وأفهمني أن ممثلي فرقة الأستاذ يوسف وهبي متذمرون، وأنهم جميعا راغبون عن العمل معه، ولذا اعتزموا الاستقلال دونه بفرقة شرعوا في تأليفها بعيدا عنه. ثم اقترح أن أضم شملهم لأظهر في الدرام بدل الكوميدي. وأخيرا — وبعد تردد وتفكير — اقتنعت باقتراح السيد علي يوسف وشرعت في التنفيذ، ولاسيما أنني بعد الخلاف مع بديعة هبط اعتمادي على نفسي، وشعرت أنني في حاجة إلى عون قوي أستند إليه في ملاقاة الجمهور. وكانت بديعة في هذا الحين قد استأجرت صالتها المعروفة في عماد الدين. ألفت فرقتي الجديدة من السيدات: روز اليوسف، وعزيزة أمير، وزينب صدقي، وسرينا إبراهيم، وماري منصور، وغيرهن، والأساتذة: حسين رياض، ومنسي فهمي، وحسن فايق، وأحمد علام، ومصطفى سامي، وجبران نعوم، ومحمود التوني، وغيرهم. وقبل أن أدخل في شرح ما انتابني في هذا المشروع من نكبات ومصائب أقول إنني بدأت في بناء التياترو في أغسطس من عام ١٩٢٦، وفي الوقت نفسه ألفت الفرقة ولم نبدأ التمثيل إلا في شهر نوفمبر، أي بعد ثلاثة أشهر، كنت أدفع فيها أجور الممثلين، وغير ذلك من مصاريف البناء والتأثيث، وأثمان المناظر والستائر والملابس وما إلى ذلك مما أوقعني في ضائقة مالية. وأوجدت إلى جانب الفرقة قلما خاصا لانتقاء طائفة من أهم الروايات العالمية، ونقلها إلى اللغة العربية. وقد أدى قلم الترجمة هذا واجبه، وترجم حوالي الاثنتي عشرة قصة من روائع الأدب الفرنسي والإنجليزي والألماني والروسي. كما أن الأستاذ جورج مطران شقيق شاعر الأقطار العربية خليل مطران، قدم إلي ترجمة للرواية الخالدة (النسر الصغير)، تحملت في مدى الأشهر الثلاثة التي أجرينا فيها البروفات الكثير من دلع السادة الممثلين والممثلات، وأرهقتني طلباتهم التي لا مبرر لها، ورأيت من فعالهم وتعنتهم ومرمطتهم لي الشيء الكثير. ومع ذلك سايرتهم، ولم أتردد في إرضائهم، ورجلي على رقبتي!! ولم أكن أدري ما بيتوا لي من غدر وسوء. إذ أنه حين اقترب يوم البدء في العمل، وبعد أن أعددنا ست روايات للظهور، تسلل الممثلون واحد إثر الآخر من الفرقة، وعادوا إلى فرقة رمسيس دون إنذار سابق، ودون أن يتركوا لي مهلة البحث عن غيرهم. في حين أنني كنت قد أسندت إليهم أهم الأدوار في الروايات الست التي أعدت للعرض على الجمهور وبذلك راحت البروفات «هدر» ويا خسارة يا مال الناس!! جاهدت بكل ما لدي من قوة، وما وصل إلى يدي من مال. فبدأنا عملنا في نوفمبر برواية «المتمردة»، وأعقبناها برواية «مونا فانا»، ثم مثلنا روايتي «اللصوص» و«الجنة». وهنا خارت عزيمتي وانهدت قوتي، ولم أعد أحتمل آثار الأسلحة الدنيئة التي حوربت بها. وكنت أظن أن سوء الحظ وحده هو الذي ساقني إلى ما وصلت إليه من هبوط.
نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية. نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية.
https://www.hindawi.org/books/51630730/
مذكرات نجيب الريحاني
نجيب الريحاني
تبرز من بين صفحات هذا الكتاب، مذكرات رائد الكوميديا المصرية والعربية، الضاحك الباكي «نجيب الريحاني» ذلك الممثل العبقري، والموهوب الفذ، الذي استطاع أن يحوذ إعجاب الناس وحبهم، إن الريحاني لم يكن فقط مبدعًا في فنه بل كان مخلصًا له، وراهبًا في مسرحهِ، فكان خير له أن يقضي نحبه فوق المسرح، من أن يموت على فراشه كما يقول. عُرف نجيب الريحاني بأمانته وصدقه، فكان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يميل إلى المواربة والمداراة؛ لذا فقد آلى على نفسه في عرضه لهذه المذكرات أن يسجل ما بها من حقائق مهما كان فيها من ألم يناله قبل أن ينال غيره ممن جمعته به أية جامعة أو رابطة، ويصارح الريحاني القارئ في هذا الكتاب، فيقول له: «بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يُشعِر بالإقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة في هذه الآونة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هادئ البلبال.»
https://www.hindawi.org/books/51630730/9/
عودة إلى: كشكش بك
بلغ ما اقترضته عندما تحولت للدراما أربعة آلاف ومائة جنيه، وكان عدد الدائنين ثمانية وعشرين، فتصور مقدار ما كانت تسببه لي من ارتباكات متوالية، ثم تصور حالتي النفسية إزاء ذلك، ثم أعرني انتباهك لأقص عليك أن نكبتي لم تقف عند هذا الحد، إذ أصبحت هدفا لسخرية القوم، وشماتة الغير، وتهكم صاحبة الجلالة الصحافة، التي سلطت علي رعاياها المحترمين، فسلقوني بقارص الكلم وبألسنة حداد. وهل يوجد أطول من ألسنة رعايا صاحبة الجلالة؟ ولا مؤاخذة أيها الزملاء الأعزاء! فواجبنا نستحمل بعضنا … وإذا كنت قد انقرصت من حضرتكم شهورا وأياما، فاغفروا لي فرصة واحدة متواضعة أرد بها التحية ع الماشي! كل هذه الحملات التي انصبت على رأسي متتابعة، كانت لأنني تجاسرت على «قدس» الدرام من غير إحم ولا دستور. ولكي أعطيك عينة بسيطة أروي القصة الطريفة التالية: تقدمت إلي إحدى ممثلات الفرقة، وطلبت أن تشتري لحسابها حفلات أسبوع كامل. فقبلت عن طيب خاطر. وبعد إحياء تلك الحفلات جاءتني ساخطة لأنها خسرت ٣٥ جنيها! طيب يا ستي قسمتك كده، نعمل إيه في النحس المجوز على حضرتك وعلي أنا كمان؟ قالت: «لا يا سيدي، فيه طريقة» … طيب اتفضلي بالأمر وأنا طوع الإرادة. نهايته، اتفقنا على أن تستأجر أسبوعا ثانيا بمبلغ مائة جنيه كي تسترد خسارتها، ثم أعطتني خمسة وستين جنيها وحصلت مني على إيصال بتسلم مائة! وما قبلت توقيع مثل هذا الإيصال، إلا تحت ضغط أقساط الممثلين المطلوبة ومصاريف التياترو وغير ذلك من الرزايا. وبعد مرور أيام من أسبوع الممثلة، كانت الروح قد بلغت الحلقوم. فلم أستطع الاستمرار في العمل، واضطررت لحل الفرقة بعد أن تقدمت للست صاحبة الأسبوع بما دفعت، وهو الخمسة والستون جنيها. ولكن بسلامتها أبت استلام المبلغ بحجة أنها دفعت لي مائة جنيه لا ٦٥، وحتى إذا ما كنتش مصدق، الوصل آهه! آه … والله طبيت يا أنس! لم يكن لدي المبلغ بأكمله بالطبع، وما شعرت في اليوم التالي إلا ببلاغ مقدم من حضرة الممثلة المصونة والجوهرة المكنونة، تتهمني فيه بالنصب والاحتيال والاستيلاء منها على ١٠٠ جنيه «جنيه ينطح جنيه». وقد تطوعت جريدة «المقطم» الله يمسيها بالخير ولا يوريناش فيها مكروه … تطوعت برواية الخبر على هذا النحو الطريف الخفيف الذي صورتني فيه تصويرا يبعد عن الواقع بعد الخيال عن الحقيقة. استطاعت الست الممثلة أن تحصل على وساطات كادت توديني في شربة ميه! ولولا دقة النائب العمومي في ذلك الحين وهو المرحوم طاهر نور، لتحلت يداي بالأساور الحديدية المعدة للسادة اللصوص وقطاع الطرق. نعم لقد كتب السيد أحمد شرف الدين خطابا إلى المرحوم طاهر نور شرح فيه الحقيقة، فقرر الإفراج عني، وكنت قد جمعت من هنا ومن هناك الخمسة والثلاثين جنيها التي كمل بها مبلغ المائة جنيه وسلمته إلى الست الشاكية. وبذلك تقرر حفظ بلاغها. وبعد، أليست هذه طريفة من الطرائف؟؟ أليست عينة من عينات الاعتراف بالجميل عند كثيرين من عابري سبيل هذه الحياة الدنيا؟ ولماذا أضع أمام عينيك سيدي القارئ عينات أو ما يشبه العينات؟ إنه يكفي أن أقول لك إنني منذ اليوم الأول من شهر يناير، إلى اليوم الآخر من ديسمبر سنة ١٩٢٧، لم أكن أصل إلى شباك التذاكر، حتى يطالعني العامل بورقة حمراء لدفع كمبيالة للبنك، أو إعلان لحضور جلسة، أو بروتستو أو إعلان حجز أو بيع … يعني أن سنة ١٩٢٧ التي مرت على الناس بسيطة كانت على دماغ العبد الله كبيسة بشكل … الله لا يوري عدو ولا حبيب! وفي شهر فبراير من العام المذكور اجتمع حضرات الدائنين الأماجد، وأنشئوا ما يشبه نظام صندوق الدين، وانتخبوا من بينهم السيدة «ك» لتكون بمثابة متصرفة، أو قيمة، أو وصية على العبد لله، فكانت تعطيني في مساء كل يوم سبعين قرشا فقط لمصروفي، ثم تجمع بقية الإيراد لنضعه في الصندوق لحساب الدائنين وكل سنة وأنتم طيبين؟ وسدت السبل في وجهي من كل ناحية، فلا أنا واجد إنصافا من الناس، ولا عرفانا بالجميل ممن كانوا حولي. وفيما أنا على تلك الحالة زارني أحد دائني وتحدث إلي، لا في طلب ماله، بل في نصيحة رأيت أن أعمل بها. ذلك أنه قال لي: «قوم حط دقنك وألبس جبتك وقفطانك يا سي كشكش، وأنت تلقى الفلوس هلت عليك تاني يا أخينا!». ودارت في مخي هذه النصيحة، واحتلت جوانب رأسي وإن كنت واثقا أن مصدرها لم يكن حب الخير للخير، بل لحصول الدائن على دينه! وفيها إيه يعني؟ ما تجرب حظك تاني يا وله! وفكرت في زميلي القديم بديع خيري. فرأيت أننا إذا افترقنا حل البؤس والشقاء بكلينا، وإذا اجتمعنا كان الخير في ركابنا وضحكت الدنيا لنا. فلماذا لا نضم الشمل ونشترك في زغزغة الدنيا مع بعض … يمكن ربك يفرجها؟ ووضعت يدي في يد الصديق العزيز بديع ثانية، واستأنفنا العمل معا بعد أن درسنا نفسيات الجمهور وعرفنا النواحي التي تنال إعجابه وتبلغ موضع الرضاء منه. أعددنا رواية استعراضية خفيفة اسمها (جنان في جنان) عهدت في وضع رسوم مناظرها إلى الرسام الشهير (لومباردي) ثم ألفت الفرقة الجديدة وكان من أعضائها كمال المصري (شرفنطح) والقصري وحسين إبراهيم والتوني وجبران نعوم والفريد حداد وسيد سليمان. واخترت لإدارة المسرح الإداري الحازم الأستاذ محمد شكري، ولم يكن في هذا الحين قد حصل على لقبه الحالي (بابا) فلما ناله بجدارة عرف كيف يكون حازما حقا وكيف يحمل الكل على احترامه بحيث لم يكن أحد يجسر على الضحك «على بابا»! أما الممثلات فقد تخيرتهن جميعا من الأجنبيات. وأخرجنا بعد «جنان في جنان»، روايتي «مملكة الحب» و«الحظوظ» وفي أثناء عملنا في رواية (الحظوظ)، تقدمت لي فتاة يونانية خفيفة الروح، كانت تتكلم العربية بطلاقة وبلهجة رائعة، فضممتها إلى الفرقة، وأسندت إليها دورا في الرواية أدته كما يجب، ثم تدرجت في طريق النجاح، إلى أن اشتهر اسمها بعد ذلك، وعملت في فرق أخرى غير فرقتي، وهي الفتاة كيكي. كانت الفرقة مشاركة بيني وبين مدام مارسيل لانجلو كما ذكرت قبلا وكان وكيل مارسيل المفوض هو المسيو أصلان عفيف. وكان المرحوم الشيخ عبد الرحيم بدوي (صاحب مطبعة الرغائب) دائم الاتصال بنا، وكثيرا ما كان يأتي إلى المسرح، فيداعبنا بلغته «الصعيدية» القحة ونداعبه نحن بالمثل. وفي إحدى الليالي عرض علي أن يستأجر الفرقة لمدة شهر، تقضيه في رحلة تنتقل في أثنائها بالمدن والبنادر في بعض مديريات القطر، فأحلته على الخواجة أصلان عفيف لوضع شروط الاتفاق وإمضائها. فقصد إليه وانتهى الأمر بينهما على إجابة تلك الرغبة. وجاءني أصلان وحده ومعه (الكونتراتو) وهو يبتسم ابتسامة المنتصر الظافر، واطلعت عليه فإذا به يقضي بأن يكون إيجار الليلة الواحدة خمسة وثلاثين جنيهات خلاف أجر الفنادق ومصاريف السفر بالقطارات والسيارات والعربات وشحن الملابس والمناظر، فإن الشيخ عبد الرحيم بدوي هو الذي يتحملها. الله يسامحك يا أصلان يا عفيف! خربت بيت الراجل الطيب في شربة ميه!! قمنا بالرحلة وانتهى بنا المطاف في الإسكندرية بعد قضاء الشهر في المدن والأرياف، وجاءني المرحوم الشيخ عبد الرحيم «يوحوح»، بعد أن خسر الجلد والسقط والكوارع كمان، وهو يقول: «كده يا ريحاني تخربوا بيتي الخراب المستعجل ده (بتعطيش الجيم)» … قلت وأنا مالي بس يا عم الشيخ عبد الرحيم، مين اللي قالك تتفق الاتفاق المقطرن ده، عليك وع الخواجة أصلان يمكن يرق قلبه لحالك! لكن هو مين؟ دا أصلان يا عم والأجر على الله. وفي الإسكندرية تركت الشيخ عبد الرحيم كما تركت الفرقة لأصلان ولمدام مارسيل يعرفوا شغلهم بها. وانتقيت أربعة خمسة ممن أثق بهم من الممثلين، واتفقت مع إدارة كازينو سان استفانو برمل الإسكندرية، على أن نعرض روايات قصيرة في كل مساء على المصيفين والرواد. القصد حاجة ناكل منها عيش والسلام. كان الإيراد بسيطا على كل حال، ولكني استطعت في هذه الآونة أن أتعرف على كثيرين من الكبراء أمثال المغفور له حسين رشدي (باشا)، وحلمي عيسى (باشا)، وغيرهما من أكابر نزلاء الكازينو ومن الوزراء العاملين والسابقين. وهؤلاء راقهم ما كانوا يشاهدونه من تمثيل الفرقة أو «الفُرَيْقة»، فطلبوا من مدير الفندق أن أكثر من عرض هذا النوع، وكان المدير مسرورا جدا حين نقل لي هذه الرغبات، التي فتحت نفسي ونشطتني في عملي. وقد أردت يوما أن أختبر مكانتي عند هذا المدير، فأطلعته على رغبتي في العودة إلى القاهرة، ولكنه أصر على البقاء، وألح في الرجاء، فقبلت بعد تردد! وأقصد بعد تصنع التردد لأننا يا حسرة كنا نيجي مصر نعمل إيه؟ والدنيا صيف والبلد مشطبة والتياترات قاعدة تنش … أقول بعد محادثتي مع المدير، عرض علي أن أنزل بالفندق (يعني بسان استفانو) ولم ينتظر مني مدير فندق سان استفانو جوابا، بل تناول التليفون وطلب وندسور، ورجا أن ترسل في الحال حقيبتي، وعزالي، ومعها فاتورة الحساب! وفي اليوم نفسه كنت أحتل غرفتي الجديدة في سان استفانو العظيم، كما يفعل العظماء والوارثون … وما فيش في جيبي ولا مليم. ازدادت حركة العمل في الكازينو، وازداد إقبال المتفرجين من الطبقات العليا من رجال وسيدات. وبعد أن قضيت أياما في كازينو سان استفانو على خير، وعدت إلى القاهرة، علمت أن خلافا حادا وقع بين السيدة فاطمة رشدي وفرقة الأستاذ يوسف وهبي، على أثر مشادة بين الأولى وبين السيدة زينب صدقي التي عملت أظفارها في عنق فاطمة ووجنتيها. وكان ما كان من زوبعة الأستاذ عزيز عيد ضد الفرقة، وخروجه منها متضامنا مع فاطمة، لأن الشرف الرفيع لا يسلم من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم. والدم الذي أراد إراقته عزيز هو «خرشمة» فرقة يوسف وبهدلتها، ويمكن فركشتها كمان: ولكن ما السبيل إلى ذلك؟ هو تأليف فرقة على رأسها فاطمة تقول لفرقة رمسيس: اقفلي والبركة في أنا! ووقع اختيار فاطمة وعزيز على مسرح الريحاني كي يؤديا فيه رسالة الفن ويسويا الهوايل. ولست أريد الإطالة في ذلك ولا شرح الهوايل التي «سويت» وإنما أكتفي بأن أقول إننا اتفقنا على أجر قدره أربعة جنيهات مصرية كأجر يومي للتياترو، وقد مكثت هذه الفرقة تعمل على مسرحي أكثر من شهر ونصف شهر. وإذا كان القارئ الكريم قد تناول منها أجر يوم واحد، أكون أنا تناولت كذلك. لكن ماعلهش … كله عند الله! ومن قدم خير بيداه التقاه! وفي نوفمبر من عام ١٩٢٧ ألفت فرقتي ثانيا، وبدأت موسما جديدا على مسرحي بعد أن وضعت بمعاونة الزميل العزيز بديع خيري رواية الافتتاح باسم «علشان بوسه»، وأعقبتها رواية «جنان في جنان»، ثم «آه م النسوان» و«ابقى اغمزني». وقد كنا نحاول في خلال ذلك أن نتخلص شيئا فشيئا من نوع الريفيو «الاستعراض»، ونتعمق قليلا قليلا في الكوميدي الأخلاقي. وكان يبهجني جدا أن تنجح محاولاتنا، وأن نسترد جمهورنا العزيز، الذي أقبل على نوعنا إقبالا شجعنا على السير فيما اعتزمنا من خطة. وفي صيف ١٩٢٨ كان الوجيه صادق أبو هيف يدير في الإسكندرية كازينو زيزينيا، فاتفق معي على أن تمثل فرقتي بالكازينو بضعة أسابيع فانتقلنا إلى الثغر على الأثر وبدأنا العمل. وهنا أقف لحظة لأشير إلى حادث له أهميته. ذلك أن بديعة كما سبق أن قدمت كانت تعمل بصالتها في عماد الدين. وبديعة ماهرة في كل أساليب الدعاية، ويظهر أنها شعرت في ذلك الحين أنها في حاجة إلى أن تثير حولها ضجة، وأن يدوي اسمها في كل مكان. وفي ذلك من الدعاية «المجانية» لصالتها ولعملها ما فيه. في أحد الأيام دعتني عائلة من كرام السوريين في الإسكندرية إلى وليمة عشاء، فلبيت الدعوة شاكرا، وأدهشني أن أرى بين المدعوين السيدة بديعة مصابني (وقد كان الخلاف بيننا إذ ذاك بالغا أشده)، كما كان بين المدعوين أيضا الأستاذ جورج أبيض والسيدة دولت. وجرى حديث على المائدة بين الجميع بضرورة عودة المياه إلى مجاريها بين بديعة وبيني، وأن كلا من الطرفين في حاجة إلى زميله، وأن الحياة لا معنى لها إذا اعتورها مثل هذا التباعد البغيض، وأن … وأن إلى آخر (الأنات) التي قيلت في تلك الليلة والتي أنتجت ثمرتها بالصلح الذي كان يبغيه أهل الخير ووسطاؤه. وعادت بديعة إلى الفرقة من جديد فأعددنا رواية تكون هي بطلتها، واهتممنا بوضع ألحان الرواية، فأخذنا للتلحين موسيقيا بارعا، هو الأستاذ زكريا أحمد، الذي أبدع كل الإبداع ووفق تمام التوفيق. أما الرواية فكان اسمها «ياسمينة»، وقد نجحت بالفعل بديعة كما كان مأمولا. وأخرجنا عقب «ياسمينة» رواية أخرى اسمها «أنا وأنت»، وبعدها رواية ثالثة اسمها «علشان سواد عينها». ورأيت أن أخرج بعد ذلك رواية استعراضية فأعددنا «مصر في سنة ١٩٢٩» … وكما تقضي سنة الأشياء وطبيعتها، دب الخلاف بين بديعة وبيني مرة أخرى، وتجددت أسباب النزاع. وأصبح الصفاء القديم خبرا يروى. فعاد الوسطاء ومحبو الوفاق يجهدون أنفسهم في إزالة ما اجتاح النفوس من موجات الاستياء، ولكن كانت محاولاتهم فاشلة، فذهبت مجهوداتهم أدراج الرياح. ورأى كلانا (بديعة وأنا) أن حالة كهذه مستعص علاجها على «نطس» المصلحين، فاتفقنا فيما بيننا على وضع حد لكل شيء، وذلك بفصم عرى الحالة المعيشية، أما ما بقي من معاني الوفاق والمجاملات، فهذا ما يظل بيننا على حاله. ولقد كان اتفاقنا هذا على يد محام، وبذلك انتهى كل شيء، ولم يعد هناك سبيل للشقاق أو الوفاق. وعودة بسيطة إلى الوراء كي أبين ما كنت فيه من حالة لا تسر. ذلك أني كنت في أثناء هذا الموسم وقبله غارقا «لشوشتي» في ديون شرحت فيما مضى أصولها وفروعها، وقلت إن الدائنين قد اختاروا السيدة (ك) بصفة (سنديك) ووصية علي في وقت واحد، فكانت تتناول عن الدائنين أقساط الدين وتعطيني مصروفا يوميا، ولقد زاد على ذلك مرتب بديعة مصابني وقدره خمسة جنيهات في اليوم. أنهينا الموسم على خير، وكانت نتيجته أن سددت الديون بمهارة الست (السنديك)، وإن كنت أنا قد خرجت من الموسم بلا حمص — كما هي العادة — وأنا أحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه. شعرت أن صحتي في حاجة إلى العناية، وأنه لابد لي من الالتجاء إلى الهدوء بعض الوقت. ولكن أين لي ذلك والجيب مافيهش ولا مليم على رأي الصنايعية المساكين! تقدمت إلى مقام الست المبجلة الوصية المحترمة، طالبا من الله، ولا يكتر على الله، ثلاثين جنيها بس علشان أشم هوا في لبنان، وإلا في إسكندرية. وتفضلت، الله يسترها ولا يوريهاش مكروه في عزيز لديها، تفضلت وسمحت بإقراضي هذا المبلغ، بعد أن ألقت علي محاضرة لا بأس بها في مبادئ الاقتصاد وعلوم التدبير المنزلي واللوكاندجي! وكان ظريفا منها أن تختم هذه المحاضرة النفيسة، بنصيحة نفيسة برضه، هي أن آخد بالي من صحتي أحسن مش كويس. ولعل هذه هي النتيجة الوحيدة التي عملت بها من بين الثلاثين أربعين نصيحة التي ألقتها علي المدام (السنديك). وقد نصح لي البعض بإدخال عنصر الطرب في الفرقة. وعملت بالنصيحة، عندما تقدمت لي فتاة من الإسكندرية اسمها (هدى)، واهتممت بأمر إظهارها، واتفقت مع الموسيقي الكبير الأستاذ محمد القصبجي على أن يضع لها ألحانا توافق صوتها، وتعدها للظهور أمام الجمهور بالمظهر الذي كنا نوده ونعمل له. ووضعت بالاشتراك مع الزميل العزيز بديع خيري أيضا رواية «نجمة الصبح»، وقد أسندت دور البطولة النسائية فيها إلى مطربتنا الجديدة (هدى). وقد نجحت (أقصد الرواية) نجاحا كبيرا يكفي لوصفه أن أقول بأنه ما يزال إلى اليوم حليفا لها في كل مرة تعرض فيها، لا من فرقتي وحدها، بل ومن الفرق المتجولة التي تستحل — كده بالعافية — أن تُغير على روايات الغير في وضح النهار، واللي ما يعجبوش فأمامه البحر يملا منه معدته كما يشاء، مادام مفيش في البلد قانون يحمي المؤلفين من نشالي الروايات وخاطفيها … عيني عينك! وبعد أن أخذت هذه الرواية قسطها وأكملت عدتها، وعرضت على الجمهور وقتا طويلا، جاء أوان التفكير في غيرها، فاتجهت نيتي إلى اقتحام ميدان الاقتباس، وكنت قد قرأت رواية فرنسية أعجبتني. وما إن أطلعت زميلي بديع على نيتي حتى ساهم وإياي في خطتي، وبدأنا في الحال، فلما انتهينا اخترنا للرواية اسم «اتبحبح»، ولما كانت روايتنا هذه هي أول محاولة لنا في الاقتباس، فقد وضعت يدي على قلبي وخشيت أن يكون نصيبها من الجمهور فشلا يعود بنا سنوات إلى الوراء. كانت الرواية من النوع الكوميدي الأخلاقي، وكان خوفي عليها ناشئا من كثرة حوادثها وضرورة متابعة المتفرج لهذه الحوادث بانتباه تام، ومزيد من العناية والاهتمام، بحيث إذا فاته شيء ولو قليل، ضاع منه كل شيء، وهوت الرواية من أساسها، دون أن يكون لموضوعها دخل في هذا السقوط. وبعد حمد الله والثناء عليه أقول إن الجمهور قابل روايتنا الجديدة مقابلة لم أكن أنتظرها، وقد شجعني إقباله هذا على أن أقدم له أنواعا جديدة، بمعنى أن أعرج بين وقت وآخر على الفودفيل، ثم أستأنف الكوميدي الذي كان رائدنا على كل حال. وتنفيذا لهذه الخطة أخرجنا رواية «ليلة نغنغة» فنجحت هي الأخرى. بعد ذلك قامت في مخنا — بديع وأنا — أن نطلع على الجمهور برواية استعراضية ولم يطل بنا التفكير حتى وضعنا رواية «مصر باريس نيويورك»، وقد جاءت والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه أسخف ما جادت به القرائح البشرية لدرجة كنت أشعر معها وأنا على المسرح بأنني أجبر الجمهور على الاستماع بطريق الغصب تماما، كما يفعل الطبيب حين يناول مريضه شربة الملح الإنجليزي! ومرت أيام هذه البتاعة وبلاش الرواية ويسرني أن أقول بأن الجمهور ونحن معه قد نسينا ومحونا من أذهاننا ذكراها. نحن الآن في عام ١٩٣٠ ولا مانع من أن أقف لحظة لأقدم للقراء شخصية جديدة. عرفت أثناء رحلتي في فلسطين وسوريا شابا من طرابلس الشام اسمه (ناجي صبيح)، كان إذ ذاك مندوبا لجريدة لسان العرب، فلما عادت الفرقة إلى مصر، وراحت أيام وجاءت أيام، وأصبحنا في عام ١٩٣٠ كما قدمت، وإذا بي أرى هذا السيد ناجي صبيح وقد ترك الصحافة وجاء يخطب ود الفن. وضممته إلى الفرقة، لا ممثلا لا سمح الله ولا موسيقيا أو مؤلفا، بل وكيلا للإدارة. وسواء أظهر في عمله كفاءة أم لم يظهر، فقد كانت فيه ناحية تعجبني والسلام. ذلك أنه كان كثير التحدث ببطولته، وبما كان يرويه من حوادث البطولة والشهامة التي وقعت له أثناء وجوده جنديا في الجيش! كان ناجي يعقب على كل نادرة أو قصة أو حكاية بجملة مأثورة، هي أنه أخرج الطبنجة من جيبه. واخبط راح خاطف روحه. فمثلا يقص علينا أنه طلب فنجان قهوة من الجرسون، فتأخر هذا قليلا في تنفيذ المطلوب «فلم يكن مني إلا أن أخرجت الطبنجة. واخبط. رحت خاطف روحه!». وفي أحد الأيام جلس ناجي يلعب النرد (نرد إيه يا خويا والطاولة جرى لها إيه؟ سيبك يا شيخ). جلس يلعب الطاولة مع الممثل كمال المصري المعروف باسم شرفنطح. وهو معروف إلى جانب ذلك بأنه يخاف من خياله. وكثيرا ما كان ينصت إلى الجملة إياها، أو اللازمة التي لا تفارق ناجي، فيرتجف هولا، ويخشى أن يعملها ناجي بعقله، ويخبطه طبنجة من طبنجاته يخطف فيها روحه، علشان خاطر دوش أو شيش جهار أو دوسه يختلفان عليها والا حاجة! نهايته لعب الاثنان، وكان أن وقعت الواقعة، واحتدم الجدال بين اللاعبين، فلم يكن من شرفنطح إلا أن تشجع «وبرق» عينيه الواسعتين، ولعب حاجبيه وسأل ناجي قائلا: «الطبنجة معاك دلوقت والا مش معاك؟» … وأجابه هذا بأنها معه، وفي الحال أقفل شرفنطح الطاولة بشدة وقال له: «طيب اخلص أعمل معروف واخطف روحي بسرعة»، وانتقى بعد ذلك من الجمل المستوية ما ختمها بقوله: «يا خويا أنت من يوم ما وصلت مصر، وانت شطبت على أرواح عباد الله … شفهي كده، اتفضل دلوقتي اخطف لك روح واحدة تحريري ولو بصفة بروفه!».
نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية. نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية.
https://www.hindawi.org/books/51630730/
مذكرات نجيب الريحاني
نجيب الريحاني
تبرز من بين صفحات هذا الكتاب، مذكرات رائد الكوميديا المصرية والعربية، الضاحك الباكي «نجيب الريحاني» ذلك الممثل العبقري، والموهوب الفذ، الذي استطاع أن يحوذ إعجاب الناس وحبهم، إن الريحاني لم يكن فقط مبدعًا في فنه بل كان مخلصًا له، وراهبًا في مسرحهِ، فكان خير له أن يقضي نحبه فوق المسرح، من أن يموت على فراشه كما يقول. عُرف نجيب الريحاني بأمانته وصدقه، فكان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يميل إلى المواربة والمداراة؛ لذا فقد آلى على نفسه في عرضه لهذه المذكرات أن يسجل ما بها من حقائق مهما كان فيها من ألم يناله قبل أن ينال غيره ممن جمعته به أية جامعة أو رابطة، ويصارح الريحاني القارئ في هذا الكتاب، فيقول له: «بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يُشعِر بالإقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة في هذه الآونة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هادئ البلبال.»
https://www.hindawi.org/books/51630730/10/
إلى الأقطار الشقيقة
وبعد أن مكث السيد ناجي صبيح يعمل معنا حينا، تناول أجرة العودة إلى القطر الشقيق وما كاد يستقر هناك، حتى وصلتني منه رسالة يستحثني فيها على السفر فورا مع أفراد الفرقة، للقيام برحلة في سوريا ولبنان. ولم ينس السيد ناجي أن يفهمني بأن في انتظارنا هناك سمنا وعسلا، وأن الفرصة سانحة ستفلت من أيدينا إذا لم ننتهزها عاجلا. وإنما الذي نسي الإشارة إليه هو أنه سوف يخبطنا طبنجة يخطف بها روحنا إذا امتنعنا عن السفر! وصادف أن حضر إلى مصر في ذلك الحين الوجيه (خضر النحاس)، وهو من أنشط رجال الأعمال في الأقطار الشقيقة، وقد وافق على أن يتعهد بنشاطه المعروف رحلتي، وتلطف فدفع مبلغ مائتي جنيه كعربون أو كدفعة أولى تحت الحساب. وقمنا إلى فلسطين أولا فنجحنا فيها والحمد لله، ثم واصلنا السير إلى لبنان وسوريا، ولكن للأسف لم نر ما كنا نأمل فيه من نجاح مادي، إذ اقتصر الأمر على النجاح الأدبي، وهو وحده «ما يأكلش عيش!» والغريب أننا كنا نرى التياترو مليئا بالجماهير، فإذا عدنا للإيراد تبين أنه لا يزيد عن العشرين جنيها أو ما حواليها صعودا وهبوطا. وحتى لا أطيل في شئون هذه الرحلة أكتفي بالقول إنني عدت منها مدينا للسيد خضر النحاس بالعربون الذي دفعه، وهو الـ ٢٠٠ جنيه، ولعله يستحق مني أن أسجل له في هذا المقام فضلا لست أنساه، ذلك أن هذا الدين ظل في عنقي أمدا طويلا، بحيث لم يسدد إلا بعد مدة طويلة. وهذا ما يحملني على أن أجدد للسيد خضر شكري، لأنه يا سادة يا قراء عمل بأصله صحيح. وعدنا من رحلة الأقطار الشقيقة للاستعداد لموسم سنة ١٩٣١. وبينما أنا في التفكير زارني استيفان روستي ومعه المصور السينمائي المعروف (كياريني)، وعرضا علي الاشتراك معهما في إخراج فيلم (صامت) إلا أنني اعتذرت لهما بأن أعمالي المسرحية من الكثرة بحيث تحول بيني وبين ما يرميان إليه، ولكنهما لم يقنعا بهذه الإجابة. وكلما أبديت لهما الأعذار، زادا في الإصرار. وأخيرا قبلت، واتفقنا على إخراج فيلم أطلقنا عليه اسم «صاحب السعادة كشكش بك». وقد كان غريبا أن نبدأ العمل فيه دون أن نضع له فكرة معينة، أو نكتب له سيناريو محدد المناظر والوقائع. وكل ما هنالك أننا كنا نخرج في السادسة صباحا دون أن ندري ما سنفعل، حتى إذا جلست لتركيب لحية كشكش، بدأت أفكر في المناظر التي نصورها وفي الحوادث التي نمثلها. فإذا انتهيت من تركيب اللحية أكون قد انتهيت من تفكيري فنبدأ في التنفيذ، يعني في التصوير. وتكلف فيلم «صاحب السعادة كشكش بك» أولا عن آخر مبلغا وقدره أربعمائة جنيه مصري فقط لا غير. يعني أننا أخرجناه بتراب الفلوس، ومع ذلك فقد نجح وجلب فلوس، وأقبل الجمهور على مشاهدته إقبالا لم يكن يتوقعه أكثر الناس تفاؤلا. وافتتحنا موسم سنة ١٩٣١ التمثيلي برواية «أموت في كده». وفي هذا الحين بدأت الحكومة (تحت ضغط الرأي العام) تهتم بالمسرح، فتألفت في وزارة المعارف لجنة من أفاضل العلماء والأدباء، وكانت مهمتها الإشراف على ما تخرجه المسارح من الروايات، وتخصيص إعانات تتناسب مع مجهود كل فرقة، وأثرها في تقدم هذا الفن في البلاد. ندع هذا جانبا لنذكر حادثة طريفة وقعت حين إعداد رواية «أموت في كده». كان المرحوم إسماعيل (بك) شرين مديرا لإدارة المطبوعات، وكان يرأس لجنة ينحصر اختصاصها في مشاهدة تمثيل الروايات قبل عرضها في المسارح، وكان رحمه الله من أشد المعجبين بفرقتي ومجهودات العبد لله المتواضعة في خدمة فن التمثيل. ولما كنت لا أجد غضاضة في التصريح بنقائصي وعيوبي، فإنني أعترف بأن الفصل الثالث من كل رواية جديدة تظهر على مسرحي لا يتم تأليفه إلا في يوم ظهور الرواية. واديني عقلك بقى … متى نستطيع إجراء البروفة له مثنى وثلاث ورباع ومش عارف كام؟! فلما انتهينا من بروفات الفصلين الأول والثاني على ما يرام بدأنا (بديع وأنا)، نضع فكرة الفصل الأخير، ونرتب حوادثه، وكنا قد حددنا يوم ظهور الرواية، حتى إذا جاء الموعد لم يكن الممثلون قد رأوا أدوارهم في هذا الفصل، بل لم أكن قرأته لهم. وفي الساعة الثانية بعده ظهر ذلك اليوم شرفت لجنة إدارة مطبوعات المسرح وعلى رأسها المرحوم شرين (بك). ومثلنا أمامها الفصل الأول على ما يرام، وتبعه الفصل الثاني على ما يرامين: كل ذلك واللجنة مغتبطة مستريحة. وأسدل الستار وجاء أوان عرض الفصل الثالث، وهو على ما وصفت، فما العمل؟ يقولون في الأمثال إن الحاجة تفتق الحيلة، فلتسعفنا الحيلة إذن! توكلنا على الله ورفعنا الستار بين استحسان السادة الأماجد أعضاء اللجنة، وابتساماتهم العريضة وأذهانهم المهيأة لسماع بقية ما رأوا من فكاهات الفصلين السابقين. وكان حسين إبراهيم يمثل دور امرأة من النوع «القباقيبي المصفح»، فلما رفع الستار ظهر حسين على المسرح يتمخطر في الملاية والبرقع، وما كاد ينطق جملة واحدة حتى سقط مغشيًّا عليه، وتقدمنا جميعا لإسعافه، وشاركنا في هذا الإسعاف أعضاء اللجنة، جزاهم الله عن المروءة كل خير! ولم يكتفوا بهذه المعاونة الشخصية، بل خرج واحد منهم يعدو في الخارج باحثا عن طبيب. ورأى المرحوم شرين (بك) ألا يرهقنا بتمثيل الفصل الثالث أمام اللجنة، مكتفيا بالفصلين الأول والثاني، وتفضل رحمه الله بالتصريح بالرواية كلها! ولم أنس أن أشدد عليه في التريث لحظة حتى يفيق حسين إبراهيم، فنستأنف التمثيل! ولكنه شكر لي ذلك، ونصحني أن نذهب لنستريح بضع ساعات إلى موعد التمثيل مساء! وخرج رحمه الله مع أعضاء اللجنة، وتركونا — لا للنوم والراحة — لاستئناف الشقاء وإجراء بروفة الفصل الطازة، وليس القارئ بالطبع في حاجة إلى إفهامه أن حسين إبراهيم أفاق في اللحظة نفسها التي غادرت اللجنة فيها المسرح! قلنا إن وزارة المعارف فكرت في تشجيع التمثيل إذ ذاك بمنح إعانات للفرق، ولذلك كانت اللجنة التي يرأسها الأستاذ العشماوي، بين أعضائها الأساتذة الأدباء مصطفى عبد الرازق، وطه حسين، تزور المسارح مرة في الأسبوع لتشاهد رواياتها وتحكم على قيمتها الفنية. وكان مسرحي من بين المسارح التي تتشرف بزيارة هذه اللجنة، وكم سمعت من حضرات أعضائها، وخاصة الدكتور طه حسين كلمات الثناء والإعجاب، وكيف أننا نستحق أكثر العطف والتقدير. وزاد الدكتور على ذلك قوله أنه يلمس الصدق في رواياتنا، ومماشاة الطبيعة دون خروج على أوضاعها، أو مغالاة في تصويرها، ذلك بينما يسمع عند غيرنا ألفاظا جوفاء كالطبل صوتها عال، جوفها خال. وكان أن نلت من المبلغ المخصص في ميزانية المعارف لتشجيع التمثيل في ذلك العام، ثلاثمائة وخمسين جنيها، وكان عدد الفرق التي منحت مكافآت أربع، كانت فرقتي الثالثة من بينها، حسب الترتيب الذي وضع للمكافآت! وما له معلهش، برضه رضا، لأن هذه كانت المرة الأولى التي أحسسنا فيها تقديرا من الحكومة. على أن أهم ما سررت له هو أن ممثلي فرقتي فازوا جميعا برضاء اللجنة، ونالوا كلهم مكافآت مالية، بنسبة لم ينلها زملاؤهم في الفرق الأخرى. وتناولت الثلاثمائة وخمسين جنيها، وكنت قبل ذلك قد أعددت كشفا بأصحاب الديون المستحقة علي، وقيمة هذه الديون ومواعيد الاقتراض، وشروط السلفيات، وكيفية التسديد، وما إلى ذلك من أمور أخرى. ورحت أسدد بعض هذه الديون بقدر الإمكان، بعد أن راجعت النظريات الاقتصادية القديمة، التي كنت أسمع بها أيام اشتغالي في البنك الزراعي ولا أعمل بها! وبقى لي من المكافأة — بعد تسديد المستحقات — مبلغ ضئيل استعنت به على افتتاح موسم صيفي في كازينو الفانتازيو بالجيزة، أشكر الله كثيرا على نجاحه كما كنت أقدر وأتوقع. وانتهى موسم الصيف وكان في نيتي أن أعود إلى مسرحي في عماد الدين، لولا ما حدث من سوء التفاهم بيني وبين صاحب الملك، فقد كنت أستأجر منه ذلك المسرح الضيق الصغير بمبلغ ألف جنيه في العام، مع أنني كنت أعمل به ستة أشهر سنويا. ألغي التعاقد إذن بيني وبين صاحب الملك (المسيو عاداه)، ونظرت حولي باحثا منقبا عن مكان أعمل به، إلى أن عولت على استئجار مسرح الكورسال من الخواجة دلباني، وكان إذ ذاك في موضع عمارة عدس، التي تقع الآن عند ملتقى شارعي الألفي وعماد الدين. تعاقدت مع المسيو دلباني، وبقيت مهمة انتقاء رواية الافتتاح. فاجتمعت لجنة التأليف المكونة من شخصين لا ثالث لهما، وهما محسوبكم كاتب هذه السطور، أو الأحرف زي ما يعجبك، والثاني زميله وصديقه وعزيزه الأستاذ بديع خيري. اجتمعت اللجنة وتناقش «الأعضاء» في الموضع الذي يقع عليه الاختيار، وهل يحسن أن يكون من نوع الكوميدي أو الريفيو أو الفودفيل … أو … أو … إلخ وطرح أحد الأعضاء — وهو العبد لله — فكرة نالت موافقة «الأعضاء بالإجماع»، والإجماع هو بديع وحده طبعا، لأنني لم أقترع ولم أصوت، بصفتي صاحب الاقتراح. كان قد ظهر في فرنسا أديب شاب اسمه (مارسيل بانيول) وضع رواية أطلق عليها اسم بطلها (توباز)، واختار له أن يكون مدرسا بسيطا في إحدى المدارس … التي مش ولا بد. قرأت هذه الرواية وقرأت ما استقبلت به من النقاد، وعرفت أنها ترجمت إلى جميع اللغات الحية، ونجحت في البلاد الأجنبية نجاحا لم تصادفه رواية قبلها! ولذلك اقترحت أن نقتبسها ونخرجها على مسرحنا، ونلت موافقة «الأعضاء» بالإجماع كما تقدم. وإني لأذكر أننا قضينا في مهمتنا هذه (بديع وأنا) أسعد ليالي التأليف التي مرت بنا، وكنا كلما انتهينا في الليل من إعداد جزء منها، قرأناه للممثلين في الصباح فأبدوا كبير إعجابهم ومزيد استحسانهم. أتممت وزميلي بديع اقتباس رواية (توباز) وأطلقنا عليها اسم «الجنيه المصري». ومع أنني أثناء قراءتها لممثلي الفرقة كنت أشعر بدلائل الإعجاب ترتسم على وجوههم، إلا أنني كنت إذا خلوت ببديع، أصارحه بخوفي على الرواية، وإشفاقي من أنها لا تنال شيئا من إقبال الجماهير، أو من الإعجاب بها، لأسباب شتى تتراءى لي! ولعله من المناسب في هذا المقام، أن أذكر بأن إدارة المطبوعات كانت تضم في ذلك الحين بين موظفيها طائفة وقاك الله شرها. كانت هذه الطائفة تتمتع بعقليات ممتازة! وقاك الله شرها برضه، وإليك عينة من المضايقات التي كان يسببها لنا أولئك السادة المراقبون. كان المنظر الأول من الرواية عبارة عن فصل في إحدى المدارس الأولية أو الابتدائية، فلما أرسلنا الرواية إلى إدارة المطبوعات لمراجعتها قبل تمثيلها، أشار أحد حضرات المراقبين بأن فيها نقدا جارحا لمدرسة أميرية! ومن أين جاءك يا سيدي أن مدرستنا أميرية؟ وهل ورد على لسان أي واحد من الممثلين أية كلمة يشتم منها تعيين أو تحديد أو حتى تمييز نوع هذه المدرسة!؟ أبدا والله العظيم! هذه المدرسة أهلية وليست أميرية! … وبذلك استراح المراقب، ولم أخسر أنا شيئا لأن هذه الملحوظة لم تنقص من الرواية شيئا، ولم تؤثر في شيء، لأنها مجرد تسجيل في خانة الملحوظات، ولن يتفوه بها أي ممثل فوق خشبة المسرح! ولكن انظر ماذا تكون حالتي إذا نوقشت في مثل هذه الملحوظات كل يوم عدة مرات لا مرة واحدة. قلت إنني اقتبست مع زميلي بديع خيري رواية «توباز» وأطلقنا عليها اسم «الجنيه المصري» وافتتحنا موسمنا بالكورسال، وقدمنا لجمهورنا هذه الرواية المقتبسة. ولا تنس أنني وضعت قبل رفع الستار يدي على قلبي أتحسس خفقاته بعد أن سلمت أمري لله من قبل ومن بعد. كان إيراد الليلة الأولى ثلاثين جنيها، ثم تقهقر في الليلة الثانية إلى ستة جنيهات، وبعدها أربعة ثم ثلاثة! شايف التعاديل! ثلاثة جنيهات! وأين؟ في تياترو الكورسال الذي كان أكبر وأرحب تياترو في مصر، يعني أن الزبائن الذين جادوا علينا بالجنيهات الثلاثة، ما كانوش باينين فيه! فكان ذلك صدمة لنا وضربة قاصمة لظهورنا من ناحية. وأريد أن أقرر في هذه المناسبة أنني تلقيت بعض كتب التقدير والتهنئة من أقلية صغيرة من حضرات الأدباء والمثقفين، الذين راقت الرواية في نظرهم، أو الذين اطلعوا من قبل على أصلها الفرنسي. ولكن أين لمثل هذه الأقلية أن تظهر أمام تيار الأغلبية الجارف. الذي ثار في وجه الرواية ووقف منها موقفا … ربنا ما يوري عدو ولا حبيب! ولما لم تفلح الرواية في القاهرة، أردت أن أرى أثرها في غيرها. فقصدت إلى المنصورة، ولكن شعبها — الله يصبحه بالخير — لم ير فيها غير ما رآه القاهريون، بل قل إنهم كانوا شرا عليها من زملائهم هنا. فقد قابلوها مقابلة كلها هزؤ وزراية واستخفاف! وإني لا أزال أحتفظ إلى اليوم بخطاب وصلني من طالب بالمنصورة، يخلع علي فيه من النعوت أشنعها ومن الشتائم أقذعها، وهو فضلا عن ذلك يحذرني العودة إلى المنصورة بعد هذه «العملة» السودة! والعملة هي بالطبع تمثيل رواية «الجنيه المصري»! وانسدت في وجهي السبل، وانهار الأمل بعد أول محاولة قصدت إليها، فجلست قبالة بديع وتركنا لأفكارنا العنان، عسى الله أن يفتح علينا بالفرج بعد الضيق. الرواية قطعة فنية رائعة، لا في ترتيب حوادثها فقط، بل وفي المنطق السليم الذي عولجت به الوقائع وانتهت إليه النتائج! فما الذي حاق بالرواية يا ترى؟ وما الذي أنزلها إلى هذا الدرك في نظر جمهورنا، الذي شهدنا له بالتفوق في الإدراك والسمو في الفهم؟ لم أدر علة ذلك، وإن كنت أستدرك فأذكر أننا أعدنا في الموسم الأخير (أي في هذا العام) تمثيلها على مسرح رتيز، كتجربة نرى من خلالها هل لا تزال حافظة مكانتها المقندلة في نفوس الجمهور؟ أم أن الأفكار تغيرت نحوها؟ وقد راعنا أنها نجحت نجاحا لم نكن نتصوره، بل لم نكن نقدره. ما علينا. نعود إلى أيام زمان فأقول إننا حين يئسنا من «الجنيه المصري»، هدانا التفكير إلى طريق فيه شيء من اللعب على الجمهور، بل قل من الانتقام منه. ذلك أننا جمعنا بعض الراقصات وأعددنا جملة مشاهد فكاهية، حشرنا بينها عدة نكات وهزليات، وأطلقنا على هذا العبث اسم رواية «المحفظة يا مدام»، فجاءت بعون واحد أحد، أسخف ما وضعنا في عالم التمثيل من مهازل، وأحط «ما جادت» به قرائحنا (بديع وأنا) مدة اشتغالنا بالمسرح! «المحفظة يا مدام» رواية — كما سميناها — لا في العير ولا في النفير، فلن تجد لها معنى ولا مغزى ولا … ولا … على آخره … أو إلخ … زي الناس ما بيكتبوها! كان هذا حال الرواية في نظرنا، أما في نظر الجمهور، فقد كان شباك التياترو خير شاهد على التقدير والاستحسان. ويكفي أن أذكر أن الإيراد ضرب لفوق، وبدأنا لأول مرة في الكورسال نشاهد الأرقام القياسية التي حرمتنا رواية «الجنيه المصري» منها، بل وأنستنا إياها! وكم كنت أسمع أناسا يقولون أثناء انصرافهم عقب مشاهدة البتاعة اللي اسمها «المحفظة يا مدام»: «أيوه … آدي الرواية والا بلاش … مش الجنيه المصري». أريد هنا أن أذكر بأن وزارة المعارف كانت تشترط إخراج ثلاث روايات جديدة على الأقل في أثناء الموسم، وإلا فلا إعانة ولا يحزنون وكانت فرقتي قد أخرجت اثنتين فقط، هما «الجنيه المصري» و«المحفظة يا مدام». ولم يبق من الموسم إلا شهر أو أقل! فماذا نفعل وكيف نستطيع تأليف الرواية الثالثة وإخراجها وتمثيلها؟ وفي هذه الأثناء تقدم إلينا الأستاذ أمين صدقي برواية جاهزة اسمها «الرفق بالحموات»، فوزعنا أدوارها وأسرعنا في تدريب الممثلين وأخرجنا الرواية، ومع ذلك فقد عاشت أسبوعا واحدا لا غير! وكان أن منحتنا لجنة المعارف الدرجة الرابعة، أي أقل مبلغ منحته لفرقة في هذا العام. وبذلك قد تقهقرنا في نظرها عن العام السابق وسبحان من يغير ولا يتغير. وانتهى موسم ١٩٣١، وأسدلنا الستار على آخر لياليه. ورحت أعاود بفكري ما انتابني فيه، فتراءى لي أولا ما كان من قسوة الجمهور في معاملة «الجنيه المصري»، وما كان من الحكومة اللي أنزلتني لجنتها درجة بعد درجة إذ كان أملي معقودا على التقدم درجات! أضف إلى ذلك ما كنت أحس به من اضطرابات داخلية يرجع الفضل في أكثرها إلى القلب، وما صدم به من فشل في الحياة الخاصة، وهو ما كنت أبذل جهودي في كتمه عن الناس قاطبة، محتفظا بآلامه لنفسي وحدها. آليت على نفسي أن ألجأ إلى الراحة فترة من الزمن، أستريح فيها لا من عناء الأعداء وألسنتهم، التي كانت في قوارصها أحد من السيف وأشد من العضب، ومضت أيام شعرت بعدها أن ميلي إلى الجمهور العزيز وحبي له، يدفعني إلى العودة لمفاجأته. ورغم ما لقيت منه من عنف وظلم، فإن ميلي له لم يتخلله وهن ولا ضعف. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشعب سريع النسيان، فما هي إلا أن يغيب عن ناظره الشخص فترة حتى يدرجه في قائمة المنسيين، وحتى يصبح وكأنه لم يكن بالأمس ملء العين والأذن. وكانت هذه العوامل سببا في أن أفكر في العودة إلى الظهور سريعا وكان أن تقدمت إلى إدارة كازينو الفانتازيو بالجيزة للعمل به شهرا أثناء الصيف، فمددت يدي مستريحا إلى ذلك. ويهمني هنا أن أقول بأنني نلت من عطف عبد الخالق مدكور (باشا) صاحب الكازينو ومن محبته ومعونته، ما لا أزال أذكره بالشكر والحمد الوافر. وأمضيت شهر الفانتازيو على خير ما أريد. فنجحت كما أؤمل، وعادت أواصر المودة بيني وبين الجمهور سيرتها الأولى. وكأن الذي جرى ما كان. ويا دار ما دخلك شر. وفي هذه الأثناء قابلت صديقنا (الأستاذ علي يوسف) بعد عودته من بلاد المغرب، وكان قد رحل إليها مع فرقة السيدة فاطمة رشدي كدليل أو بالاصطلاح الفني (امبرزاريو) … وراح يصف لي مقدار محبة القوم هناك لفن التمثيل، وشغفهم به، وكيف أنهم لا يضنون بأموالهم في سبيل مشاهدته. ثم أضاف إلى ذلك أنني إذا قصدت إلى بلاد المغرب، عدت منها مملوء الوفاض بأموال تحتاج في حصرها وعدها إلى حنكة صرافي بنوك العاصمة مجتمعين! ولقيت أقوال علي يوسف مني نفسا «مفتوحة» وجيوبا «برضه مفتوحة»! فعزمت عزما صادقا على الرحيل كي أدلي بدلوي في دلاء هذه الثروة القريبة المنهل، السهلة المنال، وبدأت في تأليف فرقتي وكنت إذ ذاك في حاجة إلى مطربة تقوم بالأدوار الأولى في رواياتي، وتمثل الأدوار التي كانت تضطلع بها السيدة بديعة مصابني، التي خلا محلها منذ عهد طويل، فطوى معها كثير من الروايات التي كانت هي البطلة فيها. وبعد البحث تمكنا من الاتفاق مع المطربة حياة صبري، التي كانت فيما قبل تلميذة لفقيد الموسيقى الشيخ سيد درويش، وقام قبلنا إلى بلاد المغرب الأقصى (الامبرزاريو) المحترم علي يوسف. وكانت مهمته أن ينشر الدعاية اللازمة للفرقة، وأن يقوم بحركة الإعلان الكافي لتعريف الناس في تونس والجزائر ومراكش بمكانة الممثلين الذين تضمهم، والممثلات اللواتي يعملن فيها. وعليه إلى جانب ذلك أن يبيع الليالي لمن شاء، أو أن يطبع التذاكر ويوزعها على الراغبين، ثم يرسل إلينا جانبا من المال، نستعين به في الموعد الذي يحدده. نقول إن علي يوسف قام قبلنا، ومكثنا نحن في مصر نوالي عمل البروفات لجميع الروايات، ونحن نحدث أنفسنا بالخير الوافر الذي ينتظرنا في هذه الرحلة العتيدة. وبعد أن قضينا في البروفات شهرا كاملا، انقطعت ممثلتنا الأولى (حياة صبري) عن الحضور، وبحثنا عن علة ذلك فقيل لنا أنها اتفقت مع فرقة أخرى، وإنها لن تكون معنا في رحلتنا المنتظرة! وما العمل الآن ونحن في انتظار برقية من علي يوسف بين لحظة وأخرى، يشير فيها علينا أن نقوم توا إلى المغرب؟ ورجونا حياة دون جدوى، فاضطررنا إلى البحث عن غيرها … وكلما فكرنا في واحدة كعلية فوزي مثلا، قيل لنا إنها اتفقت منذ يومين أو أسبوعين أو ساعتين مع غيرنا للعمل معهم، فيسقط في أيدينا ونعود إلى ندب حظنا السيئ وبختنا اللي زي ما أنت شايف! والآن، ونحن كالغرقى في محيط بعيد الغور، جاءنا من يحمل إلينا نبأ يتلخص في أن السيدة بديعة مصابني تعرض أن ترافقنا في رحلتنا هذه! بديعة! وماذا يا ترى ساقها إلى طلب ذلك؟ بل ما هو الدافع لها بعد أن هجرت عملنا، ومضت مدة لم تباشره وايانا؟ القصد! فما دامت هي التي تريد، فلنرد نحن ما يكون! واتفقنا مع بديعة والخيرة في الواقع. وسارت البروفات في طريقها كما كانت، ومضت مدة كنا ننتظر في أثناءها أي شيء من علي يوسف، ولكن لم نسمع عنه نبأ! فماذا حل به يا ترى؟ وإذا كان هناك ما يسوء فهل تبقى أخباره مكتومة مجهولة؟ هناك مثل إنجليزي معناه أنه «إذا لم يكن هناك أي أخبار، فالأخبار خير» طيب صدقنا وآمنا بأن الأخبار خير، ولكن كيف يمكننا الرحيل وليس في أيدينا حتى أجرة القطار من القاهرة إلى بنها؟! ظللنا ننتظر أن يحن علينا (أبو يوسف) بقرشين من «العرابين» التي تسلمها، ولكن مضت أسابيع وأسابيع ولم نر فيها (ريح يوسف) ولما أكمل في غيابه عنا حوالي الشهرين، يئسنا من الرحلة ومن إتمامها، ورحت أفكر في الطريقة التي أعتذر بها إلى أفراد الفرقة، وأحمل إليهم نبأ حلها شيئا فشيئا. وفيما نحن كذلك، إذا بي أرى علي يوسف شخصيا! علي يوسف بنفسه لا خطاب منه ولا برقية! – ما الذي جاء بك؟ وما نتيجة عملك؟ – إنني أتيت إلى مصر لأدبر المال اللازم لترحيل الفرقة إلى بلاد المغرب! – ما شاء الله. والمال الذي ننتظره من هناك يا سي علي! هل تبخر؟ – كلا. ولكن مسرح البلدية تسلم النقود ولم يشأ أن يعطينا شيئا منها حتى تصل الفرقة إلى هناك ويروها رأي العين! وراح الله يمسيه بالخير يبحث هنا وهناك عن ابن حلال يدخل وإياه في هذه العملية، وكان له صديقان قديمان هما الشقيقان صالح وموريس كريم. وقد حملتهما هذه الصداقة على أن يعثرا لصديقهما هذا على «لقطة» أو زي ما تقول «هدية» في شخص صديق آخر لهما اسمه الخواجة «جياكومو». وما كاد علي يوسف يلتقي به حتى هيأ له البحر طحينة وأفهمه أن قرشه سيتضاعف آلافا مؤلفة، وأن المليم سيصبح بقدرة قادر دهب أحمر بعد الرحلة. وأن من قدم شيء بيداه التقاه. ووضع الخواجة «جياكومو» يده في محفظته، فخرجت تحمل ثلاثمائة جنيه (جنيه ينطح جنيه) ويسلمها لعلي يوسف قائلا هذا نصيبي كشريك في هذه الرحلة. وبعد أن تأكد أبو يوسف أنه يحمل هذا القدر من المال (ضحك في عبه) على رأي إخواننا المبسوطين! وعاد إلينا وقد تهلل وجهه بشرا، فأعطانا مما أعطاه الله، وأبلغنا أنه سيسبقنا إلى تونس على أن نلحق به بعد إتمام بعض الإجراءات الخاصة بالتأشير على جوازات السفر وما إلى ذلك. فودعناه أحسن وداع، وانتظرنا بصبر نافد موعد الرحيل يا حبايب! وترك الخواجة «جياكومو» أعماله التجارية بالإسكندرية، وجاء للقيام معنا إلى تونس، انتظارا لجمع الأموال الطائلة التي ستدرها الرحلة عليه وعلينا، وعلى الناس أجمعين! وسبقتنا السيدة بديعة مصابني إلى فرنسا لأعمال سينمائية خاصة، بعد أن اتفقنا على اللقاء في معهد مرسيليا. وبعد أيام قمت أنا على باخرة فرنسية وقصدت مرسيليا توا. أما أفراد الفرقة ومعهم الخواجة «جياكومو»، والزميل العزيز الأستاذ بديع خيري فقد اختار لهم علي يوسف قبل سفره من باب الوفر والاقتصاد باخرة (على قد الحال)، تسير إلى الإسكندرية لبورسعيد لبيروت لأثينا … إلى … إلى أن تصل مرسيليا بعد عمر طويل! … هذا إذا وصلت في سنتها. وقامت هذه الباخرة قبل باخرتي بأيام، وكان المفروض أن تصل بعدي بيومين، فلما وصلت انتظرت يوما ويومين وأسبوعا وأسبوعين ولكن اشتد قلقي إذ لم تصل الباخرة ولم يصلنا عنها أي خبر! سألنا في إدارة الشركة التي تتبعها الباخرة وفي جميع إدارات شركات الملاحة الكبرى والصغرى كمان، ولكن للأسف كنا نسمع جوابا واحدا، معناه بالعربي الذي يفهمه المعلم «دؤدؤ» وأفهمه أنا وأنت … أن العلم عند الله! طبعا العلم عند الله يا بني آدم أنت وهو، لكن احنا كمان عاوزين يكون عندنا علم … نعمل إيه؟ لست أحاول شرح حالتي النفسية وما انتابني من آلام طيلة هذه الأيام. فقد فقدت الأمل في لقاء أعزائي وأصدقائي الذين شاركوني في حلو الحياة ومرها، فلعنت علي يوسف، ولعنت الساعة التي أشار فيها بهذه الباخرة المقصوفة الرقبة! ولقيت بديعة مصابني، فحملت معي نصيبا من البحث. وأخيرا وبعد أن كاد اليأس يقطع خيوط الأمل الدقيقة، عرفنا أن إصابة بالطاعون ظهرت في أحد ركاب الباخرة بأثينا، فأخرجوا الركاب جميعا وحجزوهم في «كردون». وكان هذا سبب التأخير. وبعد انتهاء أيام الحجر الصحي استأنف الركاب سفرهم إلى مرسيليا، وبينهم زملاؤنا الأعزاء الذين فرحنا بلقائهم فرحا لا يوصف. وهنا أرى أن أسرد قليلا مما قصوه علينا في محنتهم هذه. فقد ذكروا أن الأطباء كانوا يجرون الكشف علينا يوميا، وكانوا يأمرونهم بخلع كل ما عليهم من ملابس. أما في مواعيد تناول وجبات الطعام … فقد كانوا يلقون إليهم المأكل من بين قضبان حديدية، بحيث لا تلمس أيديهم يد أحد من نزلاء «الكارنتينا» أو «الكردون» الذي كان محاطا من جميع نواحيه بالأسلاك الشائكة وخلفها هذه القضبان الحديدية. والآن نترك باخرة «الطاعون» ونحمد الله الذي نجى زملاءنا منها، فنقول إننا أخذنا باخرة أخرى من مرسيليا إلى تونس. ولا أطيل عليك القول، فأقول إننا وصلنا إلى ثغر «بيزرت» فاستقبلنا أهلها الأكرمون استقبال الفاتحين ورأينا الموسيقيين يدقون الطبول والزمور، وشاهدنا مندوبي الجمعيات الخيرية يحملون إلينا الأزهار، والشعراء ينثرون أمامنا القصائد من كل البحور، وخطب الترحيل تتلى علينا من هنا ومن هناك بشكل لم نر له مثيلا من قبل. شاهدت كل ذلك فقلت: اللهم إني أسألك أن تجعل الخاتمة خيرا، وأن لا تسئنا يا ربي في عملنا، ولا تخيب رجاءنا يا أكرم الأكرمين. وراحت السكرة ثم جاءت الفكرة. كان علي يوسف — وآخ من علي يوسف — كان قد استأجر مسرح البلدية في تونس لمدة اثنتي عشرة ليلة، وهي كل الليالي الخالية فيه إذ ذاك، لأنه استأجر لفرق أخرى بعد ذلك. ولكن الطاعون قاتله الله، وتأخير الباخرة أكل علينا أربعا من هذه الليالي، لأننا وصلنا متأخرين أربعة أيام عن الموعد الذي قدره علي يوسف. آدي دقة، أما الأخرى فهي أن الأستاذ أبا علوه … كان قد استدان قبل وصولنا مبلغ ألف ومائتي جنيه لتسديد مصروفات المطبعة والإعلانات والجرائد والتوزيع والمأكل والمشرب، وقبل أن نبدأ العمل بوغتنا بحضرات السادة الدائنين وقد شرفوا قبل وصول أي زبون، شرفوا لا للفرجة كغيرهم لا سمح الله، بل للحجز على إيراد الشباك سدادا لديونهم المستحقة بس! … والله عال … يعني جايين من مصر مخصوص، وشايفين الويل وويل الويل في البر والبحر وفي الطاعون وأثينا علشان تسدد الديون. وإن شالله ما حد أكل ولا شرب. كانت الرحلة منصبة على اثنتي عشرة حفلة كما سبق القول، ولكنها رست على ثمان (كما سبق القول برضه)، ومع ذلك فإن الطين رأى أن يزداد بلة أخرى، وكأن هذا كله لم يكف! هذه البلة هي أن سي على رأي أن يتبرع للجمعيات الخيرية في تونس بإيراد أربع حفلات مجانا لوجه الله. وهنا جلس مديرنا المالي (الخواجة جياكومو) على قرافيصه يندب حظنا اللي ما فيش منه. وإني لأذكر جملة مأثورة خرجت من فمه فأضحكتنا جميعا (وشر المصائب ما يضحك) جلس جياكومو يذكر صديقيه اللذين ورطاه هذه الورطة فقال: «يعني صالح وموريس بعتوا تلغراف لعلي يوسف قالوا له فيه وجدنا بغل نركبه سوا»! ذلك هو الوصف الذي ارتضاه مديرنا المالي لنفسه، فجزاه الله عن المروءة كل خير! كان موقفي في منتهى الحرج مع فرقة مؤلفة من أربعين شخصا بينهم ست ممثلات وراقصات ممتازات، وليس معنا ما نقتات به. فكنت أعمل جاهدا لإدخال أكبر كمية من الصبر على قلوبهم، بينما كان (الخيبة الثقيلة) الأخ علي يوسف يزوغ مني هنا وهناك ولا حياة لمن تنادي. عملنا أول ليلة فكان الإيراد مائتين وخمسين جنيها، ولكن هل دخل جيبنا منها مليم واحد؟ أبدا والله العظيم والبركة في الدين والدائنين! وقد فاتني أن أشير إلى شخص بالذات تقدم إلي مرحبا أجل ترحيب، ومحييا أحسن تحية، وتطوع بالتعريف قائلا إنه من هواة التمثيل، وإنه سمع عني كثيرا ورغب في العمل بفرقتي، وقد رحبت به أنا الآخر، ولكن رابني منه بعض تصرفات لم أفهم سرها! فما كدنا نصل مدينة تونس حتى سعى في كثير من العناية والاهتمام بإنزالنا في أكبر فنادق المدينة (واسمه ماجيستيك)، وراعني أنه نجح في حجز أحسن أجنحة الفندق لنا، كما راعني قبول إدارة الفندق أن تتقاضى من الممثلين مبلغ عشرين قرشا فقط كأجر عن الغرفة يوميا، في حين أن إيجار غرفتي في اليوم الواحد هو مائة وستون قرشا. وهو أجر معقول بالنسبة لفخامة الفندق الذي لا يقل من هذه الناحية عن أفخم فنادق القاهرة. أقول إنني رأيت في هذه التصرفات ما رابني، وأخيرا عرفت أن ريبتي كانت في موضعها تماما، وأن صديقنا الجديد هذا، لم يكن إلا عينا خصصته الإدارة الفرنسية ليكون بمثابة رقيب علينا في كل خطوة نخطوها، أو حركة نأتيها. وذلك خشية من أن نثير في البلاد شعور الوطنية والحماس، وهو ما يأباه الاستعمار ويعمل على محاربته بكل وسيلة. ولما كنا والحمد لله لم نقصد من رحلتنا أن نثير حربا شعواء بين الفرنسيين والوطنيين، فإن هذه الرقابة لم تؤثر فينا أقل تأثير، بل بالعكس أفادتنا كل الفائدة بأن جمعت أفراد الفرقة كلهم في صعيد واحد، وصعيد إيه يا سيدي … أوتيل، لا تقوللي ولا تعيد لي. والأجرة إيه؟! تراب الفلوس! نهايته … توددت إلى الأخ المحترم الرقيب الهاوي وقربته إلي … وصافي يا لبن. قلت إن إيراد الحفلة بلغ مائتين وخمسين جنيها استولى عليها الدائنون وتركونا نأكل بعضنا. أما رواية الافتتاح فكانت (الليالي الملاح) … أظن كمان رايح تقول إن السجع هنا مقصود! أبدا واللي خلقك! وقد كان استعدادنا لها فائقا بحيث كانت المناظر والملابس من أفخم الأصناف، كما أن الممثلات والممثلين كانوا على سنجة عشرة، ولذلك ظهرت الرواية بأحسن مظهر ونالت أحسن ما كنا نرجوه من النجاح. وكان هذا الجمهور بالطبع يملأ جوانب تياترو البلدية العظيم وكنت أشعر بفرح كبير لهذا النجاح «الأدبي» الممتاز وأعتبره تعزية لا شك فيها. ولكن حينما أرى الإيراد منحدرا في اتجاه غير طبيعي، كنت أشعر أن لسان حالي يقول: «آخ أيها الفن أتمنى في تلك اللحظة أن تكون خبزا فتؤكل أو عرقسوسا فتشرب!». قلت إن مجموع الليالي الباقية لنا من التعاقد في التياترو ثمان. ولكن متعهدنا المبارك (السيد علي يوسف) كان قد طبع قبل وصولنا تذاكر اشتراكات عن اثنتي عشرة ليلة، وباع منها الشيء الكثير وتسلم الأثمان كذلك. ولما لم يكن في طوقنا أن نقدم أكثر من هذه الليالي الثمان، فقد خفت أن يرمينا مشترو تذاكر الاشتراكات بالنصب والاحتيال. ولذلك قصدت إلى محام مشهور هناك وطلبته إليه أن يكتب عريضة باسمي إلى النيابة العمومية يشرح فيها الموقف، ويقول إنني مستعد أن أعيد لمن بيدهم الاشتراكات أثمانهم بعد أن أحصل على المال من بقية البلاد التي في النية زيارتها. وأخيرا استطعنا أن نتفق مع إدارة التياترو على العمل به بعض ليال أخرى نحييها عقب عودتنا من عدة بلاد غير مدينة تونس، وقمنا إلى صفاقص وصوصه وبيزرت وكان النجاح في كل منها بالغا أشده، وبدأت يدي تلمس النقود بعض الشيء، ولكن السادة دائني متعهدنا كانوا لنا بالمرصاد، فلم يرحموا غربتنا ولم يرعوا مصيبتنا فلاحقونا في كل مكان!
نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية. نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية.
https://www.hindawi.org/books/51630730/
مذكرات نجيب الريحاني
نجيب الريحاني
تبرز من بين صفحات هذا الكتاب، مذكرات رائد الكوميديا المصرية والعربية، الضاحك الباكي «نجيب الريحاني» ذلك الممثل العبقري، والموهوب الفذ، الذي استطاع أن يحوذ إعجاب الناس وحبهم، إن الريحاني لم يكن فقط مبدعًا في فنه بل كان مخلصًا له، وراهبًا في مسرحهِ، فكان خير له أن يقضي نحبه فوق المسرح، من أن يموت على فراشه كما يقول. عُرف نجيب الريحاني بأمانته وصدقه، فكان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يميل إلى المواربة والمداراة؛ لذا فقد آلى على نفسه في عرضه لهذه المذكرات أن يسجل ما بها من حقائق مهما كان فيها من ألم يناله قبل أن ينال غيره ممن جمعته به أية جامعة أو رابطة، ويصارح الريحاني القارئ في هذا الكتاب، فيقول له: «بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يُشعِر بالإقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة في هذه الآونة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هادئ البلبال.»
https://www.hindawi.org/books/51630730/11/
بين المسرح والسينما
قررنا أن نزور الجزائر بعد أن انتهى مقامنا في تونس، فشددنا رحالنا إليها. وهنا أقف لحظة بسيطة لأقول إن علاقتنا بالسيد السند علي يوسف (الامبرزاريو) كانت قد انقطعت، وإننا احتجنا إلى من يقوم مقامه ليسبقنا إلى البلاد التي نزورها ويمهد لعملنا فيها، فكان أن أوفدنا الزميل العزيز بديع خيري إلى بلدة «سراكوس». وقد قصد إليها قبل وصول الفرقة بعدة أيام. وبعد أن انتهينا من هذه البلدة، زرنا بلادا أخرى، وأخيرا قصدنا إلى عاصمة القطر (الجزائر)، فأحيينا فيها بنجاح منقطع النظير ثلاث حفلات جاءتنا بإيراد كبير، استطعت ببعضه أن أسدد جميع الديون التي طوقنا بها متعهدنا السابق، كما أنني وسعت على الممثلين بالبعض الآخر. ثم حدث في بلدة «وهران» ما لم أكن أتوقعه. فقد سافرت بديعة دون علمي، فأسندت أدوارها إلى كل من فتحية شريف وبهية أمير، ولكن بديعة بعدئذ اتصلت بي تليفونيا من الجزائر واعتذرت عن تسرعها بالهرب، وأكدت أنها عائدة في اليوم التالي. ولكنها للأسف لم تف بوعدها. وبعد أن انتهينا من بلاد الجزائر، قمنا إلى مراكش، فلقينا الكثير من ضروب الحفاوة في قصر «الباشا»، الذي نفحنا كثيرا من الهدايا في الليلة الختامية لرحلة الفرقة في بلاد المغرب الأقصى. ثم قصدنا إلى مرسيليا ومن هناك قصد أعضاء الفرقة إلى مصر، بينما سافرت أنا إلى باريس، وهناك استطعت أن أسترد من جمعية المؤلفين مبلغ ضريبة الستة في المائة، التي كانت تحجزها مسارح البلديات من إيراد رواياتي في بلاد المغرب الأقصى، وقد بلغ ما استرددته من الجمعية مائة وعشرين جنيها، بقي لدي منها بعد «فسحة» باريس خمسون جنيها مصريا عدت بها إلى مصر. وقد حزمت أمري على أن أجعل بيني وبين الممثلين سدا، فلا أجمع فرقة ولا أعتلي المسرح لحسابي. وبعد أيام قليلة «برم» المبلغ وأصبحت على الحديدة، فعمدت إلى بعض ما لدي من أثاث وحلي وهات يا بيع، هو احنا رايحين ناخد حاجة. واستحكمت حلقات الأزمة (أزمتي الخاصة) واستولت «الكريزة» على جيب العبد لله، فهبطت بطعامي من «الرستورانات» إلى محلات الفول المدمس! وقضيت على هذه الحال المدة من أبريل إلى أغسطس سنة ١٩٣٣، ثم وصلتني برقية من الأستاذ إميل خوري، الذي كان سكرتير تحرير جريدة الأهرام، يحمل تحويلا بمبلغ خمسين جنيها ويطلب مني أن أوافيه بباريس، لتصوير فيلم كان قد حدثني عنه وقت مروري بباريس. فقمت على عجل بعد أن طلبت من زميلي بديع أن يعد نفسه للحاق بي حين أرسل برقية باستدعائه. ووصلت إلى باريس وقوبلت بالحفاوة اللازمة، وما هي إلا يومين ثلاثة وبدأت أفهم الفولة!! وإيه هي الفولة؟ هي أن عم خوري أخذ المقاولة من شركة جومون لحسابه هو، وجاء يقنعني بقبول الاشتراك معه بنسبة الثلث، ثم قدم لي سيناريو من وضعه هو، وذكر أنه مشرف لمصر وأنه سينال نجاحا لا نظير له … وأنه … إلى آخر الأنهات اللي في الدنيا! اطلعت على السيناريو فوجدت أنه لا بأس به، إذ تركت لنا الحرية في وضع الحوار الذي يدور بين ممثليه، وفي الحال أرسلت في طلب بديع. ولكن قبل أن يصل الزميل، تقدم إلي إميل وأعطاني نسخة من حوار وضعه باللغة الفرنسية، وطلب إلي ترجمته إلى العربية، بحيث لا نخرج عنه قيد أنملة، فلما قرأته وجدت أنه لا يصلح بتاتا، وخاصة لجمهوري الذي عرفته وعرفني، فحاولت أن أقنع الشريك (المخالف) بأن هذا الحوار في مقدوره أن يسقط بدل الفيلم الواحد فيلمين أو ثلاثة، ولكنه أصر ولم يصغ لأي اعتراض. فصممت إزاء هذه الصلابة على التوقف عن العمل والعودة إلى الوطن، فظل بديع يهدئ من ثورتي، ويعمل على إقناعي بأن عودتي خاوي الوفاض إلى مصر ستطلق ألسنة الناس بالإشاعات والأقوال، وستدع لحضوري فرصة النيل مني، وستكون النتيجة كيت وكيت. وخشت هذه النصائح في مخي، وزادها ثباتا أن جيبي كان فارغا حتى من ثمن تذكرة العودة، فقلت في نفسي صهين يا واد يا نجيب وأهو فيلم ويفوت ما حد يموت! وبدأنا عملنا في الفيلم — وقد نسيت أن أذكر لك بأننا اخترنا له اسم (ياقوت) — بدأنا في إخراجه باستوديو جومون يوم الاثنين وانتهينا منه نهائيا يوم السبت التالي، أي أننا كروتناه في ستة أيام! أما الداعي لهذه «الكروتة» و«الطلصقة»، فهو أن السيد خوري لم يكن يهمه إلا أن يضغط الميزانية. وقد كان، وبعد أسبوعين انتهت عملية المونتاج وجاء خوري ومن معه يجزلون لي التهنئة ويقسمون إنني … فشر هاري بور وشارل بواييه ومش عارف مين ومين كمان، فهززت رأسي وطمأنتهم بأن الفيلم — مع هذا وذاك — لن تقوم له قائمة، ولن يلاقي أي حظ من النجاح. أما لماذا نظرت إلى الفيلم هذه النظرة فذلك لأنني صادفت مخرجا لا يفهمني ولا أفهمه وسيناريست عقله زي الحجر وممثلين، سيدي يا سيدي، جمعناهم من الحي اللاتيني ومن جميع الملل والنحل، فمثلا احتجنا لشخص يقوم بدور أستاذ يلبس العمة والقفطان فلم نجد من نسند إليه الدور إلا شخصا فرنسيا لا يعرف من العربية حتى اسمها. وقس على ذلك بقية الأدوار الهامة وغير الهامة، أي أن صيغة منتهى الجموع بتاعة قلة البخت، قد تفضلت بمرافقتي في ذلك الفيلم من بدايته إلى نهايته. ما علينا والسلام نقول إن نجاح هذا الفيلم بعد عرضه كان نسبيا لأنه — كما قلت — لم يكن شعبيا وقد اقتنع ممول الفيلم بصحة ما ذهبت إليه ولكن بعد إيه … بعد خراب مالطة. وقبل أن أبارح باريس «ليموني» على خمسين جنيها أخرى على أن أتناول حصتي في الأرباح بعد عرض الفيلم في مصر وعلى خير! وفي هذه الآونة تسلمت — وأنا بباريس — خطابا من الحاج حفني مدير تياترو برنتانيا يعرض علي العودة إلى مصر لتوقيع عقد اتفاق معه على العمل في مسرحه. ففكرت في ذلك الفن الجميل الذي أحببته من كل قلبي، وتملكت هوايته نفسي، واحتل حبه فؤادي حتى صار كالحسناء التي أخلصت لي وأخلصت لها. فهل أستطيع هجر هذه المعبودة؟ كلا … وألف مرة كلا!! وعدت إلى مصر … واتفقت مع الحاج مصطفى، على أن يتكفل هو بالفرقة مما جميعه، بما في ذلك الممثلات والممثلون، على أن أتقاضى أنا حصة معلومة. وهنا بدأت في تنظيم حياتي ووهبت نفسي مرة أخرى للفن الذي عشقته بعد أن رفعت عن كاهلي عبء التفكير فيما عداه. وأعددت مع الزميل العزيز بديع رواية «الدنيا لما تضحك» وما كدت أظهر على المسرح في الليلة الأولى من التمثيل، حتى قابلني الجمهور المحبوب بعاصفة من التصفيق عقدت لساني، فطفر الدمع من عيني لحظات غمرني فيها شعور لا أستطيع وصفه. وفي هذا الوقت تقدم إلي بعض الممولين السينمائيين، وطلبوا الاتفاق معي على إخراج فيلم «بسلامته عاوز يتجوز»، وعرضوا أن أتقاضى منهم ثمانمائة جنيه مصري وخمسة في المائة من الإيراد وشاورت عقلي، فاتضح لي أن هذه الجنيهات الثمانمائة مبلغ لا يستهان به، خصوصا في وقت أنا فيه بحاجة إلى … إلى إيه … إلى مائة فقط. ومن ناحية أخرى فإنني ذهبت إلى أن إخراج الفيلم الجديد قد يعوضني ما فات في سابقه (ياقوت)، لا سيما وأن مدير الإنتاج الأخير قد أظهر لي منتهى الاستعداد في أن يدع لي جميع المهام الفنية التي يقضتيها إظهار الفيلم في مظهر لائق. وجاء المدير المالي بشخص وفد من بلاد المجر، وقال لي إنه شقيق السينمائي الشهير «فاركاتش» الذي اقترن اسمه باسم فيلم (الموقعة)، مثل فيه شارل بواييه … وأنه … وأنه … إلخ … فقلت له إنني لا أطمئن لمخرج أجنبي، حتى ولو كان من الذين أشرفوا على أفلام جريتا جاربو ومارلين ديتريش، لأنه لن يصل إلى حقيقة أخلاقنا وباطن عاداتنا، قلت هذا قبل أن أرى المخرج المذكور أو أختلط به، فلما تم ذلك زدت يقينا بما أدليت، واعتقدت أنني سائر بالفيلم الجديد في نفس الطريق الذي رسم في رصيفه القديم، وأن «شهاب الدين» لا يزال يسعى وراءنا مطالبا بأخيه!! وحاول المنتج أن يزيل مخاوفي فطمأنني بأنه سيتركني أقبل ما بدا لي. وبدأنا الفيلم، بل وقطعنا في العمل شوطا بعيدا، كانت الحزازات أثناءه بيني وبين المخرج تزداد ضراما، لأنني كنت أشاهد بعيني منه عكس ما أريد، فقد كانت إرشاداته للممثلين في المواقف الفكاهية باعثة على البكاء … لا على الضحك. وعرض الفيلم على المتفرجين، وكنت بين المتفرجين بالإكراه. وأصارحك أيها القارئ العزيز بأنني حين رأيت نفسي على الشاشة لم أكن أتصور أنني بمثل هذه الفظاعة المؤلمة، وأنني من السخافة على مثل هذه الدرجة التي ابتدعها المخرج من «صبيان» أفكاره البايخة، حتى لقد كان يتراءى لي — كمتفرج — أنني لو لقيت نجيب الريحاني عند الباب أثناء خروجي، لخلعت — يكرم من سمع — ونزلت ترقيع في أصداغه إلى أن أوصله بيته العامر! وفي هذا الوقت كان حظي في المسرح «ضارب» نار، وكأنني كنت أنتقم من خذلاني في السينما، فقد شفيت غليلي ومعي بديع زميلي، ووضعنا كل همنا في إخراج رواية كاملة المعاني. وكان التوفيق رائدنا بعون واحد أحد، فأتممنا تأليف رواية «حكم قراقوش»، وقد جاءت هذه الرواية بدعة من حيث الوضع والتنسيق، ومن ناحية وجود الفكاهة العذبة والتسلية اللذيذة، في سرد حوادثها وفي رسم شخصياتها. فلما رأيت نجاحها، حمدت الله الذي عوضني عن السينما بهذا النجاح المسرحي الهائل، ولهذا عقدت نيتي من ذلك الحين على أن أهجر الشاشة بتاتا، وفي خشبة المسرح متسع لي، وإطفاء لشهوتي الفنية وغذاء لروحي المتلهفة على الوصول إلى الكمال بقدر الإمكان، ومن ثم رفضت جميع العروض السينمائية التي تقدم إلي بها كثيرون من الماليين ومن رجال الفن العديدين. وبعد «حكم قراقوش» أخرجت «مين يعاند ست»، فكانت هي الأخرى انتصارا لي مع أنها كوميديا من النوع «الناعم»، إلا أن المتفرج تقبلها بقبول حسن، وحل الصيف فتأبطت ذراع زميلي بديع وقصدنا إلى جزيرة قبرص، وهناك هيأت لنا الظروف الصالحة وضع رواية «مندوب فوق العادة»، وكان في عزمنا أن نفتتح بها موسم ١٩٤٦، ولكن الظروف المواتية مكنتنا من وضع رواية (قسمتي)، التي افتتحنا بها ذلك الموسم، وأبقينا الرواية الأولى بمثابة احتياطي لنا. وأعترف بأن هذه هي أول مرة في حياتي أحتفظ فيها بما يسمى الاحتياطي. وبعد عرض الروايتين «قسمتي» و«مندوب فوق العادة» فكرت في إخراج رواية استعراضية نختم بها الموسم فأعددت العناصر اللازمة لها واشتركت مع الزميل بديع خيري في وضعها بعد أن أطلقنا عليها اسم «الدنيا على كف عفريت». وفي أحد الأيام التي كنا نستعد لإخراج تلك الرواية على المسرح، وبينما كنت أرتدي ملابسي لموافاة الممثلين في البروفة دق جرس التليفون وكان المتحدث زميلي بديع، يبلغني أنه في أستوديو مصر، وأن الأستاذ أحمد سالم مديره يود رؤيتي سريعا. فسألت بديعا: ألم يطلعك على أسباب هذه الرغبة؟ فقال كلا. وقبل أن أتوسع في طلب معلومات من بديع تناول الأستاذ سالم بوق «الأرزيز» … أنت فاهمني؟ الأرزيز … والأرزيز هو التليفون بلغة المجمع اللغوي، واسألوا أهل الذكر! وسمعت الأستاذ أحمد سالم يضرب لي موعدا أقصاه نصف ساعة ولكي يسهل مأموريتي أبلغني أن سيارته ستكون أمام منزلي قبل هذا الموعد. وأكملت ارتداء ملابسي، ورحت أضرب أخماسا في أسداس. لا شك بأن مدير أستوديو مصر لم يطلبني بمثل هذه السرعة لأشترك معه في مباراة شطرنج، والا عشرة دومينو أمريكاني، فلابد إذن أن هناك عملا اقتضى هذا الاستدعاء، وأن هذا العمل لن يكون إلا فيلما للأستوديو. لقد كان مجرد التفكير في السينما يزعجني، بعدما رأيت منها فيما مضى، وبعدما قاسيت ممن اشتركت معهم، ولذلك قضيت الطريق بين منزلي وبين الأستوديو، مفكرا في طريقة الاعتذار «بذوق» عن ظهوري على الشاشة، وبزيادة علينا المسرح … وبينا وبين السينما ربنا!! ووصلت الأستوديو وهناك لقيت الأستاذ أحمد سالم وحسني نجيب وبديع خيري. سلام عليكم. عليكم السلام، وبعد التحيات الطيبات، والمجاملات المتبادلات (معلهش يا اخوانا يا فصحاء القافية حكمت)، فهمت من الأستاذ سالم أنه يسر الأستوديو أن يخرج فيلما لي … آه وقعت الفاس في الراس!! ولم أجد ما أجيب به غير أنني مشتغل إذ ذاك بإخراج رواية مسرحية جديدة وأنها تستغرق كل أوقاتي فأمهلني حتى أنتهي منها. ودارت بيننا مناقشة أكد لي فيها الأستاذ سالم أن روح التعاون بيننا ستكون وثيقة، ويظهر أنه أحس من ناحيتي بعض التردد أو الرغبة في «الحمرقة»، فصارحني بحقيقة كنت أجهلها، قال لي ما معناه إن الناس بدءوا يلوكون اسمك في معرض الفشل في السينما، وإن واجبك يدعوك إلى الدفاع عن نفسك بطريقة عملية، فقدم الدليل لأولئك القوم على أن الفشل الماضي أتى عن غير طريقك، لأن العوامل التي أفسدت عليك سبيلك لن يكون لها وجود في ستوديو مصر. كان هذا الكلام الحكيم وغيره كافيا لإقناعي، لا سيما وقد شعرت من خلال الحديث أن روح الصداقة تتمثل فيه، وأن الصراحة هي التي تمليه. كما تبين لي أن محدثي كان يرمي إلى أن يجعل هدفه الأول، وغرضه الأسمى، الوصول إلى النجاح دون كل الاعتبارات المتباينة … النجاح الذي يعود أثره لا لي وحدي — بل وللهيئة التي يشرف على إدارتها. وانتهت هذه الجلسة بالاتفاق المبدئي على الاشتراك في إخراج الفيلم بعد الانتهاء من رواية «الدنيا على كف عفريت». وفي هذه الأثناء ظهر فيلم «الحل الأخير» فكان نجاحه مشجعا لي على الإقدام، لأننا رأينا من الجمهور ناحية طيبة مطمئنة، هي أنه بدأ ينظر إلى العمل من حيث قيمته الفنية لا من حيث الشخصيات القائمة به. أقول إن هذا الإقبال الكبير على «الحل الأخير» زادني طمأنينة، وطرد من مخيلتي شبه التردد الذي كان يلازمني قبل مشاهدته، واشتركت مع بديع في وضع فكرة السيناريو ثم ذهبنا إلى الأستوديو ولقينا الأستاذ أحمد سالم، فعرضنا عليه فكرتنا، ولكنه أمهلنا يومين قابلناه بعدهما فعرفنا منه أنه قائم في الغد إلى أوربا، لأعمال تستدعي غيابه فترة. ثم قص علينا فكرة جديدة مفضلا جعلها أساسا للسيناريو الذي نضعه، ولا أجد غضاضة في التصريح بأن هذه كانت المرة الأولى التي استحسنت فيها قصة لأي إنسان كان! ووافقني بديع على صلاحية هذه الفكرة، فعقدنا النية على بناء سيناريو «سلامة في خير» على أساسها. وقد كان. وأود أن أشير هنا إلى أن اختيارنا كان قد وقع على اسم «أفراح» لإطلاقه على الفيلم، ولكن الأستاذ سالم فضل عليه اسم «سلامه في خير» وقد كان … برضه، وسافر الأستاذ أحمد سالم إلى أوربا بعد أن سلمنا للأستاذ نيازي مصطفى بصفته مخرجا للفيلم. وإني لأذكر أنني صدمت هذا الفتى في ذلك الحين بتصريح غير مستحب، لأنني لدغت من مخرجين قبله. ولا يلدغ الممثل من مخرج مرتين!! ولكن بمرور الوقت وبالاختلاط في العمل عرفت قيمة نيازي، فاعترفت بخطئي السابق في تقديره فهو كفء مخلص لفنه. وكانت اجتماعات متعددة متتالية بيني وبين بديع ونيازي عالجنا فيها وضع السيناريو وربط موضعه وحوادثه. وهنا أكشف للقراء سرا لم يقف عليه واحد منهم، وهو أنه بعد أن تم من تصوير الفيلم أربعة أخماسه ولم يبق إلا خمسه، كانت هناك أجزاء من الفيلم لم ننته من تأليفها بعد تماما. كما نفعل في رواياتنا المسرحية … واللي فيهش ما يخلهش! وسرنا في عمل الفيلم وحولنا جو من التفاهم التام لم يكن لي به عهد من قبل، فقد كان المخرج يعمل في حدود واجبه، وكثيرا ما عاوننا بأفكار ثاقبة، وآراء ناضجة، فكنا نحن الثلاثة نواصل العمل سويا، وكل منا يشعر أنه يؤدي فرضا واجبا يدفعه إليه الإخلاص والحرص على النجاح. وقبل أن ننتهي من آلام الوقوف أمام الكاميرا آناء الليل وأطراف النهار، استلمني المسرح. ولهلبني الموسم فاقتحمته بروايات قديمة نزولا على نصائح الأعزاء من الإخوان واقتراحات المحبين من المتفرجين. ولكن ذلك لم يحل بيني وبين التفكير مع الزميل في الرواية الجديدة «لو كنت حليوه». ومع ذلك فإن أبراج المخ الغلبان، كانت حاتطير طيران، والذي زاد الطين بلة ما أصابه في نهاية العمل بالأستوديو على أثر الأضواء التي كنت أقف تحت وهجها الساعات الطويلة، والتي تكفي من غير مبالغة لكهربة خزان أسوان، ولولا أن الله قيض لي بعض الأطباء الأصدقاء الذين اختشى منهم المرض على عرضه ففارقني غير مأسوف عليه … أقول لولا ذلك لعرضت نفسي على مؤتمر الرمد الدولي الذي عقد بالقاهرة، ولكن الحمد لله جت سليمه … والبركة في الإخوان. وشاء الحظ أن أتنقل بعدئذ بين طنطا والمنصورة ودمياط حيث أمضيت مع الفرقة ليلة في كل من هذه المدن، أحيينا في الأولى حفلتين (ماتينيه وسواريه) وأريد أن أثبت هنا أن الفقير الماثل الآن بين يديكم أيها القراء، استقبل في مدينة المنصورة استقبالا لم يكن ينتظره. ويظهر أن منشأ هذه الحفاوة عائد إلى أن فيلم «سلامه في خير» عرض في المنصورة قبل أن نزورها، فأرادوا — المنصوريون الكرام — أن يظهروا «لمحسوبهم» لونا من ألوان التكريم، الذي اشتهروا به، فقابلوني تلك المقابلة التي لا أنساها!! وقد أطلق جميلهم لساني بترديد الشكر لهم في كل مجال وأثبته في مذكراتي ليكون مسكا للختام. وفي المساء قدمنا رواية (مندوب فوق العادة)، فما كدت أظهر على المسرح حتى استمر التصفيق بضع دقائق. وهذا عمل أعترف بعجزي عن الشكر من أجله. وإن كنت لا أجد ما أقوله غير: «فلتحيا المنصورة». وعدت إلى القاهرة في يوم الأربعاء، ويصح أن أعترف أن الأيام الثلاثة التي قضيتها خارجها كانت بمثابة إجازة من بعض الوجوه، استراح فيها فكري ومخي راحة أرجو أن تعوضني بعض ما أفقدني العمل إياه، وهاأنذا واضع نصب عيني وضع رواية جديدة «لو كنت حليوه» بالاشتراك مع أخي وصديقي بديع وأرجو الله أن يكتب لها الفلاح فنضمها إلى لستة أخواتها السابقات. الآن يا قارئي العزيز أقف لحظة قبل أن أضع القلم في مكمنه وقبل أن أدفع هذه الخاتمة إلى المطبعة. أقف لأتذاكر وإياك في حديث لابد منه، وهو أنني قصرت ما نشرت على حياتي العملية وحدها ولم أمس الحياة الشخصية إلا مسا خفيفا كانت تقتضيه ظروف السرد والشرح، وكم كانت ذكريات الحوادث تمثل أمام ناظري حين كتابتها وكأنها كانت من حوادث اليوم الذي أكتب فيه مع أنه مضى على وقوعها سنوات. والآن … بعد أن تذوقت من الحياة حلوه ومرها، وبعد أن جرعتني كأسها حتى الثمالة — كما يقولون — بعد ذلك كله أقر وأعترف أنا الواضع اسمي بخطي أدناه نجيب الريحاني أنني خرجت من جميع التجارب التي مرت بي، خرجت منها بصديق واحد، صديق هو كل شيء، وهو المحب المغرم الذي أتبادل وإياه الوفاء الشديد والإخلاص الأكيد … ذلك الصديق هو عملي!! إنه أشبه بالمعشوقة الفاتنة التي كملت أوصافها ومحاسنها، أولا أنها غيور … غيور بكل ما في هذه الكلمة من معنى، فهي وفية ما دمت وفيا لها، أما إذا حدثتني النفس بخيانتها فالويل وسواد الليل إنها تكشر عن أنيابها، وتقلب لي ظهر المجن تتنمر وتتنكر، وترغي وتزبد، وتفور وتثور، وتطلع القديم والجديد. نعم أيها السادة، فإنني حين أتفرغ لعملي أجد النجاح يواتيني والحظ مقبلا علي … أما إذا اتجهت بقلبي إلى شيء آخر … أو إذا ساقت لي الظروف غراما طائشا … فإنه يخلع نعليه … ليجعل من رأسي منفضة لهما … والعياذ بالله. وكثيرا ما تعاودني الذكريات حين أجتمع بالأخ الصادق بديع خيري فنتذكر شئون الماضي، ونعترف بأننا كوفئنا حق المكافأة إذ اكتسبنا جمهورا يقدرنا ويقدر عملنا، وإن كان حظنا من الناحية المادية هو حظ الأديب في مصر ولكن معلهش برضه … مستورة والحمد لله، وكل ما يهمنا هو أننا نشعر بأن علينا رسالة نؤديها للوطن المحبوب وقد أديناها كاملة وكوفئنا على هذه التأدية، وحتى لو فرضنا أننا لم نكافأ فما كان ذلك ليحول بيننا وبين أداء الواجب. بقيت العبرة التي أبثها أخيرا وهي أنني أصبحت أعتقد أن العواطف وما إليها من الكلمات والاصطلاحات المنمقة ليست إلا لهوا ولعبا وتجارة، يمارسها بعض الناس للضحك بها على عقول السذج وقاصري الإدراك، تماما كما تفعل «المعددة» في المآتم، فإنها تأتي بعبارات الأسى والحزن العميق الذي يفتت الأكباد ويحرك الجماد، ومع ذلك فإنك تبحث في قرارة فؤادها فلا تجد مثقال ذرة من الحزن والألم. ذلك ما أوصلتني إليه التجارب فيما يختص بالعواطف، ولعل ما يراه الجمهور من المواقف المضحكة في رواياتي منشؤها هذا الاعتقاد الراسخ في حياتي. وهنا أراني مدينا للصديق العزيز توفيق المردنلي بكلمة شكر لأنه كان السبب الأول والأخير في حملي على كتابة هذه المذكرات، فأنا — ولا حياء في الحق — أقرب إلى الكسل إذا لم أجد الدافع الذي يسوقني إلى ما أريد. وقد قيض الله لي في صديقي توفيق ناصحا أقنعني في البداية بضرورة كتابة مذكراتي ونزلت على تلك النصيحة إلى أن انتهيت منها بعون الله وحمده … فليكن شكري لتوفيق آخر ما تخط يميني في هذه المذكرات. ووداعا يا قرائي الأعزاء.
نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية. نجيب إلياس ريحانة: ممثل فكاهي مصري، ورائد من رواد الفن المصري والعربي في النصف الأول من القرن العشرين، اشتهر بشخصية «كشكش بيه» قدم العديد من المسرحيات والأفلام، منها فيلم «غزل البنات» الذي اختير ليكون تاسع أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية. ولد نجيب الريحاني عام ١٨٨٩م بالقاهرة، لأب عراقي مسيحي وأم مصرية قبطية، كان أبوه يعمل بتجارة الخيل، وقد نشأ الطفل في منطقة باب الشعرية، فعاشر الطبقات الشعبية الفقيرة والبسيطة، كان الريحاني مولعًا بأمه، وورث عنها حس الفكاهة، فكان يسخر كما تسخر هي من المتناقضات الاجتماعية التي يعج بها المجتمع المصري في تلك الفترة، إلا أنه كان يمارس هذه السخرية بخجل، فقد كان الريحاني شخصية انطوائية، لا يخالط الناس كثيرًا ويفضل الانعزال. أدخله أبوه مدرسة الفرير، حيث أتقن الفرنسية، واستمر في دراسته إلى أن حصل على شهادة البكالوريا، إلا أنه لم يكمل تعليمه بسبب تدهور تجارة والده، واكتفى بهذه الشهادة، واضطر الريحاني للعمل من أجل مساعدة أسرته، فعمل كاتبًا للحسابات بشركة السكر بنجع حمادي بالصعيد، وكانت ملكًا للاقتصادي المصري عبود باشا، وكان يتقاضى راتبًا لا بئس به آنذاك يصل إلى ستة جنيهات شهريًّا، ومع ذلك وجد الريحاني أن هذه الوظيفة لا تشبع رغبته فقرر أن يتركها، وظل يبحث عن عمل آخر، إلى أن قادته الأقدار إلى مقابلة صديق له يدعى محمد سعيد وكان يعشق التمثيل، فاقترح على الريحاني أن يكونا معًا فرقة مسرحية تقدم اسكتشات خفيفة لجماهير الملاهي الليلية في شارع عماد الدين. وما أن بدأ الريحاني مشواره الفني حتى لمع نجمه، واشتهر بين الناس، لما يملكه من موهبة تمثيلية فذة وحس فكاهي عبقري، وقد تزوَّج الريحاني من الراقصة بديعة مصابني وأنجب منها بنتا، ولم يستمر زواجهما بسبب غيرتها عليه. وقد توفي الريحاني عام ١٩٤٩م، بعد إصابته بمرض التيفود، وكان قد شارف على الانتهاء من تصوير فيلم غزل البنات، فعُدلت نهاية الفيلم قسرًا، حتى يتم عرضه، ولاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا بل إنه عُدَّ من أحسن الأفلام التي عرضت في تاريخ السينما المصرية.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/0.1/
مقدمة الطبعة الأولى
لم أتهيب شيئًا من تأليف ما تهيبت من إخراج هذا الكتاب. فإن كل ما أخرجته كان غيري المعروض وأنا العارض أو غيري الموصوف وأنا الواصف، وأما هذا الكتاب فأنا العارض والمعروض والواصف والموصوف، والعين لا ترى نفسها إلا بمرآة. والشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته، والنفس لا ترى شخصها إلا من قول عدو أو صديق. أو بمحاولة للتجرد تم توزيعها على شخصيتين: ناظرة ومنظورة، وحاكمة ومحكومة، وما أشق ذلك وأضناه. ومع هذا فكيف يكون الإنصاف؟ إن النفس إما أن تغلو في تقدير ذاتها فتنسب إليها ما ليس لها، أو تبالغ في تقدير ما صدر عنها، أو تبرر ما ساء من تصرفها. وإما أن تغمطها حقها ويحملها حب العدالة على تهوين شأنها فتسلبها ما لها، أو تقلل من قيمة أعمالها، أو تنظر بمنظار أسود لكل ما يأتي منها؛ أما أن تقف من نفسها موقف القاضي العادل، والحكم النزيه، فمطلب عز حتى على الفلاسفة والحكماء. ثم إن للنفس أعماًقا كأعماق البحار، وغموضا كغموض الليل، فالوعي واللاوعي، والعقل الباطن والظاهر، والشعور البسيط والمركب، والباعث السطحي والعميق، والغرض القريب والبعيد — كل هذا وأمثاله يجعل تحليلها صعب المنال، وفهمها أقرب إلى المحال. وقد يخدع الإنسان فيكون من السهل اكتشاف الخديعة والوقوف على حقيقتها، وتبين أمرها، وتفهم بواعثها ومراميها؛ أما أن يخدع الإنسان نفسه فأمر غارق في الأعماق مغلف بألف حجاب وحجاب. من أجل هذا كان قول سقراط: «اعرف نفسك بنفسك» تكليًفا شططاً، وأمرًا يفوق الطاقة. ولكن على المرء أن يبذل جهده في تعرف الحق، وتحري الصدق، ليبرئ نفسه ويريح ضميره، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. على ذلك وضعت هذا الكتاب، ولم أذكر فيه كل الحق، ولكني لم أذكر فيه أيضًا إلا الحق، فمن الحق ما يرذل قوله وتنبو الأذن عن سماعه، وإذا كنا لا نستسيغ عري كل الجسم فكيف نستسيغ عري كل النفس؟ — إلا أحداث تافهة حدثت لي أو لغيري معي، لا نفع في ذكرها، والإطالة في عرضها. ثم إن حديث الإنسان عن نفسه — عادة — بغيض ثقيل، لأن حب الإنسان نفسه كثيرًا ما يدعوه أن يشوب حديثه بالمديح ولو عن طريق التواضع أو الإيماء أو التلويح، وفي هذا المديح دلالة على التسامح والتعالي من القائل، ومدعاة للاشمئزاز والنفور من القارئ والسامع. ولذلك لا يستساغ الحديث عن النفس إلا بضروب من اللباقة، وأفانين من اللياقة. ••• وترددت — أيضًا — في نشره: ما للناس و«حياتي»؟ لست بالسياسي العظيم، ولا ذي المنصب الخطير، الذي إذا نشر مذكراته، أو ترجم لحياته، أبان عن غوامض لم تعرف، أو مخبآت لم تظهر، فجلى الحق وأكمل التاريخ. ولا أنا بالمغامر الذي استكشف مجهوًلا من حقائق العالم، فحاول وصفه وأضاف ثروة إلى العلم، أو مجهوًلا من العواطف — كالحب والبطولة أو نحوهما فجلاه وزاد بعمله في ثروة الأدب وتاريخ الفن — ولا أنا بالزعيم المصلح المجاهد، ناضل وحارب، وانتصر وانهزم، وقاوم الكبراء والأمراء، أو الشعوب والجماهير، فرضوا عنه أحياًنا، وغضبوا عليه أحياًنا، وسعد وشقي، وعذب وُ كرِّم، فهو يروي أحداثه لتكون عبرًة، وينشر مذكراته لتكون درسًا. لست بشيء من ذلك ولا قريب من ذلك، ففيمَ أنشر «حياتي»؟ ولكن سرعان ما أجيب بأن عصر الأرستقراطية كاد يزول من غير رجعة، وينقضي من غير عودة. وأزهرت الديمقراطية فحلت محلها، ونشرت سلطانها، وتغلغلت حتى في الفن والأدب؛ كان الشعر في الشرق لا يعيش إلا في قصور الخلفاء والأمراء فعاش في الناس بعيدًا عن القصور. وكانت أهم موضوعاته المديح وخير أساليبه المزوق المطرز، فصارت مواضيعه كل شيء إلا الإفراط في الزينة؛ وكانت الروايات التمثيلية في الغرب لا تتخذ موضوعها إلا من حياة الملوك والأمراء. ولا تعرج على شيء من حياة الفقراء، إلا لإضحاك الأغنياء. ثم دار الزمن دورته، فصار كل شيء موضوعًا للرواية، كوخ الفقير وقصر الأمير، وعيشة المترف الناعم وعيشة المجهد البائس، والفلاحة في الحقل والأميرة في القصر — وقد كان المؤرخ إنما يؤرخ للخلفاء وأعمالهم، ومبانيهم وحروبهم وإقطاعهم، ومن اتصل بهم، وما صدر عنهم من فعل، وما روي لهم من قول، ولا شيء غير ذلك؛ ثم صار المؤرخ يؤرخ للشعب كما يؤرخ للسلطان. ويؤرخ الفقر كما يؤرخ الغنى، ويؤرخ الزراعة كما يؤرخ الإمارة — فحياة المغمورين مهمة كحياة المشهورين. فلماذا — إذا — لا أؤرخ «حياتي» لعلها تصور جانبًا من جوانب جيلنا، وتصف نمطًا من أنماط حياتنا. ولعلها تفيد اليوم قارئًا، وتعين غدًا مؤرخًا. فقد عنيت أن أصف ما حولي مؤثرًا في نفسي، ونفسي متأثرة بما حولي. نبتت عندي فكرة تاريخ حياتي، منذ أول عهد شبابي، فقد رأيتني أدون مذكرات يومية عن رحلاتي، وعن حياتي في الأسرة وأيام زواجي. ووجدتني أسجل في المفكرات السنوية أهم أحداث السنة، وما يسوء منها وما يسر، ولكن لم يكن كل ذلك عملاً منظمًا متواصلا، بل كان يحدث في فترات متقطعة — ثم نمت الفكرة وشغلت بالي في العام الماضي، فكنت أعصر ذاكرتي لأستقطر منها ما اختزنته من أيام طفولتي إلى شيخوختي، وكلما ذكرت حادثة دونتها في إيجاز ومن غير ترتيب — فلما فرغت من ذلك ضممته إلى مذكراتي اليومية، ثم عمدت — في الأشهر القريبة — إلى ترتيبه وكتابته من جديد على النحو الذي يراه القارئ، من غير تصنع ولا تأنق.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/0.2/
مقدمة الطبعة الثانية
كنت أخرجت هذا الكتاب — كما قلت في الطبعة الأولى — وأنا خائف متردد، للأسباب التي ذكرتها، وأحمد الله إذ تقبله القارئون قبولا حسًنا، ومدحوا فيه ما يدل عليه من صراحة وصدق في الخير والشر، والنعيم والبؤس. وقد نفدت الطبعة الأولى ومضى على نفادها نحو سنة. ثم طلب مني أن أعيد طبعته، فأجزت، وأعدت قراءته من جديد، فزدت عليه زيادات في أمور كنت نسيتها. وحصلت في السنتين الأخيرتين حوادث ألحقتها بالكتاب؛ حتى يساير «حياتي» حياتي. والله المسئول أن ينفع بالطبعة الثانية، ما نفع بالأولى.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/1/
الفصل الأول
ما أنا إلا نتيجة حتمية لكل ما مرّ عليّ وعلى آبائي من أحداث، فالمادة لا تنعدم وكذلك المعاني، قد يموت الطير وتموت الحشرات والهوام، ولكنها تتحلل في تراب الأرض فتغذي النبات والأشجار، وقد يتحول النبات والأشجار إلى فحم، ويتحول الفحم إلى نار، وتتحول النار إلى غاز، ولكن لا شيء من ذلك ينعدم، حتى أشعة الشمس التي تكون الغابات وتنمي الأشجار ُتختزن في الظلام، فإذا سلطت عليها النار تحولت إلى ضوء وحرارة وعادت إلى سيرتها الأولى. وكذلك الشأن في العواطف والمشاعر والأفكار والأخيلة، تبقى أبدًا، وتعمل عملها أبدًا، فكل ما يلقاه الإنسان من يوم ولادته، بل من يوم أن كان علقة، بل من يوم أن كان في دم آبائه، وكل ما يلقاه أثناء حياته، يستقر في قرارة نفسه، ويسكن في أعماق حسه، سواء في ذلك ما وعى وما لم يعِ، وما ذكر وما نسي، وما لذ وما آلم، فنبحة الكلب يسمعها، وشعلة النار يراها، وزجرة الأب أو الأم يتلقاها، وأحداث السرور، والألم تتعاقب عليه — كل ذلك يتراكم ويتجمع، ويختلط ويمتزج ويتفاعل، ثم يكون هذا المزيج وهذا التفاعل أساسًا لكل ما يصدر عن الإنسان من أعمال نبيلة وخسيسة — وكل ذلك أيضًا هو السبب في أن يصير الرجل عظيمًا أو حقيرا، قيمًا أو تافهًا — فكل ما لقينا من أحداث في الحياة، وكل خبرتنا وتجاربنا، وكل ما تلقته حواسنا أو دار في خلدنا هو العامل الأكبر في تكوين شخصيتنا — فإن رأيت مكتئبًا بالحياة ساخطًا عليها متبرمًا بها، أو مبتهجًا بالحياة راضيا عنها متفتحًا قلبه لها، أو رأيت شجاعًا مغامرًا كبير القلب واسع النفس، أو جباًنا ذليلا خاملا وضيعًا ضيق النفس، أو نحو ذلك، فابحث عن سلسلة حياته من يوم أن تكوّن في ظهور آبائه — بل قد تحدث الحادثة لا يأبه الإنسان بها وتمر أمام عينيه مرّ البرق، أو يسمع الكلمة العابرة ولا يقف عندها طويلا، أو يقرأ جملة في كتاب قراءة خاطفة، فتسكن هذه كلها في نفسه وتختبئ في عالمه اللاشعوري، ثم تتحرك في لحظة من اللحظات لسبب من الأسباب فتكون باعًثا على عمل كبير أو مصدرًا لعمل خطير. وكل إنسان — إلى حد كبير — نتيجة لجميع ما ورثه عن آبائه، وما اكتسبه من بيئته التي أحاطت به. ولو ورث أي إنسان ما ورثتُ، وعاش في بيئة كالتي عشت لكان إياي أو ما يقرب مني جدًا. لقد عمل في تكويني إلى حد كبير ما ورثت عن آبائي، والحياة الاقتصادية التي كانت تسود بيتنا، والدين الذي يسيطر علينا، واللغة التي نتكلم بها، وأدبنا الشعبي الذي كان يروى لنا ونوع التربية الذي كان مرسومًا في ذهن أبوي ولو لم يستطيعا التعبير عنه ورسم حدوده ونحو ذلك؛ فأنا لم أصنع نفسي ولكن صنعها الله عن طريق ما سّنه من قوانين الوراثة والبيئة. عجيب هذا العالم، إن نظرت إليه من زاوية رأيته كلا متشابهًا، يتجانس في تكوين ذراته، وفي بناء أجزائه، وفي خضوعه لقوانين واحدة؛ وإن نظرت إليه من زاوية أخرى رأيت كل جزئية منه تنفرد عن غيرها بميزات خاصة بها، لا يشركها فيها غيرها، حتى شجرة الوردة نفسها تكاد تتميز كل ورقة فيها عن مثيلاتها، فمن الناحية الأولى نستطيع أن نقول: ما أشبه الإنسان بالإنسان، ومن الناحية الثانية نقول: ما أوسع الفرق بين الإنسان والإنسان. وعلى هذه النظرة الثانية فأنا عالم وحدي، كما أن كل إنسان عالم وحده. تقع الأحداث على أعصابي، فأنفعل لها انفعالا خاصًا بي، وأقومها تقويمًا يختلف — قليلا أو كثيرًا — عن تقويم كل مخلوق آخر غيري. فالحادثة الواحدة يبكي منها إنسان، ويضحك منها آخر؛ ولا يبكي ولا يضحك منها ثالث، كأوتار العود الواحد، يوقع عليها كل فنان توقيعًا منفردًا متميزًا لا يساويه فيه أي فنان آخر.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/2/
الفصل الثاني
نظر مرًة إلى رأسي أستاذ جامعي في علم الجغرافيا وحدق فيه ثم قال: هل أنت مصري صميم؟ قلت: فيما أعتقد، ولم هذا السؤال؟ قال: إن رأسك — كما يدل عليه علم السلالات — رأس كردي. ولست أعلم من أين أتتني هذه الكردية، فأسرة أبي من بلدة «سمخراط» من أعمال البحيرة.. أسرة فلاحة مصرية. ومع هذا فمديرية البحيرة على الخصوص مأوى المهاجرين من الأقطار الأخرى. فقد يكون جدي الأعلى، كما يقول الأستاذ، كرديًا أو سوريًا أو حجازيًا أو غير ذلك. ولكن على العموم كان المهاجرون من آبائي ديمقراطيين من أفراد الشعب لا يؤبه بهم ولا بتاريخهم. ولكن لعل مما يؤيد كلام الأستاذ أني أشعر بأني غريب في أخلاقي وفي وسطي. وهذه الأسرة كانت كسائر الفلاحين تعيش على الزرع، وحدثني أبي أنهم كانوا يملكون في بلدهم نحو اثني عشر فداًنا. ولكن توالى عليهم ظلم «السخرة» وظلم تحصيل الضرائب فهجروها. وكانت السخرة أشكالا وألواًنا، فسخرة للمصالح العامة كالمحافظة على جسور النيل أيام الفيضان؛ فعمدة البلدة يسخر الفلاحين ليحافظوا على الجسور حتى لا يطغى النيل فيغرق البلد فإذا تخلف أحد ممن عيّن لهذه الحراسة عذب وضرب، وهو يعمل هذا العمل من غير أجر؛ وسخرة للمصالح الخاصة فالغني الكبير والعمدة ونحوهما لهم الحق أن يحشدوا من شاءوا من الفلاحين المساكين ليعملوا في أرضهم الأيام والليالي من غير أجر — ولما أبطل رياض باشا السخرة والضرب بالكرباج في عهد الخديوي توفيق نقم عليه الوجوه والأعيان صنعه، وعدوا ذلك من عيوبه، وقالوا إنه أفسد علينا الفلاحين، وهكذا كان في كل ناحية من نواحي القطر عدد قليل من الوجوه والأعيان هم السادة، وسواد الناس لهم عبيد، بل هؤلاء الوجوه والأعيان سادة على الفلاحين وعبيد للحكام. وأما الضرائب فلم تكن منظمة ولا عادلة، فأحياًنا يستطيع أن يهرب الغنى الكبير من دفعها أو يدفع القليل مما يجب عليه منها ويتخلص من الباقي بالرشوة أو التقرب إلى الحكام. ثم يطالب الفقراء المساكين بأكثر مما يحتملون، فإن لم يدفعوا بيعت بهائمهم الهزيلة، وأثاث بيوتهم الحقيرة، ثم ضربوا بالكرباج وعذبوا عذابا أليما — فكان كثير منهم إذا أحس أنه سيقع في مثل هذا المأزق حمل أثاث منزله على بهائمه، وخرج هو وأسرته هائمين على وجوههم في ظلمة الليل، وتركوا أراضيهم، ونزلوا على بعض أقربائهم أو على البدو في الخيام أو حيثما اتفق — فعلت ذلك أسرة علي باشا مبارك وفعلته أسرتي وأسر كثير من الناس. ففي ليلة من الليالي خرج أبي الصغير وعمي الكبير من سمخراط يحملان معهما القليل من الزاد والأثاث، تاركين الأطيان حلا مباحًا لمن يستولي عليها ويدفع ضرائبها، ونزلا في حي المنشية ( في قسم الخليفة) ولا قريب ولا مأوى. وقسم الخليفة كقسم بولاق أكثر أحياء القاهرة عددًا وأقلها مالا وأسوؤها حالا، يسكنها العمال والصناع والباعة الجوالون وكثير من الطبقة الوسطى وقليل من العليا، ولم تمسهما المدينة الحديثة إلا مسا خفيًفا، فمن شاء أن يدرس حياة سكان القاهرة كما كانوا في العصور الوسطى فليدرسها في هذين الحيين ولاسيما أيام ولادتي. وهكذا ألاعيب القدر. ظلم صراف البلدة أخرج أبي من سمخراط وأسكنه القاهرة حيث ولدت وتعلمت، ولولا ذلك لنشأت فلاحًا مع الفلاحين أزرع وأقلع، ولكن تتوالد الأحداث توالدًا عجيبًا، فقد ينتج أعظم خير من أعظم شر كما ينتج أعظم شر من أعظم خير، ولا تستبين الأمور حتى يتم هذا التوالد ويظهر على مسرح الكون. وأما أسرة أمي فأصلها على ما روي لي من «تلا» من أعمال المنوفية، ولا أدري أهجرتها كما هجرتها أسرة أبي فرارًا من الظلم أو لشيء آخر، وكل ما أعلمه أن أخوالي سكنوا في حي في وسط القاهرة قريب من باب الخلق، وكانوا يشتغلون في تجارة (العطارة)، وكانوا ناجحين في تجارتهم، وكانوا مع — مهنتهم التجارية — يحفظون القرآن، ويحسنون قراءته، ويلتزمون شعائر الدين. وكان أحد أخوالي سمحًا كريمًا، كثير الإحسان للفقراء، وقد منح بسطة في الرزق، وسعة في النفس. وأما خالي الآخر، فكان كزًا شحيحًا مضيًقا عليه في رزقه. ولست أدري: أكانت سماحة الأول سببًا في سعة رزقه، أم سعة رزقه سببًا في سماحته؟ كما أني لست أدري أكانت كزازة الثاني سببًا في ضيق رزقه، أم كان ضيق رزقه سببًا في كزازته.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/3/
الفصل الثالث
كانت أول مدرسة تعلمت فيها أهم دروسي في الحياة بيتي، وقد بنى أبي — بعد أن تحسنت حاله — بيًتا مستقلا في الحارة التي يسكنها هو وأخوه منذ هجرتهما. يتكون من دورين غير الأرضي، ففي الدور الأرضي منظرة للضيوف وكل دور به ثلاث غرف وتوابعها. وطابع البيت كان البساطة والنظافة. فأثاث أكثر الحجر حصير فرشت عليه سجادة، وإذا كانت حجرة نوم رأيت في ركن من أركانها حشية ولحاًفا ومخدة، تطوى في الصباح وتبسط في المساء. فلم نكن نستخدم الأسرّة، وأدوات المطبخ في غاية السذاجة. وهكذا، ولو أردنا أن ننتقل لكفتنا عربة كبيرة لنقل الأثاث؛ أما أكثر ما في البيت وأثمنه وما يشغل أكبر حيز فيه فالكتب — المنظرة مملوءة دواليب صففت فيها الكتب، وحجرة أبي مملوءة بالكتب وحجرة في الدور الأول ملئت كذلك بالكتب. وكان أبي مولعًا بالكتب في مختلف العلوم، في الفقه.. والتفسير والحديث واللغة والتاريخ والأدب والنحو والصرف والبلاغة، وإذا كان الكتاب مطبوعًا طبعتين: طبعة أميرية وطبعة أهلية لم يرتح حتى يقتنيه طبعة أميرية، وقد مكنه عمله مصححًا في المطبعة الأميرية أن يقتني كثيرًا مما طبع فيها وكانت هذه المكتبة أكبر متعة لي حين استطعت الاستفادة منها، وقد احتفظت بخيرها نواة لمكتبتي التي أعتز بها وأمضي الساعات فيها كل يوم إلى الآن. في حجرة في هذا البيت ولدت. وكانت ولادتي في الساعة الخامسة صباحًا من أول أكتوبر سنة ١٨٨٦، وكأن هذا التاريخ كان إرهاصًا بأني سأكون مدرسًا فأول أكتوبر عادة بدء افتتاح الدراسة. وشاء الله أن أكون كذلك. فكنت مدرسًا في مدرسة ابتدائية، ثم في مدرسة ثانوية ثم في عالية، وكنت مدرسًا لبنين وبنات، ومشايخ وأفندية. وكنت رابع ولد وُلد، ولم يكن أبي يحب كثرة الأولاد شعورًا منه بالمسئولية، ولما لقي من الحزن العميق في وفاة أختي أبشع وفاة. فقد كان لي أخت في الثانية عشرة من عمرها شاء أبي ألا تستمر في البيت من غير عمل فأرسلها إلى معلمة تتعلم عندها الخياطة والتفصيل والتطريز، وقامت يومًا تعد القهوة لضيوف المعلمة فهبت النار فيها واشتعل شعرها وجسمها وحاولت أن تطفئ نفسها أول الأمر فلم تنجح فصرخت، ولكن لم يدركوها إلا وهي شعلة نار، ثم فارقت الحياة بعد ساعات، وكان ذلك وأنا حَمْلَُ في بطن أمي، فتغذيت دمًا حزيًنا ورضعت بعد ولادتي لبًنا حزيًنا، واستقبلت عند ولادتي استقبالا حزيًنا، فهل كان لذلك أثر فيما غلب عليَّ من الحزن في حياتي فلا أفرح كما يفرح الناس، ولا أبتهج بالحياة كما يبتهجون؟ علم ذلك عند الله والراسخين في العلم. وكان من محاسن أسرتنا استقلالنا في المعيشة وفي البيت، فلا حماة ولا أقارب إلا أن يزوروا لمامًا. وكان بيتنا محكومًا بالسلطة الأبوية، فالأب وحده مالك زمام أموره، لا تخرج الأم إلا بإذنه، ولا يغيب الأولاد عن البيت بعد الغروب خوًفا من ضربه، ومالية الأسرة كلها في يده يصرف منها كل يوم ما يشاء كما يشاء، وهو الذي يتحكم حتى فيما نأكل وما لا نأكل، يشعر شعورًا قويًا بواجبه نحو تعليم أولاده، فهو يعلمهم بنفسه ويشرف على تعليمهم في مدارسهم، سواء في ذلك أبناؤه وبناته، ويتعب في ذلك نفسه تعبًا لا حد له، حتى لقد يكون مريضًا فلا يأبه بمرضه، ويتكئ على نفسه ليلقي علينا درسه. أما إيناسنا وإدخال السرور والبهجة علينا وحديثه اللطيف معنا فلا يلتفت إليه. ولا يرى أنه واجب عليه. يرحمنا ولكنه يخفي رحمته ويظهر قسوته؛ وتتجلى هذه الرحمة في المرض يصيب أحدنا، وفي الغيبة إذا عرضت لأحد منا، يعيش في شبه عزلة في دوره العالي، يأكل وحده ويتعبد وحده، وقلما يلقانا إلا ليقرئنا. أما أحاديثنا وفكاهتنا ولعبنا فمع أمنا. وقد كان لنا جدة — هي أم أمنا — طيبة القلب شديدة التدين؛ يضيء وجهها نورا، تزورنا من حين لآخر، وتبيت عندنا فنفرح بلقائها وحسن حديثها، وكانت تعرف من القصص الشعبية — الريفية منها والحضرية — الشيء الكثير الذي لا يفرغ، فنتحلق حولها ونسمع حكاياتها ولا نزال كذلك حتى يغلبنا النوم، وهي قصص مفرحة أحياًنا مرعبة أحياًنا، منها ما يدور حول سلطة القدر وغلبة الحظ، ومنها ما يدور حول مكر النساء ودهائهن، ومنها حول العفاريت وشيطنتها، والملوك والعظماء وذلهم أمام القدر «إلخ»، وتتخلل هذه القصص الأمثال الشعبية اللطيفة والجمل التي يتركز فيها مغزى القصة. وأحياًنا كان أخي الكبير يقرأ لنا في ألف ليلة وليلة، فإذا أتى إلى جمل ماجنة متهتكة تلعثم فيها وخجل واضطرب وحاول أن يتخطاها، وأحياًنا يزل لسانه فيقرؤها فيضحك بعض مَنْ حضر، وتخجل أمي وجدتي فيهرب أخي من هذا الموقف المربك، وتقف القراءة. ولكن كان بيتنا — على الجملة — جدًا لا هزل فيه، متحفظًا ليس فيه ضحك كثير ولا مرح كثير، وذلك من جدِّ أبي وعزلته وشدته. ولم تكن المدنية قد غزت البيوت، ولاسيما بيوت الطبقة الوسطى أمثالنا، فلا ماء يجري في البيوت وإنما سقَّاء يحمل القربة على ظهره ويقذف ماءها في زير البيت تملأ منه القلل وتغسل منه المواعين وكلما فرغت قربة أحضر قربة. والسقاء دائم المناداة على الماء في الحارة، وحسابه لكل بيت عسير، إذ هو يأخذ ثمن مائه كل أسبوع، فتارة يتبع طريقة أن يخط خطًا على الباب كلما أحضر قربة. ولكن بعض الشياطين يغالطون فيمسحون خطًا أو خطين، ولذلك لجأ السقاء إلى طريقه «الخرز» فيعطي البيت عشرين خرزة، وكلما أحضر قربة أخذ خرزة، فإذا نفذت كلها حاسب أهل البيت عليها. وأخيرًا — وأنا فتى — رأيت الحارة تحفر والأنابيب تمد والمواسير والحنفيات تركب في البيوت وإذا الماء في متناولنا وتحت أمرنا، وإذا صوت السقاء يختفي من الحارة ويريحنا الله من الخطوط تخط أو الخرز يوزع. وطبيعي في مثل هذه الحال ألا يكون في البيت كهرباء فكنا نستضيء بالمصابيح تضاء بالبترول، ولم أستضئ بالكهرباء حتى فارقت حينا إلى حي آخر أقرب إلى الأرستقراطية. وطعامنا يطهى على الخشب ثم تقدمنا فطهونا على رجيع الفحم (فحم الكوك) ثم تقدمنا أخيرًا فطهونا على (وابور بريمس).. وكل أعمال البيت تقوم بها أمي، فلا خادم ولا خادمة ولكن يعينها على ذلك أبناؤها فيما يقضون من الخارج، وكبرى بناتها في الداخل. وكان أبي مدرسًا في الأزهر ومدرسًا في مسجد الإمام الشافعي وإمام مسجد ويتقاضى من كل ذلك نحو اثني عشر جنيهًا ذهبًا، فلم نكن نعرف جنيهات الورق، وأذكر — وأنا في المدرسة الابتدائية — أن ظهرت عملة الورق فخافها الناس ولم يؤمنوا بها وتندرت الجرائد الهزلية عليها. وكانت لا تقع في يد الناس — وبخاصة الشيوخ — حتى يسرعوا إلى الصيارف فيغيروها ذهبًا. وكانت الاثنا عشر جنيهًا تكفينا وتزيد عن حاجتنا ويستطيع أبي أن يدخر منها للطوارئ، إذ كانت قدرتها الشرائية تساوي الأربعين جنيهًا والخمسين اليوم. فعشر بيضات بقرش. ورطل اللحم بثلاثة قروش أو أربعة، ورطل السمن كذلك وهكذا، ومن ناحية أخرى كانت مطالب الحياة محدودة ومعيشتنا بسيطة؛ فأبي من بيته إلى عمله إلى مسجده ثم إلى بيته، لا يدخن ولا يجلس على مقهى. وملابسنا جميعًا نظيفة بسيطة، ومأكلنا معتدل ليس بضروري فيه تعدد أصنافه، ولا أكل اللحم كل يوم، ولم نر فيمن حولنا عيشة خيرًا من معيشتنا نشقى بالطموح إلى أن نعيش مثلها، ولا سينما ولا تمثيل، ولكن من حين لآخر تنصب خيمة على باب حارتنا يلعب فيها «قره جوز» أدخل إليها بنصف قرش ويكون ذلك مرة في السنة أو مرتين. ويغمر البيت الشعور الديني، فأبي يؤدي الصلوات لأوقاتها ويكثر من قراءة القرآن صباحًا ومساء، ويصحو مع الفجر ليصلي ويبتهل، ويكثر من قراءة التفسير والحديث، ويكثر من ذكر الموت ويقلل من قيمة الدنيا وزخرفها ويحكي حكايات الصالحين وأعمالهم وعبادتهم، ويؤدي الزكاة ويؤثر بها أقرباءه ويحج وتحج أمي معه — ثم هو يربي أولاده تربية دينية فيوقظهم في الفجر ليصلوا ويراقبهم في أوقات الصلاة الأخرى ويسائلهم متى صلوا وأين صلوا. وأمي كانت تصلي الحين بعد الحين — وكلنا يحتفل برمضان ويصومه — وعلى الجملة فأنت إذا فتحت باب بيتنا شممت منه رائحة الدين ساطعة زاكية، ولست أنسى يومًا أقيمت فيه حفلة عرس في حارتنا، وقدمت فيه المشروبات الروحية لبعض الحاضرين فشوهد أخي المراهق يجلس على مائدة فيها شراب، فبلغ ذلك أبي فمازال يضربه حتى أغمي عليه — وكان معي يومًا قطعة بخمسة قروش فحاولت أن أصرفها من بائع سجائر فشاهدني أخي الكبير فأخذ يسألني ويحقق معي تحقيق «وكيل نيابة» مع المتهم، خوًفا من أكون أشتري سجائر لأدخنها إذ ليس أحد في البيت يحدث نفسه أن يشرب سيجارة. وبعد، فما أكثر ما فعل الزمان، لقد عشت حتى رأيت سلطة الآباء تنهار، وتحل محلها سلطة الأمهات والأبناء والبنات وأصبح البيت برلماًنا صغيرًا، ولكنه برلمان غير منظم ولا عادل فلا تؤخذ فيه الأصوات ولا تتحكم فيه الأغلبية، ولكن يتبادل فيه الاستبداد، فأحياًنا تستبد الأم، وأحياًنا تستبد البنت أو الابن وقلما يستبد الأب، وكانت ميزانية البيت في يد صراف واحد فتلاعبت بها أيدي صرافين، وكثرت مطالب الحياة لكل فرد وتنوعت، ولم تجد رأيًا واحدًا يعدل بينها، ويوازن بين قيمتها، فتصادمت وتحاربت وتخاصمت، وكانت ضحيتها سعادة البيت وهدوءه وطمأنينته. وغزت المدنية المادية البيت فنور كهربائي وراديو وتليفون، وأدوات للتسخين وأدوات للتبريد، وأشكال وألوان من الأثاث. ولكن هل زادت سعادة البيت بزيادتها؟ وسفرت المرأة وكانت أمي وأخواتي محجَّبات — لا يرين الناس ولا يراهن الناس إلا من وراء حجاب — وهذا من أمور الانقلاب الخطير، ولو بعث جدي من سمخراط ورأى ما كان عليه أهل زمنه وما نحن عليه اليوم لجن جنونه؛ ولكن خفف من وقعها علينا أنها تأتي تدريجًا، ونألفها تدريجيًا، ويفُتر عجبنا منها وإعجابنا بها على مر الزمان، ويتحول شيئًا فشيئًا من باب الغريب إلى باب المألوف.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/4/
الفصل الرابع
كان هذا البيت أهم مدرسة تكونت فيها عناصر جسمي وخلقي وروحي، فإذا تغيرت بالنمو أو الذبول وبالقوة أو الضعف، فمسائل عارضة على الأصل — لقد كانت أمي قصيرة النظر فورثت عنها قصر النظر، ولقيت من عنائه في حياتي الشيء الكثير، فإذا تقدمت للدخول في دار العلوم حرمت من ذلك لقصر نظري، وإذا تقدمت للدخول في مدرسة القضاء فكذلك إلا أن تحدث معجزة. وإذا أريد تثبيتي في وظيفة سقطت في امتحان النظر، ولم أَُثَبَّت إلا بمعجزة أخرى. وتحدث أحداث كثيرة مخجلة وغير مخجلة نتيجة لقصر نظري. فقد لا أسلم على أحد يجلس بعيدًا عني فيظن بي الكبر؛ وقد أكون على موعد في مقهى فأدخل ولا أرى من وعدتهم إلا أن يروني. وقد أمر في الشارع على من أنا في حاجة إليه، فلا أراه. وقد أحب أن أذهب إلى السينما أو التمثيل للاسترواح فلا أذهب — وهكذا وهكذا من أحداث سيئة لا تحصى صادفتني في حياتي إلى أن اضطررت من شبابي إلى أن ألبس نظارة، وكنت من سنة إلى أخرى أغير النظارة بأخرى أسمك منها، حتى صارت في آخر الأمر نظارة سميكة. واعتادت عيني هذه النظارة. وكانت لها كذلك سيئات. فإذا كسرت أو نسيتها في البيت، صرت كأني أعمى. وقد رأيتني فيما بعد أحتاج إلى نظارتين، نظارة للقراءة ونظارة للسير والعمل. ولا تسأل عن متاعب ذلك. ومع قصر النظر هذا، كان النظر القصير نعمة كبيرة إذا قارنت بينه وبين العمى. فكل الأشياء الجوهرية من رؤية أشخاص ورؤية مناظر جميلة، كان يكفى قصر نظري لإدراكها. وربما كان هذا عاملا من عوامل حبي العزلة حتى لا أقع في مثل هذه الأغلاط، ولكن أحمد الله أن كان نظري على قصره سليمًا، فقد احتملني على كثرة قراءتي ومداومة النظر في الكتب حتى جاوزت الستين. ثم إن كل خصائص البيت التي ذكرتها انعكست في طبيعتي وكونت أهم مميزات شخصيتي. فإن رأيت فيَّ في إفراطًا في جانب الجد وتفريطًا معيبًا في جانب المرح، أو رأيت صبرًا على العمل وجلدًا في تحمل المشقات، واستجابة لعوامل الحزن أكثر من الاستجابة لعوامل السرور، فاعلم أن ذلك كله صدى لتعاليم البيت ومبادئه. وإن رأيت ديًنا يسكن في أعماق قلبي، وإيماًنا بالله لا تزلزله الفلسفة ولا ُتشكك فيه مطالعاتي في كتب الملحدين، أو رأيتني أكثر من ذكر الموت وأخافه، ولا أتطلع إلى ما يعده الناس مجدًا ولا أحاول شهرة، وأذكر في أسعد الأوقات وأبهجها أن كل ذلك ظل زائل وعرض عارض، أو رأيت بساطتي في العيش وعدم احتفائي بمأكل أو بمشرب أو ملبس، وبساطتي في حديثي وإلقائي، وبساطتي في أسلوبي وعدم تعمدي الزينة والزخرف فيه، وكراهيتي الشديدة لكل تكلف وتصنع في أساليب الحياة، فمرجعه إلى تعاليم أبي وما شاهدته في بيتي. لقد قرأت الكثير مما يخالف هذه التعاليم، وصاحبت أهل المرح وسمعت آراء الإلحاد، وأنصت إلى من ينصحني بالابتهاج بالحياة وتعاقبت أمام ناظري أنواع الحياة المختلفة والمظاهر المتباينة ونحو ذلك. ولكن تسرب بعض هذه الأشياء إلى عقلي الواعي كان على السطح لا في الصميم، أما شعوري العميق وما له الأثر الكبير في الحياة من اللاوعي فمنشؤه البيت، كانت الصفحة بيضاء نقية تستقبل ما يقع عليها وتدخره في خزانتها، ثم تكون له السيطرة الكبرى على الحياة مهما طالت. نعم إني لأعرف من نشئوا في بيت كبيتي تغمره النزعة الدينية كالنزعة التي غمرت بيتي. ومع هذا ثاروا على هذه النزعة في مستقبل حياتهم. وانتقلوا من النقيض إلى النقيض. ولم يعبئوا بالسلطة الدينية التي فرضت عليهم في صغرهم. فلماذا كان موقفهم غير موقفي واتجاههم غير اتجاهي؟ هل كان ذلك لأن الدين يتبع المزاج إلى حد كبير، أو لأن شخصية أبي كانت قوية غرست في ما لم يستطع الزمان اقتلاعه، أو أن عوامل البيئة زادت هذه النزعة الدينية نموًا، فلم جاءت العاصفة جاءت متأخرة؟ لعله شيء من ذلك أو لعله كل ذلك أو لعله شيء غير ذلك. وهكذا الشأن في كثير من شئون الحياة، نرى رجلين نشآ في بؤس من العيش وقلة من المال، ثم بسط لهما في العيش وتدفق عليهما المال، فتعلم أحدهما من بؤسه الأول حرصًا على المال وفرط تقويم له، على حين أن الآخر انتقم من بؤسه بنعيمه، ومن بخل الزمان الأول عليه بإسرافه. لقد رأينا طرفة بن العبد وأبا العتاهية، كلاهما تمثلت أمام عينيه حقيقية الموت. فاستنتج منها طرفة وجوب انتهاب اللذائذ وقال: واستنتج منها أبو العتاهية احتقار اللذائذ وتهوين شأنها والصد عنها فقال: وعلى كل حال فالبيت يبذر البذور الأولى للحياة ويتركها للتربة التي تعيش فيها، والجو الذي يعاكسها أو ينميها، حتى تعيش عيشتها المقدورة لها وفًقا لنظام الكون وقوانينه.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/5/
الفصل الخامس
عصرت ذاكرتي لأذكر أقدم أحداث طفولتي فذكرت منها ثلاثة — أولها أني وأنا في الرابعة من عمري خرجت من حارتي فوجدت بناء وله باب مفتوح فدخلته، كان هذا البناء «جبَّاسة» رأيت فيها عجبًا، ثور كبير عُلّقت على عنقه خشبة وربطت هذه الخشبة في أسطوانة من الحديد كبيرة، فإذا الثور دار دارت الحديدة — وقد وضع تحت الحجر حجر أبيض إذا دارت عليه طحنته فكان جبساً. أعجبني هذا المنظر، والناس — وبخاصة الأطفال — تعجبهم الحركة أكثر مما يعجبهم السكون، فلعبة القطار إذا كان يجري «بزنبلك» خير من لعبة القطار الساكن، والإعلان المتحرك في المحال التجارية خير من الإعلان الثابت، على هذا الأساس النفسي كانت الصور المتحركة للأطفال في السينما وهكذا؛ جميل هذا المنظر: ثور يتحرك ويدور فتتحرك معه الأسطوانة الحديدية، وحجر جامد يتحول إلى دقيق ناعم — وشغلت به عن نفسي فجلست أمامه وقضيت الساعتين أو أكثر في الاستمتاع به؛ في هذه الأثناء بحثت عني أمي في البيت فلم تجدني، فنادت أخي وأختي فبحثا عني في الحارة فلم يجداني، فجن جنونها، وكان يشاع في أوساطنا أن هناك قوماً يخطفون الأولاد ويسفرونهم إلى البلاد النائية للعمل، وأن هناك آخرين شريرين يسمى كل منهم «سمَّاوي» يخطفون الأولاد ويذبحونهم أو يضعونهم في ماعون كبير يغلي بهم على النار وهكذا، فخافت أمي أن يكون قد حدث لي شيء من هذا. وكان في كل حي «مناد» يستأجر لينادي على الأولاد التائهين، فيقول بأعلى صوته: «يا من رأى ولداً صفته كذا يلبس جلباباً أحمر أو أصفر، وعلى رأسه طاقية أو عاري الرأس، وفي رجله نعل أو حافي القدمين فمن وجده فله الحلاوة» وينتقل في الشوارع والحارات المجاورة ينادي هذا النداء ثم يختمه كل مرة بقوله «يا عدوي» والعدوي هذا شيخ من أولياء الله الصالحين موكل برد التائه إلى أهله. وأذكر — بهذه المناسبة — حادثة طريفة: أن المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري ألف كتاباً سماه «أين الإنسان؟» قرأه المرحوم «فتحي باشا زغلول» فلم يعجبه. فأخذ القلم وكتب تحت «أين الإنسان» يا عدوي. على كل حال كان المنادي ينادي عليَّ وأنا في الجباسة حتى جاء رجل وطردني، وشتمني وشتمته، فعدت إلى البيت، فنهرتني أمي وقالت: أين كنت؟ قلت في الجباسة. وحكيت القصة وما رأيت وما قاله لي الرجل وما رددت عليه، بلغة مكسرة ولسان ألثغ. فكانت القصة تستخرج الضحك من كل من سمعها، وكثيراً ما طلب مني أن أعيد روايتها ولهذا ثبتت في ذاكرتي. وحدث مرة أن أخذني والدي إلى المسجد بجوار بيتنا ليصلي ولم يكن بالمسجد غيرنا. فخلع والدي جبته وجوربه وشمر أكمامه وذهب إلى «الميضأة» ليتوضأ والميضأة حوض ماء نحو ثلاثة في ثلاثة يملأ بالماء من حين لآخر. وفي العادة يملأ من بئر بجانبه ركبت عليها بكرة، وعلق فيها حبل في طرفية دلوان، ينزل أحدهما فارغاً ويصعد الآخر ملآن. ومن أراد أن يتوضأ من الميضأة جمع الماء بين كفيه وغسل وجهه ثم يعود الماء إلى الميضأة بعد الغسل كما أخذ، وكانت هذه الميضأة مصدر بلاء كبير، فقد يتوضأ المريض بمرض معد كالرمد ونحوه فيتلوث الماء ويعدي الصحيح، هذا إلى قذارته. فالمتوضئ يغسل وجهه بعد أن غسل من قبله رجليه، ولكن الاعتقاد الديني يغطي كل هذه العيوب والأخطار، فلما دخل القاهرة نظام جري الماء في الأنابيب والحنفيات لم تعد حاجة إلى الميضأة، وأصبحت الحنفيات أنظف وأصح، ولكن إلف الناس للقديم جعلهم يحزنون لفراق الميضأة، ولذلك كان مما أخذ على الشيخ محمد عبده وعيب عليه أن أبطل ميضأة الأزهر وأحل محلها الحنفيات، وهكذا يألف الناس القديم الضار ويكرهون الجديد النافع ويدخلون في الدين ما ليس في الدين. توضأ أبي وذهب يصلي، وبقيت أنظر إلى البئر وإلى الميضأة وأتجول بينهما فتزحلقت وغرقت في الميضأة، وغمر الماء رأسي ولولا أن أبي كان قريباً مني وسمع الحركة وأسرع إلى الميضأة وانتشلني ما كنت من ذلك الحين من الأحياء.. وهكذا نجوت من هذا الحادث على هذا الوجه، وكان يمكن أن تختصر حياتي كلها وتقف عند هذا الحد لو تأخرت في الماء دقيقة ولم يلتفت أبي إلى هذه الرجة — وكم من أرواح نجت بمثل هذا وأرواح ضاعت بمثل هذا أيضاً — وعلى كل فلسفة الحوادث وفلسفة القدر غامضة عجيبة. وبعد ذلك حدثت لي حادثة ثالثة، فقد مر بحارتنا قبيل الغروب سائل يستجدي بالفن؛ فمعه دف يوقع عليه توقيعاً لطيًفا وينشد مع التوقيع قصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينوع النغمات حسب القصائد، ويناغم بين القصيدة والضرب على الدف. أعجبني هذا وطربت له فتبعته، وخرج من حارتنا إلى حارة أخرى فكنت معه حتى أتم دورته، وإذا نحن بعد العشاء وأبي ينتظرني لتأخري، فلما دخلت البيت أخذ يضربني من غير سؤال ولا جواب — ولو كان أبي فناًنا لقبلني لأنه كان يكتشف في أذًنا موسيقية وعاطفة قوية، ولكنه لم ينظر في الموضوع إلا أني تأخرت عن حضور البيت بعد غروب الشمس.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/6/
الفصل السادس
وكانت المدرسة الثانية هي «حارتي» فقد لعبت مع أبنائها وتعلمت منهم مبادئ السلوك، وتبادلت معهم عواطف الحب والكره، والعطف والانتقام، والألفاظ الرقيقة وألفاظ السباب — وانطبعت منها في ذهني أول صورة للحياة المصرية الصميمة في سلوكها وأخلاقها وعقائدها وخرافاتها وأوهامها ومآتمها وأفراحها وزواجها وطلاقها إلى غير ذلك — وكانت حارتنا مثالا للأسر في القرون الوسطى قبل أن تغزوها المدنية بماديتها ومعانيها — فقد ولدت عقب الاحتلال الإنجليزي بنحو أربع سنوات، ولم يكن الفرنج قد بثوا مدنيتهم إلا في أوساط قليلة من الشعب، هي أوساط بعض من يحتك بهم من الأرستقراطيين وأشباههم. أما الشعب نفسه — وخاصة الأحياء الوطنية كحينا — فلم يأخذ بحظ وافر منها، فحارتنا ليس فيها من يتكلم كلمة أجنبية، بل ليس فيها من يلبس البدلة والطربوش إلا عددا قليلا جداً من الموظفين. وليس في بيوتها أثر من وسائل الترف التي أنتجتها المدنية الحديثة. وليس فيها من يقرأ كتاباً حديثا مترجماً أو مكتوباً بالأسلوب الحديث. ومن يقرأ منهم فإنما يقرأ القرآن والحديث والقصص القديمة كألف ليلة وعنترة، أو الكتب الأدبية الخفيفة، ككليلة ودمنة، والمستطرف في كل فن مستظرف. ولم تكن قد سادت النزعة الأوربية التي لا تقدر الجوار فيسكن الرجل منهم بجوار صاحبه السنين ولا يعرف من هو بل قد يسكن معه في بيت واحد أو في شقة بجانب شقته ولا يكلف نفسه مئونة التعرف به والسؤال عن حاله، إنما كانت تسود النزعة العربية التي تعد الجار ذا شأن كبير في الحياة، فكان أهل حارتنا كلهم جيراًنا يعرف كل منهم شئون الآخرين وأسماءهم وأعمالهم، ويعود بعضهم بعضاً عند المرض، ويعزونهم في المآتم ويشاركونهم في الأفراح، ويقرضونهم عند الحاجة ويتزاورون في «المناظر» فكل بيت من طبقة الأوساط كانت فيه حجرة بالدور الأرضي أعدت لاستقبال الزائرين تسمى «المنظرة» وينطقونها بالضاد، ويتبادل في هذه «المناظر» أهل الحارات الزيارات والسمر. كانت حارتنا تشمل نحو ثلاثين بيتاً، يغلق عليها في الليل باب ضخم كبير في وسطه باب صغير وراءه بواب، وهذا الباب بقية من العهد القديم، يحميها من اللصوص ومن ثورات الرعاع وهياج الجنود، فإذا حدث شيء من ذاك أغلق الباب وحرسه البواب، فلما استقر الأمن وسادت الطمأنينة استمر فتح الباب واستغني عن البواب. وتمثل هذه البيوت طبقات الشعب، فكان من هذه الثلاثين بيًتا بيت واحد من الطبقة العليا، ونحو عشرة من الطبقة الوسطى ونحو عشرين من الطبقة الدنيا. فالغني من الطبقة العليا كان شيخاً معمماً، يدل مظهره على أنه من أصل تركي، وجهه أبيض مشرب بحمرة، طويل عريض وقور، ذو لحية بيضاء، مهيب الطلعة له عربة بجوادين، يدقان بأرجلهما فتدق معها قلوب أهل الحارة، هو نائب المحكمة العليا الشرعية وسيد الحارة، إذا حضر من عمله تأدب أهلها، فلا ترفع نساء الطبقة الدنيا أصواتهن، وإذا جلس في فناء بيته تأدب الداخل والخارج، وإذا تجرأت امرأة على رفع صوتها أتى خادمه الأسود فأحضرها أمام الشيخ وزجرها زجرة لم تعد لمثلها، وعلى ألسنتنا نحن الأطفال: الشيخ جاء، الشيخ خرج، وبيته الواسع الكبير لا يشمل إلا سيدة تركية، وخدماً من الجواري السود اللاتي كن مملوكات وعبيداً سوداً — فقد كان في القاهرة أسواق وبيوت لبيع الجواري البيض والسود، يذهب من أراد الشراء فيقلب العبد أو الجارية ويكشف عن جسدها ليرى إن كان هناك عيب، ثم يساوم في ثمن من أعجبه فيشتريه ويكون له ملكاً. وظل هذا الحال إلى عهد إسماعيل، فتدخلت الدول الأوربية ووضعت معاهدة لإلغاء الرقيق وأعتق كل مالك رقيقه، ومع ذلك بقي كثير من العبيد والجواري في بيوت أسيادهم للخدمة ونحوها — وكان يشاع فيما بيننا أن الشيخ يملك ذهباً كثيراً، وأنه يضعه في خزائن حديدية، وأنه يضع كل جملة من الجنيهات في صرة، وأن له يوماً في السنة يفرغ فيه هذا الذهب في طسوت مملوءة بالماء ثم يغسله بالماء والصابون ثم يعده ويعيده، وكان بخيلا مع أنه لم يرزق ولداً، فلم يسمع عنه أنه ساعد أحداً من أهل الحارة بشيء. ولما جاوز السبعين ماتت زوجته فتزوج شابة لعبت بماله وغير ماله، وكثيراً ما يجتمع في منظرته أبي وبعض أهل العلم يتدارسون المسائل الفقهية. وفي يوم المحمل أو الاحتفال بالمولد النبوي يلبس الشيخ «فرجية» مقصبة مذهبة ويركب بغلة ويذهب بها إلى مكان الاحتفال، وعلى الجملة فكان المستبد في حارتنا كاستبداد أبي في بيتنا، واستبداد الحكام في مصالح الحكومة. أما الطبقة الوسطى، فكانت تتألف من موظفين في الدواوين هذا كاتب في ديوان الأوقاف، وهذا كاتب في الدفترخانة، وهذا يعيش من غلة أملاكه وهكذا، دخل كل منهم في الشهر ما بين سبعة جنيهات واثني عشر، يعيشون عيشة وسطاً لا ترف فيها ولا بؤس، ويعلمون أولادهم في الكتاتيب ثم المدارس. وكان أكبر الأثر من هذه البيوت في نفسي لبيتين بجوار بيتنا: بيت موظف في ديوان الأوقاف دين لطيف مرح، فقد اتخذ منظرته مجمعاً لأصدقائه من أهل الحارة وغيرهم يسمرون فيها ليلا، فأحياًنا يحضر مقرئًا جميل الصوت يقرأ القرآن، وأحياًنا يقصون القصص الفكاهية يتعالى معها ضحكهم، وأحياًنا يتبادلون النوادر والنكت، وكنت أتمكن أحياًنا من سماع أحاديثهم فتكون متعة للنفس. والآخر كان كاتباً صغيراً في ديوان الأوقاف أيضاً، ولكنه يهوى الدف والضرب عليه ويجيده، ويؤلف مع زملائه تخًتا يدعى للأفراح والليالي الملاح، هذا يضرب على العود، وهذا على القانون وهذا يغني، فكان من حين إلى حين يدعو زملاءه إلى إقامة حفلة في بيته، وكثيراً ما يكون ذلك، فيقضون ليالي لطيفة في أدوار موسيقية وغناء، وكنت أغذي بها نفسي يوم لم يكن راديو ولا فونوغراف — وكان رئيس البيت — وهو والد هذا المغني صالحاً ظريفًا لا تفوته صلاة. وكان صاحب البيت الثاني وهو الفتى المغني سكيرا لا يكاد يفيق مع أن أباه كان إمام مسجد الحي. وبيوت الطبقة الدنيا يسكنها بناء أو مبيض أو خياط أو طباخ أو صاحب مقهى صغير أو بائع جوال على عربة يدفعها بيديه. وهؤلاء كثيرو الأولاد بؤساء ولا يشعرون ببؤسهم. يعيشون أغلب أيامهم على الطعمية والفول المدمس والبيسار والسمك يشترى مقلياً من الدكان، وقليلا ما يستطيعون أن يطبخوا، كما أن أولادهم لا يعلمون في كتاب ولا مدرسة. وإنما يتركون ليكبروا فيعملوا عمل آبائهم. نساؤهم قد يجلسن سافرات على باب البيت، وكثيرا ما تقوم بينهن الخصومات فيتبادلن السباب أشكالا وألونا. ويستعملن في سبابهن كل أنواع البلاغة من حقيقة ومجاز وتشبيه واستعارة وكناية، ويتناولن فيه الآباء والأمهات والأعراض والتعبير بالفقر وبالفجور وفظائع الأمور، ويطول ذلك ويقصر تبعاً للظروف وقد يتحول السباب إلى ضرب، ويتحول تضارب النساء إلى تضارب الرجال — ولولا الشيخ في حارتنا لكان من ذلك الشيء الكثير. ولكن مع اختلاف هذه الطبقات فقد كنا — نحن الأطفال — ديمقراطيين، لا نقيم كبير وزن لغنى ولا فقر ولا تعلم ولا جهل، فكنا نلعب سواسية، ونتخاطب بلغة واحدة ليس فيها تكبر ولا ضعة، وكان أحب أصدقائي إلي ابن كاتب في الدفترخانة وابن صاحب مقهى وابن فقيه كفيف يقرأ في البيوت كل يوم صباحاً. وكان من أعجب الشخصيات في حارتنا «الشيخ أحمد الشاعر» رجل بذقن طويل أسود، يلبس جلبابا أبيض وعمامة، ويتأبط دائماً كتاباً لف في منديل أحمر، له صوت أجش، وظيفته التي يعيش منها أنه بعد صلاة العشاء يذهب إلى مقهى قريب من الحارة ويصعد فوق كرسي عال، يجلس عليه ويتحلق حوله الناس، ثم يفك المنديل ويخرج الكتاب وهو قصة عنترة أو «الزير سالم» أو «الظاهر بيبرس» ويقرأ فيه بصوته العالي. متحمساً في موضع التحمس متخاذلا في موضع التخاذل، مغنياً بما يعرض من الشعر فإذا كان في القصة بطلان تحمس فريق لبطل وتحمس فريق لآخر. وقد يرشوه أحد الفريقين ليقف في نهاية الجلسة على موقف رائع لبطله — وله أجر من صاحب المقهى لأنه يكون سبباً لازدحام مقهاه بالزائرين. ولكن أعجب من هذا «الشيخ أحمد الصبان»، لقد كان يبيع الفحم في دكان على باب الحارة، وكانت حالته لا بأس بها، ثم دهمه الزمن الذي لا يرحم، فعمي وكسدت تجارته ولم يجد له مرتزًقا، وهجر بيته الكبير وسكن حجرة أرضية هو وزوجته يأكلان من الصدقة، فما هو إلا أن سكنت جسمه العفاريت وصار يغيب عن الوجود حينا، ثم يتغير صوته العادي ويتكلم بصوت جديد يخبر به عن المغيبات، وإذا هو يصير الشيخ أحمد الصبان، بعد أن كان عم أحمد؛ وإذا هو يشتهر في الحارة بأنه يعلم الغيب ويخبر بالمستقبل، وفي قدرته بواسطة التعازيم والأحجبة أن يحبب الزوجة إلى زوجها والزوج إلى زوجته، وأن يخبر بالولد المفقود والمال المسروق؛ ثم ينتقل الخبر من حارتنا إلى ما جاورها وإلى ما وراء ذلك. فكان الناس يأتونه من مكان سحيق ليشهدوا عجائب الشيخ أحمد الصبان. واتسع رزقه وصلح حاله، وانتقل من حجرته الضيقة إلى مسكن فسيح، وانقسم فيه أهل الحارة قسمين: قليل منهم يقول إنه نصاب وكثيرون يقولون «سبحانه ما أعظم شأنه، يضع سره في أضعف خلقه»؟!.. كانت نسبة المواليد في الحارة نسبة عكسية مع الطبقات، فأفقر الطبقات أكثرها عدداً؛ تلد سيدة ستة أو ثمانية أو عشرة والبيت الغني الوحيد ليس به ولد — وكما كثر عدد المواليد كثر عدد الوفيات، فالحالة الصحية أسوأ ما يكون، لا عناية بنظافة ماء ولا بنظافة أكل؛ وهم لا يعرفون طبيباً، وإنما يمرض المريض فيعالجه كل زائر وزائره — كل يصف دواء من عند العطار جربه فنجح، والمريض تحت رحمة القدر. وقد يصاب أحد بالحمى فيزوره كل من أراد، ويسلم عليه ويجلس بجانبه طويلا، ويحدثه طويلا، فتكون العدوى أمراً سهلا ميسوراً، ولذلك كان كثيراً ما يتخطف الموت أصدقائي من الأطفال حولي. ومنظر آخر عجيب شاهدته في صباي ثم انقرض، ذلك أن فتيان حينا ممن يشتغلون في الحرف والصنائع قد يتخاصمون مع فتيان أمثالهم من الحي الآخر، كأن يتخاصم حي المنشية مع حي الحسينية، فيتواعدون على الالتقاء في جبل المقطم في يوم معين، ويجتمعون إذ ذاك فينقسمون إلى معسكرين، معسكر المنشية ومعسكر الحسينية، وتقوم الحرب بينهما، وأدوات الحرب الطوب والحجارة الصغيرة والعصي الغليظة. وتشتد المعركة وتسفر عن جرحى أو أحياًنا عن قتلى وشاهدت هذا المنظر يوماً فرعبت منه، حتى إذا أمسى المساء وقف القتال وتواعدوا على يوم آخر، وطووا صدورهم على الانتقام والأخذ بالثأر، وتمتد الخصومة وراء المعسكرين، فيتربص أهل المنشية لزفة عريس من أهل الحسينية ويفاجئونهم في أشد أوقات فرحهم، وينهالون عليهم ضرباً، ويقلبون الفرح غماً، وهكذا دواليك. وعلى رأس كل مجموعة من الحارات سوق، فيها كل ما تحتاجه البيوت، وهو يمثل الوحدة الاقتصادية للأمة. وبجانب السوق كل مرافق الحياة الاجتماعية: مكتب لتعليم الأطفال، ومسجد لصلاة أهل الحي، وحمام للرجال أياماً، وللنساء أياماً، ومقهى يقضون فيه أوقات فراغهم، ويتناولون فيه كيوفهم، من قهوة وشاي وتنباك ونحو ذلك. وفي الحي مقاه متعددة، منها ما يناسب الطبقة الدنيا، ومنها ما يناسب الطبقة الوسطى وهكذا. فقل أن يحتاج أهل الحي إلى شيء أبعد من حيهم، ومن أجل هذا كانت دنياي في صباي هي حارتي وما حولها. وأطول رحلة أرحلها خارج حينا كانت يوم تذهب أمي وتأخذني معها إلى الغورية أو حي الموسكي لشراء الأقمشة، أو تأخذني إلى بيت خالي قريباً من باب الخلق، وهذه كل دنياي. كانت الحارة وما حولها مدرسة لي، تعلمت منها اللغة العامية القاهرية الصميمة، من ألفاظها وأساليبها وأمثالها وزجلها. وكان حينا — كما قلت — يمثل الحياة القاهرية الخالصة، فمثلها مثل مراكز اللغة الفصيحة التي كان يرحل إليها علماء اللغة لعليا قيس وسفلى هوازن، وتعلمت منها كل العادات والتقاليد البلدية، ورأيت كيف تقام الأفراح عند الطبقة الدنيا وكيف يفرحون ويمرحون وكيف يغنون وما يغنون، ورأيت الفروق في كل ذلك بين عادات الطبقة الدنيا والوسطى والعليا، ورأيت كيف تقوم لذائذ الحياة وآلامها عند كل طبقة. ومرة شاهدت حفلة «زار» لسيدة تدعي أنه ركبها عفريت سوداني فاجتمعت السيدات عندها والأطفال وحضرت شيخة الزار وهي المسماة بالكدية وأعوانها من السيدات والرجال بطبولهم وطبولهن وبدءوا في ضرب على الطبل على نغمة «يا سلام سلم» فلم يتحرك أحد لأن الأعصاب لم تكن خمدت بعد ثم طلب إلى الكودية أن تضرب نغمة سودانية على نغمة «صلوات الله عليه وسلم» فبدأ بعض الحاضرات يترنح ويفقر وبعضهن يرقص رقصاً بديعاً على الأسلوب الحديث في الرقص فهن يهززن رءوسهن ويدلين شعورهن مرة ويرفعن رءوسهن ليدلين شعورهن مرة أخرى وادعى بعضهن وقد يكون صحيحاً أنهن فقدن الوعي وأن حركاتهن تأتي عن غير شعور، وأطلق البخور في بيت صاحبة الزار مما هدأ الأعصاب وحرك النفوس، ثم ذبح خروف وأفراخ وغمست بعض ثياب السيدة في الدم ووضعت عليها وفي كل ذلك كانت تغني الكدية وأتباعها بأغان ذات كلمات أعجمية لم أتبينها، ومع المحاولات الكثيرة في أن أفقر كما يفقرن لم تتحرك أعصابي ولم تهتز نفسي، وكان منظراً غريباً جميلا وادعت فيه سيدة الزار بعد ذلك أنها قد هدأت أعصابها وشفيت من مرضها، والظاهر أن مرضها كان مرض وهم زال بالزار الذي هو عمل الوهم. وهكذا شاهدت في الحارة الزار والأفراح والمآتم واستفدت من كل ما سمعت ورأيت. ثم رأيت المعاملات الاقتصادية بين أهل الحارة وأهل السوق، والشعائر الدينية تقام في المسجد، والحمامات يستحم فيها الرجال والنساء، كل ذلك كان دروساً عملية وتجارب قيمة لا يستهان بها، فإذا أنا قارنت بين نفسي في تجاربي هذه التي استفدتها من حارتي، وأولادي في مثل سني التي أتحدث عنها وقد ربوا تربية أخرى، فلا جيران يعرفون، ولا بأهل حارة يتصلون، ولا مثل هذه العلاقات التي ذكرتها يشاهدون؛ أدركت الفرق الكبير بين تربيتنا وتربيتهم، وكثرة تجاربنا وقلة تجاربهم، ومعجم لغتنا ومعجم لغتهم، ومعرفتنا بصميم شعبنا وجهلهم.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/7/
الفصل السابع
وختمت في هذا الكتاب ألف باء على طريقة عقيمة جداً، فأول درس كان ألف (ألف لام فاء) وهو درس حفظته ولم أفهمه إلا وأنا في سن العشرين، إذ كان معنى ذلك أن كلمة الألف مركبة من ألف ولام وفاء، من أجل ذلك كرهت هذا الكتاب وهذا التعليم وسيدنا، وتنقلت في أربعة كتاتيب من هذا القبيل كلها على هذه الصورة، لا تختلف إلا في أن الحجرة واسعة أو ضيقة، وأن سيدنا لين أو شديد. وأنه أعمى العينين أو مفتوح العينين، أما أسلوب التعليم فواحد في الجميع. وذهبت إلى الكتاب الثاني وكان سيدنا فيه رجلا غريب الأطوار يعقل حيًنا ويجن حيًنا، ويشتد ويلين، ويضحك ويبكي، وإذا سار في الشارع جرى فضحك من جريه الصغار، لا أذكر ماذا فعلت فنادى ولدين قويين وأدخلا رجلي في الفلقة وأمسك بعصا من جريد النخل وأخذ يهوي بها على قدمي بكل قوته حتى شق قدمي شًقا طويلا وتفجر الدم منها، ثم أسلمني لهذين الولدين يحملانني إلى بيتي، وكان هذا آخر العهد بهذا الكتاب. على كل حال لبثت في هذه الكتاتيب الأربعة نحو خمس سنوات حفظت فيها القراءة والكتابة، وكان لي من حجرة أبي في البيت يوم الجمعة وفي أوقات الفراغ كتاب آخر. سيدنا فيه هو أبي، أحفظ فيه جديداً وأسمع فيه قديماً. فأين ذلك مما نحن فيه الآن، الأطفال في مثل طبقتي، إنهم يذهبون إلى رياض الأطفال فتعلمهم سيدات مهذبات أو آنسات ظريفات، يعلمن على أحدث طراز من البداجوجيا. ويتدرجن بهم من اللعب إلى القراءة، ويتحايلن على تشويق الطفل إلى الألف والباء، ويسرقن التعليم عن طريق الصور أو القصص أو نحو ذلك، ويقلبن ما كنا فيه من عيش جاف إلى حلوى. وأكثر أوقات النهار مرح ولعب، ودروس كأنها لعب، وأناشيد ظريفة وموسيقى لطيفة، وطبيب يزور المدرسة كل يوم، ومريض لا يحضر إلى المدرسة إلا بعد أن يأتي بشهادة أنه صحيح، والعلم يعطى كما يعطى كوب من الشربات، وبسكويت ولبن وشاي بدل الفول النابت والمخلل، وضرب على «البيان» بدل الضرب على الأبدان، ونحو ذلك من ضروب النعيم. ولكن على كل حال أخشى أن نكون أفرطنا في أيامنا في الخشونة وأفرطنا أيام أبنائي في النعومة، والحياة ليست جداً محضاً ولا هزلا محضاً ولا نعيما صرًفا ولا شقاء صرًفا، وخير أنواع التعليم ما صور صنوف الحياة. ولم يكن لي سلوى في هذا الدور من الحياة إلا لعبي في الحارة مع زملائي بعض الوقت، فنلعب «البلي» وكرة اليد ونتسابق في الجري ونحو ذلك، ثم أحاديث جدتي في البيت وقراءة أخي علينا بعض كتب القصص، ثم لا شيء غير ذلك.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/8/
الفصل الثامن
كل شيء حولي كان كفيلا أن يميت الذوق ويبلد الحس ويقضي على الشعور بالجمال؛ فحارتنا — إذا تجاوزت بيت الشيخ — متربة، لا يمسها الماء إلا إذا أنزل المطر أحالها بركاً، وإلا ما يفعله السكان — من حين إلى آخر — إذ يفتحون شبابيكهم ويقذفون منها بما تجمع من ماء غسل الثياب أو غسل الصحون وأحياًنا لا تتحرى السيدة ما تفعل فينزل هذا الماء القذر على بعض المارة فيكون النزاع ويكون السباب. وشوارعنا قذرة لا يعنى فيها بكنس ولا رش، وإذا كنست أو رشت فالمارة خليقون أن يفسدوا كل شيء في لحظة، فورق يرمي حيثما اتفق، وقشور ومصاصات قصب وروث بهائم ونحو ذلك، فإذا الشوارع بعد ساعة مزبلة عامة؛ وبيتنا لم يكن يعنى بتربية الذوق أية عناية، فليس فيه لوحة جميلة ولا صورة فنية، ولا أثاث منسق جميل، ولا زهرية ولا أزهار، وكل ما أذكره من هذا القبيل أن أبي كان يشتري في موسم النرجس بعضاً من أزهاره ويضعه في كوب من الماء على الشباك، ويشمه من حين لآخر، ولست أدري لماذا أعجب بالنرجس وحده وموسمه قصير، وليس أجمل الزهور؟ ولماذا لم يعجب بالورد والياسمين وهما أجمل وأرخص وموسمهما أطول؟ وربما أن السبب في ميله إلى النرجس دون غيره ليس لذوق ولا حب للجمال، ولكن أظن أنه قرأ حديثاً يمدح النرجس بأنه يمنع من البرسام، والبرسام هو لوثة من الجنون، فظل الحديث يعمل في نفسه، ولذلك كان يشتريه. ولكن ماذا تعمل هذه اللفتة القصيرة بجانب ما يغمرنا من قبح، في الحارة والشارع والكتاتيب وما فيها من منظر الحصير ومنظر سيدنا ومنظر الزير والمواجير؟ لقد كانت كل هذه تكفي لإماتة الشعور بكل جمال، والشعور بالجمال أكبر نعمة، وتربية الذوق خير ما يقدم إلى الناشئ حتى من ناحية تقويم أخلاقه. على كل حال، أحمد لأبي أن أخرجني من هذه الكتاتيب الكريهة، وأدخلني مدرسة ابتدائية هي مدرسة «أم عباس» أو كما تسمى رسميا «والدة عباس باشا الأول» أو كما تسمى اليوم مدرسة بنباقادن. كانت مدرسة نموذجية، بنيت على أفخم طراز وأجمله: أبهاء فسيحة فرشت أرضها بالمرمر وحليت سقوفها بالنقوش المذهبة، وفي أعلى المدرسة من الخارج إطار كتبت عليه آيات قرآنية كتبها أشهر الخطاطين بأحسن خط. وموهت بالذهب؛ فكان هذا الجمال الجديد عزاء لذلك القبح القديم. ولبست بدلة بدل الجلباب، ولبستُ طربوشاً بدل الطاقية وأحسست علواً في قدري، ورفعة في منزلتي، وخالطت تلاميذ الطبقة الوسطى أو العليا لا نسبة بينهم في نظافتهم وجمال شكلهم وبين أبناء الكتاتيب وأبناء الحارة. كانت المدرسة يصرف عليها من أوقاف رصدتها عليها والدة عباس الأول فتلاميذها بالمجان، ولها بعض التقاليد الخاصة بها فيُجمع بعض التلاميذ مرتين في السنة، ويذهبون إلى قصر الوالدة لتوزع عليهم بدلتان، بدلة للشتاء وبدلة للصيف ثم يخرجون إلى الشارع بملابسهم الجديدة إعلاًنا لما تسدي الواقفة من خير، وفي المواسم يذهبون إلى مدفن الواقفة، ويقرءون على روحها الفاتحة، وما تيسر من الدعوات ثم يوزع عليهم الفطير والحلوى. وشهدت في هذه المدرسة ثلاثة تطورات للتعليم. ولعلها كانت هي تطورات التعليم في مصر. فقد كانت المدرسة لتعليم القرآن وشيء من الحساب واللغة العربية والتركية، ثم انكمش هذا النوع من التعليم فأصبح فصلا واحداً بعد أن كان يعم المدرسة كلها وسمي قسم الحفاظ وأنشئت بجانبه فصول على النمط الحديث، تعلم فيها الجغرافيا والتاريخ والحساب مع اللغة الفرنسية، وقد نمت هذه الفصول حتى اكتسحت قسم الحفاظ؛ وشهدت بالمدرسة قبل خروجي منها منظراً جديداً، فقد رأيتهم يجمعون الطلبة الضعاف في اللغة الفرنسية لينشئوا بهم فصولا لتعليم اللغة الإنجليزية، ثم اكتسحت اللغة الإنجليزية اللغة الفرنسية. دخلت أولا قسم الحفاظ وبعد سنة تحولت إلى قسم اللغة الفرنسية في السنة الثانية. وإذا كان علي واجب من المدرسة أتممته على عجل قبل أن أذهب إلى أبي في المسجد، وليس لي من الراحة إلا عصر يوم الخميس ويوم الجمعة. على أني كثيراً ما أحرم أيضاً من صبح يوم الجمعة لعمل واجبي المدرسي، أو القراءة مع أبي. وهو برنامج غريب متناقض الاتجاه. سببه أن أبي كان حائرا في مستقبلي، أيوجهني إلى الجهة الدينية فيعدني للأزهر، أو يوجهني الوجهة المدنية فيعلمني في المدرسة الابتدائية والثانوية. وكنت أدرك حيرته من كثرة استشارته لمن يتوسم فيه حسن الرأي. وهم لا ينقذونه من حيرته؛ فمنهم من يشير بهذا، ومنهم من يشير بذاك، فأمسك العصا من وسطها. فكان يعدني للأزهر بحفظ القرآن والمتون، ويعدني للمدارس المدنية بدراستي في المدرسة. وهذا أسوأ حل، ولكن جزاه الله خيراً على تعبه المضني في التفكير في مستقبلي. وغفر الله له ما أرهقني به في دراستي. كان هذا الضغط الشديد مثاراً لثورتي أحياًنا. فربما كنت أهرب من فقيه المكتب ظهراً، أو من الذهاب إلى أبي عصراً، أو أدعي المرض وليس بي مرض، ولكن إذا اكتشف هذا كان جزاؤه الضرب الشديد، فتخمد ثورتي؛ ولقد جربت أمي حظها. فكانت تتدخل في الأمر حين يضربني، ولكنها رأت أنها إن تدخلت حين هذا الغضب الشديد والضرب الشديد، فقد يتحولان إليها.. فكان إذا حدث هذا فيما بعد اكتفت بالصراخ والعويل من بعيد. استمررت في هذه المدرسة، وكنت متفوًقا في اللغة العربية بفضل ما آخذه من الدروس على والدي، وفوق المتوسط في الحساب، وضعيًفا في اللغة الفرنسية، لأن أبي لم يترك لي الزمن الكافي لمذاكرتها. تعلمت من المدرسة دروسها، وتعلمت من التجارب أكثر من دروسها، فلعبي مع التلاميذ، ومبادلتي إياهم العواطف، ورؤيتي إياهم يتصرفون في الأمور تصرًفا مختلًفا حسب مزاجهم وعقليتهم، يغضبون أو يحلمون، ويثورون أو يهدءون، ويظلمون أو يعدلون — كل هذه كانت دروساً في الحياة أكبر من دروس العلم، بل المدرسون أنفسهم كانوا معرضاً لطيًفا، فيه الجمال والقبح، والرعونة والسكينة، وما شئت من ألوان الحياة — كان مدرس اللغة الفرنسية بطيء الحركة، ثقيل اللسان، معوجه، جاحظ العينين أحمرهما من أثر الحمار لا يكترث لدرسه، ولا لتلاميذه، سواء عنده ذاكروا أو لم يذاكروا، تقدموا أو لم يتقدموا. ومدرس الحساب كفء في مادته، مهتم بطلبته، يبذل أقصى جهده في درسه، ولكنه غريب الأطوار، يهيج أحياًنا ويشتد غضبه فيضرب، وقد يشتد ضربه فيكسر أو يجرح، ويكون في منتهى اللطف والظرف أحياًنا، فيستغرق في الضحك لأتفه سبب، وقد يحدثنا عن دخائل بيته، وأسرار نفسه مما لم تجر العادة بذكره. ومدرس اللغة العربية من الصنف الذي نسميه «ابن بلد» يحول كل شيء إلى نكتة، ونكتة رائعة جميلة مؤدبة، لا يؤذي ولا يضرب، ولكنه ينتقم أحياًنا من التلميذ بالسخرية والنكتة اللاذعة. ومدرس الدين رجل سوري يلبس لباس الشاميين، جبة وقباء، وطربوش تركي، معمم عمة سورية، طويل عريض بدين، ثقيل الروح، يستثقله المدرسون والطلبة على السواء. وبعض المدرسين يحرضوننا على معاكسته، فكنا نبذل جهدنا في حصته لاستخراج أفانين العبث به؛ ونفرح لدرسه لأنه مثار السخرية والضحك. ومدرس الخط رجل تركي، جميل الوجه، بهيج الطلعة، له لحية بيضاء، تستخرج من ناظرها الإكبار والإجلال، يلبس اللباس التركي الشرقي ويتكلم العربية بلهجة تركية، هادئ الطبع، بطيء الحركة خافت الصوت لا يضرب ولا يؤذي ولا يسب، وهو مع ذلك محترم، لا تسمع في حصته صوًتا. وناظر المدرسة رجل طيب ولكنه لا يفقه شيئًا من أساليب التربية، ضبط مرة تلميًذا يسرق كراساً فأخذه وعلق في رقبته لوحة من الورق المقوى، كتب عليها بخط الثلث الكبير «هذا لص» حتى إذا وقف الطلبة في طابور العصر أمسكه الناظر بيده، ومر به على التلاميذ ليؤدبه والحق أنه لم يؤدبه ولكن قتله، فلم أر هذا التلميذ يعود إلى المدرسة بعد. وأغلب الظن أنه انقطع عن المدارس بتاًتا. وهكذا كانت المدرسة بتلاميذها ومدرسيها وناظرها تمثل رواية مملوءة بالحياة والحركة والمناظر تكون أحياًنا مأساة، وأحياًنا ملهاة. كنت في هذه السن متديًنا شديد التدين. وكان بالمدرسة مسجد صغير أعد إعدادا حسًنا، فكنت أصلي فيه الصلوات لأوقاتها. وكنت أقوم الليل وأتهجد وأحب الله وأخشاه. وتنحدر الدموع من عيني أحياًنا في ابتهالاتي، وأسجد فأطيل السجود والدعاء، وأحفظ أدعية من الابتهالات والتوسلات. ومن شدة فكري في الله رأيته في منامي مرة، على شكل نور يغمر الغرفة ويخاطبني قائلا: اطلب ما أدلك به على قدرتي فطلبت أن يعمل من قطعة حديد سكيًنا، ومن قطعة خشب شباكاً، ففعل. فآمنت بقدرته وحكيت المنام لأهلي، ففرحوا به فرحاً عظيماً، وزادوا في محبتي. واستمررت في دراستي في المدرسة، فانتقلت من السنة الثانية إلى الثالث ومن الثالثة إلى الرابعة، وأبي لا يهدأ من التفكير أيتركني أكمل دراستي، أم يخرجني من المدرسة ويدخلني الأزهر، ويسألني فأجيبه: «أحب أن أبقى في المدرسة»، ويسأل من يعرفه من موظفي الحكومة فيوصونه ببقائي في المدرسة. ويسأل من يعرفه من مشايخ الأزهر فيوصونه بإدخالي الأزهر؛ ويتردد ويتردد ثم يستخير الله ويخرجني من المدرسة إلى الأزهر.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/9/
الفصل التاسع
ها أنا في سن الرابعة عشرة تقريباً، يلبسني أبي القباء والجبة والعمة والمركوب بدل البدلة والطربوش والجزمة، ويكون منظري غريباً على من رآني في الحارة أو الشارع، فقد عهدوا أن العمامة لا يلبسها إلا الشاب الكبير أو الشيخ الوقور أما الصغير مثلي فإنما يلبس طربوشاً أو طاقية، ولذلك كانوا كثيراً ما يتضاحكون علي فأحس ضيًقا أو خجلا أو أتلمس الحارات الخالية من الناس لأمر بها: والمصيبة الكبرى كانت حين يراني من كان معي في المدرسة، فقد كان يظن أني مسخت مسخاً وتبديت بعد الحضارة، وكأن الذي يربط بيني وبينهم هو وحدة لبسي ولبسهم لا طفولتي وطفولتهم، ولا زمالتي وزمالتهم، فنفروا مني مع حنيني إليهم، وسرعان ما انقطعت الصلة بيني وبينهم، فانقبض صدري لأني فقدت أصدقائي القدامى ولم أستعض عنهم أصدقاء جدداً، فكنت كالفرع قطع من شجرته أو الشاة عزلت عن قطيعها، أو الغريب في بلد غير بلده. وتضرعت إلى أبي أن يعيدني إلى مدرستي فلم يسمع، وأن يعفيني من العمة فلم يقبل، وما آلمني أني أحسست العمامة تقيدني فلا أستطيع أن أجري كما يجري الأطفال ولا أمرح كما يمرح الفتيان، فشخت قبل الأوان، والطفل إذا تشايخ كالشيخ إذا تصابى كلا المنظرين ثقيل بغيض، كمن يضحك في مأتم أو يبكي في عرس. ولم يكن أمامي إلا أن أحتمل على مضض. هذا أبي يأخذني معه كل صباح يوم فأسير في شوارع لا عهد لي بها، وأمشي فأطيل المشي، لا كما كان العهد يوم كنت في المدرسة، إذ كانت بالقرب من بيتنا، وأخيراً أصل إلى بناء كبير، فيقول أبي هذا هو الأزهر، ولا أدري كيف كان وقع هذه الكلمة على نفسي، فالأزهر شيء غامض لا أعلم كنهه ولا نظامه ولا منهجه ولا مستقبله؛ أقدم عليه في هيبة وغموض، وأسمع عند الباب صوتاً غريباً، دوياً كدوي النحل يضرب السمع ولا تستوضح له لفظاً، فتأخذني الرهبة مما أسمع، وأرى أبي يخلع نعليه عند الباب ويطويهما ويمسكهما بيده فأعمل مثل عمله، وأسير بجانبه قليلا في ممشى قصير، أدخل منه على إيوان كبير لا ترى العين آخره، فرش كله بالحصير وامتدت أعمدته صفوًفا، كل عمود وضع بجانبه كرسي عال مجنح قد شد إلى العمود بسلسلة من حديد، وجلس على كل كرسي شيخ معمم كأبي، بيده ملازم صفراء من كتاب، وأمامه حلقة مفرغة أحياًنا وغير مفرغة أحياًنا، يلبس أكثرهم قباء أبيض أو جلباباً أبيض عليه عباءة سوداء، وأمامه أو بجانبه مركوبه، ويمسك بيده ملزمة من كتاب كما يمسك الشيخ، والشيخ يقرأ أو يفسر والطلبة ينصتون أو يجادلون وبين العمود والعمود بعض الطلبة يجتمعون فيأكلون أو يذاكرون. تخطيت هذه الجموع في غرابة، ونظرت إليها في دهشة، وأحياًنا أرى في بعض الأركان كتاباً ككتابي القديم. فأفهم أن الأزهر امتداد للكتاب لا امتداد للمدرسة. ثم نخرج من هذا الإيوان إلى فناء الأزهر أو صحنه فأراه سماوياً غير مسقوف، ومبلطاً غير مفروش، وهنا وهناك فرشت ملاءة بيضاء أو عباءة سوداء صفف عليها خبز ريفي وعرض في الشمس ليجف. وسألت أبي فقال إنه بعض زاد المجاورين أحضروه معهم من ريفهم أو أرسله إليهم آباؤهم، فهم يشمسونه ثم يختزنونه في بيوتهم. هذا هو كل الأزهر كما رأيته أول مرة. وفهمت من هذا أني سأكون أحد هؤلاء المتحلقين، وسأجلس على الحصير كما يجلسون، وأسمع إلى هذا الشيخ كما يسمعون، وآكل في ركن من أركانه كما يأكلون، وقارنت بين حصير الأزهر ومقاعد المدرس، ومدرس الأزهر ومدرس المدرسة، وفناء الأزهر حيث يشمس الخبز وفناء المدرسة حيث نلعب ونمرح، فكانت مقارنة حزينة.. وأخذت إلى رواق من أروقة الأزهر. وتقدمنا إلى شيخ أخذ منا طلب الالتحاق وامتحنني في القرآن فأحسنت الإجابة فقيدني طالباً، وخرجنا من باب آخر علمت بعد أنه يسمى «باب المزينين» كما أن الباب الذي دخلت منه يسمى باب الصعايدة، وسمي باب المزينين لأن على رأسه حوانيت حلاقين لمجاوري الأزهر وشيوخهم، ورأيت على هذا طائفة من الطلبة — من مثل الذين رأيتهم يتحلقون حول الشيخ — وعلى يدهم أرغفة من الخبز يعرضونها للبيع، فسألت أبي عن هذا، فقال: إن طلبة الأزهر إذا تقدموا في العلم أعطي لكل طالب أرغفة ثلاثة أو أربعة أو أكثر كل يوم، وقد يزيد هذا عن حاجتهم فيبيعونه كله أو بعضه ليشتروا بما حصلوا من الثمن إداماً لهم، وكل عالم من علماء الأزهر له كل يوم عشرة أرغفة أو أكثر، وإذا تقدمت في العلم كان لك مثل هذا، ولكنك لا تبيعه ولا تقف مثل هذا الموقف إن شاء الله. وعدت إلى بيتي والهم يملأ قلبي، ولكن الزمن بلسم الهموم، فقد أخذ يقطع صلتي بالمدرسة وبأصدقائي فيها، وينسيني ذكرياتي الماضية، ويشغل قلبي بالحياة الحاضرة، ويؤلف بيني وبين البيئة الجديدة. بعد أن يقيد الطالب في دفتر الأزهر يترك وشأنه، فهو يختار العلوم التي يدرسها، والكتب التي يقرؤها، والمدرسين الذين يدرسونها، فإذا لم يرزق بمرشد يرشده غرق في هذا البحر الذي لا ساحل له، وليس يعرف أحد أغاب أم حضر، تقدم في العلم أم تأخر، وليس يمتحن آخر العام فيما درس، ولا يسأله أحد ماذا صنع، فإن احتاج الطالب في شأن من الشئون أن يأخذ شهادة بأنه حضر الكتب الفلانية على المشايخ الفلانيين فما عليه إلا أن يكتب الورقة كما يشاء وبالكتب التي يشاء وبالمدرسين الذين يشاء، ثم يمر عليهم فيوقعونها في سهولة ويسر، ولو كانت هذه أول نظرة من المدرسين للطالب، ولو كانت سنة لا تتفق وهذه الكتب العويصة التي يستخرج الشهادة بسماعها، فأي ضرر في ذلك «وبارك الله فيمن نفع». وضع لي أبي برنامجاً أن أحضر درساً في الفقه الحنفي صباحاً — وإنما اختار فقه الحنفية لأنه هو الفقه الذي يُعد للقضاء، إذ يشترط في القاضي الشرعي أن يكون على مذهب الإمام أبي حنيفة — وأن أجود القرآن على شيخ ضحى، وأن أحضر درساً في النحو ظهراً، وأن أحضر درساً في العلوم التي كانت تسمى العلوم العصرية — وهي الجغرافيا والحساب — عصراً، وبهذا ينتهي اليوم.. ولم تكن أوقات الدروس كما عهدتها في المدرسة تؤقت بساعات النهار، إنما تؤقت بالصلوات فدرس النحو عقب صلاة الظهر، ودرس الجغرافيا والحساب عقب صلاة العصر، ودرس التفسير والحديث عقب صلاة الفجر، ودرس الفقه عند طلوع الشمس؛ وهناك دروس إضافية كالتي كان يلقيها الشيخ محمد عبده في البلاغة أو التفسير عقب صلاة المغرب. على كل حال بدأت أسير على هذا المنهج، أصحو عند آذان الفجر مهما كان الشتاء قارساً، وأصلي مع أبي، وألبس ملابسي، وأخرج من بيتي في الظلام، والدنيا نائمة والأصوات هادئة، إلا صوت الديك يؤذن، أو صوت الكلب ينبح، وأسير طويلا من بيتي إلى الأزهر، فلم يكن ترام ولا سيارات عامة، ولو كانت ما أسعفتني في هذا الوقت المبكر، والمسافة بين بيتنا والأزهر نحو نصف ساعة على الأقل، وأحسن ما كان في الطريق باعة الفطور، فإن كان اليوم فقيراً اكتفيت بطبق من «البليلة» يجلس بائعها على قارعة الطريق وأمامه طست كبير مليء بالذرة المغلية الناضجة، ووضع على نار هادئة حتى يبقى ساخًنا، وبجانبه ماعون كبير مليء سكراً ناعماً، أشتري منه بربع قرش فيملأ لي طبًقا من الطست ويرش عليه من السكر، فآكله وأنا واقف وأمسح فمي بالمنديل وأحمد الله وأستمر في السير، وإن كان اليوم غنياً عطفت على دكان للفطير فأطلب من البائع فطيراً بقرش، فيقطع قطعة من العجين مكورة، ويدحورها في لمح البصر، ويضعها في صحن ويأخذ بيده قليلا من السمن يرشه عليها، ويدخل الصحن في الفرن، وبعد دقيقتين أو ثلاث يخرجها ناضجة ناضرة ويضع عليها السكر، وتقدم إلي على مائدة متواضعة لا بالنظيفة ولا بالقذرة، فآكلها في لذة ونهم، فإذا فرغت منها تقدمت إلى الأمام خطوة أو خطوتين داخل الدكان فأرى مقطًفا صغيراً مليئا بالنخالة، فأفرك يدي بها وآخذ منها فأدعك فمي وأحمد الله أكثر مما حمدته على البليلة. وإن كان يوماً وسطاً لا بالغني ولا بالفقير عطفت على رجل بالقرب من الأزهر أبيض الوجه في حمرة، ضخم الجسم يلبس جلباباً أزرق، وعلى رأسه عمة حمراء، وأمامه قفص عال مستدير، عليه صينية كبيرة من البسبوسة، قد أفرغ من وسطها مربع ثم ملئ سمًنا، فأعطيه نصف قرش ويعطيني مربعاً من البسبوسة بعد أن يقطر عليه شيئًا من السمن، وإذا أراد أن يكرمني اختار لي قطعة في وسطها لوزة مقشورة. وأصل إلى مسجد بالقرب من الأزهر قبل طلوع الشمس، أنتظر الشيخ حتى يحضر، وكانت المساجد حول الأزهر تلقى فيها الدروس كالأزهر، ويختارها العلماء الذين يحبون الهدوء والاستقلال. جاء الشيخ وجلس على كرسيه وجلسنا أمامه، وكان شيخاً وقوراً أنيقاً في ملبسه، يشع الصلاح من وجهه، جميل الوجه ذا لحية سوداء، وكان قاضياً شرعياً، اسمه الشيخ صلاح.. وبدأ يقرأ الدرس بعد أن بسمل وحمدل ودعا بقوله: «اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت إذا شئت جعلت الصعب سهلا». وكان الكتاب الذي في يده وفي يدنا شرح الطائي على الكنز، وموضوع الدرس الوضوء — قرأ المتن والشرح ففهمتهما ولكنه سبح بعد ذلك في تعليقات واعتراضات على العبارة وإجابات على الاعتراضات لم أفهم منها شيئًا. وبعد أن أحضرت كل ذهني ووجهت إليه كل انتباهي لم أفهم أيضاً، فشرد ذهني وأخذت أفكر وأستعيد في ذكرى المدرسة التي كنت فيها ودروسي التي كنت أفهمها وأتفوق فيها، وأصدقائي الذين كنت أزاملهم في الفصل، وهؤلاء الطلبة الذين أمامي وليس لي بهم صلة، وأسبح وأسبح في الخيال، ثم يعود ذهني إلى ما يلقيه الشيخ، فأجده في الجملة نفسها وفي الاعتراضات والإجابات نفسها، ويسأل بعض الطلبة أسئلة فلا أفهم ما يسألون، ويجيب الشيخ فلا أفهم ما يجيب، واستمر الحال على هذا المنوال ساعتين أو أكثر من غير أن ينتقل الشيخ من هذه الجملة، وسررت عندما قال الشيخ «والله أعلم» إيذانا بأن الدرس قد انتهى. وقمت وقام الطلبة يحتاطون بالشيخ، ويقبلون يده فلم أسلم ولم أقبل، وخرجت من هذا المسجد إلى الأزهر نفسه. وقد اعتاد الطلبة بعد درس الفقه أن يفطروا، وينقلب إذ ذاك إيوان الأزهر وصحنه وأروقته إلى موائد منتثرة. حلقت حولها حلقات من ثلاثة طلبة أو أكثر. وعمادهم في فطورهم الفول المدمس أو النابت والطعمية والسلطة، يضعونها كلها على حصير الأزهر، ويتهافتون على أكلها، فإذا فرغوا تركوا بقايا أكلهم من فتات أو ورق، حتى يأتي خدمة المسجد فيكنسوها، وكنت في كثير من الأوقات أفضل أن أفطر بقطعة من الجبن وقطعة من الحلاوة الطحينة — ثم أذهب إلى حائط من حوائط الأزهر أجد بجانبه شيخاً طويلا ضعيف النظر مصفر الوجه ذا لحية بيضاء، اتفق أبي معه على أن يقرئني القرآن مجوداً، فأقرأ ما تيسر من القرآن على ترتيبه في المصحف وهو ينتقد ما أقرأ وينبهني إلى مخارج الحروف، ومقياس الغنة والمدة، ويأمرني بإعادة ما قرأت، وفي كل مرة يصلح أخطائي حتى يستقيم لساني حسب أصول القراءة، ولا أكاد أنتهي من قراءة جزء من القرآن حتى يعرق جبيني من شدة ما ألاقي، وحولي طلبة ينتظرون دورهم، منهم من يقرأ بالسبع ومنهم من يقرأ بالأربع عشرة. ثم أنفلت من هذا الشيخ لأعد درس النحو وكانت العادة في الأزهر أن يعد الطالب درسه قبل أن يلقى أستاذه. فيقرؤه في الكتاب ويتفهمه ويعرف ما فهم وما لم يفهم وما وضح وما غمض ليتحرى موضع الغموض حين يفسر الأستاذ، وأصلي الظهر، وأذهب إلى مكاني من درس النحو، وكان موقفي في درس النحو أسوأ من موقفي في درس الفقه، مع أن درس الفقه جديد علي ودرس النحو ليس بجديد، فقد درسته في المدرسة ودرسته مع أبي، ولكن الشيخ كان متدفًقا كثير الكلام طلق اللسان كثير الاعتراضات كثير الإجابات؛ فلم أفهم مما قال شيئا، وكان رحمه الله شيخا غريبا طلق اللسان كثير الاستطراد، كثير الفخر بنفسه. فساعته التي يضعها في جيبه، لم يصنع منها إلا ساعتان إحداهما التي في جيبه، والأخرى مع إمبراطور ألمانيا، وفي بيته آلاف من الكتب، بعضها مجلد بالماس، وله ساعات طويلة يقضيها سراً مع الخديوي عباس يتحدثان فيها عن أهم شئون الدولة. وهكذا. ومع ذلك كان خفيف الروح حسن الحديث. ومع أنه طلق العبارة متدفق الكلام، فقد كان يقول كلاما مزخرف الظاهر، فقير الباطن. وخلص الدرس فاسترحت من هذا العناء قليلا، وذهبت بعد ذلك إلى مسجد المؤيد، حيث تلقى دروس الجغرافيا والحساب؛ ففهمت ما يقولون وشاركت في الأسئلة، وفهمت الأجوبة، إذ كان مدرسو هذه المواد العصرية منتدبين من المدارس في مدرستي. وزاد الأمر سوءا أن ليس بيني وبين الطلبة صلة، ولا بيني وبين الأساتذة رابطة، ولا أتلقى سؤالا إن كنت فهمت أم لم أفهم، ولا أكلف واجباً أعمله في بيتي. وكان هذا يوما نموذجياً جرت الأيام بعده على نمطه، لم أتقدم في الفهم ولم أستسغ الأسلوب. وفكرت طويلا في عودتي إلى المدرسة فلم أستطع، وفي طريقة للهرب فلم أوفق؛ ولاحت مني مرة نظرة إلى فتيين أنيقين في مثل سني، يلبسان ملابس أنيقة، وتدل مظاهرهما وأناقتهما على النعمة. فعملت الحيلة للتعرف بهما فإذا هما فتيان قاهريان من أبناء العلماء كأبي، ولكنهما مدللان في بيوتهما، وفي معاملة أبويهما لهما، وكنت أتلهف على صداقة فصادقتهما، وأشتاق إلى ملء زمني فلازمتهما، وعلمت أثناء حديثهما أن لكل منهما خزانته وهي جزء من دولاب في رواق من أروقة الأزهر، يضع كل منهما فيها فروة نظيفة يجلس عليها في الدرس حتى لا تتسخ ثيابه، «ومزا» أصفر يلبسه في رجليه إذا سار في الأزهر حتى يحافظ على نظافة جوربه. ففعلت فعلهما وتأنقت تأنقهما، ولكن كان ذلك من وراء أبي لأنه لا يحب الأناقة ولا البهرجة، بل ضربني مرة لأني تأنقت في الحزام الذي أشد به وسطى وتركت له ذيلا، كما يفعل المتأنقون ووضعت ساعة في جيبي عن يميني، وكان أثناء ضربه يقول: «هل أنت ابن السيوفي» والسيوفي هذا كان غنياً مشهوراً، وكان شاهبندر التجار. فتركت من يومها أناقتي ولم أعد أريه أني ابن السيوفي. ورأيتهما يشكوان مما أشكو فلا يفهمان كما أني لا أفهم ولا يستفيدان كما أني لا أستفيد، واقترح أحدهما أن نهرب من بعض الدروس، ونلتمس مكاًنا في الأزهر بعيداً بعض الشيء عن الأنظار، نلعب فيه القمار، فلبينا الدعوة، إذ كان في هذا اللعب مسلاة عن ثقل الدرس، وراحة من عناء الشيخ. فكنا نصرف الساعات نقامر، وأخسر أحياًنا فأبيع بعض ما معي من متاع، وأبي لا يعلم شيئًا من ذلك، وأساتذتي لا يعلمون من أنا حتى يعلموا إن كنت حضرت أو غبت، وأذهب إلى بيتي مدعياً أني قضيت الوقت في الدرس والتحصيل، ولكن تنبه ضميري بعد أشهر وفهمت أن هذه الحال تؤدي إلى سوء المآل، فتركت صحبتهما والتفت إلى دروسي.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/10/
الفصل العاشر
رزقت صحبة طالب آخر في الأزهر من «شبين الكوم» ولا أذكر كيف تعرفت به، وكان يكبرني بخمس سنين أو ست. وكان رحمه الله بديًنا مستدير الوجه طيب القلب مرحاً في أدب، تزوج وترك زوجته وابنه في بلده وحضر إلى الأزهر يطلب العلم، وخلف أهله لأبيه ينفق عليهم كما ينفق عليه مع قلة دخله وضعف حاله. كان هذا الطالب قد مر بالمرحلة الأولى الشاقة التي أمر بها ومرن على الطريقة الأزهرية ولقلقتها وفيهقتها. وكان مستنير الذهن لم يعبأ بما يقوله شيوخ الأزهر في الشيخ محمد عبده من رمي بالزندقة والإلحاد، فكان يحضر دروسه في تفسير القرآن ويسمع منه كتاب دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وكثيراً ما ألح علي أن أحضر دروس الشيخ معه فآبى، استصغاراً لعقلي مع عظم دروسه، ولأن ذلك يضطرني أن أبقى في الأزهري إلى ما بعد العشاء. إذ كانت دروس الشيخ تبتدئ بعد صلاة المغرب وتستمر إلى آذان العشاء، وأخيراً تغلب علي وشوقني إلى دروسه بما كان ينقل إلى من آرائه. فحضرت درسين اثنين، فسمعت صوًتا جميلا ورأيت منه منظراً جليلا، وفهمت منه ما لم أفهم من شيوخي الأزهريين، وندمت على ما فاتني من التلمذة عليه، واعتزمت أن أتابع دروسه، ولكن كان هذان الدرسان هما آخر دروسه رحمه الله. وكانت دروسه مملوءة بالفكاهات الظريفة. فمرة مثلا دخلت في الدرس فتاة صغيرة تريد أن تسر إلى أبيها كلاماً فجلست بجانبه، وكانت هذه الأيام حركة قاسم أمين. فقال الشيخ: إن هذه هي المرأة الجديدة. إذ كان قاسم أمين ألف كتاباً سماه «المرأة الجديدة». ومرة حضرت درساً للشيخ ولم أفهم بعض العبارات، وسألت صاحبي عنها فلم يفهمها فاتفقنا على أن نكتب له خطاباً، وكانت هذه عادة جارية، واخترنا أن نمضي الخطاب بحرف من اسمي وهو الميم وحرف من اسم صاحبي وهو الراء فجاء الشيخ بعد أن استلم الخطاب وقال: جاءني خطاب من شيخ اسمه «مر» أو مرٍ ولم يفهم، ثم أخذ يشرح ما غمض علينا في أدب ووضوح. وكان دائماً يلخص لنا ما ورد إليه من خطابات مهمة. وأذكر أنه أتاه خطاب يهدده بالقتل لأنه كافر ملحد، وبعد أن قص علينا القصة قال: «لتمنيت أن يكون هذا صحيحاً فيوم يشجع المصري ويقتلني، أكون فخوراً» ثم أنشد قول القائل: إلى أنه كان من حين إلى حين يستطرد في شرح حال المسلمين واعوجاجهم وطريقه علاجهم. كنا نجلس قبل الدروس نحضرها فيوضح لي صاحبي بعض ما غمض من الرموز والعبارات، فأستطيع أن أتابع الشيوخ فيما يقولون إلى حد ما. ومرة جاء صاحبي هذا وفي يده جريدة «المؤيد» وأطلعني على إعلان بحاجة «الجمعية الخيرية الإسلامية» إلى مدرسين للغة العربية بمدارسها، وكيفية تقديم الطلبات وموعد الامتحان، وأن من وقع عليه الاختيار عين مدرساً في إحدى مدارس الجمعية بثلاثة جنيهات في الشهر، وأغراني بتقديم الطلب فتقدمت وبحضور الامتحان فامتحنت. وكانت لجنة الامتحان مؤلفة من ثلاثة من كبار رجال التعليم في وزارة المعارف. نودي على اسمي فتقدمت مضطرباً متخوًفا، وكان هذا أول امتحان من هذا القبيل شهدته، فأعطى لي كتاب «أدب الدنيا والدين» فتحت منه صفحة حيثما اتفق فقرأت فيها وهم يسألونني: لم رفعت هذه ونصبت هذه وجرت هذه. ثم طلب إلي أن أقف أمام السبورة، وكان اسمها في أيامنا «التختة» وأملي على هذا البيت: وطلب إلى أن أفسره ففسرته، وأخطأت في تفسير تزود فقلت إن معناه «تعطي الكثير»، ثم طلب إلي أن أعربه فأعربته، وأن أخاطب بالبيت مفرداً ومثنى وجمعاً؛ مذكراً ومؤنًثا ففعلت، وبذلك انتهى الامتحان، ثم أعلنت النتيجة فكنت الثالث وهم يحتاجون إلى أربعة، ودعينا نحن الأربعة لمقابلة الرئيس المشرف على التعليم في الجمعية الخيرية الإسلامية وهو حسن باشا عاصم، وعلمت فيما بعد أنه رجل من عظماء مصر اشتهر بمتانة الخلق والحزم والتشدد في الحق والتزام العدل مهما كانت الظروف، كان رئيساً للقلم العربي في السراي أيام الخديوي عباس فأراد الخديوي أن يستبدل أطياًنا يملكها بأطيان للوقف، فوقف هو والشيخ محمد عبده في ذلك، إذ كانا عضوين في مجلس الأوقاف الأعلى، وقال إن في هذا الاستبدال غبًنا على الأوقاف، فأخرجه الخديوي من وظيفته، فتبرع حسن باشا عاصم بالإشراف على التعليم في الجمعية الخيرية. يقضي في ذلك أكثر أوقاته، فيرقي التعليم ويشترك في وضع المناهج ويطبق العدل في شدة، حتى لقد حدث مرة أن تبرع أحد أعيان المحلة الكبرى بأرض لبناء مدرسة الجمعية ونفقات بنائها ووقف عليها من أملاكه، ثم أراد أن يدخل ابنه في المدرسة وكانت سنه تزيد شهراً عن السن المقررة، فأبى عاصم باشا قبوله قائلا: لقد تبرع هذا الرجل للجمعية فوجب شكره، ولكنه أراد بعد أن يخرق قوانين فوجب صده؛ وأصر على إبائه على الرغم من إلحاح رجالات الجمعية مثل الشيخ محمد عبده وحسن باشا عبد الرازق في قبوله، فلما ألحوا عليه قدم استقالته فاضطروا للنزول على رأيه. وهكذا كان يسير على هذا النمط فيما يعهد إليه من أعمال، وهو نمط من الناس غريب في الشرق المملوء بالمجاملات وقبول الرجاء مهما خالف العدل وخالف القانون. وكان من حسن حظي أن رأيته بعد ذلك عضواً في مجلس إدارة مدرسة القضاء، وعلمت أنه نشر العدل في المدرسة، وعلمه بقية الأعضاء. وقفنا في قبة الغوري ننتظره فطلع علينا رجل مهيب يملأ القلب أكثر مما يملأ العين، له وجه أسمر وسحنة صعيدية أسيوطية وعينان نفاذتان، وجسم صغير. وواجهنا وأرسل إلينا نظرات فاحصة. وسأل كلا منا أسئلة في المعلومات العامة ثم استبعد الرابع لقصره وقماءته، وأعلننا أن الأول سيعين في مدرسة القاهرة، والثاني في الإسكندرية والثالث الذي هو أنا في طنطا. لم يكن أبي يعلم شيئًا من ذلك فلما أخبرته تحير واضطرب، وما كان الأمر يحتاج إلى حيرة واضطراب، فالأمر سهل ورفض الوظيفة واجب، ولكن عذره أن مستقبل الطالب في الأزهر مظلم، وأخيراً قبل سفري إلى طنطا. لو سمع شاب اليوم وسنه ستة عشر عاماً كسني أنه سيسافر إلى سنغافورة أو طوكيو أو الملايا ما حمل الهم الذي حملت من أجل سفري إلى طنطا. فلم أركب في عمري، ولا رأيت الأهرام، ودنياي هي ما بين بيتي والأزهر. حزمت متاعي وهي حشية ومخدة ولحاف وسجادة وملابسي وبعض كتبي وودعت أهلي وبكيت طويلا ثم سافرت، ونزلت في محطة طنطا حائراً مرتبكاً لا أدري ماذا أصنع، ولم أدر أن في الدنيا فنادق ينزل فيها الغرباء. وبعد طول التفكير اهتديت إلى أن آخذ عربة وأضع فيها متاعي وأقول للسائق «إلى مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بطنطا» — ووقفت العربة على باب المدرسة، فنزلت وتركت متاعي عند البواب ودخلت على الناظر وسلمت عليه وعرفته بنفسي، ثم طلبت أن يعطيني حجرة خالية في المدرسة لأنام فيها حتى أجد مسكناً فاستبلهني وفعل. ويطفر ذهني الآن — عند روايتي هذا الحادث — إلى ابني يوم كان في مثل سني هذه فأراه يرحل مع طلبة الجامعة إلى أوروبا فيزور اليونان ورومانيا والنمسا وبولونيا. ويرى معالمها ويعرف الكثير من شئونها مع فرح واغتباط، فأعجب لسرعة تطور الجيل الجديد في الزمن القصير. ثم بحثت عن مسكن في طنطا أسكنه فاهتديت أخيراً إلى غرفة في بيت في حي تبين لي بعد أنه لا يرضى عنه الكرام، وكنت إذا نزلت في الغرفة أخوض في نساء يجلسن أمام البيت في قحة وتبذل، وحرت كيف آكل وكيف أشرب وكيف أقضي وقتي. وذهبت إلى المدرسة وتسلمت جدول دروسي من الناظر، ودخل وأنا عنده ولي أمر تلميذ يطلب إلحاق ابنه بالمدرسة، فطلب الناظر مني أن أكتب له طلباً، وناولني ورقة وقلماً فتحيرت ماذا أكتب، فلا عهد لي بشيء من ذلك، وأخيراً توكلت على الله وبدأت أكتب فلأكتب أولا الديباجة، ولم أكن سمعت الفرق بين عزتلو ورفعتلو وسعادتلو، وكنت أظن أنها كلمات مترادفات، فاستخرت الله وقلت «سعادتلو أفندم»، ولا أدري ماذا كتبت بعد، وقدمتها إلى الناظر فنظر إلى كلمة «سعادتلو» ودهش؛ ثم نظر إلي وقال «سعادتلو، سعادتلو» وأنا لا أزال «أفندي» ولست بيك ولا باشا، فخجلت من نفسي وأحسست من وقتئذ أنه يحتقرني. ساءت حالتي في بيتي، وساءت حالتي في مدرستي، وساءت حالتي في وحدتي، فطلبت النقل إلى القاهرة ولم يمض علي شهر، فجاء الرد بأن الجمعية ليس لديها مانع إذا رضي أحد مدرسي القاهرة بالبدل، فحضرت إلى القاهرة ودللت على مدرس بالجمعية بظن أنه يرضى أن يبادلني، فذهبت إليه في بيته وعرضت عليه أمري فأبى، فعرضت عليه أن أتنازل له كل شهر عن نصف مرتبي فابتسم وأبى، فاستقلت ورجعت إلى مكاني في الأزهر سالماً، وكفاني فخراً أني ركبت القطار وشاهدت بلدة اسمها طنطا وعرفت الفرق بين عزتلو وسعادتلو. ••• لم أستسغ أبداً طريقة الأزهر في الحواشي والتقارير وكثرة الاعتراضات والإجابات، وإنما كانت فائدتي الكبرى من أزهر آخر أنشأه لي أبي في غرفة من غرف بيتنا، ففي مسامحات الأزهر — وما أكثرها — كان أبي هو المدرس الأزهري في هذه الغرفة وكنت الطالب الوحيد. والحق أن أبي كان يمتاز على كثير من شيوخ الأزهر بأشياء كثيرة — كان واضح العبارة قادراً على الإفهام من أقصر الطرق. وكان يرى في الحواشي والتقارير مضيعة للوقت. ولعله استفاد ذلك من تدريسه ببعض المدارس الأميرية واتصاله بأساتذتها؛ فقد درس بعض الوقت في مدرسة بالقلعة تسمى «المدرسة الخطرية»، وانتدب للتدريس لبعض الوجهاء مثل قاسم باشا ناظر الجهادية، ودرس اللغة العربية لسفير أمريكا في مصر، وهكذا، مما أكسبه ذوقاً في التعليم وقدرة على التفهيم، وله مزية أخرى وهي كثرة مطالعاته في كتب الأدب والتاريخ واللغة، واهتمامه بجمعها. ولم يكن ذلك معروًفا عند كثير من الأزهريين. فرتب لي دروساً في النحو، واختار لي من كتبه طبعات ليس عليها حواش حتى لا يتشتت ذهني فيها — قرأ لي شرح الأجرومية للشيخ خالد، ثم كتاب قطر الندى، وكتاب شذور الذهب لابن هشام، ثم شرح ابن عقيل على الألفية، وكلها كتب تمتاز بوضوح العبارة وسهولة الأسلوب. فكنت أتقبل دروسه في هذه الكتب في لذة وشغف ونهم. وإلى جانب ذلك قرأ لي كتاب فقه اللغة للثعالبي، وشرح لي بعض مقامات الحريري في الأدب، وليست دراسة اللغة والأدب مما يعنى به الأزهر، ولكن عني بها أبي. ثم حبب إلي القراءة في مكتبته، فكنت أقرأ في تاريخ ابن الأثير، ووفيات الأعيان وفاكهة الخلفاء، وكليلة ودمنة ونحو ذلك، وقرأ لي كتابا في المنطق وكتاباً في التوحيد، فكان هذا كله في الحقيقة أساس ثقافتي، وترك لي دروس الفقه والجغرافيا والحساب أحضرها في الأزهر. نجحت نجاحاً كبيراً، وأحسست بالتفوق على زملائي في الأزهر، حتى طلب إلي بعضهم أن أقرأ لهم شرح ابن عقيل في مسجد المؤيد في بعض أوقات الفراغ ففعلت، وصادقت بعض الإخوان ممن لهم ذوق أدبي، فكنا نجتمع في أحد المساجد نحفظ مختارات من مقامات بديع الزمان ورسائله، وأمالي القالي، وأمثال الميداني، ودلنا أحدهم على كتاب ظهر للشيخ إبراهيم اليازجي اسمه «نجعة الرائد»، يذكر فيه أحسن ما قالته العرب في الموضوع الواحد، فأحسن ما قيل في الشجاعة والجبن، والكرم والبخل، والحلم والغضب إلخ. فاشتريناه وأخذنا أنفسنا بالحفظ منه. وظللت مع ذلك غير مرتاح لبقائي في الأزهر، ورأيت بعض زملائي يقدمون طلباً للدخول في مدرسة دار العلوم، فقدمت مثلهم، ورأيت الأمر سهلا علي؛ فهم يمتحنون في حفظ القرآن وأنا أحفظه، ويمتحنون في حفظ الألفية وفهمها وأنا أحفظها وأفهمها وحلمت إذ ذاك بمدرسة نظامية واضحة الحدود واضحة المعالم، مفهومة الغاية، يدخل فيها الطالب فيقضي أربع سنوات يتعلم فيها على خير الأساتذة، ثم يخرج مدرساً في المدارس الأميرية. ولكن قبل الامتحان لابد من الكشف الطبي وأنا قصير النظر، هذه هي العقدة.. ذهبت إلى أكبر طبيب إنجليزي فكشف على عيني، وكتب لي أضخم نظارة قانونية تناسب نظري، ومع ذلك تقدمت للامتحان فسقطت، وحز في نفسي أن أرى زملائي ينجحون ولا أنجح، ويدخلون المدرسة ولا أدخل، ثم عدت إلى الأزهر.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/11/
الفصل الحادي عشر
عاد الشيطان فوسوس إلى ثانية، فقد اطلعت في إحدى الجرائد على إعلان وزارة المعارف تطلب فيه مدرسين للغة العربية، يدرسون في مدارسها بأربعة جنيهات شهرياً. فتقدمت للامتحان، وامتحنت تحريرياً وشفوياً ونجحت وكان نصيبي هذه المرة مدرسة تابعة لأوقاف أهلية وخاضعة لتفتيش وزارة المعارف، هي مدرسة راتب باشا بالإسكندرية، ولم يكن اسم الإسكندرية مرعباً كطنطا، فقد كبرت وصرت في الثامنة عشرة من عمري، وتعودت ركوب القطار بذهابي إلى طنطا، ومع ذلك لذعني السفر، وصرف أبي مجهوداً جباراً في تعييني في مصر بدل الإسكندرية فلم يوفق فسافرت ورأيت البحر أول مرة فسحرني وصرت آنس به، وأجلس إليه وأتأمل في أمواجه. فأنسى لوعة غربتي، وحببت إلي القراءة في المكان الخالي على شاطئه. هناك قرأت بعض كتب الغزالي فشعرت بنزعة صوفية، وحفظت كثيراً من نهج البلاغة إعجاباً بقوة أسلوبه، وقرأت كتاب أشهر مشاهير الإسلام لرفيق بك العظم فتحمست لأبطال الإسلام وأعجبت منه بتحليل شخصياتهم، وفلسفة الحوادث في أيامهم. واستأجرت حجرة في بيت بالقرب من مسجد البوصيري أودعتها فراشي وملابسي وكتبي ودراهمي. فعدت يوماً من المدرسة فوجدتها قاعاً صفصفاً، خالية كيوم استأجرتها. فاتفقت مع مدرس في مدرسة أخرى أن نستأجر شقة معاً في غرفتين في بيت عليه بواب، وكان صاحبي هذا كهلا، نحيف الجسم أصفر الوجه، ملتحياً، متديًنا في تزمت، يتوضأ فيطيل الوضوء؛ ويصلي فيطيل الصلاة: ويقضي أوقاًتا طويلة في قراءة الأوراد وحضور الأذكار، يصطحب دائماً كتاب «شذا العرف» في فن الصرف، يقرأ فيه في حجرته، ويتأبطه عند خروجه، وظل على هذه الحال السنتين اللتين أقمتها معه، لا هو يتم الكتاب ولا هو يتركه، مع أنه كتاب صغير يقرأ في يومين أو ثلاثة. صحبته، فكان مكملا لنقصي، موسعاً لنفسي، مفتحاً لأفقي، كنت أجهل الدنيا حولي فعرفنيها، وكنت لا أعرف إلا الكتاب، فعلمني الدنيا التي ليست في كتاب. وكان أبي وشيوخي يعاملونني على أنني طفل، فعاملني على أني رجل؛ فملأ فراغي وآنس وحدتي — كنا نلتقي في كثير من الأيام بعد العصر أو يوم الجمعة أنتظره في محل قريب من بيتي، وكان هذا المحل أيضاً غريباً، هو محل عم أحمد الشربتلي، يصنع شراب الليمون كأحسن ما يصنع، ويعتني بنظافته ما أمكن، فكان مضرب المثل في النظافة والإتقان، وحانوته صغير، لا يتسع لأكثر من خمسة عشر، فإذا كثروا جلسوا أمامه؛ وهو مع ذلك يدعي الأدب والشعر. ويتصيد من يجلس عنده من الأدباء ليسمعهم شعره وإذا حار في قافية انتظر من يتوسم فيه الشعر فيسأله إكمال القافية، ويقرأ في الجرائد كل يوم ما فيها من شعر. فإذا لم يفهم بيًتا انتظر العصر حتى يأتي بعض زبائنه الأدباء فيسألهم ويناقشهم في معناه، وهو ذو ذوق حساس، إذا استثقل أحداً لم يمكنه من الجلوس في حانوته، وأقصى ما يستطيع أن يمكنه من شرب ليمونه، ولذلك كان محله مجمعاً للظرفاء والأدباء، فإذا مر علي صديقي الأستاذ أخذني وذهبنا إلى مقهى فخم، إما في محطة الرمل، أو كازينو المكس، أو نحو ذلك من الأماكن الممتازة حيث الموسيقى أحياًنا وجودة الهواء ومنظر البحر أحياًنا. وقد يكون معنا رجل أو اثنان من بعض أصدقائه، والأستاذ — في الطريق أو المقهى، أو حيث كنا — يحدثنا حديثاً طريفاً ممتعاً، ينقد المجتمع نقد خبير، ويتحدث في شئونه الزراعية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهو في كل ذلك كثير التجارب واسع الإطلاع طلق اللسان — إذا زرته في بيته حدثني عن شيوخه في دار العلوم، كالشيخ حسين المرصفي، والشيخ حسن الطويل، والشيخ حمزة فتح الله وأمثالهم، وأبان مزاياهم وعيوبهم في دقة؛ أو حدثني عن الكتب التي ظهرت حديثاً وعن القيم منها، وما ليس له قيمة، أو قرأنا في كتاب كدلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة. وأحياناً كان يصحبنا صديق له لطيف، موظف في جمرك الإسكندرية، همه في الحياة النكت اللطيفة، والنوادر المستملحة، مع خفة في الروح نادرة، فإذا حضر لم ينقطع ضحكنا ولا إعجابنا، ولا أدري من أين كان يأتي كل يوم بالجديد من هذه الطرائف ويسميها طرائف اليوم، وهو يتعصب للإسكندرية ويفضلها على القاهرة، فإذا تحدث عن ذلك سمعت منه العجب في معايب القاهريين ومحاسن الإسكندريين، وكان هذا شيئًا جديداً علي لم أر مثله، لعل له الفضل في تقديري للنكتة، وإعجابي بها. وعلى الجملة فلئن كان أبي هو المعلم الأول فقد كان هذا الأستاذ هو المعلم الثاني، انتقلت بفضله نقلة جديدة وشعرت أني كنت خامداً فأيقظني، وأعمى فأبصرني، وعبداً للتقاليد فحررني، وضيق النفس فوسعني. وظلت صداقتنا سنين، ينتقل من الإسكندرية إلى القاهرة فتتجدد صداقتنا وتزيد، ويشاء القدر أن يجمعنا بعد مدرسين معاً في مدرسة القضاء فتقوى الصداقة وتتأكد، وأستفيد على مر الأيام من علمه وتجاربه وحسن حديثه، وتجيء الحركة الوطنية فأتحمس لها تحمس الشباب، وينظر إليها نظر الشيوخ وأقومها بشعوري؛ ويقومها بعقله، فينقد زعماء الحركة الوطنية وأكره النقد، ويعيبهم وأكره العيب، وتدفعني الحماسة الوطنية إلى نقد أستاذ آخر لي نقداً فيه شيء من العنف فيلسع ذلك صديقي الأستاذ ويغضب له، ويكره من تلميذ أن يزل لسانه بمثل ما زل لساني في أستاذي، فيخاصمني ويقاطعني، وأسترضيه فلا يرضى، ثم أمعن في الاسترضاء، فيبدأ في الرضاء، ولكن يسرع إليه القضاء، فيموت وفي عيني دمعة، وفي قلبي حسرة. رحمه الله. نعود إلى الإسكندرية، فقد درست في مدرسة راتب باشا اللغة العربية للسنة الرابعة الابتدائية، وكان هذا فخراً كبيراً إذ من يدرس للسنة الرابعة ينظر إليه على أنه أرقى مدرس للمادة، وأحسست كفايتي في تدريس القواعد، حتى كان من غروري أني أخطئ الكتب المدرسية التي قررتها وزارة المعارف، أما في دروس الإنشاء فلم أكن بارعاً، بل كان بعض التلاميذ يكتبون خيراً مما أكتب، لأني لم أتمرن على الكتابة، وكنت إذا كتبت شيئًا ملت إلى السجع وإن لم ألتزمه لغلبة ما حفظته من مقامات بديع الزمان ورسائله. ورأيت من المدرسين بالمدرسة وناظرها ما لا عهد لي به، فكأنهم كانوا يمثلون رواية غربية الأطوار، مفككة الفصول، منهم من يمثل دور الماكر ذي الناب الأزرق الذي يقابلك فيبتسم لك، ويوهمك أنه صديقك، وهو يدس لك الدسائس عند ناظر المدرسة، ومنهم من يمثل الخبيث المنطوي على نفسه، الحاقد على الدنيا وعلى كل شيء فيها، ويقابل ما يحدث حوله دائماً بضحكة ساخرة، ومنهم السكير المعربد الذي يستولي على مال المدرسة فيصرفه في سكره وعربدته، ثم يضبط ويطرد، ومنهم فراش المدرسة العبد الأسود الذي تحمر عيناه وتقذفان بالشرر من كثرة ما يتعاطى من «البوظة» وكنت أمثل من هذه الأدوار دور المغفل الساذج الذي لم يعرف الدنيا ولم يختبر الناس. أما علاقتي مع التلاميذ فكانت علاقة صداقة، أحبهم ويحبونني، وزاد من صداقتنا أننا متقاربو السن، فلم يكن تلاميذ السنة الرابعة صغاراً كما هم اليوم إنما كان أكثر الفصل الذي أدرس له بين الخامسة عشرة والعشرين، فكنت أتحدث إليهم في الشئون العامة مما لا يتصل بقواعد النحو والصرف، وأقص عليهم قصصاً أدبية، وأتحدث إليهم في بعض ما تحدث به إلي صديقي الأستاذ، وأشعر بحنين إليهم إذا غبت عنهم في إجازة أو مرض. ويحنون إلي كذلك، وكانت عاطفتي الدينية مشبوبة قوية بفضل نشأتي في بيتي، ثم استمرت بصحبتي من عرفتهم في الإسكندرية، فكنت أؤدي الصلوات لأوقاتها، فإذا كنت في مقهى انتقلت من بين من أجالسهم إلى أقرب مسجد، فإن كنت في حي إفرنجي بعيد عن المساجد، تلمست عمارة كبيرة فيها بواب نوبي أو سوداني، وطلبت منه أن يحضر لي حصيرة صلاته لأصلي عليها بالقرب من الباب، فإذا لم أجد استنظفت أي مكان مستتر وخلعت جبتي وفرشتها وصليت عليها، ثم نفضتها ولبستها، ويوم الجمعة أتنقل في المساجد لصلاة الجمعة، فيوماً بالبوصيري ويوماً بمسجد أبي العباس، ويوماً بمسجد سيدي بشر، وهكذا — وفي حجرتي أقرأ كل يوم ما تيسر من القرآن. أما عاطفتي الوطنية فلم تكن قوية إلى ذلك العهد، لأني ولدت عقب الاحتلال بنحو أربع سنين، وقد استولى على المصريين إذ ذاك نوع من الخوف واليأس، وأحاط الإنجليز مظاهرهم بالعظمة والقوة، وكان حيناً في المنشية مراداً للجنود والضباط الإنجليز الذين يسكنون القلعة بجوارنا؛ وكنت كثيراً ما أراهم بالجاكتة الحمراء والسراويل الزرقاء فأرعب منهم وأعدل عن طريقهم. وقلما كان يتحدث أبي في السياسة وشئونها، فإذا تحدث ففلسفته فيها كفلسفة كثير من الشعب، أن هذا قضاء الله وانتقام من عبيده. فبظلم المصريين بعضهم بعضاً، وظلم حكامهم لهم وبعصيان الله في أوامره ونواهيه، سلط الله عليهم الإنجليز يسومونهم سوء العذاب، ولا يمكن أن ترفع عنا هذه الغاشية حتى يستقيم المصريون ويعدلوا ويلتزموا أوامر الدين. أما نقد الحكام في تصرفهم، أو نقد الإنجليز في حكمهم، فمسكوت عنه لهذه الفلسفة. وأذكر أني مرة سألته — وقد كبرت قليلا — عند سماعي لهذه الفلسفة: هل هؤلاء الإنجليز مطيعون الله حتى ينصرهم علينا ويمكن لهم في بلادنا؟ فزجرني ولم يجب. فلما اتصلت في الإسكندرية بصديقي الأستاذ الذي أثر في كثيراً، وكانت له في السياسة فلسفة أخرى، كفلسفة الشيخ محمد عبده، إذ كان من أنصاره لا من أنصار «مصطفى كامل»، وفلسفته هي وجوب الإصلاح الداخلي أولا، بنشر التعليم الصالح، وترقية أخلاق الشعب، ثم الاستقلال يأتي بعد ذلك تبعاً عكس سياسة مصطفى كامل التي ترى أن ليس في الإمكان الإصلاح الداخلي للشعب ما لم يسبقه جلاء الإنجليز واستقلال المصريين. ولذلك كانت وطنية الشيخ محمد عبده عقلية، ووطنية مصطفى كامل وطنية شعورية، وقد تأثرت بكلام صديقي الأستاذ، وانحزت إلى رأيه. وكنت في صباي لا أقرأ الجرائد، فهي لا تدخل بيتنا ولست أجلس في مقهى أقرؤها فيه، إلى أن كانت حادثة زواج الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد بالست صفية بنت الشيخ السادات، وهي حادثة تحدث كل يوم ولا تحرك ساكناً، ولكن هذه الحادثة بنوع خاص أقامت مصر وأقعدتها، من الخديو إلى البائع الجوال، فرجل كهل تزوج بنًتا بلغت سن الرشد برضاها دون رضاء أبيها، واعترض أبوها على هذا الزواج، فماذا عسى أن يكون لهذا الحادث من أهمية؟ ولكن لعبت الخصومات السياسية في هذا الموضوع، وإثارة شعور العامة عن طريق المحافظة على الدين، وفراغ عقول الناس، جعل هذه المسألة مسألة الرأي العام، فقد رفعت قضية بطلب فسخ عقد الزواج لعدم كفاءة الزوج للزوجة، إذ هي شريفة من نسل النبي، وهو ليس بشريف، واشترك في هذه المعمعة القضاء والسياسة والأدب، فجلسات المحاكم وما دار فيها من مرافعات تطلع على الناس في الجرائد، والشعراء يصنعون المقطوعات الطريفة في هذا الموضوع تنشرها الجرائد، والجرائد الهزلية تنشر«النكت» اللاذعة. وهكذا اهتاجت عواطف الناس، وترقبوا الجرائد وتلقفوها تطلع عليهم كل يوم بجديد. ومن ذلك الحين اتصلت بالجرائد أقرؤها، فلما عينت في الإسكندرية كنت أذهب إلى مقهى «عم أحمد الشربتلي» أقرأ فيه اللواء والمؤيد والمقطم، فأرى جريدة اللواء تلهب الشعور الوطني ولا تجاوبها نفسي تبعاً لشيخي، والمقطم تقاوم الحركة الوطنية ولم يجاوبها كذلك نفسي، وربما كان المؤيد أحب إلي لصبغته الإسلامية. ولست أنسى ليلة — وأنا في الإسكندرية — أقام فيها أحد أصحابنا وليمة عشاء على سطح منزله (وكان ذلك في يوم ٢٧ يونيو سنة ١٩٠٦) فجاءت الجرائد وفيها الحكم على أربعة من أهالي دنشواي بالإعدام، وعلى اثنين بالأشغال الشاقة المؤبدة، وعلى واحد بالسجن خمس عشرة سنة، وعلى ستة بالسجن سبع سنين، وعلى خمسة أن يجلد كل منهم خمسين جلدة، فتنغص عيشنا وانقلبت الوليمة مأتماً، وبكى أكثرنا، ومن ذلك اليوم أصبحت عواطفي مع اللواء لا مع المؤيد ولا مع المقطم.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/12/
الفصل الثاني عشر
بعد سنتين في الإسكندرية، سعى أبي فعينت مدرساً، بمدرسة والدة عباس باشا الأول في أكتوبر سنة ١٩٠٦ وهي المدرسة التي تعلمت فيها صغيراً، والتي كنت أحن إليها دائماً أيامي في الأزهر، وقد تغيبت عنها قريباً من ست سنوات، ففرحت بها فرح الغائب عاد إلى وطنه، بل ورأيت فيها بعض من كانوا من تلامذة معي أيام كنت تلميذاً، وبعض أساتذتي الذين علموني، ورأيتها قد اتسعت أبنيتها، وكثرت تلامذتها وأساتذتها، وأعطيت السنة الأولى والثانية لأن أساتذتي وأمثالهم كانوا يحتلون السنة الرابعة، وسرعان ما تجلت قوتي في القواعد دون الإنشاء، ولا أدري السبب في اكتشاف هذا السر، ولكن حدث في آخر العام أن نتيجة المدرسة في الشهادة الابتدائية كانت نتيجة باهرة، فرح بها الناظر فرحاً شديداً، وبحث عن أستاذ في اللغة العربية يكتب خطاباً إلى إدارة الوقف يخبرها فيها بهذه النتيجة، ويباهي بها غيرها من المدارس، فلم يجد أحداً إلا إياي، فدعاني الناظر وطلب مني أن أكتب هذا الخطاب، ومن حسن حظي أني كنت أحفظ مقدمة دلائل الإعجاز، يباهي فيها بعلم البلاغة وأنه فوق العلوم كلها، فسرقت الأسلوب، وباهيت بالمدرسة وفضلها على سائر المدارس على نمطه، وحججه، فسر منه الناظر كثيراً، ورد إلي اعتباري في الإنشاء أيضاً. في هذا العام أثناء الدراسة مرضت بحمي التيفود مرضاً شديداً، حتى أشرفت على الهلاك، ولم يكن هناك عناية بالمرضى، كما يعنى اليوم، ولا يرضى الأهالي عن إرسال المريض إلى مستشفى الحميات كما يرسل اليوم، ولا عزل له عن سائر من في البيت حتى لا تنتشر العدوى، ولا استدعاء طبيب مختص يشرف إشراًفا دائماً على العلاج — لا شيء من ذلك — ولكن فرشت لي حشية على الحصير، في وسط الغرفة كما كنت أنام، وترك أمري لله، فلم يدع أهلي طبيباً، وكل ما في الأمر أن نفسي عافت الأكل فتركته. ومن حين لأخر تأتي عجائز الحارة فتصف لأمي وصفات بلدية للشفاء من المرض، فأقبلها حيًنا، وأرفضها أحياناً، ويزورني أبي قبل خروجه إلى عمله، فيجلس على رأسي ويضع يده على جبهتي، ويقرأ الفاتحة، وآية الكرسي، والمعوذتين، ويختم ذلك بقوله: «حصنتك بالحي القيوم الذي لا يموت أبداً، ودفعت عنك السوء بألف ألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم». ثم ينفث في وجهي، وإذا عاد من عمله في المساء كرر هذا الدعاء. ونجوت منها بأعجوبة، بعد أن كان الموت أقرب إلي من حبل الوريد، ومكثت بعد ذلك مدة طويلة في دور النقاهة. لم أمكث في هذه المدرسة إلا سنة، وفي سنة ١٩٠٧ تقرر فتح مدرسة القضاء الشرعي، وكان الغرض منها تخريج قضاة شرعيين مكان الذين عمت منهم الشكوى. وكان قد عهد إلى الشيخ محمد عبده بالتفتيش على المحاكم الشرعية وفحص عيوبها، فقام بذلك خير قيام، وكتب تقريراً عظيماً، يبين فيه هذه العيوب، ويقترح وجوه الإصلاح، وعلى أثر ذلك فكرت نظارة الحقانية في إنشاء مدرسة، واحتضن فكرتها سعد باشا زغلول، إذ كان ناظراً للمعارف، وأميًنا على أفكار الشيخ محمد عبده. وكان الخديو عباس كارهاً لهذا المشروع أشد الكره، معارضاً فيه أشد المعارضة: لأنه يسلب الأزهر أعز شيء لديه، وهو الإعداد للقضاء الشرعي، وقد سلب من قبلُ إعداد مدرسي اللغة العربية بإنشاء دار العلوم — والأزهر وديوان الأوقاف هما المصلحتان اللتان أطلقت فيهما يد الخديوي، ولم تمسسهما يد الإنجليز، فقوتهما قوة له، وضعفهما ضعف له. ولأن فكرة مدرسة القضاء نبعت في فكر الشيخ محمد عبده، واحتضنها صديقه سعد زغلول، وهو يكرههما في أعماق قلبه، من أجل ذلك حارب المشروع. ولكن دعي مجلس النظارة للاجتماع يوم ٢٥ فبراير ١٩٠٧ ورأسه الخديو، فعارض الخديو في المجلس وأبدى اعتراضاته على المشروع، واقترح إرجاء النظر فيه فعارض سعد باشا، ودافع عن الفكرة، وتحمس لها تحمس المحامي القدير الذي يؤمن بعدل قضيته، ثم أخذ الرأي، فانضم جميع النظار إلى سعد باشا، ما عدا ناظر الأشغال، فلم يسع الخديو إلا أن يوافق على رأيهم ويمضي القانون.. ولم نعرف سابقة لمثل هذا الحادث يخالف فيها أكثر النظار الخديو، فينزل عن رأيه لرأيهم، ولذلك صمم — بعد — ألا يحضر جلسات مجلس النظار، حتى تكون له الحرية في قبول ما يقبل، ورفض ما يرفض. ومن أجل هذا ظل الخديو يحارب مدرسة القضاء ما استطاع. على كل حال أعلن عن الدخول في مدرسة القضاء وشرط القبول ومواعيد الامتحان، فتقدمت، وكانت خشيتي من الكشف الطبي أكبر من خشيتي من الامتحان، فأخوف ما أخافه أن تتكرر المأساة التي حدثت عندما تقدمت لدار العلوم، وكان من فرط خشيتي أني احتلت حتى حصلت على اللوحة التي سيستخدمها الطبيب في الكشف عن النظر. فحفظت حفظاً جيداً العلامات فيما عدا السطرين الأولين لأني أراهما، فعرفت ابتداء من السطر الثالث أن العلامة الأولى مفتوحة من اليمين، والثانية من اليسار، والثالثة من فوق، والرابعة من تحت وهكذا، ولكن خاب ظني وكانت ساعة حرجة جداً انعقد عليها كل أملي، فقد رأيت السطرين الأولين، فلما جاء ما بعدهما أشار الطبيب إلى علامة في السطر الرابع فسألته، أهي الأولى أم الثانية، فقال هي الموضوع عليها العصا، ولم أر طرف العصا إن كان موضوعاً على العلامة الثالثة أو الرابعة، فسقطت في الامتحان، ويئست من المدرسة، واعتقدت أني سأظل في عملي المتواضع أو مثله ما بقيت الحياة، ولكن حدث ما ليس في الحسبان فقد رأى عاطف بك بركات ناظر المدرسة كثرة الساقطين في النظر، فأرجأ البت فيمن يقبل ومن لا يقبل إلى ما بعد الامتحان، وتقدم لهذا الامتحان أكثر من مئتين. منهم من قضى سنين طويلة في الأزهر، وامتحنا في اللغة العربية نحواً وصرًفا. وفي الفقه، وفي البلاغة، وفي الحساب والهندسة، وفي الجغرافيا والتاريخ، فكان امتحاًنا عسيراً رسب فيه كل المتقدمين إلا خمسة، وكنت الثالث فشفع ذلك لي عند ناظر المدرسة في قصر نظري، وقبلنا نحن الخمسة وضم إلينا تسعة من أحسن الراسبين، وبعض هؤلاء التسعة — اختيروا — لأنهم من أبناء كبار العلماء في الأزهر. استرضاء للأزهر وأهله. ففرحت فرحاً لا يقدر، إذ رسم مستقبلي، ووضحت معالمه، وكفيت شر التسكع في المدارس الأهلية وأمثالها. كما فرحت مرة ثانية لأني سأدرس علوماً منظمة في مدرسة منظمة. أسأل فيها عما أفعل، وأحاسب على الجد والكسل، لا كما كان الشأن في الأزهر. وكانت الفكرة في مدرسة القضاء أن يثقف فيها الطالب ثقافة دينية، من تفسير وحديث وفقه وأصول فقه وتوحيد ونحو ذلك، وثقافة لغوية أدبية من نحو وصرف وأدب، وثقافة قانونية عصرية. من مثل أصول القوانين الحديثة ونظام القضاء والإدارة ونحو ذلك. وثقافة كما يسمونها عصرية، من مثل الجغرافيا والتاريخ والطبيعة والكيمياء والحساب والجبر والهندسة فكان برنامجها مزيجاً من كل ذلك. ومن أظرف ما حدث في برنامجها أن خاف واضعو قانونها من أن يسموا الطبيعة باسمها، فيغضب الأزهريون، لأن لديهم بيًتا مشهوراً يتناقلونه ويتداولونه وهو: فاحتالوا على ذلك ووضعوا الطبيعة والكيمياء في البرنامج تحت اسم «الخواص التي أودعها الله تعالى في الأجسام» وكانت المدرسة في حضانة سعد باشا زغلول، ويوليها عنايته وهو ناظر المعارف، ويضع يده على كل رجال التعليم في نواحيهم المختلفة، فاختار لها ناظراً من أكفأ الناس وأقربهم إليه وهو عاطف بك بركات، واختار هو والناظر خيرة المدرسين من كل نوع من أنواع التعليم كما استعان بخيرة علماء الأزهر، ليدرسوا العلوم الدينية، فكنت ترى مزيجاً عجيباً من الأساتذة، هذا شيخ أزهري تربى تربية أزهرية بحتة ودنياه كلها هي الأزهر وما حوله، بجانبه أستاذ للتاريخ على آخر طراز تخرج في جامعات إنجلترا وأستاذ للطبيعة تخرج في أشهر جامعات فرنسا، وعلى رأسهم ناظر تعلم في الأزهر وفي دار العلوم وفي إنجلترا، وكل من هؤلاء يلون الطلبة بلونه، ويصبغهم بصبغته، ويعلمهم على منهجه، فكنت إذا أصغيت إلى درس من الدروس فكأنما تصغي إلى درس يلقيه مدرس من القرون الوسطى فيما يقال وكيف يقال، ثم يليه درس تسمعه فكأنك تسمع درساً في أجنبية لا يفرق بينهما إلا أنه يلقى بالعربية، ثم تنتقل من ذلك إلى درس له شبه من هذا وشبه من ذاك، فموضوعه من موضوعات القرون الوسطى ومنهجه منهج حديث، وكذلك المدرسون، عقلية قديمة لم تسمع عن شيء اسمه الجغرافيا ولا تعرف أن الدنيا قارات خمس. أراد بعضهم أن يتطرف ويبين أنه رجل عصري فقال: إن الدنيا تنقسم إلى ثلاثة أقسام آسيا وأفريقية وقارة. يقدسون ما ورد في الكتب حتى الخرافات والأوهام، ومن أقوى حججهم على صحة الرأي أنه ورد في كتاب من الكتب القديمة. وعقلية حديثة على آخر طراز، وجالس أصحابها أرقى الأساتذة الأجانب واستفادوا منهم، وعاشوا في المدينة الغربية. عرفوا آخر نوع من طرازها، وليس عندهم فكرة مقدسة إلا ما قام البرهان على صحتها، ودلت التجارب على ثبوتها، وبين هذين الطرفين أنواع من الأساتذة يأخذون بحظ منهما قل أو كثر. وفي هذه البوتقة المكونة من هذه العناصر كلها وضعت الطلبة ليأخذ كل منهم حظه حسب فطرته واستعداده — وأحيط كل هذا بإطار خلقي يشرف على تنفيذه ناظرها: يلتزم النظام الدقيق ولا يسمح بالخروج عنه قيد أنملة، إن دق جرس الصباح أغلق باب المدرسة ولا يدخلها طالب، وتحرك الأساتذة فوراً إلى دروسهم. ويذهب الطلبة أول العام الدراسي فيجلس كل في مكانه ويفتح درجه فإذا فيه كتبه وأدواته جميعها لا ينقصها شيء، وعدل في معاملة الطلبة والأساتذة لا ينحرف. فمن نجح من الطلبة فبالعدل، ومن رسب فبالعدل، وإن رقي أستاذ فبالعدل، لا يقبل في ذلك رجاء ولا شفاعة؛ وكل طالب معروف لأساتذته وناظره. ولكل طالب صفحة في سجل كبير أمام الناظر، قيد فيها اسم الطالب والأخطاء التي ارتكبها والعقوبات التي وقعت عليه والمكافآت التي نالها، فمن أخطأ خطأ جديداً ذهب إلى الناظر ففتح صفحته وعرف مكانته؛ ونظافة المدرسة بالغة أقصاها — حديقة جميلة رسمت رسماً بديعاً، وملئت بالأزهار الجميلة، وحركة مستمرة من الخدمة في تنظيف مستمر — في هذا الجو كله وضع الطلبة، واشتهرت المدرسة في مصر يزورها كبراؤها وفي العالم الشرقي يؤمها عظماء الوافدين المعنيين بشئون التعليم والراغبين في الإصلاح.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/13/
الفصل الثالث عشر
وكان من طائفة دار العلوم أيضاً الشيخ محمد زيد، رجل وقور جليل المنظر مهيب الطلعة يحتفظ بكرامته ويعتز بشخصيته، درس لنا الفقه. وكان قد مرن عليه التدريس بمدرسة الحقوق، فنقل الفقه من كتبه الأزهرية التي تعتمد على الجزئيات إلى وضع قواعد كلية تطبق عليها الجزئيات، وكان سلس العبارة ميالا إلى الإطناب. وهذا أحمد فهمي العمروسي بك، وهو الذي تعلم في مصر وتعلم في سانكلو بفرنسا يدرس لنا الطبيعة، فيشرح لنا النظرية ويطبقها في المعمل ويجعلنا نجرب التجارب، ولا يضع في يدنا كتاباً، بل يكلفنا أن نكتب ما فهمنا وأن نرسم الأدوات التي استخدمناها، وهي طريقة كانت شاقة علينا، ولكنها كانت مفيدة لنا — ويخرج من الدرس كثيراً إلى نقد طريقتنا في التعليم وطريقتنا في الحياة ويقارن في ذلك كله بين مصر وفرنسا. ويرى أن الكلام في هذه الأمور أكثر فائدة من الكلام في الطبيعة والكيمياء، فالكلام فيهما كالخبز الجاف لابد أن يجعل سائغاً بالزبد والمربى. وهذا علي بك فوزي الذي درس في مدرسة المعلمين وتخرج في معاهد إنجلترا، يدرس لنا التاريخ — تاريخ اليونان والرومان أحياًنا، وتاريخ أوروبا الحديث أحياًنا، والتاريخ الإسلامي أحياًنا، وهو رجل غريب بديع ظريف المظهر قصير القامة يخفي قصر قامته بطول طربوشه وعلو جزمته. يجيد الإنجليزية والفرنسية والفارسية والتركية. ويلتزم الكلام باللغة العربية الفصحى فلا يلحن، ويدخل علينا متأبطاً كتباً في جانبيه لعلها تزن أكثر منه، ولا يدع الفراش يحملها له، ويفتح هذا الكتاب بالفرنسية ويملي علينا باللغة العربية بأسلوب جميل فصيح، ويخرج أحياًنا عن الدرس إلى آرائه في الحياة وفلسفته في المقارنة بين المدنية الشرقية والمدنية الغربية. وهذا محمد بك زكي يدرس لنا الحساب والجبر والهندسة وينقلنا في ذلك خطوات سريعة، حتى نصل إلى اللوغاريتمات والهندسة الفراغية والتوافيق والتبادل. وهذا عاطف بك بركات يدخل علينا يوماً فيجد الشيخ حسن منصور يدرس لنا الأخلاق في كتاب أدب الدنيا والدين، فلا يعجبه ذلك، ويتولى تدريس هذه المادة بنفسه من الكتب الإنجليزية، فيدرس لنا أحياًنا كتاب ماكنزي في علم الأخلاق، وأحياًنا كتاب مذهب المنفعة لجون ستيورات مل. وهكذا وهكذا من مزيج لم يكن له نظير في أي مدرسة أخرى. ونظام المدرسة شاق عنيف، فليس هناك ملاحق، وليس هناك إعادة سنة فمن رسب في أول امتحان آخر السنة رفد، وفي كل ثلاثة أشهر امتحان، ومن رسب في هذا الامتحان الثلاثي حرم من مكافآته، وهي جنيه ونصف كل شهر، وما تجمع من هذه المكافآت التي حرم منها بعض الطلبة تمنح مكافآت للمتفوقين: قسم منها لمن حاز أكبر درجة في كل علم أساسي، وقسم يمنح مكافآت على كتب تقرأ أثناء الإجازة، مثل مقصورة ابن دريد وشرحها ومختصر صبح الأعشى وكتاب «إميل» القرن التاسع عشر ونحو ذلك. وقد ينال الطالب النابغ ما يقرب من ثلاثين جنيها من هذه المكافآت، وقد أخذت من هذه المكافآت كل سنة ما يقرب من ٢٥ جنيهاً كنت أتبحبح فيها في حياتي. فمرة أخذتها على كتاب إميل القرن التاسع عشر، ومرة أخذتها على حفظ مقصورة ابن دريد وشرحها. ومرة على كتاب مختصر صبح الأعشى. هذا عدا مكافآت كانت تعطى لمن يأخذ أحسن درجة في أي علم من العلوم الرئيسة. وكل يوم ثلاثاء عصراً تصف الكراسي في فناء المدرسة ويدعى أستاذ من الخارج أو من المدرسة أو طالب من المتقدمين لإلقاء محاضرة في موضوع أعده، وأحياًنا يشترك في سماع هذه المحاضرات سعد زغلول أو قاسم أمين أو غيرهم من الكبراء، فيلقي علينا مثلا «رفيق بك» محاضرة في «قضاء الفرد وقضاء الجماعة»، ويلقي علينا الشيخ الخضري محاضرة في «أبي مسلم الخراساني» مرة وفي الغزالي مرة وفي «زياد ابن أبيه» مرة. ويلقي علينا العمروسي بك محاضرة في «هربرت سبنسر» مرة وفي «بستالوتزي» مرة وهكذا. ويتحين عاطف بك بركات فرصة الفسحة أو فرصة وجود بعض الطلبة في المكتبة فيقف ويلتف حوله ما شاء من الطلبة، فيخلق موضوعا يحاورهم فيه ويحاورونه؛ ويتشعب الموضوع، ويطول الجدل حتى يدق الجرس، فيكون من ذلك درس على طريقة سقراط، وكان رحمه الله طويل النفس في الجدل قوي الحجة، لا يكل في ذلك ولا يمل، وهي شيمة عرفت في أسرة سعد باشا زغلول كلها، مثل سعد زغلول، وفتحي زغلول، وعبد الرحمن زغلول، وعاطف بركات، يلذهم الجدل حتى في الموضوع الذي لا يحتمل الجدل، ويشققونه ويفرعونه ويعمقونه، فيكون من ذلك متعة عقلية تلذ المؤيد والمعارض. لا أذكر أني رفهت عن نفسي إلا أياماً كنت أخرج إلى كوبري قصر النيل حتى إذا توسطته وقفت زمًنا أستنشق هواءه وأستمتع بمنظره، ثم أسير إلى آخره فأميل ذات اليمين وأمشي بين الأشجار والنخيل والنهر حتى أصل إلى مسجد هناك أصلي فيه المغرب أو العشاء ثم أعود من حيث أتيت. وأحياًنا في ليلة الجمعة كنت أغشى منزل صديقي الشيخ مصطفى عبد الرازق، وكان منزلا يحتفظ بالتقاليد القديمة لبيوت الأسر الكبيرة، يكثر زوارها وتمد موائدها غداء وعشاء، ويطيب فيها السمر، ويطول فيها السهر، فكان أصدقاء الشيخ من الشبان ينفردون بحجرة في البيت يتلاقى فيها شبان الأزهر بشبان الحقوق ببعض الشبان الذين يتعلمون في أوروبا، فتثار المسائل على اختلاف ألوانها دينية وفلسفية وسياسية واجتماعية حيثما اتفق، نتبادل فيه الآراء والأفكار؛ وترى إذ ذاك آراء المحافظين تناطح آراء الأحرار المتمدنين، ومؤيدي السفور ينازعون مؤيدي الحجاب، والوطنيين يثورون على الرجعيين، وهكذا من سمر لذيذ يمتد إلى منتصف الليل فتكون من ذلك متعة عقلية وروحية لطيفة. ومرتين أو ثلاثا جمعت كل قواي، وحفزت كل همتي وقاومت كل خجلي، فذهبت إلى استماع الغناء في صالة تسمى «ألف ليلة» بالأزبكية من مغنية اسمها «الست توحيدة»، واتخذت كل الوسائل للاختفاء، لأن من رُئي وعلمت به المدرسة كان عرضة للتأنيب والعقاب — هذا كان كل ترفيهي، أما ما بقي من وقتي فللدراسة وللمدرسة. فلما عين ناظراً للمعارف اختير لها الأمير أحمد فؤاد (الملك فؤاد فيما بعد). ثم نمت الجامعة واستدعي لها بعض كبار المستشرقين واختير لها بناء هو بناء الجامعة الأمريكية اليوم. فأعجبني من دروسها محاضرات يلقيها الأستاذ نللينو في تاريخ الفلك عند العرب، ومحاضرات في الفلسفة الإسلامية يلقيها الأستاذ سانتلانا، ومحاضرات في الجغرافيا العربية يلقيها الأستاذ جويدي، وكنت أحضر هذه المحاضرات لماماً في غير انتظام ولا التزام، لثقل العبء علي بمدرسة القضاء. ولكن على كل حال رأيت لوًنا من ألوان التعليم لم أعرفه: استقصاء في البحث، وعمق في الدروس، وصبر على الرجوع إلى المراجع المختلفة، ومقارنة بين ما يقوله العرب ويقوله الإفرنج، واستنتاج هادئ ورزين من كل ذلك.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/14/
الفصل الرابع عشر
أما في غير الإنشاء فكنت راضياً عن نفسي في دروسي كلها. إلا ما يتصل بالحواشي الأزهرية والتدقيقات اللفظية فكنت أكرهها، وذلك داء قديم، ولكن لم تكن هذه تؤثر في الامتحان إلا ما كان من الامتحان النهائي للجنة الأزهر. وكنت متفوًقا على فصلي في الحساب والجبر والهندسة. آخذ مكافآتها كل عام. وتعرضت مرة وأنا في السنة الثالثة لحادث خطير كاد يفصلني من المدرسة التي لم أدخلها إلا بعد عناء — ذلك أنه أقيم سنة ١٩١٠ احتفال في المدرسة لعيد رأس السنة الهجرية، وعهدت إلي لجنة الاحتفال اختيار موضوع، فاخترت «أسباب ضعف المسلمين» وبنيت محاضرتي على أن أسباب ضعفهم ترجع إلى شيئين رئيسين: الأول فساد نظام الحكم في البلاد الإسلامية وما جره ذلك من ظلم للرعية وعسف بحريتها، واستغلال الحكام لمالها وتسخيرهم قواها لملاذهم الشخصية، والثاني رجال الدين فقد شايعوا الحكومات الظالمة وأيدوها، وتآمروا معها وبثوا في نفوس الشعب الرضا بالقضاء والقدر والاعتماد على نعيم الآخرة إذ حرموا نعيم الدنيا — كل هذا أضعف من نفوس المسلمين وأذلهم وأنهك قواهم، ولا أمل في صلاحهم إلا بصلاح رجال الحكومة ورجال الدين إلخ. فلما أتممت الخطبة دوي المكان بالتصفيق، ولكن راعني أن استدعاني عاطف بك إلى جانبه، وقال لي: هل جننت؟ أمثل هذا يقال؟ وطلب مني المحاضرة فسلمتها إليه ورأيته يسر إلى الشيخ الخضري كلاماً، فيقوم يعقب علي ويقول إن المحاضر — بالطبع — يقصد الحكومات الماضية ورجال الدين الماضيين، أما الحكومة الحاضرة فلا مأخذ عليها، وهي العادلة الحازمة، وهي التي رعت مدرسة القضاء وأنفقت عليها وعلمت طلبتها وغمرتهم بالخيرات، وأما رجال الدين اليوم فمثال للنزاهة والطهر والرقي. فلما انتهى الحفل قال لي عاطف بك: إن بقاءك في المدرسة الآن بيد القدر، فإن ذكرت الجرائد ما قلت واستخدمته في الأعراض السياسية ضحيت بك حرصاً على المدرسة — وشاء الحظ ألا يكون ذلك، وأن أبقى في المدرسة. وكان عاطف بك معذوراً؛ فالمدرسة يحاربها الخديو ويتربص بها الدوائر ويدس لها الدسائس، ورجال الأزهر لها كارهون، وإنما تعتمد المدرسة على الحكومة ورضا الإنجليز عنها، فإذا غضبت الحكومة وغضبوا هم أيضاً عليها لم يكن لها سند من أحد وقد كان الكلام في السياسة وما حولها في المدارس جميعها جريمة كبرى، حتى كان الكتاب لا يقرر في مدرسة من مدارس وزارة المعارف إلا بعد إقرار من المفتشين بأنه خال من السياسة، والمختارات من الشعر لا تعطي للتلاميذ حتى يقرها التفتيش، وهو لا يقرها إلا إذا خلت من السياسة بأوسع معانيها، فإذا قال المتنبي: أو قال بشار أبياته المشهورة في الشورى، أو قال شاعر أو ناثر شيئًا يتصل من قريب أو بعيد بالحكم ونظامه أو الحرية وقيمتها أو نحو ذلك فهذه سياسة محرمة يعاقب عليها المستر «دنلوب»، مستشار المعارف الإنجليزي، أشد أنواع العقاب، حتى ليرووا أن مدرسة اقترحت كتباً لمكتبتها وكان من بينها المصحف الشريف فاحتيج أيضاً إلى إقرار بأنه ليس فيه سياسة، وقد أعدى هذا جو مدرستنا فلم نسمع طول دراستنا كلمة واحدة من مدرسينا عن السياسة وشئونها والحكومة ونقدها، والإنجليز وتصرفاتهم — وكل علمنا بهذه الأمور كان عن طريق اتصالنا بالجرائد، فكنت أقرأ اللواء والمؤيد يومياً وأنفعل لهما وأتجاوب معهما. ولم أر إضراباً في المدرسة إلا مرتين: مرة كان فيها الإضراب سهلا يسيراً يكاد يكون عاما، يوم خرجنا قبل انتهاء الدروس (١٠ فبراير سنة ١٩٠٨) نشيع جنازة المرحوم مصطفى كامل، وكان يوماً مشهوداً اشتركت فيه جميع طبقات الأمة ونبض فيه قلبها وتيقظ فيه شعورها، والمرة الثانية — بعد إتمامي الدراسة — يوم أضرب فصل من فصول المدرسة، لأن الناظر حتم عليه الألعاب الرياضية في مكان معين. وكان هذا المكان مشمساً والدنيا حارة، فاستأذن الطلبة أن يلعبوا في الظل، فأبى بحجة أن الطلبة يجب أن يتعودا الخشونة في العيش والصبر على الشدائد، ولكن الطلبة لم يعجبهم هذا القول فامتنعوا عن اللعب ووقفوا في الظل لا في الشمس. فلما علم الناظر بذلك رعب وامتقع لونه لأن هذه أول حادثة من نوعها. فحضر في حالة عصبية ولكنه كتم غيظه، وطلب من الطلبة أن يصعدوا إلى فصلهم فأبوا ثم كررها فأبوا، ففكر لحظة ماذا يفعل، ثم رأى أن مخاطبة الجموع غير مجدية، فنادى طالباً بعينه تفرس فيه الخوف والطاعة، وأمره أن يخرج أمام الصف فخرج، ثم قال له: إما أن تصعد إلى فصلك وإما تخرج من باب المدرسة إلى الأبد، وكل الطلبة كانوا يعلمون من الناظر جده وصدقه والتزامه تنفيذ وعده ووعيده، فإذا قال الكلمة ففداؤه رقبته، فتردد الطالب قليلا، ثم صعد إلى فصله، وتفرس أيضاً فنادى الثاني. وقال له ما قال للأول ففعل فعله ثم نظر إلى الجماعة نظر المنتظر الظافر، وقال لهم: أظن أن لا معنى بعد ذلك للإضراب، انصرفوا إلى فصلكم فانصرفوا وانكسر الإضراب. استوقفني واستعادني فرأيت الدمع يترقرق في عينيه. وفي اليوم التالي أسمعني تخميساً لطيًفا لهذا البيت — طلبت منه أن يعلمني طريقة الصوفية؛ ويقبلني «مريداً» فوعد أن يكون ذلك يوم الجمعة في قبة الإمام الشافعي. وذهبت إلى هناك وانتحينا ناحية وجلسنا وقرأ علي العهد وتابعته ثم أعطاني الدرس الأول في الطريقة. وكان يلطف من عناء الدرس في المدرسة مداعبات الطلبة. ففي الفصل طلبة مكرة مهرة عركوا الحياة وعركتهم، وعرفوا الدنيا وعرفتهم، ولهم لسان طلق ذلق هجاء، وقدرة فائقة على السخرية اللاذعة. وفيهم السذج وأشباه السذج. سلامة قلب وضعف حيلة وسوء تصرف. وفيهم من هو بين هؤلاء وهؤلاء — ولم يمض الأسبوع الأول من دخولنا المدرسة حتى تكشفت أخلاقنا وعرف بعضنا بعضا، وتبينت مواقع القوة ومواضع الضعف في كل منا سواء من الناحية الخلقية أو العقلية. فاستغل الأقوياء الضعفاء كما هو الشأن في الوجود، واتخذ بعضهم بعضاً سخرياً. لعب الماكر الماهر بالأبله الساذج لعب القراد بالقرود، ووقفوا لهم بالمرصاد يحصون غلطاتهم ويئولون تصرفاتهم بما يستخرج الضحك من أعماق القلب. هذا مغفل نتضاحك من غفلته، وهذا بخيل نتنادر على بخله، وهذا سريع الغضب يهيج لأقل سبب، فإذا هاج أتى بحركات بهلوانية واندفع في السب والشتم، فكنا نثير غضبه ثم نضحك مما يصدر عنه. وهذا إذا مشي فكأنه الديك الرومي في انتفاشه، وهذا إذا ضحك تقطعت ضحكته وطالت فكأنما هي نهيق، ومن كل ذلك لهو طريف وضحك عميق، فكأن الطبيعة عوضتنا عن هذا الجد العابس والدرس القاسي والعناء الرتيب بهذه الفكاهات الحلوة والمرة تنفس عن نفوسنا، وتفرج من ضيقنا. وراعني يوماً وأنا في مدرسة القضاء حادث لم يكن في الدراسة ولكن بجوارها أثر في أثر في أثرا بالغا فذكرته: ذلك أنه كان بجوار المدرسة بيت ثري كبير، له المزارع الواسعة والأملاك الكثيرة من مختلف الأنواع، وكان يعيش عيشة فخمة أنيقة، وفيه طيبة تحمله على الإنفاق على بعض الأعمال الخيرية، وفيه سذاجة تمكن شياطين المال من استغلاله وإغوائه. وكان من عظمته وأبهته وفخفخته أنه لما مدت شركة الترام خطاً أمام بيته (هو خط الجماميز رقم ١٧) أبى عليها ذلك مدعياً أن الشارع في ملكه وتحت حكمه، فكانت عربته تنتظر أولاده صباحاً على الشريط أمام الباب، فتمنع الترام أن يسير، وتقف القطارات صًفا طويًلا حتى ينزل أولاد الباشا ويذهبوا بالعربة إلى مدارسهم. وكتب إذ ذاك الشيخ علي يوسف في جريدة المؤيد مقالا طريًفا في هذا الموضوع، والباشا وشركة الترام في نزاع طويل في المحاكم أيهما المحق. والباشا يسرف ويسرف، ويبعثر الأموال يميًنا وشمالا. ولا تكفيه غلة أملاكه الواسعة؛ فيمد يده يقترض من شياطين المال، وأخيراً تستغرق أملاكه الديون، وأمر وأنا في طريقي إلى المدرسة فأرى حركة في السراي كبيرة، وأسمع الأجراس تدق إعلاًنا ببيع أثاث السراي بالمزاد بعد أن خرج أهلها منها. ولا أنسى يوماً أخرج من مدرسة القضاء، فأرى الباشا الكبير يقف أمام محطة الترام ينتظر مجيئه لركوبه بعد أن كانت عربات الترام الكثيرة تنتظر عربة أبنائه حتى تتحرك بهم إلى مدارسهم.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/15/
الفصل الخامس عشر
هذا أنا ومدرستي. أما أنا وبيتي فقد كان بيتي هادئًا مطمئًنا سعيداً سعادة سلبية، وأعني بالسعادة السلبية السعادة الخالية من الآلام. أما السعادة الإيجابية من فرح ومرح وضحك ونحو ذلك فقد كان بيتنا خالياً منها تقريباً، لإفراط أبي في جده وحبه للعزلة وعكوفه على القراءة أكثر وقته. وكان بيتنا يتألف من أبوي وأنا وأخ وأخت يكبرانني وأخ وأخت يصغرانني. كان أخي الأصغر شاباً مرحاً ذكياً مملوءاً بالحياة. كثيراً ما يثور على تقاليد البيت التي وضعها أبي، فهو يتأخر عن موعد العودة، وهو يذاكر ويلعب ويجد ويهزل. وكان ذلك يغيظ أبي فيكثر بينهما الجدال والخصام ويزداد ذلك فيصل إلى حد الضرب — علمه أبي كما علمني، والتحق بمدرسة تابعة للأوقاف تجمع في تعليمها بين العلوم الدينية والمدنية. ثم تخرج منها والتحق بمدرسة القضاء في القسم الأول، إذ كانت مدرسة القضاء تنقسم إلى قسمين: قسم أول ومدته خمس سنوات، وقسم عال ومدته أربع سنوات، وهذا الأخير هو الذي التحقت أنا به، وكان أخي في السادسة عشرة من عمره، وقضى السنة الأولى في المدرسة بنجاح، وتفوق في الرياضة فنال جائزتها. وجاء الصيف وجاءت الإجازة، ودعاني صديقي من شبين الكوم أن أقضي عنده أياماً ففعلت، ورجعت فوجدت البيت واجماً، ووجدت أخي هذا قد بسط له فراش في وسط الغرفة وهو لا يكاد يعي من ارتفاع حرارته، ومن حين لآخر يتألم ويتأوه، وكل من في البيت خائف مرتعب — ذهبت من فوري إلى الطبيب واستدعيته فحضر وفحصه فحصاً طويلا ثم هز رأسه، ونزلت معه أستفسر عن الحال، فقال إنها الحمى التيفودية والحالة خطيرة، ولا تمكن العناية به في مثل هذه الحالة إلا إذا نقل إلى مستشفى الحميات، ووصف الدواء وطريقة العلاج وانصرف، ورجعت إلى أمي وأبي في خوف وقلق أشير عليهما بنقله إلى المستشفى فرفضا، فالمستشفى كلمة مرعبة مقرون اسمها في ذهنهما وفي ذهن الشعب كله بالموت، وهم لا يسمونه بالمستشفى كما نسميه، ولكن يسمونه «الأشلاء»، وحاولت طويلا أن أفهمهما المستشفى ومزاياه وشدة عنايته بالمرضى واشتد منا القلق وانقبضت نفسي انقباضاً شديداً حتى لأحسست أن روحي تكاد تخرج من بين جنبي، وأخرج من البيت ولا أدري أين أذهب، وأعود ولا أدري لم عدت، لم يغن الطبيب ولم يغن الدواء واشتد الحال سوءاً، وأخيراً وبعد كرب شديد لفظ نفسه الأخير. وقامت قيامة البيت، وامتلأ عويلا وصراخاً؛ فأما أمي فتلطم وجهها حتى تسقط مغشياً عليها، وأما أبي فيحترق قلبه في الباطن ويتجلد في الظاهر، وتعد العدة لدفنه وتسير جنازته إلى الإمام حيث أعد أبي مدفنه، ويرفض أن يقيم مأتماً وأن يقابل أحداً، فأقيم المأتم وأقابل الناس وينقلب بيتنا محزنة. وكل خميس تجتمع النساء للعويل والصراخ وتدعى (المعددة) تغني غناء حزيًنا بكلام يثير الشجون، ويقطع القلوب، فلما فرغت (خمساننا) التزمت أمي أن تذهب كل خميس إلى بيت مأتم، تعرف أهله ولا تعرفهم، فكل المآتم سواء، وكل الحزانى أصدقاء، وتنفرد بنفسها (فتعدد) المعددة، وكل شيء يلهمها البكاء — حجرته التي ينام فيها، ومكتبه الذي كان يذاكر عليه، وكتبه التي كان يذاكر فيها، وأصدقاؤه الذين كان يلقاهم وكل شيء يذكرها به؛ موعد الأكل وموعد الخروج إلى المدرسة، وموعد العودة منها، فأما أبي فقد صبر على حزن دفين، حتى أبى إلا أن يغسله بيده ويدفنه بيده، وكانت سلواه أن يكثر من تلاوة القرآن ويهب ما يقرؤه إلى روحه، وسمع بكتاب للسيوطي اسمه «فضل الجلد عند فقد الولد» فنسخه بيده، يتصبر بقراءته وكتابته، وأما أنا فقد وضع هذا الحادث على عيني منظاراً أسود، فلا أرى في الدنيا إلا السواد، ولا أحب أن أسمع من الأصوات إلا صوت البكاء، فالشجرة الناضرة إلى ذبول، والحياة المبتهجة إلى فناء، والحمامة إذا غنت فإنما تبكي، والسعيد إنما يسعد ليشقى. وانقلبت في عيني قيم الأشياء، فهذا الذي يكسب المال لم يكسبه؟ وهذا الذي يعمل لم يعمل؟ والناس مجانين إذا تخاصموا، ومجانين إذا لهوا أو ضحكوا، فالدنيا لا تزن جناح بعوضة، وخير للناس أن يقضوا حياتهم من غير اكتراث حتى يدركهم الموت؛ واستولى هذا الحزن علي أسابيع بل أشهراً حتى سميت في مدرستي «بمالك الحزين» فإذا نسيت الحزن بعض الوقت في مدرستي ذكرته في بيتي من منظر أمي، ولا تسل عن موقف دقيق وقفته وحرت في التصرف فيه. فقد أتى موعد صرف مكافأة المسابقات في المدرسة، وكان أخي هذا الذي مات يستحق مكافأة الرياضة، وهي لا تصرف إلا بإمضاء مستحقها فإذا لم يكن فإمضاء أبيه، وأنا وأثق أني إذا أخبرت أبي فإنما أشعل في قلبه ناراً جديدة، وأعيد عليه يوم مأتمه من جديد، ففضلت أن أترك المكافأة وألا أخبر بها أبي، ومضت سنة وبضعة أشهر والحزن يتحول من نار مشتعلة إلى نار هادئة قد علاها بعض الرماد، وجاء رمضان وأنا في السنة الثالثة في مدرسة القضاء فنغر الجرح الذي لما يندمل، واشتعلت النار التي لم تنطفئ. كان أخي الكبير في نحو الخامسة والثلاثين من عمره وكان رجلا صالحاً طيب القلب مشرق الوجه في نضرة وحمرة، ولكنه كان محدود الذكاء، لم يضطرب أبي في تعليمه اضطرابه في تعليمي، ولم يتردد بين مدرسة وأزهر كما تردد في، فقد حفظ القرآن والمتون، والتحق بالأزهر واستمر فيه وفي دراسته الطويلة نحو عشرين عاماً، يتنقل بين كتب الأزهر ومشايخه، حتى إذا أتم الدراسة خاف من الامتحان النهائي، فهو يقدم ثم يحجم ثم يقدم ويحجم، لا يجذبه الطموح ولا يدفعه إلى المغامرة حب المجد، قد تزوج وخلف ابًنا وبنًتا، وهو وأهله يقيمون معنا في البيت، وحياته بين بيته ومسجده وأزهره؛ فلما جاء رمضان هذا كان برنامجه أن يصوم النهار ويصلي صلاة التراويح في المسجد ويعود إلى منظرة البيت يقرأ فيها القرآن وحده أحياًنا ومع صديق له مكفوف البصر أحياًنا حتى السحور، ثم يتسحر وينام إلى قريب من الظهر، وهذا دأبه. ففي ليلة من أواخر رمضان صلى أخي العشاء والتراويح كما كان يصلي، وعاد إلى البيت يقرأ القرآن كما كان يقرأ، وتناول سحوره، كما كان يتناول ثم نام ونمنا، وبعد قليل سمعنا صرخة قمنا لها مذعورين، وذهبنا إلى مصدر الصوت، فإذا هي زوجته تصرخ، وإذا هو ممدود على الأرض لا يعي، وتناديه فلا يسمع وتستجوبه فلا يجيب، وليس فيه إلا نفس يتردد، فحملناه إلى سريره وقضينا آخر الليل في رعب لا يوصف، وبكاء لا ينقطع، وحزن ذكر بحزن، فلما أصبح الصباح ذهبت إلى أكبر طبيب إفرنجي مشهور وسألته أن يذهب معي مبكراً، ورأى لوعتي فقبل رجائي، وحضر معي إلى البيت وكشف على المريض فلما تبعته أخبرني أنه انفجار في المخ نشأ عنه شلل في النصف الأيسر ووصف له الدواء فأحضرته، وقمت على علاجه أعنى بشأنه، وأناوله الدواء في موعده حتى أخذ يتحسن في بطء، وتحرك لسانه في ثقل، وحرك يده ورجله في تخاذل، ومشى مشية الصبي بدأ يتعلم، وخرج من البيت يجر رجله وحالته في تحسن مستمر والطبيب يعوده من حين إلى حين، ولكن ما لبث نحو شهرين حتى انتكس، وأصيب ثانية أشد مما أصيب أولا، واستحضرت له الطبيب نفسه فقلب كفيه يخبرني ألا أمل. وكانت النهاية، وكان الحزن شديداً وكانت المصيبة قاسية، وكانت النصال تتكسر على النصال، ولم يجد أبي وأمي من سلوى إلا أن يحجا ويقفا بعرفة ويزورا المدينة ويضعا أيديهما على ضريح النبي صلى الله عليه وسلم يسألان الرحمة للفقيدين والصبر للأبوين.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/16/
الفصل السادس عشر
لم يعبأ ناظر مدرسة القضاء بالترتيب فعينني مع الثلاثة الأول — وإن كنت السادس — مدرساً في المدرسة بعد شهرين من تخرجي، وابتدع في المدرسة نظاماً لم يكن معروًفا في مصر؛ وهو نظام المعيدين، فأتبع كل معيد بأستاذ كبير يحضر معه الموضوع ويدخل معه في الدروس، ووزع المعيدين على الأساتذة بحسب كفايتهم وميولهم، فهذا معيد مع أستاذ الفقه وهذا معيد مع أستاذ الأدب، واختارني معيداً معه في دروس الأخلاق، وهذا كان سبباً في شدة اتصالي به واستفادتي منه، فكنت أذهب إلى بيته في كثير من الأيام عند تحضير درس، وكان يحضره من كتب الأخلاق الإنجليزية، فكان يقرأ بالإنجليزية ويمليني بالعربية، وأحياًنا ينفرد هو بالترجمة ويسمعني ما ترجم، وكنا نتناقش في الدروس قبل إلقائها، وأحياًنا يجرنا الحديث من موضوع الدرس إلى موضوع آخر اجتماعي أو ديني أو سياسي، فيعرض آراءه ويستمع إلى موضوع آخر اجتماعي أو ديني أو سياسي، فيعرض آراءه ويستمع إلى مجادلتي، وقد أثر في أثراً كبيراً من ناحية تحكيم العقل في الدين، فقد كنت إلى هذا العهد أحكم العواطف لا العقل، ولا أسمح لنفسي بالجدل العقلي في مثل هذه الموضوعات، فالدين فوق العقل، فإن جاء فيه ما لا يدركه العقل آمنا به، لأن علم الله فوق علمنا، وهو أعلم بما يصلحنا وما يضرنا، وهو يأبى إلا تحكيم العقل والبحث عما لا نفهم حتى نفهم، وكان له غرام بالبحث، وصبر على الجدل، وطول نفس في المناقشة حتى ليفضل من يناقشه أن يسكت أخيراً وإن لم يقتنع، من طول ما أدركه من التعب والعناء، كان من أثر هذا الجدل الديني أني أعملت عقلي في تفاصيل الدين وجزئياته، أما جوهر الدين من إيمان بالله وجلاله وعظيم قدرته فظل ساكنا في أعماق قلبي لم ينل منه أي جدل ولم يتأثر بأي قراءة، وكل ما في الأمر أني صرت أكثر تسامحاً مع المخالفين، وأوسع صدراً للمعارضين. واستفدت منه سعة في الأفق، فقد كان — بحكم تربيته في الأزهر وفي دار العلوم وفي إنجلترا، وبحكم بيئته التي يعيش فيها، ومجالسه التي يجلس إليها ومخالطته أمثال سعد زغلول وفتحي زغلول وقاسم أمين — مطلعاً على كثير من الشئون — معتنًقا لكثير من الآراء القيمة بعد البحث والدرس واستعراض الآراء المختلفة. كما قبست قبساً من خلقه، فقد كان صريحاً صراحة قد تجرح، صادًَقا في قوله ولو آلم، مشتداً في العدل ولو على نفسه، ملتزماً النظام ولو ضايق نفسه وضايق من حوله — أذكر مرة أن طلب للشيخ محمد المهدي أعلى درجة مالية في المدرسة، وأوصى الخديوي بمنحها له، وكان عاطف بك يرى أن غيره أحق منه، فاجتمع مجلس الإدارة برئاسة شيخ الجامع الأزهر، وعضوية عبد الخالق باشا ثروت وغيره وكلهم يرى أن المسألة صغيرة لا تستحق مغاضبة الخديوي من أجلها، فوافقوا على إعطائه وصمم عاطف على رأيه، فلما لم تنجح حجته طلب أن تدون في المحضر معارضته، ومنح الشيخ المهدي الدرجة بالأغلبية فذهب الشيخ مهدي ليشكره، فقال عاطف لا تشكرني يا أستاذ فقد كنت معارضاً، قال الشيخ مهدي: إذن فلأشكر الله.. وهو لا يقبل الرجاء يمس به العدل ولو خاصم في ذلك أكبر كبير. ولما كان وكيلا للمعارف تقدم طالب إلى مدرسة هو ابن حمد باشا الباسل وسنه تزيد عن السن القانونية فأبى، وألح سعد باشا في قبوله فأبى إلا أن يعدل القانون ويقبل جميع من كانوا في مثل سنه. لازمت عاطف بك في دروس الأخلاق هذه سنين، وكنت كلما تقدمت في تحضير الدروس معه حملني عبء تدريس هذا العلم تدريجياً، هذا إلى دروس أخرى كنت أستقل بتدريسها من فقه أحياًنا، وتاريخ إسلامي أحياًنا وغير ذلك، وكان عنائي بالدرس أيام كنت مدرساً لا يقل عن عناء الدرس أيام كنت طالباً، فقد كنت أقضي الساعات الطويلة في تحضير الدرس الواحد من مصادره المختلفة، وأكتب المذكرات للطلبة في كل مادة أدرسها. واتصلت بصديقي وأستاذي أحمد بك أمين. فقد درس لنا بعض المواد القانونية أيام كنت طالباً، فلما تخرجت انقلبت الأستاذية إلى صداقة، ففي إجازة من الإجازات الصيفية اتفقنا على أن نقرأ كتاباً في أصول الفقه ليقارن بينه وبين أصول القوانين في التشريع المدني. فكنا نجتمع كل يوم صباحاً ونقرأ نحو ساعتين في كتاب «الموافقات» للشاطبي، وبعد أيام من قراءتنا في هذا الكتاب اقترح علي اقتراحاً غريباً، وهو أن نقضي إلى قراءتنا في أصول الفقه ساعة في دراسة الآثار الإسلامية، فأحضرنا خطط علي باشا مبارك نقرأ فيها كل يوم الآثار الموجودة في شارع من شوارع القاهرة، من مساجد وتكايا وأسبله وبيوت أثرية ونحو ذلك، فإذا جاء العصر التقينا في أول هذا الشارع، ومررنا على كل مسجد، ندخله ونطبق ما كتبه على باشا مبارك في خططه. ونعرف تاريخه ومن بناه، ونقرأ اللوحات الرخامية التي تمدنا بهذه المعلومات. واستمررنا على ذلك نحو ثلاثة أشهر أتممنا فيها كل شوارع القاهرة، وألممنا فيها بكل آثارها، فكان درساً غريباً مفيداً. وإلى جانب ذلك اشتقت جداً إلى أن أعرف لغة أجنبية. فهؤلاء أساتذتي العصريون يدلون بمعرفتهم لغة أجنبية — هذا يدل بلغته الفرنسية، وهذا يدل بلغته الإنجليزية، وكل يعتمد عليها في تحضير دروسه، ويذكر لنا أنها تساير الزمان، حتى إن الكتاب المؤلف في علم منذ عشر سنوات لا يصلح أن يكون مرجعاً اليوم إلا بعد التعديل، كالكتب الأزهرية التي يدعى أنها تصلح لكل زمان ومكان، ولأن هؤلاء الأساتذة كانوا يقولون دائماً إن من اقتصر على اللغة العربية يرى الدنيا بعين واحدة، فإذا عرف لغة أخرى رأى الدنيا بعينين. وكان من البواعث على هذا أن أحمد بك أمين قال لي يوماً، إن علي باشا مبارك أهمل في خططه إهمالا كبيراً، إذ لم يذكر شيئًا عن بيت شاهبندر التجار في «حوش قدم»، مع أنه بيت أثري عظيم، يمثل الحياة الجماعية في القرن الذي بنى فيه، وقد اكتشفته في كتاب إنجليزي في الآثار، ألفه بديسكو بالألمانية، وترجم إلى الإنجليزية. لهذا فكرت أن أتعلم لغة أجنبية، وحرت بين الإنجليزية والفرنسية ثم فضلت الفرنسية اعتماداً على أني تعلمت مبادئها في صغري وأتممت دروسها إلى السنة الرابعة يوم كنت في مدرسة والدة عباس باشا، فاستذكار القديم والبناء عليه أهون من الابتداء في تعلم لغة جديدة، وبحثت عن مدرس واتفقت معه على أن يدرس لي أربعة دروس في الأسبوع، واشتريت الكتب، وبدأت أذاكر الدرس الأول، ولكن — للأسف — وقع اختياري على مدرس خائب، فهو لا يحتفظ بموعد، ولا يهتم بدرس، وصبرت عليه صبراً طويلا حتى مللت وانصرفت عن الدرس إلى حين. وفي هذه المدة اتصلت بحزب الأمة الذي تكون بجانب الحزب الوطني، وحزب «الإصلاح على المبادئ الدستورية»، وعلى الأصح اتصلت بجريدته المسماة «بالجريدة» التي كان يرأس تحريرها الأستاذ أحمد لطفي السيد، وكانت حجرته في الجريدة منتدى لجمهرة من الشبان المثقفين، ومن حين لآخر كانت تلقى في فناء الدار محاضرات سياسية يدور حولها الجدل. ولست أنسى يوماً كان يحاضر فيه الأستاذ أحمد لطفي السيد، وكان يحضر الحفل عدد كبير من رجال السياسة منهم الشيخ علي يوسف وإبراهيم الهلباوي، فما نشعر إلا وقد أطار جماعة من طالبة الحقوق حماماً أعدوه معهم لهذا الوقت تنكيلا بإبراهيم الهلباوي إذ كان محامياً عن الإنجليز في حادثة دنشواي التي كان سببها الحمام، وساد الهرج والمرج، وخيف على الشيخ علي يوسف وإبراهيم الهلباوي من الاعتداء. فحضر البوليس ومكنهم من الخروج آمنين. وقد استفدت من هذا الاتصال شيئًا من الثقافة السياسة والاجتماعية بفضل أحاديث أستاذنا لطفي، ومحاضرات المحاضرين والاتصال بنخبة من خيرة المثقفين. استمررت مدرساً في مدرسة القضاء سنتين. وكانت هناك مشكلة هي أني لم أنجح في الكشف الطبي لقصر النظر، فعينت (ظهورات) حسب اصطلاح المستخدمين، ومعنى هذه الكلمة أن الموظف الذي يعين على هذا الشكل ليس له حق في المعاش عند بلوغه السن. وليست له ضمانات في بقائه في الوظيفة، إذ يكفي إشارة من الرئيس بالاستغناء عنه فيستغنى، أما الموظف الثابت أو على حد تعبيرهم (المثبت) فله الحق في المعاش، ولا يخرج من الخدمة إلا بمجلس تأديب يقرر فصله، وهي ميزات لا يستهان بها، وأنا من طبعي تفضيل التدريس على القضاء ولكن أود لو كنت مدرساً (مثبًتا) ففكر عاطف بك حرصاً على مصلحتي أن أعين قاضياً لمدة قصيرة — والقاضي يعين بمرسوم، ولا يحتاج من يعين بمرسوم إلى كشف طبي — فإذا عينت قاضياً كنت مثبًتا، فإذا انتقلت إلى مدرسة القضاء نقلت (مثبًتا) وكذلك كان، ولكن أتت مشكلة أخرى وهي أن مدير المحاكم الشرعية أبي إلا أن يعينني قاضياً في الواحات الخارجة، وهي بلد بعيد يشق انتقالي إليها على أبي وأمي اللذين أصبحاً لا يجدان عزاء من فقد أخوي إلا بقائي بينهما، فحاولت ما استطعت وحاول عاطف بك ما استطاع أن يغير الواحات بأي بلد آخر فلم يستطع، فتوكلت على الله وقبلت الوظيفة واستعددت للسفر إلى الواحات. وقد قضيت فيها ثلاثة أشهر، ولا أدري ما الذي بعثني على أن أدون مذكرات يومية لهذه الرحلة فلأنقل هنا بعضها: بعد أن قضيت يومين في أسيوط رأيت فيهما المدينة ومبانيها ومتاجرها ومساجدها وخزانها، ركبت قطار الصعيد في الساعة الثالثة بعد نصف الليل، فوصلت مواصلة الواحات في الساعة السابعة صباحاً، ثم انتقلت إلى قطار الواحات فسار القطار سيرا بطيئًا وبدت لي الصحراء متسعة الأرجاء، طوراً يمد الناظر نظره فلا يرى إلا أرضاً منبسطة كلها رمال، وطوراً يرى هضبات مرتفعة، ومررت على أرض يسمونها «غيط البطيخ»، لأنها أرض رملية واسعة بعثرت فيها أحجار مكورة كأنها البطيخ، وكان لون الرمال يختلف كلما سرنا فتارة أحمر وتارة أصفر وتارة غيرهما؛ وظل هذا منظر الصحراء حتى وصلت بلدة المحاريق في الساعة الثالثة بعد الظهر، وكان يقيم فيها المنفيون، ثم وصلت الخارجة في الساعة الرابعة، فكانت مدة الطريق نحو تسع ساعات، ولو أسرع القطار لقطعها في ثلاث أو أقل، وكان يحزنني أثناء الطريق ذكرى أبوي الشيخين وحنيني إلى وطني وألمي من غربتي. فلما قاربت الوصول إلى الخارجة، مررت على مركز لشركة إنجليزية أنشئت لتستغل أرض الواحات، فرأيت إنجليزيين يقفان في الشمس يشرفان على العمال، فقلت في نفسي أيأتون من إنجلترا الباردة إلى الواحات المحرقة طمعاً في الكسب وأملا في النجاح، ويعيشون عيشة فرحة مستبشرة، وتأتي أنت من بلدة في مصر إلى بلدة أخرى في مصر ليس بينهما إلا أقل من يوم وتبكي؟ — خجلت من نفسي وتبين لي سبب من أسباب نجاحهم وإخفاقنا وغناهم وفقرنا. وعاهدت الله ألا أحزن بعد ذلك ولا أبكي. نزلت يومين ضيًفا على معاون الإدارة، إذ لم يكن للواحة مأمور وإنما يقوم مقامه معاون، وبحثت عن بيت أسكنه، وأخيراً اهتديت إلى بيت هو خير ما رأيت، أجرته ثمانون قرشاً في الشهر، دوران بنيا بالطوب النيئ، وسقفا بجذوع النخل. إذا فتحت شبابيكه أسندت بقطع حجرية، أحسن ما فيه أنه بسيط خلا من كل مظاهر المدنية والحضارة، يطل من ناحيته البحرية على بساتين زرعت نخيلا ومشمشاً وبرتقالا، ويطل من ناحيته الجنوبية على الصحراء الرملية، وبعد أن استرحت فيه قليلا سمعت الباب يدق، فجاءني الخادم يقول إن أخا المأذون بالباب، فأذنت له، فدخل ووراءه غلام يحمل صحفتين في يديه، في إحداهما لحم نيئ، وفي الأخرى أرز غير مطبوخ. قلت: ما هذا؟ قال هي هدية من أخي المأذون، فاعتذرت في رفق. فأخذ يتلو علي الأحاديث الكثيرة في فضل الهدية وقبولها، فاضطررت أن أعتذر في عنف، وبعد ساعة أو ساعتين دق الباب ثانية، فإذا بخادم العمدة يحمل معه عشر برتقالات، وهي في نظرهم هدية ثمينة، لأن زمن البرتقال قد انقضى من الواحات وأصبح فيها تحفة ثمينة، فاعتذرت أيضاً. زرت الخارجة، وقد علمت أن عدد سكان بلدانها كلها ٨٣٨٣ نفساً، وأكبر بلادها الخارجة، فهي تزيد عن خمسة آلاف، ثم باريس فهي ألف وبضع مئات، ثم بولاق وهي تزيد عن الألف، ثم جناح وهي تزيد عن أربعمائة. أكثر كسبهم من النخيل في موسم البلح، وهم يزرعون القمح والأرز والشعير والفول السوداني والمشمش والزيتون والبرتقال وقليلا من البطيخ، وحب القمح والأرز ضئيل كأهلها وحيواناتها، وقد أخبرت أنهم إذا أرادوا أن يزرعوا قمحاً فلابد أن يأتوا بالتقاوي من الصعيد، ولا يبذرون قمحهم لأنهم إن فعلوا ذلك خرج المحصول في غاية الضعف والصغر، وبيوتها كبيوت قرى الريف المصري الحقيرة. مبنية بالطين مسقوفة بجريد النخل. وبعض شوارعها مسقوف وبعض أجزاء هذا السقف وطيء حتى يضطر السائر أن ينحني وهو يسير انحناء يقرب من الركوع، وترى الرجال والأطفال إذا مروا في هذه الشوارع مساء يحملون أعواداً من الخشب يشعلونها ليهتدوا بها ويتقوا العقارب. فيها طائفة من العميان يعملون سقائين وهم يسيرون جماعات وعلى ظهورهم القرب، يحملون الماء من العيون إلى البيوت، وليس بها سقاء إلا أعمى. وأغرب مناظرها منظر العيون تنبع من الأرض وتجري في الجدول، وبعضها طبيعي وبعضها مصنوع، وبعضها كبير وبعضها صغير، وبعضها قد بذل في عمله جهد كبير، وبعضها يدل مظهره على أنه من أثر الرومان. والناس يملكون ماء العين بالساعات، قسم الأسبوع إلى ساعات، فمنهم من يملك العين ساعتين أو ثلاًثا أو أكثر في الأسبوع، يسقي فيها أرضه وزرعه. زرت ُ كتَّاباً في الخارجة، وهو أسطواني الشكل بني على صخرة وليس فيه منفذ للضوء إلا الباب، أرضه طين جاف ليس مفروشاً بشيء إلا بعض أبراش في جوانب الحجرة يجلس عليها الأطفال، وسألت عن الفقيه فلم أجده، ورأيت الأطفال يقرءون في ألواح من الصفيح طليت بالطفل وهم يطلونها كلما مسحوا اللوح وحددوا الكتابة، ولفت نظري طفل كبير، أخذت لوحه فوجدته قد كتب فيه المعوذتين وبعدهما: «وقد تم طبع هذا المصحف الشريف في مطبعة كذا». وهو يحفظه على أنه من القرآن الكريم. صليت الجمعة في مسجد البلدة، وأغرب ما سمعت أن الخطبة كلها كانت حثا على الزهد وتحذيراً من السفر إلى أوروبة لقضاء الصيف مع أن أهل الواحات زهاد بطبعهم لا يجدون ما يأكلون إلا بعد العناء، وما سمعوا قط باسم أوروبة إلا من الخطيب. وما حدثتهم أنفسهم حتى ولا بالسفر إلى الصعيد، ولكن لا عجب فالخطيب يحفظ خطبته من ديوان مطبوع من غير نظر إلى ما يلائم وما لا يلائم. وطلب مني أن أقرأ درساً بعد الجمعة فقرأت درساً موضوعه «الحث على العمل ومضار الكسل» واعتقادي أن لا قيمة لهذا الحديث وهذا الدرس، فهم لا يصلحون إلا بإصلاح بيئتهم. اليوم جلست أول مرة في مجلس القضاء فتهيبته؛ لأني مع دراستي الفقه بأكمله دراسة واسعة عميقة، وأصول الفقه بأكملها دراسة واسعة عميقة كذلك، ونظام القضاء والإدارة سواء في ذلك القضاء الشرعي والأهلي والمختلط، ونظام المرافعات وما إليها، وعرضت علينا نماذج كثيرة من القضايا وحيثياتها وأحكامها، وزرنا بعض المحاكم واستمعنا لبعض قضاياها، ودرسنا بعض القضايا العويصة ذات المبادئ؛ مع كل هذا تهيبت هذا المجلس وخجلت من نفسي، وخجلت ممن حولي ولم أدر ماذا أفعل، وكان موضوع القضية طلب امرأة نفقة من زوجها الغائب، وجلس الكاتب عن يميني ونادى الحاجب المدعية فحضرت، ونادى المدعى عليه فلم يحضر، وإلى هنا ارتبكت ولم أدر ماذا أملي على الكاتب، فهربت من الإملاء عليه وحكمت في القضية حيثما اتفق، وأمرت الكاتب أن ينتظر، ورفعت الجلسة، ثم عدت إلى سجل القضايا أبحث عن قضية مثلها لأتعرف كيف كتب فيها، ثم أمليت على الكاتب على نمط ما في السجل مع تغيير أسماء الأشخاص ومقدار النفقة، وكان موقًفا مخجلا حًقا يدل على أن العلم غير العمل. كتب إلي صديقي وأستاذي أحمد بك أمين كتاباً طريًفا مفيداً، ومما جاء فيه: «إن كلمة واحة مصرية قديمة، وإن الواحات الخارجة هذه كان اسمها «واحت رست» أي الواحات الجنوبية، وإن كلمة واحة كان معناها في الأصل الكفن أو المومياء ثم صارت تطلق على مقر الأبرار من الأموات، لأن قدماء المصريين كانوا يعتقدون أن الواحات الخارجة هي مقر الأبرار، وأن الواحات الداخلة مقر الأرواح، وقد قرأت فيما قرأت أن عندكم بلداً اسمه «تادروه» به ثلاثة معابد، منها معبد من عهد البطالسة ومنها معبد من عهد الرومان، وقرأت أيضاً أن الواحات الخارجة كانت في أول عصر المسيحية مقراً للزهاد من المسيحيين الذين انقطعوا عن العالم للعبادة، ولهم من الآثار بتلك الجهة مقبرة كبيرة تسمى البجوات بها نحو مائتي قبر، ولا يزال ببعض هذه القبور نقوش حسنة» وقد أثر في هذا الخطاب فعزمت أن أزور الآثار القديمة الموجودة في الخارجة، كما فعلت مع صديقي هذا في زيارة الآثار الإسلامية. بعض موظفي الحكومة هنا يتزوجون زواجاً يشبه زواج المتعة، فالموظف يختار فتاة يستجملها ويتزوج بها، فإذا حلت في عينه فتاة أخرى طلق الأولى وتزوج الثانية، وتبقى معه الزوجة إلى أن يصدر الأمر بنقله من الواحات فيطلقها ويرضيها بقليل من المال. وقد تأتي منه بولد أو أكثر، فبعضهم يترك الزوجة وأولادها، وبعضهم يأخذ أولاده معه، ويترك زوجته بعد أن يطلقها، ولكن أكثرهم يتحرجون من الإنسال، ويتخيرون الفتاة العاقر أو المرأة المرضعة حتى لا تنسل. وعرفت هنا ستة موظفين تزوج منهم هذا الزواج ثلاثة، وقد عرض علي مثل هذا الزواج فأبيت لاعتقادي أنه مناف للمروءة وأنا قادر على ضبط نفسي ولله الحمد. أنا هنا في جماعة من الموظفين أستغيث بالله منهم. كلما اجتمع بعضهم ذكروا الغائبين بالسوء في سيرتهم وبيوتهم، ويظهر أن سبب ذلك أن الحكومة تجعل من بين عقوباتها نقل الموظف الذي أساء السيرة إلى الواحات أو إلى أقصى الصعيد، فكأن سكان هذه البلاد قد حكم عليهم ألا يروا موظًفا صالحاً، ولم ينطبق علي هذا القول لأن القضاة الشرعيين كانوا إذا نقلوا إلى هذه البلاد البعيدة أتوا بشهادات طبية تثبت أن جو هذه البلاد لا يلائمهم. فلما ضاق مدير الإدارة الشرعية ذرعاً بذلك عزم أن يعين في الواحات الجدد الذين يقدمون عند تعيينهم شهادات صحية تثبت لياقتهم، وقلما اجتمع هؤلاء الموظفون من غير أن يتسابوا أو يتضاربوا، وقد وضعت لنفسي خطة ألا أسايرهم في القول ولا العمل وأن أتحاشى الاجتماع بهم إلا عند الضرورة. عملي في المحكمة قليل جداً، فكثير من الأيام يمر من غير عمل، أو بإمضاء ورقة أو ورقتين، وعدد القضايا قليل، وأكثر المنازعات يفصل فيها العمدة أو الرجال المعروفون بينهم، ومن عادتي أن أذهب إلى المحكمة كل يوم في الساعة التاسعة والنصف صباحاً، وكثيرا ما يأتي زائرون من موظفين وأهال فأجالسهم إلى الساعة الثانية عشرة ثم أعود إلى منزلي وأتغدى وأنام قليلا فأقرأ في بعض الكتب إلى الساعة السادسة، فأجلس أمام الباب وأقابل زائراً أو أرد زيارة أو أخرج إلى الصحراء، ثم أعود إلى بيتي فأتعشى وأقرأ في الكتب إلى الساعة العاشرة فأنام، وأصحو قبل طلوع الشمس فأقرأ جزءاً من القرآن ثم أقرأ في بعض الكتب حتى يأتي ميعاد المحكمة وهكذا، والحياة يوم واحد متكرر، ويوم الثلاثاء هو اليوم الذي تحوطه هالة كبيرة. فهو اليوم الذي أرقبه طول الأسبوع: فاليوم يوم السبت، إًذا بقي على يوم الثلاثاء يومان، واليوم يوم الأحد إذا بعد غد يوم الثلاثاء، فمتى يكون عصره؟ إنه الوقت الذي يحضر فيه البريد من القاهرة كل أسبوع. ليس في الواحات بق، إنما يكثر فيها الذباب والناموس في موسم البلح، وفي الأسبوع الأول من سكني في بيتي رأيت فيها عقرباً فقتلتها، ومساء أمس وجدت بقرب بيتنا حية يبلغ طولها نحو خمسين سنتيمتراً، وقطرها نحو سنتي ونصف، سمعها الخادم وهي تنفخ في الظلماء، فأتى بمصباح وتتبعها وقتلها، ورأيتها بعد قتلها وهي تتلوى، فنغص ذلك علي وربى لي الوسواس، فأنا كل ساعة أتخيل عقرباً أو حية. عجبت للإسلام واللغة العربية وقوتهما وانتشارهما، فليس في الواحات إلا مسلم، وليس فيها إلا من يتكلم العربية وحدها. ••• لا أطيل على القارئ بهذه اليوميات التي استمرت ثلاثة أشهر، وقد أحسست فيها بفراغ طويل، عريض، لأن القضايا التي عرضت في هذه الأشهر الثلاثة كانت تسعاً فقط من أبسط الأنواع، ويكفي في الفصل فيها ساعة من الزمن، فملأت فراغي بشيئين: الرحلات إلى الآثار الموجودة في الخارجة، وقراءة الكتب. فأما شغفي بالآثار فكان عجيباً حًقا، لأن الآثار الموجودة آثار قديمة وثقافتي فيها محدودة أو معدومة، وربما كان السبب في شغفي بها ما تولد عندي من حب الآثار والإعجاب بها يوم كنت أزور الآثار الإسلامية مع صديقي أحمد بك أمين، وقد كنت في كثير من الأحيان أصحب مفتش الآثار ليدلي إلي بمعلوماته عنها، وقد كنت أدون في يوميات وصف كل أثر رأيته وما تركه في نفسي من أثر، وكانت هذه الآثار بعضها فارسية من عهد احتلال الفرس لمصر وبعضها من آثار قدماء المصريين وبعضها رومانية، وبعضها مقابر مسيحية لا تزال تحتفظ بجثث الموتى وأكفانها، بل لا يزال بعضها محتفظاً بشعر الرأس والذقن من جودة التحنيط، وبعضها أسود الوجه غائر الجبهة بارز الأسنان، وبعضها — وهو الأكثر — أبيض الوجه منفرج زاوية الوجه. وكانت أمتع رحلة من هذا القبيل رحلتي إلى باريس، وهي بلدة حقيرة تحمل اسما كبيرا، وبدائية بدوية تحمل اسم أكبر مدينة مدنية، ولا أدري كيف أطلق عليها هذا الاسم، وهي تبعد عن الخارجة نحو مائة وعشرين كيلو متراً. أعددنا العدة لهذه الرحلة من ماء وزاد، وخرجنا على ثلاثة من الإبل من نوع الهجين، طبيب الواحات وملاحظها وأنا. وكنا نسير عصراً وبعض الليل، وصبحاً وبعض النهار، وننصب خيمة في الظهيرة نأوي إليها عند اشتداد الحر. ولست أنسى مرة ونحن في الطريق يوماً اشتد حره وجف هواؤه، وقد أكلنا أكلة ثقيلة لا تناسب السفر، ثم ركبنا واشتد بي العطش، وكلما شربت تقلقل الماء في بطني من هزة الهجين؛ ثم أعطش فأشرب، فلما مللت الشرب أخرجت ليمونة من جيبي وقطعتها، وأخذت أمصها من حين إلى آخر، فما هو إلا أن رأيتني وقد انقبضت حنجرتي ولم أستطع أن آخذ نفسي من فعل الليمون مع جفاف الهواء، فالتفت إلى الطبيب أستنجده بالإشارة، فأسرع إلى الزمزمية وصب الماء في حلقي.. ولو تأخر ذلك بضع ثوان لهلكت، ولكن الله سلم! ورأينا في الطريق بعض آثار قديمة وعيوًنا رومانية وشجر الدوم الكثير. وقد وصلنا البلدة ثاني يوم مساء، ورأينا أرضها المحيطة بها من أجود أنواع الأرض، مساحات واسعة ليس ينقصها إلا الماء لتنتج أحسن الزرع. ورأينا البلدة مملوءة بالأطفال الذين لا عائل لهم عن أثر حمى تيفودية اكتسحت آباءهم في العام الماضي. وفي قومها كرم عربي ولهجة عربية جميلة، كنت أتلذذ من سماعها وخصوصا من النساء اللائي كن يترافعن إلي في شكوى أزواجهن، ورأيت أهلها في نزاع طويل شديد، حتى علمت أنهم في السنة الماضية لم يزرعوا أرضهم عناداً فيما بينهم. ورأيت بها آثارا قيمة زرتها وأعجبت بها. ولأهلها بعض عادات غريبة، فإذا مات منهم كبير لبست النساء أحسن لباس عندهن وأجده، وإذا كان له سيف أو بندقية أمسكتها زوجته أو قريبته بيدها ووقفت تندب الميت وقد تصاب بجروح مما في يدها. وفي عودتي من باريس رأيت السراب وما كنت رأيته، كنت أرى بحراً متسعاً زرعت عليه أشجار، ولا بحر ولا أشجار. ولاتساع الصحراء وتلاعب الرياح فيها كنت أتخيل أحياًنا أن أحداً وراءنا يجري ويتكلم، ثم ألتفت فلا أرى شيئًا، فظننت أن هذا هو ما كانت تزعم العرب أن الجن حدثتها أو هتفت بها. وفي الطريق دروب، وهي خطوط صنعتها أقدام السائرين، وإذا وصلنا إلى أرض حجرية ضاع الأثر، وكان السائر عرضة أن يضل الطريق. وقد سمعت وأنا بالخارجة حديث قوم ضلوا الطريق فماتوا عطشاً. وقد انحرفنا نحن في سيرنا مرة انحراًفا قليلا سرنا من أجله ساعة حتى وصلنا إلى الطريق السوي. أما الأمر الثاني الذي كنت أقضي فيه وقتي فمطالعة الكتب. ومن أحسن ما قرأت في هذه الفترة كتب ثلاثة مختلفة الأنواع والألوان، كتاب تاريخ الفلك عن العرب للأستاذ نللينو، قرأته بإمعان واستفدت منه كيف يبحث كبار المستشرقين، وكيف يصبرون على البحث، وكيف يعيشون في المادة التي تخصصوا فيها، وكيف يسيرون في بحثهم من البسيط إلى المركب في حذر وأناة فإذا قلت إنني استفدت منهج البحث من هذا الكتاب لم أبعد عن الصواب. والكتاب الثاني أصول الفقه للشيخ الخضري، كنت قرأت بعضه وأنا طالب، فأعدت قراءته على شكل آخر أطبق في قراءته ما استفدته من عاطف بك بركات من حرية في النقد وإعمال العقل فيما يقرأ، فكنت أقرأ الفصل وأديره في ذهني وأتساءل: هل هذا حق أو باطل وخطأ أو صواب؟ فإن كان خطأ فما وجه الصواب؛ وأكتب في آخر كل فصل رأيي فيه ونقدي له. وأما الكتاب الثالث ففي الأدب وهو ديوان الحماسة وشرحه. أقرأ القصيدة أو المقطوعة وأعرف معنى ألفاظها اللغوية ومعنى البيت في الجملة، ثم أعيد قراءته، وما استحسنته من الديوان حفظته. وفي هذين الأمرين كانت سلواي. وبعد ثلاثة أشهر بينها إجازة شهر جاءني كتاب من محكمة أسيوط الشرعية، يخبرني بنقلي من القضاء إلى مدرس بمدرسة القضاء.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/17/
الفصل السابع عشر
عدت إلى مدرسة القضاء كما كنت، ودرست كما كنت أدرس، أهم دروسي الأخلاق، وبجانبها فقه أو تاريخ أو منطق. وأحسست ثانية حاجتي الشديدة إلى لغة أجنبية، فدروسي في الأخلاق مصدرها مذكرات عاطف بك التي نقلها عن الإنجليزية، وأنا شيق إلى أن أتوسع فيها، ومن حولي من الأساتذة العصريين يستفيدون أكبر فائدة في مادتهم التي يحضرونها من اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، وقد أخفقت في تعلم الفرنسية، فلأجرب حظي في الإنجليزية. واشتريت الكتاب الأول، وتولت تعليمي سيدة إنجليزية يظهر عليها أنها فقيرة الحال، تحسن الإنجليزية لأنها إنجليزية، وإن لم تكن مثقفة إلا الثقافة الضرورية. وبذلت في ذلك مجهوداً شاقا، أقرأ في البيت وأحفظ في الطريق وأذاكر إذا كنت مراقباً في الامتحان أو مشرًفا على حصة ألعاب رياضية؛ والدراسة بهذا الشكل عسيرة إذ لم أكن في فصل يتعاون الطلبة فيه على التعليم، ولم أكن في بيئة تعود سمعي اللغة، ويقول لي الشيخ الخضري؛ لقد جرب هذه التجربة مئات من طلبة دار العلوم، فساروا خطوات ثم وقفوا، ولم ينجح منهم إلا من كان بعثة إلى إنجلترا؛ فقلت له سأجرب كما جربوا ولكن سأنجح إذا فشلوا. ووقفت إلى سيدة إنجليزية كان لها أثر عظيم في عقلي ونفسي. ابتدأت أدرس معها الجزء الثالث من سلسلة كتب بيرليتز، أقرأ فيه وتفسر لي ما غمض وتصلح لي ما أخطأت، ثم أضع الكتاب وأحدثها وتحدثني في أي موضوع آخر يعرض لنا، ولا أدري لماذا لا يعجبها مني أن أضع العمامة بجانبي إذا اشتد الحر، بل تلزمني دائماً بوضعها فوق رأسي. ونستمر على ذلك نحو الساعتين أتكلم قليلا وتتكلم كثيرا، ١وتنفق أكثر ما تأخذه مني في أشكال مختلفة لنفعي، فهي تدعو بعض أصحابها الإنجليز من رجال ونساء إلى الشاي، وتدعوني معهم لأتحدث إليهم ويتحدثوا إلي، فأسمع لهجاتهم ويتعود سمعي نطقهم، وأصغي إلى آرائهم وأفكارهم وأقف على تقاليدهم، ومرة ترسلني إلى سيدة إنجليزية صديقة لها أكبر منها سًنا قد عدا عليها المرض فألزمها سريرها لأتحدث إليها. تقصد بذلك أن هذه المريضة تجد في تسلية لعزائها وفرجاً من كربتها، وأنا أجد فيها ثرثارة لا تنقطع عن الكلام، فأستمع إلى قولها الإنجليزي الكثير رغم أنفي. وتوثقت الصلة بيننا فكأنني من أسرتها، وهي لا تعنى بي من ناحية اللغة الإنجليزية وآدابها فحسب، بل هي تشرف على سلوكي وأخلاقي. لاحظت في عيبين كبيرين فعملت على إصلاحهما، ووضعت لي مبدأين تكررهما علي في كل مناسبة. رأتني شاباً في السابعة والعشرين أتحرك حركة الشيوخ، وأمشي في جلال ووقار، وأتزمت في حياتي، فلا موسيقى ولا تمثيل ولا شيئا حتى من اللهو البريء وأصرف حياتي بين دروس أحضرها ودروس ألقيها، ولغة أتعلمها، ورأتني مكتئب النفس منقبض الصدر ينطوي قلبي على حزن عميق، ورأتني لا أبتهج بالحياة ولا ينفتح صدري للسرور، فوضعت لي مبدأ هو: «تذكر أنك شاب» تقوله لي في كل مناسبة وتذكرني به من حين إلى حين. والثاني أنها رأت لي عيًنا مغمضة لا تلتفت إلى جمال زهرة ولا جمال صورة ولا جمال طبيعة ولا جمال انسجام وترتيب، فوضعت لي المبدأ الآخر: «يجب أن يكون لك عين فنية» فكنت إذا دخلت عليها في حجرتها وبدأت آخذ الدرس وأتكلم في موضوعه صاحت في: «ألم تر في الحجرة أزهاراً جميلة تلفت نظرك وتثير إعجابك فنتحدث عنها؟» وكانت مغرمة بالأزهار تعنى بشرائها وتنسيقها كل حين، وتفرقها في أركان الحجرة وفي وسطها، ويؤلمها أشد الألم أن أدخل على هذه الأزهار فلا أحييها ولا أبدي إعجابي بها وإعجابي بفنها في تصفيفها. ويوماً آخر أدخل الحجرة فأتذكر الدرس الذي أخذته في غزل الزهور فأحيي وردها وبنفسجها وياسمينها وكل ما أحضرت من أزهار، فتلتفت إلي وتقول: «أليست لك عين فنية؟» أعجب من هذا الاستنكار، وقد حييت الأزهار، فتقول: ألم تلحظ شيئًا؟ فأجيل عيني في الحجرة وقد غير وضع أثاثها؟ لقد كان الكرسي هنا فصار هاهنا، وكانت الأريكة هنا فصارت هاهنا، وتقول: قد سئمت الوضع القديم وتعبت عيني من رؤيته، فغيرت وضعه لتستريح عيني، وهكذا.. لازمتها أربع سنوات، استفدت فيها كثيرا من عقلها وفنها ولكني لا أظن أنني استفدت كثيراً من تكرارها على سمعي أن أتذكر دائماً أني شاب. انتهيت من الجزء الثالث، واخترت أن أقرأ معها كتبا أخرى، في الأخلاق أحياًنا وفي الاجتماع أحياًنا، وفي آخر المرحلة قرأت معها فصولا كثيرة من جمهورية أفلاطون بالإنجليزية، فكان هذا الكتاب مظهر سعة عقلها وكثرة تجاربها؛ فكنت أقرأ الفصل فتشرحه لي، وتبين ما طرأ على فكرة أفلاطون من التغير وما بقي من آرائه إلى اليوم، وكيف طبق هذا المبدأ في المدنية الحديثة في الأمم المختلفة، وهكذا. ولا أدري ما الذي انتابها فقد رأيتها تكثر من القراءة في كتب الأرواح، ثم تمعن في قراءتها، ثم تذكر لي أنها خصصت ساعتين تغلق عليها حجرتها، وترخي ستائرها، وتغمض عينيها، وتركز روحها في مريض تعالجه وهو في داره وهي في دارها، أو تجرب تجربة أخرى أن ترسل من روحها إشارة لاسلكية لصاحب لها تنبئه أن يحضر أو لا يحضر، وأن يعد كذا أو لا يعد، وهكذا، وقد نجحت في بعض الأحوال دون بعض فلم تشأ أن تعتقد أن هذا مصادفة؛ ولكنها اعتقدت أن ما نجحت فيه فإنما نجحت لأن الأمر قد استوفى شروطه، وما لم تنجح فيه لم تستكمل عدته، فزاد اجتهادها، وطالت ساعات عزلتها، وأمعنت في تركيز روحها، كل ذلك وأنا أنصحها ألا تفرط في هذا خشية عليها فلا تسمع، لأنها تأمل أن تصل من ذلك إلى نجاح باهر. وذهبت إليها يوماً فرأيتها مصفرة الوجه مضطربة الأعصاب خفاقة العينين، فسألتها عما بها، فأخبرتني أنها ذهبت اليوم صباحاً إلى كوبري قصر النيل وهمت أن ترمي نفسها في النيل، ثم رأيتها تذكر لي أنها أخفقت هذه المرة في الانتحار، ولكنها ستنجح في مرة أخرى، فخرجت من عندها آسًفا باكياً، واتصلت بطبيب للأمراض العقلية فحضر ورآها، وأخبرني أنه لابد من إرسالها فوراً إلى مستشفى المجاذيب، وكذلك كان. وكنت أعودها من حين إلى حين، فإذا جلست إليها تحدثت كعادتها حديًَثا هادئًا معقولا، وسألتها مرة: ماذا بها؟ فقالت، لا شيء بي إلا أنني فقدت الإرادة فإذا أطلق سراحي الآن لا أدري أين أتجه، ثم تولت أمرها القنصلية الإنجليزية فأسفرتها إلى بلدها. وأخيراً — وبعد نحو سنتين — جاءني خطاب بعنواني بمدرسة القضاء عليه طابع إيطالي ففضضته فإذا هو من «مس بور» تخبرني أنها شفيت من مرضها، وأنها الآن في روما، تتمتع بجمال مناظرها ودقة فنونها وروعة كنائسها، فرددت عليها فرحاً بشفائها، ثم انقطعت عني إلى اليوم أخبارها رحمها الله. وفي هذه الفترة التي كنت أدرس فيها مع «مس بور» جاءني صديق وقال إنه يعرف أسرة إنجليزية تتكون من زوج وزوجة يريدان أن يتعلما العربية وأنا أعلم الزوج فهل لك أن تعلم الزوجة؟ قلت: لا أعلمها بمال ولكن أتبادل معها، فأعلمها العربية وتعلمني الإنجليزية، وعرض عليها ذلك فرضيت. وكنت أرتقب موعد هذا الدرس بشوق ولهفة، وكانت هذه السيدة تغذ عواطفي برقتها وجمالها وكمالها، كما كانت «مس بور» تغذي عقلي بثقافتها وإطلاعها وتجاربها. كنت أحدثها يوماً، وقد قامت الحرب العالمية الأولى فزل لساني ونقدت الإنجليز نقداً خفيًفا أمامها، فما كان منها إلا أن دمعت عينها وقالت في رقة: «أتعيب قومي وأمتي»! فخجلت خجلا شديداً وقدرت طينتها التي يجرحها النسيم، ولم أعد بعد لمثلها، واستمررت على ذلك أكثر من سنة قرأت معها هذه القصص، وعلمتها قدراً لا بأس به من العربية. وكان يصعب عليها النطق بالعين فكانت تقول: إن عينكم تؤلمني، كنت أقول في نفسي مثل قولها. وكان لها نقد لطيف لما تتعلمه من العربية — نقد لا ندركه نحن لأنها لغتنا. نشأنا فيها ورضعناها مع لبن أمنا وألفناها منذ صغرنا. قالت لي مرة: إن اللغة العربية غير منطقية، ألا تراها تؤنث الشمس وهي قوية جبارة وتذكر القمر وهو لطيف وديع: فأولى أن نذكر الشمس ونؤنث القمر كما نفعل نحن في لغتنا. وقالت مرة: ألا تعجب من لغتكم تقول ثلاثة كتب، وتقول ألف كتاب، وكان الأولى ما دامت تقول ثلاثة كتب أن تقول ألف كتب. وهكذا من طرائفها الظريفة. واشتدت الحرب فجند زوجها، وانقطع عني خبره وخبرها. ماذا كنت أكون لو لم أجتز هذه المرحلة؟ لقد كنت ذا عين واحدة فأصبحت ذا عينين، وكنت أعيش في الماضي فصرت أعيش في الماضي والحاضر، وكنت آكل صنًفا واحداً من مائدة واحدة فصرت آكل من أصناف متعددة على موائد مختلفة، وكنت أرى الأشياء ذات لون واحد وطعم واحد، فلما وضعت بجانبها ألوان أخرى وطعوم أخرى تفتحت العين للمقارنة وتفتح العقل للنقد، لو لم أجتز هذه المرحلة ثم كنت أديباً لكنت أديباً رجعياً، يعنى بتزويق اللفظ لا جودة المعنى، ويعتمد على أدب الأقدمين دون أدب المحدثين، ويلتفت في تفكيره إلى الأولين دون الآخرين، ولو كنت مؤلًفا لكنت جماعاً أجمع مفترًقا أو أفرق مجتمعاً من غير تمحيص ولا نقد. فأنا مدين في إنتاجي الضعيف في الترجمة والتأليف والكتابة إلى هذه المرحلة بعد المراحل الأولى، وهذه الزهرة الجديدة ألفت باقة مع الأزهار القديمة.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/18/
الفصل الثامن عشر
وهذا الآخر هوايته التاريخ، يطيل القراءة فيه ويفتن بأسلوب الأوروبيين في كتابتهم وقدرتهم على التحليل الدقيق ورجوع الجزئيات إلى كلياتها وحريتهم في تقدير الأبطال والاعتداد بشخصيتهم، فقد يهدم بعضهم بطلا أجمع الناس على بطولته، أو يشيد بذكر مغمور أجمع الناس على خموله، وينقد كتابة التاريخ عند العرب، فقد أحسنوا في رواية الأحداث ولم يحسنوا فلسفتها إلا ما كان من ابن خلدون فقد أحسن في فلسفة التاريخ وقصر في تطبيقها على الأحداث، ثم هو يحاول أن يطبق هذا المذهب فيعرض علينا نمطاً من بحثه في عمر وعلي — مثلا — على نمط جديد فيه التقدير وفيه النقد. وهذا عالم تخصص في الطبيعة والكيمياء وجعل مسلاته الأدب، فهو يقرأ في ديوان أبي الطيب وأبي فراس ويتخير من شعرهما ويحفظه وينشده، وتلتهب عاطفته فيحاول أن يقول شعراً بعضه لا بأس به. وهو فكه النفس لطيف المحضر تأنس لقربه وتستوحش لبعده، يتحدث فيودع قلبه حديثه. وهذا عالم آخر طبيعي كيماوي أيضاً جل علمه ونفسه وكل ما يملكه من ملكات وثقافات لخدمة دينه: أثر في كثير من الطلبة في مدرسته العالية فدينهم، وملأ المساجد به وبهم، قد حفظ القرآن وأطال قراءته وبذل جهداً في فهمه، فهو يفهمه كما يقول المفسرون ويزيد عليهم ما يفهمه من نظريات الطبيعيين والكيماويين وما يقتبسه من أقوال المتدينين من العلماء الأوروبيين، يحلو له الكلام في الدين وهداية الضالين، ويعز عليه أن يسمع إلحاداً أو كلمة يشتم منها إلحاد بل لا يسمح أن ينقد أحد أمراً من أمور الدين، ولو كان في التفاصيل، وهو في كل ذلك مخلص لا يقول كلمة بلسانه ينكرها قلبه، قوي الحجة طويل النفس في المناظرة مؤثر إذا قال، جزل الأسلوب إذا كتب. يدرس الكيمياء والطبيعة فتكون دينا؛ ويشرح النظرية الكيماوية فتكون من سنن الله الكونية، يتحرج صحبه أن يذكروا أمامه شيئًا يمس شعوره الديني وعاطفته المسلمة، ويهابونه في طربوشه أكثر مما يهابونني في عمتي. وهذا عالم في الرياضة ولكنه لا يقل ثقافة أدبية عن المختصين في الثقافة الأدبية يقرأ في الأغاني والعقد الفريد كما أقرأ ويتذوقها وينقدها، ويقرأ الكتب الكثيرة في الثقافة العامة الإنجليزية في الأخلاق والاجتماع وعلم النفس، ويتأثر بما يقرأ إلى حد كبير، ويقتنع بما يقرأ ويتحمس له، ويأتي ويحدثنا بخلاصة ما قرأ وما فكر فيما قرأ، وله أسلوب لطيف ساخر جامح في نقد ما يرى وما يسمع تطبيًقا لنظرياته التي اعتنقها من قراءاته، ولا بأس أن يغلو في الهدم، ولا بأس أن يغلو اليوم في عكس ما غلا فيه بالأمس، وهذا مما يطول شرحه. كل أولئك كانوا مدرسة لطيفة لي، مدرسة خلت من عبوس الجد وثقل المدرس وسماجة تحديد الموضوع والزمان والمكان، ونعمت بالبعد عن الامتحان وصداع الجرس، مدرسة فيها الجد والفكاهة، والعلم والأدب، والدين والشعر، والتقريظ والنقد، مدرسة يكون فيها التلميذ أستاًذا تلميًذا، وإن شئت فقل إن كل من فيها أستاذ تلميذ، مدرسة فيها حرية القول وحرية السماع وحرية الموضوع وحرية كل شيء. تقارب فيها سن الأساتذة والتلاميذ فتجانست مشاعرهم، وتشابهت آمالهم ومطامحهم، وتفتحت نفوسهم للاستفادة من تنوع مواهبهم. وكان لهذه المدرسة التفاتة لطيفة إلى تقويم البدن كتقويم النفس، والعناية به كالعناية بالعقل؛ فما بالنا نقضي نهارنا في المدرسة ندرس، وعصرنا في القهوة نجلس جلسة الكسالى العجائز نتحدث، وليلنا على المكتب نحضر أين الهواء الطلق؟ أين جمال الطبيعة؟ أين الرياضة البدنية؟ أين الرحلات؟ إن كل هذه تجدد النفس وتنعش الروح وتبعد العجز، وتخدم العقل كما تخدم الجسم، تغذي الروح كما تغذي البدن. إذن فلنشترك في ناد من نوادي الألعاب الرياضية، ولننظم رحلات أسبوعية، ولأحقق أنا بعض ما كانت تقوله لي المدرسة الإنجليزية «تذكر أنك شاب». وذهبنا إلى نادي الألعاب الرياضية بالجزيرة واشتركنا فيه، وكانت عمتي أول عمامة اشتركت في النادي، وربما كانت آخرها أيضاً. وأخذت خزانة فيه ككل عضو، أضع فيها «الفانيلا والشورت والجزمة الكاوتش»، فإذا حضرت خلعت عمامتي وجبتي وقفطاني ولبست الشورت وما إليه وتسابقت في العدو مع العدائين، ولعبت كرة القدم والعقلة مع اللاعبين، حتى إذا تعبنا جلسنا على الحشيش في الهواء الطلق نتحدث ونضحك. وقد كنت أول الأمر ألهث إذا جريت، وأخفق إذا لعبت، ثم استقام أمري، وإن لم أبلغ في خفة الحركة مبلغ صحبي، لأني أحمل من أوزار تربيتي الأولى ما لا يحملون. فإذا فرغنا من ذلك كله ذهبنا إلى خزائننا وخلعت «الشورت» ولبست الجبة والقفطان والعمامة وخرجت من النادي شيخاً وقوراً. ويوم الجمعة أحياًنا كنا نخرج إلى رحلة في جبل المقطم في الشتاء، فيوماً إلى الغابة المتحجرة، ويوماً إلى وادي دجلة أو وادي حوف في نواحي حلوان، ويوما إلى العين الساخنة وهكذا. وكانت رحلات قاسية وقائدنا فيها عنيف لا يرحم. وكم قلت له: «رفقا بالقوارير»، وهو لا يسمع، فكنا نمشي في الوديان ونتسلق الجبال من طلوع الشمس إلى غروبها. نحمل معنا غداءنا وشرابنا على ظهرنا ونسير سيراً حثيًثا لا نستريح إلا ساعة نأخذ فيها غداءنا ثم نسير سيرتنا وأعود إلى البيت مضنى متعباً، ثم أنام ملء جفوني، وأعرج بعدها في مشيتي ثلاثة أيام أو أربعة. ولكني أحس صفاء نفسي وصفاء رأسي. وكنت في هذه الرحلات كشأني في الألعاب. أخيب عضو في الأولى وأبطأ عضو في الثانية: لست أنسى يوماً عصيباً ذهبت فيه مع صحبي إلى وادي حوف فلما بدأنا في العودة تخرق نعل جزمتي فسددتها بورق مقوى كنا أحضرنا فيه بعض الفطائر والحلوى، فلم يفد ذلك إلا قليلا، ثم برزت رجلي وسرت على الحصى، ودميت أصابعي، وأبطأ القوم في سيرهم ورثوا لحالي، وأخيراً وأخيراً جداً عثرت على حمار قبل مدخل حلوان، وطلبت من صاحبه أن يحملني إلى المحطة بأي أجر شاء، ودخلت حلوان على حمار وحولي الحواريون يمتزج شعورهم نحوي بالضحك مني والرثاء لي. وتحررت بعض الشيء، فكنا نذهب أحياًنا إلى صالة «منيرة المهدية» لسماع غنائها ومشاهدة رواياتها، وكنت أتأثر من بعض نغماتها أثراً يرن في أذني طول الأسبوع. فإذا أحب بعضهم أن يذهبوا إلى أكثر من ذلك تواصوا فيما بينهم ألا يخبروني؛ لأني لا أصلح لمثل موقفهم. وقد تكونت اللجنة على هذا المنوال سنة ١٩١٤. ونحن الآن سنة ١٩٥٣ فيكون قد مضى عليها أكثر من ست وثلاثين سنة، وقد طبعت من الكتب أكثر من مائتي كتاب، وكانت لا تقرر كتاباً إلا إذا حولته على اثنين خبيرين بالموضوع يبديان فيه رأياً بالصلاحية أو عدمها، أو حاجته إلى التعديل، ولبثت طول هذه المدة رئيساً للجنة يعاد انتخابي فيها رئيساً لها كل عام. وازداد عدد أعضائها إلى أكثر من ثمانين عضواً من خيرة المتعلمين. وزادت رابطة الألفة بين الأعضاء، حتى شبهها الناس بالماسونية. وكل عضو فيها يشجع اللجنة بما يقدر عليه، وأسست لها مطبعة خاصة. كما أسست مجلة اسمها الثقافة تنشر فيها الآراء على مبادئها واستمرت نحو أربعة عشر عاماً ثم أوقفتها هذا العام سنة ١٩٥٣ لما تتكبد فيها من خسائر، وقد حزن الأعضاء والقارئون على وقوفها، ولكن ماذا يجدي الحزن العاطفي أمام الخسائر الفادحة؟ على كل حال كانت هذه اللجنة نتيجة لصداقة هؤلاء الأصحاب الذين ذكرت بعض صفاتهم. وحظيت بصداقتهم. وبهؤلاء الصحاب أحسست أني أقرب من عقليتهم ومزاجهم وثقافتهم شيئًا فشيئًا، وأبتعد عن عقلية زملائي الأقدمين ومزاجهم شيئًا فشيئًا، ورأيتني — بفضل ما شوقوني من كتب — أكون لنفسي نواة من الكتب الإنجليزية بجانب الكتب العربية، وأحضر دروسي منها في الأخلاق والمنطق، وأملأ الفراغ بالمطالعة في هذه وتلك، وإذا العين تنفتح والأفق يتسع.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/19/
الفصل التاسع عشر
وله علم بالكتب وموضوعاتها وقيمتها، وله ميزة عن غيره من تجار الكتب العربية بأنه يعرف الكتب العربية التي طبعها المستشرقون في أوربة، يستجلبها في سهولة ويسر لحذقه الكتابة باللغة الفرنسية، وناشرو هذه الكتب يثقون به لصدق معاملته، كما أن له ميزة أخرى وهي معرفته بهواة الكتب من زبائنه، فهذا الكتاب يناسب فلاًنا، وهذا الكتاب لا يناسب فلانا وإذا أتاه كتاب حجزه للذي يظن به الانتفاع منه؛ وله في ذلك طبع غريب فهو يرضى أن يبيع الكتاب لهاويه الذي ينتفع به بجنيه، ولا يرضي أن يبيعه لمن لا ينتفع به بجنيهين. وهو مشهور بين زملائه بالزندقة، لأنه لا يعترف بالأولياء ولا بالأضرحة ولا بزيارة القبور ونحو ذلك، ثم هو لا يكتم عقيدته في نفسه، بل يكررها في كل مناسبة؛ ركب مرة قطاراً من مصر إلى الإسكندرية، وجلس مع جماعة في صالون فلما وصل القطار إلى طنطا قال أحد الحاضرين: الفاتحة للسيد البدوي، فصاح هذا الكتبي: ومن يكون السيد البدوي وما كراماته وما قيمته! وطال لسانه فقام عليه الحاضرون وأوسعوه ضرباً. ولم ينج منهم إلا بعد عناء. وهكذا وهكذا من فصوله الغريبة. وهو أمين صادق المعاملة يقنع بكفاف العيش، وبساطة اللباس. إن ضاقت عليه الدنيا لبس جلباباً بدل البدلة. ولم يعبأ بأسرته الكبيرة لتغير من شكله. ولست أنسى مرة حادثا غريباً في بابه حدث لي من جراء هذه المكتبة، وبعض أحداث الدنيا يحدث على غير انتظار ومن غير سابق مقدمات. وإذا كان الموت — وهو القاضي على الحياة قد يحدث فجأة في أشد أوقات السرور، فأولى أن تحدث الأزمات مما دونه من الحوادث. لقد كان عندي كتاب «نفح الطيب» طبعة برانية وأردته طبعة أميرية، ووجدت عند صاحبنا هذا نسخة لطيفة مجلدة تجليداً فخماً، فاشتريتها منه وهي أربعة مجلدات وضعتها تحت إبطي الأيسر، وأمسكت جريدة المؤيد بيدي اليمنى، وانتظرت عربة كانت تسمى عربة سوارس — عربة كبيرة تجرها الجياد من سيدنا الحسين إلى العتبة الخضراء — فجاءت مزدحمة، وركبتها فوجدت في ممشاها قفًَفا لفلاحات وأخراجاً لفلاحين ورفعت رجلي أتخطى قفة من القفف فمست سيدة جالسة تلتفع بملاءة لف وعلى وجهها برقع بقصبة، فصاحت بي وأمطرتني وابلا من السباب، فغضبت، وضربتها ضربة خفيفة بجريدة المؤيد على فمها أقول لها اسكتي، فراعني أنها صوتت صوًتا مرعباً لفت كل من في الشارع، ووقفت العربة واجتمع الناس يتعرفون الخبر، ونادت البوليس وصممت عليه فنزلت ونزلت وحضر البوليس وركبنا عربة إلى القسم، ودخلنا غرفة المعاون فسمع مني وسمع منها، ورأى المسألة بسيطة فطلب مني أن أعتذر وسألها أن تقبل العذر، فلم تقبل، فألح عليها فلم تقبل أيضاً، فاضطر أن يحرر بذلك محضراً رسمياً، وأخذ أقوالي وأقوالها، وألحت أن تحال على طبيب المحافظة لأن بها خدشاً في أنفها من ضربة الجريدة، ففعل وخرجِتْ وخرجتُ مضطربا مرتبكا خجولا خائفا، فقد كان هذا أول حادث من نوعه، فلم أدخل يوماً مركز البوليس فكيف والشاكي امرأة!! ولعنت الكتب ونفح الطيب وأشباه نفح الطيب مما جر علي هذا البلاء المبين، وبقيت أياماً قلًقا مضطرباً لا أدري ماذا يفعل بي، وإذا بإعلان يجيئني بأني اعتديت على السيدة اعتداء أحدث بها جرحاً قرر الطبيب لعلاجه واحداً وعشرين يوماً، فاعتبر الواقعة جنحة مغلظة، وحددت لها جلسة فارتجفت وقضيت ليلة أليمة لم تذق فيها عيني النوم، وفي الصباح ذهبت إلى صديقي أحمد بك أمين أستشيره فيما أفعل فذهب معي إلى وكيل نيابة الأزبكية وقصصنا عليه الأمر، فقال إن المسألة خرجت من يده لأن القضية أعطيت نمرة خاصة مسلسلة وسجلت في دفاتر النيابة وحددت لها جلسة وأعلن ذلك كله إلى المتهم فأصبح أمرها متصلا بالقاضي وخرجت بهذه الإجراءات من سلطان النيابة. فزادني ذلك ارتباكاً واضطرابا بالنهار وأرًقا بالليل، وأخيراً ذهبت بعريضة الدعوة إلى عاطف بك وشرحت له القصة فضحك منها ومني وأخذني معه إلى وكيل وزارة الحقانية فتحي باشا زغلول فبذل في ذلك مجهوداً حتى انتهى الأمر؛ فويل للناس من النساء إذا انتقمن. وأما المكتبة الإنجليزية فمكتبة مرتبة منظمة صاحبها كنا نسميه الأستاذ فرج ليس فيها موضع لجلوس ولا قهوة ولا تدخين، ولا حديث لصاحبها إلا كتاب يباع وثمن يدفع، قد صف فيها الكتب صفا فنيا؛ فهذا مكان القصص، وهذا مكان لكتب الاجتماع، وهذا مكان لعلم النفس وهكذا. وإذا سألت صاحبها عن كتاب اتجه يميًنا أو يساراً ونظر نظرة فاحصة في ثانية ومد يده فاخرج الكتاب أو قال لك ليس عندي، قد عشقت هذه المكتبة أول عهدي بالإنجليزية، وتلذذت من زيارتها — ولكل جديد لذة — أزورها فأقضي فيها وقًتا طويلا أتصفح فيها الكتب وأشتري منها ما يروقني، وقد كونت منها نواة لمكتبتي الإنجليزية، وأكثر ما اشتريت منها كتب في علم الأخلاق لأستعين بها على تحضير دروسي؛ وكتب في علم الاجتماع، إذ شوقني إليها قراءتي مع «مس بور» جمهورية أفلاطون، وكتب في مبادئ الفلسفة، إذ كانت الأخلاق والاجتماع فرعين من فروع الفلسفة، وكتب في المنطق لأني أردت أن أعرف كيف يكتب الإفرنجي في المنطق بعد أن عرفت كيف يكتب العرب، وكتب في الإسلاميات مما كتبه المستشرقون لأن هذا موضوعي.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/20/
الفصل العشرون
وكان لي بجانب هذه المدرسة من الأصدقاء — ذوي الثقافة الإنجليزية — جمعية من أصدقاء آخرين ذوي ثقافة فرنسية غالبا، عميدها صديقي المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي كان شيخاً للأزهر فيما بعد، ومن بينهم الدكتور منصور فهمي والمرحوم الأستاذ عزيز مرهم والأستاذ محمد كامل البنداري، والدكتور محمود عزمي وغيرهم وكان مكانها في بيته، وكان أكثر أعضائها من خريجي الجامعات الفرنسية ومما ألف بينهم إقامتهم في فرنسا وتعلمهم بها؛ وإذا كان يكثر في الجامعات الأولى ذكر شكسبير وديكنز وماكولي وبرناردشو وهـ. ج ولز، فقد كان يكثر في هذه الجمعية ذكر جان جاك روسو وفولتير وراسين وموليير ودركهايهم، وإذا كانت الجمعية الأولى تغلب عليها المحافظة والاعتدال فهذه يغلب عليها التحرر والثورة على القديم — كنا نجلس في هذه الجمعية، وقد يحضر فيها أحياًنا بعض السيدات الفرنسيات زوجات بعض المصريين، وبعض العلماء من الأزهر، ويتشقق الموضوع ويثار الجدل، ويكون الحديث مزاجاً بين حرية فرنسية واعتدال إنجليزي ومحافظة أزهرية، نتحدث في السياسة وحرية المرأة، وفي المقارنة بين فرنسا ومصر. وكان من أعجب من عرفت في هذه الجمعية شاب تثقف ثقافة قانونية امتاز بالشجاعة الأدبية والصراحة، فكان لا يقول إلا ما يعتقد، ولا يعمل إلا وفق ما يعتقد، على حين أن كثيراً من الشبان يرون الرأي ثم لا يقولونه، وإذا قالوه لا يعملون على وفقه، كالذي سمعت أن جماعة كانوا يجتمعون في منظرة في بيت وكانوا يتجادلون في سفور المرأة وحجابها، وكان صاحب البيت أكثرهم تحمساً للسفور ودفاعاً عنه وتأييداً له، فبينما هم في المناظرة إذا بصوت سيدة عجوز هي جدة صاحب البيت يصل إلى آذان المتناظرين في المناظرة فيخجل صاحب البيت ويصعد إلى جدته يؤنبها على علو صوتها وقد نسي محاضرته في السفور. وفي هذا العهد كثر الحديث في مجالسنا عن الزواج والأزواج والزوجات وسعادة الزوجية وشقائها وضرورتها أو الاستغناء عنها والزواج بالأجنبيات والمصريات، ورويت الأحاديث المختلفة عن فلان المتزوج الذي سعد في زواجه وفلان المتزوج الذي شقي بزواجه، وفلان الذي أضرب عن الزواج واستمتع بالحياة في أولها وشقي في آخرها وهكذا، وجال الموضوع في ذهني في قوة ووجدتني قد بلغت التاسعة والعشرين، فصممت أن أبت في الموضوع هل أتزوج أو لا أتزوج، وأخيراً وبعد تردد طويل قررت أن أتزوج، ولكن نشأت العقدة الثانية: من أتزوج؟ وكان السفور في هذا الزمن في أول أمره لم يجرؤ عليه إلا عدد محدود من المثقفات، فكان الزواج غالباً يخضع للتقاليد القديمة؛ يسمع الشاب من صديقه أو أحد أقاربه أن لفلان بنًتا في سن الزواج، وقد يبلغه هذا الخبر من محترفة لهذه الوظيفة وهي التي تسمى «الخاطبة» وهي امرأة تزور البيوت وتتعرف أخبارها وترى من فيها من الشابات في سن الزواج أو من الشباب الذين يريدون الزواج، وتكون واسطة بين أهل الزوج وأهل الزوجة في تعريف هؤلاء بأولئك، فيتقدم أحد أقارب الشاب إلى أبي الشابة أو ولي أمرها يعرض عليه الرغبة فإذا قبل أرسل الشاب أمه وبعض قريباته من النساء لرؤية الفتاة، فإذا وصفوها وصًفا اقتنع به تقدم للزواج من غير أن ينظرها ويعرف شكلها وطباعها وأخلاقها. وإنما يعرف ذلك كله بعد عقد العقد وبعد الزفاف. وهكذا كان الزواج في عهدي في مثل طبقتي، وكنت شاباً لا بأس بشكله ولا بأس بأسرته، فأنا وبيتي نعد من الأوساط وأنا أحمل شهادة عالية، ومرتبي نحو ثلاثة عشر جنيهاً وهو مرتب لا يستهان به في ذلك العصر، وكنت أتلمس الزواج في أمثالي من الأوساط. لا أطلب الغنى ولا أطلب الجاه، ومع ذلك كله وقفت العمامة حجر عثرة في الطريق، فكم تقدمت إلى بيوت رضوا عن شبابي ورضوا عن شهادتي ورضوا عن مرتبي، ولكن لم يرضوا عن عمامتي، فذو العمامة في نظرهم رجل متدين، والتدين في نظرهم يوحي بالتزمت وقلة التمدن والالتصاق بالرجعية والحرص على المال ونحو ذلك من معان منفرة، والفتاة يسرها الشاب المتمدن اللبق المساير للدنيا اللاهي الضاحك، فكم قيل لي أن ليس عندهم مكان لعمامة. ورضي بي قوم أولا وأحبوا أن يروني، فأحببت أن أريهم أني متمدن، وذهبت إليهم أحمل كتاباً إنجليزيا، وجلست إليهم وجلسوا إلي وتحدثت عصرياً على آخر طراز وحشرت في كلامي بعض كلمات إنجليزية فاستغربوا لذلك. وفهمت أنهم أعجبوا بي ورضوا عني، ولكن بلغني أن الفتاة أطلت على من الشباك وأنا خارج فرأت العمامة والجبة والقفطان فرعبت ورفضت رفضاً باًتا أن تتزوجني رغم إلحاح أهلها. وشاء القدر أن تتزوج هذه الفتاة — فيما بلغني شاباً أنيًقا كاتباً في وزارة ولكنه سكير معربد أذاقها المرار في حياتها الزوجية ثم طلقها، ومازال سوء حالها حتى تزوجت بعامل في التلغراف وجاءت إلي وأنا قاض في محكمة الأزبكية تطلب من زوجها النفقة. وهكذا لقيت العناء في الزواج، فكلما دلني صديق على فتاة فإما أن أجد مانعاً منها وإما أن تجد مانعاً مني، فمن أرضاه لا يرضاني ومن يرضاني لا أرضاه. وأخيراً دلني مدرس معي في مدرسة القضاء على بيت رضيني ورضيته، فأرسلت أمي وأختي وزوجة الأستاذ لرؤية الفتاة فرأينها ووافقن عليها، وجعلت أسأل أمي وأختي أسئلة عن شكلها وملامح وجهها وطولها وعرضها وفراستها في أخلاقها ونحو ذلك، وأستمع لإجابات لا تصور شكلا ولا توضح حقيقة وأجلس إلى نفسي وأعمل خيالي فيما سمعت، فأصوغ من ذلك شكلا. وقد أجلس معهما مرة أخرى أسمع منهما حديًثا آخر ووصًفا آخر، فأتخيل من ذلك صورة أخرى وهكذا، وأخيراً سلمت الأمر لله وتركت التصوير حتى ترى العين ما رسم الخيال، وتم عقد الزواج يوم ٣ إبريل سنة ١٩١٦، وقد أخذت يوم العقد مائة جنيه إنجليزي ذهباً في علبة جميلة قدمتها مهراً للزوجة، وانتظرت نحو أربعة أشهر حتى يتم أهل الزوجة الجهاز. وكانت هذه الأشهر الأربعة مجال تفكير في السعادة المرجوة والأحلام اللذيذة، وبناء القصور على الآراء الفلسفية أو النظريات المدونة في الكتب، فأنا أزور المكتبة الإنجليزية وأبحث عما كتب في الزواج، فأعثر — مثلا — على سلسلة من الكتب أحدها فيما ينبغي للزوج أن يعلم، وثانيها فيما ينبغي للزوجة أن تعلم وهكذا. ثم أجد كتاباً في الزواج السعيد وآخر في الأسرة، وثالًثا في تربية الطفل فأقرؤها وأفكر فيها وأستخلص منها ما يجب أن أعمل لأسعد وعلى أي الأسس أبني أسرتي وهكذا. وقد ذهبت بعيد الزواج إلى مصور صورني صورة تذكارية احتفظت بها، ووجدتني قد كتبت على ظهرها العبارات الآتية: «هذه صورتي أخذت يوم الجمعة ٧ إبريل سنة ١٩١٦ وسني تسع وعشرون سنة وستة أشهر، عقب عقد زواجي بأربعة أيام، وقد اتخذت الكتب شعاراً لي في الصورة، فوضع المصور أمامي كتبا من عنده وأمسكت بيدي اليسرى كتاب «مبادئ الفلسفة» وكنت قد عربت أكثره وأوشك على الانتهاء. وقد لاحظت أن أصور صورة في غاية البساطة فلم أتعلم شيئًا إلا اختيار الثوب الذي اخترته يوم عقد الزواج، وربما كان الباعث لي على هذا التصوير ما أشعر به من أني قادم على حياة جديدة ومرحلة جديدة، فقد أنهيت حياة الوحدة وسأقدم على حياة الأسرة، وأنا مقتنع أن هذه البيئة الجديدة سيكون لها أثر كبير في نفسي وجسمي وعقلي، وسأقارن بين المعيشتين وأثرهما إذا كان في الأجل متسع — ومن البواعث على هذا التصوير أيضاً علمي أن السنة المتممة للثلاثين تختم حياة الصبا والفتوة وتفتح حياة يغلب عليها العقل والروية، على أني — والأسف يملأ فؤادي — لم أنتفع بزمن الصبا والفتوة كم كان يجب. فلم يجد المرح والنشاط واللهو — ولو كان بريئًا — ولا الحب إلى قلبي منفًذا، بل تشايخت منذ الصبا — وهذا ولا شك أثر التربية المنزلية، فقد كانت تربية أساسها التخويف والإرهاب، ولم يكن في بيتي أي مظهر من مظاهر البهجة والسرور، وإني في هذه السنة أحس شيئًا من النشاط على أثر دروسي الإنجليزية مع مدرسة إنجليزية كانت تصلح من نفسي كما تصلح من لساني، وكانت تنتقد في الهدوء والسكينة، كما كان لدروس الأخلاق مع عاطف أثر كبير في نفسي؛ ومما أحسه أيضاً أنني أكثر حرية في الفكر وأكثر نقداً لما يعرض لي؛ وأكثر ميلي هذه السنة إلى القراءة في عملي الأخلاق والاجتماع مع ما أجد من الصعوبة في فهم ما أقرأ، لقرب عهدي بتعلم الإنجليزية، فقد بدأت تعلمها في يناير سنة ١٩١٤ فلي الآن نحو سنتين ونصف سنة وهي مدة لم تكف في التبحر فيها. وأنا الآن مدرس بمدرسة القضاء ومرتبي ١٣٢٠ قرشاً في الشهر ولم أمل التدريس ومازلت أفضله على القضاء — وأنا أرجو من الله أن يعينني على القيام بعمل عظيم أخدم به أمتي من الناحية الخلقية والاجتماعية». (كتب في ٢٠ يوليو (تموز) سنة ١٩١٦). وليس لي تعليق على ما كتبته خلف الصورة إلا على قولي «إن الحب لم يجد إلى قلبي منفًذا» فهو تعبير غير دقيق وقوي لا يصدق إلا على رجل جامد العواطف، بل كانت عواطفي أقرب إلى أن تكون حادة ولاسيما في أيام الشباب الأولى ظهرت حدتها في العاطفة الدينية فقد كانت مشبوبة حادة، وفي حبي لأصدقائي فقد كنت آنس بقربهم وآلم لبعدهم، وفي عاطفة الرحمة والشفقة على الفقراء والبائسين ونحو ذلك من مظهر للعواطف، بل لقد تحركت في عاطفة الحب منذ الصبا، فقد أحببت وأنا في نحو الخامسة عشرة ابنة جار لنا والتهبت عاطفتي فأرقت كثيراً وبكيت طويلا، وكل ما كان من وصال أن أجلس أنا وهي على كرسيين أمام دارها نتحدث في غير الغرام، فلما وسوس الشيطان لأبيها حجبها عني وشقيت زمًنا بذلك ثم سلوت، ثم أحببت المدرسة الإنجليزية الشابة حباً ضنيت به ولم تشعر به، وكل ما سعدت به ساعات الدرس أتحدث إليها وتتحدث إلي وتنظر إلي بعينيها الصافيتين الأمينتين، ولكنه كان حبا يائساً، فهي متزوجة مخلصة لزوجها سعيدة بزواجها، فعاطفة الحب كانت في أعماق نفسي ولكنها مكبوتة، حال دون ظهورها وسطي، فالفتاة لم تكن سافرة سفور اليوم، وكان الشاب لا يعرف من الفتيات إلا أقاربه، وكانت تربيتي الدينية تعد الحب فجوراً والنظر إلى الفتاة وحديثها إغواء شيطانيا، ومدرستي كبيتي متزمتة متعنتة، لا ترتاح لأن يجلس طالب في قهوة، وتعاقب من وجد في صالة غناء. وحدث مرة أن شوهد متخرج حديًثا من المدرسة يجلس في مقهى الأزبكية مع صاحبيه من غير المدرسة وأمامهم كاسات من البيرة، فكان من سوء الحظ أن مر عليهم عاطف بك ورأى هذا المنظر، ومع أنه لم يتحقق من شرب هذا الشاب البيرة فقد حرمه من تولي القضاء سنين، ورفض كل رجاء في العفو عنه، ولم يعين بعد إلا بضغط عليه شديد أو رغماً عنه. كل هذا لم يهبني مجالا للحب، بل كبته في أعماق نفسي إلى أن تزوجت. وبعد العذاب في اختيار الزوجة وعقد العقد وإعداد الجهاز اخترت بيًتا أسكن فيه وحدي مع زوجي قريباً من بيت أهلي، وحرصت على ذلك حتى أتجنب الأقوال الشائعة والحكايات التي لا تنتهي في النزاع بين الزوجة والأم، وكذلك تمت هذه المرحلة.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/21/
الفصل الحادي والعشرون
تزوجت وكان كل اعتمادي في الزواج — كما ذكرت — على الخيال لا على الواقع. الخيال هو الذي رسم صورة زوجتي وأخلاقها وصفاتها معتمداً في رسمه على أحاديث النساء اللاتي شاهدنها، والخيال هو الذي رسم صورة لحياتي المستقبلية اعتماداً على ما سمعته من أحاديث عمن سعدوا في زواجهم ومن شقوا، وأسباب سعادتهم وأسباب شقائهم، واعتماداً على ما قرأته في الكتب الإنجليزية عن الحياة الزوجية. ولكن شتان بين الواقع والخيال؛ فالخيال يرسم الصورة وهو حر طليق محلق في السماء، والواقع يلتصق بالأرض ويتقيد بالظروف والبيئة والمكان والزمان وغير ذلك. وقد أذكرني الفرق بين الواقع والخيال بحادث حدث لصديق لي سافرت معه إلى الإسكندرية لنستجم من متاعبنا، وكنت أعرف العوم ولم يكن يعرفه، فغاظه ذلك وصمم على أن يتعلم العوم، وصادف أن مر أمام مكتبة إنجليزية فرأى في ظاهرها كتاباً في العوم فاشتراه — وكان قوياً في اللغة الإنجليزية فسهر عليه ليلة حتى أتمه قراءة وفهما وعرف منه تمام المعرفة نظرية العوم وكيفيته وطرقه، وأيقن أنه بذلك يستطيع أن يغالب أكبر عوام، وحدثني بذلك في الصباح فضحكت من حديثه، فلما ذهبنا إلى حمام البحر تبخرت كل نظرياته وعلمه، ووضع «قرعتين» على ظهره، وأمسك بالحبل الممدود، وطمأن رجليه على الرمل، ولكن سرعان ما اصفر وجهه واضطرب جسمه وخاف أن يفارق الحبل ليسبح وفًقا لنظريات الكتاب. قابلت زوجي فكنت كمن يفض «حلاوة البخت» أو كمشتري ورقة «اليانصيب» حين يقرأ جدول النمر الرابحة، وحمدت الله على ما وهب، وبقي لي أن أعرف صفاتها التي تظهر يوماً فيوماً كلما حدثت مناسبة أو جد جديد. لقد عشنا زمًنا عيشة هادئة سعيد فيها لذة الاستكشاف: أتكشف أخلاقها وتصرفاتها وتتكشف أخلاقي وتصرفاتي، وفيها لذة تحقيق الشخصية فقد لبثت طويلا في كنف أبوي، وأنا الآن رئيس البيت حر التصرف إلى آخر ما هنالك. ولكن صدم زوجي بعد قليل أن رأتني هادئًا غير مرح، قليل الكلام، وقد تربت في بيت مرح، مملوء بالضحك والبهجة، يكثر فيه الحديث في الفارغ والملآن، فظنت أني لا أقدرها أو نادم على الزواج بها. وأؤكد لها أن هذا طبعي كسبته في بيتي فلم تصدق ولم تطمئن إلا بعد طول العشرة ووثوقها من أني كذلك مع غيرها لا معها وحدها. ومشكلة أخرى عرضت لي ولها. وهي أني رجل مدرس مضطر إلى تحضير دروسي في المساء لألقيها في الصباح. وفوق ذلك أحب القراءة في غير دروسي أيضا، فأنا فرح بتعلمي الإنجليزية مشغول أول عهدي بالزواج بإنهاء ترجمة كتاب «مبادئ الفلسفة» وزوجتي مثقفة ثقافة محدودة، تقرأ القصص والروايات الخفيفة من غير شغف، فهي تحتمل الصباح وحدها لإعداد ما نأكل وتنظيف ما ينظف، ولكن كيف تحتمل المساء أيضا وحدها وأنا في غرفة بجانبها أقرأ وأكتب والأيام هي الأيام الأولى لزواجنا؟ وحدث مرة أن أعدت العشاء وفتحت علي الباب وأخبرتني بأن العشاء معد، وكنت أمام جملة في مبادئ الفلسفة صعبة، أحاول ترجمتها وأحاور عبارتها وأتذوق صياغها، فلم أسمع النداء والإخبار، ولم أشعر بفتح الباب، فكان خصام وكان نزاع وكانت شكوى إلى أهلها لم تنته إلا بعناء ولم أستطع التحول عن طبعي وغرامي، ثم حلت المشكلة بعض الشيء بالولد الأول واشتغال أمه به ثم بما تتابع من أولاد، ثم باضطرارها إلى قبول الأمر الواقع والرضا بما قدر الله من عيش في شبه عزلة مما أقرأ وأكتب. وكانت نظريتي في الأولاد تخالف نظريتها، فكان من رأيي الاقتصار على ولد أو ولدين، شعوراً بمسئولية التربية وتوفيراً للزمن الذي أحتاجه في التحصيل والدرس، وتمشياً مع النظرة التي أراها وهي أن الأمة المصرية مكتظة بالسكان وأن كثرتهم تحول دون العناية بتغذيتهم تغذية صحيحة، فلو قل عدد الأسرة كانت أقدر على أن ترفع مستواها في أمور الاقتصاد والتربية؛ ولكن زوجتي لا ترى هذا الرأي، وقد نصحتها بعض قريباتها بالمثل المشهور وهو «قصيه لئلا يطير» فالطائر إذا نزع ريشه أو قص لا يطير، والزوج إذا خف حمله لقلة الأولاد كان عرضة أن يطير ويتزوج ثانية وثالثة، وقد غلبت نظريتها نظريتي، ولم تعبأ بالمتاعب التي كانت تلاقيها في الولادة والتربية، فرزقت بعشرة أولاد — ولله الحمد — مات منهم اثنان في طفولتهما، وبقي لي ثمانية أسأل الله أن يمد في عمرهم ويسعدني بهم، ستة أبناء وبنتان. وإني لأعجب لنفسي ويعجب لي غيري كيف استطعت أن أؤلف ما ألفت وأكتب ما كتبت وأقرأ ما قرأت مع ما تتطلبه تربية الأولاد من جهود لا نهاية لها. ويرجع الفضل في ذلك إلى الأم وحملها عني الأعباء التي تستطيع القيام بها، واكتفائي بالإشراف على تربيتهم العلمية والخلقية، ثم تقصيري في إطالة الجلوس معهم ومسامرتهم وإطالة عزلتي على مكتبي. على كل حال بعد أن عرفت زوجي أخلاقي وعرفت أخلاقها وتكشفت لها ميولي وتكشف لي ميولها، حدثت المصالحة والتفاهم فتنازلت عن بعض رغباتها لرغباتي، وتنازلت عن بعض رغباتي لرغباتها، فكانت عيشة هادئة سعيدة نرعى فيها أكثر ما نرعى مصلحة الأولاد وخلق الجو الصالح لتربيتهم. وأحياًنا كان يعكر صفونا شيئان لعلهما لم يخل بيت منهما إلا في القليل النادر. أحدهما مسألة الخدم، فالبيت لا يستغني عنهم ولا يرتاح بهم، وكانت مشكلتهم عندنا مزمنة وبخاصة في الخادمات. فزوجي غضوب، تريد أن تنفذ جميع أوامرها في دقة، والخادمة لا تعمل أو لا تستطيع أو تعاند فيكون الغضب، أو تريد أن تعاملها معاملة السيد للعبد، وتأبى هي إلا أن تعامل معاملة الند للند، أو تريد زوجي أن تكون الخادمة نظيفة والخادمة قذرة، أو مرتبة منظمة وهي لا تفهم ترتيباً ولا نظاما، وهكذا. كثيرا ما يكون للزوجة الحق وكثيرا ما يكون للخادمة الحق، فإذا تدخلت انقلب مركز النزاع من الخادمة إلي. وزوجي غيور، فهي لا تحب بطبيعتها أن يكون للخادمة أية مسحة من جمال، فإن كانت كذلك فالويل لها. والحديث يطول بيننا حول خادمة خرجت وخادمة جاءت وخادمة أساءت وخادمة سرقت. وأخيراً قررت إخلاء يدي من الخادمين والخادمات، وتركت لها مطلق الحرية أن تخرج من تشاء وتدخل من تشاء على شرط ألا تذكر لي شيئا من أخبارهم وأحوالهم. والثاني مشكلة وسائل التفاهم، فقد كنت من غفلتي أعتقد أن العقل هو وحده الوسيلة الطبيعية للتفاهم، فإن حدثت مشكلة احتكمنا إليه وأدلى كل منا بحججه فإما أقتنع وإما أقنع وإما أصر، وإما أعدل ولكني بعد تجارب طويلة رأيت أن العقل أسخف وسيلة للتفاهم مع أكثر من رأيت من السيدات؛ فأنت تتكلم في الشرق وهن يتكلمن في الغرب. وأنت تتكلم في السماء فيتكلمن في الأرض، وأنت تأتي بالحجج التي تعتقد أنها تقنع أي معاند، وتلزم أي مخاصم، فإذا هي ولا قيمة لها عندهن. تقول: إن الأوفق أن نتصرف في الأمر بكذا لكذا من الأسباب، فترد عليك بأقوال متأثرة بعواطف ساذجة. وتقول: هذا التصرف لا يصلح لما يترتب عليه من أضرار تعينها، فترد عليك بأن العرف والعادة غير ذلك. وتعاقب ابنك لتؤدبه فتفسد العقوبة بتدخلها لمجرد العطف الكاذب. وتتصرف التصرفات الحكيمة فتئولها بنظراتها العاطفية تأويلات غريبة. وهكذا أدركت أن من الواجب ألا ألتزم المنطق، وأني إذا أردت الراحة والهدوء فلأضح بالمنطق أحياًنا، وأتكلم الكلمة السخيفة إذا كان فيها الرضا، وألعب بالعواطف رغم المنطق إذا أردت السلامة. وهكذا، كانت حياتنا كالبحر الهادئ، ولكن من حين لآخر تثور مشكلة من هذه المشاكل فيتكهرب الجو ويموج البحر ثم تنتهي العاصفة ويعود إلى البحر هدوؤه. ولم تكن لنا مشكلة مالية مما تشقى به بعض العائلات، فقد وسع الله علي في الرزق، ولم يأت علي يوم اقتصرت فيه على مرتبي الحكومي، فعند تخرجي من مدرسة القضاء انتدبت مدرساً للأخلاق بمدارس الأوقاف الملكية بمرتب آخر؛ ولما عينت قاضياً في مصر انتدبت مدرساً بمدرسة القضاء، ثم در علي الرزق بما أربح من كتبي ومقالاتي؛ فمع ما يتطلبه الأولاد الكثيرون من نفقات كثيرة لم أشعر بحاجتي إلى الاستدانة ولا مرة، وإلى جانب ذلك فأنا رجل ليس لي كيف من الكيوف إلا الدخان، ثم معتدل الإنفاق، وأنا أميل إلى التبذير وزوجي أميل إلى التدبير، ولو ترك الأمر لي ما أبقيت على شيء، ولكن زوجي لكثرة الأولاد، وما يتطلبه ذلك من حساب المستقبل، احتاطت ودبرت وادخرت. وكذلك حمانا الله من مشاكل أخرى أصيبت بها بعض الأسر لا داعي لذكرها لأنها لم تدخل في تجاربنا. ورزقت بالولد الأول عقب زواجي، فأوليته كل عنايتي وطالعت من أجله بعض الكتب الإنجليزية والعربية في تربية الطفل، وكنت أشتري له اللعب الأجنبية الموضوعة للتسلية وتربية العقل، ولم أرتض له المدارس المصرية، فعلمته في المدارس الفرنسية — في الفرير — ثم حولته بعد السنة الثالثة الثانوية إلى مدرسة مصرية ليتقوى في اللغة العربية والإنجليزية، فلما نجح في البكالوريا، وكان ترتيبه متقدماً يسمح له أن يكون في الطب أو الهندسة، اختار الهندسة. وعنيت بالولد الأول أكبر عناية، علماً بأنه سيكون نموذجاً لإخوته، وقد كنت قاسياً على أولادي الأولين، شديد المراقبة لهم في دروسهم وأخلاقهم، أعاقبهم على انحرافهم ولو قليلا، ولا أسمح لهم بالحرية إلا في حدود؛ حسب عقليتي إذ ذاك، ولكنها على كل حال قسوة لا تقاس بجانب قسوة أبي علي؛ وكلما تقدمت في السن واتسع تفكيري أقللت من تدخلي وأكثرت من القدر الذي يستمتعون فيه بحريتهم، فلم أجد كبير فرق بين الأولين والآخرين لشدة تأثر من لحق بمن سبق. وما أكثر ما لقيت من متاعب الأولاد في صحتهم وفي دراستهم وفي سلوكهم، وكان لكل سن متاعبها، فأكثر متاعب الطفولة في الصحة والمرض، وأكثر متاعب المراهقة في الدراسة والسلوك، وأكثر متاعب الشباب في طرق الوقاية والمهارة في الإشراف من بعيد، وكثيرا ما كان عندي الأسنان كلها أحمل متاعبها المتنوعة جميعها. وأحمد الله فقد نجحت في تحمل أعبائهم، وحسن توجيههم إلى حد كبير: فالآن وأنا أكتب هذا زوجت بنتي زواجاً يعد بقدر الإمكان سعيداً، وأتم ثلاثة دراسة الهندسة والرابع في طريق إتمامها، ولما ضقت ذرعاً بالهندسة وكرهت سماع النغمة الواحدة تدخلت في الأمر بعد أن كنت أترك لهم الاختيار، فوجهت الخامس لدراسة الحقوق، وحاولت أن أوجه السادس للطب وقد كان أول البكالوريا في القطر فلم أفلح. وكان حنوي وحنو أمهم عليهم بالغ الحد، حتى لكثيراً ما ضحينا بسعادتنا لسعادتهم، وتعبنا لراحتهم، وأنفقنا من صحتنا محافظة على صحتهم، ونحن نطمع أن يتولى الله وحده الجزاء، أما هم فقد يحاسبوننا على الكلمة الصغيرة يظنون أنها تجرح إحساسهم، وعلى التقصير القليل يظنونه مسا بحقوقهم، وعلى العمل يسيئون تفسيره، وقد يكون الغرض منه خيرهم؛ ولكن الموقف النبيل يقضي بأن تربية الأولاد ليست تجارة، تعطي لتأخذ وتبيع لتربح، إنما هي واجب يؤديه الآباء لأبنائهم وأمتهم، فإن قدره الأبناء فأدوا واجبهم نحو آبائهم فبها، وإلا فقد فعل الآباء ما عليهم، والمكافئ الله. نعم رزقت الحنو عليهم حنواً شديداً حتى لينغص علي سفري إذ سافرت ورحلاتي إذا رحلت فلا أزال أذكرهم في سفري حتى أعود، ولا تهنأ لي راحة إلا إذا عدت إليهم؛ وإخواني المسافرون معي يستنكرون ذلك مني، ولا أراهم يحنون إلى أولادهم حنيني.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/22/
الفصل الثاني والعشرون
جاءت الحرب العالمية الأولى ١٩١٤، وكانت أحداثها وقوداً لإلهاب الشعور الوطني، فخلع الخديوي عباس وأعلنت بريطانيا الحماية على مصر، فحز ذلك في نفوسنا، وولي الأمير حسين كامل سلطاًنا على مصر، فأثرت في شعورنا الطريقة التي عين بها، فقد كان والي مصر يعين من قبل سلطان الآستانة بفرمان يحمله مندوب سام من قبل السلطان، فرأينا في هذه المرة أن تعيين سلطان مصر يتم بخطاب وجهه إليه متولي أعمال الوكالة البريطانية، وعانت مصر ويلات الحرب من سوء الحالة الاقتصادية ومن اعتداء الإنجليز على الأهالي، وتشغيل العمال المصريين رغم أنوفهم، وأخذ السلطة الإنجليزية الدواب والمحصولات جبراً، وتحليق الطيارات الألمانية فوق القاهرة وإصابتها بعض الأهالي، وتسفير العمال المصريين إلى فرنسا والعراق، ونزع السلاح من المصريين. كل هذا وأمثاله ربى شعورنا الوطني، وكبت العواطف انتظاراً للهدنة وتنفيذ إنجلترا ما وعدت به مصر، وإن كان وعداً غامضاً، وقد أفسح هذا الأمل عند المصريين تصريحات ولسن والحلفاء بأنهم إنما يحاربون دفاعاً عن الحرية، وأنه إذا انتهت الحرب فلا استعمار ولا استغلال، وإنما تقرر كل أمة مصيرها وتدير أمورها بنفسها، خاب أمل مصر إذ رأت أن الأحكام العرفية لا تزال باقية والحالة الاقتصادية لم تتغير، واحتكرت السلطة البريطانية محصول القطن وحددت ثمنه، ولم تبد أية علامة تدل على أن في نية إنجلترا أن تمنح مصر شيئًا من استقلالها، فاتجهت أفكار بعض الزعماء إلى مطالبة الإنجليز بوفاء ما وعدوا، وتألف الوفد المصري وعلى رأسه سعد باشا زغلول، ثم قبض عليه وعلى بعض صحبه، وقامت المظاهرات وكثر التخريب واشتعلت البلاد ناراً، وعاقب الإنجليز الأهالي عقاباً شديداً بإطلاق الرصاص على المتظاهرين والتنكيل ببعض القرى تنكيلا يذيب القلوب، إلى آخر ما يعرفه القراء من الأحداث السياسية القريبة العهد. وكانت مدرسة القضاء تغلي من هذه الأحداث كما يغلي غيرها من المدارس العليا، وزاد غليانها أيام تكون الوفد وعلى رأسه سعد باشا زغلول، إذ كانت المدرسة تعد نفسها صنيعة من صنيعاته وعملا من أعماله الجليلة، وأن الوطنية والوفاء معاً يوجبان عليها تأييده ما استطاعت، وعلى رأس المدرسة عاطف بك بركات من أقرباء سعد باشا ومن أقرب المقربين إليه. لهذا كله ساهمت — وأنا مدرس في مدرسة القضاء — في الناحية السياسة. وظهرت هذه المساهمة من يوم تكون الوفد واعتقل سعد. فجمعيتنا الثقافية التي سبق أن تحدثت عنها والتي كانت تخرج جريدة السفور كثيراً ما كانت تتحدث في السياسة، وتقلب ما جد من الأمور على وجوهه، فلما بدأ الوفد يتكون قالت هذه الجماعة: لم لا يكون لنا ممثل في الوفد؟ وانتدبت اثنين كنت أحدهما لمقابلة سعد باشا وعرض الفكرة عليه، فذهبنا إليه، ولكن وجدناه مشغولا فأحالنا بعد أن عرف مطلبنا على أستاذنا أحمد لطفي السيد، فحادثناه في الأمر، فسأل: وباسم من تتكلمون؟ قلنا: باسم جماعة العقليين. وناقشنا طويلا ثم عرض الأمر على سعد باشا زغلول بعد أن عرف أسماء الجماعة فاختار منا الشيخ مصطفى عبد الرازق في الوفد المصري، ولكن الشيخ مصطفى اعتذر بعد أن شاور أسرته. ولما اشتعلت نيران الثورة كنت من المتصلين بعبد الرحمن فهمي سكرتير الوفد، وكان يضم إليه جماعة من الشبان يوزع عليهم الأعمال، فاختارني للإشراف على عملين: الأول إلقاء الخطب السياسية في المساجد عقب صلاة الجمعة، فكنت أجتمع مع بعض الزملاء وأنظم معهم إلقاء هذه الخطب وأوزعهم على المساجد وأعين معهم موضوع ما يقولون. والأمر الثاني كتابة المنشورات نذكر فيها أهم الأحداث، ومن أهم ما أذكره من هذه المنشورات منشور كتبته على أثر مظاهرات السيدات؛ ففي يوم ١٦ مارس سنة ١٩١٩، اجتمع لفيف من الآنسات والسيدات الراقيات وألفن مظاهرة سارت في شوارع العاصمة، وأخذن ينادين بالحرية والاستقلال وبسقوط الحماية والظلم، ويلوحن بأعلام صغيرة، فلما سرن طويلا ووصلن إلى ميدان من ميادين العاصمة ضرب الإنجليز عليهن نطاًقا وصوبوا إليهن البنادق، فلم يرهبهن هذا التهديد، وقالت إحداهن: أطلق بندقيتك في صدري لتجعلوا مني مس كافل أخرى، ثم انصرفن بعد أن وقفن في الشمس نحو ساعتين، فكتبت في ذلك منشورا مطولا في وصف هذه المظاهرة وأثرها والتهيج بها، وطبع ووزع. وقد كانت في مكتب عبد الرحمن بك فهمي مذكرة بأسماء الذين يشتغلون معه في هذه الأعمال فلما قبض عليه وختم مكتبه بالشمع الأحمر كسر بعضهم الباب وأخذ الأوراق التي يظن أنها توقع الأذى ببعض الأشخاص ومنها هذه المذكرة، ولولا ذلك لسجنت كما سجن غيري من زملائي. وكنت شديد الصلة بسكرتير سعد باشا زغلول (كامل بك سليم)، فلما أطلق سراح سعد وذهب (كامل بك) مع الوفد إلى باريس كان علي أن أصف الحالة في مصر من حين لآخر، وأرسل بذلك تقريرات إلى سكرتير سعد ليطلعه عليها، وكانت هذه سبباً في معرفة سعد باشا بي، فكثر اتصالي به، بل كان يرسل إلي الشفرة الجديدة إذا غيرت لأوصلها إلى بعض الأعضاء في مصر، إذ كنت شيخاً مدرساً في مدرسة القضاء لا يظن أحد أن أمراً خطيراً كهذا يأتي إلي. ولما انقسم الوفد واتهم عدلي باشا وصحبه ببعض الاتهامات كنت في صف سعد باشا ومن مؤيديه والداعين له، ومع ذلك لم يضع استقلالي في التفكير، فأذكر مرة أن كان سعد باشا في حجرته في منزله، وتناول عدلي باشا بالتجريح قبل أن يهاجمه علًنا، فسألته الأدلة على هذا التجريح، فأتى بأدلة لم تقنعني، فرددت عليه فغضب مني وقال لي: «إنك اليوم سيئ المنطق». على كل حال انغمست في السياسة واشتركت في المظاهرات وبخاصة في المظاهرات التي ترمي إلى التقريب بين الأقباط والمسلمين، وكنت أتلمس المظاهرة، فأركب عربة وأنا بعمامتي أصطحب فيها قسيساً بملابسه الكهنوتية ونحمل علماً فيه الصليب والهلال ونحو ذلك من أعمال. واشتدت الحركة الوطنية في مدرسة القضاء وأفلت زمامها من يد عاطف بك بعد أن كان لا يسمح بمظاهرة ما ولا إضراب، إلى أن جاء يوم انعقد فيه مجلس الإدارة في المدرسة وكانت الوزارة وزارة نسيم باشا الأولى، وهي ليست على وفاق مع سعد، وكان وزير المعارف محمد توفيق رفعت باشا عضواً فيه، فاجتمع بعض الطلبة في جزء من فناء المدرسة تحت شباك الحجرة التي ينعقد فيها المجلس وهتفوا بحياة سعد وسقوط وزارة نسيم، فاتهم رفعت باشا عاطف بك بأنه دبر هذه المؤامرة مع أنه بريء من ذلك فيما أعتقد، ولم يأت المساء حتى أعلن قرار مجلس الوزراء بإحالة عاطف بك على المعاش. أثر هذا الحادث في نفسي أثرا كبيرا وحزنت له حزنا عميًقا، فقد لازمت عاطف بك نحو خمسة عشر عاماً في مدرسة القضاء، تلميًذا ومدرساً، وأنا أستفيد من روحه ومن خلقه، فلما خرج منها أحسست أن بناء المدرسة قد هدم على رأسي. لهذا لم أظهر في السياسة ظهور غيري، ولم أكتو بنيرانها، وأنعم بجنانها كما فعل غيري. ظللت في القضاء أربع سنين، سنة في قويسنا، وسنة في طوخ، وسنتين في محكمة الأزبكية، ومع ذلك فلم أستمرئ القضاء ولم أسعد به؛ كل ما أراه أسر قد خربت، أما الأسر السعيدة فلا أراها. زوجة تطلب نفقة من زوجها، وزوج يطلب الطاعة من زوجته، ونحو ثمانين في المائة من القضايا من هذا القبيل فيحكم بالنفقة على الزوج، فإن لم يدفع فيحكم بالحبس، ويحكم بالطاعة على الزوجة، وظللت أحكم بالطاعة وأنا لا أستسيغها ولا أتصورها، كيف تؤخذ المرأة من بيتها بالبوليس وتوضع في بيت الزوج بالبوليس كذلك؟ وكيف تكون هذه حياة زوجية؟ إني أفهم قوة البوليس في تنفيذ الأمور المادية، كرد قطعة أرض إلى صاحبها، ووضع محكوم عليه في السجن، وتنفيذ حكم بالإعدام ونحو ذلك من الأمور المالية والجنائية. أما تنفيذ المعيشة الزوجية بالبوليس فلم أفهمه مطلًقا إلا إذا فهمت حباً بإكراه، أو مودة بالسيف. ولهذا كنت أصدر هذه الأحكام بالتقاليد لا بالضمير، وبما في الكتب والقوانين واللوائح، لا بالقلب. وكنت أشعر شعور من يمضغ حصى أو يتجرع الدواء المر. وباقي القضايا على هذا المنوال أيضاً: امرأة يدعيها زوجان زوج بورقة عرفية وزوج بورقة رسمية، ودعوى زوجة طلاًقا ينكره الزوج، ونحو ذلك من أمور لا تختلف عن الأكثرية كثيراً. فإن استفدت شيئًا من عملي في هذا المنصب فدراسة اجتماعية عملية للأسر المصرية. وقد ظهرت على عهدي هذا ظاهرة جديدة لم تكن معروفة كثيراً قبل هذا العهد، وهي تقاضي الأسر المتوسطة والأسر العالية أمام المحاكم وقد كان هذا فيما مضى يعد عاراً كبيراً، ولا يلجأ إلى المحاكم إلا الأسر الفقيرة وأمثالها. ومما أفادني أني كثيراً ما كنت أنحي المحامين عن الكلام وتزويقهم للأمور وادعاء بعضهم ما ليس بصحيح، وأطلب حضور المتخاصمين شخصيا في جلسة سرية، وأستمع إلى كل منهما في تؤدة وتقص لمعرفة الأسباب الأساسية التي أدت إلى هذا النزاع مما لا يذكره المحامون عادة. فكنت أعرف سر الخصومة، وذلك شيء ليس في الأوراق، ثم أعالج هذا السر بما أراه ناجحاً — وأكثر ما يكون بالصلح بين المتخاصمين — إما بالفرقة إذا لم يكن أمل في نجاح الأسرة، وإما بالنصح بما يحسم الخلاف، كأن يسكن الزوجان بعيدين عن أهل الزوج أو أهل الزوجة أو نحو ذلك. ثم استفدت المران على الحكم على الأشياء، فالقضاء لا يكون إلا بعد فهم الدعوى، ولا يكون الفهم حتى يسمع كلام الطرفين، ولا يكون الحكم حتى تدرس القضية من جميع نواحيها، ولا يكون حتى يتكون الرأي بناء على أسباب معقولة: كل هذه دروس منطقية عملية تطبع الشخص بطابع خاص لا يجده في التدريس ولا في غيره من الوظائف فأربع سنين يشغل فيها الذهن ليل نهار بالتفكير في قضايا وتحليل لها وتأمل في أحكام هذه القضايا ووضع أسباب لما وصل إليه من حكم لابد أن تترك في النفس أثراً عميًقا. ولقد هممت في بعض أيامي في القضاء أن أدرس الأسرة دراسة علمية، فأعددت كتباً كثيرة فيها باللغة الإنجليزية، وأردت تطبيق ذلك على ما أراه من الأسر المصرية، واستخراج الإحصاءات الرسمية في عدد ما يحدث في مصر من زواج ومن طلاق ونسبة الطلاق إلى الزواج ونسبة من يتزوج أكثر من واحدة إلى غير ذلك من إحصاءات، لأستنتج النتائج الاجتماعية التي تدل عليها، ولكني مع الأسف لم أتمم هذا البحث. وفي سني القضاء نسيت ما كانت توصيني به السيدة الإنجليزية، من قولها تذكر أنك شاب، بل كنت أتذكر دائماً أنني شيخ، فالقضاء الشرعي يتطلب وقاراً وجلالا ومشياً بطيئًا وحركة جامدة وإلا كان أهوج أرعن، والقاضي الشرعي — بجانب ذلك — ينظر إليه على أنه رئيس ديني، فيجب أن يتحرج من الجلوس في قهوة أو أن يكون في ناد تشرب فيه خمر أو يلعب فيه ميسر. وإذا جلس في قوم فلابد أن يتحدث حديًثا دينياً أو أخلاقياً وعلى الأقل أن يكون جاداً لا يمزح ووقوراً لا يضحك، وحدث مرة وأنا قاض في قويسنا حادث مربك، فقد دعاني إلى العشاء طبيب المركز مع كبار الموظفين وبعض كبار الأعيان وأنا أعلم أن بعض المدعوين يشرب خمراً، فتأخرت في الذهاب إلى بيت الطبيب حتى يأخذوا حريتهم قبل حضوري، فلما ذهبت وجدت الباب مفتوحاً والمدعوين في حجرة أمام الباب فانتظرت حتى يأتي الخادم فلم يحضر، فدخلت عليهم في الحجرة وإذا هي معمعة وإذا هي حانة، وإذا الكئوس تملأ، فبهت الحاضرون وبهت وخجلوا وخجلت، وإذا بعضهم يأخذ الزجاجة ويخفيها تحت المائدة، وزاد اضطرابي واضطرابهم، وارتباكي وارتباكهم، فقصدت إلى الطبيب صاحب الدعوة وأفهمته أني حضرت لأعتذر. فقد حدث ما يضطرني أن أكون في بيتي الآن، ففهم ما أريد وألح علي أن أنتظر في حجرة أخرى لحظات قليلة حتى تنظف المائدة، فأصررت وخرجت وكان صائباً ما فعلت، فلو جلست معهم لخرجت الشائعات بأني كنت أشرب مع الشاربين، وألهو مع اللاهين، ولسقط مركزي الديني ومركزي الخلقي ومركزي القضائي معا.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/23/
الفصل الثالث والعشرون
في فترة القضاء هذه مات أبي رحمه الله وأنا قاض في قويسنا عن نحو ثمانين عاماً إثر عملية جراحية، فقد أصيب «بفتق» وهو في نحو الأربعين من عمره فلم يفكر في عملية يعملها، وظل يلبس الحزام الجلد يضغط به على موضع «الفتق» يخلعه مساء ويلبسه صباحاً، ويعاني في ذلك مشقة كبيرة يتحملها في صبر. وكثيراً ما كانت تخر من الفتق بعض الأمعاء ويحاول إدخالها ولبس الحزام فيمتنع عليه ذلك فأسرع إلى الطبيب يعالجه، وكان هذا سبباً كبيراً في ضيق خلقه والتنغيص عليه وعلينا — يضاف إلى ذلك ما أصيب به من إمساك مزمن، فكان إذا طال به الزمن ساء مزاجه وتلمس أي شيء يغضب عليه — ولعل بيتنا مدين لهذين السببين في التنغيص عليه من حين إلى حين، وما حرمه من ضحك ومرح وسرور. وما كان من معيشة انفصالية يميل فيها أبي إلى العزلة والانفراد بنفسه وآلامه — وطالت به هذه الأمراض من غير أن يعرض نفسه على طبيب اختصاصي، فلما كبرت عرضته على أكبر طبيب فقرر أنه كان يجب أن يعمل العملية وهو في فترة شبابه، أما وقد تقدمت به السن إلى هذا الحد فلا يحسن عملها. وأخيراً اشتد به الألم وضجر من حالته، فانتهز غيابي في قويسنا وذهب إلى طبيب جراح في المرتبة الثانية أو الثالثة، وكان تلميًذا له قديماً فحسن له العملية، وتجرأ فعملها من غير أن أعلم أو يعلم أحد في البيت. ولم أدر إلا وتلغراف يأتيني بقويسنا يحمل الخبر، ففزعت لذلك وحضرت إلى مصر وذهبت إلى العيادة وطمأنني الطبيب أن العملية ناجحة، ولكن لم يمض يوم حتى أصيب بالتهاب رئوي قضى عليه في ساعات ومات وأنا بجانبه يوصيني أمي وأختي ويدعو لي «أن يكون الله في عوني». وبذلك انتهت حياة حافلة شاقة ملئت بالكد الدائب والسعي المتواصل في طلب العلم وطلب الرزق، فقل أن يفارقه كتاب يقرؤه أو يكتبه، ورزقه متصل بعلمه من درس يدرسه أو كتاب يصححه أو نحو ذلك، لا يمنعه عن ذلك مرضه أو كارثة نزلت به، متدين أشد التدين، يكثر من الصلاة ومن قراءة القرآن والحديث، ويزكي ويصرف زكاته على الفقراء من أقاربه، ويصوم ويحج ويتهجد بالليل ويبتهل إلى الله. وإذا صدرت منه سيئة أو ما يظنها سيئة أكثر من الندم والاستغفار والتوبة؛ زاهد عن السعي في طلب الرزق إلا بمقدار ما تحتاج إليه أسرته، فإن زاد شيئًا فبقدر ما يدخره ليوم الحاجة — يكثر من ذكر الموت ويتبع ذلك بأحاديث يحفظها في تفاهة الدنيا وحقارة شأنها وهوانها على الله، وبنى مقبرة له يذهب إليها ويتلو عندها القرآن يرجو بذلك أن تكون منزلا مباركاً له عند وفاته. يهزأ بالدنيا وزخرفها ومباهجها، رأيته مرة يلبس كسوة تشريف ليذهب إلى حفلة المحمل ثم يقف في الغرفة قليلا متردداً ثم يخلعها ويرميها بيده إلى أركان الغرفة ويقول: إنما الحياة الدنيا لهو ولعب وزينة، ويجلس بعد ذلك يتلو القرآن. وهو في حيه محترم، إذ هو أكبر رجل ديني في الحي. يقوم له الناس إجلالا إذا مر عليهم، ويفزع إليه الأغنياء والفقراء في أمورهم الدينية وفي الفتيا في مسائل الزواج والطلاق والميراث، ويسأله أعيان الحي أن يقرأ لهم درساً دينياً في بيت من بيوت أحدهم، ويهدون له الهدايا الكثيرة في الأعياد والمواسم. وهو بسيط في أكله وشربه ولبسه ونومه، حتى ليأكل ما قدم إليه من غير ضجر، وينام على حشية من غير سرير، ويلبس في دقيقة ملبسه البسيط في غير أناقة. يشتد على أولاده فلا يعطيهم من المال إلا بقدر الحاجة حتى لا يفسدوا، ويحاسبهم على تعلمهم محاسبة عسيرة، فهو يمتحنهم دائماً في حفظ القرآن وحفظ المتون وفي فهم دروسهم، فإذا أخطئوا حسبل وحوقل وقد يغضب ويضرب، وكل صحبتنا له صحبة درس جديد أو امتحان في درس قديم. ولا أذكر أنه مزح معنا وقل أن ضحك في وجوهنا. ولذلك كان اطمئناننا ومرحنا القليل ساعة يغيب عن البيت، وخوفنا ورهبتنا وحبس أنفاسنا ساعة يحضر؛ ومن مزاياه أنه كان يرى تعليم البنت كما يعلم الابن، فأرسل أختي الكبرى إلى المدرسة السيوفية وكانت المدرسة الوحيدة المصرية لتعليم البنات، في حين أن أكثر الناس كان يرى تعليم البنت في المدارس جريمة لا تغتفر. دنياه التي يعرفها أزهره ومسجده وكتبه ومن يتصل به من أهل حيه. أما السياسة والاحتلال وأما شئون الاقتصاد وأما الحياة الاجتماعية والمدنية مما يجري وراء حيه فلا يعلم عنها شيئًا، فهو لا يقرأ الجرائد إلا إذ وقعت في يده عرضاً، ولا يجتمع بالناس يتكلمون في الشئون العامة إلا قليلا. يحب الريف ويحن إليه، وفي بعض الأيام كان عندنا حمار يركبه ويركبني معه فيخرج به إلى الجزيرة أو الجيزة، ونقضي النهار تحت شجرة أو بجوار ساقية أو على شاطئ النيل ومعه كتاب يقرؤه، ثم يعود وقد غذى عواطفه، وهذه هي كل رياضته. فإذا لم يكن حمار فمشي على الأقدام إلى كوبري قصر النيل حيث يختار مكاًنا يجلس إليه. وله صديقان من الفلاحين في جزيرة أمام مصر القديمة يزورهما — وأنا معه — من حين إلى حين وبخاصة في موسم الشمام والبطيخ، فنقضي هناك اليومين والثلاثة بين المزارع وعلى شاطئ النيل، ولا ندخل البيوت — حتى الليل نقضيه تحت سقف السماء — كأنه لما حرم مزارعه في بلده كان يعوضها بمثل هذه الجولات. ذكي يجيد فهم الكتب الأزهرية، وله شوق إلى قراءة الكتب الأدبية والتاريخية من غير تعمق فيها أو قراءة منظمة لها؛ يقرض الشعر أحياًنا في مناسبات ولا يقرضه حتى يتخير قصيدة من ديوان شعر يحاكيها في الوزن والقافية ويتخير من معانيها فتأتي أشعاره متكلفة لا روح فيها. ولا أدري لماذا لم يحاول التأليف في أي فرع من فروع العلم مع توفر الأسباب لديه. ومع شدته على أولاده كان رحيماً بهم، وتظهر رحمته في قلقه على ولده إذا مرض، وحرقة قلبه إذا مات، وحنينه إليه إذا غاب ونحو ذلك. وكان يؤثرني على إخوتي في العناية لما كان يظهر له من استجابتي وطاعتي؛ فإليه يرجع أكبر الفضل في أساس تعلمي من يوم أن ذهبت إلى الكتاب إلى يوم أن دخلت مدرسة القضاء، ولولاه لم أنجح في دراستي الأزهرية لصعوبتها وكثرة العوائق فيها، فقد سهلها علي بأسلوبه وقرب عبارته ووضوح معانيه، ولولا نجاحي على يده في العلوم الأزهرية ما نجحت في الدخول في مدرسة القضاء؛ بل منه تعلمت الصبر على الدرس واحتمال العناء في التحصيل. ومنه كسبت وضوح العبارة وبساطة الأسلوب، ومن مكتبته المتنوعة الغنية بكتب الأدب والتاريخ نبت في نفسي حب الأدب والتاريخ؛ وعلى الجملة فقد ورثت منه — إلى حد ما — كثيراً مما لي من مزايا وعيوب. لهذا كله بعد أن كبرت ودخلت مدرسة القضاء وتحررت من رعايته لي وقسوته علي بدأت أشعر بفضله، وينقلب خوفي منه إلى حب وإجلال له، وبعد أن أصيب بفقد ولديه زاد عطفي عليه وبذل كل جهد في عمل ما يرضيه. ومن جانبه بادلني عطًفا بعطف وحناًنا بحنان، وترك لي التصرف في ماله وشئونه، وتفرغ لحزنه ومرضه، ودينه. فلما مات أحسست لذعة أليمة وركًنا تهدم ولم يعوض، وفراغاً لم يملأ — رحمه الله. وبعد قليل من وفاة أبي يموت أبي الروحي الثاني (عاطف بركات) فأحزن عليه حزًنا قريباً من حزني على أبي، وأقف على قبره عند دفنه وأرثيه بكلمة أودعها قلبي، وأنظر إليه في كفنه وهم ينزلونه إلى قبره فيصفر وجهي ويسيل دمعي وأحز بأسناني على سبابتي فأكاد أقطعها، وينظر أقرباؤه إلي فيجدونني أحزن أكثر مما يحزنون، وألتاع أشد مما يلتاعون فيرثون لحالي ويشفقون مما بي. لقد تسلمني من أبي بعد أن رباني التربية الأولى فرباني التربية الثانية، وقد عاشرته نحو ثمانية عشر عاماً من سنة ١٩٠٧ إلى وفاته سنة ١٩٢٥ منها أربعة وأنا طالب وهو ناظر وأستاذ، وعشرة وأنا مدرس وهو — أيضاً — ناظر وأستاذ، وأربعة وهو يشتغل بالأمور السياسية وأنا أتلقى عنه دروسها — فبعد خروجه من المدرسة على النحو الذي أشرت إليه قبل، تفرغ للسياسة وانضم إلى الوفد ونفي إلى «سيشل» ولما عاد وتولى سعد باشا الوزارة عين «عاطف» وكيلا لوزارة المعارف، وتولى أمر الوزارة كلها، وقد عرض علي إذ ذاك أن أكون مفتشاً في الوزارة معه فاعتذرت، ثم عرض علي أن أكون أستاًذا للشريعة في مدرسة الحقوق وقبلت، واتصل بناظر الحقوق واتفق معه على ذلك واختبرت دروسي ولكنه مات قبل أن يتم ذلك، فقلب لي ظهر المجن، وقطعت إجراءات التعيين وعين غيري، وانتهى كل شيء كأن لم يكن شيء. ولم يطل أمده في وزارة المعارف، فقد دب داء السرطان إلى رأسه، وعاني من الآلام المضنية الشيء الكثير. لقد كان يخصني برعايته منذ كنت طالباً، فلم كنت مدرساً أتبعني به في دروس الأخلاق، فكنت ألازمه في دروسه وقد أقضي النهار معه في بيته بمصر الجديدة، ولما نفي في عزبته بجمجرة كنت أقضي معه فيها الأيام. وكان يراسلني من سيشل ويبعث إلي بصورته؛ ولما مرض لم يكن يسمح بزيارته إلا لأقاربه واثنين من أصدقائه كنت أحدهما، وهذا ما مكنني من الاستفادة منه. كانت أكبر ميزة له في عقله قوة التحليل وسلامة التفكير، وحرية الرأي وقوة الحجة، والإلحاح في الإقناع وسعة الصدر للرأي المخالف — وكانت حريته في تفكيره أقوى من حريته في عمله، فهو في إصلاحه متحفظ، يقدر كل الظروف المحيطة ويعمل في حذر؛ وأكبر ميزة له في خلقه أداء الواجب لأنه واجب من غير أي اعتبار، وعدله التام ولو لقي في ذلك العناء، في بلد تسره المجاملة ولو بالظلم، ويفرح بالوعد ولو بالكذب؛ وحبه للنظام الدقيق، فكان يشيد بذكر «كانت» إذ كان يرى أداء الواجب لذاته، وإذا كان الناس يضبطون ساعاتهم على موعد خروجه؛ وصدق في القول حتى لم يأخذ عليه طالب ولا أستاذ كذبة، وحدثني أنه وهو طالب في إنجلترا دخن يوماً سيجارة في حجرة لا يسمح فيها بالتدخين، فلما أتم تدخينها دخل مراقب المدرسة عليه وعلى صحبه فقال: إني أشم رائحة دخان فمن الذي دخن «فسكت عاطف» ثم كرر المراقب القول وكرر «عاطف» السكوت، ثم خرج المراقب فنظر الموجودون إلى «عاطف» نظرة ازدراء، فعاهد الله من يومه ألا يكذب؛ ورجولة تامة فهو يكره سفاسف الأمور وتوافه القول، إذا تدنى محدثه رفعه هو إلى مستواه، فكان بذلك مهيباً جليلا. إن عيب عليه شيء فهو قلة مجاملته حتى حيث لا تضر المجاملة بالخلق، وصراحته التي قد تجرح، في موقف لا يدعو إلى الصراحة فيه دفاع عن حق، ثم نظامه العسكري في غير ترفيه. رحمه الله فما أكثر ما نفع وأصلح.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/24/
الفصل الرابع والعشرون
ها أنذا أطلق كتب الفقه، وأعود إلى كتب اللغة والأدب والنحو، ودرست في أول سنة درسين: درساً أقرأ فيه الكامل للمبرد ودرساً أقرأ فيه البلاغة. ومن قديم لم تعجبني البلاغة العربية، فبحثت في المكتبة الإنجليزية عن كتب في البلاغة فأنا أقرؤها وأقارن بينها وبين ما كتب في البلاغة العربية وأختار خيرهما وأوفق بين مصطلحاتهما، وأكثر ما كنت أكره الدراسة في الفصول الكبيرة العدد لطلبة كلية الحقوق فأشعر إذ ذاك أني أدرس في الهواء لا رابطة بيني وبين الطلبة، ولا أستطيع الإشراف عليهم إشراًفا جدياً، ولا أتبادل معهم عواطفهم ولا أحسن توجيههم لكثرة عددهم، ولهذا تخلصت من هذا الدرس أسرع ما يمكن وجهدت أن أدرس في فصول محصورة لعدد محصور. وقد كنت نسيت رباط الرقبة كيف يكون، فكنت ألجأ إلى من يربطه لي إلى أن تعلمته، وانتهزت فرصة افتتاح الدراسة في العام الجديد يربطه لي إلى أن تعلمته، وانتهزت فرصة افتتاح الدراسة في العام الجديد فذهبت مطربشاً وكنت أتعثر في مشيتي في الشارع وفي الكلية خجلا من الناس، ومنهم من يستحسن ومنهم من يستهجن. وقالت لي سيدة إنجليزية زوج صديق لي: إني كنت أفضل لبسك العمامة. فقلت لها: لك الحق وإنما تفضلين العمامة على النمط الذي تفضلين به الطرف القديمة في خان الخليلي على مخازن البيع في شارع فؤاد. وعلى كل حال كنت بذلك أكثر اندماجا في الوسط الجامعي وأشد انسجاماً. وتعلمت من هذا الوسط أن ميزة الجامعة عن المدرسة هي البحث، فالمدرسة تعلم ما في الكتب والجامعة تقرأ الكتب لتستخرج منها جديداً، والمدرسة تعلم آخر ما وصل إليه العلم والجامعة تحاول أن تكتشف المجهول من العلم، فهي تنقد ما وصل إليه العلم وتعدله وتحل جديداً محل قديم، وتهدم رأياً وتبني مكانه رأياً، وهكذا؛ هذه وظيفتها الأولى والأخيرة، فإن لم تقم بها كانت مدرسة لا جامعة. هذا ما فهمته في السنة الأولى من تدريسي في الجامعة — فهمته مما سمعته عن أساتذة من الأجانب قاموا ببحوث مختلفة جديدة كل في فرعه، ومن مخالطتي في الجامعة لبعض المستشرقين أتعرف منهم ما يعملون، ومن قليل من الأساتذة المصريين يتبعون خطتهم ويسيرون على منهجهم؛ لذلك بدأت في هذه السنة أجرب حظي في البحث، فاخترت درساً من الدروس أبحث فيه عن المعاجم اللغوية: وكيف تكونت أول مرة، وطريقتها في جمع الكلمات، وتطورها في العصور المختلفة وتغير أساليبها على تعاقب العصور، والأخطاء التي وقعت فيها وحاجتنا إلى معجم جديد وما ينبغي أن يكون عليه هذا المعجم، وأخذت في ذلك سنة كاملة كانت بدء تجربتي في البحث، أعقبها بحث آخر قصير في عكاظ والمربد وتصويرهما حسبما جاء في الكتب وأثرهما في اللغة والأدب. وكان ذلك تمهيداً لمشروع واسع في البحث وضعناه نحن الثلاثة الدكتور طه حسين والأستاذ عبد الحميد العبادي وأنا، خلاصته أن ندرس الحياة الإسلامية من نواحيها الثلاث في العصور المتعاقبة من أول ظهور الإسلام، فيختص الدكتور طه بالحياة الأدبية والأستاذ العبادي بالحياة التاريخية وأختص أنا بالحياة العقلية. فأخذت أحضر الجزء الأول الذي سمي بعد «فجر الإسلام»، وصرفت فيه ما يقرب من سنتين فرسمت منهجه ورتبت موضوعاته، وكنت إذا وصلت إلى موضوع أجمع مظانه في الكتب، وأقرأ فيه ما كتب على الموضوع وأمعن النظر، ثم أكتبه مستدلا بالنصوص التي عثرت عليها حتى أفرغ منه، وأنتقل إلى الموضوع الذي بعده وهكذا. وكانت أكثر الأوقات فائدة الإجازة الطويلة التي تبلغ أكثر من خمسة أشهر، إذ كنت أجمع الكتب التي يظن أنها تبحث في الموضوع وأحملها على دفعتين أو ثلاث إلى مائدة وضعتها في حديقتي خلف بيتي في مصر الجديدة، وأبدأ العمل في الساعة الثامنة صباحاً وأجلس على كرسي أمام الكتب أقلبها وأستخرج نصوصها وأستخلص من كل ذلك ما أكتبه إلى الساعة الواحدة، جلسة واحدة أنسى فيها نفسي وأنسى كل شيء حولي، وهكذا أفعل في أيام العمل التي لا يكون علي فيها دروس في الجامعة حتى ينتهي الجزء. وقد تم هذا الجزء الأول من فجر الإسلام في آخر سنة ١٩٢٨، ولقد لقيت من حسن استقبال الناس لهذا الجزء وتقديرهم له واهتمامهم به نقداً وتقريظاً ما شجعني على المضي في هذه السلسلة، وقد عاقت زميلي عوائق عن إخراج نصيبهما، فاستمررت أنا في إخراج ضحى الإسلام، في ثلاثة أجزاء وترقيت في منهج التأليف في ضحى الإسلام، فقد رتبت موضوعاته التي تستغرق ثلاثة أجزاء وأحضرت ملفات كتبت على كل ملف اسم الموضوع، ملف عليه اسم المعتزلة وآخر الخوارج، وثالث أثر الجواري في الأدب، ورابع الثقافة الهندية.. إلخ. ثم أحضرت أمهات الكتب التي تبحث في هذه الموضوعات كالأغاني والحيوان للجاحظ وكتب ابن قتيبة ورسائل الجاحظ وكتب ابن المقفع ونحو ذلك أقرؤها كلها فإذا وصلت إلى نص يتعلق بالمعتزلة كتبت في ورقة صغيرة مغزى النص ورقم الصفحة في الكتاب ووضعتها في ملف الموضوع، وهكذا حتى أفرغ من هذه الكتب كلها، وهذا دور التحضير، فإذا جاء دور الكتابة استخرجت ملف الموضوع وأعدت النظر في الجذاذات ورتبتها حسب الترتيب المنطقي وفكرت فيها وبدأت أكتب، وكلما عنت فكرة جديدة رجعت إليها في مظانها، حتى ينتهي الموضوع، فأنتقل إلى ما بعده وهكذا، وعلى هذا النمط أخرجت الجزء الأول والثاني والثالث من ضحى الإسلام في نحو سنتين. وهكذا تخصصت في (الإسلاميات). وإلى جانب ما درسته في هذه الموضوعات درست بعض الكتب الأدبية كطبقات ابن سلام. وطبقات الشعراء لابن قتيبة. وعلى أثر قراءتي كتابا في اللغة الإنجليزية في النقد الأدبي استحسنت الموضوع وفكرت في تدريسه، أستعين على ذلك بما وقع في يدي من الكتب الإنجليزية وما أعرفه مما كتب في اللغة العربية كالموازنة بين أبي تمام والبحتري، والوساطة بين المتنبي وخصومه، ونقد الشعر ونقد النثر لقدامة، وظللت سنين أدرس هذا الموضوع وأكتب فيه مذكرات وكانت هذه أول دروس باللغة العربية للنقد الأدبي في كلية الآداب.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/25/
الفصل الخامس والعشرون
هيأت لي الجامعة فرصة جميلة لرحلات خارج القطر، وقد كاد ينقضي شبابي ولم أبرح القاهرة إلا حين عينت مدرساً بطنطا والإسكندرية، وحين عينت قاضياً في الواحات الخارجة، أما الرحلة خارج مصر فلم تخطر لي على بال، وما كننت أظن أن الزمن سيسمح بها. وقد هيئت لي مرة فرصة السفر إلى باريس، وذلك أن أحد باشوات القاهرة وأغنيائها أراد أن يرسل ابنه إلى باريس ليتعلم هناك، وأراد ألا ينسى ابنه اللغة العربية، فعرض علي أن أصحب ابنه وأقيم معه وأعلمه اللغة العربية وأدرس أنا اللغة الفرنسية فالقانون، وأعجبتني الفكرة ولكنها زهرة محفوفة بشوك، فمن الثقيل على نفسي جداً أن أكون موظًفا عند باشا ونفقتي عليه، وابنه سيدي يستدعيني للدرس إذا شاء ويهجرني إذا شاء. ومع ذلك استشرت عاطف بك في الأمر ففضل الرفض فرفضت، واختير غيري لهذا العمل فدرس القانون ورجع محامياً في المحكمة الشرعية والمختلطة، ولو قبلت لتغير وجه حياتي. على كل حال لم تتح لي فرصة السفر خارج مصر إلا سنة ١٩٢٨، وأنا مدرس بكلية الآداب، ففي يوم استدعاني أستاذي لطفي السيد مدير الجامعة، وقال: إن البرنس يوسف كمال يود البحث في مكتبات الآستانة عن كتب جغرافية قديمة وبخاصة كتاب بطليموس في الجغرافيا، وأنه طلب مني أن أختار له اثنين فوقع اختياري عليك وعلى الأستاذ عبد الحميد العبادي — فترددت بعض الشيء وعاودتني فكرة التوظف عند الباشا، ولكن لطفي بك هون على الأمر، إذ أخبرني أنه قال للبرنس إنه يرحب بالفكرة ولكن يرجوه ألا يجرح شعور الأستاذين بإعطائهما أجراً على عملهما العلمي وإنما أجرة السفر وما إليها — فقبلت. وشجعني على القبول أني منذ الصغر أسمع عن إستانبول وعظمتها وأبهتها. ولها صورة عظيمة فخمة في نفسي، فكل حين يذهب الخديو عباس إلى إستانبول ويعود من إستانبول، وأعيان مصر يفخرون بسفرهم إلى إستانبول، وشوقي في شعره يشيد بذكرها. ناهيك عن الباب العالي والقصر الشاهاني والبسفور وبحر مرمرة والسلطان عبد الحميد في قصر يلدز ونحو ذلك — كل هذا شوقني إلى رؤيتها. أضف إلى ذلك ما وصل إلينا حديًثا من ثورة مصطفى كمال وقلبه النظام الاجتماعي رأساً على عقب وما كان له من أثر، فكنت أسمع ذلك وأشتاق إلى معرفة كنه هذا الانقلاب ومداه وصلاحيته. هذا إلى ما أعتقده في الرحلات من فوائد، فأنا أرى أن الشيء لا تمكن معرفته معرفة حقة إلا بالمقارنة، فالأبيض إنما يعرف بياضه بمقارنته بالأسود والأخضر والأصفر، والأمة لا يعرف أنها متأخرة إلا بقياسها بأخرى متقدمة، والنظام لا يعرف أنه فاسد إلا إذا عرف أو على الأقل تخيل بجانبه نظام صالح، وهكذا.. فما دمت في مصر ولم أر غيرها لم أستطع الحكم الصحيح عليه إلا عن طريق الكتب، وهي أقل جدوى من المشاهدة. وما أكثر من رأيت من الشبان يركبون البحر ويعودون إلينا ممتلئين إعجاباً بما رأوا من مدنية وحضارة وعلم ومناظر طبيعية، ويملئون أفواههم بالكلام عما شاهدوا، والإعجاب بما رأوا، والاحتقار لما يرون في مصر، فإلى أي حد صدقت نظرتهم وإلى أي حد صح حكمهم؟ هذا ما لا أستطيعه إلا إن رأيت ما رأوا؛ وكم قرأت من كتب في الرحلات، ولكن الرحلة إذا تحولت إلى كتاب ذهبت حياتها وقل خيرها وأصبحت عقلا لا قلباً، ومعلومات لا إحساسات والرحلة الحقة ما جددت النفس وأحيت القلب. وقد مكثت في رحلتي هذه إلى الآستانة أربعين يوماً. أخذنا الباخرة «رشيد» يوم السبت ٢ يونيه (حزيران) سنة ١٩٢٨، وقد اعتزمت من يوم أن سافرت أن أدون لي مذكرات يومية، فكنت أسجل قبل أن أنام ما فعلته كل يوم مؤرخاً بتاريخه، ولا أطيل على القارئ بذكر هذه اليوميات إلا على سبيل المثال. لم أر البحر قبل إلا من شاطئ، أما داخله وعظمته وتقلباته فلم أرها إلا اليوم — رأيت البحر عظيماً جميلا أنيساً في النهار، ورأيته جليلا مهيباً موحشاً في الليل، ورأيتني أشعر نحوه بذلة أليمة أو ألم لذيذ، كشأني عند رؤية أي منظر طبيعي جليل، كغروب شمس أو جبل ضخم أو أمام السماء في ليلة تلمع نجومها. ولعل سبب اللذة ما أشعر به في هذه المناظر من جمال، ولعل سبب الألم ما أشعر به نحو نفسي أمام هذه المظاهر من ضعة. كأن البحر استدرجنا، فهو في اليومين الأولين هادئ وديع، فلما ألفناه كشر لنا عن أنيابه وهاج في اليوم الثالث فأصابني دوار وما يتبع الدوار. وأطلت الرقاد في سريري خاضعاً مستسلما، وفي اليوم الثالث نزلنا أزمير وأخذنا سيارة تجولنا في شوارعها مع بعض ركاب السفينة، وفي اليوم الرابع وصلنا إلى الآستانة. تجولنا في أنحائها، وسكنا في بيت من بيوتها، وصدمت في أول الأمر عند رؤيتها فلم أجد لها من الجلال والروعة ما سبق أن رسمه الخيال، إنما أيقنت بجمالها وروعتها لما شاهدت ضواحيها، وركبت البحر إلى أطرافها. وأعجبني في الأتراك خلقان لطيفان: نظافتهم وهدوءهم. فأما النظافة فقد تدخل بيت الفقير الذي يعيش أكثر أيامه على البقول الجافة فتراه قد فرش فرشاً بسيطاً ولكنه نظيف، وقد تفرش الحجرة بالحصير. ولكن لا يسمح التركي لنفسه ولا لضيفه أن يدوس بنعله. وقد ركبنا القطارات والترام وأكلنا في مطاعم المدينة على اختلاف أنواعها من الدرجة الأولى إلى الرابعة، وجلسنا في مقاهي الصناع والحمالين فما وجدنا في كل ذلك إلا نظافة يحمدون عليها. وأما هدوؤهم فقد أمضينا أربعين يوماً لم نجد فيها نزاعاً في شارع أو خصاماً في ترام. وتدخل المقهى مملوءاً بالناس، فإذا أغمضت عينيك حسبت أن ليس به أحد، فهم في الحق كما يقولون في هذين الأمرين إنجليز الشرق. ولعل ما لفت نظري إلى هذين الخلقين سوؤهم في مصر، فعنايتنا بالنظافة ضعيفة، وإذا رتبت الأمم في النظافة لم نجد أنفسنا في أعلى القائمة ولا أوسطها، ويفوقنا فيها من الشرقيين اللبنانيون والسوريون وكذلك الشأن في الهدوء، فبلدنا حرمت هذا الهدوء في القهوة وفي الشارع وفي الترام وفي كل مجتمع حتى في البيت. رأيت مذكراتي مملوءة بالذهاب كل يوم صباحاً أو صباحاً ومساء إلى مكتبات الآستانة، وقد كان هذا عملنا الرسمي في الرحلة وما أثقل الرسميات! إنها عمل آلي لا دخل للقلب فيها وإن استفدنا كثيراً منها، فقد قلبنا الكتب وتغلغلنا في المكتبات وفتحت لنا منها ما لم تفتح لغيرنا، ودونا أسماء الكتب القيمة التي عثرنا عليها ووصفناها وقيدنا أرقامها، ولما عدنا إلى مصر قابلناها بما في دار الكتب واستبعدنا الموجود وكتبنا تقريراً بما عثرنا عليه من جديد، وأودعنا منه نسخة في دار الكتب لتستفيد منه وقدمنا نسخة أخرى لسمو الأمير صاحب الفضل على الرحلة ولكن ليست هذه هي الرحلة فلا أطيل على القارئ بتفصيلها. إنما كان أهم ما في الرحلة يوم نخرج لا لغاية، ونتجول في الشوارع لا لغرض، ونزور القرى والضواحي ليتفتح قلبنا، ونرى الناس غادين رائحين ونحن مندمجون فيهم لا نعرف أحداً ولا يعرفنا أحد، فيعجبنا منظر نقف عنده ما شئنا ونسير حتى نتعب ونركب حتى نمل ونخزن في أنفسنا ما نعي وما لا نعي. وقد نسمع كلمة عابرة من رجل تدلنا على الشيء الكثير. زرنا مرة مسجد السلطان أحمد وهو مسجد كبير عظيم، وقابلنا بوابه فوقف يرثي لحاله وحال الدين في العهد الجديد ويقول بلسانه التركي: بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما كان. يقولها ويلتفت عن يمينه ويساره خوًفا من أن يسمعه احد. وهذا الشيخ «رشيد الحواصلي» سوري الأصل عاش في الآستانة زمًنا طويلا؛ وصاحب السيد جمال الدين يوم كان فيها وسمع الكثير من أحاديثه، ورأى الآستانة في عهدها القديم وعهدها الجديد، وعرك الدهر وعركه الدهر، وهو إلى جانب ذلك تاجر في الكتب ماهر، يعرف كيف يبيع وكيف يشتري وكيف ينتهز الفرص — وجدناه فرصة لنا نعرف منه أحوال الآستانة قديمها وحديثها والانقلاب الحديث وموقعه في نفوس الناس، إلى آخر ما عرفنا من شخصيات. خير أوقاتنا ما نخرج فيه من الآستانة إلى الضواحي، فيوماً نركب وابور البحر في البسفور إلى شرشر صو، وكانت رحلة ممتعة رأينا فيها جمال البسفور وما حوله، والمساكن منتثرة في الجبال المزروعة على شكل مدرج، والجبال مكسوة بالأشجار، أشجار الكريز، والبندق، والجوز، وعيون الماء تنبع فيه فيخرج منها ماء بارد عذب زلال لذة للشاربين، وفي الطريق بلاد يمر عليها وابور البحر، فيقف عندها، فنجد سوًقا نظيًفا فيه ما يحتاج الإنسان من فاكهة نظيفة وفطائر وبقول ونحو ذلك. الأطفال الصغار والرجال الكبار في غاية النظافة، وأكثر المبيعات تعرض من الداخل، فالجزار مثلا لحمه في داخل دكانه. ومرة ركبنا باخرة إلى جزيرة الأمراء؛ وهي جزر ثلاث، ذهبنا إلى أكبرها، وهي جبل مدرج يحيط به الماء كسي بالأشجار والنبات، بنى الناس فيه مساكن ظريفة على البحر، وقد صعدناه إلى قمته وتغدينا هناك، ومتعنا نفوسنا بالمنظر الجميل والجو الجميل. والأتراك حريصون على أن يقضوا يوم الجمعة في الضواحي إذ هو يوم العطلة الرسمية، تغلق فيه الحوانيت وتعطل الأعمال، فيخرجون زرافات ووحدانا إلى المنازه ومعهم أكلهم، وقد يكون معهم موسيقاهم، مرحين مبتهجين. ومرة خرجنا والجو صحو جميل، فلما وصلنا إلى ضاحية من الضواحي أمطرت السماء مطراً غزيراً على المتنزهين، فجروا كل يبحث عن ملجأ يلجأ إليه، وهم يتضاحكون مستبشرين يسخرون من الجو الذي سخر بهم، ويضحكون من السماء التي تضحك منهم، فكان يوماً جميلا ومنظراً رائعاً. والنساء فتن بالحرية الجديدة والسفور الجديد، فهن يمرحن ويبالغن في المرح، والفتيات يرقصن حتى في الشارع، ويغنين في المقاهي، وكأنهن سجناء خرجن من سجنهن بعد طول العذاب، ورأين أهلن بعد طول الغياب، إلى آخر ما رأينا من مناظر طبيعية وغير طبيعية، وفنية وغير فنية. ومن خير المصادفات أن رأيت في الآستانة «علي بك فوزي» أستاذنا القديم في مدرسة القضاء، وكان قد استقال من منصبه الحكومي، وخرج من مصر لأنه لم يطق أن يرى الجندي الإنجليزي يحتل بلاده، والجرسون اليوناني في القهوة يتمتع بامتيازات لا يتمتع هو بها، فخرج من وطنه هارباً، وطوف بالبلاد وحط رحاله في الآستانة، يقنع بخمسة وعشرين جنيهاً معاشاً له، يصرف أقلها على نفسه وأكثرها على الفقراء من حوله. ظللت أبحث عنه في الآستانة طويلا حتى وجدته، فوجدت لقيتي، لأني أعلم أنه أقدر الناس على أن يشرح لي الانقلاب الحديث في تركيا ونتائجه وما فيه من خير وشر. لقد أعلم أن قد حدثت في تركيا انقلابات اجتماعية خطيرة تثير اهتمامنا، لأن تركيا أول بلد إسلامي نزعت هذا المنزع وجربت هذه التجارب؛ فقد خلعت الخليفة وألغت الخلافة. وحرمت الخليفة المخلوع وأفراد أسرته وأصهارهم من الإقامة في الجمهورية التركية، وحولت الخلافة إلى جمهورية، وحولت كثيراً من أملاكهم ومباني القصور وملحقاتها إلى الأمة، وذهب العقلاء في ذلك مذاهب شتى، منهم من يحبذ هذا العمل ومنهم من ينقده. وألغت وزارة الأوقاف، وجعلت تدبيرها لرئيس الأمور الدينية وهيئة علمية استشارية بجانبه، وألغت المحاكم الشرعية، ووحدت القضاء. وألغت المدارس الدينية ووحدت المدارس، وقد كانت المدارس الدينية كثيرة منتشرة متنوعة في البلاد، وكان بعضها يتبع وزارة الأوقاف وبعضها يتبع وزارة الشئون الشرعية، فجعلتها كلها تابعة لوزارة المعارف، تعلم تعليما مدنيا واحدا، ومن شاء أن يعلم ابنه تعليما دينيا فليتكفل بذلك على نفقته، وقصرت التعليم الديني على كلية اللاهوت التي تتبع الجامعة، وهذه هي التي تخرج رجال الدين. وألغت الطرق الصوفية وأغلقت الزوايا والتكايا، وحرمت الألقاب الصوفية من درويش ومريد وأستاذ وسيد وشلبي ونقيب.. إلخ، وحرمت العرافة والسحر والتنجيم وكتابة التعاويذ والأحجبة وأعمال كشف الغيب والإخبار بالمستقبل، وعاقبت كل من يثبت عليه شيء من هذا بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر وبغرامة لا تقل عن خمسين ليرة، وحولت الزوايا والتكايا إلى مدارس مدنية. ومنعت الإسراف في الجهاز والزواج فلا ينقل جهاز علانية. ولا تقام أفراح أكثر من يوم واحد ولا تقام مآدب عامة في الأفراح. وسنت قانوًنا مدنياً عممته بدل مجلة الأحكام الشرعية وبدل الأحوال الشخصية اقتبسته من القوانين الأوروبية.. منعت فيه مثلا تعدد الزوجات وخولت لكل من الزوجين الحق في رفع قضية الطلاق لأسباب معينة. وحررت المرأة من حيث سفورها ومساواتها بالرجل، سياسيا واجتماعيا ومدنياً، وفتح لها مجال الكسب والتوظف في الوظائف. ولم يكن السفور بقانون، وإنما كان دعوة دعا إليها مصطفى كمال وألح فيها، فاستجابت المرأة إليه، أما مساواتها بالرجل اجتماعياً فقد شرعت في القانون المدني، فسوي بينها وبين الرجل في الميراث، واعتبر الزواج شركة تتألف من جزءين متساويين. وأخيراً شرع للمرأة مساواتها بالرجل في الحقوق السياسية، من إعطائها حق أن تنتخب وتنتخب. وعني بتعليمها، وتوسع في ذلك توسع تعليم الذكور. وفصل الدين عن الدولة، فلم يستخدم الدين في التشريع ولا في الحكم ولا في الإدارة ونحي رجال الدين عن أي تدخل في الشئون الدنيوية. وغيرت كتابة اللغة التركية من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية. هذا أهم مظاهر الانقلاب الذي حدث في تركيا؛ والذي أردت أن أفهم أثره وأطيل التفكير به، أيها يصلح لمصر وأيها لا يصلح، وهل تستطيع أن تسير في هذا الإصلاح إلى آخر الخطوات أم لا؟ ولأعرض الآن بعض مذكراتي اليومية التي كتبتها: ذهبنا صباحاً إلى طوب قبو سراي وبحثنا في مكتبتها وعثرنا فيها على كتب قيمة، وفي المساء قابلنا علي بك فوزي ومكثنا معه نحو ثلاث ساعات تحدثنا فيها في شئون مختلفة. سألته عن الحالة الاجتماعية في تركيا، فقال: يجب أن ترقبوا التطور الحادث في تركيا مراقبة دقيقة، فمصر مرتبطة بتركيا ارتباطاً كبيرا من الناحية الاجتماعية، وكثير من عادات المصريين وتقاليدهم مأخوذة عن تركيا، فإذا تغيرت تركيا يوشك أن تتغير مصر، أضف إلى ذلك أن الآستانة هي البوغاز الذي تمر منه المدنية الغربية إلى مصر. ورأيي أن التيار الغربي لا يمكن مقاومته، فخير أن نستعد للسير معه قبل أن يجرفنا رغم أنوفنا. إن أكبر مظهر للانقلاب التركي هو السفور، وقد أفاد الأمة التركية من حيث إصلاح الزواج، فكل من الزوجين يرى صاحبه ويأنس به قبل عقد الزواج، ثم إن السفور مكن المرأة من معرفة كثير من شئون الدنيا وكانت تجهلها. والسفور في صالح المرأة فالحجاب كان يحيط المرأة بهالة تمكن الرجل من الإمعان والتخيلات والجري وراء التصورات، ولذلك كثر الغزل في الأدب العربي وأمعن الغزلون في التخيلات. وسألته عن القبعة فحبذها، وقال إنها أفضل من الطربوش للرأس والعين، وإنه يكره الطربوش ولا يحس له طعماً، وحبذ تقليم الحكومة لأظفار رجال الدين لأنهم كانوا نصراء الرجعية وأداة في يد السلاطين الظالمين، ينكلون بالأمة بواسطتهم، وكان سلطانهم كبيراً على الناس، وقد استخدموا هذا السلطان في غير مصلحة الأمة، وقال إنه كان يندس بين رجال الدين من لا يتصلون بالدين، وكثير من الناس كانوا يلبسون العمامة ويغرون بها الناس، فالمتسول والمنجم وكاتب الأحجبة والدجال كل هؤلاء كانوا يلبسون العمامة ويتزيون زي رجال الدين، فما فعلته الحكومة التركية من تحريم لبس العمامة إلا لرجال الدين الرسميين عمل نافع قطع دابر كثير من وسائل التخريف والتدجيل. ولابد لكل إصلاح من ضحايا، ولابد عند منح الحرية أن يعقبها إفراط، فالتشديد على رجال الدين استتبع بعض أخطاء، وسفور المرأة استتبع بعض الزلات، ولكن الزمن كفيل بإصلاح ذلك. قال: ومن الإفراط في الثورة الدينية ما قرأته اليوم في بعض الجرائد التركية من دعوة إلى تنظيم المساجد والصلاة تنظيماً يتفق مع المدنية الحديثة، فالرجل يلبس الجزمة ويصعب عليه خلعها والرجل يلبس القبعة ويصعب عليه أن يسجد بها. قال: وقد دهش العالم الغربي من ثورة تركيا وتمام هذا الانقلاب الخطير من غير سفك دم، وقال: إن كثيراً من الأوربيين نقموا على هذا الانقلاب لسببين: فبعضهم كرهه لأنه كان يعد الأتراك في ملبسهم وعاداتهم وتقاليدهم متحًفا يستمتع به ويذكره بالقرون الوسطى، وكثير منهم كرهه لأنه سلبه الامتيازات التي كان يتمتع بها في العهد السابق. سألته: هل يعتقد أن تركيا ستستمر في سيرها في طريقها نهضتها؟ فقال: إن كل الظواهر تدل على ذلك، فالجيل الجديد يؤيد الحركة ويحافظ عليها، والناس جميعاً أسعد حالا في ظل هذا العهد منهم قبله. وانتقلنا من هذه الأحاديث الاجتماعية إلى أحاديث شخصية فسألته: هل لا يزال يحن إلى مصر؟ فقال: إن حنينه شديد، ولكنه يفضل الإقامة في تركيا، فقد جرب وفاء الأصدقاء فرأى في مصر ما آلمه، وخير له أن يكون بعيداً فيقاطعوه من أن يكون قريباً منهم ويقاطعوه. قال: وقد فضلت تركيا لأنه إسلامي مستقل، وفيه الصدر الرحب الشرقي، والأوربي — على العموم — متقدم في المدنية ويفوقنا في كثير من الأمور ولكن فيه جانباً وحشياً — وقد عشت في إنجلترا وفرنسا وألمانيا فلم أجد هذا الصدر الرحب الحنون الذي أشعر به في إقامتي في تركيا، وإذا كنت في الآستانة فموطني الحي الشرقي منها وأكلي في مطعم شرقي، ولا أذهب إلى الحي الأوربي إلا نادراً، ويسرني أن أكون في حي مملوء بالمآذن. سألته: هل هو راض عن خطته التي اختطها في امتناعه عن الزواج؟ فقال: إنه آسف على هذه الخطة، ويود لو عاد إلى الشباب فتزوج، فالزواج هو الذي يبعث الأمل في الحياة، وأنا الآن — من غير زواج — في شيخوخة بائسة تنتظر الوفاة. وانتقل الحديث إلى الأدب التركي، فقال: حبذا لو تعلمتم التركية لا لأن أدبها واسع وأرقى من الآداب الأخرى الشرقية، ولكن لتروا كيف استخدم الأتراك لغتهم وأدبهم في إصلاح شئونهم الاجتماعية والعقلية والنفسية — لا أمل في إصلاح مصر ما دام هناك لغة للعلم ولغة للكلام، فإما أن ترقى لغة الكلام وإما أن تنحط لغة العلم حتى تتحدا، وحينئذ فقط يكون التفكير الصحيح واللغة التي تستمد روحها من الحياة الواقعية. قضينا الصباح في المكتبة السليمانية، وبعد الظهر زرنا فؤاد بك كوبرلي تلبية لدعوته في منزله قرب مسجد السلطان أحمد. بيت قديم عظيم يظهر أنه بيت الأسرة، في غاية النظافة والنظام، فرشت سلالمه بالسجاد الفاخر، ووصلنا إلى حجرة كبيرة صففت في جوانبها دواليب الكتب على أجمل وضع، ووضعت في وسطها مائدة كبيرة للمطالعة. استقبلنا فيها فؤاد بك وهو شاب في نحو الثلاثين من عمره مملوء نشاطاً وأدباً، يلمع في عينه الذكاء، وقد كان يحضر موضوعاً لمؤتمر المستشرقين. تحدثنا في جامعتنا وجامعتهم والنشرات والكتب التي تنشرها الجماعتان، ثم تكلمنا عن المستشرقين وما يؤدونه من خدمة للعلم لولا لعب السياسة بعقول بعضهم، وانتقلنا إلى الفرق الإسلامية وصعوبة الوصول فيها إلى حقيقة، لأن الذين يكتبون فيها إما مؤيد غال، أو معارض غال وسألني: هل الإسلام شجع الصوفية أو ناهضها؟ وكان من رأيي أنه شجعها. وكنت أعلم أن فؤاد بك أحد دعاة الإصلاح الديني والاجتماعي القائم الآن في تركيا، فأثرت هذا الموضوع مرتين لأعلم ما عنده وعند أصحابه من قواعد يبنون عليها إصلاحهم، فكان في كل مرة يغلق هذا الباب في مهارة، وينقل الحديث إلى موضوع آخر. ذهبنا صباحاً إلى مكتبة «شهيد علي» فوجدنا المكتبة غنية بالكتب القيمة المخطوطة، ولكن — مع الأسف — وجدنا الرطوبة قد أثرت فيها بشكل عرضها للتلف، وعلمنا أن سبب ذلك أنها أغلقت أربع عشرة سنة لأن جاسوساً أخبر السلطان عبد الحميد أنه يجتمع قوم يتكلمون في السياسة. وكان أمين المكتبة أفغانيا فتحدثنا عن السيد جمال الدين الأفغاني واستفسرنا منه عن موقع قبره في الآستانة، فأرشدنا إليه، فذهبنا عصراً إلى جهة يقال لها «متشكه»، وصلنا إليها بالترام وتصل لها الباخرة أيضا لأنها قريبة من محطة «برجة السراي» قريباً من مدخل البسفور. رأينا مقبرة قريبة من البحر تبلغ نحو خمسين متراً في مثلها، وقد سورت بسور له باب، سألنا البواب عن مقبرة الشيخ جمال الدين فلم يعرف، ولكنه أحضر لنا شيخ المقبرة فسألناه فدلنا على القبر. قبر عادي ليس فيه ضريح ولا حوله بناء، ويظهر أنهم عند دفنه تعمدوا ألا يشيدوا بذكره، وأن يدفنوه كما يدفن أي رجل عادي، ولكن أخيراً وضع على القبر تركيبة من الرخام حولها سور صغير من حديد وقرأنا على التركيبة اسم الشيخ جمال الدين وتاريخ ولادته ووفاته، وفي ناحية أخرى سطران تركيان ترجمتهما: «أنشأ هذا المزار الصديق الحميم للمسلمين في أنحاء العالم، الرجل الخير الأمريكاني المستر تشارلس كرين سنة ١٩٢٦». وقفنا عند قبر الأستاذ نستحضر حياته وثورته وجهاده وأنه أول من بذر نواة الإصلاح في مصر، فتأثرت نفوسنا بذكراه وقرأنا له الفاتحة وترحمنا عليه وفارقناه ونفوسنا مملوءة بالذكريات. وقد كنا سألنا الشيخ الأفغاني — خازن مكتبة شهيد على — عن قبر عبد الله نديم فأخبرنا أنه في جهة «بكطاش» ولكن لا يدري بالضبط موضع دفنه. ذهبنا صباحاً إلى القنصلية المصرية وودعنا من فيها، ثم ذهبنا إلى جامع بايزيد وتغدينا في مطعم بجواره بدعوة من علي بك فوزي ثم ودعناه وداعاً مؤثراً، فقد كان الرجل قد وجد فينا أنساً من وحشته ورائحة من وطنه في غربته. فلما استأذناه في السفر قال: إنكم تستأذنونني في فقد حياتي، فدمعت عيني سماع هذه الجملة. والرجل — من غير شك — شخصية غريبة لم أر مثلها، يحب بلده مصر من صميم قلبه، ويحب المسلمين ويرثي لحالهم، ويتدين تديًنا مزيجاً من قلبه وعقله، فهو يصوم مثلا على طريقة خاصة، فيفطر على كوب من اللبن عند شروق الشمس، ولا يحرم عليه الماء، ويبقى على ذلك إلى موعد الإفطار، فيفطر، ويعني بصيامه عدم كثرة الأكل، والامتناع عن أكل الأشياء الدسمة، والامتناع عن الأقوال والأعمال المؤذية. ومما دعاه إلى ذلك أنه كان يسكن في إستامبول، فوق جماعة من الإفرنج، يخشى إن هو تسحر في رمضان أن يزعجهم بحركاته، فهو يصوم هذا الصيام الذي ذكرنا من غير سحور. أهداني يوم وداعه مجلة إنجليزية كان يصدرها عنايت خان في سويسرة في التصوف، يدعو فيها إلى التصوف العام من غير تقيد بتفاصيل دين خاص، ولذلك كان من أعضائها المسلم واليهودي والنصراني. وقد أخبرني علي بك فوزي أنه عرض عليه بعد وفاة عنايت خان أن يرأس هذه الجمعية فأبي، لأنه لا يحب أن يتقيد بالتقاليد والشعائر على أي شكل كانت. منشأ عذاب هذا الرجل وشقائه، رقة إحساسه ودقة شعوره إلى حد بالغ. ذهبنا عصراً إلى «يلدز» قصر السلطان عبد الحميد، وقد كان كعبة القاصدين وملعب السياسيين ومخبأ الدساسين، تصدر عنه القرارات الهامة التي تحرك العالم الإسلامي وترسم خططه وتقرر مصيره. يلتقي فيه دهاة الغرب بدهاة الشرق، بالدجالين والمخرفين، بالمصلحين والمفسدين، وتسرح فيه الغانيات الجميلات والمماليك السود والبيض. سراي كبيرة على البسفور، أقيم عليها من جانب البحر سور ويلي السور شارع وعلى جانبي الشارع أقيمت أمكنة للحرس، ثم السراي. كان دليلنا عبد الله أفندي رجلا سودانيا طويل القادمة، خدم في السراي أربعين سنة، وهو يترحم على الأيام الماضية، أيام العز والمجد، ويأسف لضياعها وضياع الإسلام، سراي فخمة، وحدائق لا يرى الطرف منتهاها؛ وتمشي من أولها صاعداً نحو ثلث ساعة حتى تصل إلى باب البناء، هذا بناء أعد للضيفان والزائرين، رأينا منه حجرة كانت معدة لأكل الضيوف في عهد السلطان، وهي حجرة بديعة في حليتها وجمال صنعتها، قد عريت من أثاثها فلم يبق فيها إلا مرآة كبيرة، وأشار عبد الله أفندي إلى حجرة أخرى أكبر منها تسع أضعاف ما تسعه الأولى ولكنها مغلقة، وأخبرنا أن كل أثاث السراي قد نقل، وأن بناء الحريم الذي كان يسكنه السلطان قد احترق أيام الحرب. ورأينا فسقية كبيرة في الحديقة قال لنا عبد الله أفندي؛ إنه منذ أيام قليلة زارنا الخديو عباس، ووقف عند هذه الفسقية، وحكى لنا أنه حين ولي على مصر حضر إلى الآستانة وجلس مع السلطان عبد الحميد بجوار هذه الفسقية هو وأمير بلغاريا، وإذ ذاك أنعم عليهما السلطان، ثم ترحم على تلك الأيام، وظهر على وجهه الحزن والأسف، وهكذا الدنيا وهم خادع وظل زائل. قررنا السفر والعودة إلى مصر، فأخذنا السيارة إلى الجمرك ومنه ركبنا السفينة واسمها «الروضة» فكانت مدة إقامتنا بالآستانة نحو أربعين يوماً. فلأنظر نظرة عامة في الرحلة، أنفقنا نفقات كثيرة في الأيام الأولى، لأننا كنا نجهل كيف نعيش، وكان يصحبنا دليل سوري أثقلنا بأحاديثه وتكاليفه فاستغنينا عنه. كان جو الآستانة في الأربعين يوماً جميلا، فلم نشعر فيه بحر القاهرة، بل كنا أحياًنا نشعر بالبرودة، ولكن حدثنا بعضهم أن الحر في هذه السنة كان خفيًفا أقل من المعتاد، وفي بعض السنين يكون شديداً لا يطاق في بعض الأيام. وقد أفادتني هذه الرحلة اتساعاً في أفقي، فأصبحت أنظر إلى مصر وحوادثها وشئونها من عل وكأني في طيارة، وغلبتني وأنا في الآستانة العاطفة الدينية، لا من ناحية كثرة الصلاة ونحوها، ولكن من ناحية الشعور القلبي. أحسست عند مقارنتي لرفقائي في السفر أنني أكثرهم تحفظاً وأقلهم مرحاً وأشدهم حنيًنا إلى أهلي ووطني، واعتزمت أن أنصف أهلي وولدي عند عودتي فأكون معهم ألطف وأعطف وأرق وأحسن معاملة وأكثر مرحاً. فكرت أن أبحث عند عودتي مشروعاً مفيداً وهو إنشاء مطبعة أنشر فيها خير الكتب القيمة التي عثرت عليها في الآستانة فيكون عملا مربحاً مادياً وأدبياً. قلت في نفسي: إن الأربعين يوماً التي قضيتها في الآستانة موضوع لرواية جيدة بل روايات، ففيها المناظر وفيها الأشخاص، وفيها الأحداث ولا ينقصها شيء إلا المرأة والتحرير الروائي. لاحظت كثرة الشيب في رأسي، فبدأ شعوري بكبر سني، وزاد هذا الشعور ما كان يبدو على بعض الشبان من تقديمي أمامهم في السير وإخلاء أماكنهم ليجلسوني، وكان كل هذا إكراماً لاذعاً. لتمنيت أن تنقلب السفينة طائرة. وختمت هذه الرحلة بمأساة سماها أستاذنا علي بك فوزي لما علم بها «آية الكرسي»؛ ذلك أنه قبل وصول الباخرة إلى الإسكندرية بيوم صعدت فوق ظهرها وأردت الجلوس على كرسي من قماش من النوع المعروف الذي يقفل ويفتح، وكان كرسياً قديماً فتحته وأخذت أجلس عليه مستنداً بيدي على خشبتيه الجانبيتين، فانفلتت خشبته الخلفية ووقعت إصبعي الخنصر من اليد اليمني بين الخشبتين فانقطع طرفها العلوي وتدلت لحمته وسال دمه، وذهبت إلى طبيب الباخرة فأعاد اللحمة المدلاة إلى مكانها وربطها ربطاً محكماً. واستثارت الحادثة عطف كل من كان في الباخرة. ولما حضرت إلى مصر ذهبت إلى الجراح فأمر بالكشف بالأشعة على عظمة الإصبع فوجدت والحمد لله سليمة، ولم يلتئم الجرح إلا بعد علاج طويل وقد ترك أثراً في إصبعي بيًنا. كتب على السفينة (الروضة) في ١٦ يوليو سنة ١٩٢٨.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/26/
الفصل السادس والعشرون
وانتهزنا فرصة إجازة نصف السنة، فدبرنا رحلة إلى الشام في خمسة عشر يوماً والزمن شتاء والبرد قارس، فخرجنا من مصر في ديسمبر سنة ١٩٣٠ في رهط من الطلبة والأساتذة، وعهدت إلي الكلية الإشراف على الرحلة، فها نحن نرحل من القاهرة إلى القنطرة ونعبر القنال، ونخترق صحراء سيناء بالقطار ونمر على غزة ثم بعض المستعمرات الصهيونية؛ ونستمع إلى بعض الأحاديث عن منشآتهم في مستعمراتهم، فنشعر الخوف من المستقبل، حتى نصل إلى محطة «اللد» فنستقل قطارا آخر إلى بيت المقدس، وبين اللد والمقدس نستمتع بالمناظر الطبيعية من جبال ووديان نشأت — ولابد — من ثورات أرضية عنيفة فعلت أفاعيلها القاسية فرفعت بعضها إلى أعلى وسميناه جبلا، وخفضت جزءا آخر وسميناه وهدة أو واديا، وهي مناظر تملأ القلب روعة وهيبة، حتى نصل إلى المقدس فيستقبلنا بعض علمائه وأدبائه، وعلى رأسهم المرحوم إسعاف بك النشاشيبي، ويبالغ في إكرامنا، ونلتقي بالأستاذ السيد الحسيني مفتي فلسطين فيوحي إلي منظره بقوة إرادة وتصميم وعزم ونفس لا تهدأ حتى تتسلط. وأنتهز الفرصة فأجتمع برؤساء بعض الأحزاب في فلسطين، فأستمع إلى أحاديثهم وأعرف كيف يتنازعون على المصالح الشخصية لا على المبادئ العامة، فأرثي لحالهم وأتوقع من ذلك الشر لبلادهم — ونزور بيت لحم، ونرى كيف تتنازع الطوائف المسيحية المختلفة على الأمكنة وكيف يتقاسمونها شبراً فشبرا، فأعجب بسماحة الإسلام وعده الأرض كلها مصلى، والأرض كلها لله، ونذهب إلى قرية الخليل ونزور مسجده ونعجب ببنائه الضخم ونرى فيه مظهراً من مظاهر البناء الروماني وطابعاً من طوابعه. ونزور المسجد الأقصى فنعجب بفنائه، وننتقل إلى الصخرة ونقف تحت القبة العظيمة، وننظر إلى الأبنية الجليلة التي بناها صلاح الدين. ونرحل بعد ذلك إلى البحر الميت، ويقص علينا الدليل ما يحوي هذا البحر من ذخائر كيماوية سيستغلها العلم الحديث، وينتفع بها مستخرجوها، ونعود هنا أيضاً فنستشعر الخوف من الصهيونية المقبلة. ونسير إلى أريحا، ونهر الشريعة، ونرى الجسر الذي يفصل بين فلسطين وشرق الأردن، ثم نمر على نابلس ونصل بعدها إلى الناصرة بلد المسيح عليه السلام. ثم نصل إلى طبريا ونشعر بالدفء الذي يطرد ما حزناه من برد، ونعجب بما حولها من جبال عالية تتفجر منها مياه حارة أنشئت حولها حمامات. ثم نسير بعدها إلى دمشق، ونحن متطلعون إلى رؤيتها، نحمل ذكريات من أحداثها من عهد أن كانت مركز الخلافة الإسلامية في عهد معاوية والخلفاء الأمويين من بعده، ونتجول في أنحائها ونزور مصانعها ومساجدها ونخرج إلى ضواحيها ننعم بجمالها؛ ولكن كانت دمشق وسورية كلها إذ ذاك في حوزة الفرنسيين، وهم يخشون من طلبة الجامعة وأساتذتها لأنهم يعتقدون أنها بؤرة أفكار وطنية ثورية، فخشوا أن نلتقي بأمثالنا من الناقمين على الاستعمار، فأحاطونا بسياج لطيف الملمس في شكل إكرام، فكنا كلما سرنا احتاط بنا موظفو الحكومة يستقبلوننا ويطلعوننا على ما أحبوا لا على ما نحب، وهذا ظن ظننته، دل عليه ما رأيته. ونزور المسجد الأموي بدمشق فنسحر بعظمته وجلاله، وسعته وجماله. وضريح شيخ الصوفية محيي الدين بن عربي، وقبر صلاح الدين الأيوبي وأستاذه نور الدين محمود زنكي، ونقضي سهرة لطيفة في نادي الموسيقى بدمشق. ثم نركب القطار إلى حلب، ونزورها ويستقبلنا رجال المعارف أيضاً فنتجول معهم في المدينة، وقد أعجبتنا نظافتها وجد أهلها، ونرى استحواذ الأرمن على أهم الصناعة فيها، ونزور الجامع الأموي فيها أيضاً كما نزور قلعتها العظيمة وتثور في نفوسنا ذكريات سيف الدولة في حلب ومجلسه الأدبي الفخم يصول فيه المتنبي ويجول. ثم نقصد إلى زيارة أبي العلاء المعري في معرة النعمان، فنرى بناء متواضعاً يحتوي على فناء صغير وحجرتين، وفي إحدى الحجرتين قبر كتب عليه: أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري. فنقف على قبره طويلا نذكر لزومياته وسقط زنده، وزهده واحتقاره للدنيا ونعيمها، وجرأته التي ليس لها مثيل في نقده اللاذع للتقاليد والأوضاع. ونمر بحماه ونخترقها ونسر بنواعيرها، ونصل إلى بيروت فنزور (كلية المقاصد) الإسلامية والجامعة الأمريكية ومدرسة الآباء اليسوعيين، ونعود على الباخرة إلى الإسكندرية. كل هذا في خمسة عشر يوماً حتى لكأننا نرى هذه الأماكن من طيارة، أو نستعرض فيلما سينمائياً سريعاً. لقد استفدت من هذه الرحلة رؤية هذه البلاد وأهلها، وعرفت طرًفا من حياتها الاجتماعية ومشاكلها السياسية ومناظرها الطبيعية، ولكن عكر صفوها أني لم أستطع أثناءها الانفراد بنفسي، وأنا أكره اليوم الذي لا تتاح لي فيه فرصة الوحدة والعزلة، أحلم فيها وأتأمل. والرحلة في نظري لا تكون لها قيمة حقة إلا إذا تفتح القلب لما يرى، وجال الخيال في ذلك جولته، ومزج الإنسان ما يرى بنفسه. ولم أتمكن في هذه الرحلة من ذلك كله، فاعتزمت في هذا المأزق أن أجتر كما يجتر الجمل ويخزن سريعاً ما يأكل، ثم يمضغه ويهضمه بعد ذلك على مهل. وكان مما أتعبني في هذه الرحلة كثرة ما أدعى إلى الأكل وكثرة ما يلقي من الخطب على الموائد، فلا يزال الشرقيون يتصورون الكرم أكلا وخطابة، وكلما كثر الأكل وكثرت الخطابة كان عنوان الكرم. وإني لأرجو أن يتحول هذا الكرم في المستقبل إلى اقتصاد في الموائد وتوسع في الإفادة بالمعاني؛ وبخاصة مع رجال العلم. وزاد العبء على أنني كنت الخطيب الوحيد غالباً، فكلما دعينا إلى مأدبة خطب صاحبها وطولبت بالرد عليه؛ لهذا ملئت هذه الرحلة بالرسميات، والرسميات عدو الرحلات ومضيعة لبهجتها؛ ومع هذا فالأديب والفيلسوف من طبيعتهما أن يختزنا في أنفسهما كل ما يقع تحت حسهما في وعي أو من غير وعي. ولا يدري أحدهما متى ينتفع بهذا وكيف ينتفع، ولكنه سينتفع حتماً على كل حال. وقد بدأت المحاضرة ببيان وجهة نظري في المحاضرة التي أتيت من أجلها، مستنداً إلى أن المسئول عن ذلك هم لا أنا، إذ كان الواجب عليهم أن يخبروني بمقاطعتهم قبل حضوري. ثم إن موضوع المحاضرة التي سألقيها يدور حول الإشادة بالإسلام والمسلمين، وأن السبب في أنهم لم يبنوا في المدنية الحديثة مع البانين لا يرجع إليهم ولكن يرجع إلى أن الاستعمار الأوربي يأبى رقيهم، ويعمل على إضعافهم لاستغلالهم. ولو أنصف الأوربيون لمهدوا للمسلمين سبيل القوة حتى يقفوا على أجلهم وبينوا في صرح الحضارة معهم. ومثل هذا الكلام إذا ألقي في جمعية مسيحية كان له الأثر الأكبر؛ ثم هبوا أنه قد دعي قسيس مسيحي للتبشير بدينه في مسجد إسلامي ألا ترون أنه يعد ذلك فرصة عديمة النظير. وأخيرا سألقي محاضرتي فمن لم يقتنع بما قلت وشاء مقاطعة المحاضرة فليفعل، ومن شاء أن يسمعها ثم يقاطع فليفعل؛ ثم بدأت في محاضرتي عن العدل والإحسان. ومع هذا البيان خرجت جرائد بيت المقدس تندد بي وتطالب بعدم إلقاء المحاضرة ومقاطعتي إن ألقيتها — وحين ذهبت لإلقائها كان بعض الشبان في مفترق الطرق يحرضون من توسموا فيه الذهاب إلى الجمعية على عدم الذهاب، ولما ذهبت وجدت — مع الأسف — القاعة الكبيرة الفسيحة مملوءة بالمستمعين. وانتهت المحاضرتان بعد أن لقيت فيهما من العناء الشيء الكثير، ولم أستمتع بطبيعة ولا منظر، فكان درسا قاسيا لا رحلة هادئة.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/27/
الفصل السابع والعشرون
وفي السنة التي تليها رتبت كلية الآداب رحلة إلى العراق في إجازة نصف السنة اشترك فيها بعض أساتذة الحقوق وكلية الآداب وبعض الطلبة وعهد إلي أيضا الإشراف عليها، وكانت الرحلة أشق وأعنف، اجتزنا فيها الطريق الذي اجتزناه في الرحلة السابقة، إلى دمشق تقريباً، ثم ركبنا السيارات من دمشق إلى بغداد في نحو سبع وعشرين ساعة، قطعنا فيها بادية الشام، وهي بادية منبسطة فسيحة الأرجاء جدباء ليس فيها إلا قليل من الأعشاب، سرنا فيها ليل نهار لا نستريح في الطريق إلا قليلا لنأخذ أكوابا من الشاي أو أقداحا من القهوة، وسير السيارات في الليل المظلم والبرد القارس والريح العاصف مهيب مخيف، إلى أن لاح لنا نهر الفرات فبلعنا ريقنا بعد أن جف من منظر الصحراء، وعبرنا جسرا على نحو ما كان في عهد الرشيد والمأمون سفن ضم بعضها إلى بعض، فكانت جسراً، ووصلنا الأنبار وتسمى الآن الفلوجة، وكم نبغ من الأنبار هذه نوابغ في العلم والأدب يلقب كل منهم بالأنباري، وظللنا نسير فيما بين النهرين دجلة والفرات أكثر من ساعة في أرض طيبة خصبة، ولكنها مهملة مهجورة تنتظر اليد العاملة والرءوس المفكرة والأموال المدبرة حتى وصلنا بغداد — قارنت بين بغداد الرشيد والمأمون وبغداد العهد الحاضر، وخصب العراق ومزارعه في الماضي والحاضر، فحزنت، ولم أستطع أن أكتم حزني فكنت قليل الذوق في أول حفلة أقيمت لنا عقب وصولنا؛ إذ طلب مني الكلام فتكلمت فيما كان بين بغداد في القديم والحديث، وفيما مررنا عليه من أرض جيدة التربة، ولكنها جرداء كالصحراء، ودعوت إلى أن ينهض أهل العراق فيستغلوا كنوز الذهب في ديارهم، والمياه المتدفقة في أراضيهم، ولم أكن في هذا الحديث لبقا، إذ ليس هذا الكلام مما يصح أن يكون تحية القدوم، ولكن كان هذا أثرا للصدمة التي صدمناها عند رؤية ما بين الأنبار وبغداد، وقد أمكنني في خطبة أخرى في حفل آخر أن أتدارك هذا الخطأ، فأشيد بما فعل العراقيون من جهد جبار في إصلاح الأحوال، وكلا القولين حق، ولكن ما كل حق يقال. تجولنا في بغداد وزرنا الإمام أبا حنيفة في مسجده بالأعظمية والإمام الكاظم والإمام الجواد في الكاظمية، والمتحف العراقي، إلخ، وأنسنا بلقاء الشاعرين الكبيرين جميل الزهاوي ومعروف الرصافي واستمعنا إلى شعرهما فيما أقيم لنا من حفلات. وقد أكرمنا العراقيون إكراماً فاق الحد فقلما خلت ليلة من دعوة وكنا في رمضان، حتى لقد دعينا ليلة واحدة إلى ثلاث دعوات اضطررنا إلى إجابتها. وقد دعانا المرحوم الملك فيصل إلى الإفطار على مائدته ووجه إلي السؤال الآتي: هل من مصلحة بلد كالعراق أن يكثر من التعليم العالي؛ ولو أدى ذلك إلى كثرة العاطلين من المتعلمين، أو أن يقتصر فيه على قدر ما تحتاجه من موظفين؟ وهذا السؤال يستتبع مسألة أخرى نتيجة للجواب، وهي: هل ننشئ هنا مدارس عالية يكثر فيها الطلاب أو نكتفي بإرسال بعثات إلى أوروبا بقدر ما نحتاجه من غير داع إلى إنشاء مدارس عالية هنا؟ وقد وفقني الله فأجبت بأن مصلحة الأمة في كثرة المتعلمين تعلما عاليا وإنشاء المدارس العالية لهم في البلاد نفسها، ثم إرسال بعثة من النابغين، وأن التعليم العالي كله خير وبركة مهما كانت النتائج. وقد علمت بعد أن هذين الرأيين كانا يتصارعا في العراق وأتى هذا السؤال من الملك فيصل نتيجة لهذا الصراع. ولمست في العراق الانقسام بين الشيعة والسنية، وقد زرت النجف وكربلاء وغيرهما، وهي حصون الشيعة، وصادف ذلك أيام العزاء وذكرى مقتل الإمام علي بن أبي طالب، ورأينا العامة في كربلاء يضربون صدورهم ضرباً شديدا حتى ليدموا أجسامهم حزًنا على الإمام، ومنهم من يضربون أنفسهم بالسيوف، ومنهم من يضربون ظهورهم بسلاسل من حديد، والنساء يولولن على نحو ما كان معروفا من عمل الشيعة في القاهرة إلى عهد قريب. وقد أسفت لهذه المناظر وحملت مسئولية ما يعمل في هذا الباب علماء الشيعة، وفيهم فضلاء أجلاء مسموعو الكلمة يستطيعون أن يبطلوا كل هذا بكلمة منهم، ولكن لا أدري لماذا لا يفعلون. وهذا الخلاف بين السنية والشيعة في العراق جر عليه كثيرا من المصائب والمحن — وبذل جهود ضاعت فيما لا يفيد، لو صرفت في خير الأمة وتقدمها — بقطع النظر عن سني وشيعي — لعادت على أهلها بالخير العميم؛ ولأن الخصومة بين أصحاب علي وأصحاب معاوية معقولة في زمنهما أو بعد زمنهما فلم تعد معقولة الآن، إذ ليس هناك اليوم نزاع على خلافه ولا إمامة، وإنما هو نزاع على أيهم أفضل أبو بكر وعمر أم علي؛ وهذه لا يبت فيها إلا الله، ومن السخافة أن نضيع أوقاتنا في مثل هذا الكلام، وكل العقلاء متفقون على أن كلا من الثلاثة رجل له فضله ومزاياه، والله وحده هو الذي يتولى مكافأتهم على أعمالهم، ويزنهم بالميزان الصحيح ويقدرهم التقدير الحق، وما عدا ذلك فالخلاف بين الشيعة والسنية كالخلاف بين حنفي وشافعي ومالكي لا يستدعي شيئا من الخصومة؛ ولكن أفسد الناس ضيق العقل وعواطف العامة ومصالح بعض رجال الدين وصبغ المسائل السياسية بالمسائل الدينية. ولما أخرجت كتاب «فجر الإسلام» كان له أثر سيئ في نفوس كثير من رجال الشيعة، وما كنت أقدر ذلك، لأني كنت أظن أن البحث العلمي التاريخي شيء والحياة العملية الحاضرة شيء آخر، ولكن شيعة العراق والشام غضبوا منه وألفوا في الرد عليه كتبا ومقالات شديدة اللهجة لم أغضب منها، ولما لقيت شيخ الشيعة في العراق الأستاذ آل كاشف الغطاء عاتبني على ما كتبت عن الشيعة في فجر الإسلام. وقال: إني استندت فيما كتبت على الخصوم، وكان الواجب أن أستند إلى كتب القوم أنفسهم، وقد يكون ذلك صحيحا في بعض المواقف، ولكني لما استندت على كتبهم في «ضحى الإسلام» ونقدت بعض أرائهم نقداً عقليا نزيها مستندا على كتبهم غضبوا أيضا، والحق أني لا أحمل تعصبا لسنية ولا شيعة، ولقد نقدت من مذاهب أهل السنة ما لا يقل عن نقدي لمذهب الشيعة وأعليت من شأن المعتزلة بعد أن وضعهم السنيون في الدرك الأسفل إحقاقا لما اعتقدت أنه الحق. وقد حدث وأنا في بغداد حادث خطير، فقد دعينا لنشهد مجلسا من مجالس العزاء يقيمها الشيعة في ليالي مقتل الإمام علي، فذهبنا إلى «الحسينية» بالكرخ — ضاحية من ضواحي بغداد — فرأينا دارا واسعة احتشد فيها عدد لا يقل عن أربعة آلاف، وقد سرى في القوم أن وفد مصر حضر، فازدحموا على استقباله، وأخليت لنا ناحية جلسنا فيها، وخطب بعض الخطباء لتهنئتنا ورد عليهم الأستاذ عبد الوهاب عزام التحية بمثلها، ثم قام خطيب الليلة الأستاذ كاظم الكاظمي، وهو خطيب طلق اللسان حسن التأثير في السامعين، فرحب بالوفد وبأحمد أمين ولكنه عرج من ذلك على كتاب فجر الإسلام وما فيه من تجن على الشيعة وأكثر الحاضرين من عوام الشيعة الذين تؤلمهم هذه الأقوال أشد الألم، ولا يمنعهم مانع أن ينكلوا بكل من يعتدي على عقيدتهم، ولكن الخطيب ماهر، إذ أحس هياج الجمهور وتحفزهم اقتبس جملة من فجر الإسلام فيها مدح الشيعة، وهكذا ظل الرجل يلعب بعواطف الناس بين مد وجزر وتهييج علي وتهدئة؛ فلما طال هذا وخشي بعض الحاضرين سوء العاقبة نصحنا ناصح أن ننسل من باب خلفي ففعلنا ونجونا بأنفسنا — وقد علمنا أن الأمر بلغ الملك فيصل، فغضب على الخطيب وشاء أن يعاقبه، ولكنا طلبنا من ناقل الخبر إلينا أن يرجوه ألا يفعل، فقد انتهى الأمر بسلام. وكان يوما أيوم، يوم «سر من رأى» وقد شاء الله أن تكون «سِيء من رأى» ذلك أننا اعتزمنا زيارة سامراء، وقد قيل لنا إن المسافة بين بغداد «وسامراً» نحو ساعتين، فقدرنا أن نزورها ثم نعود ونتناول الإفطار على مائدة قنصل مصر في العراق، ولكن ساء سير السيارات فلم نصلها إلا قبيل الغروب، وأبرقنا إلى قنصل مصر أن يجعل إفطارنا سحورا، ومررنا في الطريق على قنوات معطلة، وأرض زراعية فسيحة مخربة. وآثار عمران عظيمة مهدمة، وعبرنا نهر دجلة إلى «سامرا» ورأيناها وأطلالها القديمة، وشاهدنا جامع المعتصم فيها، وقد بني على نمط جامع ابن طولون بمصر وبخاصة منارته، وشاهدنا بعض آثارها الباقية، فلما حاولنا الرجوع وقد أظلم الليل، قيل لنا إن ذلك مستحيل، لأن الطريق غير مأمون فألححنا على رئيس البلدية فقبل وأرسل معنا سيارة مسلحة تخفرنا. وكنا كلما سرنا مسافة ارتطمت سيارة في الوحل فتعطلنا حتى ننقذها ونصلحها، وسمعنا في الطريق أن لصوصا قد سطوا على قوم يمرون أمامنا، فدخلنا الرعب، ووصل الخبر إلى بغداد بأن السطو حدث علينا نحن في الطريق، فخرج مدير شرطة بغداد ببعض الجنود لاستطلاع الخبر وإنجادنا فلقيناهم في الطريق، ولم نصل إلى بغداد إلا بعد الفجر، وفاتنا الفطور والسحور، وكان يوماً خالد الذكر في حياتنا لا ننساه، لما رأينا من بلواه. ويوما قررنا السفر إلى الموصل ووصلنا بالقطار إلى كركوك وبتنا فيها ورأينا منابع البترول وكيف تحفر الآبار، وعاقنا المطر الغزير عن متابعة السير إلى الموصل فعدنا من كركوك إلى بغداد وودعنا أهلها وأخذنا طريقنا إلى تدمر، فجسنا خلالها ورأينا قبورها وآثارها، ووقفنا على أطلالها، ولفت أنظارنا جمال أهلها، وذكرنا الزباء وما قال العرب والإفرنج عنها، وبتنا فيها ليلة، ثم قفلنا إلى دمشق ومنها إلى بيروت مخترقين جبال لبنان العالية وحولنا الثلج، وعدنا إلى مصر سالمين. وقد انطبعت في نفوسنا صور شتي من صور العالم العربي فلسطين وسورية والعراق ولبنان — كلها بلاد تتقارب في الحياة الاجتماعية وتقف على درجات من سلم واحد، فكلها تتوزع مزايا الشرق وعيوبه، هذه مصر تتقدم الجميع في مظاهر المدنية والحضارة والثروة، وهذا لبنان يمتاز بجد أهله ونشاطهم وثقافتهم وتقدم المرأة عندهم، وهذه الشام تمتاز بالنشاط والنجاح التجاري الذي عرف فيهم من عهد الآراميين، وهذا العراق يشعر بثقل الدين القديم، فينهض أهله، وبخاصة شبانه بتأسيس نهضة جديدة تستغل فيها موارد البلاد معيبة بالبطء الحكومي في تصريف الشئون، وضعف الابتكار، والحاجة إلى الأجنبي النزيه في رسم الخطط للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وكلها معيبة في نظام الحكم وعدم رعاية حقوق الشعب، وقلة شعور الشعب بحقوقه وواجباته وإن اختلفت درجاتها في ذلك، ولكل أمة من هؤلاء مشاكلها. فمشكلة لبنان انقسام أهله إلى مسلمين ومسيحيين، واختلاف نزعاتهم بين ميل إلى فرنسا وكره لها، ومشكلة القدس الخلاف بين زعمائه وأحزابه على الغلبة والرياسة، مع أن الصهيونية تنخر في عظامهم، ومشكلة العراق تقسم أهله بين سنية وشيعة وبدو وحضر، وهكذا رأيت كل هذه المناظر واختزنتها في نفسي وأثرت في تفكيري. وسافرت إلى الحجاز للحج سنة ١٩٣٧ مع بعثة الجامعة المصرية، ولا أطيل في وصف الطريق والمراحل التي يقطعها الحاج، فقد ذكرت كثيرا قبل، وكل ما أريد ذكره أن عادة الحجاج أن يغمرهم الشعور الديني، فلا يشعروا بما تحملوا من متاعب، ولا بما صادفوا في الطريق من عقبات، ولا ما شاهدوا من فوضى وعدم نظام ونحو ذلك، أو يشعرون بها ولكن يحملهم الورع الديني ألا يفوهوا بها، ولا ينطقوا إلا بما رأوا من محاسن، أما أنا فقد غمرني أيضا الشعور الديني وكان في الحج مواقف اهتز لها قلبي ودمعت لها عيني، وأروعها — على ما أذكر — مشاهدة الكعبة وطوافي طواف الناس حولها، ثم وقوفي بعرفات وعشرات الآلاف من الحجاج يلبسون لباسا أبيض بسيطا كأنهم تجردوا من الدنيا ونعيمها وطرحوا زخارفها. ووجهوا قلوبهم كلها إلى خالقهم يبتهلون إليه أن يغفر لهم ما تقدم من ذنبهم، وأن يعينهم على حياة جديدة ملؤها الطاعة والتقوى، ثم زيارتي للحرم المدني في المدينة ووقوفي أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، أستحضر تاريخه ومواقفه وعظمته، فكل هذه المواقف كانت جميلة حقا رائعة حقا. ومع ذلك فكان عقلي مفتحا أيضا لرؤية المتاعب ومنشئها وإدارة الحج وتقدير إحسانها أو إساءتها، وتدوين كل ذلك في مذكرتي؛ فهذا الزحام يشتد في أيام الحج وتضطرب حركة السير، وبخاصة عند نزول الناس من عرفات إلى منى، وفي الإمكان تنظيمه وترتيبه بشيء من العناية، وهناك قلة الماء في منى وصعوبة الحصول عليه، وفي الإمكان ترتيب ذلك. وهناك عدم العناية بالنظافة حول الحرم المكي والمدني وفي المساكن والشوارع. وهناك سوء الطريق بين جدة والمدينة إلى كثير من أمثال ذلك، ألمت لها، وفكرت في وجوه الخلاص منها، وأيقنت أن إدارة الحج بمعاونة العالم الإسلامي لها تستطيع بجهد قليل أو كثير أن تتلافى هذه العيوب وتريح الحجاج مما يلحقهم من أذى قد يصرفهم في كثير من الأحيان عما حجوا لأجله، من فراغ للعبادة واتصال بالله. ورأيت من واجب الخاصة أن يدرسوا ما رأوا ويفكروا في العلاج ويقترحوا سبل الخلاص من الأدواء ويرفعوا صوتهم بها، فذلك خير من السكوت عليها. من أجل هذا كتبت تقريرا عن كل ما رأيت من داء وما أصف من علاج، ولم أبخس فيه الإدارة الحجازية فضلها في بسط الأمن ونشر الطمأنينة بين الحجاج على أنفسهم وأموالهم؛ ورفعت نسخة من هذا التقرير إلى وزارة الخارجية المصرية والجامعة، وتحدثت بخلاصة ذلك في الإذاعة المصرية، فكلمني المرحوم طلعت باشا حرب بأنه يريد مني أن أقابله ففعلت، وكان من رأيه ألا أثير هذه المسائل الشائكة، ولا أذكر هذه المعايب والمتاعب، لأنها تصرف كثيرا ممن يريدون الحج عنه، وتسيء إلى الإدارة الحجازية من غير داع، فشرحت له وجهة نظري في أن الإعلان عن هذه العيوب يدعو إلى إصلاحها، وما دمنا ساكتين فلا أمل في الإصلاح؛ وأخيرا تقاربت وجهة نظرنا واتفقنا على أن أكتب تقريرا مفصلا لا أذيعه في محطة الإذاعة ولا أنشره في الجرائد، ولكن أقدمه إليه وهو يرفعه إلى الإدارة الحجازية ويعمل ما وسعه في التفاهم معها ومع الحكومة المصرية على بذل الجهد في الإصلاح.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/28/
الفصل الثامن والعشرون
أتيحت لي فرصة أخرى سنة ١٩٣٢ لأرى الغرب كما رأيت الشرق، وأرى المدنية الحديثة كما رأيت مدنية القرون الوسطى، وأرى من يسمونهم المتقدمين كما رأيت من يسمونهم المتأخرين، فيكون لي بدل العين عينان وبدل المنظر الواحد منظران، فاخترت عضوا في مؤتمر المستشرقين الذي ينعقد في ليدن بهولنده، وقررت السفر قبل الموعد بنحو شهرين، حتى أزور ما أمكنت زيارته من مدن أوربية، فركبت البحر إلى مرسيليا مع صديقي الدكتور عبد الرزاق السنهوري — وقد خبر فرنسا خبرة طويلة ودقيقة وعرف أهلها وبلادها إذ أقام فيها سنين يدرس القانون — وزرنا مرسيليا وتجولنا فيها وخرجنا إلى ضواحيها، ثم سافرنا إلى ليون ونزلناها وأقمنا فيها ثلاثة أيام رأينا فيها معالمها وجامعاتها وخرجنا إلى ريفها، ثم سافرنا إلى باريس ونزلنا في أوتيل فوايو بجانب مجلس الشيوخ وأقمت فيه نحو عشرة أيام، وقد وضع لي صديقي برنامجا دقيقا وطويلا رتبه بإمعان وبعد طول تفكير، ليريني أهم ما في باريس من جد ولهو وعلوم وفنون وأبنية ضخمة وآثار رائعة، ويريني المدينة والريف والعاصمة والضواحي، فكان برنامجا شاقا صعبا، كل يوم رؤية صباحا ورؤية مساء، ولم يسمح لي أن أستريح ولو قليلا، ولا أن أتذوق ما أرى، وأنا رجل بطيء الحركة أحب أن أتحرك على مهل وأتذوق على مهل وأستطعم ما آكل، وأحب أن أتغدى ثم أغفو قليلا بعد الغداء فلم يمكني من شيء من ذلك، فيوما يريني ميدان الباستيل وشوارع باريس الكبيرة وكنيسة مادلين وميدان الكونكورد ومنتزه الشانزليزيه، وفي المساء نذهب لمشاهدة رواية في الأوبرا، ويوما نرى برج إيفل ونصعد إليه، ونستمع للدليل يشرح لنا الغرض منه وكيفية تأسيسه ونزور الجماعات وبعض المدارس، ويوما نزور غابة بولونيا وقصر فرساي وقاعاته ومتحفه، ويوما نزور معامل سيفر المشهورة بعمل الصيني، ويوما نزور اللوفر ومتاحفه، ونخرج إلى حديقة لوكسمبورج وسرايها وكنيسة نوتردام، ويوما نزور مونمارتر وملاهيه والمكتبة الأهلية ونلتقي نظرة عامة على ما فيها، ويوما نزور سوق باريس في الصباح المبكر لنرى منظراً غريبا في البيع والشراء، ويوما نخرج إلى ضاحية بعيدة من ضواحي باريس نرى فيها ريف فرنسا وجماله، ويدعونا بعض أصدقاء الدكتور لنرى بيوتهم وعائلاتهم ونتعشى معهم إلخ.. إلخ.. كل ذلك في عشرة أيام كنت فيها متحركا لا أسكن، ونشيطا لا أخمد، ومجهدا لا أستريح إلا وقت النوم في أوتيل فوايو. وأذكر مرة أننا نفذنا برنامجنا الصباحي ثم تغدينا في مطعم وجلسنا بعد الغداء نشرب القهوة لنستعد لتنفيذ برنامج بعد الظهر، ولكن السماء أمطرت في غزارة، وأحسست حاجتي الشديدة إلى الاستقرار بعد الغداء فلم يسمح لي، وأبى إلا أن يطبق البرنامج بكل دقة، فكنا نمشي في المطر الشديد لنصل إلى حيث نريد طبقا للبرنامج، وقد أتخمت من هذه الأيام العشرة بالمعلومات والمناظر والمعارض والأحداث حتى لكأنني أشاهد رواية سينمائية دام شريطها عشرة أيام واحتجت إلى سنين بعدها أهضم ما أتخمت به؛ ثم ودعت صديقي ذاهبا إلى إنجلترا. وأحببت أن أزور الريف الإنجليزي فرتب صديقاي الأستاذ حافظ وهبة وزير المملكة العربية السعودية في لندن والمرحوم الأستاذ أمين جمال الدين مدير البعثات في لندن رحلة إلى ويلز في عربة الأستاذ حافظ يسوقها الأستاذ جمال الدين، فكانت رحلة ممتعة عرفنا فيها الريف الإنجليزي، وكنا نسير على مهل، فإذا جاء وقت الغداء تغدينا في مطعم في الطريق، وإذا جاء المساء بحثنا عن بيت في الريف لقروي يضيفنا، ومازلنا في رحلتنا حتى وصلنا إلى كارنارفون فأقمنا فيها أياما. وأقمت في إنجلترا نحو أربعين يوما، اهتممت فيها أن أرى أكثر ما يمكن أن أرى، وأتعرف من أحوالها الاجتماعية بقدر ما أستطيع، ولكن شيئًا واحدا أسفت له أشد الأسف، وهو أني كنت حضرت بحثي الذي اعتزمت إلقاءه في مؤتمر المستشرقين باللغة العربية، وقد قيل لي بعد إن لغة الإلقاء لا بد أن تكون بالإنجليزية أو الفرنسية، فشغلت نفسي وأنا في لندن بالاستعانة بمترجم إلى الإنجليزية، وبكتابة ذلك على الآلة الكاتبة، فاستغرق مني ذلك مجهوداً كبيرا وأضاع على زمًنا كان يجب أن أصرفه في معرفة الحياة الإنجليزية في نواحيها المختلفة، والاستمتاع بمناظرها ومباهجها، وأخيرا سافرت إلى ليدن بهولنده حيث ينعقد المؤتمر. رأينا ليدن وكأنها دير كبير يتعبد فيه رجال العلم، تموج بالعلماء والمكاتب وفيها مطبعة بريل الشهيرة التي كان لها الفضل الكبير في طبع كثير من الكتب العربية، وكنا قد كتبنا إلى سكرتارية المؤتمر بحجز أمكنة لنا، فلما رأيناها لم تعجبنا كثيرا لأنها كانت أشبه بمساكن الطلبة، ففضلنا أن نسكن في لاهاي وننتقل كل يوم إلى ليدن، وكان يصحبني في هذه الرحلة الدكتور إبراهيم بيومي مدكور الذي آنسني بمصاحبته، وخفف عني بعض أعبائها، فجزاه الله خيراً. وعلى الجملة فلا أستطيع أن أحصر ما استفدت من هذه الرحلة فقد اختزنت منها كثيرا، وفي كل مناسبة كنت أستخرج من هذا المخزن ما أستفيد منه مما لم يكن يخطر لي حين الرحلة على بال، وأهم ما استفدته هو تمكني من المقارنة بين الشرق والغرب، فقد كانت رحلتي إلى الغرب معادلة رحلتي إلى الشرق، فكنت دائما أنظر إلى هذا نظرة وإلى ذاك نظرة، وأستخرج الحكم بعد المقارنة، وكنت قبل ذلك لا أرى إلا لونا واحدا ولا أسمع إلا صوتا واحدا. وأتممت الاستفادة من هذه الرحلة برحلة أخرى إلى أوروبة نفسها سنة ١٩٣٨، فقد اختارتني الجامعة أيضا عضوا في مؤتمر المستشرقين في بروكسل، وزرت إيطاليا وفرنسا مرة أخرى، واستعدت ذكريات ماضية، وأردت أن أستفيد جديدا فذهبت إلى سويسرا وأقمت فيها أياما فنزلت في مدينة لوسرن، وركبت بحيرتها واستمتعت فيها بجمال مناظرها الباهرة. ورأيت في هذه الرحلة الناس في بلجيكا وفرنسا وقد عراهم الذعر مما يرونه من طوالع الحرب وكثرة الحديث عنها وكثرة الاستعداد لها، حتى لقد أسرعنا في العودة خوف أن تقفل الطريق أمامنا. ولئن كانت الرحلة الأولى قد أطلعتني على جوانب من المدينة الغربية، فهذه الرحلة قد نمتها وثبتتها.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/29/
الفصل التاسع والعشرون
أعود بعد الرحلات إلى وصف حياتي العامة والخاصة، فقد رقيت في كلية الآداب من مدرس إلى أستاذ مساعد، فأمكنني بذلك أن أكون عضوا في مجلس إدارة الكلية، أتصل فيه بالأساتذة المصريين والفرنسيين والإنجليز والبلجيكيين، وأرى في كل جلسة كيف تعرض الأمور وكيف ينظر إليها وكيف تدخل النزعات والأغراض في تكوين الآراء. لقد تعلمت أن المنطق آخر أدوات الحكم على الأشياء؛ وأن النزعات والأغراض والبواعث هي التي تتحكم في المنطق لا التي يحكمها المنطق؛ فليس المنطق ما عرفنا تعريفه، من أنه آلة تعصم الذهن عن الخطأ في الحكم، ولكن هو القدرة على تبرير البواعث والنزعات والأغراض لتتخذ شكلا معقولا، وكان المجلس كبرج بابل يتكلم متكلم بالعربية وآخر بالفرنسية وثالث بالإنجليزية، وإذا حزب الأمر ترجمت كل لغة إلى اللغات الأخرى، وأحياًنا في الأمور العامة تلعب السياسة لعبها من وراء ستار، فالفرنسيون مثلا يريدون أن يسيطروا على قسم الفلسفة، والإنجليز يريدون أن يتدخلوا فيه وأن يسيطروا على الكلية بواسطة عميدها، وأكبر ما يتجلى هذا عند خلو كرسي من كراسي الأساتذة أو عند خلو مكان العميد. وقد صاحبت التطور الذي حدث، من تحول عدد الأساتذة المصريين من قلة إلى كثرة، ومن قلة ما بأيديهم من توجيهات إلى أن ملكوا زمام الأمور في الكلية بتعيين عميد مصري لها، وعاصرت الصراع الشديد بين محاولة الحكومة التدخل في شأن الجامعة أحياًنا، ومحاولة الجامعة المحافظة على استقلالها، وأكثر حادثة من هذا القبيل هي حادثة نقل الدكتور طه حسين من كلية الآداب إلى وظيفة في وزارة المعارف من غير أخذ رأي الكلية ولا إدارة الجامعة واستقالة الدكتور طه وإضراب الطلبة عن الدروس، وانقسام الأساتذة إلى قسمين قسم مسالم وقسم مناهض وكنت إذ ذاك من المناهضين، وأوذيت في ذلك كثيرا حتى فكر في نقلي من الجامعة. وحدث — وأنا أستاذ مساعد — أن منعت من أن أكون أستاذا لعدم حصولي على الدكتوراه أنا وبعض زملائي، وإن كان القانون يسمح أن يرقى الأستاذ المساعد في اللغة العربية بكلية الآداب والشريعة الإسلامية بكلية الحقوق إلى أستاذ من غير دكتوراه، فواجهت المسألة بروح رياضية، وقدمت طلبا لنيل الدكتوراه بالدخول في الامتحان، على النظام الذي يتبع مع الطلبة في الحصول عليها، وقدمت لذلك كتاب فجر الإسلام وضحى الإسلام كرسالة للمناقشة، واعترض إذ ذاك بأن الأساتذة بالكلية قد يحابونني لأنني أحدهم، فاقترحت أن يكون أكثر الممتحنين من الأساتذة الأجانب المستشرقين، فصمم وزير المعارف إذ ذاك على رفض هذا الطلب، وكان هذا أيضا تدخلا في شئون الجامعة لا مبرر له، فلم يتم امتحاني. وشعر بعض إخواني من أساتذة الجماعة وأعضاء لجنة التأليف بعدم عدالة هذا التصرف، فأقاموا حفلة تكريم لي، وكان ذلك سنة ١٩٣٥، وانتهزوا فرصة مرور عشرين سنة على لجنة التأليف والترجمة والنشر ورياستي لها طوال هذه المدة، فسألتهم العدول فلم يقبلوا، وسألتهم أن تكون الحفلة صامتة فلم يقبلوا أيضا، وأقاموا بالفعل حفلة ضخمة دعوا إليها أعضاء لجنة التأليف وكبار رجال المعارف وكبار رجال السياسة من مختلف الأحزاب، وأقاموها في «سنت جيمس» وقسموها إلى موائد، وعلى كل مائدة رئيس من علية القوم، فمائدة يرأسها مدير الجامعة أحمد لطفي السيد، وأخرى المرحوم أحمد ماهر، وثالثة المرحوم الدكتور على إبراهيم، ورابعة المرحوم إبراهيم الهلباوي، وخامسة المرحوم عبد العزيز فهمي، وسادسة المرحوم الشيخ محمد مصطفى المراغي، والأستاذ أحمد لطفي السيد، والمستشرق الكبير نللينو، وقد افتتح خطبته بقوله «إن عند الرومانيين قولة مشهورة: أنه يحق لكل إنسان أن يجن مرة، وأريد أن أجن هذه المرة فأخطبكم باللغة العربية»، كما كان من الخطباء الدكتور عبد الوهاب عزام والدكتور عبد السلام الكرداني والأستاذ محمد كرد علي، ورددت عليهم آخر الأمر خجولا متواضعا شاكرا، ومما قاله الدكتور علي إبراهيم في هذه الحفلة: إنه لو استطاع أحد أن ينظم مثل هذا الاحتفال ويجمع رؤساء الأحزاب والسياسة كما جمعوا في هذا الحفل، ويؤلف بينهم في موضوعات الخلاف كما ألف بينهم اليوم لكان هذا نجاحا سياسيا باهرا. وقد أثرت هذه الحفلة في نفسي أكبر الأثر، واغتبطت بها أكبر الاغتباط، وعددتها مكافأة أكبر من نجاحي في الدكتوراه. ولكن لا يصفو الزمان حتى يكدر، ولا يحسن حتى يسيء، فعقب هذا الحفل بأيام شعرت بخمود شديد في جسمي، وانقباض في صدري فعرضت نفسي على الطبيب فقرر أني أصبت بالبول السكري، وألزمني الصوم عن الأكل إلا السوائل أياما، ثم السير بعد ذلك على نظام في الأكل دقيق تتجنب فيه النشويات والسكريات، ومن ذلك الحين دخلت في حياتي حقن الأنسولين، وقد صحبني هذا المرض — إلى الآن — خمس عشرة سنة، أحاوره ويحاورني، ويصادقني أحيانا ويعاديني، وأمتنع من أجله عما أشتهي، وأتجنب الجهد الشاق على غير رغبتي، وأحيانا يرميني بالأفكار الحزينة وألوان الحياة القاتمة، وأحمد الله إذ لم يكن من الشدة كما هو عند غيري. وبعد ذلك أريد أن يمنح غيري الأستاذية من غير دكتوراه، وأحرم أنا لمواقفي السابقة في المحافظة على استقلال الجماعة، فطلبت أن تؤلف لجنة لبحث مؤلفاتي، فاختيرت لذلك لجنة من الأستاذين المستشرقين الدكتور شاده والدكتور برجستراسر، فقرآ فجر الإسلام وضحاه، وقدما تقريرا باستحقاقي الأستاذية على هذين الكتابين، وقالا: إن عيبي الوحيد في تأليف هذين الكتابين هو أن هناك بحوثا في بعض موضوعات الكتابين عرض لها بعض الأساتذة الألمان، ولو اطلع عليها المؤلف لبنى عليها ولم يتعب نفسه في بحث أساسها؛ ولكن وزارة المعارف أخفت هذا التقرير لأنه مخالف لما كانت تأمل، فطلبت من العميد أن يطلب التقرير من الوزارة، فماطلت، ثم بعثته وعطلت أثره في مجلس الجامعة، ولم أحصل على الأستاذية إلا بعد عناء وبعد أن هدأت النفوس وبعد أن قدمت استقالتي لأني لم أعامل معاملة زملائي. ووقع علي الاختيار لأكون ممثلا لكلية الآداب في مجلس الجامعة، فاستمررت على ذلك نحو عشر سنين، وقد مهد لي ذلك السبيل إلى سعة اختباري وكثرة تجاربي؛ فمجلس الجامعة يتكون من عمداء الكليات وبعض كبار الأساتذة من كل كلية ومن وكيل وزارة المالية ووكيل وزارة المعارف وبعض كبار البلد يعينون لخبرتهم العلمية، من رؤساء الوزارة أو وزراء سابقين، أو نحو ذلك، فكان هذا المجلس يمثل أعقل مجلس بمصر، شاهدت فيه العقليات المصرية الكبيرة كيف تتصرف بالأمور، وكيف تتكون لديها الآراء، والعوامل التي تعمل في اتجاهاتها وتكوينها، وكيف يتناقشون وكيف يحتجون. والحق أنه كان يستولي علي الوهم أن الرجل إذا كان ذا منصب كبير في الماضي أو الحاضر فذلك عنوان عبقريته ودليل نبوغه، وأن له من الآراء ما يفوق كل رأي، ومن الأفكار ما يتضاءل أمامها كل فكر، فزال هذا الوهم بهذا المجلس، ورأيت هؤلاء الكبراء يفكرون كما يفكر الناس ويخطئون كما يخطئ الناس، وتتغلب عليهم الأهواء — أحيانا — كما تتغلب على سائر الناس. وكان من تجاربي أن رأيت أكثر الناس يسيرون مع العظماء في آرائهم وأفكارهم ولو اعتقدوا بطلانها، ولكن إذا تشجع أحد ودافع عن الحق وجهر به وصمم عليه تبعه هؤلاء وانضموا إلى جانبه ضد العظماء فليس عندهم من الشجاعة ما يبدئون به قول الحق، ولكن ليس عندهم أيضا من السفالة ما يناهضون به قائل الحق. وقد استفدت من هذا المجلس تجربة أخرى، وهي أن كثيرا من الناس يتضايقون من المعارض وقد يحاولون إيذاءه والتنكيل به، ولكنهم إذا تيقنوا أنه إنما يدافع عما يعتقد، وأنه إذا دافع بأدب، وفي لياقة ولباقة، من غير أن يمس شعورهم وكرامتهم كان موضع الاحترام والإجلال والكرامة من مؤيديه وخصومه معا. وكثيرا ما كانت تعرض مسائل شائكة، فأقف فيها — مع بعض إخواني — الموقف نفسه؛ يجتمع المجلس — مثلا فيقرر فصل طلبة لأنهم مشاغبون، ومن حزب غير حزب الحكومة، فإذا جاء حزبهم وتولى الحكم عرض على المجلس إرجاعهم والعفو عنهم فيرجعون، فكنت شديد المعارضة لهذا التصرف مما يغضب هؤلاء وهؤلاء. ومرة أوعز إلينا بمنح درجات دكتوراه فخرية لبعض الأجانب الأوروبيين وهم في الخارج، وكان إيعازا قويا، ولم أتبين أنا وزملائي وجه الحق في هذا المنح، فوقفنا نعارض في منحهم هذه الدرجات، وأخذ القرار بمنحهم بالأغلبية ولكني غضب على غضبة شديدة. وفكر في إخراجي من مجلس الجامعة بل من الجامعة كلها، ثم لا أدري ماذا حدث حتى انتهت المسألة بسلام. ولا أنسى مرة قرر مجلس الجامعة إرسال خطاب شكر للطفي باشا السيد عقب أن ترك مجلس الجامعة، ولكن الحكومة كانت غاضبة عليه، فلم يرسل الخطاب إليه، ثم تبدلت الحكومة، وجاءت حكومة أخرى مؤيدة للطفي باشا، فأرسل الخطاب، فوقفت في المجلس ويدي ترتعش وصوتي يتهدج، ألوم القائمين بالأمر على هذا التصرف، وأستحث الأعضاء على احترام كلمتهم والحرص على تنفيذ آرائهم، وهكذا وهكذا، فكانت كل جلسة درسا مفيدا وأحيانا درسا قاسيا. وقابلني مرة الأستاذ مكي الناصري، المغربي المراكشي، وأخبرني أن المنطقة الخليفية وعاصمتها تطوان قد رأت من الخير أن ترسل بعثة إلى مصر من الطلبة المغاربة المراكشيين وأنه يريد مني الإشراف عليها وأنه يمد المشروع كل شهر بما يلزمه فقبلت. واستأجرنا مكانا لبعثة الطلبة وكانوا نحو عشرين بعضهم يتعلم في كلية الآداب وبعضهم في دار العلوم وبعضهم في مدارس صناعية، ورتبت لهم معيشتهم في البيت ومن يشرف عليهم، ومن يشرف على صحتهم، وأجرت لهم ناديا للاجتماع ولإلقاء المحاضرات المناسبة وربطت المشروع بلجنة التأليف فنشرت كتبا كثيرة على حساب بيت المغربي هذا: مثل أكثر أجزاء «أزهار الرياض، للقاضي عياض» وترجمة كتاب «الحضارة الإسلامية» للأستاذ متز وكتاب في النهضة الغربية وأسسها، وأزمعت إخراج أطلس جغرافي يشمل بلاد المغرب جميعها، ورجوت المختصين في هذا الموضوع أن يقوموا به. ولم يمنع من إخراجه إلا قيام الحرب العالمية الثانية، وغلاء الورق، والطبع، وأخيرا حارب المشروع دولتا إسبانيا وفرنسا، فقضيتا عليه. فكان هذا أيضا مما استنفد مجهودا كبيرا مني. وفي أول إبريل سنة ١٩٣٩ كان قد خلا مركز عميد كلية الآداب بعد أن تولاه من المصريين الدكتور طه حسين والدكتور منصور فهمي والأستاذ شفيق بك غربال، ونظام الجامعة يقضي بأن مجلس الكلية يختار ثلاثة من بين الأساتذة يعين أحدهم وزير المعارف، فاختير ثلاثة وكنت أكثرهم أصواتا فيعينني المرحوم محمود فهمي النقراشي باشا عميدا، وقد عجبت أنا نفسي من هذا الاختيار، فأنا رجل دخيل على الجامعة بحكم تربيتي الأزهرية الأولى وتربيتي شبه الأزهرية في مدرسة القضاء، وأنا رجل لم أتعلم في جامعة مصرية ولا أجنبية، وأنا رجل لم يتعلم لغة أجنبية إلا ما تعلمته من اللغة الإنجليزية بعناء وبقدر محدود، فكيف أختار لهذا المنصب وأرأس الأساتذة الأجانب والأساتذة المصريين ممن تعلموا في الجامعات الأوروبية ونحو ذلك؟ الحق أني أكبرت هذا كله وشعرت بالمسئولية الكبرى الملقاة على عاتقي، ولكني تذكرت قول المرحوم الشيخ محمد عبده: «إن الرجل الصغير يستعبده المنصب، والرجل الكبير يستعبد المنصب» أو ما معناه ذلك. ها أنذا في عمادة كلية الآداب، قد شغل وقتي كله بأعمال إدارية أكثرها لا قيمة له، فكل الأوراق تعرض علي حتى شراء مكنسة، وكل أعمال الطلبة والأساتذة تعرض علي حتى الكلمة النابية يلفظها طالب، إلى شكاوى الطلبة وما أكثرها! وتزاحم المدرسين والأساتذة على العلاوات والدرجات وتسوية الحالات وما أصعبها! فكان هذا يشغل وقتي، حتى لا أستطيع أن أفرغ للعلم إلا قليلا، ولا أن أفرغ للنظر في المسائل الأساسية كمناهج التعليم وطرق التربية إلا بقدر، وهذه عدوى من نظام الحكم في مصر حيث تتركز الأعمال كلها في يد رئيس المصلحة، وما كان أحرى الجامعة أن تتخلى عن ذلك، وتوزع الاختصاص ويتفرغ العميد للمسائل المهمة، ولكن أنى لنا ذلك! مكثت على هذه الحال سنتين وأنا آسف على ضياع وقتي ووقوف عملي العلمي، فلم أؤلف في هذه الفترة كتابا، ولم أتمم بحثا، وأنا ضيق الصدر بكثرة الطلبات والشكايات والعلاوات والدرجات، ولكن أحمد الله إذ لم أكن أقل شأنا من غيري في إدارة الكلية بشهادة غيري. وكانت مدة العمادة ثلاث سنوات حسب القانون، ولكن حدث بعد سنتين أن اختلفت وجهة نظري مع وجهة نظر وزير المعارف إذ ذاك، فتصرف في أمر هام من أمور الكلية من غير أخذ رأيي، فاعترضت على ذلك فاعتذر، وتكرر هذا الأمر ثانية فكان شأنه كذلك، ثم قرأت في الجرائد أن عددا كبيرا من مدرسي كلية الآداب وأساتذتها صدر قرار بنقلهم إلى الإسكندرية من غير أن يكون لي علم بشيء من ذلك، فقدمت استقالتي من العمادة وصممت عليها فقبلت، وحمدت الله أن تحررت منها ورجعت أستاذا كما كنت، وبدأت أتمم سلسلة فجر الإسلام وضحى الإسلام على النحو الذي رسمت، فأخرجت الجزء الأول من ظهر الإسلام. وشاعت مرة شائعة بعد تغير الوزارة أني سأعود عميدا وسألني صحفي عن ذلك فقلت: «إنني أصغر من أستاذ وأكبر من عميد». وحاولت أثناء عمادتي أن أحقق ثلاث مسائل لم أنجح فيها كثيرا. الأولى: تنظيم الحياة الاجتماعية في الكلية، فقد رأيت أن الحياة فيها مقتصرة على دروس تلقى ودروس تسمع من غير أن يكون هناك حياة اجتماعية ترفه عن الطلبة وتوثق الصلة بينهم وبين أساتذتهم وتقلل من إضرابهم، فاتجهت إلى نادي الكلية أجهزه بمختلف الوسائل ليكون أداة صالحة لتنظيم الحياة الاجتماعية، وعهدت إلى بعض الأساتذة ممن تعلموا في جامعات أوروبة أن يحاضروا الطلبة محاضرات عامة في نظم الجامعات الألمانية والفرنسية والإنجليزية، وبخاصة في نظم الحياة الاجتماعية ونحو ذلك. والثانية: أني حاولت تحسين العلاقة بين الطلبة والأساتذة من ناحية الإشراف الخلقي، فأردت أن أخصص كل أستاذ لعدد من الطلبة يشرف عليهم إشرافا أبويا، يفضون إليه بمشاكلهم المالية والنفسية والاجتماعية ويحاول هو علاجها ويعينهم على ذلك من الناحية المالية بمال الاتحاد. والثالثة: محاربة الطريقة التي يتبعها كثير من الأساتذة من قلبهم المحاضرات إلى دروس إملاء، فهم يملون على الطلبة ما حضروا، أو يوزعون عليهم مذكرات مختصرة، وكنت أرى في هذا إماتة للروح العملية الجامعية، وإنما المنهج الصحيح إرشاد الطلبة إلى مرجع الدرس ثم إلقاء الأستاذ المحاضرة وتقييد الطلبة بأنفسهم لأنفسهم النقط الهامة مما فهموا واعتمادهم على أنفسهم في ذلك. وعلى كل حال لم أحقق من هذه المطالب الثلاثة ما كنت أتمنى. هذا وقد ترددت طويلا في كتابة هذه الفصول الأخيرة لأن فيها لونا من ألوان التقريظ النفسي، وهو لون لا أحبه وقد لا يحبه القارئ، ولكنني فضلت أن أقوله لأنه — على الأقل — يصور للقارئ عقيدتي في نفسي. وأثناء عمادتي وقع الاختيار علي لأكون عضوا بمجمع فؤاد الأول للغة العربية في عهد وزارة الدكتور محمد حسين هيكل فساهمت في العمل فيه ما أمكنني، وقد شاهدت فيه نوعا من المجتمع من طراز خاص، تسوده — بحكم طبيعته — نزعة المحافظة، وكراهة الثورة والتجديد، والبطء في العمل وكثرة الجدل، ومع هذا فقد فتح لي آفاقا في الوقوف على مشاكلنا اللغوية والأدبية، ومكنني من الإطلاع على كثير من آراء الباحثين والمفكرين. وكانت مأساة العمادة أني فقدت بها صداقة صديق من أعز الأصدقاء وما أقل عددهم. كان يحبني وأحبه، ويقدرني وأقدره، ويطلعني على أخص أسراره وأطلعه، وأعرف حركاته وسكناته ويعرفها عني، ويشاركني في سروري وأحزاني وأشاركه، وكنت هواه وكان هواي، واستفدت من مصادقته كثيرا من معارفه وفنه ووجهات نظره، سواء وافقته أو خالفته، فأصبح يكون جزءا من نفسي ويملأ جانبا من تفكيري ومشاعري، على اختلاف ما بيننا من مزاج، فهو أقرب إلى المثالية وأنا أقرب إلى الواقعية، وهو فنان يحكمه الفن وأنا عالم يحكمه المنطق، وهو يحب المجد ويحب الدوي، وأنا أحب الاختفاء وأحب الهدوء، وهو مغال إذا أحب أو كره، وأنا معتدل إذا أحببت أو كرهت، وهو نشيط في الحكم على الأشخاص وعلى الأشياء وأنا بطيء، وهو عنيف إذا صادق أو عادى، وأنا هادئ إذا صادقت وعاديت، وهو واسع النفس أمام الأحداث، وأنا قلق مضطرب غضوب ضيق النفس بها، وهو ماهر في الحديث إلى الناس فيجذب الكثير، وليست عندي هذه المقدرة فلا أجتذب إلا القليل، وهو في الحياة مقامر يكسب الكثير في لعبة ويخسره في لعبة، وأنا تاجر إن كسبت كسبت قليلا في بطء وإن خسرت خسرت قليلا في بطء، يحب السياسة لأنها ميدان المقامرة وأنا لا أحبها إذ لا أحب المقامرة؛ ولعل هذا الخلاف بيننا في المزاج هو الذي ألف بيننا، فأشعره أنه يكمل بي نقصه وأشعرني أني أكمل به نقصي، جاءت العمادة مفسدة لهذه الصداقة، لأنه — بحكم طبيعته — أراد أن يسيطر وأنا بحكم طبيعتي أردت أن أعمل ما أرى لأني مسئول عما أعمل، ثم ولي منصبا أكبر من منصبي يستطيع منه أن يسيطر على عملي. فأراد السيطرة وأبيتها، وأراد أن يحقق نفسه بأن ينال من نفسي فأبيت إلا أن أحتفظ بنفسي، فكان من ذلك كله صراع أصيبت منه الصداقة، فحزن لما أصابها وحزنت، وبكى عليها وبكيت.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/30/
الفصل الثلاثون
وماتت أمي وأنا أستاذ بكلية الآداب سنة ١٩٣٦ وقد ناهزت الثمانين، وكانت من أسرة من «تلا» بالمنوفية انتقلت إلى القاهرة لأسباب لا أدريها، واشتغل رجالها بالتجارة، فكان خالاي تاجري «عطارة» في الغورية. وكانت أمي طيبة القلب أقرب إلى السذاجة، وكانت — كأكثر نساء وقتها أمية لا تقرأ ولا تكتب، وكانت محبوبة من أهل حارتها لطيب قلبها، وكنت شديد الحب لها والإشفاق عليها، لأنها تألمت كثيرا في حياتها، فقد مات من أولادها وهم في شبابهم، وعاملها أبي معاملة شديدة قاسية، سلبها كل سلطتها وكبت شخصيتها وحرمها دائرة نفوذها، وطغى بشخصيته على شخصيتها، فعاشت كسيرة القلب منقبضة النفس، لا يحملها على البقاء في البيت إلا حبها لأولادها، فكانت تحتمل ذلك كله وتطيل الاحتمال، وتصبر وتطيل الصبر، وتحن علينا، وإذا غضب علينا أبونا احتمينا بحنوها وأنسنا بعطفها. ولهذا لما كان لي من الأمر شيء جهدت أن أريحها وأسعدها وأقضي دينها، وكم كنت أتمنى أن تعيش معي بعد وفاة أبي لأطالع وجهها وأتلقى دعواتها صباح مساء، ولكن صممت أن تكون في حيها بين جيرانها، وخشيت أن ينالها أذى ولو قليل من العداء الطبيعي بين الزوجة والأم، فجاريتها على رأيها وخضعت لمشورتها. فقدتها وأنا كبير ولي زوجة وأولاد، ومع هذا أحسست بفقدها فراغا لم يملأه شيء، وبذلت جهدي في إراحتها، حتى لما هرمت كنت لا أستريح إلى سفري إلى الإسكندرية للتصييف إلا إذا كانت معي، أستبشر كل يوم برؤيتها والجلوس إليها، ومع هذا لا أرى أني قضيت لها بعض دينها، وكانت تبشرني من صغري بأني سأكون أسعد أولادها، لأنها رأت ليلة في منامها أني كنت بجانبها أسير معها، فدخلنا بيتا فتح لنا فيه كنز، وإذا غرف مملوءة ذهبا، فأمرتني أن أملأ حجري منه على عجل فقال لها الملك الموكل بالكنز: لا تعجلي فكل هذا لابنك هذا، ففرحت بهذا الحلم واعتقدت صحته واستبشرت به، وصارت تعيده علي في كل مناسبة وفي جميع أدوار عمري إلى أن ماتت. سخية اليد على قلة ما تملك، لا تعبأ بالمال إلا ما يضمن معيشتها، فلما ركنت إلي ووثقت بي تنازلت عن مالها لأولادها. لم أسمع منها يوما تفكيرا في تدبير مال، ولا شكوى حال، ولا حسدا لغنى ولا اعتراضا على قدر، شأنها في ذلك شأن أخوالي، فليس منهم إلا من عاش عيشة طيبة وكسب كثيرا ومات فقيرا. ساذجة في تفكيرها وفي حديثها وفي تصرفها وفي تصديق كل ما يقال لها. فإن كان لي شيء من عناد وقوة إرادة وجلد على العمل وصبر على الدرس وسرعة غضب وميل إلى الحزن وكثرة تفكير في العواقب، فذلك كله من أبي رحمه الله. وإن كان في شيء من سذاجة، وعدم حرص على مال، وحزن على أني حزين، وحسن ظن بالناس فيما يقولون ويفعلون، وندم على غضب، وسرعة تحول من غضب إلى هدوء ومن سخط إلى رضا، فذلك كله من أمي، رحمها الله. وهل نحن إلا صور جديدة لآبائنا، يعيشون فينا، ويحلون في جسومنا ونفوسنا.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/31/
الفصل الحادي والثلاثون
ترك العمادة وعدت أستاذا وخلت يدي من كل سلطة إدارية، وأتت وزارة لا تعدني من رجالها، فلم يكن لي من شأن في علاوات وترقيات، وليس لي قبول في شفاعات، وإذ ذاك سفرت لي وجوه قبيحة من إنكار الجميل وقلة الوفاء. هذا كان صديقي يوم كنت أستطيع نفعه، فلما سلبت مني هذه القدرة تلمس الوسائل ليكون عدوى، فإن لم يجد أسبابا اختلقها، وإن لم يجد فرصة لإظهار هذه الخصومة تعمد إيجادها، وهؤلاء الذين كانوا يتهافتون على إقامة حفلات تكريم لي يوم انتخبت عميدا، فأرفضها وأرفضها، لم يفكروا في إقامة حفلة وداع يوم تركت العمادة. وهذه التليفونات التي كانت تدق كل حين للسؤال عن صحتي، وطلب موعد لزيارتي، لإظهار الشوق أولا، والاطمئنان على صحتي ثانيا، والرجاء في قضاء مسألة ثالثا، لم تعد تدق إلا للأعمال الضرورية التي ليس منها سؤال عن صحة، ولا إعلان أشواق. وهذا صندوق البريد الذي كان يمتلئ بالخطابات المملوءة بالطلبات والرجاوات أصبح فارغا إلا من خطابات عائلية أو مسائل مصلحية. وهذه أيام الأعياد التي كان يموج فيها البيت بالزائرين من الصباح إلى المساء يهنئون بالعيد، أصبحت كسائر الأيام، أجلس فيها على المكتب فأقرأ وأكتب، ولا سائل ولا مجيب. وهذه صورة للناس لم تكن جديدة علي، فقد قرأت مثلها في المكتب كثيرا، وسمعت عنها في الأحاديث كثيرا، وشاهدتها في غيري كثيرا، ولكن لعل أسوأها أثرا في نفسي ما شاهدته من قلة الوفاء في بعض طلبتي، فقد كنت أعتقد أن الرابطة العلمية فوق كل الروابط، وأن حق الأستاذية فوق كل الحقوق، أما أن طالبا يخرج على أستاذ ويخاصمه، ويقدح فيه بالكذب والأباطيل فشيء لم أكن رأيته، فلما رأيته استعظمته، وحز في نفسي وبلغ أثره أعماق قلبي؛ لم أعد بعد ذلك أثق بالناس كما كنت أثق، ولا أركن إليهم كما كنت أركن، فكانت إذا حدثت فصول من هذا القبيل تكسرت النصال على النصال: وعدت إلى الكتاب فهو أوفى وفي وخير صديق. ها أنا أعود إلى كتبي ومكتبتي، وأبدأ في إعداد الجزء الأول من ظهر الإسلام، والاشتراك في نشر كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، وأضع — مع الأستاذ زكي نجيب — خطة في وضع كتاب قصة الفلسفة اليونانية، ثم قصة الفلسفة الحديثة في جزءين، ثم قصة الأدب في العالم في أربعة أجزاء، وأشارك في تأليفها وإنجازها، وأجد بعد ذلك من الفراغ ما يمكنني من الاشتراك في المجالس العلمية والإشراف على أعمال لجنة التأليف والترجمة والنشر ونحو ذلك — حياة علمية هادئة لذيذة، لا خصومة فيها ولا رجاء فيها ولا أخذ ولا رد فيها. وهذا هو ما يتفق ومزاجي، فأنا لا أحب الجاه بالقدر الذي يجعلني أتحمل متاعب المنصب الإداري وما فيه من ضياع وقت واضطراب بال. وقد كان بجانب عملي العلمي في البحث والتأليف والنشر أن اتجهت اتجاها أدبيا كان امتدادا لما بدأت به في الأيام الأولى من حياتي يوم اشتركت في تحرير السفور، في سنة (١٩٣٣) فكر الأستاذ أحمد حسن الزيات في أن يشترك مع بعض أصدقائه من لجنة التأليف في إخراج مجلة الرسالة، وكنت أحدهم، فكنت أكتب في كل أسبوع — تقريبا — مقالة، وكان هذا عملا أدبيا يلذ نفسي بجانب بحثي العلمي، فأنا كل أسبوع أفكر في موضوع مقال وأحرره، واضطرني ذلك إلى قراءه كثير من الكتب الإنجليزية أستعرض فيها ما يكتب وكيف يكتب، وأعتمد أكثر ما أعتمد على وحي قلبي أو إعمال عقلي أو ترجمة مشاعري، وكانت مقالاتي تتوزعها هذه العوامل الثلاثة. وأكثر ما اتجهت في هذه المقالات إلى نوع من الأدب تغلب عليه الصبغة الاجتماعية والنزعة الإصلاحية، فهذا أقرب أنواع الأدب إلى نفسي وأصدقها في التعبير عني، وخير الأدب ما كان صادقا يعبر عما في النفس من غير تقليد، ويترجم عما جربه الكاتب في الحياة من غير تلفيق، ولقد اطمأننت إلى هذا النوع من الكتابة، إذ كان يفتح عيني للملاحظة والتجربة. ويسري عن نفسي بالإفراج عما اختزنته من حرارة. فكنت أشعر بعد كتابة المقالة كما يشعر المحزون دمعت عينه أو المسرور ضحكت سنه. وكنت أحس كأن نحلة تطن في أذني لا تنقطع حتى أكتب ما يجيش في صدري، فإذا استولى موضوع المقالة على ذهني فهو تفكيري إذا أكلت أو شربت، وحلمي إذا نمت؛ وعمل لاوعيي الباطن إذا شغلت، ولهذا انقلبت هذه الظاهرة إلى عادة، ومن عادة إلى (كيف) متسلطن كما يشعر مدمن الدخان أو مدمن الخمر. ولي تجربة في هذا الباب؛ وهي أني إذا عمدت إلى إعداد بحث علمي كفصل من فصول فجر الإسلام أو ضحى الإسلام فأنا أرى كل وقت صالح لهذا العمل ما لم أكن مريضا، أما في المقاولات الأدبية فلست صالحا في كل وقت، بل لابد أن تهيج عواطفي بعض الهياج، وتهتز نفسي بعض الاهتزاز، وأنسجم مع الموضوع كل الانسجام، فإذا لم تتيسر لي كل هذه الظروف كنت كمن يمتح من بئر أو ينحت من صخر. وأحيانا أرى القلم يجري في الموضوع حتى لا أستطيع أن أوقفه، وأحيانا يسير في بطء وعلى مهل حتى لا أستطيع أن أستعجله، وأحيانا يتعثر فلا أجد بدا من الإعراض عن الكتابة. ومن الصعب تعليل ذلك، فقد يكون سببه صلاحية المزاج وسوءه، وقد يكون قوة الدواعي وضعفها، وقد يكون الاستعداد للتجلي وعدمه. واعتدت منذ أول عهدي بالقلم أن أقصد إلى تجويد المعنى أكثر مما أقصد إلى تجويد اللفظ، وإلى توليد المعاني أكثر من تزويق الألفاظ، حتى كثيرا ما تختل (ضمائري) فأعيد الضمير على مؤنث مذكرا وعلى مذكر مؤنثا، لأني غارق في المعنى غير ملتفت إلى الألفاظ، ولا أتدارك ذلك إلا عند التصحيح، وقد يفوتني ذلك أيضا. ولتقديري للمعنى أميل إلى تبسيطه، حتى لأسرف أحيانا في إيضاحه، لشغفي بوصوله إلى القارئ بينا ولو ضحيت في ذلك بشيء من البلاغة. وقد تعودت من الأدب الإنجليزي الدخول على الموضوع من غير مقدمة، وإيضاح المعنى من غير تكلف، والتقريب — ما أمكن — بين ما يكتب الكاتب وما يتكلمه المتكلم، وعدم التقدير للمقال الأجوف الذي يرن كالطبل ثم لا شيء وراءه. ومن حبي للإيضاح أفضل اللفظ ولو عاميا على اللفظ ولو فصيحا إذا وجدت العامي أوضح في الدلالة وأدق في التعبير، وأفضل الأسلوب السهل ولو لم يكن جزلا إذا وجدت الأسلوب الرصين يغمض المعنى أو يثير الاحتمالات، ويدعو إلى التأويلات. ومن أجل هذا تشكك في بعض الأدباء: هل يعدونني أديبا أو عالما! ولم أقم لهذا الشك وزنا، فخير لي أن أصدق مع نفسي ومع غرضي ومع ميلي من أن أزوق أسلوبي وأكذب على نفسي ليجمع الناس على أدبي. وقد اعتدت — عند كتابة مقال — أن أرسم الموضوع إجمالا لا تفصيلا، وإذا رسمته أبحت لنفسي أن أغيره وأبدله إذا جد جديد. وكثير من المعاني التفصيلية تأتي وأنا أكتب لا وأنا أفكر قبل أن أكتب، ولهذا لما أصبت في عيني ونهاني الأطباء عن الكتابة زمان صعب علي الإملاء، ولم أجد من غزارة المعاني ما كنت أجد عند مزاولة الكتابة بنفسي. ظللت أكتب المقالات في مجلة «الرسالة» فلما حالت الحوائل دون الاستمرار فيها أخرجت لجنة التأليف مجلة «الثقافة» وعهدت إلي أن أكون مديرها، فكنت أقرأ أكثر ما يرد إليها من مقالات وأحرر فيها مثل ما كنت أحرر في «الرسالة». وكان خيرا لي لو جربت قلمي في أنواع الأدب الأخرى غير المقال لأجرب ملكاتي وأقف على موضع القوة أو الضعف فيها، كالقصة مثلا، وقد عالجت ذلك في بعض الأحيان ولكني لم أستمر فيه، وكان من الخير أن أستمر وأنتقل من القصص القصيرة إلى القصص الطويلة، فإما نجحت وإما أخفقت، ولكن فات الأوان. وبعد أن كتبت هذه المقالات في «الرسالة» و«الثقافة» طلب إلي أن أكتب في مجلات أخرى: الهلال والمصور وغير ذلك ففعلت، ولما كثرت مقالاتي جمعت بعض ما كتبت وزدت عليها وأودعتها ثمانية أجزاء سميتها «فيض الخاطر». وعلى هامش هذا طلب إلي أن أذيع أحاديث في محطة الإذاعة فأذعت، وكانت أحاديثي أشبه ما تكون بمقالاتي من حيث موضوعاتها وأسلوبها، إلا أنني تعمدت في هذه الأحاديث أن تكون أسهل موضوعا وأبسط تعبيرا، ونزلت في ذلك إلى أن دنوت من العامية لتناسب جمهور السامعين، ولم أر في ذلك بأسا بل لقد هممت أحيانا أن أتحدث بالعامية لأني أرحم الأميين وأشباههم ألا يكون لهم غذاء عقلي يستمتعون به. وأكره من الأدباء أرستقراطيتهم، فلا يكتبون إلا للخاصة ولا يتفننون إلا لهم. وواجب الأدباء أن يوصلوا غذاءهم إلى كل عقل، ونتاجهم الفني إلى كل أذن، فإذا لم يفعلوا فقد قصروا. وقد لفت نظري لهذا مرة أن حضر إلى مصر رجل كبير من مسلمي الصين، فتقابلنا مرارا وتحدثنا كثيرا، وفي مرة عرفته بالأستاذ توفيق الحكيم، وقلت له إنه أديب كبير، فسألني هل هو أديب شعب أو أديب أرستقراطي؟ فرن السؤال في رأسي، فلما قلت له هو أديب أرستقراطي، سألني: فمن من أدبائكم شعبي؟ فحرت جوابا، وآلم نفسي ألا يكون لجمهور الشعب أديب، وكثيرا ما شغلت ذهني مشكلة العلاقة بين اللغة الفصحى واللغة العامية وأن صعوبة اللغة الفصحي — ولاسيما من ناحية الإعراب — تحول دون انتشارها في جمهور الشعب وبخاصة إذا أردنا مكافحة الأمية وتعميم التعليم، فنحن لو أردنا تعميم التعليم بين الجماهير باللغة الفصحى المعربة احتجنا إلى زمن طويل، ولم نتمكن من إجادة ذلك كما نتمكن إلى اليوم من إجادة تعليم المثقفين إياها. فطلبة المدارس يقضون تسع سنين في التعليم الابتدائي والثانوي وأربع سنين في الجامعة ثم لا يحسن أكثرهم الكتابة والقراءة، وكثيرا ما يلحنون في الإعراب. ومن أجل هذا اقترحت في بعض مقالات نشرتها وفي محاضرة في المجمع اللغوي أن نبحث عن وسيلة للتقريب، واقترحت أن تكون لنا لغة شعبية ننقيها من حرافيش الكلمات (على حد تعبير ابن خلدون) ونلتزم في أواخر الكلمات الوقف من غير إعراب، وتكون هي لغة التعليم ولغة المخاطبات ولغة الكتابة للجمهور؛ ولا تكون اللغة الفصحى المعربة إلا لغة المثقفين ثقافة عالية من طلبة الجامعة وأشباههم، وإلا الذين يريدون أن يطلعوا على الأدب القديم ويستفيدوا منه وبهذا تكسب اللغة العامية والفصحى معا، فاللغة الفصحى الآن لا تتغذى كثيرا من استعمال الكلمات اليوم، وهذا الاستعمال اليومي في الشارع وفي البيوت وفي المعاملات من طبيعته أن يكسب اللغة حياة أكثر من حياتها بين الدفاتر، وفي الأوساط الخاصة، ويكسب اللغة العامية رقيا يقرب من الفصحى، وهو يمكننا من نشر الثقافة والتعليم لجمهور الناس في سرعة، ويمكننا من تقديم غذاء أدبي لقوم لا يزالون محرومين منه إلى اليوم. وهو إجرام كبير كإجرام حبس البريء وتجويع الفقير، ولكن هذا الاقتراح لقي معارضة شديدة بل وتجريحا عنيفا.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/32/
الفصل الثاني والثلاثون
انتدبت — وأنا أستاذ بكلية الآداب — مديرا للإدارة الثقافية بوزارة المعارف وكان ذلك سنة ١٩٤٥، ووزير المعارف إذ ذاك الدكتور عبد الرزاق السنهوري، وهي إدارة ليس لها أول يعرف ولا آخر يوصف، واختصاصها واسع سعة لا حد لها لمن شاء أن يعمل، وضيق أشد الضيق لمن شاء ألا يعمل، ومن اختصاصها النظر في الأساتذة الذين يندبون إلى الأقطار العربية، والطلبة الشرقيين حين يريدون الدخول في المدارس المصرية، وتنظيم العلاقة بين مصر والبلاد الشرقية والبلاد الأجنبية في الشئون الثقافية، وتنظيم الإذاعة المدرسية، وتنظيم الحياة الاجتماعية للطلبة خارج المدرسة، واستخدام السينما في الثقافة وغير ذلك. وقد نشأت عندي فكرة لا أدري من أين نبتت، فقد لاحظت خطأ وزارة المعارف في قصرها جهودها على التعليم داخل جدران المدرسة، مع أن في عنقها تثقيف الشعب بأجمعه في المدارس وغير المدارس بالصور المختلفة، وخطأ آخر وقعت فيه وهو فهمها أن نشر الثقافة لا يكون إلا بواسطة تعليم القراءة والكتابة، مع أنه يمكن نشر الثقافة بواسطة السمع، وبواسطة عرض الأشرطة السينمائية على الناس ونحو ذلك من وسائل من دون القراءة والكتابة؛ وقد كنت قرأت نتفا عن تعليم الكبار في الممالك الأجنبية، فعكفت — أنا وشابان ممن يعملون معي في الإدارة الثقافية — على قراءة الكتب التي تصف النظم التي اتبعت في هذا السبيل، فنحن نجتمع كل يوم عصرا في حجرة متواضعة في لجنة التأليف والترجمة، نقرأ ونترجم وندرس ونبحث: أي هذه النظم يصلح لمصر، وأيها لا يصلح، ونضع تقريراً مفصلا عن هذه الفكرة التي سميناها. «الجماعة الشعبية»، والتي سميت فيما بعد «بمؤسسة الثقافة الشعبية»، يشتمل على نوع من الطلبة والطالبات الذين تلقي عليهم المحاضرات من غير تقييد بسن ولا رغبة في شهادة ولا امتحان عند الدخول، كما يشتمل على شعب الدراسة من دراسة مهنية ودراسة نظرية وبرنامج مائع لكل هذا، يمكن تحويله حسب الظروف والمناسبات، فإذا جدت مسألة فلسطين مثلا ألقيت محاضرات عن فلسطين، وإذا جدت رغبة في تعلم الآلة الكاتبة أنشأنا لها فرعا. ومن حيث الإدارة فقد اقترح لها مجلس إدارة من خيار الرجال في مصر للإشراف عليها. ومن حيث المكان، فمدارس وزارة المعارف والورش الصناعية والميكانيكية أمكنة للجامعة الشعبية، ومدارس البنات أمكنة لتعليم البنات والسيدات. ومن حيث مدرسوها ومدرساتها، فكل المدرسين والمدرسات بوزارة المعارف صالحون لأن نختار منهم أساتذة الجامعة الشعبية. ومن حيث الزمان فهو في المساء من الخامسة إلى الثامنة. وعرض كل هذا على وزير المعارف فقبله وشجع الفكرة، ورصد لها نحو عشرة آلاف جنيه للبدء بها، وأدخلت في خطاب العرش، وأصبحت حقيقية بعد أن كانت خيالا، وأعلن عن الجامعة الشعبية وشعبها، فكثر الإقبال عليها ونجحت نجاحا يدل على أن حاجة الناس كانت ماسة إليها، وكلما ظهرت فيها بعض العيوب تدوركت بقدر المستطاع، واتسعت شيئا فشيئًا، وزادت ميزانيتها شيئًا فشيئا، وبعد أن اقتصرت الفكرة أول أمرها على القاهرة عممت في سائر الأقاليم تقريباً، وأصبح موظفو السينما ينتقلون إلى العمال والفلاحين في القرى وإلى المصانع، يعرضون الأفلام الثقافية، ومعهم بعض المحاضرين، وترى فيها الموظف الكبير والعامل الصغير يدرسان جنبا إلى جنب فنا جديدا، وترى السيدة وبنتها بجانبها تتعلمان تدبير المنزل، والطبخ والخياطة وما إلى ذلك. ولم يمض إلا قليل حتى أصبح عدد الطالبين والطالبات فيها يتجاوز سبعة عشر ألفا، وأصبحت ميزانيتها نحو سبعين ألفا. ومع هذا نرى أننا إذا قسنا أنفسنا ببعض الممالك الأخرى لا نزال في حرف الألف. وعنيت وأنا في الإدارة الثقافية هذه بتشجيع ترجمة أمهات الكتب الغربية إلى اللغة العربية، فكان هذا العمل نواة توسعت فيها الوزارة فيما بعد.. إلى غير ذلك. ولكني لم أعتز بشيء اعتزازي بابنتي العزيزة الجامعة الشعبية، ولذلك لما تخليت عن الإدارة الثقافية بعد سنة تقريباً كان لي شرف الاحتفاظ برياسة مجلس إدارتها إلى اليوم. فلما مرضت المرض الأخير، استقلت من رياسة مجلس إدارتها وصممت على الاستقالة وتخففت من كثير من اللجان. وأرسل إلي وزير المعارف إذ ذاك بكتاب، جاء فيه: «كنت أود أن تحظى المؤسسة بجهودكم الطيبة، وآرائكم السديدة ولكني اضطررت عملا بنصح أطبائكم أن أقبل استقالتكم مع الأسف الشديد». «وإني أنتهز هذه المناسبة فأشكر لعزتكم ما قدمتم للثقافة عامة ومؤسسة الثقافة خاصة من عمل طيب وجهد مشكور راجيا لكم حياة سعيدة وصحة كاملة موفورة». وأخاف أول الأمر والطائرة ترتفع وتضطرب، ودليل الطائرة يقول: إننا على ارتفاع ألفي قدم، ثم يقول أربعة آلاف ثم يقول ستة آلاف إلى ثمانية آلاف، لكن بعد أن استوت الطائرة وملكت زمامها في الجو اعتدناها واطمأنت نفوسنا بعض الشيء إليها، ورأيت من بجواري فيها من كبار رجال السياسة وممن اعتادوا ركوب الطائرات وضعوا رءوسهم على مقاعدهم وناموا نوما هادئا مطمئنا كأنهم في غرفة نومهم، فاطمأننت بنومهم، ولكني لم أستطع أن أسير سيرتهم، فلم تذق عيني النوم إلا إغفاءة غفوتها بين مالطة وباريس. ونزلت الطائرة لندن بعد سبع عشرة ساعة، فما أضعف الإنسان وأقواه، وما أقدره وما أعجزه!. وأجد نفسي في جو سياسي لم أعتده، بين كبار الساسة من العرب يتناقشون ويتجادلون على غير النمط الذي ألفته في مجالس الكليات ومجلس الجامعة، فهم يراعون اعتبارات ونزعات واتجاهات لا يراعيها العالم، فأسمع أكثر مما أتكلم، ولا أشترك في المناقشة إلا بقدر، ولا أبدي الرأي إلا في المسائل الهامة. ثم أنتقل خطوة أجرأ، فأنا والممثلون العرب على المائدة المستديرة أمام مستر بيفن وزير الخارجية البريطانية وأمام وزير المستعمرات والمختصين بالأمور الشرقية في إنجلترا، نتبادل الخطب والآراء ونستمر على ذلك أياما، ثم تشكل لجنة صغيرة من ممثلي العرب وممثلي الإنجليز، يضعون مشروع اتفاق ونستشار في كل خطوة من هذا الاتفاق، حتى إذا فرغت اللجنة عرض الاتفاق على الهيئة العامة من الإنجليز والعرب، فإذا بنا نسمع من الإنجليز أنهم عرفوا وجهة نظرنا وعرفنا وجهة نظرهم، وسيبحثون الأمر فيما بعد، وسيخبروننا بالنتيجة وسيدعوننا إذا دعت الحال، ومع السلامة!! كانت هذه الرحلة كبيرة الأثر في نفسي، فقد استطعت أن أخلو في لندن إلى أصدقاء لي ممن خبروا إنجلترا خبرة طويلة وأقاموا فيها زمنا طويلا قبل الحرب وأثناء الحرب وبعد الحرب؛ فأصغيت إلى حديثهم في شئون إنجلترا الاجتماعية وتطورها وما فعلت الحرب فيها، ورأيت كبار الإنجليز وسمعت أقوالهم، وأصغيت إلى تفكيرهم، فإذا هم ناس كسائر الناس، وعقليتهم كسائر العقليات، مزيتهم في اعتمادهم على الاختصاصيين الذين تخصصوا في كل موضوع وعرفوا دقائقه، فإذا جد أمر استعانوا بهؤلاء الخبراء وأصغوا إلى نتيجة خبرتهم وكونوا من ذلك آراءهم، وأكبر ما يمتازون به علينا توزيع الاختصاص، والنظام الدقيق، وثقة الكبير بالصغير والصغير بالكبير، ومعالجتهم الأمور معالجة علمية منظمة، فكل شيء مدروس ولا شيء مرتجل، والغرض محدود وأساليبه مرسومة، لا ارتجال ولا فوضى ولا تفكير عفو الساعة. كما أعجبني بالشعب ديمقراطيته الحقة، فكل إنسان ينظر إليه على أنه إنسان كبيرا كان أو صغيرا، ولا يحق للوزير أن ينال شيئا يمتاز به عن الصانع الصغير؛ هذا وزير خارجية إنجلترا يلبس قميصا بليت ياقته، وهذا وزير المستعمرات يقول في بعض أحاديثه معنا: إنه لم يشتر بدلة جديدة منذ نشوب الحرب، وهذا الوزير الكبير يذهب بطبقه وسكينته وشوكته وفنجانه ليأخذ الشاي، وهذا وكيل وزارة يشهر بزوجته لأنها أخذت قنطارا من الفحم زائدا عن سائر الناس وإن كانت في حاجة إليه لأنها تسكن بيت مهجورا مرطوبا يحتاج إلى نار أكثر لتذهب برطوبته. وهذه «الطوابير» المنظمة في كل شيء لا يحق لأحد فيها أن يتقدم من قبله، والموظف الكبير يقف وراء العامل الصغير حتى يأتي دوره، وهذه الاشتراكية قد بلغت في الحياة الاجتماعية مبلغا كبيرا: فرفع مستوى العمال وطبق العدل الاجتماعي تطبيقا دقيقا، وعلا مستوى المعيشة للفقراء، وكثرت الضرائب على الأغنياء حتى لا يستطيع غني مهما كان أن يربح في العام أكثر من خمسة آلاف جنيه تقريبا، فاستوى الجميع في الحقوق والواجبات، وقلت الفروق بين الطبقات. حياة هادئة منظمة ومريحة، فإن أنا نظرت إلى الشعب وأخلاقه وسلوكه سررت وأعجبت، وإن أنا نظرت إلى السياحة الخارجية وما يفعل الاستعمار الإنجليزي في الشرق ألمت وتقززت. وخطفت رجلي بعد ذلك فذهبت مع بعض أصدقائي إلى سويسرة، نعمنا بمناظرها الطبيعية أياما، ومنها إلى مرسيلية ننتظر الباخرة أياما، ونخرج كل يوم إلى ضاحية من ضواحيها فننعم بشمسها ودفئها ومناظرها، ثم نعود إلى مصر، وقد كسبنا كل شي إلا ما يتصل بفلسطين.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/33/
الفصل الثالث والثلاثون
وأحلت إلى المعاش بعد أن بلغت سن الستين، وكم كنت أتمنى أن أخرج من وظائف الحكومة وأنا في غير سن الكهولة لأعمل حرا؛ لا تقيده اللوائح والقوانين، ولا يطبع بطابع الموظفين، ولكن لم يكن لي من الشجاعة ما أرفض به الوظيفة و«الولد مجبنة مبخلة» وربما كان السبب أيضا أن وظيفة الأستاذ في الجامعة من أبعد الوظائف عن السلطة الحكومية، وأنها تتفق مع مزاجي إذا خلت من الصبغة الإدارية واقتصرت على الاتصال بالكتب والاتصال بالطلبة. على كل حال بقيت في الوظيفة إلى الستين، وخفت من الفراغ الذي سأقابله إن خلصت من الوظيفة ففكرت ماذا أعمل: فكرت أن أكون هيئة لنشر الكتب القديمة، أستقل بالعمل فيها، ويكون لي ربحه المادي والأدبي أو خسارته، ولكن حال دون ذلك اتصالي بلجنة التأليف والترجمة وإشرافي عليها أكثر من ثلاثين عاما، فعمل اللجنة من جنس ما أنوي أن أعمل، ولكنه مقيد بمجلس إدارة قد يقيد حريتي فيما أنشر، ويسألني عن عملي هل خسر أو ربح وأنا أريد عملا لا يسألني عنه أحد، وعرضت على زملائي في لجنة التأليف أن أستقيل فأبوا، ولم يكن عندي من الحماسة ما يجعلني أصمم على الانفصال، وبقيت في اللجنة أشرف عليها وهي عزيزة علي، فقد صحبتها منذ أول عهدي بالشباب، وصارت جزءا من نفسي، نمت بنموي وإن لم تشخ شيخوختي — استفدت منها تجارب كثيرة في التأليف والترجمة والطبع والنشر ومتى تروج الكتب ومتى لا تروج، وعلاقتنا بالعالم العربي من حيث تصريف الكتب وما إلى ذلك. وحازت اللجنة ثقة الناس بما تخرج، إذ لا تقدم على طبع كتاب حتى يقرأه الخبيرون ويقروا صلاحيته، كما اكتسبت من زملائي في اللجنة آراء قيمة، إذ كانت اللجنة بجانب إنتاجها العلمي والأدبي منتدى يجمع الأصدقاء والزائرين وبخاصة في مساء الخميس من كل أسبوع، تطرح فيه الموضوعات المختلفة حيثما اتفق، وتتبادل الآراء من ثائرين ومعتدلين ومحافظين، ويتحدث المجتمعون عما طالعوا من كتب وما عرض لهم من آراء، أو تتبادل فيه الشكوى من حالة الشرق وعيوب المجتمعات، وما إلى ذلك من أحاديث ممتعة طريفة. وقد نمت اللجنة نموا مطردا من حيث أعضائها، إذ تجاوزوا الثمانين من خيرة رجال مصر، ومن حيث إنتاجها إذ بلغ ما أخرجته أكثر من مائتي كتاب، ومن حيث ماليتها إذ بلغ ما تملكه من كتب في مخازنها ومال في مصرفها آلاف الجنيهات. وكانت أول مؤسسة في الشرق للتأليف والترجمة والنشر، ثم حذت هيئات كثيرة حذوها، وأنشئت الدور المختلفة في الشرق لهذا الغرض، وفاقها بعضها من الناحية التجارية والمالية وإن لم يفقها من الناحية العلمية. عدلت إذن عن إنشاء مكتب للنشر — وفي ليلة من ليالي رمضان سنة ١٩٤٦ — وكنت أصيف في الإسكندرية — أتتني دعوة من المرحوم النقراشي باشا لأقابله في مصيف في محطة فكتوريا برمل الإسكندرية، فذهبت إليه فعرض علي أن أكون رئيس تحرير جريدة يريدون إنشاءها لتكون لسان حزب السعديين وهي جريدة «الأساس»، فاعتذرت في الحال محتجا بأني لم أشتغل بالصحافة إلا على هامشها، وفرق بين صحيفة أدبية كالثقافة وصحيفة سياسية كالأساس، ثم هذا العمل يتطلب انغماسا في السياسة إلى الأعماق وقد كرهت العمل فيها من قديم، ثم هو يتطلب الكتابة في تأييد الحزب تأييدا مطلقا، والخضوع لآراء قادة الحزب وأفكارهم، ومهاجمة الآراء المعارضة وتوهينها والحط من شأنها، وهذا ما لم أرتضه لنفسي في حياتي، فقد تلونت باللون العلمي الذي يبحث الأمر وهو على الحياد، ثم يرتقب النتيجة كائنة ما كانت، وليس هذا منهج السياسة الحزبية؛ وأخيرا هذا العمل يتطلب سهرا بالليل ونوما بالنهار، ومقابلة زيد وعمرو وتلقي الأفكار من زيد وعمرو وهو عمل لا أرتضيه ولا تحتمله صحتي، فقال رحمه الله إنك تسرعت في الحكم، وخير أن تفكر يومين أو ثلاثة في الأمر، فقبلت وفكرت ثم قابلته ورفضت. واكتفيت أن أعمل الأعمال التي لا تتطلب جهدا عنيفا، فأنا أعمل في لجنة التأليف وفي الجامعة الشعبية وفي دار الكتب وفي المجمع اللغوي وفي اللجان المختلفة التي أنا عضو بها، وإلى جانب ذلك أستمر في الكتب التي أؤلفها والمقالات التي أنشرها، والأحاديث التي أذيعها. ولم ألبث إلا قليلا حتى عرض علي أن أكون مديرا للإدارة الثقافية في الجامعة العربية، فقبلت بكل سرور، لأنه عمل ثقافي من جنس عملي، ومحقق لرغبتي في السعي للتعاون العلمي بين الأقطار العربية. فأنا وإخواني في الإدارة الثقافية ننشئ معهدا للمخطوطات نريد به أن نصور كل المخطوطات القديمة في العالم على أفلام صغيرة ونشتري الآلات اللازمة لذلك، ونصور أهم المخطوطات في دار الكتب وفي الجامعة المصرية وفي بلدية الإسكندرية وفي سوهاج ونبعث لتصوير المخطوطات في الشام ولبنان، وأخيرا نبعث بعثة إلى الآستانة لتصوير جزء كبير من مخطوطاتها القديمة وهكذا، ونضع خططا للتعاون الثقافي عن طريق ترجمة الكتب القيمة، وعن طريق السينما والإذاعة.. إلخ. ونفتتح عملنا أيضا بالتحضير لمؤتمر ثقافي يبحث في مناهج اللغة العربية والجغرافيا والتاريخ والتربية الوطنية في الأقطار العربية والقدر المشترك الذي ينبغي أن يوحد بينها والقدر الذي تستقل به كل أمة. وقد تم تحضير هذا المؤتمر وتحضير مؤتمر آخر للآثار الشرقية في بضعة أشهر، وعقد المؤتمر الثقافي في بيت مري في لبنان في صيف سنة ١٩٤٧ ومؤتمر الآثار في دمشق عقبه مباشرة، وقد كنت في هذين المؤتمرين أغبط نفسي على نشاطي وحركتي واشتراكي الجدي في العمل.. وتحاول هذه الإدارة الثقافية أن تنشئ متحفا للثقافة فتتمه، وأن تستخدم السينما والإذاعة في التقريب بين العالم العربي، كما تحاول أن تنشئ علاقة متينة بينها وبين اليونسكو في الشئون الثقافية وبخاصة ما يتعلق منها بالعرب. وفي هذه الآونة انتقلت من مسكني بمصر الجديدة الذي سكنته أكثر من عشرين عاما إلى مسكني في الجيزة ليكون أبنائي قريبا من الجامعة.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/34/
الفصل الرابع والثلاثون
ويوماً من الأيام، وكل شيء يسير على طبيعته والحياة تجري على سنتها، والآمال مفتحة كعادتها، والعمل يتبع نهجه المألوف، فأنا عاكف على القراء والكتابة والدرس والتحصيل والإنتاج، وإذا بي فجأة أرى كأن نقطة سوداء على منظاري، فأظنها أول الأمر نقطة ماء سقطت عليه فأمسحها، ثم أضعه على عيني فأرها كما كانت. وإذا العيب في العين وليس في المنظار، واليوم يوم وقفة عيد الأضحى والناس حتى الأطباء في شغل بأمر العيد، فأبحث عن طبيب فلا أجده ثم أعثر عليه بعد لأي. هذا هو الطبيب يكشف على عيني وأنا واجف من النتيجة خائف أترقب، والطبيب يفحص ويطيل الفحص بأدواته، ثم تظهر في وجهه ملامح الكآبة ولا يلبث أن يقول: – خير لي أن أصارحك أن المرض انفصال الشبكية. – هل لها من دواء يا دكتور؟ – لا دواء إلا عمل عملية. – هل هي قاسية؟ – نعم، إنها تحتاج إلى شهر ونصف أو شهرين مغمى العينين، متخذا وضعا واحدا. اضطربت لهذا النبأ وأحسست خطورة الموقف. وأكبر ما جال في نفسي شعوري بحرماني من القراءة والكتابة مدى طويلا، وأنا الذي اعتاد أن تكون قراءته وكتابته مسلاته الوحيدة. ولكن كثيرا ما يخطئ الطبيب فيشخص المرض على غير حقيقته، فلعله واهم. ولعله أخطأ التشخيص، وكثيرا ما يحدث، وكثيرا ما نسمع الأحاديث عن أطباء شخصوا فأخطئوا التشخيص وعالجوا فأساءوا العلاج، فلأذهب إلى طبيب ثان وثالث من كبار الأطباء حتى أستيقن المرض، وهكذا فعلت، ولكن — مع الأسف — كلهم أجمعوا على التشخيص وطريق العلاج. بدأ الطبيب المعالج يباشر علاجه: فها أنا في المستشفى والطبيب يعصب عيني قبل العملية بأسبوع، وها أنا ذا في ظلام حالك ليل نهار، دنياي كلها ليل، بل أكثر من ليل، فالجلسة محرمة، والتقلب على الجوانب محرم، كأني قد شددت على السرير شداً، بل أصعب من الشد، لأن إرادتي هي التي تشدني، فاحتملت في صبر، وبدأت أفكر في الدنيا وهوانها وسخافة الناس الذين يشغلون أنفسهم بالتافه من أمورها، ويتحاربون ويتشاجرون على الحقير من متعها، وهي عرضة في كل وقت للزوال، ولو عقلوا لما تخاصموا ولا تحاربوا وكانوا إخوانا متحابين متعاونين، يأخذون الأمور بهوادة وحكمة وحسن تقدير وتفكير في العواقب. حاولت أن يكون ظلامي مضيئًا، فلئن حرمت النور من العينين فليستنر قلبي، ولئن حرمت نور البصر فلتضئ بصيرتي، ولكن كنت أنجح في هذا حينا وأخفق أحيانا، فقد اختلف الإلف والعادة وكنت أشعر دائما أن العينين هما الكوتان اللتان تطل منهما نفس الإنسان على الدنيا، فإذا عدم النظر فقد أغلقت الكوتان، وحبست نفس الإنسان؛ وأحيانا كنت أتردد بين الأمل في عودتي إلى ما كنت عليه وأن تجري الأمور في المستقبل القريب كما جرت في الماضي، فأشعر بالطمأنينة والراحة، وبين اليأس والخوف من الظلام الدائم، فيستولي علي الفزع والهلع؛ وأرهب ما يكون إذا تقدم الليل وانقطع الزوار وانصرف الأهل، ونام الناس، واعتراني القلق، وشعرت بالوحدة، واستولت علي الأفكار المظلمة، فاجتمع علي ظلام الليل وظلام النفس. أستجدي النوم فلا يجدي، وأفزع إلى الأفكار المطمئنة فلا تسعف، وأعد ساعة الجامعة بالقرب مني ربعا فربعا، وتغفو عيني غفوة فأظن أن الليل انقضى ببؤسه وشقائه، ثم أتسمع إلى حركة الشارع لعلي أتبين منها قرب النهار، فأسمع حركة عربات وسيارات ومارة، فأتساءل: هل الناس عائدون من آخر سهراتهم أو هم مستقبلون لبدء نهارهم؟ وهل هذه الحركة حركة متأخرة، أو حركة مبكرة؟ وأظل في هذا الشك زمنا بين رجاء أن يكون الصبح وخوف أن يكون الليل، وإذا بالساعة تدق الحادية عشرة أو الثانية عشرة، فأجزع من أني مقبل على ليل ليس له آخر، وأنشد مع الشاعر: وأعزي النفس بأن حولي في الحجر المجاورة في المستشفى مرضى يتألمون ولا أتألم، ويستغيثون ولا أستغيث، وأن بهم جروحاً ولا جروح بي، ولكن سرعان ما تذهب هذه التعزية لأن الآلام متنوعة، وقد يكون ألم النفس أشد وقعا من ألم الجسم. لم يكن لي من العزاء أحسن من الإيمان، فهو الركن الذي يستند إليه المرء في هذا الوقت الرهيب، ومن دونه يشعر كأن الهاوية تحت قدميه. لو أدرك الناس هذا ما ألحدوا، فالإلحاد جفاف مؤلم، وفراغ مفزع، ومحاربة للطبيعة الإنسانية التي فطرت على الشعور بإله، والارتكان عليه والأمل فيه، وإلا كانت الحياة جافة فارغة مفزعة منافية للطبيعة. وكان من المصادفة الحسنة أن حضر إلي أحد أبنائي الأوفياء وأحب أن يسليني بالقراءة لي بعض الوقت، فكان مما اختاره لي كتاب «اعترفات تولستوي» فوقع في نفسي موقعا جميلا، إذ رأيته يصور حياته وقد ركن أول الأمر إلى العقل وحده، وإلى العقل الواقعي لا غير، فأسلمه الاعتماد على المقدمات المنطقية المادية وحدها إلى الإلحاد، وعد الدين خرافة من الخرافات، ولكنه شعر بعد حين بأن الحياة لا قيمة لها وأنها فارغة من المعاني. إن هذه الحياة المادية التي تركن إلى العقل الجاف وحده لا تستطيع أن تجيب عن الأسئلة الآتية: ما قيمة الحياة؟ ما الذي يربط بين الحياة المادية المحدودة وبين الأبدية؟ وما الذي يربط بين حياة الإنسان الجزئية والإنسانية الكلية؟ إلى مثل هذه الأسئلة فكان لا يجد في قضايا العقل وحدها جواباً، وساءت نفسه وأظلم تفكيره، وأدرك أن الحياة على هذا الوضع نكتة سخيفة، وأنها لا تستحق البقاء، وحاول الانتحار مرارا، وفي كل ذلك كان يهزأ بالدين، ولا يريد أن يتجه إلى التفكير فيه؛ وأخيراً بعد الشقاء الطويل والعذاب الأليم اتجه إلى الدين لينظر كيف يحل الجزئية بالكلية، والنفس الفردية بالإنسانية، فاطمأنت نفسه وانقلب متدينا. فكان في هذا الكتاب عزاء لنفسي ومجال لبعض تفكيري، وقارنت بين موقف تولستوي وموقف الغزالي، فقد كنت قرأت له كتاب «المنقذ من الضلال»، وكان مما حكى عن نفسه أنه مر بمثل هذا الدور؛ شك في كل التقاليد الدينية، واستعرض المذاهب المختلفة في الدين، وأحب أن يركن إلى الفلسفة وحدها فلم تسعفه، وإلى تعاليم الباطنية فلم يطمئن إليها، واستولى عليه الشك حتى غمره، ووقع في أزمة نفسية حادة، واحتقر سخافات الناس في التخاصم على المال والجاه والمنصب فنفر من كل ذلك. وأخيرا بعد أن استحكمت أزمته النفسية وأخذت منه كل مأخذ مرض مرضا شديدا، ولا أشك في أن مرضه الجسمي كان نتيجة لمرضه النفسي، ثم أفاق قليلا قليلا وإذا هو يخرج من هذه الأزمة كما خرج منها تولستوي متدينا بالقلب لا بالمنطق، وبالشعور النفسي الغريزي لا بالمقدمات الفلسفية، وإن كان الفرق بينهما أن تولستوي آمن بعد إلحاد والغزالي آمن إيمان كشف بعد إيمان تقليد بينهما فترة شك. ويأتي الطبيب بعد خمسة عشر يوما من العملية فيذكر لي أنه سيكشف عن قاع العين غدا، فأسأله: ما هي الاحتمالات المنتظرة؟ فيقول: هناك احتمالان: إما أن تكون أعصاب العين لم تقو على الالتحام، وإذ ذاك تكون العملية قد أخفقت، وإما أن تبدأ في الالتحام فيكون هناك الأمل في النجاح. أربع وعشرون ساعة تساوي أربعة وعشرين شهرا أو تزيد، انتظار للخيبة أو الرجاء، وتردد بين اليأس والأمل، ثم لا ينفع بعد ذلك أيضا إلا الإيمان. أحيانا أقول للنفس: ما هذا الجزع؟ وما أنت والعالم وما عينك في الدنيا؟ هلا قلت كما جاء في الحديث: (هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت). إن الذي يوقعك في هذا التكفير المحزن هو انطواؤك على نفسك وتقويمك لها قيمة أكبر مما تستحق، وهل أنت إلا ذرة صغيرة على هذه الأرض ماضيها وحاضرها ومستقبلها؟ وهل الأرض كلها إلا هنة من هنات العالم، فلتتسع نفسك وليتسع تفكيرك ولتقدر نفسك قدرها ولتفكر في خارجك أكثر مما تفكر في داخلك؛ فإذا أنا استغرقت في مثل هذه التفكير هدأت واطمأننت؛ ولكن سرعان ما تذهب هذه الصورة كما يذهب المنظر في فيلم السينما، وتحل محلها صورة كئيبة حزينة جزعة، ولا تزال الصور تتعاقب، وكل صورة تطرد أختها، والصورة مختلفة الألوان مختلفة الأشكال، بين هادئة وعنيفة، وباسمة وباكية. ونمت عندي حاسة السمع لتعوض ما أصاب أختها حاسة البصر، فكنت أعرف كل إنسان من صوته ومن أول كلمة ينطق بها، فلا أحتاج إلى تعريف، حتى لأذكر أن صديقا قديما انقطعت بيني وبينه الأسباب منذ نحو خمسة عشر عاما، لم أره ولم يرني، زارني فما نطق بالسلام حتى عرفت من هو وهتفت باسمه. وتكاثر الزوار وكانوا موضع الملاحظة والنقد والتقدير: هذا زائر يحدثك الحديث فهو بلسم هموم، وموضع الماء من ذي الغلة الصادي، فيؤنسك ويسليك ويقول ما يحسن أن يقال؛ وهذا زائر قد عدم الذوق، فهو يراني في هذه الحال ويطلب إلي إذا زارني صديقي فلان أن أرجوه في أن يمنحه الدرجة الرابعة، ويشكو إلي تأخره عن زملائه ووقوع الظلم عليه، ثم هذا زائر كريم قد أنساه ما أنا فيه ما بيننا من خصومات عارضة فداس هذه الخصومات بقدميه، وكان وفيا كريما، قد نسي الحديث التافه في الخصومة، وذكر القديم القويم من الصداقة، وزائر يحز المنظر في نفسه فتكاد دموعه تسيل على خديه لولا أنه يجاهدها، وآخر يتجلد ويتصنع الثبات فإذا خرج سمعت نشيجه، إلى ما لا يحصى من مسموعات، وكل هذا يخزن في النفس طول النهار وتستعيده الذاكرة طول الليل. وأستعرض أحيانا أحوال من فقد بصره فأتأسى به. وأقول إن المسألة ليست مسألة بصر، بمقدار ما هي مسألة نفس تتلقى الحادث، هذان مثلان بارزان: بشار بن برد وأبو العلاء المعري فأما بشار فقد واجه فقد بصره في ثبات. وعاش كما يعيش ذوو الإبصار، يمزح ويضحك ويقول إنه إذا عدم العشق بالنظر فيعشق بالإذن، ويستمتع في الحياة المادية ويستغرق في الشهوات كأقصى ما يفعله بصير، وهو قوي جبار لا يمسه أحد بسوء إلا نكل به وانتقم منه، وهو عنيد فاجر، لا يأنف أن يصف في شعره كل الصور التي لا يستطيع وصفها إلا البصير، من غبار النقع وجمال العين ولطف القوام، فلا تكاد ترى في شعره أثرا من حزن على عين، أو بكاء على حرمان منظر. وأما أبو العلاء فأصابته الكارثة نفسها فحزن واسترسل في الحزن، فأعرض عن لذات الحياة الدنيا، وبكى نفسه وبكى الناس وبكى كل ما حوله وتحول هذا الحزن إلى سخط على الناس من الأصناف والألوان، من أمراء وقادة ورجال دين ونساء ووعاظ ومنجمين، فلم يسره شيء في الدنيا لأنه فقد السرور بالعين وحبس نفسه في البيت إذ لم ير نفسه صالحا لأن يظهر أمام الناس وهو فاقد العينين، بل أضاف إليه محبسا آخر وسمى نفسه رهين المحبسين: محبسه بفقد نظره ومحبسه في بيته؛ ومع ذلك كله ملأ الدنيا بأثره. فقد انطوى على نفسه يستخرج منها كنوزا من معارفه وتأملاته وتفكيراته، فاستضاءت بصيرته بأكثر مما كان يضيء نظره، وتألم هو فلذ الناس. وفقد البصر فبصر الناس، وكانت حياته نفعا جما في الإملاء والتأليف والتعليم والتفكير الحر الطليق الذي لم يستطعه بصير. وأنا لو أصبت في عيني — لا قدر الله — لكانت طبيعتي أشبه بطبيعة أبي العلاء لا بطبيعة بشار، على بعد الفرق بيني وبينه في أنه خصب النفس غزير التفكير متعدد النواحي قوي النقد؛ ولعل فقد البصر في الصبا أخف وقعا من فقده في الكبر، فالصبي مرن، نفسه كأعضائه. سرعان ما تتشكل حسب الوظيفة وحسب الظروف، والكبير نفسه كعظام الهرم إذا صدعت صعب أن يجبر صدعها، وما أبعد الفرق بين فقير عاش فقيرا طول حياته وفقير أصابه الفقر بعد أن عاش عيشة طويلة في الغنى. أحاطوني بأنواع من المتع؛ فهذا الراديو بجانبي ولكني لا أستسيغ الغناء كما كنت أستسغيه قبلا، ولا تهتم نفسي بالمحاضرات كما كانت تهتم بها، إنما هو شيء واحد كنت أستمتع به في الراديو وهو دلالته على الصباح في أول إذاعته وسماع القرآن يهدئ الأعصاب فيبعث الطمأنينة. هذا هو الطبيب بعد طول انتظار يفحص عيني ليرى نتيجة العملية وما يخبئه الغد وليقول كلمته الحاسمة. ثم يقول بعد طول الفحص: إن العين قد بدأ التحامها والحمد لله، ولكن الأيام الآتية أيام دقيقة تحتاج إلى شدة عناية وقلة حركة والتزام للنوم على جانب واحد، إذ أقل مخالفة تفسد ما تم. فأهوي على الطبيب أقبله، ثم لا ألبث أن أستصعب الأوامر الجديدة وافتتاح درس في الصبر جديد بعد طول الصبر القديم، فإلى الله أشكو وأضرع. هذه هي الأيام تمر، وتبدأ النفس تفقد كثيرا من قوتها، فهي تتأثر بما لم تكن تتأثر به وتجزع مما لم تكن تجزع منه: هذا ابن يصاب بالزكام فلم أصيب؟ وهذا ابن دخل الدور الثاني في الامتحان فماذا تكون النتيجة؟ وهذا ابن تخرج من مدرسته ولا يجد عملا فلم لم يوظف؟ وهذا ابن تأخر عن موعد حضوره فلم تأخر؟ وأصبحت الدنيا أوهاما وتأثرات مفتعلة، وإذا دنيا الإنسان ليست إلا مجموعة أعصاب، إن سلمت وقويت ابتهج بالحياة ولم يتأثر بأحداثها، وإن تلفت تهدم كيانه وخار بنيانه. ها هو الطبيب يرفع الرباط عن العين السليمة بعد نحو أربعين يوما وهي في ظلام حالك، ويبقى الرباط على العين المريضة، فحتى هذه العين السليمة لا تكاد ترى إلا بصيصا، من طول ما حرمت من أداء وظيفتها فلا تميز الباب من الشباك، فما بال العين المريضة حين يرفع عنها الرباط؟ وأشكو ذلك إلى الطبيب فيقول: إن هذا طبيعي فالعين تسترد وظيفتها شيئا فشيئا وقليلا قليلا. وأضيق ذرعا بالمستشفى وحياته الرتيبة، فما يجري في يوم يجري كل يوم، والأصوات هي الأصوات والطعام هو الطعام، والأنين حولي من كل جانب، والأجراس تضرب من حين إلى حين والحركات لا تنقطع ليلا ولا نهارا. وفي المستشفيات نقص لا يلفت إليه. فالأطباء يعنون بمقياس حرارة الجسم وتحليل ما يريدون منه، كما يعنون بنوع الغذاء الذي يلائم المريض أو لا يلائمه، ولكن يفوتهم شيء هام جدا ربما كان أهم من ذلك كله، وهو معالجة النفس. فلماذا لا يكون في المستشفى ممرضات للنفس كممرضات الجسم، يؤنسن المريض بأحاديثهن أو يقرأن له ويكون لهن من الثقافة ومن الحسن ما يكون بلسما للنفوس وشفاء لما ينتابها من ضيق وكآبة. وذكرت ذلك لمدير المستشفى فأقرني على ملاحظتي واستصعب تنفيذها لأسباب ذكرها. لذلك سألت الطبيب أن ينقذني من المستشفى في أقرب وقت ممكن، مع كل ما كان يحمد فيه من نظافة ورعاية ودقة وإتقان، وصرح لي الطبيب أن أخرج على شرط أن يحاط الخروج بكل عناية، فلا حركة عنيفة، ولا اهتزاز يرج الجسم، حتى إذا وصلت إلى البيت حملت في محفة إلى أن وضعت على السرير وضعا، وكنت إذا تحركت فحركة خفيفة في أناة وهوادة، ثم بدأت أتعلم المشي كما يتعلمه الطفل؛ فلا أكاد أخطو حتى يعتريني الدوار فأعود إلى السرير ثم أعاود المشي. وفي يومين أو ثلاثة استطعت أن أمشي مترين أو ثلاثة، ولا يسمح لي بالخروج من الغرفة. ثم يسمح لي بالانتقال إلى غرفة مجاورة، ثم يسمح لي أن أمشي في مستوى واحد، فلا أنزل سلما ولا أطلع سلما، وأنتهي من هذا الدور كله وتضيء العين تدريجا ويشفى الجسم تدريجيا، ولكني أجد نفسي مستعصية على الشفاء، فهي متبرمة من كل شيء منقبضة أشد الانقباض، فأستدعي طبيب الجسم مرة ومرتين وثلاثا فيفحص ويطيل الفحص ثم يقول إن الجسم سليم. فضغط الدم جيد والصدر جيد والأعضاء كلها على أحسن حال. ولكن المسألة مسألة نفسك أنت وأنت القادر على مداواتها، غير أني لا أجدلها دواء. وأحلل أسباب ذلك فأرجعها إلى أمرين: أولهما أمن طول الرقدة مع الظلام قد هد أعصابي، وثانيهما أن طبيب العيون لا يزال يمنعني من القراءة والكتابة وكانت حياتي كلها قراءة وكتابة، فلما حرمتهما أحاطني فراغ رهيب مخيف، والفراغ أدهى ما يمنى به الإنسان. فليس في الحياة سعادة إلا إذا ملئت بأي نوع من أنواع الامتلاء، جد أو هزل، وعمل أيا كان نوعه. فإذا طال الفراغ فالوبال كل الوبال، إن فارغي العقل معذورون في أن يملئوا فراغهم بنرد وشطرنج أو أي حديث ولو كان تافها لأنهم يشعرون بثقل الفراغ، والحياة لا تلذ إلا بنسيانها، وخير لذة ما نسي الإنسان فيها نفسه واستغرق فيها حتى نسي التلذذ بها؛ فلو فكر لاعب النرد والشطرنج في أنه يتلذذ بهما لفقد لذته، وخير أنواع اللذائذ العقلية ما استغرق فيها الإنسان بتأمله وتفكيره حتى مر عليه الوقت الطويل دون أن يشعر، ففراغي هو أهم أسباب ضيقي، وأهم أسباب أزمتي النفسية. ولقد اعتدت أن أعتمد على الكتب أتخير مؤلفيها، وأصغي إلى حديثهم، وأستلهم ما يقولون، وأفكر فيما يعرضون، فلما عدمت هذا عدمت الركن واحتجت إلى دعامة أخرى أستند عليها. وتلمستها فيمن يقرأ لي ويكتب لي، ولكن لابد من زمن حتى آنس بهذا الاعتياد الجديد، ثم هذا كله لا يغني غناء الاعتماد على النفس، فقد أحتاج إلى قارئ في وقت فألتمسه فلا أجده، وقد يكون القارئ الكاتب موجودا ولا رغبة لي في قراءة ولا كتابة، وقد أحتاج إلى قارئ من نوع معين ولا أجده؛ على كل حال ارتبكت النفس وطال اضطرابها. وأدخل المكتبة لذكرى الماضي فيزيد ألمي. غذاء شهي وجوع مفرط، وقد حيل بين الجائع وغذائه، وأتساءل: هل يعود نظري كما كان فأستفيد منها كما كنت أستفيد؟ وهذه الآلاف من الكتب آلاف من الأصدقاء، لكل صديق طعمه ولونه وطرافة حديثه، وقد كان كل يمدني بالحديث الذي يحسن حين أشير إليه، فاليوم أراهم ولا أسمع حديثهم، ويمدون إلي أيديهم ولا أستطيع أن أمد إليهم يدي. ثم إني أشعر شعوراً غريبا بحب الضوء وكراهية الظلام، فأحب النهار وأكره الليل، وأحب من الألفاظ كل ما يدل على الضوء، وأكره منها كل ما يدل على الظلام، وأحب النهار تطلع شمسه، وأكره السحاب يغشى الشمس؛ ومن أجل ذلك وضعت بجانب سريري زرا كلما شعرت بالظلام ضغطت عليه فأضاءت الحجرة. وأهم ما لاحظته اختلال ما كان عندي من قيم لشئون الحياة، فأستعرض كثيرا مما كنت أقومه فلا أجد له قيمة، وتعرض علي متع الحياة المختلفة فلا أجد لها وزنا، وتعرض علي أخبار الناس يسلكون في الحياة سبلا مختلفة، فأهزأ بكل ذلك. ثم لما فقدت قيم الأشياء التي اعتدتها لا أزال حائرا في وضع أسس جديدة لقيم جديدة ولما أستقر بعد على رأي. لقد أفادتني هذه التجربة المرة أن خير هبة يهبها الله للإنسان مزاج هادئ مطمئن، لا يعبأ كثيراً بالكوارث، ويتقبلها في ثبات ويخلد إلى أن الدنيا ألم وسرور، ووجدان وفقدان، وموت وحياة، فهو يتناولها كما هي على حقيقتها من غير جزع؛ ثم صبر جميل على الشدائد يستقبل به الأحداث في جأش ثابت، فمن وهب هاتين الهبتين فقد منح أكبر أسباب السعادة. وأخيرا لم أستفق مما أصابني من تدهور حالتي النفسية إلا بعد سنة تقريباً. أما عيناي فاليمني منهما قد استردت قدرتها كما كانت وهي السليمة التي لم تجر فيها عملية، وأما اليسرى وهي التي أجريت فيها عملية الشبكية، فقد قال الطبيب إن عملية الشبكية قد نجحت، ولكن يمنعها من الإبصار أن بها مرضا آخر وهو الماء الأبيض أو ما يسمونه «الكاتاراكت» وأنه لا يصح عمل عملية فيها إلا بعد أن يتجمد هذا الماء، وتجمده ليس له زمن محدود، وهو يختلف بإختلاف الأشخاص وأن العين ستزيد ظلاما كلما تحرك الماء نحو إنسان العين، وفعلا قد مضى الآن على العملية نحو سنتين وزادت العين ظلاما حتى كادت لا ترى، والطبيب يخبرني أنها قاربت التجمد وبعدها يجري العملية، وقد عرضت عيني على طبيب آخر مشهور فقال إن العملية لم تنجح أو على أحسن تقدير إن الشبكية التأمت أولا ثم انفصلت ولا أمل في العين والعوض على الله. من أجل ذلك ضعفت قدرتي على القراءة والكتابة مع الرغبة الشديدة فيهما، واضطررت أن أستعين بعض الوقت بمن يقرأ لي ويكتب، وقد اعتدت الإملاء بعض الشيء ولم أكن أحسنه أول الأمر، لأني طول حياتي العلمية كنت لا أعتمد إلا على نفسي فيهما. وذهني يدرك بالعين ما لا يدرك بالسمع، وأفكاري ترد على قلمي أكثر مما ترد على قلم غيري، وذهني كثير الشرود عندما أسمع وقراءة العين تحصره؛ وفكري بطيء إذا أملى، وكنت إذا أمسكت القلم تواردت علي المعاني وأسرع قلمي في تقييدها.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/35/
الفصل الخامس والثلاثون
وكان الطبيعي أن أبتهج بهاتين المنحتين العظيمتين اللتين منحتا لي في يوم واحد تتويجا لجهودي في الجامعة وجهودي في الإنتاج الأدبي، ولكن جاءتا عقب العملية الجراحية في عيني وما أصابني من ذلك في نفسي، فلم يهتز لهما قلبي كما ينبغي ولا ابتهجت لهما نفسي كما يجب، يضاف إلى ذلك حالتي النفسية وهي أن تستجيب لداعي الحزن، ولو صغيرا، ولا تستجيب لداعي السرور، ولو كبيرا. إلا بقدر.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/36/
الفصل السادس والثلاثون
وفي ٥ يوليو سنة ١٩٥٠ ذهبت إلى الإسكندرية لأصطاف ونزلت في بيتي في «سيدي بشر» وأخذت أستريح ونمت نوما هادئا لم أشعر فيه بشيء وقمت من نومي صباحا كالعادة وأفطرت على عادتي بكوب من اللبن وقطعة من الجبن وفنجان من القهوة وذهبت أغسل يدي فوقعت، فظننت أن رجلي عثرت بشيء فعاودت المشي ثانية فسقطت. ثم أحسست أن الجانب الشِّمالي كله من يد ورجل قد فقد حركته تماما؛ واستدعيت الطبيب فقال إنها جلطة خفيفة وإنه يلزم السكون تماما فسألته عن السبب؛ قال إن الجلطة تحدث في المخ فإذا تحرك الجسم تحركت فعاثت الجلطة في المخ وسببت مضاعفات — لا قدر الله — فوجب أن تبقى في مكانها حتى تصير كالإسفنج. وكان ذلك على أثر غلطات عملتها فقد أخذت حقنة من الأنسولين من «سنتيين» والجسم لا يحتمل إلا «سنتيا واحدا» وقمت بعد ساعتين من النوم وقد احترق السكر من دمي وطلبت ما عندهم من أكل فأكلت أكلا جما وكان يكفي لهذه الحالة كوب من ماء بسكر، وغلطت غلطة ثالثة فنمت فورا بعد هذا الأكل فتحولت حركة الدم إلى المعدة لتهضم فمضت بضع ثوان لم تتغذ فيها بعض خلايا المخ فماتت وقام مقامها خلايا أخرى لتحل محلها وهي تحتاج إلى ستة أسابيع أو ثلاثة أشهر على الأقل ليتم نموها، وهكذا مكثت أربعة أيام أشعر بنصفي الأيسر كأنه وعاء فارغ ثم شعرت بأنه ممتلئ رملا ثم شعرت بالقوة تدب فيه وكانت رجلي أسبق إلى الحركة من يدي. ولما تقدمت في الصحة وزال من المرض نحو ٩٥٪ في نحو ستة أسابيع بطؤ الشفاء في الأيام الأخيرة حتى احتاج إلى شهر آخر، لأن العمل على بناء الخلايا كان من عمل الشرايين ثم صار من عمل الشعيرات وهي بطبيعة الحال أبطأ عملا، وهكذا شاء القدر. وعلى كل حال فقد استفدت من هذا المرض تجارب كثيرة إذ علمت أن حركة اليد والرجل عبارة عن عملية ميكانيكية مركبة لا يمكن أن تحسن إلا بسلامة أعضاء كثيرة، ولم أكن أستطيع إمساك علبة السجاير ولا علبة الكبريت ولا أن أشعل عودا من الكبريت وهكذا.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/37/
الفصل السابع والثلاثون
هذه أهم الأحداث التي مرت علي من صباي إلى شيخوختي فأثرت في تأثير دائبا متواصلا حتى صيرتني كما أنا اليوم، وكان يمكن أن تكون غير ذلك فأكون غير ذلك، ولكن شاء الله أن تجري علي كما جرت فتصوغ مني ما صاغت. لقد كتبت مرة مقالا في وصف صديق وكنت أستملي وصف هذا الصديق من نفسي، إذ عنيت به شخصي، وقد جاء فيه: لا صديق اصطلحت عليه الأضداد، وائتلفت فيه المتناقضات سواء في ذلك خلقه وعلمه. حيي خجول يغشى المجلس فيتعثر في مشيته، ويضطرب في حركته. ويصادف أول مقعد فيرمي بنفسه فيه، ويجلس وقد لف الحياء رأسه، وغض الخجل طرفه، وتقدم له القهوة فترتعش يده وترتجف أعصابه، وقد يداري ذلك فيتظاهر أن ليس له فيها رغبة ولا به إليها حاجة، وقد يشعل لفافته فيحمله خجله أن ينفضها كل حين، وهي لا تحترق بهذا القدر كل حين. وقد يهرب من هذا كله فيتحدث إلى جليسه لينسى نفسه وخجله، ولكن سرعان ما تعاوده الفكرة فيعاوده الهرب، حتى يحين موعد الانصراف فيخرج كما دخل، ويتنفس الصعداء بعد أن أدركه الإعياء. من أجل هذا أكره شيء عنده أن يشترك في عزاء أو هناء أو يدعى إلى وليمة أو يدعو إليها إلا أن يكون مع الخاصة من أصدقائه.. يحب العزلة لا كرها للناس ولكن هروبا بنفسه. ثم هو مع هذا جريء إلى الوقاحة، يخطب فلا يهاب، ويتكلم في مسألة علمية فلا ينضب ماؤه ولا يندى جبينه، ويعرض عليه الأمر في جمع حافل فيدلي برأيه في غير هيبة ولا وجل، وقد تبلغ به الجراءة أن يجرح حسهم، وينال من شعورهم، ويرسل نفسه على سجيتها فلا يتحفظ ولا يتحرز. يحكم من يراه في حالته الأولى أنه أشد حياء من مخدرة، ومن يراه في الثانية أنه أجرأ من أسد وأصلب من صخر، ومن يراه فيهما أنه شجاع القلب، جبان الوجه. وهو طموح قنوع، نابه خامل، تنزع نفسه إلى أسنى المراتب فيوفر على ذلك همه، ويجمع له نفسه، ويتحمل فيه أشق العناء وأكبر البلاء، وبينما هو في جده وكده وحزمه وعزمه إذ طاف به طائف من التصوف، فاحتقر الدنيا وشئونها، والنعيم والبؤس، والشقاء والهناء، فهزئ به وسخر منه واستوطأ مهاد الخمول، ورضي من زمانه بما قسم له؛ وبينما يأمل أن يكون أشهر من قمر ومن نار على علم، إذا به يخجل يوم ينشر اسمه في صحيفة، ويذوب حين يشار إليه في حفل، ويردد مع الصوفية قولهم «ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه». يعجب من يعرفه، إذ يراه معرفة نكرة، محبا للشهرة والخمول معا. وأغرب ما فيه أنه متكبر يتجاوز قدره ويعدو طوره، ومتواضع ينخفض جناحه وتتضاءل نفسه، يتكبر حيث يصغر الكبراء، ويتصاغر حيث يكبر الصغراء. يتيه على العظماء ويجلس إلى الفقراء يؤاكلهم ويستذل لهم، لا تلين قناته لكبير، ويخزم أنفه للصغير. يحب الناس جملة ويكرههم جملة، يدعوه الحب أن يندمج فيهم ويدعوه الكره أن يفر منهم. حار في أمره، وامتزج حبه في كرهه، فاستهان بهم في غير احتقار. صحيح الجسم مريضه، ليس فيه موضع ضعف، ولكن كذلك ليس فيه موضع قوة. ورأسه كأنه مخزن مهوش أو دكان مبعثر وضع فيه الثوب الخلق بجانب الحجر الكريم، يتلاقى فيه مذهب أهل السنة بمذهب النشوء والارتقاء، ومذهب الجبر بمذهب الاختيار، وتجتمع في مكتبته كتب خطية قديمة في موضوعات قديمة، قد أكلتها الأرضة ونسج الزمان عليها خيوطا، وأحدث الكتب الأوروبية فكرا وطبعا وتجليدا. ولكن من هذين ظل في عقله وأثر في رأسه. إن طاف طائف الإلحاد بفكره لم تطاوعه طبيعته، وإن شك حينا عقله آمن دائما قلبه، ومن أصدقائه السكير والزاهد، والفاجر والعابد، وكلهم على اختلاف مذاهبهم؛ يصفه بأنه يجيد الإصغاء كما يجيد الكلام. وأزيد على ذلك أني غضوب حليم، وكل من يراني يصفني بالهدوء والاتزان والحلم والسكينة، ولكني إذا غضبت تعديت طوري وخرجت عن حدي في قولي وتصرفي، فيظهر أن التربية هي التي خففت من حدتي، وضبطت من نفسي، أما مزاجي الطبيعي فعصبي غير هادئ، ولذلك أنفعل للحوادث أكثر مما ينفعل لها صحبي، فقد أكون جليسا لبعض الأصدقاء، فيأتينا خبر موت صديق أو كارثة نزلت بمن نعرف، فألاحظ أني أكثرهم انفعالا وأشدهم تأثرا. ثم قد ورثت من أبي «حمل الهم» والخوف من العواقب، والحياة قلما تخلو من هم — هم الأولاد ودراستهم، والمعيشة وتكاليفها، والوظائف ومتاعبها ونحو ذلك، والناس حولي تعتريهم هذه الهموم وأكثر منها فلا يأبهون كما آبه، ولا يفزعون منها كما أفزع، ويضحكون وسط همومهم ملء أفواههم ولا أستطيع أن أسير سيرهم، حتى لو عرض علي عشر حوادث تسع منها تستوجب السرور، وواحدة تستوجب الهم لغلبت الواحدة التسع. شديد الحساسية للكلمة تمسني أو الفعل يجرحني، وقد لا أنام الليل لكلمة نابية سمعتها أو صدرت عني في حق صديق لي، ولكن كما أني شديد التأثر شديد التسامح، أغضب ممن يسيء إلي، ثم سرعان ما يصفو له قلبي ويتسع له صدري. شديد الخوف على سمعتي الخلقية، فأتألم أشد الألم من كلمة تنشر إذا مست خلقي، ولكني واسع الصدر جدا فيما يمس آرائي وأفكاري. فليس يحزنني نقد كتبي ولا نقد آرائي، بل أرتاح له وأغتبط به إذا اقتصر على حدود الرأي والفكر، ولم يتعده إلى حدود الخلق. نعم يسرني كل السرور أن يقدر الناس كتبي وأفكاري ولكن إذا نقدوها في أدب عددت ذلك ضربا من ضروب تقديرها والاهتمام بها. لدي الشجاعة في قول الحق والتزام الصدق واحتمال الحرمان من مال أو جاه، ولكن ليس لدي الشجاعة في احتمال شوكة تصيب أولادي أو شيء يمس شرفي. لست كثير الثقة بنفسي، ولا بما يصدر عني، فالكتاب أؤلفه أو المقال أكتبه لا أثق بحكمي عليه بأنه جيد أو رديء حتى يقرأه الناس فيحكموا بجودته أو تفاهته، قد ألمح فيه الجودة أو التفاهة، ولكني لا أثق بحكم نفسي على نفسي حتى يؤيد الناس ظني أو يكذبوه. وأذكر مرة أني أعددت يوما — وأنا مدرس بمدرسة القضاء — محاضرة موضوعها «دقة الملاحظة» وكان من عادتنا أن نعرض ما نكتب على عاطف بك بركات ناظر المدرسة فيجيزه أو لا يجيزه، وقل أن تخلو محاضرة يقرؤها من ملاحظات عليها يقيدها بالقلم الأحمر، فبعد يوم رد إلي المحاضرة، وليست عليها أية إشارة، فأيقنت أنها لم تعجبه جملة، ولم يرض عن شيء فيها، وأسفت لذلك أسفا شديدا، وجعلت أبرر حكمه عليها، وأقول ماذا تحتوي هذه المحاضرة من أفكار: فكرة كذا تافهة، وفكرة كذا مسبوقة، وفكرة كذا ليست بذلك. وهكذا حتى استسخفت كل ما فيها. ويوم الثلاثاء وهو موعد المحاضرة استدعاني صباحا وسألني: لم لم أعلن عن محاضرتي؟ فقلت: إنك استسخفتها. فقال: من قال لك ذلك؟ قلت كل الدلائل، فلم تحدثني بشأنها. ولم تؤشر عليها وأرسلتها إلي مع الساعي، ونحو ذلك. فقال: إني وجدتها كاملة فليس لي انتقاد عليها فلم أؤشر على شيء فيها، وسألت عنك فقيل لي إنك في الدرس فأرسلتها مع الساعي، والمحاضرة قيمة جدا. فأخذت أستعيد في ذهني نقطها وأقول إن فيها فكرة كذا وهي جيدة وفكرة كذا وهي جديدة، وفكرة كذا وهي قيمة، وألقيتها فاستحسنت فعددتها حسنة. وهذا عيب في لم أدر كيف نشأ، فخير للإنسان أن يثق بنفسه من غير غلو ويقدر إنتاجه على حقيقته من غير إفراط أو تفريط. أحب النظام حبا شديدا، فكل شيء في موضعه وكل شيء في وقته، كما أحب البت السريع في الأمور من غير تردد طويل، وأفضل سرعة البت ولو أنتج الخطأ على طول التردد ولو تبعه الصواب. أما حياتي اليومية فإنها تكاد تكون حياة رتيبة كأني قطار لا ينحرف عن السير على قضبانه، فلا مغامرات ولا مفاجآت؛ أصحو قبل الشمس دائما مهما تأخرت في النوم، وتلك عادة اعتدتها منذ كان أبي يوقظني في طفولتي لأصلي معه الفجر؛ فإذا طلعت الشمس أفطرت فطورا خفيفا غالبا عماده اللبن، وإذا كان لدي عمل خرجت إليه، وإلا ذهبت إلى مكتبتي أو حديقتي أقرأ وأكتب إلى ما بعد الظهر، وهذا خير الأوقات عندي فائدة وأكثرها إنتاجا، فإذا تغديت نمت بعد الغداء، وهي نومة تكاد تكون مقدسة، إذا لم أنمها تعكر علي سائر يومي. وكثيرا ما كانت هذه النومة سببا لمتاعب كثيرة، فأنا لا أنام إلا في هدوء تام، وأي صوت ينبهني، وأي حركة تقلقني، فإذا بكى طفل أو حدثت حركة في البيت ذهب عني النوم، وغضبت وأغضبت، وكثيرا ما ثرت فآلمت، ويكفيني في هذا النوم نصف ساعة أو ما دونه، فإذا صحوت شربت قهوتي، وإذا لم يكن ثمة داع إلى الخروج عدت إلى مكتبي لأقرأ لا لأكتب، فقلما ألفت في المساء لأني إذا كتبت هاج مخي، فإذا ما نمت بعد الكتابة لم أنم نوما هادئا، وظل عقلي يحلم ويحلم، ويبدي ويعيد فيما كنت أكتب؛ وليس الحال كذلك إذا اقتصرت على القراءة. ولذلك اعتدت أن أفكر وأقرأ مساء ثم أكتب صباحاً غالبا. ولا أستطيع الكتابة إلا في هدوء تام، فأي صوت يزعجني، وكم تمنيت أن يكون للأذن غطاء خاضع لإرادة الإنسان كما هو الشأن في العين. وقد أستريح يوم الجمعة فأخرج إلى حلوان أو الأهرام أو القناطر الخيرية أو نحو ذلك لأنسى القراءة والكتابة؛ وأصيف في الإسكندرية أو رأس البر، فأحمل أهم كتبي معي وأشتغل بها كما أشتغل في أيام عملي، فلا أستمتع إلا بحسن الجو والسير أحيانا على شاطئ البحر، ولم أعتد — ولله الحمد — كيفا إلا الدخان أدخنه ولا أبتلعه، كما لم أعتد أن أضيع وقتي في الجلوس إلى مقهى إلا لمقابلة في عمل، فإن ملت إلى اجتماع بالناس فمع أصدقائي في لجنة التأليف، كما لم أعتد ضياع وقت في لعب نرد أو شطرنج. وكنت في بدء حياتي العملية كثير الفراغ، أصرفه في القراءة والكتابة، فألفت «فجر الإسلام وضحاه» ثم قل فراغي باشتغالي بكثرة المجالس واللجان، فأنا عضو في المجمع اللغوي وفي مجلس دار الكتب ومجلس كلية الآداب ودار العلوم، ورئيس لجنة التأليف والجامعة الشعبية إلخ. إلخ، ومذيع في الراديو، وكل هذه أكلت من وقتي، وبعثرت زمني، ووزعت جهدي، مع قلة فائدتها فيما أعتقد. ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لرفضت كل هذه الأمور ونحوها وفرغت لإتمام سلسلة فجر الإسلام وضحاه وظهره وعصره، فقد كان ذلك أجدى وأنفع وأخلد، ولكن للظروف أحكام. ولست أميل إلى الاجتماع كثيرا، ولا أحب يوما يمر دون أن أخلو فيه إلى نفسي بعيدا عن أهلي وولدي. وأستمر في القراءة إلى نحو الحادية عشرة فأنام، وقد وضعت مصباحا كهربائيا بجانب سريري أقرأ عليه حتى يغشاني النوم، ولما أصبت في عيني منعني الأطباء من القراءة ليلا فاستعنت على ملء وقتي بمن يقرأ لي. وإذا علقت فكرة بذهني كانت شغلي الشاغل — أقرأ الكثير عنها وأفكر فيها وأحلم بها، وقد يخطر لي فيها خاطر إذا صحوت أثناء الليل، فأذهب إلى مكتبتي وأضيئها واستحضر الكتاب الذي أظنه يعالجها وأقرؤه لتحقيق الفكرة والوصول فيها إلى نفي أو إثبات ثم أعود إلى فراشي. وإذا حدث حادث سياسي أو اجتماعي — قومي أو إنساني — تأثرت به تأثرا يغطي على تفكيري العلمي، وها أنذا في هذه الأيام مرتاع لما أصاب البلاد العربية من أحداث فلسطين. يقلقني جد الصهيونيين وهزل العرب، واجتماع كلمة الأولين وتفرق الآخرين ووقوف الأولين على أساليب السياسة الأوروبية والأمريكية والروسية، وفهمهم الدقيق للأوضاع واستغلالهم الفرص السانحة، وجري الآخرين على سياسة الارتجال، وجهلهم بما يجري خلف الستار. وتقصيرهم في جمع كلمتهم وتوحيد خططهم. ويفزعني ما أحرزه الصهيونيون من نجاح لم يكن يتوقعه حتى أكثرهم تفاؤلا وأوسعهم أملا، وأكرر السؤال على نفسي ماذا سيكون المصير لو استمر الصهيونيون في جدهم واستعدادهم وتكاتفهم، واستمر العرب في هزلهم وتخاذلهم؟ وكثيرا ما أحاول الكتابة في موضوع علمي أو أدبي ثم أصرف عنه بهذا الحزن وهذا الجزع، وأقول إني كنت أعجب من ضياع الأندلس من يد المسلمين وسائر الأقطار لا تحرك ساكنا للإغاثة ولا تمد يدا للمعونة، واليوم بعد قرون طويلة تتجدد المأساة فتضيع فلسطين من يد المسلمين ولا عبرة من الأحداث ولا استفادة من التاريخ، ويغيث المسلمون شكل إغاثة لا حقيقة إغاثة، ويعاونون معاونة كان خيرا منها عدمها، فيالله للمسلمين … ثم لي نزعة صوفية غامضة، فأشعر في بعض اللحظات بعاطفة دينية تملأ نفسي ويهتز لها قلبي، وأكبر ما يتجلى هذا عند شهود المناظر الطبيعية الرائعة، كالمزارع الواسعة، والأشجار اليانعة، والنجوم اللامعة، وطلوع الشمس وغروبها، والبحار وأمواجها، والطيور وتغريدها، فأشعر — إذا ذاك — بميل إلى احتضانها، وأود لو ركزت في كأس فأشربها، وأحس بنشوة إذ أراها وأرى الله فيها، ولكني — مع ذلك — أشعر بأسف على أني لم أنم هذه النزعة كما يجب، ولم أتعهدها وأرعها كما كان ينبغي. ومزاجي فلسفي أكثر منه أدبيا؛ حتى في الأدب، أكثر ما يعجبني منه ما غزر معناه ودق مرماه، فيعجبني الحريري والقاضي الفاضل والصاحب بن عباد وطريقته، والعماد الأصفهاني ومدرسته، ويعجبني المتنبي لولا إغرابه أحيانا وتكلفه، والمعري لولا تعالمه، وأفضلهما على أبي تمام وتقعره، ولا يعجبني من البحتري إلا قصائد معدودة، ولا يهتز قلبي لأكثر شعر الطبيعة في الأدب العربي، لبنائه على الاستعارة والتشبيه لا على حرارة العاطفة ولهذا كان لي ذوق خاص في تقدير الأدب، فضلت اتباعه مجتهدا — ولو كنت مخطئا — على تقليد غيري في تقديره ولو كان مصيبا. ••• لو استعرضت حياتي من أولها إلى آخرها لكانت «شريطا» فيه شيء من الغرابة وفيه كثير من خطوط متعرجة، فما أبعد أوله عن آخره، وما أكثر ما فيه من مفارقات، وتغير في الاتجاهات، ومخالفة للاحتمالات، فمن كان يراني وأنا في مدرسة أم عباس الابتدائية يظن أنني سأكمل دراستي الابتدائية والثانوية، وقد أكمل الدراسة العالية وأشغل الوظيفة التي تتفق ونوع الشهادة: معلما أو قاضيا أو مهندسا أو نحو ذلك. ثم تغير هذا الاتجاه فجأة إلى الأزهر، فمن كان يراني في الأزهر يظن أني إما أن أنقطع عن الدراسة فأكون إماما في مسجد، وإما مدرسا في مدرسة أهلية أو نحو ذلك، وإما أتممها فأكون عالما في الأزهر، له كرسي بجانب عمود من عمده يجلس عليه بعمامته الكبيرة وجبته الواسعة، يشرح المتن والشرح والحاشية، ثم تغير هذا الاتجاه أيضا فجأة إلى مدرسة القضاء، فكان أكبر الظن أن أكون كزملائي قاضيا شرعيا يتنقل في مناصب القضاء حتى يكون رئيس المحكمة الشرعية العليا أو قريبا منه، ولكن تغير أيضا هذا الاتجاه فاتصلت بالجامعة، وكنت أستاذا بكلية الآداب وعميدا لها. وتغيرت عقليتي تبعا لهذا التغير، فلم تعد عقليتي تنسجم مع العقلية الأزهرية؛ بل ولا مع زملائي من مدرسة القضاء. ومنذ قليل قابلت صديقا كان من أحب الأصدقاء إلي في مدرسة القضاء وأقربهم إلى عقلي، فحادثته وأطلت الحديث معه، فإذا أنا في واد وهو في واد. وكم من الفروق بين معيشتي الأولى ومعيشتي الأخيرة! وإن الفرق بينهما — كما قال الجاحظ — كالفرق بين امرئ القيس إذ يقول: وقول علي بن الجهم: كنت في البيت كالذي وصفته — أولا — في منتهى السذاجة والبساطة، لا ماء في المواسير، ولا آلة من آلات المدنية الحديثة، فأصبحت أسكن في بيت فيه الحديقة، وفيه أثاث المدنية الحديثة، فيه الراديو والتليفون وما إلى ذلك. ولم أركب القطار في حياتي الأول إلا وأنا في السادسة عشرة من عمري، ركبته إلى طنطا فحزنت وبكيت، وفي آخر حياتي ركبت الطيارة من القاهرة إلى لندن وأنا مسرور مبتهج. وكنت أمشي على رجلي من بيتي في المنشية إلى الأزهر، وأعود من الأزهر ومعي منديل كبير فيه (الجراية) أنقله بين يدي اليمني ويدي اليسرى، ومن كتفي اليمنى إلى كتفي اليسرى فأصبحت أنتقل حتى المسافات القصيرة في سيارة. وكان أبي يعلمني في كتاب كالذي ذكرت، فأصبحت أعلم أولادي في رياض الأطفال وما إليها. ولا يعجبهم أن ينتقلوا في الدرجة الأولى في الترام والأمنيبوس، ويتطلبون سيارة ينتقلون بها، وكنت أضرب على الشيء التافه الصغير فأحتمل، ولا أثور ولا أغضب، فصار أبنائي يغضبون من الكلمة الخفيفة والعتاب المؤدب، وكنت لا أؤاخذ أبي على حرماني من الضروريات، فصار أبنائي يؤاخذوني على حرمانهم من الإسراف في الكماليات. وكنت وصوت، وكنت وصرت مما يطول شرحه، فما أكثر ما يفعل الزمان. لقد بدأت في شبابي أرسم حياتي المستقبلة من خيالي، وأرسم المثل العليا لي في خلقي ومسلكي وإصلاحي، ثم اصطدمت هذه المثل بالواقع، وبالبيئة التي حولي، وبالصعاب التي صادفتني، وبكثير من الناس أخلفوا ظني، كل هذا وأمثاله كان يأكل من البنيان بنيته للمثل الأعلى الذي وضعته، لقد حاولت أن أقف أمام هذه التيارات ولكني لم أستطع أن أثبت في مركزي، فجرفني التيار معه قليلا أو كثيرا، ومن أجل هذا كنت في شبابي خيرا مني في شيخوختي، وفي أول عهدي أكثر تفاؤلا مني في آخر عهدي. لكم تمسكت في شبابي بالمبدأ وإن ضرني، واستقلت من عمل يدر علي الربح لأني رأيته يمس كرامتي، وبنيت آمالا واسعة على ما أستطيعه من إصلاح وما أحقق من أعمال، ثم رأيت كثيرا من هذه الآمال يتبخر، وما أنوي من أعمال يتعثر، وها أنذا في شيخوختي قد أقبل ما كنت أرفض، وقد أتنازل عن بعض المبادئ التي كنت ألتزم؛ فالوسط وأحاديث الناس وكثرة الأولاد وتوالي العقبات وضعف الإرادة بطول الزمان قد تضطر الإنسان إلى التنازل عن بعض مثله العليا، ويعجبني قول من قال: ومع هذا فإني أحمد الله إذ من علي بالتوفيق في أكثر ما زاولت من أعمال: فيما ألفت من كتب — في عملي بلجنة التأليف — في الجامعة الشعبية — في الجامعة المصرية — في الجامعة العربية — في عمادة كلية الآداب؛ كذلك كان الشأن في حياتي العملية والأدبية والمالية والعائلية: نعم من الله لا أستطيع أن أقوم بالشكر عليها. وهي ظاهرة يصعب تعليلها العقلي، أو تفسيرها بالتحليل الاجتماعي والنفسي. فكم رأيت من أناس كانوا أذكى مني وأمتن خلقا وأقوى عزيمة، وكانت كل الدلائل تدل على أنهم سينجحون في أعمالهم إذا مارسوها، ثم باءوا بالخيبة ومنوا بالإخفاق، ولا تعليل لها إلا أن ذلِك فَضلُ اللهِ يؤْتِيهِ من يشَاء واللهُ ُذو اْلَفضلِ اْلعظِيمِ.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/79372917/
حياتي
أحمد أمين
«حياتي» هو سيرة ذاتية للمفكر الإسلامي الفذ أحمد أمين، يسرد فيها بأسلوب شيق ما مر به من تجارب في حياته بدءًا من مرحلة الطفولة والصبا التي قضاها في مدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية التي شيدتها إحدى أميرات القصر الملكي، والتي انتقل بعدها إلى الدراسة في الأزهر ومدرسة القضاء، ومرورًا بمرحلة الشباب والرجولة التي تنقّل فيها بين مناصب القضاء والتدريس ثم انتهاءً بوصوله إلى الجامعة التي عُيِّن فيها أستاذًا وعميدًا لكلية الآداب، وقد عاصر أمين خلال تلك الفترة نخبة من عظام المفكرين المصريين أمثال: طه حسين، وأحمد لطفي السيد وغيرهم، ومزية هذا الكتاب أنه لا يطل بنا فقط على الحياة الشخصية للمؤلف، بل يطلعنا أيضًا على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية السائدة في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين.
https://www.hindawi.org/books/79372917/38/
قالوا
لقد أهدى أحمد أمين إلى العالم الحديث بتأليف «فجر الإسلام وضحاه وظهره» كنزا من أقوم الكنوز وأعظمها حظا من الغنى وأقدرها على البقاء ومطاولة الزمان والأصراح. من ألف فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام أبقى على الأيام من أن يدركه الموت. إن سلسلة فجر الإسلام وضحاه وظهره من أقوم وأروع ما وضع عن الحياة العقلية والفكرية للإسلام. لقد أسس أحمد أمين مدرسة في الفكر الإسلامي لا أعرف أن معاصرا قام بعمل يدانيه وستبقى هذه المدرسة راسخة الأصل باذخة الفروع، وسيظل هو إمامها وزعيمها الفكري الكبير. لقد أخرج أحمد أمين من ذخيرته الغنية تاريخا جامعا دقيقا للتفكير الإسلامي في عصوره المختلفة، ولعل أكبر أثر له هو سلسلة فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام. اقرأ كتابه فجر الإسلام وصنويه الضحى والظهر تلمح خلف مظاهر البحث والدرس لوامع الروح الأصيلة التي تميط الغبار عن معالم الفكر العربي وتريك الضوء من مصابيحه. إن السلسلة الرائعة من تاريخ الأدب العربي التي تبدأ بفجر الإسلام وتنتقل إلى ضحى الإسلام فإلى ظهر الإسلام، كنوز من المعرفة كتبت بأسهل لسان، ونقلت من أصح مصادر واشتملت على أدق الآراء العلمية. حسب أحمد أمين أنه حلل الحياة العقلية للعرب والمسلمين في كتبه: فجر الإسلام وضحاه وظهره، تحليلا لم يتهيأ مثله لأحد من قبله. وستظل هذه الكتب الخالدة شاهدة على الجهد الذي لم يكل، والعقل الذي لم يضل، والبصيرة التي نفذت إلى الحق من حجب صفيقة واهتدت إليه في مسالك متشعبة. لم يظفر كتاب من الذيوع والانتشار والتأثير بمثل ما ظفرت به مجموعة الكتب التي أصدرها أحمد أمين حين أصدر فجر الإسلام وتبعه بضحى الإسلام ثم ظهر الإسلام. أصبح الفجر والضحى والظهر مرجع كل طالب، ومرشد كل باحث والمنارة التي يهتدي بها الناظر في التاريخ الإسلامي وحضارته. حين صور أحمد أمين الحياة العقلية في فجر الإسلام وفي ضحاه وظهره أخرج للعالم كله مرجعا من أجمل المراجع وأحسنها نسقا وتوثيقا.
أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال. أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التجديد الحضاري الإسلامي، وصاحب تيار فكري مستقل قائم على الوسطية، وهو والد المفكر الكبير «جلال أمين». وُلد «أحمد أمين إبراهيم الطباخ» في القاهرة عام ١٨٨٦م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. دفعه أبوه إلى حفظ القرآن الكريم، وما إن أتم الطفل ذلك الأمر حتى التحق بمدرسة أم عباس الابتدائية النموذجية، وفي الرابعةَ عشرةَ من عمره انتقل إلى الأزهر ليكمل تعليمه، وبالرغم من إبدائه التفوق في دراسته الأزهرية، فإنه فضَّل أن يترك الأزهر وهو في السادسةَ عشرةَ من عمره ليلتحق بسلك التدريس؛ حيث عمل مُدرسًا للُّغة العربية في عدة مدارس بطنطا والإسكندرية والقاهرة، تَقدَّم بعدها لامتحانات القَبول بمدرسة القضاء الشرعي، فاجتازها بنجاح وتخرَّج منها بعد أربع سنوات، وعُيِّن مُدرسًا فيها. بدأ «أحمد أمين» مشواره في التأليف والترجمة والنشر؛ حيث قادته الأقدار في عام ١٩١٤م إلى معرفة مجموعة من الشباب ذوي الاهتمامات الثقافية والفكرية، كانت تهدف إلى إثراء الثقافة العربية؛ حيث قدَّموا للقارئ العربي ذخائر التراث العربي بعد شرحها وضبطها وتحقيقها، كما قدَّموا بدائع الفكر الأوروبي في كثيرٍ من حقول المعرفة. وفي عام ١٩٢٦م اختِير «أحمد أمين» لتدريس مادة النقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من «طه حسين»، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، على الرغم من عدم حصوله على درجة الدكتوراه، إلا أن انتخابه عميدًا للكلية شغله بمشكلاتٍ عديدة أثَّرت على سَير مشروعه الفكري، ففضَّل الاستقالة من العِمادة في عام ١٩٤٠م. وقد حصل بعدها بثماني سنوات على الدكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنقد والتاريخ والتربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا «فَجر الإسلام» و«ضُحى الإسلام» و«ظُهر الإسلام»، أو ما عُرِف باسم «موسوعة الحضارة الإسلامية». وقد ظل «أحمد أمين» مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام ١٩٥٤م، بعد أن ترك لنا تراثًا فكريًّا غزيرًا وفريدًا، راكَم عليه مَن جاء بعده من الأجيال.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/0.1/
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا لمن جعل سلطان المحبة مستوليًا على قلوب العشاق، فتركها أهدافًا لقسيّ الواجب ونبال الأحداث. وحكم فيهم سيوف الألحاظ ورماح القدود. فتركتهم صرعى في ميادين الغرام فلا تقبل لهم شهود، وخلع على الملاح من ملابس الجمال أفخر الحلل، فخضع لهم في دولة الحسن أرباب الممالك والدول. ونفَّذ أحكام العيون في القلوب نفوذ السهام، وجعل مورد الثغر عذبًا والمورد العذب كثير الزحام. وصلاة وسلامًا على نبي جاءنا من خلاصة عدنان، صلاة دائمة ما سجعت الوُرْق على الأغصان. (أما بعد) فلما كان فن الموسيقى من أجلِّ الفنون مذهبًا، وأعذبها موردًا ومشربًا، وأمزجها للطباع السليمة. وأروضها للنفوس الكريمة. كيف لا وهو مغناطيس القلوب. وشرح حال المحب للمحبوب. ومذهب الأتراح، وغذاء الأرواح. ولذا عُني به أئمة السلف، وأساتذة الخلف، كابن سينا والفارابي والفازاني، وأبي الفرج الأصبهاني صاحب الأغاني، وألفوا فيه كتبًا قيمة كثيرة. ومؤلفات شهيرة، يضيق مجال الفكر عن استقرائها. ويقصر طول العمر عن استقصائها. فأولئك هم القوم الفائزون بالقدح المعلى. والشرف الذي لا يبيد ولا يبلى. مضت على ذهابهم أحقاب، وذكرهم باق على الألسنة مخلد في كل كتاب. وحيث إني ممن منَّ الله عليهم بالانتظام في ذلك العقد الفاخر، تمسكت بأذيال الماضين وإن جئت في الآخر. وقنعت من الزمان هذه المنحة، وأرحت نفسي من التطلع إلى غيرها فالعمر وإن طال كلمحة. لأن من كانت عنايته بتدبير جسمه، لا بتدبير روحه التي هي مناط شرفه وكرمه. فقد تجاوز حد العرفان. فإن المرء بالروح لا بالجسم إنسان. مارست هذا الفن علمًا وعملاً على أكبر أساتذته قديمًا. واتخذته نديمًا، وبلوت فيه الألحان والأوزان. وميزت منه ما شان وزان، فألفيت أن أكثر الكتب الحديثة لا تشفي غلة. ولا تبري علة؛ ولذا وجهت الهمة نحو التكلم فيه، بما عسى أن أكون من جملة واصفيه، مع ما رُميت به من اختلال أحوالي. وتعسر مطالبي وآمالي. واقتسام أمري بين مثبط للهمة وحاسد. ومنكر للفضل وجاحد. وعدو في قلبه مرض. أو معاند لا يستقيم له غرض. فيجرحونني بظهر الغيب، وأنا غير شاهد. ويحرفون وجه كلامي إلى جهة غرضهم الفاسد. سيما وقد استقبلت زماني وهذا الفن قد خبت ناره. وزوت أزهاره. ودجت مطالعه. وخوى طالعه. ولم يبق بيد أهله إلا صبابة. والخطأ فيه أكثر من الإصابة. ورغباتهم في معرفة قواعد الفن قليلة. والبراعة فيه لا تعد من الفضيلة. وقد نفد المجيدون والعلماء. وكثر المدَّعون والجهلاء، فاستعذت بالله من العجز والكسل، واستعنت به في بلوغ الأمل. ووضعت هذا الكتاب القريب المنال. العزيز المثال. ولم آلُ جهدًا فيما أودعته فيه من التوضيح والإفصاح عما يلزمه من علم النغم والتصوير والأوزان الصحاح. مع تبيين لذلك أتم بيان، حتى كأنه يشاهد بالعيان. وأضفت إليه المختار من تلاحيني — وتلاحين حضرة أستاذي الأول الذي سعدت بوجوده الأيام. وتزينت ببقائه الأعوام، العالم الجليل، والموسيقار النبيل. (الشيخ أحمد أبو خليل) وأكثرها من نغمات نادرة الوجود في هذه الأمصار. (كالنهاوني والبسته نكار. والعجم والبوسليك والحجاز كار.) فمن حفظها على أصلها. باهتزازاتها المرصعة بها. وتصور مسافات الأوزان. فلا شك أنه فائز على الأقران. وقلتها لا تزري بقيمتها فهي كالنقطة من العطر، ولو صغر حجمها ولكنها محصل كثير من الزهر. ولقد زينت صفحاته أيضًا بصور أشهر مشهوري هذا العصر مع المختار من محاسن صناعتهم. وبدائع بضاعتهم وسؤلي من المولى القدير. أن يترتب على هذا الكتاب الذي هو (كالنجم) صغير كبير. النفع المأمول. وأن يحظى لدى الموسيقيين خصوصًا والطلاب عمومًا بحسن القبول. وهو أكرم من أن يسأل في مثل هذه الطلبة ولا يجيب. وسائل الله لا يخيب.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/0.2/
مقدمة
الموسيقى هو علم يبحث فيه عن أحوال النغم من جهة تأليفه اللذيذ والنافر — وعن أحوال الأزمة المتخللة بين النغمات من جهة الطول والقصر. فعلم أنه يتم بجزئين: الأول علم التأليف وهو اللحن — والثاني علم الإيقاع وهو المسمى أيضًا بالأصول. (فالنغمات) جمع نغمة بالتحريك وهي (لغة) الصوت الساذج الخالي من الحروف — و(اصطلاحًا) الصوت المترنم به. (واللحن) بالسكون (لغة) صوت من الأصوات المصوغة و(اصطلاحًا) ما ركب من نغمات بعضها يعلو أو يسفل عن بعض على نسب معلومة — (والنغم للحن كالأحرف للكلام) — ثم يرتب ترتيبًا موزونًا — أي أنه يصاغ على أحد الأوزان التي سنذكرها بعد. ويقرن بشيء من الشعر أو غيره من سائر الفنون السبعة التي هي — القريض — والدويت — والموالي — والموشح — والزجل — والقومة — وكان وكان. وهذا التعريف جامع مانع؛ حيث دخل فيه زيادة على الموشحات والأدوار البشراوات والبستات والقدود والشرقيات، إذ هي مقرونة بكلام موزون على لغة من ربطها ولحنها من الترك أو الفرس أو غيرهما، فهي من جملة الألحان وداخلة في التعريف — وخرج بقيد التركيب النغمات الفردة — وبقيد الترتيب الموزون المقامات أصولاً وفروعًا؛ لأن ترتيبها غير موزون، فلا يسمى شيء مما ذكر لحنًا. والصوت هو ما يصدر عن كل حركة اهتزازية لجسم رنان تُحدث في الهواء ارتجاجًا يسير فيه إلى بعد ما. (وسنتكلم عن تولد الصوت وعن الأجهزة المعدة لعد الاهتزازات الصوتية في باب خاص به إن شاء الله). والأصول هي عبارة عن موازين للألحان لعدم اختلالها واختلال المغنيين عندما ينشدون معًا حتى لا يسبق أحدهم الآخر ولا يتأخر عنه بل يكون مجموعهم كواحد. وبما ذكر يكون الغناء. وقد أجمعت الأمم من جميع الطبقات على حبِّ الألحان ولكن ذلك حسب عاداتهم واصطلاح بلادهم؛ لأنك تجد لكل أمة من الناس ألحانًا ونغمات يستلذونها ويفرحون بها، لا يستلذها غيرهم ولا يفرح بها سواهم؛ مثل غناء الروم والفرس والأتراك والعرب والأكراد والأرمن والسوريين والزنج وغيرهم من الأمم المختلفة الألسن والطباع والأخلاق والعادات — إلا بالتعود على سماعها أو بمعرفة مواقع الطرب في لحن كان. ومن الدليل البيِّن أن لها تأثيرًا في النفوس كون الناس يستعملونها تارة عند الفرح واللذة والأعراس والولائم — وأخرى عند الحزن والغم والمصائب والمآتم — وطورًا في بيوت العبادة والأعياد — وآونة في الأسواق والمنازل وفي الأسفار والحضر وعند الراحة والتعب وفي مجلس الملوك ومنازل السوقة — ويستعملها الرجال والنساء والصبيان والمشايخ والعلماء والجهلاء والصناع والتجار وجميع طبقات الناس. وهي من الأدوية المفيدة في علاج بعض الأمراض العصبية. قال الشيخ أبو المواهب في رسالته: حكي أنه كان رجل مقعد لا ينصب قامته، فلما سمع آلات الطرب قام ونصب قامته وارتاحت مفاصله. وقال الشيخ عبد الرءوف المناوي — رحمه الله تعالى —: ينبغي للطالب عند وقوف سنه — ترويحُه بنحو شعر أو (سماع) أو حكايات؛ فإن الفكر إذا أغلق ذهل عن تصور المعاني، وذلك لا يسلم منه أحد ولا يقدر إنسان على مكابدة ذهنه على الفهم، وغلبة قلبه على التصور؛ لأن القلب مع الإكراه أشد قبولاً، وأبعد نفورًا، وفي الأثر أن القلب إذا أُكرِه عمي ولكن يعمل على دفع ما طرأ عليه بترويحه بشعر أو نحوه من الأدب، فيستجيب له القلب مطيعًا، قال الشاعر: وقيل: إن الملاذ التي عليها مدار الوجود أربعة: المأكل لعدم قيام البدن بدونه، والسماع لتعلقه بالروح وهي أشرف أجزاء الجسم، والنكاح لتعلقه بالنسل، والملبس لستر البدن، ولا يزاد في كل منها عن اللزوم، فإن زيد فيها عن ذلك حصل الإعياء، ما عدا السماع؛ فالزيادة لازمة فيه لغذاء الروح وراحة البدن وشفائه من الأسقام. قال أفلاطون: من حزن فليستمع الأصوات الطيبة؛ فإن النفس إذا حزنت خمد منها نورها، فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد. وكان إسكندر ذو القرنين إذا وجد في نفسه ما يُعيي مزاجه من انقباض أو حدس؛ دعا تلميذه ليحضر له العود ويضرب عليه، فيزول عنه ما كان يجده. وقال أفلاطون: إن هذا العلم لم تضعه الحكماء للتسلية واللهو، بل للمنافع الذاتية، ولذة الروح الروحانية وبسط النفس وترويق الدم، أما من ليس له دراية في ذلك، فيعتقد أنه ما وضع إلا للهو واللعب والترغيب في لذة شهوات الدنيا والغرور بأمانيها. قال أحد الحكماء: إن الغناء فضيلة تعذر على المنطق إظهارها ولم يتعذر على النفس إخراجها بالعبارة، فأخرجتها النفس لحنًا موزونًا — فلما سمعتها الطبيعة استلذتها وفرحت وسُرَّت بها، فاسمعوا من النفس حديثها ومناجاتها، ودعوا الطبيعة والتأمل لزينتها؛ لئلا تغرنَّكم. وقال آخر: احذروا عند سماع الموسيقى أن يثور بكم شهوات النفس البهيمية نحو زينة الطبيعة، فتميل بكم عن سنن الهدى، وتصدكم عن مناجاة النفس العليا. وقال آخر: إن أصوات آلات الطرب ونغماتها — وإن كانت بسيطة — ليس لها حروف معجم، فإن النفوس إليها أشد ميلاً ولها أسرع قبولاً؛ لمشاكلة ما بينهما؛ وذلك أن النفوس أيضًا جواهر بسيطة روحانية ونغمات آلات الطرب كذلك، والأشكال إلى أشكالها أميل. وقال آخر: إن جوهر النفس لما كان مجانسًا ومشاكلاً للأعداد التأليفية، وكانت نغمات آلات الطرب موزونة وأزمان حركات نقراتها وسكونات ما بينها متناسبة، استلذتها الطباع، وفرحت بها الأرواح، وسُرّت بها النفوس؛ لما بينهما من المشاكلة والتناسب والمجانسة — وهكذا حكمها في استحسان الوجوه وزينة الطبيعيات؛ لأن محاسن الموجودات الطبيعية هي من أجل تناسب أصباغها، وحسن تأليف أجزائها. وقال (العلامة ابن خلدون) في سبب اللذة الناشئة عن الغناء: إن اللذة هي إدراك الملائم — والمحسوس إنما تدرك منه كيفية، فإذا كانت مناسبة للمدرك وملائمة كانت ملذة وإذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة تدرك منه كيفية، فإذا كانت مناسبة للمدرك، وملائمة كانت ملذة، وإذا كانت منافية له منافرة كانت مؤلمة، فالملائم من الطعوم ما ناسبت كيفيته حاسة الذوق في مزاجها، وكذا الملائم من الملبوسات — وفي الروائح ما ناسب مزاج الروح القلبي البخاري؛ لأنه المدرك وإله تؤديه الحاسة؛ ولهذا كانت الرياحين والأزهار والعطريات أحسن رائحة وأشدّ ملاءمة للروح؛ لغلبة الحرارة فيها التي هي مزاج الروح القلبي. وأما المرئيات والمسموعات، فالملائم فيها تناسب الأوضاع في أشكالها وكيفياتها، فهو أنسب عند النفس وأشد ملاءمة لها، فإذا كان المرئي متناسبًا في أشكاله وتخاطيطه التي له بحسب مادته، بحيث لا يخرج عما تقتضيه مادته الخاصة من كمال المناسبة والوضع، وذلك هو معنى الكمال والحسن في كل مدرك — كان ذلك حينئذ مناسبًا للنفس المدركة فتلتذ بإدراك ملائمها — ولهذا نجد العاشقين المستهترين في المحبة يعبرون عن غاية محبتهم وعشقهم بامتزاج أرواحهم بروح المحبوب، وفي هذا سر تفهمه إن كنت من أهله، وهو اتخاذ المبدأ وإن كل ما سواك إذا نظرته وتأملته رأيت بينك وبينه اتحادًا في البداية يشهد لك به اتحادكما في الكون، ومعناه — من وجه آخر — أن الوجود يشرك بين الموجودات كما تقوله الحكماء، فتودّ أن تمتزج بما شاهدت فيه الكمال، لتتحد به، بل تروم النفس حينئذ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة التي هي اتحاد المبدأ والكون. ولما كان أنسب الأشياء على الإنسان وأقربها إلى أن يدرك الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنساني، فكان إدراكه للجمال والحسن في تخاطيطه وأصواته من المدارك التي هي أقرب إلى فطرته، فيلهج كل إنسان بالحسن من المرئي أو المسموع بمقتضى الفطرة — والحسن في المسموع أن تكون الأصوات متناسبة لا متنافرة؛ وذلك أن الأصوات لها كيفيات من الهمس والجهر والرخاوة والشدة والقلقلة والضغط وغير ذلك، والتناسب فيها هو الذي يوجب لها الحسن؛ فأولاً: ألا يخرج من الصوت إلى حده دفعة، بل بتدريج، ثم يرجع كذلك، وهكذا إلى المثل — بل لا بد من توسط المغاير بين الصوتين — وتأمل هذا من افتتاح أهل اللسان التراكيب من الحروف المتنافرة أو المتقاربة المخارج، فإنه من بابه. وثانيًا: تناسبها في الأجزاء فيخرج من الصوت إلى نصفه أو إلى ثلثه أو جزء من كذا منه على حسب ما يكون التنقل مناسبًا على ما حصره أهل الصناعة — فإذا كانت الأصوات على تناسبٍ في الكيفيات كما ذكره أهل تلك الصناعة، كانت ملائمة ملذة — ومن هذا التناسب ما يكون بسيطًا، ويكون الكثير من الناس مطبوعًا عليه لا يحتاجون فيه إلى تعليم ولا صناعة، كما تجد المطبوعين على الموازين الشعرية وتوقيع الرقص وأمثال ذلك، وتسمي العامة هذه القابلية بالمضمار، وكثير من القراء بهذه المثابة يقرءون القرآن فيجيدون في تلاحين أصواتهم كأنها المزامير، فيطربون بحسن مساقهم وتناسب نغماتهم — ومن هذا التناسب ما يحدث بالتركيب، وليس كل الناس يستوي في معرفته، ولا كل الطباع توافق صاحبها في العمل به إذا علم، وهذا هو التلحين الذي يتكفل به علم الموسيقى. وقد ورد في الحديث الشريف: (حسنوا القرآن بأصواتكم؛ فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا). وعن أنس بن مالك (رضى الله عنه) قال — قال رسول الله ﷺ (لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن). وقال ابن غانم المقدسي — رحمه الله — في كتابه (حل الرموز): إن كثيرًا من المتعمقين والمتقشفين كرهوا السماع وأنكروه أصلاً وفرعًا، وحقيقة وشرعًا، وهذا غلط منهم؛ لأن ذلك يفضي إلى تخطئة كثير من أولياء الله — تعالى — وتفسيق كثير من العلماء؛ إذ لا خلاف أنهم سمعوا الغناء وتواجدوا وأفضى بهم ذلك إلى الصراخ والغشية والصعق، فكيف ينسب إليهم نقصٌ وهم سالكون أتم الأحوال، وإنما يحتاج ذلك إلى تفصيل ونظر في أهل السماع واختلاف طبقاتهم — فمن صح فهمه وحسن قصده وصقلت الرياضة مرآة قلبه وجلت نسمات العزيمة قضاء سره فصفا من تصاعد الأكدار طبعه، ونجا من بشريته وخيالات وساوسه وعري عن حظوظ الشهوات، وتطهر من دنس الشبهات، فلا تقول إن سماعه حرام وفعله خطأ. (محاورة فلسفية) اجتمع جماعة من الحكماء والفلاسفة في مجلس ملك من الملوك ففضل أثناء المحاورة أحدهم البصر على السمع بقوله: لا أنكر أن السمع والبصر هما من أفضل الحواس الخمس وأشرفها التي وهبه الباري جل ثناؤه للحيوان، ولكن أرى أن البصر أفضل؛ لأن البصر كالنهار والسمع كالليل — فقال أحدهم: لا بل السمع أفضل من البصر؛ لأن البصر يذهب في طلب محسوساته، ويخدمها حتى يدركها مثل العبيد — والسمع يحمل إليه محسوساته حتى تخدمه مثل الملوك. وقال آخر: البصر لا يدرك محسوساته إلا على خط مستقيم — والسمع يدركها من محيط الدائرة. وقال آخر: محسوسات البصر أكثرها جسمانية — ومحسوسات السمع كلها روحانية. وقال آخر: النفس بطريق السمع تنال خبر من هو غائب عنها بالمكان والزمان — وبطريق البصر لا تنال إلا ما كان حاضرًا في الوقت. وقال آخر: السمع أدق تمييزًا من البصر؛ إذ كان يعرف بجودة الذوق الكلام الموزون والنغمات المناسبة، والفرق بين الصحيح والمنزحف والخروج من استواء اللحن — والبصر يخطئ في أكثر مدركاته، فإنه ربما يرى الكبير صغيرًا والصغير كبيرًا، والقريب بعيدًا والبعيد قريبًا، والمتحرك ساكنًا والساكن متحركًا، والمستوي معوجًا والمعوج مستويًا. وقيل إن بعض الحكماء كان جالسًا عند بعض الملوك، فقال الملك: إن الإنسان يألف السماع إذا تعود مجالس الطرب، فقال له الحكيم: يألفه إن كان في طبعه استعداد — يعني من أصل الخلقة — فأنكر عليه الملك، وقال: هل لك دليل على ذلك — فقال: نعم — فأمر الحكيم بإحضار مائة طفل من بني الناس من أولاد الأمراء والوزراء والعلماء والكتاب والزراع والسوقة والعبيد وغيرهم، وكانت أعمارهم لا تزيد على عشرة أشهر وأحضروا في يوم معلوم من أول النهار، وقد هيّأ لهم محلًا في بستان وأمر الحكيم أمهاتهم أن يحجبن أنفسهن عنهم نصف يوم حتى أقلقهم الجوع الشديد، ثم أمر بردهم إلى أمهاتهم مرة واحدة ليرضعنهم، وبينما هم مشغولون بالتغذي، إذ أمر الحكيم بضرب آلات الطرب دفعة واحدة، فمنهم من ترك التغذي شاخصًا نحو الصوت محركًا أعضاءه وهو يضحك، ومنهم من ترك التغذي ساكنًا لا يتحرك، ومنهم من جعل يلتفت مرة ويتغذى أخرى — ومنهم من جعل يحرك رجليه ويديه ولم يترك التغذي، ومنهم من بذل همته في التغذي ولم يلتفت، فعند ذلك ظهر للملك صحة ما قاله الحكيم، ولله في خلقه ما يشاء. وأما تأثير السماع على الحيوان غير الناطق، فما ورد من أن الطيور كانت تلقي بنفسها وتصغي لقراءة داود — عليه السلام — مزاميره، فصوته الحسن حتى إن بعضها يموت من شدة الطرب. (وكانت أصوات الأنبياء كلها حسنة) قال الراجز: وكذلك الإبل نراها تمد أعناقها صاغية لغناء الحادي لها فتهيم وتسرع في سيرها، حتى تزعزع أحمالها، وربما أتلفت نفسها من سرعة السير مع ثقل أحمالها، وهي لا تشعر بذلك بسبب نشاطها. وقد غفل في الأحيان أن أبا بكر محمد بن داود الدينوري (رضى الله عنه) قال: كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب فأضافني رجل منهم، وأدخلني خباءه، فرأيت فيه عبدًا أسود مقيدًا بقيد، ورأيت قُباله إبلاً وجمالاً قد ماتت وبقي منها جمل ناحل ذابل كأنه ينزع روحه فقال لي الغلام أنت ضيف ولك أن تشفع لي إلى مولاي؛ فإنه مكرم لضيفه، ولا يرد شفاعتك في هذا القدر، قال: فلما أحضر الطعام قلت: لا آكل ما لم أشفع لهذا العبد، فقال: إن هذا العبد أفقرني وأهلك جميع مالي، فقلت: ماذا فعل؟ فقال: إن له صوتًا طيبًا، وإني كنت أتعيش من ظهور هذه الجمال، فحمّلها أحمالاً ثقالاً وكان يحدو لها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته — فلما حطت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل، ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك. فأحببت أن أسمع صوته فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل قوي ليستقي الماء من بئر هناك — فلما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله فوقعت على وجهي فما أظن أني سمعت قط صوتًا أحسن منه. ومن قبيله ما يستعمله رعاة الغنم والبقر والخيل والحمير عند ورودها للماء من الصفير ترغيبًا لها في شربه. وقيل: إن صيادي الغزلان والدراج والقطا وغيرها لهم غناء يغنون به في وقت صيدها في ظلام الليل؛ حتى يوقعوها ويأخذوها بيدهم. والصيادون يصيدون الفيل والغزال بالسماع وآلات الطرب، والملاهي تلهيها عن رعيها فتسهو عن الرعي والهرب حتى تؤخذ وتُصاد. وكذلك السماكون بالنواحي يصطادون السمك بأصوات شجيّة. وكذلك يصيدون كثيرًا من الطيور؛ لما في الغناء من الجذبة السارية الشاغلة. وجملة القول أنه يستلذها جميع الحيوانات التي لها جامعة السمع. (وذكر في الإصحاح الرابع من سفر التكوين) وعرف قايين امرأته فحبلت وولدت حنوك. وكان يبني مدينة، فدعا اسم المدينة كاسم ابنه حنوك. وولد لحنوك عيراد. وعيراد ولد محيويائيل. ومحيويائيل ولد متوشائيل. ومتوشائيل ولد لامك. واتخذ لامك لنفسه امرأتين. اسم الواحدة عادة، واسم الأخرى صلة، فولدت عادة يابال الذي كان أبًا لساكني الخيام ورعاة المواشي. واسم أخيه يوبال، الذي كان أبًا لكل ضارب بالعود والمزمار. وصلة أيضًا ولدت توبال قايين الضارب كل آلة من نحاس وحديد. قال الكامل في تاريخه — وقيل: أول من وضعه نوح — عليه السلام — واخترع العود المعروف واستخرج منه النغمات وانعدم ذلك العود عند الطوفان — ثم في عهد داود استخرج وهذب وضرب عليه. وقد ذكر في تصحيح الغلطات، أن أول من وضعه لامك من أولاد نوح — عليه السلام — واخترع العود المعهود وبعد فتنة بختنصر فُقدت تلك الآلة — وفي زمن إسكندر ذي القرنين أوجد الحكماء الكاملون بقوة الرياضة علم الموسيقى وقد ثبت أن أرسطو وبقراط وسقراط وجالينوس وأفلاطون قد استعملوا الموسيقى. وقيل إن الحكماء استخرجت الصنائع بحكمتها وعلمتها للناس ومن جملتها فن الموسيقى واستعمل كسائر الصنائع. وكان في سلطان العجم قبل الملة الإسلامية منها بحر زاخر في أمصارهم ومدنهم، وكان ملوكهم يتخذون ذلك ويولعون به حتى لقد كان لهم اهتمام بأهل هذه الصناعة، ولهم مكان في دولتهم وكانوا يحضرون مشاهدهم ومجامعهم ويغنون فيها — وهذا شأن العجم لهذا العهد في كل أفق من آفاقهم ومملكة من ممالكهم. وأما العرب، فكان لهم أولاً فنّ الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية على تناسب بينها في عدة حروفها المتحركة والساكنة، ويفصّلون الكلام في تلك الأجزاء تفصيلاً يكون كل جزء منها مستقلاً بالإفادة، لا ينعطف على الآخر ويسمونه البيت، فتلائم الطبع بالتجزئة أولاً، ثم بتناسب الأجزاء في المقاطع والمبادئ، ثم بتأدية المعنى المقصود وتطبيق الكلام عليها، فلهجوا به، فامتاز من بين كلامهم بحظ من الشرف ليس لغيره لأجل اختصاصه بهذا التناسب وجعلوه ديوانًا لأخبارهم وحكمهم وشرفهم، ومحكًا لقرائحهم في إصابة المعاني وإجادة الأساليب. وما من أمة لها قوة على التصرف في المعاني إلا وفيها شعراء بلسانهم، إلا أن فضل الأشعار العربية مشهور كما لا يخفى. واستمروا على ذلك وهذا التناسب الذي من أجل الأجزاء والمتحرك والساكن من الحروف قطرة من بحر تناسب الأصوات والألحان، إلا أنهم لم يشعروا بما سواه؛ لأنهم حينئذ لم ينتحلوا علمًا ولا عرفوا صناعة، وكانت البداوة أغلب نحلهم — ثم تغني الحداةُ منهم في حُداء إبلهم، والفتيان في قضاء خلواتهم، فرجعوا الأصوات وترنموا، وكانوا يسمّون الترنم إذا كان بالشعر غناء، وإذا كان بالتهليل أو نوع القراءة تغبيرًا بالغين المعجمة والباء الموحدة، وعللها أبو إسحاق الزجاج بأنها تذكر بالغابر، وهو الباقي أي: بأحوال الآخرة، وربما ناسبوا في غنائهم بين النغمات مناسبة بسيطة كما ذكره ابن رشيق آخر كتاب العمدة وغيره — وكانوا يسمونه السناد، وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف الذي يرقص عليه ويمشي بالدف والمزمار، فيطرب ويستخف الحلوم، وكانوا يسمون هذا الهزج وهذا البسيط كله من التلاحين هو من أوائلها، ولا يبعد أن تتفطن له الطباع من غير تعليم، شأن البسائط كلها من الصنائع، ولم يزل هذا شأن العرب في بداوتهم وجاهليتهم. فلما جاء الإسلام واستولى على ممالك الدنيا وحاز سلطان العجم وغلبهم عليه، وكان أهله من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم مع غضارة الدين وشدته في ترك أحوال الفراغ، وما ليس بنافع في دين ولا معاش فهجروا ذلك شيئًا ما ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي هو ديدنهم ومذهبهم — فلما جاءهم الترف وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقَّة الحاشية واستحلاء الفراغ وافترق المغنون من الفرس والروم، فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب، وغنوا جميعًا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير، وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم وظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب خائر مولى عبد الله بن جعفر فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه وطار لهم ذكر، ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن سريج وأنظاره — وما زالت صناعة الغناء تندرج إلى أن كملت في أيام بني العباس عند إبراهيم المهدي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وابنه حماد — وكان من ذلك في دولتهم ببغداد ما تبعه الحديث بعده به وبمجالسه لهذا العهد — وأمعنوا في اللهو واللعب — واتخذت آلات الرقص في الملبس والقضبان والأشعار التي يترنم بها عليه، وجعل صنفًا وحده واتخذت آلات أخرى للرقص تسمى بالكرج، وهي تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلقة بأطراف أقبية يلبسها القيان ويحاكين بها امتطاء الخيل، فيكرون ويفرون وأمثال ذلك من اللعب المعد للولائم والأعراس وأيام الأعياد ومجال الفراغ واللهو، وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتشر منها إلى غيرها. وأقول: هذا ليس بشيء؛ لأنها نسبة إلى فاراب، وهي ناحية وراء نهر سيحون أو اسم المدينة أترار كما في القاموس. والفارابي لم يبدع العود قط بعد أن علم أنه من مخترعات الأمم السابقة، ولكنه زاد فيه أنغامًا وأتقنه. وأيضًا ذكر صاحب الصحاح أن العود اسم آلة من آلات المعازف. والصحاح لم يذكر إلا لغة العرب، أي: ما نطقت به والفارابي ما ظهر إلا بعد انقراض من يعتد بلغته من العرب وهو أيضًا ليس منهم، بل عجميٌّ مستعرب. (وفي أوائل السيوطي) أن أول من وضع الآلة المعروفة للغناء المسماة (بالقانون) ورتبها أبو نصر الفارابي أستاذ ابن سيناء. ولما أن علم إسحاق أستاذه بهذا الأمر؛ قال: إن العراق لا يسعني ويسعك فاخرج منه. فخرج ولحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس، فبالغ في تكرمته وركب للقائه وأسنى له الجوائز والإقطاعات والجرايات، وأحلّه من دولته وندمائه بمكان — وهو الذي اخترع بالأندلس مضراب العود من قوادم النسر عوضًا عن مضراب الخشب — فأبدع في ذلك للطف الريشة، وخفتها على الأصابع وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمتها إياه — فأورث بالأندلس صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف، وطما منها بإشبيلية بحر زاخر وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقية والمغرب، وانقسم على أمصارها، وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولتها. وقيل: إن أول من غنى على العود من العرب بألحان الفرس.. النضر بن الحارث؛ وذلك أنه وفد على كسرى، فتعلم ضرب العود والغناء وقدم مكة فعلَّم أهلها. وقيل: إن أول من غنى في الإسلام بألحان الفرس طويس؛ وذلك أن عبد الله بن الزبير لما بنى الكعبة ورفعها، كان في بنائها صناع من الفرس يغنون بألحانهم، فوقَّع طويس عليها الغناء العربي، ثم دخل الشام فأخذ من ألحان الروم — ثم رحل إلى فارس فأخذ الغناء وضرب بالعود وأتبعه من بعده. وفي (أوائل السيوطي) أن أول صوت غُني به في الإسلام كن يغني به طويس: وقال السيوطي: إن أول من ضرب بالدف عند ظهور الإسلام بالمدينة المنورة الجواري من بني النجار، استقبلن رسول الله ﷺ بالدفوف يتغنين ويضربن بها وهنَّ يرتجزن. وأول غناء تغنى به النساء والصبيان في المدينة عند قدوم رسول الله ﷺ بشعر لطيف وهو: وأوَّل من أفسد الغناء القديم وجعل للناس طريقًا جديدًا رقيقًا بالأصوات الحزينة إبراهيم بن المهدي (أوائل السيوطي) — [وقلده المصريون جميعًا في ذلك للآن]. وأول من تغنى من العرب الحِجازية خزيمة بن سعد ويلقب بالمصطلق لحسن صوته في غنائه (قاموس). وأول من أحدث الحداء غلام من مضر — روي عن ابن عباس — رضي الله عنهما — كان رسول الله ﷺ في مضر فسمع صوت حاد يحدو فقال: ميلوا بنا إليه فقال: ممن القوم؟ قالوا: من مضر. فقال: أتدرون متى كان الحُداء قالوا: لا بأبينا وأمنا، فقال: إن أباكم مضر خرج في مال له فوجد غلامه قد تفرقت عليه إبله فضربه على يده بالعصا فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح وأيداه وأيداه، فسمعت الإبل صوته واجتمعت.. فقال مضر: لو اشتق من هذا الكلام مثل هذا لكان كلامًا يجتمع عليه الإبل فاشتق الحُداء من ذلك. وكان سلام الحادي من العرب في الدولة العباسية يُضرب المثل بحدائه، فقال يومًا للمنصور: يا أمير المؤمنين، مر الجمَّالين بأن يظمئوا الإبل ثم يوردوها الماء، فإني آخذ في الحداء فترفع رءوسها، وتترك الشرف، ففعلوا ما قال فأجرى ما التزم وارتجز: والحقيقة أن الموسيقى لم يعرف لها واضع، وكل من حدد واضعًا لها فقد أخطأه الجد وخدعه الباطل، ولم يدرك حقيقة العمران وأطوار بني الإنسان، فإن الإنسان في أي طور ظهر وأرض انتشر، فالغناء حليفه والشعر أليفه — أو ما تراك ترى الأمم الهمجية والقبائل الوحشية لها ألحان وأنغام تلائم طبعها تناسب حالها — نعم إنها تختلف في الأمم اختلافًا هائلا وتتباين تباينًا عظيمًا، ومنشأ هذا تفاوتهم في المدنيّة ودرجاتهم في العلم والحضارة — فالذي ينظر مثلاً إلى الزنجي في أفريقيا — والأديب في أوربا يضع كل واحد منهما في كفة ميزان — يرى أن الأول كأنه بالنسبة إلى الآخر ليس من نوع الإنسان، بل هو من نوع آخر يشبهه في اعتدال القامة وتقاطيع العضلات — وكما أن الفرق الذي تراه في شكلهما وعلمهما تراه بين لحنهما وغنائهما. وقصارى القول في الموسيقى أن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك، فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب ويستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه، وهذا موجود حتى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء والخيل والحمير بالصفير كما علمت — ويزيد ذلك تأثيرًا إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء، وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى — ولأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم (الآلات الموسيقية) لا طبلاً ولا بوقًا فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم، ويغنون فيحركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستمالة. ولقد سمعنا أيضًا أن في حروب العرب الأقدمين من كان يتغنى أمام الموكب بالشعر ويطرب، فتجيش همم الأبطال بما فيها ويسارعون إلى مجال الحرب وينبعث كل قِرن إلى قرنه — وكذلك زناتة من أمم المغرب يتقدم الشاعر عندهم أمام الصفوف، ويتغنى فيحرك بغنائه الجبال الرواسي، ويبعث على الاستمالة من لا يظن بها، ويسمون ذلك الغناء (تاصوكايت) — وأصله كله فرح يحدث في النفس، فتنبعث عنه الشجاعة كما تنبعث نشوة الخمر بما يحدث عنها من الفرح. وهذا الفن آخر ما يحصل في العمران من الفنون؛ لأنه كمالي في غير وظيفة من الوظائف إلا وظيفة الفراغ والفرح، وهو أيضًا أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه كما هو واقع بالشرق الآن. وفي لفظه لغتان إحداهما موسيقي بمثناتين تحتيتين بينهما قاف مكسورة (والأخرى) موسقي بحذف الياء الأولى — وعلى كل من اللغتين، هو بضم الميم وسكون الواو وكسر السين المهملة كلمة يونانية معناها علم النغمات والألحان — وكان هذا هو الأصل فيه، ثم صار عَلَمًا على هذا العلم في سائر اللغات، ويسمون المغني: المطرب، والملحن المجيد: (موسيقار) والآلة التي يصور بها كالعود وغيره (موسيقيري) حسبما يظهر من تتبع كلامهم، حيث قالوا: كل صناعة متعلقة باليد فموضوعها الجسم الطبيعي، إلا الموسيقيري، فموضوعها الصوت المشتمل على الألحان المخصوصة، ولا يخفى عليك أن تعلق الصناعة باليد إنما يجري في الآلة فقط وبعضهم يسمى المغني (بالموسيقان) وآلة الغناء (بالموسيقات).
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/1/
الصوت
الصوت هو ما يصدر عن كل حركة اهتزازية لجسم رنان تحدث في الهواء ارتجاجًا يسير فيه إلى بعد ما — فمثلا إذا طرق بجسم صلب على كوبة من البللور لأجل حدوث صوت ومست حافة هذه الكوبة بالإصبع مسًا خفيفًا، حصل فيه رجات سريعة جدًا تدل على اهتزاز الكوبة — وإذا ضغط بالإصبع على الحافة الملموسة لإيقاف حركتها الاهتزازية شوهد انقطاع الصوت في الحال — كذا إذا علقت كرة صغيرة من العاج ملامسة لجدر ناقوس من الزجاج، ثم أحدث في الناقوس صوت شوهد أن الكرة تفعل جملة حركات ذهاب وإياب سريعة تدل على حركة اهتزاز الناقوس. ويمكن بيان ذلك أيضًا بواسطة وتر مشدود، فإذا أبعد عن وضعه الذي يكون في حالة موازنة وترك شوهد فيه تفرطح، خصوصًا في جزئه المتوسط، وإذا كان مشدودًا شدًا قويًّا فيسمع منه صوت عندما يذبذب؛ وذلك لأن سرعة تذبذبه عند ذلك تكون عظيمة. والأجسام الصلبة المجوفة إذا نفر عليها يحدث بذلك صوت عظيم، ذو رنين ويستمر زمنًا لتردد الهواء في جوفها وتموجه فيها؛ ولذلك لهم ينقبون مثل القانون والعود وما شاكلهما لتموج الهواء في جوفها. وكذلك البوقات الطوال يخرج منها صوت عظيم؛ بسبب تموج الهواء في مسافة طولها. وكذلك صوت الإنسان والحيوان يحدث عند تصادم الهواء الخارج من الرئتين في الحنجرة. إذا عدنا إلى التجربة السالفة وأعطينا إلى الصفيحة طولاً بحيث تولد صوتًا عند تذبذب، وأبعدناها عن وضعها الأصلي قليلاً أو كثيرًا لتذبذب شوهد أن الصوت الذي تولده يكون أقوى، أي: أشد كلما كان اتساع الذبذبة المقابلة له أعظم ولو أن طبيعة الصوت المتولد تكون واحدة، ومن هنا يرى أنه يمكن أن يقال إن شدة الصوت تتغير بتغير اتساع الذبذبة المقابلة له. وزيادة على ذلك، فقد ظهر لنا فيما سبق أنه بقصر الجزء المتذبذب تزداد سرعة التذبذب، وتزداد أيضًا تبعًا لها حدة الصوت، وبذلك يرى أنه يمكن أن يقال إن حدة الصوت أي ارتفاعه تزداد بازدياد عدد الذبذبات التي تحمل في زمن واحد، وأخيرًا فتوجد أصوات شدتها واحدة وارتفاعها واحد وتختلف عن بعضها بصفة ثالثة تسمى بالنغمة، وهي التي تسمح لنا بتمييز أصوات أنواع الآلات الموسيقية عن بعضها، كذا هي التي تسمح لنا بتمييز أصوات الأشخاص المختلفة — والنغمة ناتجة من كون كل صوت تولده آلة مخصوصة يكون دائمًا مصحوبًا بجملة أصوات أخرى خاصة بتلك الآلة دون غيرها. توجد أصوات لا تحدث على الأُذن إحساسًا مقبولاً كالأصوات الموسيقية — وذلك كمصادمة مَطرقةٍ لسندال وحصول الرعد، وغير ذلك وتسمى لغطًا — وهذه الأصوات ولو أنها لا تدوم إلا مدة يسيرة جدًا، فإن لكل منها شدة وارتفاعًا ونغمة خاصة به كباقي الأصوات. عندما يولد جسمٌ رنان صوتًا في الهواء، فإن الاهتزازات التي تحصل فيه عند ذلك، تنتقل إلى الهواء الذي يحيط به وهو الذي يوصلها إلى آذاننا. ولبيان الصفة التي ينتقل بها الصوت في الهواء يكفي ملاحظة ما يحصل على سطح ماء راكد عندما تمس نقطة من نقطة جملة مرات متتالية بطرف عصاه، فيشاهد عند ذلك تولد جملة أمواج صغيرة دائرية تبعد شيئًا فشيئًا عن النقطة التي تتولد فيها — وإذا تأمل للأجسام الخفيفة السابحة على سطح ذلك السائل يرى أنها ترتفع كلما تقابلها موجة بدون أن تنتقل من مواضعها — ومن ذلك ينتج أن الاضطراب الذي يحصل في النقطة الممسوسة بالعصاة يولد في جميع نقط السائل على التعاقب بدون أن ينقلها حركات صعود وهبوط مشابهة التي تحصل في تلك النقطة — وبهذه الكيفية ينتشر أيضا الصوت في الهواء، أي أن الجسم المتذبذب لا يولد حركة انتقالية في الهواء، بل يحدث في نقطة على التعاقب حركات ذهاب وإياب صغيرة مشابهة للتي تحصل في الجسم الرنان، والذي يولد سمع الصوت هي الحركة الاهتزازية التي تحصل في الطبقة الهوائية الملامسة لغشاء الطبلة — وقد سميت الاضطرابات التي تحصل في الهواء حول الجسم الرنان (بالأمواج الصوتية) وذلك للاشتباه الموجود بينها وبين الأمواج المائية. إذا نظر إنسان إلى مدفع وقت طلقه، وهو بَعيد عنه، فإنه يرى اللهب الذي يخرج منه قبل أن يسمع الفرقعة، فهذا يدل على انتشار الصوت ليس وقتيًا، بل يستغرق زمنًا لانتقاله من نقطة إلى أخرى. ومن جهة أخرى إذا لاحظ الإنسان ألحان موسيقى تصدح على بعد، فإنه يسمع تطابق وتوالي ألحانها كما لو كان بجوارها فهذا يدل أيضًا على أن جميع الأصوات تسري في الهواء بسرعة واحدة مهما كان ارتفاعها وشدتها وعلى ذلك يكفي لتعيين سرعة انتشار الأصوات تعيين سرعة انتشار أحدها. ثم إنه إذا انتقل إنسان في نقط مختلفة البعد عن مدفع وصار يعين في كل منها الزمن الذي يمضي من وقت رؤيته لهب المدفع إلى سماع صوته، فإنه يرى أن هذه الأزمنة تكون مناسبة الأبعاد تلك النقط من المدفع، فهذا دليل أيضًا على أن سرعة انتشار الصوت منتظمة؛ ولذا عرفت سرعة الصوت بالمسألة التي يقطعها في الثانية الواحدة. وأول تجربة فعلت لتعيين سرعة الصوت بضبط كاف كانت في فرنسا سنة ١٨٢٢ وقد فعلت هذه التجربة بالقرب من باريس بين (فيلجويف) (ومونتيري) فوضع مدفعان في البلدين المذكورين، وأطلق المدفع الذي في البلد الأولى فحسب الذين في البلد الثانية الزمن الذي مضى من وقت رؤية لهب المدفع إلى سماع صوته، ثم أطلق المدفع الذي في البلد الثانية خوفًا من أن يكون لاتجاه الهواء تأثير على انتشار الصوت، وحسب الذين في البلد الأولى الزمن الذي مضى من وقت رؤية اللهب إلى سماع الصوت — وقد عملت هذه التجربة جملة مرارًا لزيادة الضبط وأخذ متوسط تلك الأعداد وحيث كان يمكن أن يعتبر أن الضوء يقطع المسافة الواقعة بين البلدتين المذكورتين في مدة غير محسوسة؛ إذن يكون متوسط هذه الأعداد هو الزمن الذي يقطع فيه الصوت المسافة المذكورة، وعلى ذلك، فإذا قسم هذا المتوسط على مقدار هذه المسافة يكون خارج القسمة هو سرعة الصوت — وقد عملت هذه القسمة، فكان الخارج هو ٣٤٠ مترًا أعني أن الصوت يقطع في الهواء ٣٤٠ مترًا في الثانية الواحدة. وأما سرعة الصوت في الأجسام الصلبة في أعظم أيضًا فقد عمل (بيوت) عدة تجارب على مواسير الزهر المعدة لتوصيل المياه، فظهر له أن سرعة الصوت في الحديد الزهر هي تقريبًا قدر سرعته في الهواء عشر مرات ونصف. إذا صادفت الأمواج الصوتية في سيرها عائقًا ثابتًا، فإنها تنعكس بواسطته كما ينعكس الضوء بسطح مصقول وانعكاس الصوت بهذه الكيفية وهو المحدث للصدى، فإنه متى صرخ إنسان على مسافة من حائط مرتفع أو تل يسمع إعادة صوته يعذر من طويل أو قصير على حسب بعد المسافة؛ وذلك لأن الأمواج الصوتية عندما تصادم الحائط أو التل ترد بواسطته إلى أذنه. ولأجل سماع الصدى يلزم أن يكون بعد العارض الذي يرتد عليه الصوت عن الشخص المتكلم ١٧ مترًا على الأقل؛ وذلك لأنه لا يمكن سماع صوتين متفاوتين إلا إذا كانت المسافة بين حدوثهما عُشْر ثانية على الأقل — وبما أن الصوت يقطع في عشر ثانية ٣٤ مترًا فيجب حينئذ لسماع الصدى وجود الشخص المتكلم على نصف هذه المسافة من العائق أي على ١٧ مترًا منه وبدون ذلك، فإنه يسمع صوته والصدى الناتج منه في آن واحد. ولأجل بيان طبيعة الصوت المتولد بهذه الكيفية، وسبب تولده نفرض مثلاً أن القرص الثابت من بنت الماء المستعملة فيه اثنتا عشرة فتحة، وإن القرص المتحرك فيه فتحة واحدة، ففي كل دورة من هذا القرص تأتي فتحته على التوالي أمام الاثنتي عشرة فتحة الموجودة في القرص الثابت، وبذلك ينفذ منها الهواء اثنتي عشرة مرة، وينقطع مثلها، وحيث إن الهواء الذي يخرج من هذه الفتحة يحدث دفعات متتالية على الهواء الخارجي فيتولد منه حينئذ صوت يزداد ارتفاعه بازدياد عدد الدفعات التي تحصل في زمن واحد أي: بازدياد سرعة الدوران. أما إذا كان في القرص المتحرك اثنتي عشرة فتحة كما في القرص الثابت، فيرى أنه متى كان أحد ثقوب القرص الأول أمام آخر من القرص الثاني، تكون جميع الثقوب الأخرى أمام بعضها مثنى مثنى — ومن ذلك ينتج أن الهواء يخرج من الاثنتي عشرة فتحة مرة واحدة، وتكون حينئذ الدفعة التي تحصل منها على الهواء الخارجي قوية أي أن شدة الصوت تزداد — أما ارتفاعه فيكون كما كان في الحالة الأولى ما دامت سرعة الدوران واحدة؛ وذلك لأن عدد الذبذبات التي تحصل في الدورة الواحدة من القرص المتحرك يكون أيضًا اثنتي عشرة ذبذبة. يوجد آلات تصلح بالأخص لتعيين النسبة الكائنة بين عدد الذبذبات التي تحصل في آن واحد عند تولد صوتين ارتفاعهما مختلفان. فإذا وضعنا الآن ساقًا ثانيًا كالساق، وتحت ذلك الساق وأحدثنا ذبذبة الساقين في آن واحد، ثم أدرنا الاسطوانة بعد رسم خطين رأسيين على سطحها على بعد مناسب من بعضهما، يرى أنه إذا كان الساقان يولدان صوتين ارتفاعهما واحد يكون عدد التعاريج الموجود بين هذين الخطين واحدًا في كل من الحلزونين أي: أن عدد الذبذبات التي يحدثها كل من الساقين في زمن واحد يكون واحدًا — أما إذا كان الساقان يولدان صوتين مختلفين، فيكفي لإيجاد النسبة الكائنة بين عدد الذبذبات التي تحصل في آن واحد عند تولد هذين الصوتين عند التعاريج المقابلة لكل ساق على حدتها وقسمة العددين الناتجين على بعضهما. (تنبيه) — إذا فرض أن طبقة النيلج الموجودة على الأسطوانة أ ب تجمدت والتصقت على سطحها بعد رسم الشكل الحلزوني المتعرج فيها، وأديرت هذه الأسطوانة بعد إبعاد طرف الإبرة ط عنها في اتجاه مضاد للذي أديرت فيه لرسم هذا الحلزون إلى أن تعود إلى وضعها الأصلي ثم وضع سن الإبرة في النقطة التي تبتدئ فيها التعاريج وأديرت الأسطوانة ثانيًا في الاتجاه الأول يرى أن السن المذكور يكون مجبورًا أن يتبع التعاريج التي رسمها أولاً على سطح الأسطوانة، وبذلك يتذبذب القضيب وبالصفة التي كان يتذبذب بها عندما كون التعاريج المذكورة أي أنه يعيد الصوت الذي أحدثه أولاً وعلى ذلك أسس الفونوجراف المنسوب إلى (إيديسون).
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/2/
الفونوجراف
ولنعد إلى الكلام على الصوت فنقول: الصوت يكون جوابًا لصوت آخر إذا كان عدد الذبذبات التي تقابله في زمن معين يساوي ضعف عدد الذبذبات التي تقابل الصوت الثاني في ذلك الزمن. فإذا وجد صوت متولد عن ٥٢٢ ذبذبة في الثانية وآخر متولد عن ١٠٤٤ ذبذبة في الثانية فيقال للأول إنه قرار للثاني، ويقال للثاني إنه جواب للأول. والأصوات التي تتولد عن ذبذبات محصورة القدر بين قرار وجواب معلومين تسمى أصواتًا متوسطة، مثاله: المعلوم قرار يتولد عن ٤٣٥ ذبذبة، وجوابه المتولد عن ٨٧٠ ذبذبة — فالأصوات التي تتولد عن عدد ذبذبات محصور بين ٤٣٥ و٨٧٠ كعدد ٤٧٨ و٥٢٢ و٦٠٠ إلخ تسمى أصواتًا متوسطة بين ما يعطى عن ٤٣٥ و٨٧٠. والأصوات ثلاثة أنواع: أصوات حادة، وأصوات غليظة، وأصوات متوسطة. فالأصوات الحادة — ويقال لها الأصوات الرقيقة أو العالية — هي التي تكون ذبذباتها سريعة وتحس بأنها رقيقة جدًا، مثاله: (صوت العصفور) و(صوت الولد الصغير). والأصوات الغليظة، ويقال لها الأصوات التخينة أو الواطية هي التي تكون ذبذباتها بطيئة، وتحس بأنها غليظة جدًا، مثاله: (صوت الجمل) و(صوت الرجل الكبير). والأصوات المتوسطة ما جاءت بينهما. والذبذبات السريعة أو البطيئة؛ إما أن تكون واسعة، وإما أن تكون ضيقة، وأقرب الأمثال المشاهدة ذلك وتحققه هو رؤية الوتر حال حدوث الصوت منه — فإن ذبذبته تكون أولاً واسعة، ثم تضيق شيئًا فشيئًا إلى أن ينتهي الصوت. وسعة الذبذبات وضيقها لا يؤثران في سرعتها إن كانت سريعة، ولا في بطئها إن كانت بطيئة. نغمة الصوت — هي درجة ارتفاعه الخاصة به، فيقال لكل صوت حاد إنه من نغمة عالية — ولكل صوت غليظ إنه من نغمة واطية — ومن ذلك يرى أن لكل صوت درجة مخصوصة؛ بحيث لو ارتفع وعلا عنها أو نزل وهبط منها تتغير الدرجة — وبتغيير الدرجة يصير صوتًا آخر. والمسافة الصوتية — هي الفرق الذي يوجد بين صوت وصوت آخر من درجة أخرى. وطنة الصوت — هي مدة مكث الصوت في درجة واحدة. ورنة الصوت، أو (رنينه) هي طبيعته التي تميزه عن غيره لا من جهة العلو والسفل بل من جهة الأصل والمنشأ، فإن كل ما يحصل منه صوت مثل الخشب والحديد والنحاس إلخ له في صوته صفة يمتاز بها عن صوت غيره — وتلك الصفة هي الرنة أو الرنين وفي المثل (تعرف الأحباب برنة أصواتها ولو لم يقع شخصهم تحت نظرة). وتمتاز الرنات عن بعضها بالغلظ والرقة، فيقال: صوت زيد رقيق، وصوت عمرو غليظ. الصوت واطيًا كان أو عاليًا، إما قوى وإما ضعيف — فيكون قويًا إن كانت ذبذباته واسعة — وضعيفًا إن كانت ذبذباته ضيقة — ونحس بالقوى أنه شديد جهوري يسمع ولو على بعد منه — ونحس بالضعيف أنه خفي خفيف لا يسمع إلا بعناية له والتفات إليه واقتراب منه. والأصوات نوعان: حيوانية وغير حيوانية. وغير الحيوانية أيضًا نوعان: طبيعة وآلية، فالطبيعية كصوت الحجر والحديد والخشب والرعد والريح وسائر الأجسام التي لا روح فيها من الجمادات، والآلية كصوت الطبل والبوق والمزامير والأوتار وما شاكلها — والحيوانية نوعان: منطقية وغير منطقية، فغير المنطقية هي الأصوات التي لسائر الحيوانات الغير الناطقة، وأما المنطقية هي أصوات الناس وهي نوعان: دالة وغير دالة؛ فأما غير الدالة كالضحك والبكاء والصياح — وبالجملة كل صوت لا هجاء له — وأما الدالة فهي الكلام والأقاويل التي لها هجاء. والأصوات تنقسم من جهة الكمية إلى متصلة ومنفصلة: فالمنفصلة التي بين أزمان حركات نقراتها زمان سكون محسوس. مثال نقرات الأوتار وإيقاعات القضبان — وأما المتصلة من الأصوات، فهي مثل أصوات المزامير والنايات والرباب والدواليب والنواعير وما شاكلها. والأصوات تنقسم من جهة الكمية إلى متصلة ومنفصلة: فالمنفصلة التي بين أزمان حركات نقراتها زمان سكون محسوس. مثل نقرات الأوتار وإيقاعات القضبان — وأما المتصلة من الأصوات، فهي مثل أصوات المزامير والنايات والرباب والدواليب والنواعير وما شاكلها. والأصوات المتصلة تنقسم إلى نوعين: حادة وغليظة، فما كان من النايات والمزامير أوسع تجويفًا وثقبًا كان صوته أغلظ — وما كان أضيق تجويفًا، وثقبًا كان أحدّ صوتًا — ومن جهة أخرى أيضًا ما كان من الثقب إلى موضع النفخ أقرب كانت نغمته أحد — وما كان أبعد كان أغلظ. وأصوات الأوتار المتساوية في الغلظ والطول والحزق (الشد) إذا نفرت نفرة واحدة كانت متساوية — فإن كانت متساوية في الطول مختلفة في الغلط كانت أصوات الغليظ أغلظ وأصوات الدقيق أحد — وإن كانت متساوية في الطول والغلط مختلفة في الحزق كانت أصوات المحذوقة حادة وأصوات المسترخية غليظة — وإن كانت متساوية في الغلط والطول والحزق مختلفة في النقر كان أشدها نقرًا أعلاها صوتًا… (الشجي) هو أحسن الأصوات وأحلاها وأصفاها وأكثرها نغمًا. (المخلخل) وهو العالي الحاد النغم بحلاوة وجهارة. (المصهرج) الصيت الثقيل بلا ترجيع ولا نغمة. (الخادمي) ما كان غريب المواقع كأصوات العبيد. (الجهير) هو الغليظ الذاهب في الأسماع. (الأجس) هو الجهير ببحوحة مليحة ونغمة مفخمة. (الناعم) هو الصوت المليح الموقع الصافي النغم. (الأبح) على ثلاثة أوجه: خلقة وتعب وعلة وهو خلقة أحسن. (الكرواني) هو يشبه الكروانات دقة وصفاء وتسلسلاً. (الزوابدي) هو الذي تكون نغمته زائدة عن مقادير الغناء (المقمقع) هو الذي يشبه كلام البادية بلا حلاوة. (المصلصل) هو الدقيق اليابس المجيد بغير شجي. (الصرصوري) هو الدقيق الحاد القبيح الموقع. (المرتعد) هو الذي كأن صاحبه مقرور بالحمى. (الأغن) هو الذي فيه الغنة والحلاوة والنغم. (الرطب) هو ما كان كالماء الجاري بلا كلفة وفيه حلاوة. (الصياحي) هو الذي ينفر عن الوتر إلى زيادة ونقصان (اللقمي) هو الذي كأن في فم صاحبه لقمة من الطعام. (الأماس) هو المعتدل الصافي الخالي من النغم والترجيع. (المظلم) هو الذي ليس فيه نغمة ولا يكاد يسمع (الدقيق) الذي يضعف ويكاد يخفى. (السغب) هو الذي يصفو مرة ويسغب أخرى ولا يخلص نغمة. (الصدى) هو الذي يكون فيه ما يعطي نغمة ويكدرها. (المختنق) هو الذي كأن صاحبه يخنق «ويكثر تنحنحه». (المغتص) هو الذي يمتنع بلع ريقه ويتغير فيه الغناء. (الأخن) هو الذي كأن أنف صاحبه مسدود. (الرخو) هو الذي يتعجن فيه النغم ويتفرع. (المبلبل) هو الذي تختلف فيه النغم وتزول عن أماكنها. (النابي) هو الذي ينبو عن الأصوات في المراسلات. (القطيع) هو الذي لا يكاد يسمع بالجملة. ويوجد شيء آخر في عيوب الصوت يقال له: (الصبيح) وهو فلق الحلق عن الوتر وخروجه عنه إما إلى زيادة أو نقصان، فمنه ما يكون في الصوت من أوله إلى آخره — ومنه ما يكون في المواضع الشديدة — ومنه ما يكون عند الابتداء أو عند الانتهاء أو في موضع، وربما كان في الكلام وقد يكون هذا في المولد والطبع، وقد يكون عن علة، وربما كان من جهة المعلمين، فيكون في المعلم مثلاً شيء من هذا فأعدى المتعلم، وكذلك الخروج، فهو يعدي والانقطاع والعجلة والارتعاش كما تعدي الأمور الحسنة المطربة — فإذا ألف فما ينقلع إذا ثبت إلا بعد جهد، وربما لم ينقلع — ولا يدري أحد عِللها وأسماءها ولو علم لما استحسن منها القبيح واستقبح المستحسن. ومما يضرها وينقصه ويتعبها ويذهب حسنها، ويغطي ملحها وشجاها المساكن الشعثة المتخربة الندية المنكشفة والبساتين والصحارَى والبحار والأنهار والبراري والمواضع المكسوة بالفراش، والمستورة والمواضع، المرخمة والمغاير والسراديب، وتنقص منها أيضًا الأزمنة واختلافها — أعني الشتاء والخريف — وينفعها زمان الصيف والربيع، والتحفظ في الصيف أجود منه في الشتاء لتفتح المسام وتخلل الأجسام. وأما ما يوافقها من الأطعمة؛ فاللحوم والأمراق الطيبة الدسمة والبيض التيمرشت والبقلي المسلوق والأخبصة والأرز باللبن والأطعمة الحلوة. وللأصوات البلغمية الملوحات حيث منها ما يقطع البلغم ويجلوها خلاف غيرها. وأما ما يضرها فالتعب المفرط والخمار المفرط والمخللات القبيحة والبلح والطلع الغض، والفول السوداني والسمك والمشمش والنبق والخيار واللب والبطيخ وقشور الرمان وحب الآس والسفرجل والعقص والفشار والدوم — وجميع الحوامض، والماء المثلج الشديد، والترك للغناء والغناء مع القطيع من الرجال والنساء والأخذ عنهن والغناء دون الطبقة المعتادة، والمغنيات يضر أصواتهن الحمل والولادة والسمن المفرط والأكل في الحمامات والأدوية الشحمة مثل ما يستعملنه من القدحات والمركبات لأجل السمن والصحة وحمل ما يثقل عليهن والمسهلات الشديدة — والتكشف للهواء مضر للجميع على حد سواء. وأما الآلات التي تقطع الأصوات هي الزمر على العموم والرقص والإحصار الشديد — فأما الرقص؛ فإنه سهر وتعب وأما الزمر، فإنه يفسد الآلة المصونة، والإحصار يضر بالرئة وهي أول شيء يجب على المغني الكامل أن يحافظ عليه فوق العادة، فإن أمراضه صعبة وبعيدة الشفاء — وكذلك طلوع الدرج. ومما يضر بالأصوات أيضًا استنشاق الهواء الملوث بالتراب، فإنه في أكثر الأحيان يكون سببًا (للأنفزيميا) أو نفث نقط دم صغيرة مع البلغم في الصباح — وغناء الإنسان مع من هو أقل من طبقته والاختصار على أقل قدرته والمداومة على الجماع تضر بالأصوات ضررًا بليغًا وتضعفها ولو تظهر لأصحابها أنها قوية، والحقيقة أنها صارت رفيعة رقيقة غير مطلوَّة بالحلاوة المعهودة فيها، وخصوصًا إذا كان الجماع مع من يجب أي بشهوة متضاعفة، فإن ذلك يكون من الأسباب الموصلة إلى القبر بسرعة — وترك الجماع — ويضر بالصوت أيضًا الأمراض الناشئة عن علل كالنزلات الشعبية وضعف الدم «الأنيميا» والولادة والبلوغ والتعب والرجفة والسمن والعلة المزمنة والمداومة على شرب الخمر سيما إذا كان رديئًا وبدون غذاء كاف وشرب الدخان — والحشيش بوجه الخصوص؛ فإنه يطفئ نور العقل وبرهاني على ذلك أن أكثر المدمنين على شربه مختلو الشعور فضلاً على أنه أيضًا من الأسباب التي تسهل العدوى (بالسل الرئوي) لانتقال الجوزة من شخص إلى آخر.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/3/
النغمات
النغمات هي جمع نغمة بمعنى الصوت الفرد الساذج حسبما تقدم ذكره وقد تتركب وتترتب بتراتيب مختلفة؛ سواء قرنت بكلام أم لم تقرن، وإنها بهذا الاعتبار يقال لها مقامات وتسمى بأسماء مخصوصة. وهي جمع مقام بالفتح وهو ما ركب من نغمات ورتب ترتيبًا مخصوصا وسمي باسم مخصوص، وإن عدة المقامات ثمانية وعشرون مقامًا حسبما قرره علماء هذا الفن وهي تنقسم إلى أصول وفروع: أما الأصول فعدتها سبعة فقط وهي مسماة بأسماء مرتبة بعضها فوق بعض بالترقي درجة، فدرجة حسب مراتب العدد المسرود على التوالي أولها (يكاه) وثانيها (دوكاه) وثالثها (سيكاه) ورابعها (جهاركاه) وخامسها (بنجكاه) وسادسها (ششكاه) وسابعها (هفتكاه) — وكل من هذه الأسماء السبعة مركب من كلمتين فارستين إحداهما وهي (كاه) بالكاف الفارسية القريب مخرجها من مخرج الجيم بمعنى مقام والأخرى وهي (يك) في الأولى بمعنى واحد و(دو) في الثاني بمعنى اثنين و(سي) في الثالث بمعنى ثلاثة و(جهار) في الرابع بمعنى أربعة و(بنج) في الخامس بمعنى خمسة (وشش) في السادس بمعنى ستة و(هفت) في السابع بمعنى سبعة — وهذا التركيب، إما إضافي بمعنى مقام الواحد مقام الاثنين مقام الثلاثة على آخره أو توصيفي بمعنى المقام الأول المقام الثاني المقام الثالث وهكذا جريًا على ما هو عادتهم من التقديم والتأخير في التركيب حسب لغتهم — ثم إن بعض هذه السبعة قد بقي على حاله في التسمية وهو الدوكاه والسيكاه والجهاركاه وبعضها قد سمي اسم آخر زيادة على السمة الأول حيث سمت العرب البنجكاه (بالنوا) والششكاه (بالحسيني) والهفتكاه بالعراقي تارة وبالأوج أو الأويح أخرى؛ نظرًا إلى أنه الأعلى؛ إذ هو السابع — وسمت الفرس بالكاء بالراست، وهي كلمة فارسية اجتمع فيها ساكنان الألف والسين المهملة ومعناه (المستقيم) وإنما زادوه هذا الاسم على اسم المقر الذي هو اليكاه؛ نظرًا إلى تركيبة الجاري على الترتيب الطبيعي؛ حيث بدئ فيه بالأول بخلاف البقية إذ بدئ في الدوكاه بالثاني، وفي السكاه بالثالث وهكذا إلى الأوج، فكان بسبب ما حازه من تلك المزية جديرًا بأن يزاد هذا الاسم الدال على الاستقامة دونها؛ حيث لم يكن التركيب في شيء منها جاريًا على الترتيب — ثم صار اليكاه اسمًا لمقر النوا فتأمل. وقد جعلوا لهذه الدرجات أو النغمات السبع ثلاثة دواوين محتوية عليها بعينها والمخالفة في ارتفاع كل ديوان عن الآخر — فإن السبعة التي في الديوان الثاني أعلَى من التي في الديوان الأول، والتي في الديوان الثالث أعلى من التي في الديوان الثاني، فيكون الديوان الأول هو الأصل والديوانان الآخران فرعين منه، وقد جعلوا الديوان الثاني جوابًا للأول، والثالث جوابًا للثاني، وسمَّوا جواب أول نغمة من الديوان الأول وهي الراست (بالكردان) وهي عين الأولى، وهكذا حتى أنك لو وصلت إلى الرابعة عشرة لكانت عين السابعة، ولو إلى الخامسة عشرة لكانت عين الثامنة التي هي الأولى بعينها وهلم جرا. وجواب ثاني نغمة من الديوان الثاني وهي الدوكاه (بالمحير) وجواب السيكاه (بالبزرك) وجواب الجهاركاه (بالماهوران) وجواب النوا (بالرمل توتي). ثم كرروا لفظة الجواب فيما وراء ما تقدم، فقالوا في السبع الثالثة أي الديوان الثالث جواب كذا.. إلخ. وأما الفروع فعدتها واحد وعشرون فرعًا، وهي تنقسم بالقسمة الثلاثية إلى عربات ونيمات عربات، وتيكات عربات؛ نظرًا إلى مقادير مسافة البعد فيما بين الدرجات، وبيان هذا أن مسافة البعد الواقعة فيما بين كل أصلين من السبعة المتقدمة قد تكون كاملة وتسمى بردة، وقد تكون ناقصة وتسمى عربة أو نيم عربة أو تيك عربة، فإذا رفعت صوتك مبتدئًا بدرجة من الدرجات السبع التي هي الأصول وانتقلت منها، فإمّا أن نقطع مسافة البعد التي بينها وبين الدرجة التي تليها وتنتهي إليها، وإمّا أن تقطع نصف المسافة أو ربعها أو ثلاثة أرباعها فقط، وتقف ثمة، فإن أنت قطعتها بأجمعها وانتهيت إلى الدرجة، كنت واقفًا على البردة وكانت مسافة البعد كاملة، وإن قطعت نصفها ووقفت كنت واقفًا على العربة، أو ربعها فقط كنت واقفًا على تيم العربة أي: نصفها ونصف النصف ربع، أو ثلاثة أرباعها كنت واقفًا على تيك العربة وكانت المسافة على كل ناقصة، وبهذا تبين أن عدة العربات سبع، وكذا عدة كل من التيمات والتيكات ضرورة. ولكن بعض المقامات ينقصها تيكات كما سبق الكلام، فإن من الراست إلى الدوكاه (٤) ومن الدوكاه إلى السكاه (٣) ومن السيكاه إلى الجهاركاه (٣) ومن الجهاركاه إلى لانوا (٤) ومن النوا إلى الحسيني (٤) ومن الحسيني إلى الأوج (٣) ومن الأوج إلى الكردان (٣). فيكون الديوان مركبًا حينئذ من أربعة وعشرين ربعًا فقط لا من ثمانية وعشرين — ولكنهم قالوا ثمانية وعشرين باعتبار أن كلا من التيمات والتيكات سبعة — ولكن هذا سهو منهم كما يتضح لحضرة المطلع من ترتيب السُّلَّم السابق الذي وضعناه؛ حيث إن ثلاثة الخطوط البيضاء دليل على المقام الناقص، والخطوط الأربعة التي منها اثنان أسودان أحدهما من تحت والثاني من فوق، وبينهما اثنان أبيضان دليل على المقام التام. وإن كل واحدة من العربات السبع واقعة بين درجتين من درجات الأصول، وينبني على هذا أن يكون ترتيبها كترتيب الأصول، وكلٌّ منها قد تسمى باسم مخصوص؛ فاسم العربة الأولى (زيركوله) أو (زنكلاه) وهي الواقعة بين الراست والدوكاه، واسم الثانية (الكردي) وهي الواقعة بين الدوكاه والسيكاه، واسم الثالثة (بوسليك) وهي الواقعة بين السيكاه والجهاركاه، وقد تسمى أيضًا (بالعشاق) — واسم الرابعة (الحجاز) وهي الواقعة بين الجهاركاه والنوا، واسم الخامسة (الحصار) وهي الواقعة بين النوا والحسيني — واسم السادسة (العجم) وهي الواقعة بين الحسيني والأوج، وقد تسمى أيضًا (بالنيرز)، واسم السابعة (الماهور) وهي الواقعة بين الأوج والكردان وتسمى أيضًا (بالنهفت) — وفي الديوانين الآخرين كذلك بإضافة لفظة جواب إلى كل من العربات ما عدا عربة (الزيركوله) فإن جوابها يقال له: (الشاهناز) وجواب عربة (الكردي) يقال له: سنبلة. ثم اعلم أنهم لما وضعوا سبع البردات المتقدمة التي أولها الراست وآخرها الأوج، وجدوا للثلاثة الأخيرة التي هي النوا والحسيني والأوج قرارات يمكن للصوت النطق بها، فجعلوها أصولاً بدلاً من الثلاثة الأخيرة المذكورة ووضعوها أول المقامات قبل الراست؛ لأنها أخفض منه فجعلوا قرار النوا وهو (البكاء) أولاً وثانيها (عشيران) وثالثها (عراق) ورابعها (راست) وخامسها (دوكاه) وسادسها (سيكاه) وسابعها (جهاركاه) وهذه يقال لها المرتبة الأولى أو الديوان الأول ثم تعلوها المرتبة الثانية وأولها النوا وسابعها (جواب الجهاركاه) وهو نهاية المرتبة الثانية، ثم فوقها المرتبة الثالثة وأولها جواب النوا وسابعها (جواب جواب الجهاركاه) وهو نهاية المرتبة الثالثة، وهكذا تتعدد المراتب صعودًا، وتسمى أبراجها بإضافة الجواب إلى مثله، فيقال: جواب الجواب وجواب جواب الجواب وهلم جرا إلى ما لا نهاية له، وتتعدد هبوطًا أيضًا بحيث يمكن أن يقال: تحت اليكاه قرار الجهاركاه وتحته قرار السيكاه، وتحته قرار الدوكاه، وتحته قرار الراست، وتحته قرار العراق، وتحته قرار العشيران وتحته قرار اليكاه إلى ما لا نهاية له. ويمكن في الحقيقة الابتداء من أي برج كان بحيث تصير المرتبة سبع بردات؛ الواحدة فوق الأخرى، وتكون الثامنة جوابًا للأولى، وهذا الجواب هو ضعف القرار في الشدة، ونصفه في الضخامة؛ لأن صوت الجواب أعلى من القرار إلا أنه أرق منه. ثم إن الصوت الإنساني بحسب الطبيعة لا يكون الصعود به من القرار للجواب، والهبوط من الجواب إلى القرار على أكثر من سبع بردات، أي: أنك لو قسمت المرتبة على عشرة بردات مثلاً عوضًا عن قسمتها إلى سبعة لم يكن يتأتى للصوت الإنساني المرور عليها إلا بعنف شديد، ويكون الصوت المسموع منها ما تنفر الطبيعة الإنسانية من سماعه، ومن ذلك يعلم أن قسمة المرتبة إلى سبع بردات هي أمر طبَعيّ لا بد منه بالضرورة. ثم وضعوا للثلاثة الأولى التي هي اليكاه والعشيران والعراف نيمات وعربات وتيكات، كما وضعوا للباقي: فسمُّوا العربة الواقعة بين اليكاه والعشيران (قبا حصار) والعربة التي بين العشيران والعجم (عجم عشيران) والعربة التي بين العراق والراست (كوشت). رصد المقامات والأنصاف والأرباع على الصونومتر بفرض أن طول وتر اليكاه ١٠٠٠ مليمترًا. وقد وضع حضرة محمد ذاكر بك في كتابه (حياة الإنسان في ترديد الألحان) سلمًا لترتيب عموم أسماء النغمات (أي: ديوانين بأنصافهما) ومعادلتهما لأسماء النوتة في الموسيقى الإفرنجية، فآثرنا وضعه هنا تتميمًا للفائدة؛ كيما يكون للمتعلم إلمام بمبادئ النوتة؛ تسهيلاً لفهم ما سنضعه فيها من المؤلفات في المستقبل إن شاء الله. إلى الدوكاء كنسبة الجهاركاه إلى النوى؛ ولذلك صار العمل من الدوكاه إلى اليكاه، كالعمل من النوى إلى الراست وحصلت المشاكلة بين نغمتي الراست والنوى، ونغمتي الدوكاه والحسيني، ونغمتي السيكاه والأوج، ونغمتي الجهاركاه والكردان، فإذا كانت إحداهما قرار اللحن يسمون الثانية غمازًا لها؛ لأنها أقرب النغمات لمشاكلَتها ما عدا الجواب؛ فإن نسبتها إلى القرار أقرب النسب، فإذا نُقر على أية نغمة، ونُقِر بعدها على جوابها، كان ألذّ النقرات للسامع. وبعده في اللذة النقر على الغماز والبعد بين الغماز والقرار أربعة عشر ربعًا أبدًا، فإذا قيل: أيَّة نغمة هي غماز نغمة السيكاه مثلاً، والسيكاه كائنة في الربع السابع عشر، فأضف إليه أربعة عشر، وهي مسافة بعد الغماز المقررة فتكون الجملة واحدًا وثلاثين، تُطرح من ذلك أربعة وعشرون (وهي مقدار الديوان الأول) فيبقى سبعة، وهي محلُّ نغمة الأوج من الديوان الثاني، وهي غماز السيكاه، وإذا سئل عن غماز العشيرانِ، والعشيرانُ كائِنةٌ في الربع الرابع، فاستخراجه بأن يضاف أربعة عشر إليه ربعًا فتكون الجملة ثمانية عشر، وهي محلّ ربع البوسليك الذي هو غمازه. وهكذا يجري العمل في اختبار جميع النغمات والأرباع، ويعلم محل غماز كل نغمة وكل ربع منها. أما النوع الأول: فكما لو نقر مثلاً على نغمة الراست، ثم على العراق ثم على العشيران، ثم على اليكاه وقر عليها، لاختلف مسموعه عما لو نقر على نغمة الدوكاه ثم على الراست، ثم على العراق، ثم على العشيران وقر عليها، وهذا الاختلاف ليس ناشئًا من ارتفاع صوت نغمة الدوكاه الذي ابتدئ بالنقر عليه، وصوت العشيران الذي قر عليه عن نغمة الراست التي ابتدئ منها، ونغمة البكاء التي قر عليها بالعمل الأول؛ لأن هذا الفراق متعلقٌ بعلم الطبقة الذي يبحث فيه عن ارتفاعها وانخفاضها؛ وذلك لا يتعلق باختلاف الألحان؛ لأن اختلاف الألحان ليس بالارتفاع والانخفاض، بل من الأسباب التي نسعى الآن لبيانها فنقول: إنه لو كان البعدين النغمات متساويًا لم يكن بينها تمييز؛ لأن كلاً منها — حينئذٍ — يقوم مقام غيره، وتكون الأصوات في جميعها متساوية في الصعود والنزول، لكنها لما كانت مختلفة الأبعاد كان بمرور الصوت عليها وقراره على أحدها يحصل الاختلاف فيه حين المرور وحين القرار؛ لأن في المثال المتقدم بالنقر على نغمة الراست والهبوط نغمة نغمةً إلى اليكاه اختلافًا من الابتداء من نغمة الدوكاه والوقوف على نغمة العشيران؛ لأنه في الأول هبط من كل من النغمتين: الأولى والثانية ثلاثةُ أرباع، ومن الثالثة أربعة أرباع، أما في الثاني فمن الأولى هبط أربعة أرباع، وفي كل من النغمتين الثانية والثالثة ثلاثة أرباع، ولعدم المناسبة بين الهبوط الأول والهبوط الثاني حصل الاختلاف في مسموع الصوت، وهذا هو أصل النوع الأول من الألحان ومنه كان القرار على كل نغمة لحنًا على حدته ويسمى ذلك اللحن باسم النغمة التي يقر عليها كراست ودوكاه وغير ذلك. وأما النوع الثاني فهو فرع النوع الأول؛ إذ النغمات فيه أيضًا تكون على ترتيبها بعينه، لكن يختلف عنه بأمرين أحدهما اختلاف إجراء العمل في الانتقال من نغمة إلى أخرى وثانيهما الدخول في اللحن، أما الأول فلا يمكن التعبير عنه بالكلام، وليس عند العرب اصطلاح على علامات له كالنقط والحركات مثل اصطلاح الإفرنج واليونان الذين يوضحون به هذه الاختلافات، وأما الثاني الذي هو الدخول في اللحن فنقول إن نغمة الدوكاه مثلاً يكون عليها لحن الدوكاه ولحن الصبا، فلحن الدوكاه يكون الدخول فيه من نغمة الراست أحيانًا، ويصعد إلى النوى، ثم يكون قراره على نغمة الدوكاه. وأما الصبا فيبتدئ من نغمة الجهاركاه ويقر على الدوكاه كما سنوضح ذلك بحسب الإمكان عند شرحنا حدّ كلّ لحنٍ بمفرده حيث تذكر النغمات المصورة لكلّ لحن من أي النغمات والأنصاف أو الأرباع، تكون حسب التلاحين التي عندنا؛ قديمة كانت أو حديثة. وأما النوع الثالث الذي هو فساد يدخل على بعض النغمات؛ فذلك كلحن الحجاز مثلاً، فإنه تفسد فيه نغمة الجهاز كله، بمعنى أنها لا تستعمل فيه ويقوم مقامها ربع الحجاز المتوسط بين نغمتي الجهاز مثلاً، فإنه تفسد فيه نغمة الجهاركاه بمعنى أنها لا تستعمل فيه ويقوم مقامها ربع الحجاز المتوسط بين نغمتي الجهاركاه والنوى. وهكذا عندما ينزل مما فوقه لا يمر عليها، وفي كليهما يكون مروره على ربع الحجاز لا على الجهاركاه، كما أن لحن البياتي أيضًا لا تستعمل فيه نغمة الأوج بل تقوم مقامها نغمة العجم.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/4/
التصوير
إن أرباب هذه الصناعة قد تلجِئُهم الضرورة أحيانًا إلى أن يجروا ألحانًا من نغمات غير نغماتها الأصلية، كلحن الدوكاه والحجاز مثلاً اللذين أصل كون قرارهما على نغمة الدوكاه، فإنهم أكثر الأحيان يجرونهما عن نغمة النوى؛ لكي ترتفع طبقتهما، وتلذ السامع وقد يكون ذلك ضروريًّا في بعض الألحان المزدوجة التي يكون عملها يتناول ديوانين، وقرارها على نغمات عالية مثل لحن شد عربان الذي يعسر على المنشد أن ينشده بأن يكون قراره على الدوكاه؛ لأنه حينئذ يضطر إلى أن يصعد بصوته إلى جواب الحسيني الذي على الغالب يعجز صوت المنشد عن بلوغه، وإن بلغه فيكون ذلك بعنف شديد، ويكون سماعه غير لذيذ، ففي مثل هذه الواقعة يصورون اللحن المذكور بأن يكون قراره نغمة اليكاه أو العشيران، كما أنهم غالبًا يعملون أيضًا لحن المحير من هذا المحل مثل (مرّ ساجي الطرف بدري) من تلحين المؤلف أصول (مربع) فإنه محير وخانته جواب بوسليك وتصعد إلى جواب الحسيني. وأما عندما يراد إجراء العمل على آلتين مختلفتين في الطبقة من أصل وضعهما كقانون كبير طبقته منخفضة، ولا يمكن شدّ أوتاره أكثر من احتمالها فتنهتك، ومعه كرفت قصير وهذا تكون طبقته عاليةً بالضرورة، فحينئذ لا تتوافق أبراجهما إلا بأن أحدهما يصور اللحن المراد إجراؤه من أية نغمة في آلته تطابق نغمة تلك في الآلة الثانية؛ ولذلك كان يلزم أرباب الصناعة الموسيقية الحذاقة التامة في ضوابط فن اللحن المؤسس على معرفة أبعاد النغمات عن بعضها في كمية الأرباع بين كل نغمة ونغمة، ومما فوقها وتحتها؛ لأن بهذه المعرفة يتمكن الموسيقي من تصوير كل لحن على أية نغمة أراد. ولأجل زيادة الإيضاح نورد لذلك مثالين: الأول إذا أُريد إحالة نغمة النوى إلى الدوكاه، أي: إذا أريد أن يعمل من على نغمة النوى ما يعمل على نغمة الدوكاه، يلزم لهذا العمل إفساد نغمتين من الديوان، وهما نغمة الحسيني ونغمة الأوج بأن ينزل كل منهما ربعًا واحدًا، لتكون الأولى تيك حصار والثانية عجمًا. وحينئذ تكون أبعاد النغمات من النوى إلى جوابها على نسبة أبعاد النغمات من الدوكاه إلى جوابها؛ لأن نسبة الدوكاه إلى سيكاه كنسبة النوى إلى تيك حصار، ونسبة السيكاه إلى الجهاركاه كنسبة تيك حصار إلى العجم، ونسبة الجهاركاه إلى النوى كنسبة العجم إلى الكردان، ونسبة الحسيني مع النوى كنسبة المحير مع الكردان، ونسبة الأوج مع الحسيني كنسبة البروك ومع المحير ونسبة الأوج إلى الكردان كنسبة الماهوران إلى البزرك إلخ.. والمثال الثاني أنه إذا أريد إحالة النوى إلى الراست بأن يعمل لحن الراست من نغمة النوى، فقد تقدم أن العمل من نغمة الغماز كالعمل من النغمة التي هي غماز لها، وفي هذا المثال كأن النوى غمازًا لنغمة الراست، وهكذا الحسيني غمازٌ لنغمة الدوكاه، والأوج لنغمة السيكاه والكردان لنغمة الجهاركاه والمحير لنغمة النوى، فهذه النغمات لا يفسد منها شيء؛ لأنها متناسبة وأما البزرك والكردان أن فلا تصح نسبتهما إلى الحسيني والأوج، بل يقعان، وحينئذ يلزم أن يرفع البزرك ليصير جواب بوسليك، ويقوم مقام الحسيني وهكذا أيضًا ترفع نغمة الماهوران ربعًا واحدًا لتصير جواب نيم حجاز وتقوم مقام الأوج، وبذلك يتم العمل. وبرهان صحة العمل في المثالين المذكورين يظهر من هذين الجدولين الآتيين. ليكن معلومًا أن أسماء المقامات كثيرة، ولها تراكيب وطرق مختلفة، وليست كلها مستعملة في بلادنا المصرية؛ ولذا وضعت التراكيب الملحن عليها في مصرنا — قديمة كانت أو حديثة — حسب ترتيب المقامات من ابتداء الراست والمقامات التي تقر عليه، والدوكاه والمقامات التي تقر عليه إلى الأوج، وأمام كل تركيب تعبير الإفرنج عنه إذا كان مستعملاً عندهم، ثم أضفت إلى كل منها بعض تراكيب غير ملحن عليها عندنا عسى أن بعضًا من ملحنينا الفطاحل يتركون التلحين على مقامَي البياتي والصبا؛ رحمة وشفقة على هذين المقامين التعيسين، ويضعون بعضًا من التلاحين على هذه التراكيب المطربة، بدل أنهم يدعون اختراع مقام جديد، مع أن القديم لم يلحنْ عليه العشر منه. أما باقي الموشحات والأدوار المصرية التي من مقام الراست، فهي على هذا التركيب كلها تقريبًا — راست — دوكاه — سيكاه — جهاركاه — نوا — حصار.. إلخ. وأما في اصطلاح الآلات العربية تستعمل الطريقة المذكورة بطريقة مقام البياتي أيضًا مع خفض موقع بردة الجهاركاه قليلاً لتكون بولسليك والركوز أخيرًا في بردة الدوكاه. والأصوب رفع موقع بردة السيكاه؛ لتكون بوسليك وإبقاء بردة الجهاركاه على ما هي عليه وحينئذ تكون هذه الطريقة هي ذات طريقة مقام البوسليك فقط يختلفان باستعمال بردة الراست في مقام العشاق واستعمال بردة الزيركوله في مقام البوسليك لا غير. والفرق ما بين هذه الطريقة وطريقة مقام البياتي في الألحان التركية هو لميل طريقة مقام العشاق عند الروع في العمل إلى طريقة مقام الراست لا غير. والبكاء المستعملة في مصر مثلها غير أنه بدل الحسيني حصار مثل (يا نحيل القوام) — أصول. (سماعي ثقيل) قديم. ولكن أكثر التلاحين المصرية القديمة أو الحديثة من هذا المقام تقر على الدوكاه. — وأما ما بقي من الأسماء التي في كتابنا هذا فكلها أسماء اصطلاحية غير ما فسرناه في السابق. والثاني يختص بالألحان وهو نوعان ذوات أوتار وذوات نفخ. أما ذوات الأوتار؛ فمنها ما يشدون عليه وترًا كالعود والقانون، ومنها ما يشدون عليه سلكًا من حديد أو نحاس كالطيور وما شاكله، ومنها ما يشدون عليه شيئًا من شعر الخيل كالمنجة والرباب ونحوهما، وذوات النفخ كالناي والمزمار وغيرهما، إلا أن المستعمل الآن كثيرًا في بلادنا للطرب الدف والعود والقانون والكمنجة والناي، فالدف من متعلقات الأوزان، وباقيها من متعلقات الألحان، وأهل مصر يسمون مجموع ذلك (بالتخت) أو (الجوقة) وأعظمها عندهم.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/5/
العود
ولهم في ضربه طرق وفنون تكاد أن تكون من المغيبات فهو سلطان الآلات بالإجماع وفي سماعه نفع للجسد وتعديل للمزاج، وهذا علاج وأي: علاج؛ لأنه يرطب الأدمغة وينعش القلوب ويرزن العقول ويجلو الكروب وهو غذاء الأرواح وجالب الأفراح ومذهب الأتراح. قال الشاعر في مدحه: وقال آخر: وقد اشتهر بحسن التوقيع عليه في زماننا هذا في مصر حضرة (أحمد أفندي الليثي) فإن له في ضربه فنونًا مطربة؛ وذلك لخفة أنامله على أوتاره وحسن حركاته، وكذلك (محمود أفندي الجمركشي). وقد اعتنى أهل مصر بالعود زيادة عن غيره من الآلات حتى إن أمراءهم وأكابرهم يتعلمونه لحظ أنفسهم، وتتميمًا لمنتزهاتهم؛ واستجماعًا لأنواع مسراتهم، وهذا لا يخل بمروءاتهم؛ فقد غنى به كثير من الخلفاء كيزيد بن عبد الملك ومسلمة بن عبد الملك، وإبراهيم بن المهدي، وقد رزق حسن الصوت وتمام هذه الصناعة، وقد كان في درجة الأئمة في العلوم الشرعية وغيرها، وأبو عيسى بن الرشيد، وعبد الله ابن موسى الهادي، وإبراهيم بن عيسى بن جعفر المنصور ومحمد بن جعفر المقتدر، والمتوكل، مع ما كان عليه من عظم الخلافة، وقد رزق من ذلك حظوة عظيمة حتى أشرق على الدنيا إشراق الشمس، وكذا المهدي وولده المؤيد وطلحة الموفق والطايع والمقتدر رحمة الله عليهم أجمعين. فالوتر الأول من شمال العود يشدونه يكاه، ويسمونه أيضًا (نهفتا) وعند الحاجة قرار السيكاه أو قرار البوسلك، أما الزوج الذي عن يمينه فيجعلونه (عشيرانًا)، والثالث (دوكاه) والرابع (نوا) والخامس (كردانًا) حتى يكون البعد بين مطلق ومطلق ما عدا بين الأول والثاني ثلاث نغمات. وأحسن طريقة للدوزان هي المصطلح عليها في الوقت الحاضر أن يشد النوا فيكون جوابًا لليكاه. وإذا جسَّ على النوا بالسبابة، فيخرج منه صوت يكون جوابًا للعشيران ويسعى بالحسيني، ثم يجس على العشيران بالبصر فيسمع منه صوت قرار الكردان وهو الراست، ثم يجس على الكردان بالسبابة، فيسمع منه صوت المحير أي: جواب الدوكاه، فيشد الدوكاه قرارًا للمحير. وقد رسمنا رقبة لعود وضعنا عليها عنق النغمات والأنصاف وبعض الأرباع؛ بغاية الضبط والإحكام في التقسيم والتثبت الشافي من معرفة المحل الحقيقي لأية نغمة أو عربة؛ حتى يتيسر معرفتها لمن يريد أن يعرف مواضعها بسهولة. وجواب النوا ٢٠ مليمترًا بعد جواب التيك حجاز. هذا في حالة ما إذا كان طول وتر العود التي تشتغل عليه مساويًا لطول وتر العود الذي قسنا عليه، أما إذا كان مختلفًا عنه، فيمكنك إيجاد مسافة للعنق على عودك بأن تأخذ المسافة الموجودة بجدولنا، وتنسبها إلى طول الوتر وهو ٦٤٠ وتضرب هذه النسبة في طول وتر العود الذي تشتغل عليه تنتج مشافة العفق عندك. مثال ذلك إذا كان طول وتر العود الذي تشتغل عليه ٦٢٠ بدلاً من ٦٤٠ وأردت تعيين نغمة الحصار، فناسب هذه المسافة في جدولنا إلى الطول الأصلي للوتر في الجدول المذكور تجد النسبة ٤٠ على ٦٤٠ أي ٤ على ٦٤٣ أي ١ على ١٦ فتضرب هذه النسبة في طول الوتر الذي تشتغل عليه هكذا: ١ على ١٦ في ٦٢٠ = ٦٢٠ على ١٦ = ٣١٠ على ٨ = ٤ على ٣٧٫٨ مليمترًا أي ٣٧٫٥ مليمترًا، ويمكنك أن تهمل هذا الكسر وهو نصف المليمتر؛ لأنه لا يؤثر في مسموع الصوت، وتنبع نفس هذه الطريقة في قياس باقي النغمات والأنصاف والأرباع. ولما كنت لا أريد من هذه الحياة إلا خدمة صالحة للشرق عسى أن يحيي ويتقدم فيه هذا الفن الجليل وضعت طريقة إصلاح العود حسب الدوزان الإفرنجي كما قرره حضرة الشاب الفاضل (أحمد أفندي أمين الديك) في كتابه (نيل الأرب في موسيقى الإفرنج والغرب) وهو أمثل كتاب ألف لتعليم مبادئ علم النوتة. وقبل تبيين كيفية إصلاح العود ليكون قابلاً للعمل به يلزمنا أن نعلم أن صوت الوتر يعلو بشده ويغلظ بإرخائه، وأن صوت جزئه أحدّ من صوته كاملاً، وأنه لأجل أن يمثل الوتر صوتًا معلومًا يعالج بالشد والإرخاء؛ حتى يعطي ذلك الصوت. (تنبيه) ربط الأوتار في مفاتيح العود، تربط فتلتا وتر النهفت في المفتاحين نمرة — ١ — (ش ١ وفتلتا وتر الحسيني في المفتاحين نمرة — ٥ — وفتلتا وتر الدوكاه في المفتاحين نمرة — ٢ — وفتلتا وتر النواق المفتاحين نمرة — ٣ — وفتلتا وتر الكردان في المفتاحين نمرة — ٤ — والفتلة نمرة — ١ — تربط في المفتاح نمرة — ١ — والفتلة نمرة — ٢ — تربط في المفتاح نمرة — ٢ —. وهناك طريفة أخرى لإصلاحه أكثر استعمالاً وهي أن تشد وتر النهفت (يكاه) حتى يحدث نغمة ثم يعالج وتر النوا حتى يحدث جواب النغمة المسموعة من النهفت ثم يعفق في منتهى عشر النوا، فالنغمة التي تسمع من باقية تكون جوابًا للنغمة المطلوب سماعها من الحسيني، فيعالج الحسيني إذن حتى يحدث قرارها وبعد إصلاح الحسيني يعفق في منتهى سدسه؛ فتكون النغمة المسموعة من باقية هي قرار ما يتولد من الكردان، وبمعلوميتها يعالج الكردان حتى يحدث جوابها وبعد إصلاح الكردان بعفق في منتهى عشرة، فتكون النغمة المسموعة من باقية هي جواب ما يطلب سماعه من الدوكاه وبمعلوميتها يعالج وتر الدوكاه حتى يحدث قرارها، وبذا يتم إصلاح العود. (تنبيه) إن الجدول المكتوب عليه (جدول الديوان العربي عند المحدثين) كان في بعض أسمائه خطأ فأصلحناه.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/6/
القانون
وهو من الآلات التي هي في الطبقة العليا من الطرب — ومع ذلك فإن العمل عليه سهل جدًا ويكون صوته كصوت آلتين تشتغلان معًا؛ لأن العامل به في وقت العمل تكون جميع النغمات المحتاج إليها من قراراتها وجواباتها مبسوطة أمامه، ويداه متفرغتان للعمل يشتغل باليد اليمنى على ذلك الديوان، وباليسرى على قراره، فيكون المسموع من الآلة صوتين جوابًا وقرارًا معًا. هذا مع أن كل نغمة منه تحتوي على ثلاثة أوتار فيكون عبارة عن صوت ست كمنجات تشغل معًا، وأمَّا صفة دوزانه فقد جرت العادة بأن يشدُّوا عليه أربع وعشرين نغمة، كل نغمة منها ثلاثة أوتار متساوية في الغلظ والدقة، ثم إن وتر كل نغمة يكون أغلظ مما فوقه وأرق مما تحته، وعلى الغالب يجعلون النغمة العليا جواب الحسيني وبعضهم يجعلونها جواب النوا، وهكذا يشدون كل نغمة تحت الأخرى على الترتيب، أي إذا جعلوا العليا جواب الحسيني يجعلونها جواب النوا وهكذا يشدون كل نغمة تحت الأخرى على الترتيب أي إذا جعلوا العليا جواب الحسيني يجعلون التي تحتها جواب النوا وتحتها جواب الجهاركاه وتحتها جواب السيكاه وهكذا، وينزلون نغمة نغمة إلى النغمة الرابعة والعشرين فيكون موقعها قرار الجهاركاه إلى قرار السيكات وثانيها من قرار الجهاركاه إلى السيكاه — وثالثها من الجهاركاه إلى البزرك (جواب السيكاه) ويبقى فرقة الماهوران (جواب الجهاركاه) والرمل توتي (جواب النوا) وجواب الحسيني. وهذا الترتيب يسمونه دوزانًا سلطانيًا يريدون بذلك أنه مرتب على نغمات صحيحة لا أرباع فيها، فإذا أرادوا عمل بعض الألحان التي يفسد فيها بعض النغمات يعمدون إلى تلك النغمة التي تفسد بذلك اللحن فيشدونها أو يرخونها عن أصلها ويجعلونها ذاك الربع المحتاج إليه — مثل الأول لحن الحجاز فإنه إذا كان قراره الدوكاه تفسد فيه نغمة الجهاركاه فيشدُّونها حتى تكون حجازًا — ومثل الثاني لحن البياتي؛ فإنه تفسد فيه نغمة الأوج فيرخي حتى يكون عجمًا. وممن اشتهروا بإجادة التوقيع عليه في عصرنا هذا حضرة (محمد أفندي العقاد) فإنه نظرًا لطول مدة وجوده مع المرحوم عبده أفندي الحمولي وسرعة المرحوم في نقل المقامات عُوِّد على تصليح القانون في مدة لا يباريه فيها خلافه، كما يشهد بذلك معاصروه ممن يشتغلون بتلك الآلة.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/7/
الكمنجة الإفرنجية
وعاداتهم أن يشدوا عليها أربعة أوتار، أولها من جهة اليمين وهو أغلظ الأوتار، ملفوف عليه سلك رقيق من نحاس يجعلونه قرار الراست — وثانيها وتر أرق منه، يجعلونه يكاه وثالثها وتر أدق منه يجعلونه دوكاه، ورابعها وتر أو خيط مزدوج مبروم من حرير أرق منه، يجعلونه نوى، والعمل في أخذ النغمات والأرباع الباقية كالعمل في العود تؤخذ بالحبس على الأوتار بأصابع اليد اليسرى، غير أن في مصر الآن يشدون الأول من جهة اليمين (يكاه) والثاني (عشيران) والثالث (نوا) والرابع (كردان وذلك لسهولة الأخذ والاشتغال بإصبعين بدل ثلاثة أصابع، وعدم الصعود بها إلى وجه الكمنجة، ولكن ذلك بخلاف القواعد الأساسية الموضوعة لهذه الآلة وتدل على عدم مهارة المشتغل بهذه الكيفية، والبرهان على ذلك أن تنظر أربابها من الإفرنج أو الأتراك فيتضح لك الفرق بين الوجهين. وممن اشتهروا بها في مصرنا — حضرة الأسطى (إبراهيم أفندي صهالون) فإنه — حقيقة — لا تختلف أنامله كغيره في معرفة محلات النغمات أو الأنصاف، يعلم تلك الفروقات المشتغل تمامًا بهذا الفن.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/8/
الكمنجة العربية
وهي المسماة (بالرباب) يشدون عليها جزرتين من شعر الخيل إحداهما — وهي الأرق — من جهة الشمال أي شمال الآلة ويجعلونها (النوا) — والثانية وهي الأغلظ من جهة اليمين ويجعلونها (الدوكاه) وأحيانًا راستا — وبقية النغمات والأرباع تؤخذ بالأصابع كما تقدم — غير أن هذه الآلة وإن كان صوتها شجيًا مطربًا فهي غير كاملة الترتيب — وأكثر الأحيان يضطر صاحبها أن يأخذ نغمات القرار من الجواب كالعراق والعشيران واليكاه فيعملهن من الأوج والحسيني والنوا؛ إذ ليس محل لهن في الآلة لعملهن منه، وأكثر أربابها يضطرون أن يحملوا معهم كمنجة ثانية قصيرة يجعلون الدوكاه منها بارتفاع النوا في الأولى. ولكن يستر منها هذه العيوب صوت بقية الآلات التي تصاحبها في العمل وبراعة الذي يشتغل بها إذا كان منفردًا، فيتجنب العمل من النغمات التي يعسر عليه إجراؤها عليها — وهم يقصون على نغماتها الآن في القهاوي البلدية السير الخماسية كعنترة — وأبي زيد وخلافهما. وممن اشتهر بها في مصر شاب يسير ليلاً في الأزبكية يسمى (صالح أحمد الشاعر) فهو أيضًا فريد في الاشتغال بهذه الآلة.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/9/
الناي
وهو عبارة عن أنبوبة مجوفة مأخوذة من الغاب ومهذبة تهذيبًا صناعيًا — ويستعمل بوضع فتحته العليا على الفم وضعًا مائلاً؛ بحيث يمس جزء منه جزءًا من الشفتين ويكون جزؤها الآخر بعيدًا عن الشفتين لأجل أن يلتقي الهواء الخارج من الفم عند النفخ بذلك الجزء البعيد، وبذا يحصل الصوت — وتجد شكله في يد (علي أفندي صالح). فالناي كما علم مفتوح الطرفين، ثم بالنفخ في إحدى تلك الأنابيب المفتوحة الطرفين بعد وضعها على الفم وضعًا مناسبًا يحصل الصوت كما قدمنا، ولكن يتغير صوت الأنبوبة بتغير قوة النفخ، فالنفخ القوي يحدث صوتًا حادًا والنفخ الضعيف يحدث صوتًا غليظًا — فأغلظ صوت يحصل من الأنبوبة يكون ناشئًا بالطبع عن أضعف قوة بالنفخ ويسمى بالصوت الأساسي للأنبوبة (ويعرف عند الناياتية بأساس أول ديوان واطي) — والصوت الذي يحصل من القوة الثانية للنفخ يسمى: أول أرمونيك (وهو المعروف عند الناياتية بأساس أول ديوان عال) وهو جواب الصوت الأساسي — والصوت الذي يحصل من القوة الثالثة للنفخ يسمى ثاني أرمونيك وهو جواب لأول أرمونيك — والذي يحصل من القوة الرابعة للنفخ يسعى ثالث أرمونيك وهو أعلى من الأرمونيك الثاني بمسافة خامسة — والذي يحل من القوة الخامسة يسمى رابع أرمونيك وهو أعلى من الأرمونيك الثالث بمسافة رابعة — والذي يحصل من القوة السادسة هو خامس أرمونيك وبعده عن الرابع يساوي مسافة ثالثة كبيرة — وسادس أرمونيك أعلى من الخامس بمسافة ثالثة صغيرة إلخ — ثم إنه لأجل الحصول على الأصوات المحصورة بين أي أرمونيك والذي يليه مباشرة نفتح ثقوب في سطح الأنبوبة لتوصل الهواء الداخل بالهواء الخارج — وتكون أوضاع تلك الثقوب على نسب حسابية معروفة لصناع هذه الآلات ليكون صوت كل ثقب عند إطلاقه أي فتحه) أعلى من صوت الثقب الذي قبله بمسافة محدودة — ففي الناي صوت أول ثقب (وهو أقرب ثقب لطرف الناي الأسفل وأبعد ثقب من الطرف الموضوع على الفم) يكون أعلى من الأنبوبة بمقدار بردة — ثم إن صوت أي ثقب خلافه هو أعلى من صوت الثقب الذي قبله مباشرة بمقدار عربة — أما الثقب الذي يفتح من خلف ويسد بالإبهام فتقول الناياتية أن استعماله لا يكون إلا لإحداث سابع درجة من أول طبقة واطية. بناء على ما تقدم إذا كان الصوت الأساسي لأنبوبة هو صول — ١ — يكون أول أرمونيك هو صول — وثاني أرمونيك هو صول ٢ — وثالث أرمونيك هوري ٢ — ورابع أرمونيك هو صول ٣ — وخامس أرمونيك هو سي ٣ — وسادس أرمونيك هو ري ٤ — ومتى علمت أصوات الأرمونيك يكون من السهل معرفة أصوات الثقوب؛ لأنه إذا كان المعلوم أرمونيك هو ري ٤ يكون صوت الثقب الأول من الناي هو مي ٤ لأن مي تبعد عن ري بمقدار بردة وقس على ذلك. ولما كان لا بد من التلميح بذكر بعض آلات أخرى لتداولها الآن كثيرًا بيننا فنقول: من الآلات ذوات الكلافييه البيانو — والأرمونيكا — والموزيكه المتداول استعمالها بين الكثير من الشبان في المنازل — وفي هذه الآلات من التحسين والتخفيف حين الاشتغال ما ليس في ذوات الأوتار من حيث عدم الكلفة في إصلاحها — وبعض هذه الآلات مؤسس على نظام المقامات الأحادية النغم كالبيانو والأرمونيكا وهي الأنفس صناعة وتحسينًا — والبعض الآخر مؤسس على م بعض المقامات الثنائية النغم والأغلب على مقام (دو) الكبير. وللعلم بأية آلة من ذوات الكلافييه يجب معرفة المقام المصنوع فيه اللحن المراد عمله على الآلة — ثم يبحث في الكلافييه عن أشرطة النغمات المرادة فتعود الأصابع على النقل عليها ثم يشرع في التلحين وتوقيعه حتى يضبط — وإن كان الكلافييه مؤسسًا على مقام خاص واللحن من مقام آخر ففي هذه الحالة يجب نقل اللحن من مقامه إلى مقام الآلة. وهاك صورة جزء من كلافييه بيانو. فالأشرطة البيض هي للنغمات الطبيعية والسود للنغمات المتحصل عليها بالتحويل — فالشريط الأسود نمرة — ١ — هو لنغمة دو دييز أو نغمة ري بيمول — والشريط نمرة — ٢ — لري دييز — أو مي بيمول — أما فا بيمول فتحدث من لمس شريط مي وهكذا إلى أن تصل إلى الموقع نمرة — ٩ — الذي هو سي دييز — ولا يخفاك أنه هو موضع دو الطبيعي كما وأن الموضع نمرة — ٨ — هو موضع دو بيمول — ولا يخفاك أيضًا أنه موضع سي الطبيعي. واعلم أن أحسن الطرق في العمل الموسيقي هو العمل بالصوت الإنساني، فإنه أعظم بكثير من العمل بغيره من الوسائط الموسيقية الأخرى — وكفى بفضله أنه يغني عن الآلات إذا وجد — والآلات تحتاج إليه. كما وأنه يوصل المعاني إلى الذهن في الألحان الملفوظة، وأنه يشجي ويطرب أكثر من غيره وأنه أطوع من غيره في إحكام الواجبات وإتقانها.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/10/
الصونومتر
ويستعمل لتطبيق قانوني الأطوال آلة تسمى (بالصونومتر) وهي عبارة عن صندوق من خشب خفيف (دد) به فتحة من وجهه الأعلى ومثبت عليه حاملان ٢ و ٤ يبعدان عن بعضها بمقدار طول اختياري — فلو شد وتر بحيث يرتكز على الحاملين ٢ و ٤ يكون ما بين الحاملين هو الطول المولد للأساس فلو استحضر حامل متحرك مثل ٣ ووضع بحيث يحمل الوتر من نقطة منه تبعد عن أحد الحاملين بمقدار تسع وعن الآخر بمقدار ثمانية اتساع يكون الجزء الذي قدره ثمانية اتساع مولدًا للدرجة الثانية — ولو حمله من نقطة تبعد عن أحد الحاملين بمقدار خمس وعن الآخر بمقدار أربعة أخماس يكون الجزء المعادل أربعة أخماس هو المولد للدرجة الثانية وهكذا. (فائدة) من تأمل في العود (وما على منواله من الآلات ذوات الأوتار والعفق) يجده صونومترًا جميل التركيب صندوقه الخشب مركب من القصعة والوجه، وحاملاه هما مشط العنق ومشط الوجه، والحامل المتحرك هو الأنامل التي تنتقل على مواقع العنق — والقوة المؤثرة لشدة الأوتار هي المفاتيح.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/11/
المترونوم
(٢) — البندول — هو عبارة عن شريط مثبت أحد طرفيه في مسمار مثلاً والطرف الآخر معلق به كرة ثقيلة — فإذا جذبت تلك الكرة إلى أحد جانبيها ثم تركت ونفسها، فإنها تتحرك حركة تماثل حركة (رقاص الساعة) وتسمى حركة ذهاب وإياب البندول — والزمن الذي يتم فيه انتقال كرة البندول من جانب إلى آخر هو الذي يصلح لتقدير حركات الأهوية. وحيث أن شريط البندول يقبل أطوالاً متغايرة، وأنه كلما طال الشريط طال زمن الحركة، وكلما قصر الشريط قصر زمنها — وبطول زمنها أو قصره تكون حركة الأهوية بطيئة أو سريعة — فالأزمنة حينئذ كثيرة — ولا تكفي لفظتا سريعة وبطيئة للدلالة عليها وتمييز بعضها عن بعض؛ فلهذا وضع علماء هذا الفن لكل زمن حركة بندول شريطه معين الطول اسمًا مخصوصًا وأناطوه بحركة الهواء — وهاك جدولاً لبيان هذه الأسماء وأطوال شريط البندول اللازمة لها — وفي مقابلة كل اسم عدد درجات المترونوم المصطلح عليه: ومن الحركة إعطاء بعض مقاييس الهواء عند تلحينه هيئة صوتية من جهر أو خفاء أو شدة أو ضعف تشعر بمعنى الكلام الملحن — ولهذه الحركة أسماء تأتي فوق بعض المقاييس لتعيين المكان الذي يراعى فيه مدلولها — وهاك جدولاً لأسماء أشهر الحركات التي من هذا النوع وما يقابلها في اللغة العربية.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/12/
الأوزان الأصول
وفي الأستانة والشام يدقون التم باليد اليمنى — والتك باليد اليسرى. ولما كان مقدار الزمن فيما بين كل تم وتك يختلف في القصر والطول بحسب نظام كل وزن — ومن اللازم ضبط تنوع حركات التمات والتكات، سيما وقد تعسر على المبتدئين معرفة الإشارات الاصطلاحية التي وضعناها في كتابنا الأول (نيل الأماني — في — ضروب الأغاني) الذي نفق طبعه منذ خمس سنوات — وهو أول كتاب طبع في الشرق وذكرت فيه الأوزان المصرية صحيحة. لذا وضعنا لفظ كل — تم — وتك — وبجانبه مقدار المسافات اللازمة. تنقسم الواحدة المنظوم عليها أوزاننا إلى أربعة أقسام: الكبيرة وكل خمس وعشرين منها تستغرق دقيقة وهي التي يغني عليها الأدوار بمصر الآن، وتساوي أربع خانات: (والمتوسطة) ومنظوم عليها أكثر الأوزان وكل خمسين منها تستغرق دقيقة وتساوي خانتين. (والصغيرة) ومنظوم عليها بعض الأوزان وكل مائة منها تستغرق دقيقة وتساوي خانة. (ونصف الصغيرة) ومنظوم عليها بعض الأوزان أيضًا وكل مائتين منها تستغرق دقيقة وتساوي نصف خانة. والأوزان المصرية الشهيرة التي تلقاها الخلف عن السلف هي: أولاً قد تلقينا الأوزان التركية والشامية على فطاحل علماء هذا الفن كالأستاذ الفاضل الشيخ أبي خليل القباني والشيخ عثمان الموصلي وغيرهما — ودرسنا كتب الأتراك أيضًا لها التي فيها أوزانهم فلم نجد لذكر هذا الرباط أثرًا. هذا الوزن فقد من مصر — وفي سفينة المرحوم الأستاذ الشيخ شهاب موشح واحد عليه (بياتي) وهو (إن الهوى قضى) ولم أسمع من أستاذ مصري أنه ألقاه على هذا الوزن، بل على وزن (المدور). فيكون على هذا الحساب يساوي (٢٢) اثنتين وعشرين بالواحدة المتوسطة، بخلاف وضع الأتراك له فإن الثقيل عندهم يساوي (٤٨) ثماني وأربعين — ونصفه أي (التيم ثقيل) يساوي (٢٤) أربعًا وعشرين — فلم يعلم من أين جاء هذا النقص — وقد تلقيناه هكذا من حضرة الأستاذ الشيخ محمد عبد الرحيم. ولا بد أن يكون ناقصًا تمًا من أوله بثلاث مسافات وقد وضعه الشيخ المذكور ناقصًا من باب السهو في كتاب ذاكر بك. هكذا تلقيناه على حضرة الأستاذ الشيخ محمد عبد الرحيم الشهير (بالمسلوب) على موشح كـ(للي) (الحجاز) — وقد تلقيناه على حضرة الأستاذ الشيخ إبراهيم المغربي على نفس الموشح السابق — وموشح آخر عراق وهو (ورقا على الغصون) هكذا: ومسافة الاثنين واحدة؛ أي أن كلاً منهما يساوي (٢٤) أربعًا وعشرين بالواحدة المتوسطة، والشروع في التلحين عليه من آخره أي من التم الذي بعده ثلاث مسافات صغيرة. وفيه رباطان ويساوي (١٦) ست عشرة من الواحدة المتوسطة — والروع في التلحين عليه من آخره (قاتلي يغنج الكلح) (بياتي). إن الموشح الوحيد المنظوم على هذا الوزن من أبدع الموشحات التي يتفاخر بها المصريون وهو (زارني باهي المحيا) — (السيكاه) — ولما فقد تلحينه الأصلي من مصر وصار لا يعرفه إلا القليل — فقد تلقيته على أصله عن حضرة الأستاذ الشيخ (إبراهيم المغربي) ملحن طرق المولد النبوي الشريف التي يلقيها حضرة الأستاذ الشهير الشيخ (إسماعيل سكر) فريد في هذا الباب — والشيخ (سيد الصفتي) وغيرهما من الفقهاء، وحفظت مسافاته ورباطه بغاية الدقة والإحكام. وقد علمته — بتلحينه — لبعض الممثلين والمغنيين كيما ينتشر؛ حتى لا تفقد مصر تلك الموشحات البديعة. والشروع في التلحين عليه بعد التم الأول ومسافته أي من التم الثاني — وهو يساوي (١٤) أربعة عشرة من الواحدة المتوسطة. الشروع في التلحين عليه من التم الأول — (كم وكم ذا الصدود يا أملي) (عراق) — ويساوي (١٢) اثني عشرة من الواحدة المتوسطة. الشروع في التلحين عليه من التم الأخير مع مسافاته الثلاث (على إيش يا منى قلبي) (سيكاه) ويساوي (١٠) عشرًا من الواحدة المتوسطة. والشروع في التلحين عليه من أوله (املا واسقيني يا أهيف) (السيكاه) — وهو يساوي (٨) ثمان من الواحدة المتوسطة. وتارة يكون الشروع في التلحين على هذا الوزن من أوله (كهل على الأستار) (حسيني وقراره يكاه) وآونة من بعد التم الأول (كبدًا وفي كفه) (الراست) — و(يا غصن البان) الأوج ويساوي (٧) سبعًا من الواحدة المتوسط. الشروع في التلحين عليه من مسافته الأخيرة أي قبل التم (كراعي اليواقيت العذاب) (الراست) أو من أوله؛ كـ(فيك كل ما أرى حسن) — (البياتي) وهو يساوي (٦) ستًا من الواحدة المتوسطة. الشروع في التلحين على هذا الوزن من التم الأخير مع مسافته (كهجرني فدعني من البعاد) (الحجاز) أو من أوله (كوجنات الغيد) (الحجاز أيضًا) وللملحن الحقُ أن يدخل في هذا الوزن كيفما أراد غير أنه إذا دخل مثلاً من الأول وجب عليه أن يقفل على الآخر — وإذا دخل من التم الأخير وجب عليه حتمًا أن يقل على التم الذي بعد التك الأول من الوزن وهو يساوي (٤) أربعًا من الواحدة المتوسطة. هذه هي الأوزان المصرية التي تأتي على الواحدة الكبيرة أو المتوسطة — ولنذكر لك أسماءها مرة أخرى؛ لتثبت في ذهنك وهي (الخفيف) و(الثقيل) — و(الشنبر) — و(الأربعة وعشرين) — و(الورشان) و(الستة عشر) — و(المحجر المصدر) — و(الرهج) — و(الفاخت) — و(المخمس) — و(المحجر) — و(المدور) — و(المصمودي). ويسمون كل هذه الأوزان في النوتة الإفرنجية وزن ٤ من ٤ — وبعضها وزن ٢ من ٤. أما الأوزان المصرية التي تأتي على الواحدة الصغيرة فهي: والمشروع في التلحين عليه من أوله كـ(من كنت أنت حبيبه) (الراست) أو (غضي جفونك يا عيون النرجس) (الصبا) — ولكن هنا اختلاف وهو أن هذا الوزن عند الأتراك يساوي (٩) تسعًا فقط من الواحدة المتوسطة — وحضرة ذاكر بك حينما أخذ بعض هذه الأوزان على الأستاذ الشيخ محمد عبده الرحيم كتبه (٩) تسعًا أيضًا — ولكن حينما أخذناه نحن على (المترونوم) وجدنا أنه (٩.٥) تسع ونصف أي أنه لا يأتي على الواحدة المتوسطة، بل على الصغيرة فيكون حينئذ يساوي (١٩) تسع عشرة بالواحدة الصغيرة، فتنبه. ويكون الشروع في التلحين عليه إما من أوله (كغصن بان) (الحجاز) أو بعد ترك التم والتك الأولين (كماس عجبًا بدري) (السيكاه) — وهو يساوي (١٣) ثلاث عشرة من الواحدة الصغيرة وبعضهم يحذف التك الذي قبل التم الأخير ويضع بدلاً عنه مسافة. ويكون الشروع في التلحين عليه من أوله (كيا غزال ملك) (الحجاز) — وهنا أيضًا شيء وهو أن هذا الوزن إذا عددته وجدته يساوي (٤) أربعًا من الواحدة الكبيرة — ولكن حين التلحين عليه يصعب جدًا إلقاؤه على الواحدة الكبيرة أو المتوسطة؛ ولذلك حينما يراد ربطه بالنوتة يأتي في داخله وزن ٣ من ٤ — مما يثبت أن بداخله أوزانًا لا تأتي على الواحدة الكبيرة أو المتوسطة. ويساوي (١٦) ست عشرة من الواحدة الصغيرة. ويكون الشروع عليه إما من أوله كـ(يا غزالاً قد أعار الظبي تكحيل العيون) (الحجاز) — أو من التم الأخير (كيا نسمات الصبا) الأوج — وهو يساوي (٧) سبعًا من الواحدة الصغيرة. هذه هي الأوزان المصرية التي تأتي على الواحدة الصغيرة — ولنذكر لك أسماءها؛ لتثبت في ذهنك وهي: (الأوفر) — و(المربع) — و(النوخت الهندي) — و(النوخت). ويكتبون هذه الأوزان في النوتة الإفرنجية بحسب العدد الأولي الموجود في البسط على المقام الثابت وهو (٤) أربعة فيقال ٧ من ٤ و ١٣ من ٤ — إلخ. أما الأوزان التي تأتي على نصف الصغيرة فهي: ويكون الشروع في التلحين عليه من أوله (كالشوق أعياني) (ألبسته نكار) — ويساوي (١٣) ثلاث عشرة بنصف الواحدة الصغيرة — وبعضهم يكتبه (١٣) ثلاث عشرة من الواحدة الصغيرة؛ لأجل زيادة الطرب وعدم السرعة في الإلقاء فيكون هكذا: ولم أدر من أين جاء لحضرة ذاكر بك أنه (١٦) ست عشرة بنصف الواحدة الصغيرة — وهو لا يأتي مطلقًا ست عشرة بالصغيرة ولا بنصفها. ويكون الشروع في التلحين عليه من أوله (كمائس الأعطاف تيمني) (الحجاز) أو من المسافة التي قبل التك مباشرة (كلي في ربا حاجر غزيل أغيد) (الراست) — أو من التيمن بالابتداء من أولهما (كزارني منيتي فطاب وقتي) (الجهاركاه) — وهو يساوي (١٠) عشرًا بأنصاف الواحدة الصغيرة. والشروع في التلحين على هذا الوزن من التم الأول — (كأدر راحتي) (الأوج) — ولكن من الغريب أن هذا الوزن مع صغره أي انه لا يساوي إلا (٦) ستًا من أنصاف الواحدة الصغيرة — قلما أسمع عليه من المغنيين أو المشتغلين بهذا الفن ألحانًا مضبوطة — فمرة يدخلون من أوله — وأخرى من التك الأخير — وآونة من مسافته — فالأجدر بهم أن يلتفتوا إلى ضبط الأوزان أخص بالذكر منها الصغيرة التي يتهاونون فيها ازدراء فتسقطهم — فإن الآذان متعودة على سماعها أكثر من الأوزان الكبيرة — فإذا توفر فيها شروط الصحة كان موقعها في الآذان أطرب وأحلا — وهذا الوزن إذا أريد دقه على مهل لزيادة الطرب فيكون يساوي (٦) ستًا من الواحدة الصغيرة ويوضع هكذا. ويكون الشروع في التلحين عليه من التم الذي بعده المسافة (ساعد الغزال المخضوب) (الحجاز) — وهو يساوي (٣) ثلاثة من أنصاف الواحدة الصغيرة. فتكون الأوزان المصرية التي تأتي على أنصاف الواحدة الصغيرة هي: (الظرفات) — و(السماعي الثقيل) و(السماعي الدارج) — و(السماعي السربند) — و(الأقصاق). ويكتبون هذه الأوزان في النوتة الإفرنجية بحسب العدد الموجود في البسط على المقام الثابت وهو (٨) ثمانية — أي أن (الروند) كما قسم إلى (٢) اثنين من الواحدة المتوسطة — (٤) أربعة من الواحدة الصغيرة — يقسم أيضًا بالضرورة إلى (٨) ثمانية من أنصاف الواحدة الصغيرة وهو المراد فقال: — ٦ — من — ٨ — و — ٣ — من — ٨ — و ٩ — من — ٨ — إلخ.. فتنبه. ويكون الشروع في التلحين عليه من التم الأول (يا متى العين ترفق) — (عجم عشيران) — وهو يساوي (٤٨) — ثمانيًا وأربعين من الواحدة المتوسطة. ويكون الشروع في التلحين عليه من التيم الأول — (بركشاي معدات خاقان دوران دائمًا) — (عجم عشيران) — وهو يساوي — (٢٨) — ثمانيًا وعشرين من الواحدة المتوسطة. وله كيفية أخرى في الوضع — ولكن هذه هي المصطلح عليها عند إجراء العمل. والروع في التلحين عليه من التم الأول منه — (أي ظبي لوا) — (نهاوند) — وهو يساوي (٢٨) ثمانيًا وعشرين من الواحدة المتوسطة — هكذا تلقيناه على حضرة أستاذنا الشيخ أحمد أبي خليل القباني — أما أساتذتنا الأتراك فيدقونه هكذا: والخلاف بين الاثنين في مواقع التمات والتكات فقط. والشروع في التلحين عليه من أوله — (يا من رمى القلب وسار) — (عجم) — وهو يساوي (١٦) ست عشرة من الواحدة المتوسطة. هكذا تلقيناه على حضرة الأستاذ الشيخ أحمد أبي خليل — أما الأتراك فيضعونه هكذا: ويكون الشروع في التلحين عليه من التم الأول — (آه من جور الغوالي) — (عجم عشيران) — وهو يساوي — (١٦) ست عشرة من الواحدة المتوسطة. والشرع في التلحين عليه من أوله — أي: من التم — (اشطح وهم يابن ودي) — (نهاوند) — وهو يساوي (١٤) أربع عشرة من الواحدة المتوسطة — ولكن من الإشكال أن حضرة ذاكر بك كتب في كتابه أنه تلقاه على حضرة المرحوم (محمد أفندي عثمان) (١٢) اثنتي عشرة من الواحدة المتوسطة — مع أننا تلقيناه على حضرة أستاذنا الإمام الشيخ أحمد أبي خليل القباني (١٤) أربع عشرة — وأساتذة الأتراك الموثوق بدقة بحثهم في هذا العلم سيَّما وإن الوزن لهم يضربونه (١٤) أربع عشرة أيضًا — وكتب الأتراك المذكور فيها هذا الوزن بنصه (١٤) أربع عشرة — فإن كان حضرة البيك المذكور يمكنه أن يسمعنا التلحين الذي على وزنه الذي كتبه (١٢) اثنتي عشرة — اعترفنا بأنه يوجد (دور روان) آخر بغير الكيفية التي يعرفها أرباب هذه الصناعة — أما إذا كان مجرد نقل وكتابة، فلا عبرة بما كتب وأرجوه السماح؛ لأني ولو كنت صغيرًا غير أني لا أقتنع إلا بالبرهان — ولا أكتب إلا بعد التحري والتثبت الشافي كما وإني لا أتلقى الوزن إلا بناحيته. كما وأنه لا يغرب عني بأنه يوجد شكل آخر اسمه (دور رواني) — وهو يساوي (٢٦) ستًا وعشرين من الواحدة المتوسطة. والشروع في التحلين عليه من التم الأول — (عيد المواسم) — (كردان) — وهو يساوي (١١) — إحدى عشرة من الواحدة الصغيرة. والشروع في التلحين عليه من التم الأول — (شجني يفوق على الغصون) — (الأوج) وهو يساوي (١٠) عشرًا من أنصاف الواحدة الصغيرة. ويكون الروع في التلحين من التم الأول — (ارتشف بنت الدنان) — (الحجاز) وهو يساوي (٧) سبعًا من الواحدة الصغيرة. وفي الطبعة الثانية لكتابنا هذا إن شاء الله سنضع باقي الأوزان التركية — مع وضع على قدر بستانها أوزانًا شعرية عربية؛ حتى نكون خدمنا هذا الفن بمصر خدمة يكافئنا عليها المولى الكريم جل ثناؤه، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً — وهو الذي ألهم مثل عطو فتلو أفندم العالم الجليل، والرياضي الموسيقي النبيل، حميد السجايا والمناقب. (إدريس بك راغب) لمساعدتنا في تتميم هذا المشروع العظيم لحيله إلى نشر العلوم واهتمامه ببث الآداب — وهو الوحيد في مصر الذي يعضد جميع المشروعات المفيدة؛ فكم — والحق يقال — قلَّد جيد وطنه بجليل الأعمال ما تعجز عن مباراته فيه فحول الرجال، بيد أنه لا يريد بذلك جزاء ولا شكورًا غير الخدمة العامة والأخذ بأيدي العالمين من أصحاب الأفكار السامية والفنون النادية تنشيطًا لهم وحبًا لغيرهم على الاقتداء بهم في الجد والعمل — أبقاه الله لهذه الأمة ما بدأ ضوء الهلال وتوالى الفتيان. تا + هك +
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/13/
فصل في آداب المغني والسامع
اعلم أنه ينبغي للمغني عند دخوله مجلس الغناء أن يكون متأدبًا؛ لأنه لا يخفى أن هذه الصناعة صناعة أهل الذوق والفطنة والأدب — وأن يكون مجملاً بالثياب النظيفة المفرحة المعطرة — وأن يكون بشوش الوجه عذب الألفاظ — وينبغي له أن لا يتعاطى مسكرًا قبل غنائه أو في أثنائه؛ لأن ذلك ربما يدهش عقله ويمنعه من معرفة إيقاع الأنغام والأوزان في محلها — وربما يتكلم في المجلس بما لا يليق بسبب سكره مع أنه نديم المجلس وزينته، وأن يكون له دراية بضرب (الدف) لأن سير الغناء وآلات الطرب عليه بحيث لو اختل الدف في ضربه لاختلت الآلات وفسد الغناء — ولكن لما كان جل رؤساء (التخوت) أصحاب الأجور الكبيرة لا يعرفون إلا بعض الأوزان الصغيرة — ومعرفتهم في الضرب على الدف مقصورة جدًا — أراحوا أنفسهم من هذا العناء بأن جعلوا لهم في التخت دقاقًا مخصوصًا — واكتفى بعضهم بضربه على العود — حتى إذا ما ترك العود قليلاً وأراد أثناء الاشتغال أن يمسك الدف يظهر خطؤه حالاً لكل ذي بصيرة وعلم — أقول ذلك وأنا على يقين منه — فعسى أن يتركوا الكسل والغطرسة جانبًا ويتعلموا من الصغار الذين يشتغلون معهم بأقل الدريهمات (الأوزان) لأنها الجزء الثاني من صناعة هذا الفن الذي لا يتم إلا به (وذكر أن نفعت الذكرى). وأحسن ما كان الافتتاح في حضرة الأمراء والكبراء بالدعاء والثناء — أي أنه يلحن على كلام المديح ألحانًا تشابه افتتاحيات التياترات — وأن يصاغ شعر كهذا مثلاً. ومثل: ومثل: ومثل: ومثل: ومثل: ومثل: ومثل: ثم يقابل المغني الأوقات التي يقع فيها الاجتماع بما يشاكلُها فيغني في آخر الليل مثلاً من (الراست): ويغني في الصبح: ويغني في البساتين والرياض: ويغني في اليوم الطرير: ولكن من الغريب أن أكثر الناس أيضًا إذا سمعوا أشعار العرب التي قيلت في الديار والرسوم. والآثار والمرابع والأوطان والأطلال والدِّمَن وصنعة الخيل والإبل والوحش والوقائع والثارات والأيام والأعلام والمهامه والسباسب والبيد والقفار يضحكون منها ويستبشعونها؛ لأنها تبعد عن أفهامهم ولا يؤثرون من الأشعار إلا ما كان ركيكًا وفي الغزل والروض والخمر والقيان والمجالس لقرب ذلك من أفهامهم، وسرعة ملاءمته لألفاظهم — فيحتاج المغني بهذه الصناعة على الارتياض بالنظر في النحو واللغة، واستفهام الغامض من كلام العرب ومعاني أشعارها وألفاظها ليسهل عليه حفظها وفهمهما؛ فإنها أشعار جزلة فحلة كأنها نحت من صخر تتضمن أخبار العرب ووقائعهم وأثمالهم وأقوالهم وأخلاقهم ومفاخرهم وكرمهم وأنسابهم وأحسابهم، ولكن على شرط أن لا يغنيها إلا لمن يفهمها ويقدرها قدرها — كما وأنه من العيب البيِّن على الأديب أن يطلب الكلام الركيك ويترك الشعر الجيد. أما ما يجب على الملحن، فهو أن يعتمد العناية بوضع الأشعار فيما يشاكلها من الألحان — فما أغفل ذلك لم يعتد له بكبير فضل — قال قيدرس: الموسيقار الفاضل يجلب اللحن نحو المعنى ومتى لم يقدر الموسيقار على أن يجلب إلى معنى النفس بالشعر جسد اللحن، فليس هو بموسيقار كامل إذا كان شاعرًا — فإن لم يكن شاعرًا وكان صاحب لحن فقط فعلى الشاعر أن يخرج معنى النفس بالشعر وعلى الموسيقار أن يلبسه لحنًا مشاكلاً له — وقد تكون الأشعار أصنافًا عدة في الفخر — والشجاعة والزهد — والغزل — والصيد — والشرف — والحزن — والمراثي — والثارات — والقدر — والوفاء — والفرقة — والاجتماع — والغرام — والسلو — وصفة الخيل — والزهر — والمياه — والبرك — والبحار — والبساتين — والنزَه — والبعد — والقرب — والظفر — والفتح — والرياض — والحسد — والكتمان — والمصافاة — والكرم — والمواساة — والتهنئة — والدعاء — والحال — والثياب — والدواة — والقلم — والكتابة — والبلاغة — والخطابة — والسياسة — والحلم — والرياسة — والشرف — والأعراض — والشراء — والحدق — والقصور — والقدود — والنهود — والأرداف — والتثني — واستنجاز الوعد — والادكار بالحوائج — والحث — والحمية — والتحريض — والتعزية — والتسلية — والحضور — وماشا كل هذه الأحوال، وما يخلو أحد من أن تكون حالة متعلقة بشيء من هذه الخلال — ولكل معنى فيها ما يشاكله — فسبيل المغني أن يضع على كل معنى ما يليق به — فإن مدح فخَّم — وإن ذكر الوقائع أرهب وأرعد وأبرق — وإن ذكر الغزل رفق — وإن رثا ناح — وإن ذكر الموتى بكى — وإن ذكر الشباب تأسف — وعلى هذا المعنى يكون اعتماده. والطريقة المثلى للملحن الماهر — هو أن يفرض بأنه واضع جميع ما يحفظه من التلاحين من المقام الذي يريد التلحين منه أمامه — كأنها أثواب مُحاكة من حرير وصوف وكتان وقطن إلى غير ذلك — وكل ثوب منها مركب من كل هذه الأصناف مثلاً — والغرض انتخاب الحرير من كل ثوب أي انتخاب القطع المطربة من كل تلحين منها — الملحن المتمكن الذكي يمكنه أن يلتقطها وبعلمه يربطها ببعضها بمناسبات نغمية — فتكون الخلاصة قطعة غاية في الطرب والإتقان لتزاحم القطع المطربة فيها. وفي هذه القدر كفاية لقوم يفقهون. يروى أن الواثق سأل إبراهيم بن ميمون الموصلي عن التلحين؟ فقال يا أمير المؤمنين: أمثل الطرب بين عيني وأخلي من الفكر خاطري، وأسلك إلى الألحان بدليل من المعرفة فلا أرجع خائبًا، فقال: له بحق تقدمت. وقد سأل الحسن بن الطحان نفس هذا السؤال فأجابه: — إذا أردت التلحين أجريت سوابق الأشعار في ميدان الأفكار بعد أن أخلي خاطري من خواطر الأفكار الرديئة، فأنتخب أغزلها وأجزلها شعرًا فألبسه حلل الألحان حلة بعد حلة فأي حلة رأيته متهللاً مشرقًا فيها أفضتها عليه، وحليت جيده بجواهر النغم وجلوته على سمعي وتأملته بعين معرفتي فإذا رزق حظوة الرضا، وسلم رأيي فيه من الهوى أظهرته للوجود وغنيته مرتادًا للجود — فأعجب بهذا الكلام ووصله وخلع عليه — وبلغ باقي المغنين ذلك فكادوا يموتون حسدًا. أرجوكم بلسان كل محب لرقي هذا الفن أن تتركوا التحاسد الذي بلغ بينكم أقصى غاياته، وأن تتمسكوا بالوئام والاتفاق وتجتمعوا على المحب والألفة وتتفقوا في المحافظة على شرف الفن ورفع شأنه — وأن تنسوا المخاصمات والمشاحنات الواقعة بينكم — وبدلاً من أن تقولوا إذا سئلتم عن أحد أنه غبي جاهل لا يعرف من قواعد الفن شيئًا — أن تقولوا له: مجيدٌ في صناعته جاد في إتقانها مثلاً — حتى لا تثبط همته ويثابر على عمله بجد ونشاط، ولكي لا يعرف منا الغير موضع الضعف والخطأ، فيذكروه لنا وقت المجادلة. ومن جهة أخرى أقول: ولا تثريب عليّ اليوم بأن سمعتكم لدى الناس صارت رديئة، وكرهكم لبعض سارت بذكره الركبان فضربت به الأمثال في جميع الأصقاع والبلدان — وفوق ذلك فإنهم يتهمونكم بأنكم ذوو نفوس صغيرة لا تميلون إلى منفعة بعضكم البعض ولا ترغبون في أن يظهر من بينكم نابغةٌ تنتفعون بعلمه وينتفع الناس بعمله — وإن معاشرتكم لبني طائفتكم أساسها النفاق — وأعمدتها المداهنة والخداع، وهذا القول — والحق يقال — جارح لإحساس كل حر شريف ولهجة الناس به مرارًا ضربة شديدة على الفن وازدراء بأهله وتحقير لمن يود أن يتصف به وينسب إليه. فيا أرباب الطرب والكياسة والأدب أني لا أحب من صميم فؤادي أن تتصفوا بهذه الصفات الممقوتة من الله والناس — فأسألكم بحق رابطةِ الفن وجامعة الصناعة أن تكملوا أنفسكم بمحاسن الأخلاق وأحاسن العادات، وأن تتركوا ظهريًا وساوس الشيطان وما يبثه في صدوركم من الغل والحقد وأن تنزعوا من أفئدتكم أدران النميمة والوقيعة بإخوانكم حتى تصل بكم إن شاء الله في القريب العاجل إلى ذروة كمال هذا الفن وإتقانه. ومن أقبح ما ترى العين وتسمع الأذن أن يقاطع المغني متشاعرٌ يدعي الخطابة فيضايق المغني والسامعين بوريقة لفق فيها بضع أبيات من الشعر الركيك أو النثر المستهجن فوقف موقف الخطيب ونعق نعيق الغراب، ونادى بما لا يسمع ولا يجاب — ولا بد أن يصادف مثل هذا الأحمق صفير أو تصفيق وكلاهما من علامات الاستهجان وإشارات عدم الاستحسان — إلا إذا كان التصفيق في النهاية؛ فإنه يكون استحسانًا ممقوتًا أيضًا؛ لأنه غير منطبق على عوائد الشرقيين وعلى من يضيع هذا الغر على السمر والمتسامرين هزيعًا من الليل لسماع كلمة الهُراء الذي لا يجدي نفعًا. والأغرب أنه لا يكاد يجلس هذا الخطيب الصقيع الذقن حتى ينهض بعده مهزار يقابله آخر مثله خفة وظرفًا فيتبادلان أنواع الشتائم والقذف المسمى عندنا (تنكيتًا) ويأخذان على ذلك مكافأة من صاحب العرس يحرم منها الخطيب الأول حيث يتساوى الجميع على مائدة الطعام — فالأجدر بنا أن نقتلع جذور مثل هذه العوائد؛ فإنها من رأينا من مقدمات المفاسد.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/14/
فصول مهمة ومباحث ضرورية عمومية جدية بالالتفات التام
كان بودي أن لا أحوم حول هذا الموضوع وأتحاشى الخوض في عبابه؛ لبعده أصالة عن خطة كتابي هذا — غير أن للضرورة أحكامًا، فاعلم سيدي — حفظك الله وألهمنا جميعًا لما فيه الخير — أن بعضًا من المشتغلين بهذا الفن حينما لا يعرفون حقيقة وزن تلقوه على شخص غير خبير بدقائق هذه الصناعة يضعونه بأنفسهم على أي وزن كان (كالمخمس) أو (المدور) أو غيرهما — وبهذه الكيفية الملفقة فسد كثير من الموشحات البديعة — أقول ذلك عسى أن يتنبه أولئك فيتركوا التمسك بالمكابرة التي تضلّهم عن طريق الصواب — ويستبدلوها بالأخذ عمن يوثق به من الأساتذة. فإن العلم الصحيح — والشهرة الحقة — لا يأتيان مطلقًا بالسهل لك من أخذ عن أصحاب (تلك القهاوي) — وليست كلمة: (متفنن) أو ما يماثلها — يتصف بها كل من حفظ بعض الموشحات مشحونة بالخطأ — كما يفعل ذلك بعض المشايخ والطلاب الأغبياء الحديثي العهد بالدخول في هذا الفن الجليل — الذين يموهون على بسطاء بأنهم من فحول العلماء — حتى إذا ما امتحنتهم أمام خبير كشف لك ستار جهلهم وظهر حالاً بطلان ما يدعون. ولأجل زيادة الإيضاح ومعرفة المطلع البصير بكنه هذه المسألة الجديرة بالالتفات سأشرح لحضرته من باب الفكاهة باختصار حقيقة أصحاب تلك القهاوي البلدية المعروفين (بالصهبجية) أو العصبجية) — وكيف كانوا قديمًا وما توصلوا إليه الآن. من المعلوم أن رجال هذه الطبقة زعانف جهلاء — ومن أين لهم معرفة القراءة والكتابة اللتين عليهما مدار وقوام تعليم أي علم من العلوم وفن من الفنون — وقد شبوا فوجدوا أنفسهم بين أيدي أناس كبار السن من طبقتهم يرمون بهم في مهاوي الفساد والشرور — والنابغون منهم تلقوا بعض الموشحات على رؤسائهم في القهاوي (كسعد دبل) و(محمد الحضري) وغيرهما بدون أوزان — ولم يزل هذان الرئيسان موجودين للآن ويربو عمر كل منهما عن الثمانين — وقد اختبرتهما فوجدتهما لا يعرفان اسمًا لأي وزن كان. أولها لعدم استعداد أصواتهم لهذا الفن — ثانيًا لعدم أخذهم ممن يوثق بالأخذ عنه. ولرب سائل يقول: وما هو السبب في اجتهاد هذه الطبقة في حفظ تلك الموشحات بعد أن علمنا من قصورهم في المعرفة ما علمنا؟ — أقول: — أن من الناس من يصنع (عرسًا) ولا مال عنده يساعده على استحضار (مغن مجيد) أو (فقيه شهير) فتجبره حالة العسر إلى وجود مثل هذه الفئة بعد أن يرتب حتمًا ما يلزم لهم: دكتين بلديتين أمام بعضهما في وسطهما (تربيزة) ملصوق عليها كثير من الشموع — يتخللها كاسات وزجاجات الخمر البخس الثمن — أو بعد أن يجلس المغنون ويقف السامعون — يمسك رئيسهم الدف ويبتدئ بالغناء مع أصحابه — حتى إذا ما انتهى الفصل الأول يرفع عقيرته أحد الصبية (بموال) غاية في سخافة الألفاظ وقبح المعاني وبعده الشائع عما يلزم أن يقال في مثل الأعراس، وأشهر موال عندهم هو موال يقال له موال (مهران المشنوق) — وهذا الموال هو عبارة عن واقعة محزنة يسردها هذا المغني الغبي لتعيس شُنِق، وما حصل له من الإهانة من فظاظة أخلاق الحرس وضيق السجن ومعاناة الموت الزؤام وتسيير الجنازة إلخ — ولولا خوفي على شعور حضرة المطلع لأتحفته به أو بغيره — كذا يشترط في مغنيهم أن يكون قبيح الصورة نكر الصوت — وبعد انتهاء الفصل الثاني الذي يغني به من مقام غير المقام الذي انتهت إليه حركة المغني السابق الذي ينطبق عليه القصيدة التي أنشأتها ودرجت في يوم الأحد ٥ جمادَى الثانية سنة ١٣٢٣ في جريدة (الخلاعة) العدد ٣١ وهي: اعلم أن أساس التعليم وأصله وقوامه في كل صناعة الذكاء وجودة الخاطر ويقال الطبع والشهوة والميل ومعرفة المتعلم قدر الصناعة والتمييز وصفاء الذهن، فإن هذه الأمور إذا كملت في المتعلم خففت عنه وأعانته وكفته مئونة التعليم وصعوبته. والمعلم يحتاج إلى لطف ورفق وسياسة وحلم وإقامة الهيبة بلا ترهيب، بل بترغيب وحيلة بين من يتعلم من الصبيان، ومناضلة يوقعها بينهم ومخابرة ومسابقة ومحاماة عن بعضهم ومواعيد كاذبة — أما الضرب والاستخفاف فما يجدي نفعًا ولا يكاد أن ينتفع معه أحد إلا اليسير؛ لأنه يشغل الخواطر ويكمد القلوب ويحيل عن الطباع ويخرج إلى كراهة ما يضربون عليه — والغناء وهو مبني على الطرب فيجب أن يستخرج بما يشاكله لا بما ينافره — وسبيل المعلمين أن لا يكثروا على الصبيان المبتدئين بالصنائع فإن خواطرهم تتلبد وأفكارهم تتقسم، وقدرتهم تمل، وآلاتهم تكل بل يروضوهم في شيء فشيء، إلا أن يأخذوا أولاً بالأصعب حتى يسهل عليهم ما بعده — ويأمره المعلم أن يغنيه، وإلا فهو ينفسد عليه بعجلته ودغدغته للجهة الصعبة التي في التلحين — وربما ينسى منه موضعًا فيضعه من عنده ويثبت معه مفسودًا ويتعب معلمه في قلعه تعبًا عظيمًا — وأن يخير في الآلات فهو أسرع لتعليمه وأنجب وأنجع — ويجب على المعلم أن لا يكلف الطالب ما لا يطيق ولا يقتصر به عما يطيق فذاك هو الصواب. غير أن ترتيب طبقات أصوات المغنين والمغنيات يحتاج إلى كبير معرفة بأحسن مواقعها وتصير بحيث تظهر جواهرها — والحذر من ترك المبتدئ والتعب والتنقل وزيادة التنقل من طبقة إلى أعلى منها، فربما لحقه بححٌ من التعب المفرط، وبقي معه إلى آخر عمره — وإني رأيت المعلمين يجبرون الصبيان قبل البلوغ ويلزمونهم أشد الطبقات يزعمون أن ذلك أصلح لأصواتهم وهو أضر ما عليهم؛ لأن ذلك يقطعهم ويستنفذ أصواتهم — والواجب أن يكون الغناء صباحًا قبل تناول الطعام — وبالعشي بعد انحداره وهضم المعدة له — ولكل صوت صنعة وموضع لا يجب تعديته إلى غيره — فإن الأصوات إذا خيف عليها كلت وانقطعت وضعفت الآلات المصونة أي (الأحبال الصوتية) وإهمال الأصوات يضربها وإغفالها والخلود إلى الراحة — والتوسط في ذلك أحسن لها. فإذا أعيدت إلى الشغل فليكن ذلك على تدريج، فإنها تعود إلى أصلها والعادة طبيعة ثانية فافهم. أما اختيار من يتعلم من الصبيان أو البنات فيلزم له الفراسة التامة — وذلك أنه لا يصلح لتعلم الغناء إلا من كان صوته شجيًّا، وصورته مقبولة وأعضاءه متناسبة ومحاسنه دقيقة والذكاء ينطق من عينيه ولسانه وأعضاؤه لينة وأطرافه سبطة ولسانه رقيق ولفظه عذب ومنطقه حلو ونغمته مليحة وفمه صغير وعنقه بارز وألحاظه سريعة وكلامه سالم من اللثغ والرنة والخونة والتشدق والكذب والنميمة — وليحذر من يكون منهم نظره مفسودًا وخاطره متبلدًا وتصوره فاسدًا وخلقه سيئًا ونشاطه قليلاً وجوابه بطيئًا وعقله مخبولاً. فإذا وقع من هم بالصفات الجليلة السابقة الأولى فاجمع منهم من شئت واكسهم ما يستملح وأطعمهم ما يستطاب وطيبهم بما يستدعي حضور نشاطهم وأحضر لهم من يعمل بسائر الآلات ومرهم بالعمل والمطاولة — فمن رأيته يألف صاحب آلة — أو — كمنجة — أو رباب، فألزمه تلك الآلة والعمل بها والرياضة فيها ونقله إلى ما سواها وروضه في واحدة، فإنه لا بد أن ينجب فيها أو في الجميع — فإن لم ينجب مع كل هذا التلطف، فاعدل به إلى ما سوى هذه الصناعة. فهو كل من كان لطيفًا في اختلاسه وافر الحظ من حسن الصوت والتصرف — والمغني يحتاج إلى ثلاث — الحكاية والرواية — والدراية — والمغني الكامل؛ من غنى فأصاب وأطرب وألهى — والمغني الحاذق من عدّل الأوزان وأشبع اللحون وملأ الأنفاس وفخم الألفاظ وأقام الإعراب — أي ليس يجب عليه أن يخطئ في الألفاظ حتى تتغير المعاني ويتمسك بقول الجاهل الذي قال: (ليس على المطرب أن يعرب) غير أنه يغتفر له وضع الهمزة بدل القاف في بعض الأحيان وترقيق بعض الألفاظ الضخمة مثلاً — لتكون أخف على السامع — ولكن أكثر المشتغلين بهذا الفن معذورون؛ لأنهم لا يحسنون القراءة والكتابة بل قل إنهم لا يعرفونهما — فيجب عليهم حينئذ أن يسألوا أهل الذكر ليدرءوا عنهم شبهة الجهل — والمغني الكامل أيضًا من تفرع في أجناس الإيقاع وملأ بإحسانه المسامع وأحسن مقاطع النغم القصار واستوفى الطوال — والمغني هو الذي يجتمع له العلم والعمل — فإن كان عالمًا ولا يخدم صناعة الموسيقى بصوته ويده وقلمه، فلا يسمى مغنيًا وإن كان عالمًا فاضلاً — وإن كان عملاً بلا علم فالأمر فيه كالأمر في ذلك؛ لأن وقوع الصواب إنما يقع بالاتفاق لا بالعلم ومن أصاب ولم يعلم الصواب فيجوز أن يخطئ ولا يعلم الخطأ — ولا يسمى مغنيًا حاذقًا إلا من اجتمع له العلم والعمل حتى ولو حسا الأقداح وحث على شرب الراح — ولكن المغني الكامل الحاذق من جمع إلى علمه وعمله المعرفةَ التامة بمواضع الصواب من الخطأ، فإن وقع فيه في وقت الضرورة وقادته إليه، رجع إلى الصواب من تلقاء نفسه لا بمراجعة الغير له — والحاذق هو الذي يدرك محاسن الغناء كلها — ولا كل مدع يحفل بقوله، فإن من الناس من يعتمد حفظ ما يوهم به من يناضله ولا علم معه ولا عمل فلا بد من الامتحان — وكيفية ذلك أن تطاوله وتديم الاستماع منه تجتهد أن لا ينسحب من موضوع لآخر يفقه جيدًا قبل أن يتم الأول فلا يخفى عنك ما هو عليه في أول ما يبتدئ — فقد قيل الحس عنوان الغناء — والعالم لا يقدر أن يكتم فضله وعلمه؛ لأنه يظهر في حركته ونظره وإشارته. (الاجتهاد) هو أن يجتهد المغني عند الفواصل والمقاطع. (الاستهلال) مشتق من استهلال الطفل بالبكاء ساعة يولد. (الاسترسال) هو أن يسترسل المغني في غنائه من غير خروج. (التفخيم) تفخيم النغم وتعظيمها وتزيينها. (الترخيم) من رخامة الغناء وتلطيف الصوت، (الصياح) هو أن يكون في الأصوات ما يكون تحسينًا لها (الترجيع) تكرير النغم والمعاودة فيما يمضي. (التقريع) هو أن يخرج المغني من نوع إلى نوع ويعود إليه (التقدير) تقدير أزمان الأصوات وفصلوها. (المراسلة) تراسل المغنيين بعضهم لبعض (المطاولة) هي مطاولة المغنيين بعضهم بعضًا لينقطع كل ضيق النفس. (المخاتلة) أن يراسل المغني رفيقه فيسكت عنه ويقطع به. (المناضلة) هي أن يتناضلا ويتجاودا ليظهر فضل كل على صاحبه. (التغريد) مشتق من تغريد الطيور بحسن أصواتها. (التوطئة) ما يوطأ به للحركة قبل مجيئها من غناء أو صوت. (الاختلاس) أن تؤخذ النغمة قبل وصولها والفراغ من الأولى. (تقدير الأنفاس) أن يتنفس المغني في فصول الألحان بدون أن يشعر بذلك أحد. (الاشتراك) أن يمزج نوعًا بنوع ويرجع إلى الأول. (الإغراق) أن يتغارق في الموضع ليحسنه. (الإنفاق) هو أن ينفق المغني مع غيره بالأزمان. (الإضعاف) هو أن يضعف على المغني بضعف طبقته. (الابتداع) أن يؤلف اللحن من طبعه لا من غيره. (الاختراع) أن يلحن الدور من عدة نغمات. (التوجع) جنس من الأسف والحزن والجزع. (التفجع) أشد من التوجع ويليق بالمراثي. (التذلل) يكون في الألحان فيما يليق من الأشعار (التدلل) هو صوت من التشاجي مليح (التحرز) هو التحفظ من الزلل في الغناء. (الاتصال) اتصال المغني بمغن آخر ومعارضته بأحسن من قوله. (القهقهة) تجيء في الغناء بمعنى الضحك. (الهمزة) أن يهمز النغم في مواضع من الغناء وهو مستحسن. (الاستكانة) هو التوفيق والخضوع والتذلل. (الاستنابة) أن يستنيب الأوتار عن حلقه في الشدة. (الشجي) من التشاجي وحسن الصوت وهو من الطرب. (البكاء يحكي باللحن فيما يليق به من مرتبة أو شكوى. (التأوه) وهو شيء مطرب يشبه اسمه. (التكرير) تكرير النغمة المطربة المستحسنة. (التدريج) تدريج اللحن من شدة إلى لين وبالضد. (الزفرات) وهو من الزفير وهو مستحسن. يبتدئ أولاً بالبيشروات لأنها الأصل — وهي من صناعة أهل الأستانة — ثم بالموشحات؛ لأنها فروعها ولو أنها قديمة فإن أهل الأندلس لما كثر الشعر في قطرهم وتهدبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنًّا منه سموه بالموشح ينظمونه أسماطًا أسماطًا أو أغصانًا أغصانًا، يكثرون منها ومن أعاريضها المختلفة، ويسمون المتعدد منها بيتًا واحدًا ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليًا فيما بعد إلى آخر القطعة، وأكثر ما تنتهي عندهم إلى سبعة أبيات ويشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض والمذاهب وينسبون فيها ويمدحون كما يفعل في القصائد وتجاروا في ذلك إلى الغاية واستظرفه الناس جملة؛ الخاصة والكافة لسهولة تناوله وقرب طريقه — وكان المخترع لها بجزيرة الأندلس مُقدِم بن معافر الفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، وأخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد، ولم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر — وكسدت موشحاتهما — فكان أول من برع في هذا الشأن عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية — وقد ذكر الأعلم البطليموسي أنه سمع أبا بكر بن زهير يقول: كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز فيما اتفق له من قوله: وزعموا أنه لم يسبق عبادة وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن الطوائف — وجاء مصليًا خلفه منهم بن أرفع رأسه شاعر المأمون بن ذي النون صاحب طليطلة — قالوا وقد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول: وفي انتهائه حيث يقول: واستمر ذلك مستحسنًا عندهم فتفننوا فيه وجعلوه على أوزان كثيرة مختلفة — وانتقل هذا النوع على المشرق فنظموا منه مال لا يدخل تحت حصر — ومن أرق ما نظم من ذلك قول ابن سنا الملك: وسنذكر بقيته عند وضع كلام الموشحات — ثم بعد الموشحات ينشد المغني قصيدة أو موالاً — وفي أثناء ذلك يطرب بآلة مثل العود أو القانون — ويسمى بالتقسيم — وأهل مصر في هذا العصر لهم شغف بسماع الأدوار البسيطة فإنهم يطربون لها بمجرد سماعها لسهولة ألفاظها وفهم معانيها ولخلاعة المغني بها — فينشدون معًا القطعة الأولى من الدور المسماة بالمذهب — ثم ينشد المغني بمفرده أو بمساعدة رقيق له مساعدة بسيطة الدور — هذا إذا كان المغني حسن الصوت — أما إذا كان غير ذلك فينشد الدور مع واحد أو اثنين أو ثلاثة حسبما يتراءى له — ثم يختمون بإعادة المذهب — وبعد بالدوارج ويستريحون قليلاً، ويسمى هذا — (بالفصل الأول) أو (بالوصلة الأولى) ثم يعيدون الغناء كما كان إلى الفصل الثالث — وفي أخريات الليل ينشد المغني بمفرده قصيدة — أو يردون لازمة عليه وهو ينشد لهم أبياتًا مساوية لها في الوزن الشعري — ولي كلام هنا أيضًا — وهو أن بعض الأمراء؛ نظرًا لأن المغنين لا يبتدئون في الغناء إلا قرب نصف الليل تقريبًا، فيكتفون بسماع الفصل الأول — الذي يكون المغني فيه غير متحصل تمامًا على الاستعداد الكافي للطرب — فالأصوب لأصحاب الأفراح أن يعودوا المغنيين على أن يغنوا مبكرًا؛ ليكون للسامعين من انفساح الوقت ما يذهبون على منازلهم مستريحي الجسم منشرحي الصدر. لا جدال ولا خلاف في حسن الغناء القديم وصحته ووثاقته وبه اقتاد المحدثون وعليه مثل الملحنون جيلاً بعد جيل وأهل عصر بعد عصر — قبل لأحد المغنين لم تؤخرون الغناء المحدث وأنا أحس من الطرب عليه ما لا أجد من الطرب على القديم بالجملة؟ فقال: ما نؤخره إلا لعلة — وذلك أن الغناء المحدث موضوع على زجل ركيك المعنى سقيم اللفظ — والقديم بخلاف ذلك لأنه محصور القوانين صحيح القسمة جزل الألفاظ حلو المعاني — قال إبراهيم الموصلي: فضل الغناء القديم على المحدث كفضل الطعام الطيب على غيره؛ لأن الطعام يأكله الشبعان لطيبته وهو يعلم فضله — والطعام الغير طيب يأكله الجائع ضرورة ويعلم أن غيره أفضل منه وأشرف — وتنصرف عنه نفس الشبعان وتأباه — وسبيل الغناء القديم والحديث سبيل الحديث وأنه كرواية عن العلماء كلما قرب الأستاذ كان أصح وأشرف — ويحتاج الناقل أن يكون جيد التأدية صحيح التصور والتمثيل لا يزيد فيه ولا ينقص وإلا أفسده — وأن يحفظ أجزاءه ومقاطعة ويوفي نغمه. وقد قال لي إنسان عارف بهذا الشأن وقد انتصرت للغناء القديم — نعم وإن كان محكًا وثيقًا صحيحًا، ولكنه ليس فيه من هذه المحاسن التي تذكرونها ونسمعها من شيء وإنما تولد فيه على طول الزمن واكتسب الحلاوة من الأصوات والطبائع والقرائح — فقلت له ليس كذلك؛ لأن ضد هذا بين لنا عند التأمل — ألا ترى أن الغناء القديم كلما أخذته عن صحيح الرواية قريب العهد من العلماء الذين تلقوه على سابقيهم كان أصح وأمتن وأقرب إلى الصواب — وأنه كلما بعد العهد وكثرت الرواة وانقرض الصدر الأول، زاد نقصًا وفسادًا — وذلك أن الذي يأخذ تلحينًا عن آخر لا يمكنه أن يتلقاه على أصله إما لسرعة الأخذ لفرحه به — أو لبخل المأخوذ عنه فيحذف محاسن القطعة شحًا — ويفعل الآخر كذلك مع الثالث وهلم جرا — وتوجد آفة أخرى وهي أنه يتعسر على المغني موضع من التلحين في بعض الأحيان فيضعه من عنده وربما كان في القطعة المرفوعة الطرب لأن صوت الملحن الأول لها كان أشجى — وبمثل هذه الطرق ينفسد التلحين ويتغير ويستحيل — فإن كان هذا فيما قرب فكيف فيما بعد؛ لأن سائر من نقل الغناء لا يشهد لهم كلهم بالحذق ولا يحكم لهم بالإحسان — وإنما وصل إلينا من مسيء ومحسن وعالم وجاهل وموقع وخارج — وعن نساء لا يعرفن شيئًا من الصناعة كعادتهن في كل زمان ومكان (كما هو حاصل بمصر الآن فإن أكثر المغنيات الشهيرات فيها قبيحات الصوت غير عالمات بأقل شيء من قواعد هذا الفن — وشفيعهن مع كل هذه المساوي التي لا ينكرها عاقل ويعترف بها كل بصير — (أنهن نساء). وإنما يأخذن تقليدًا بالطبع فإن شذ عنهن شيء أغفلته أو احتل موضع بدلته بما ليس في قسمة النغم — وأنا أسمع ما لحنته وأبدعته من بعض المغنين والممثلين والطلاب مع اجتهادي في الغاية معهم وقلة شحي عليهم به وهو ناقص مختل — وإن كانوا من رخامة الصوت وحسن الأيدي في الأصول — والحذق في الغناء على نهاية الحسن — ولكن لا بد من أن يزيدوا أو ينقصوا ويثبت معهم ولا يتغير. ومن المعلوم أن الناس يتنازعون الفضل في كل زمان وأوان وإن كان الفضل والسبق للقدماء — ولكني أقول إن الغناء الحديث إذا كان متساوي الأجزاء صحيح القسمة معتدل النغم موقعًا جيدًا موضوعًا على أصول غير (المصمودي) فإنه يساوي الغناء القديم ويجري مجراه — وإنما الناس متعودون بتفضيل ما غاب عنهم وتنقيص ما حضر في زمانهم فما كل غناء قديم أجود من حديث — وكل غناء جديد متين فهو قديم إذا أضيق إلى ما بعده. ولقد جربت الناس في كل شيء قديم وتهاونهم بما يحضرهم إنني أغني من الأصوات لحنًا ركيك الشعر قليل العمل خاليًا من المحاسن الصناعية أصالة وأنسبه إلى بعض المتقدمين فيقترح علي مرة أخرى ويقول السامعون هذا والله الحسن المعجز — ثم أغنيا للحن الحسن الطويل الأدوار الكثير العمال واجتهد فيه وأنسبه إلى بعض المحدثين فيعرضون ويتشاغلون عنه ويريدون اللحن الأول — وكل عالم محتقر عند أهل زمانه فإذا فقدوه عظمته صناعته وطلبوها وذكروها — ومن ذلك أن دواوين الشعراء لا تطلب إلا بعد وفاتهم ولله في خلقه شئون.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/15/
بدائع الموشحات العربية
مضافًا إليها المختار من تلاحيننا؛ لأنها من نغمات غير ملحن عليها قديمًا في مصر — كما يظهر صدق قولنا هذا لكل من تصفح سفينة المرحوم (الشيخ شهاب) — أو غيرها من المجاميع الأخرى فضلاً عن أنها موضوعة على أوزان مصرية يحتاج إليها لمعرفة تركيب هذه النغمات العظيمة وعلى الأصول المتعود على دقها — ومن جهة أخرى جديرة بأن تقارن بالمتين من الموشحات القديمة لجزالة تلحينها وحسن صياغتها على الأوزان — مما يصعب كثيرًا على أبناء الفن الآن أن يأتوا بمثلها — ومن أراد البرهان فليعرض علي أي موسيقي أراد إحدى القطعتين اللتين في آخر هذا الكتاب (اليكاه) — فإن أمكنه أن يلحن من هذا المقام — وعلى أصول — (الإقصاق) — ٩ من ٨ — الموضوع التلحين عليه وبهذا الطول الجيد — أي (٦٤) — أربعة وستين وزنًا منه — مع العلم بأن كل وزن من الأربعة والستين يختلف عما بعده في الشكل وتركيب النغمات كما يظهر ذلك جليًا لكل أستاذ متضلّع من معرفة النوتة الإفرنجية — أو لمن يسمعه مني مباشرة — أو من حضرة الأوسطى الكمنجاتي الشهير (إلياس أفندي تلماك) — فإن أمكن ذلك الموسيقي عمل ما أقول — فإني مستعد لدفع جائزة قدرها (٢٠) عشرون جنيهًا مصريًا بعد شهادة شهود عدول من كبار علماء الفن — وقد اخترت تلك القطعة لسهولتها في الوزن ليس إلا. هذا ومن المعلوم أيضًا أن الموشحات التي في سفينة المرحوم (الشيخ شهاب) فقد أكثر عمليات تلحينها من قديم — والباقي فيها هو الذي تلقيناه على شيوخ هذا الفن بمصر — كالمرحوم (الشيخ عثمان الناظر) و(الشيخ عثمان بدوخ) — و(الشيخ محمد عبد الرحيم الشهير بالمسلوب) — و(الشيخ إبراهيم المغربي) — و(مصطفى أفندي البوشي) — مساعد المرحوم (الشيخ محمد الشبشيري) — وغيرهم. أما الموشحات التركية والشامية — فعلى (المرحوم أستاذنا الأول الشيخ أحمد أبي خليل القباني الدمشقي) و(الشيخ عثمان الموصلي) — وغيرهما من أساتذة الأتراك. وقد وضعنا المختار من الجميع على هيئة فصول منتظمة مرتبة ترتيبًا جميلاً — فتكون بهذه المثابة جديرة بأن يطلق عليها (السفينة الكاملية) لأمرين: الأول لأن فيها فصولاً كاملة من أكثر النغمات العظيمة النادية الوجود في هذه الأمصار والمحبوبة منها — الثاني لأن أكثر ما فيها تلحينه محفوظ عند أرباب هذه الصناعة وشيوخها والمشتغلين حقيقة بهذا الفن — والغير معلوم لديهم، فإنه بالضرورة عندي ومستعد لتعليمه لأي طالب أراد بكل أريحية وسرور. ولا أنكر أن سفينة المرحوم (الشيخ شهاب) بها ما ينيفُ عن الـ(٢٥٠) المائتين والخمسين موشحًا، غير أنه — بكل أسف — ليس معلومًا عند مشايخ هذا الفن ورؤسائه غير (٨٠) ثمانين منها على الأكثر — ولكن كتابنا هذا بحمد الله يحتوي على (٢٢٠) مائتين وعشرين موشحًا من فحول الموشحات باعتبار أن كل ما تركناه من الموشحات الباقية الأخرى لا قيمة له تذكر بجانب هذه الموشحات — فإن حفظها طالب على أصلها — فلا شك أنه فائز على الأقران كما وإني أبشر حضرة القارئ الكريم بأني سآخذها كلها (بالنوتة) إذا أطال الله في عمري — ويسّر رزقي — وأضعها في كتاب ضخم على حدته لكي لا تذهب هباء كغيرها — ولكي أكون وحدي حفظت الذماء الباقي من الغناء العربي النفيس — ألهمنا الله جميعًا لما فيه نفع العباد وخير البلاد. وهو أوفى وكيل وأكفى كفيل. تلقيته بدون خانة وعلى غير أصول — ونظرًا لاختلال الشروع في التلحين وعدم مطابقته على الوزن — أصلحته ولحنت له خانة من بديع الصناعة شهد لها أئمة الفن بمتانة الصياغة وحسن التركيب واتحاد قوة تلحين البدنيتين بالخانة أي أن الملحن للتوشيح كله صار كواحد. وله بقية طويلة — حيث ذكر مقامات عديدة في خاناته المرحوم الشيخ شهاب في سفينته غير معلومة الآن؛ لأنها انتسخت من قديم عمليات تلحينها. في سفينة المرحوم الشيخ شهاب مكتوب أن هذا الموشح أصوله (خفيف) مع أن أكابر الموسيقيين في مصر لا يلقونه إلا على المدور — فضلاً عن أنهم لا يعرفون أصول الخفيف أصالة على غيره، كما تكلمنا فيما سبق في قسم الأوزان. وهو في الحقيقة باعتبار الأصول المتبعة في الأستانة نصف ثقيل. (وعلى وزنه وفي معناه قول) وله تلحين آخر حسيني عشيران (دارج). قد تلقينا هذا الموشح البديع وهو بخلاف (الدارج — الجهاركاه) المعروف عند المشتغلين بمصر الآن — أما هذا فهو القديم المعول عليه — ولكن لما كانت خاناته قد نسخت عمليات تلحينها بموت حفاظها — فقد لحنا جميع خاناته من قوة الدور الأول منه تمامًا كما شهد بذلك كبار الملحنين الذين يميزون الفروق بين التلاحين وبعضها — وكان له كما هو مكتوب في سفينة المرحوم الأستاذ الشيخ شهاب تلحين آخر (جهاركاه) أصول (أربعة وعشرون) أيضًا ولكنه فقد من زمن مديد ولم يعلم بالضبط تاريخ اندثاره. وله تلاحين أخرى من مقامات مختلفة. (تنبيه) اعلم أن سفينة المرحوم الأستاذ الشيخ شهاب لم يكن بها موشحات على أصول (النوخت الهندي) ألا واحد وهو (يا مخجل الأقمار) الذي يشتغلون به أرباب هذه الصناعة في مصر ضمن وصلة البياتي. أما نحن فلما وجدنا أن هذا الأصول أن هذا الأصول سيفقد قريبًا إذا اندثر تلحين موشحه سيَّما وأنه ضعيف في التلحين؛ لأن أكثر شطراته مكررة في العمل كبعضها — تداركته بأن نظمت عليه كثيرًا من التلاحين؛ لأن أكثر شطراته مكررة في العمل كبعضها — تداركته بأن نظمت عليه كثيرًا من التلاحين البديعة في الصناعة التي تجتذب الألباب وتستلب النفوس — ووضعت هنا منها ثلاثة — هذا النوخت الهندي الحجاز السابق — والنوخت الهندي الجهاركاه المربوط بالنوتة — والنوخت الهندي السيكاه المربوط بالنوتة أيضًا. وله بقية طويلة في سفينة المرحوم الأستاذ الشيخ شهاب لا لزوم لذكرها؛ حيث إنها أدوار متكررة ومثل بعضها في التلحين. اعلم وفقك الله إلى ما تريد — أن هذين المقامين نادران في مصر — وغاية ما تلقيته من فحول الأساتذة فيها موشحان على أصول (السماعي ثقيل) وهما (تالله أيا من أخذ العقل وسارا) — و(ناح الحمام المطوق) — والاثنان يقران على النوا. وله تلحين آخر بياتي أصول (سماعي ثقيل) فتنبه. وله تلحين آخر (عشاق) سماعي ثقيل أيضًا. وبعضهم يقرّ به على النوا — ولا غرابة في ذلك فإن (هل على الأستار هتك) إذا اعتبرناه حسينيًا يكون له أسوة به؛ لأنه يقر أيضًا على (اليكاه) هو قرار النوا. (تنبيه) لم يلحن أحد في مصر من هذا المقام لا موشحات ولا أدوار — غير المرحوم محمد أفندي عثمان؛ فإنه لحن دورًا واحدًا منه وهو (اليوم صفا) — مع العلم بأنه (شوق أفزا) — وليس بعجم كما يخبرون هنا عنه. اعلم أن دو بضم الدال المهملة وسكون الواو كلمة فارسية بمعنى اثنين من العدد على ما تقدم ذكره في الدوكاه — فدوبيت بمعنى بيتين؛ لأن غالب ما ينظم على وزنه إنما هو بيتان اثنان فقط — وقيل هو من بحور الشعر المهملة وشطره (فعلنْ متفاعلنْ فعولنْ فاعلنْ — وقد يدخل الخبن عروضه وضربه وكذا القطع أيضًا كما يتبين ذلك لمن يعرف علم العروض ومنه. — ومثله — (ناحت فأجبتها متى نوحك ليش — من غير سبب) — ومثله (أهوى رشأ سهامه عيناه — باللحظ يصيب — قلب العشاق)
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/16/
ترجمة (المرحوم الأستاذ الكبير الشيخ أحمد أبي خليل القباني الدمشقي)
هو العلامة الفاضل والأديب الكامل الأستاذ الجليل، الشيخ أحمد أبي خليل. وُلد المترجم من أسرة كريمة المحْتِد بمدينة دمشق المحمية. سنة ١٢٥٨ هجرية. ولما ترعرع شمر عن ساعد الجد في اجتناء ثمر العلوم. حتى صار بين أخدانه كالبدر بين النجوم. وارتقى ذروة المعارف. فتحلي من المجد بالتالد والطارف، وفي ذلك الحين كلفه (صبحي باشا) والي تلك الديار أن يؤلف جوقًا للتمثيل يرقي بواسطته الأفكار السقيمة. إلى مكارم الأخلاق والمبادئ القويمة. فقام بهذه المأمورية خير قيام. حتى افتخر به الخاص والعام. وما زال بين آله وصحبه في أسعد حال. وأرغد عيش وأنعم بال. حتى أنزلته الأيام بعد إثبات رجله في ركابها. وخذلته حوادث الدهر بعد أن ذلل العظيم من صعابها. ذلك أن بعضًا من مشايخ الشام. قدموا تقريرًا إلى دار خلافة الإسلام. فالواقية ما معناه: — إن وجود التمثيل في البلاد السورية. مما تعافه النفوس الأبية. وتراه على الناس خطبًا جليلاً. ورزءًا ثقيلاً؛ لاستلزامه وجود القيان. ينشدن البديع من الألحان. بأصوات. توقظ أعين اللذات. في أفئدة من حضر من الفتيان والفتيات. فيمثل على مرأى الناظرين. ومسمع من المتفرجين. أحوال العشاق. وما يجدونه من اللذة في طيب الوصل بعد الفراق. فتطبع في الذهن سطور الصبابة والجنون. وتميل بالنفس إلى أنواع الغرام والشجون. والتشبه بأهل الخلاعة والمجون. فكم بسببه قامت حرب الغيرة بين العواذل والعشاق! وسفك الدماء البريئة وأراق. وكم سلب قلب عابد. وفتن عقل ناسك وحل عقد زاهد! كذا قد يرى الإنسان فيه من اللهو، وأحاديث اللغو ما يذهب بفكره. ويضل الطير عن وكره. حتى إذا ما ارتكبت النفس أعظم الموبقات. واجترمت أنكر المحرمات. وابتذلت الخدور. ونفقت سوق الفحش والفجور. وذهب المال. وساء الحال. لا ينفع من ثم التلافي بعد التلاف. ولا يرد السهم إلى القوس وقد خرق الشغاف — ومثلوا بالتمثيل، زاعمين أنه أس كل رذيلة وفعل وبيل… ومن أجل مزاياه أنه كان خصيصًا بطريق من طرق الغناء. وتفرَّد بها تفرد القمر في السماء، فكان بعد انتهاء كل رواية يلقي من القطع الموسيقية شذورًا تنزو لها الأكباد. ويتحرك لحسن وقعها الفؤاد. حتى أحرزت مصرنا من إقامته فيها فنونًا جزيلة. وفضائل جليلة. يقدرها حق قدرها أولو السجايا الحميدة والعقول الحصيفة. ولا ينكرها إلا ذوو الأغراض السافلة والآراء السخيفة. وكان أيضًا على جانب عظيم من ثبات الجأش وقوة العارضة. في تفهيم المعنى وتقرير القاعدة. فيقولهما بكلام بسيط يقرب من الأفهام. ويسهل تناوله لمن له بهذا الفن أدنى إلمام. ولطالما سمعته يقول: — التمثيل جلاء البصائر، ومراءة الغابر. ظاهرة ترجمة أحوال وسير. وباطنه مواعظ وعبر. فيه من الحكم البالغة. والآيات الدامغة. ما يطلق اللسان، ويشجع الجبان. ويصفي الأذهان. ويرغب في اكتساب الفضيلة. ويفتح للبليد باب الحيلة. ويرفع لواء الهمم. ويحركها إلى مسابقة الأمم. ويبعث على الحزم والكرم. يلطف الطباع ويشنف الأسماع. وهو أقرب وسيلة لتهذيب الأخلاق ومعرفة طرق السياسة. وذريعة لاجتناء ثمرة الآداب والكياسة. هذا إذا تدرج فيه من ذكر الأحوال. إلى ضرب الأمثال. ومن بيان المنهاج. إلى الاستنتاج؛ ليرتدع الغر من غيه وينزجر. ويجد العبرة في غيره فيعتبر. صفاته: — كان رحمه الله أنيسًا وديعًا ذا خلق وسيم. وطباع أرق من النسيم، أديبًا ذَرِبَ اللسان، لبيبًا لم يختلف في فصاحة ألفاظه اثنان. يجمع في شعره الرواية والرويّة. والبديهة القوية. كل بيت له من الشعر خيرٌ من بيت تبر. له سماحة وحماسة. وتدبير وسياسة. مع ثبات أقدام. وصبر وإقدام، قد صيغ من أكسير اللطافة. وتجسم من روح الظرافة. كريم الفقر. وكذلك ذو المنة إذا قدر. مقبول الرجاء، عند الأمراء. لا يمنعه من مساعدة الضعفاء من أبناء فنه إلا ما انطوى عليه البعض من سوء النية. وخبث الطويَّة. له معرفة تامة ببعض اللغات غير العربية؛ كالفارسية والتركية — ولم يزل اسمه يضرب في كل مكان به المثل. كما كانت باطن يده في حياته للندى وظاهرها للقبل، وبالجملة فمحاسنه لا تحصى بعد. وأوصافه لا تدرك؛ لأنها لا تنتهي إلى حد. سافر إلى الأستانة في آخر عمره. ولا رفيق له غير علمه وفخره. فأكرم مثواه بعض وزرائها ذوو النخوة والمروءة. والحمية والفتوة. وأنزله المنزل الرحيب. واعتنى به اعتناء المحب للحبيب… وأخيرًا استأذنه في الظعن. وأعلمه باشتياقه على الوطن. فآب إلى الشام. شاكرًا جميل هذا الهمام. مثنيًا عليه ثناء الروض على الغمائم. مترنمًا بذكر محاسنه ترنم الحمائم. فوافته المنية ليلة سبع وعشرين من رمضان سنة ١٣٢٠ هجرية. *** فهلعت القلوب عند هذا النبأ العظيم. وارتاعت النفوس لوقعه الأليم بموته أحيى الأسف. وشوى الأكباد على جمر التلف. — فكم ارتفعت عليه من الصدور حسرات وزفرات. وسالت من المآقي دموع وعبرات فواها لحشاشة الفضل أرصدها الدهر غوائله. وبقية الفن جر عليها كلاكله. ويا لهفي على هضبة العلم كيف زلزلت. وحدة الذكاء والفهم كيف قللت. ترك خلفه فنونًا تبكيه، وتلامذة ترثيه. ومرسحًا كان بوجوده مجمع الأنس ونادي الهنا والسرور. فإذا ما صعد عليه صفق الناس طربًا وانشرحت الصدور. تفرق شمل صحبه والرفاق. وآخر الصحبة الفراق. ذلك هو الموت الذي لولاه لما كان لك للشجاعة فضلٌ على الجبن والضراعة، والكأس التي يستوي في تجرعها الصغير والكبير. والسبيل المحتوم سلوكه على الصعلوك والأمير. فكلنا مسوفون بقدرة مَن إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/17/
ترجمة (المرحوم عبده أفندي الحمولي)
إذا بحث الباحث في أطوار الناس وأخلاق الخلق؛ تعين عليه أن يجردهم من طيالس المراتب والمناصب ومظاهر الثروة والجاه، ثم ينفي في نظره ما بينهم من تفاوت الطبقات واختلاف الدرجات التي وضعها الناس لأنفسهم بأنفسهم، ثم ينظر وهم على تلك الحالة المجردة إلى ما وضعه الله فيهم من المواهب والمزايا وأسباب التفاضل بينهم. وما هذه الدنيا في نظر الحكيم إلا ملعب وما الناس في مراتبهم ودرجاتهم إلا كالمشخصين فيه يتزيّون بالأزياء المختلفة.. هذا ملك وهذا وزير وهذا قائد وهذا أمير، فإذا أراد الباحث أن يعرف حقيقة أقدارهم وقيمتهم في ذواتهم؛ نظر إليهم من وراء الملعب مجردين من تلك الألبسة الفاخرة في الحالة التي كانوا عليها قبل تشخيص أدوارهم، هنالك يرى الباحث في طبائع الناس وأخلاقهم أنهم مختلفون بينهم ومتفاوتون في سلسلة الترقي والكمال تفاوت الصوان من الياقوت في الأحجار السيالة من البنفسج في النبات، والفهد من القرد في الحيوان، ومن الناس من تميزه الطبيعة بكمال الخلقة، وترتقي به في كمال التصوير، فينشأ فيها من حسن الاتساق ولطف التركيب ما تتجلى به في عالم الإحسان والإتقان، فيصدر عنه من بدائع الأعمال ومحاسن الأفعال ما تطرب له النفوس وتشجى به القلوب، فإن نشأ في طبقة الشعراء كان كالمعري، وإن نشأ في طبقة الحكماء كان كابن سينا — وإن نشأ في طبقة الجند كان كطارق بن زياد — وإن نشأ في طبقة المغنين كان كإسحاق، أو كهذا الفقيد الذي فقدناه بالأمس. وهب المرحوم عبده الحمولي سجية الإحسان ومزيّة الإتقان، فكان وحيد عصره وفريد دهره في صناعته مارسها بين الناس أكثر من أربعين عامًا، لم يضارعه فيها مضارع ولم يلحق به لاحق، وانحصر فيه الغناء في مصر طول هذه المدة فصار الكل له مقلدين.. يأخذون عنه ولا يبلغون شأوه ولا يتعلقون بغباره، ولا غرو فإنه هو الذي أخرج فنّ الموسيقى من سقوطه، وتأخره إلى ارتفاعه وتقدمه ولم يقتصر على طريقته التي وجده عليها، بل أخذ فيه بأسباب الاختراع والابتداع والتحسين والتهذيب، وأنشأ له طريقة جديدة بحسن اجتهاده ورقة ذوقه. وُلد المرحوم في سنة ١٢٦٢ هجرية وليس ذلك على التحقيق بمدينة طنطا، وكان والده يمارس تجارة البن وكان للمروحم أخ أكبر منه فوقع شقاقٌ بين أخيه وأبيه، ففر به أخوه من وجه أبيه هائمًا به في الخلوات، وكان كلما تعب المرحوم من السير لصغر سنه حمله أخوه على كتفه؛ حتى دنا الغروب وهما على آخر رمق من الجوع والعطش وتعب السير لا يجدان أحدًا في وجههما يأنسان به، ويلجآن إليه إلى أن سخَّر الله لهما رجلاً آواهما وسدّ رمقهما في ليلتهما ثم أقاما عنده أيامًا. ومن غريب الاتفاق أن الرجل كان يشتغل بصناعة الغناء وبضرب الآلة المعروفة بالقانون في طنطا وسمع صوت المرحوم في بعض روحاته وغدواته فأعجبه، فعاد به إلى طنطا واشتغل معه هناك مدة وجيزة، وقد بقِي تأثير تلك الوحشة والانفراد مع التعب والجوع في تلك الليلة التي خرج منها المرحوم من بيت أبيه مرسومًا في رأسه، فكنت تراه إلى آخر عمره ينقبض صدره ويتقطب وجهه كلما دخل عليه أوان الغروب وطالما قص هذه القصة على خُلصائه ممن كانوا يعجبون لانقلابه الفجائي من السرور إلى الانقباض في ذلك الميعاد ثم رأى ذلك الرجل الذي آواه عنده واسمه المعلم شعبان أن يحضر به إلى مصر، فاشتغل معه في قهوة معروفة في ذلك العهد بقهوة عثمان أغا في غاية الأشجار وكانت موضع حديثة الأزبكية الموجودة الآن، فاتسع به رزقه وحرص عليه أن يخرج من يده ويستميله غيره من أهل هذه الصناعة، فيُضيع عليه رزقه فرأى أن يربطه بعقد زواجه من ابنته، فاستذله وأسره وانقلب يعامله أسوأ المعاملة وكان في مصر رجل طائر الصيت في فن الغناء اسمه (المقدم) أعجب بالمرحوم، فسعى جهده ليلحقه به ويشتغل في (تخته) حتى وصل إلى غرضه وجذب المرحوم وفصل بينه وبين زوجته قطعًا لعلاقته بصاحبه وأنقذه مما كان فيه واستمر معه يغني على الطريقة التي كانت معروفة عند المصرين في ذلك العهد — وأصلها على ما يعلم من تاريخ وضعها أن رجلاً من أهل حلب اسمه شاكر أفندي، وفد إلى القطر المصري في المائة الأولى بعد الألف وكان فنَّ الألحان فيه فنًا مجهولاً، فنقل إليه جملة تواشيح وقدود وكانت هي البقية الباقية من التلاحين التي ورثها أهالي حلب عن أهل الدولة العربية، فتلقاه عنه بعضهم وصارت عندهم ذَخيرة نفيسة واشتهر حرصهم عليها وصار الواقفون عليها يحرمون الناس من تلقينها للتفرد بها، وبقيت بينهم على بساطتها الأصيلة بدون الشد والتصوير، فكانت قاصرة على أمهات المقامات وبعض الفروع المقارنة لها، وكانت بالنسبة للغناء مثل حروف الهجاء بالنسبة للكلام وأقام المغنون في مصر على هذه الطريقة البسيطة لا يتصرفون فيها أقل تصرف، فلا يدخلون فيها حسنة ولا يخرجون منها سيئة إلى عصر عبده فتلقاها المرحوم منهم على أصلها وغنى بها مدة ثم رفعته سجيته في الطرب وحس ذوقه في الغناء أن يتصرف فيها شيئًا ما مع المحافظة على الأصل وعدم الخروج عن دائرته، فأزال عنها بعض الجفوة الحلبية — وما زال يرتقي المرحوم بحسن الغناء حتى ألحقه المغفور له (إسماعيل باشا) بمعيته وسافر معه إلى الأُستانة مرارًا وسمع هناك آلات الموسيقى التركية وجلب إسماعيل باشا في عودته إلى مصر جماعة من أكابر المغنيين فيها، فكان المرحوم يحضر معهم دائمًا في اشتغالهم بالغناء، فاستمالته ألحانهم وأخذ يغني منها ما يلائم المزاج المصري ويناسب الطريقة العربية ورأى المجال واسعًا له في الموسيقى التركية؛ إذ وجد فيها كثيرًا من النغمات التي لم يكن للمصريين علم بها ولم تطرق آذانهم من قبل مثل النهاوند والحجازكار والعجم، وغيرها فنقلها إلى أدوار الغناء المصري ثم التفت إلى بقيَّة مصطلحات الغناء المختلفة في ذلك العصر مثل المتشددين والمشهورين بأولاد الليالي (الفقهاء) والعوالم (القيان) والمدّاحين (الضاربون بالدفوف) والتقط منهم ما استنسبه، فأضافه مع المختار من الغناء التركي وخلطها بالطريقة القديمة، فجعلها طريقة جديدة وخاصة به — وظهر في مصر وفيها شيوخ المغنين فصار شيخًا عليهم، وقد دعاهم جهلهم بما صنع إلى استنكار طريقته في أول الأمر، ولكن ما لبث الناس أن ذاقوا حلاوتها وطلاوتها، فعمّ استحسانها وذهب استنكارها وانتصر بحسنها عليهم وله فيها من التلاحين أشياء كثيرة. ومن مزاياه في صناعته أنه كان شديد الطرب لا يقلْ طربه في أثناء تأديته للغناء على طرب السامع له — وهو أول مغن مصري تنبه إلى حسن الإيماء واستصحاب حركات الغناء بالإشارات التي تقوم مقام الحكاية — وكان شديد الحفظ لما يسمعه مجتهدًا دائبًا في استخراج محاسِن المسموع وطرح معايبه، ذا قدرة أن يبدل القبيح فيه بالحسن، وكان ذهنه شديد التعلق بالنغم، فلا يكاد ينساه وربما نام وهو على (التخت) في أثناء الغناء ثم يستيقظ فيرجع إلى الغناء بما كان فيه من غير مراجعة آلة أو استرشاد بأحد ممن معه كأنما كانت الطبقة رسمت في ذهنه فلم تشوش عليها الأصوات التي مرت عليه وهو في نومه ولم تؤثر عليه الغيبوبة في شيء — وكان واسع التصرف يسترسل في النغمة من حادها إلى ثقيلها فلا يترك فرعًا من الفروع إلا ويحيط به بما يشتفي منه السامع؛ حتى إنه يتخيل أن كل الغناء منحصر فيها، وكان لطيف التنقل يوهم السامع في غنائه بأن مراده ما هو فيه حتى إذا رسخ ذلك في ذهنه انتقل منه انتقالاً إلى مقام آخر يندهش منه السامع، ثم يندرج حتى يعود إلى ما كان عليه وذلك من أعظم المزايا وأكبر الفضل في هذا الفن — وجملة القول في باب الغناء أن المرحوم جدد فيه وأبدع وأحياه في مصر بعد أن كان شيئًا خاملاً ثم تمكن فيه من التوفيق بين المزاجين؛ المزاج التركي والمزاج المصري — فبعد أن كان أهل الطبقة الحاكمة في المصريين من الأصل التركي لا يطربون من الغناء المصري ولا يتفتون إليه — أصبحوا بفضل المرحوم وما وفقه فيه من الأنغام التركية مقبولاً عندهم مفضلاً لديهم — وبعد أن كان المصريون لا يطربون من الغناء التركي، ولا يروقهم غير طريقتهم طريقة التوجه والأنين أصبحوا يطربون لما يلائمهم من الأنغام التركية التي أنعش بها طريقتهم القديمة — فهو الجدير بأن يسمى في مصر معدل المزاجين بين الأمتين، وكما امتزج الجنسان في الأجسام بالأنساب، فقد مزج بينهما عبده بالغناء في الأرواح — وكفاه فخرًا أنه لم يصل أحد من قبله ولن يصل من بعده إلى مثل ما وصل إليه من هذا الابتداع والاختراع الذي اهتدى إليه (اللهم إذا عضدت أفكار علماء هذا الفن الراغبين في رقية الأمة والحكومة) وقد ميزه الله به من لطف الذوق وشدة الذكاء وحدة الطرب ومحبة الإتقان والترقي في درجات الكمان هذه مزايا المرحوم من جهة فنه الذي انفرد به — وله مزايا جمة لا تنقص عنها في مكارم الأخلاق ومحاسن الطباع وجميل المعاملات. ومن الناس من يهبه الله سجيَّة الإحسان ومزية الإتقان فيصرف إتقانه وإحسانه على الفن أو الصناعة التي اختارها لنفسه، فيحسنها ويتقنها ويتحول بكليته إليها ويفضل في نفسه ما عداها من مغارس المحاسن ومنابت الفضائل ومكامن المكارم فيعيش غفلاً منها — وإن كان نابهًا في صناعته فتلقى الناس منه ما يسوء من أخلاقه بقدر ما أحسن من صناعته يرضيك حسنه من باب ويسخطك قبحه من عدة أبواب — فترى الشاعر يرتقي إلى عالم شعره، فيسبق فيه من يباريه ويعلو قدره على سواء فإذا عطفت نظرك على أخلاقه وجدته أحط الناس فيها درجة وأدناهم منزلة، وأردأهم سيرة في المخالطة وأسوأهم معاملة في المعاشرة — وتجد هذا الذي لم يكتف بعالم الحقيقة في الجمال حتى تجاوزه في عالم الخيال أبعد الناس عن جميل الفعال وكريم الخصال. وترى المصور الذي يباري محاسن الطبيعة يحسن المحاكاة في جمال النظام ولطف الانسجام، ويكون في ما عدا ذلك أخرق أحمق شرس الطباع سافل الأخلاق — وترى العالم يصعد يعلمه إلى عالم الفضائل والحقائق، ثم ترذل أخلاقه بالغلظة والجفاء وتسوء بالتيه والكبرياء — وتراهم قد ارتكنوا في طبقاتهم على فضلهم في صناعتهم وفنونهم وأهملوا بقية الفضائل وبعدوا بنفوسهم عن جمال التهذيب وحسن التثقيف، فإن تحمل الناس منهم سوء الأخلاق ظاهرًا للمزية التي تفردوا بها، فإنهم لا يتحملونها باطنًا يرضونهم بالوجوه ويبغضونهم في القلوب — أما إذا التفت المتفنن لفنه المحسن في صناعته إلى تهذيب بقية أخلاقه وصناعته وإلى تحسينها وصرف إلى ذلك بعض همه بما أوتيه من سجية الإتقان ومزية الإحسان وارتقى إلى فضائل الأخلاق ارتقاء في فنه أو صناعته، فله يرضي الناس ظاهرًا وباطنًا وتبلغ مزاياه في قلوبهم المحل الأعلى فتنطوي على محبته وتجتمع على تفضيله في حياته وبعد مماته. وقد جمع الله للمرحوم عبد الحمولي من الإتقان والإحسان في فنه كما تقدم الكلام عنه وبين كثير من مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات فصدر عنه من جميل الفعال ما تحفظ له فيه النوادر وتنتقل رواياته المجالس. كان المرحوم كبير النفس عالي الهمة يحاول الارتفاع عن طبقته ويسعى في الخروج منها مقتصرًا على الاشتغال بالفن لذاته لجهل الناس في حيلهم الماضي بعلو قدر هذا الفن وغفلتهم عن جلاله منزلته بين الفنون — وناهيك به أن أفلاطون وهو حكيم الحكماء جعله (مقدمة علوم الحكمة وأول مراتب التهذيب) — وقد عمد المرحوم إلى ذلك بالفعل في أيام المغفور له إسماعيل باشا فترك مزاولة صناعته بالأجر بين الناس وخرج من زمرة المغنيين إلى زمرة التجار غير طامع في الذهب الذي كان يسيل من حياله بممارسة صناعته في تلك الأوقات فافتتح محلاً لتجارة الأقمشة واشترك فيه مع بعض التجار بمبلغ ٢٠٠٠٠ عشرين ألف جنيهًا — فما مضى عليها عشرون شهرًا إلا وانتهت به سلامة نيته وحسن ثقته بأن خرج منها صفر اليد مدينًا للشريك دائنًا للناس يمنعه الخجل ويحجبه الحياء عن طلب الوفاء — ولم يمتنع في أثناء ذلك عن الغناء بين الناس بل امتنع عن طالب الأجر عليه إلى أن عادت به حاجة العيش إلى مزاولة صناعته كما كان في أول أمره — ولم يتطلع إلى غرضه في الانقطاع عنها كما فعل ودهره يحول دونه، فلا يستطيع بلوغه إلى آخر مدته. وكان شهمًا غيورًا شريف السيرة يغار لنفسه ولأعراض الناس لا يبالي في ذلك بهول المواقف وفداحة الخطوب — أمر المغفور له إسماعيل باشا ذات ليلة بإحضار (المز) لتغني في بعض قصوره وهو في عزة سلطانه وشدة بطشه لا يعصى له في الناس أمر ولا يخالف هواه إلا من ارتضى لنفسه سكنى القبور ولا يحلم أحد في منامه أن يقف موقف المعارض في رغبته أو الممانع لإشارته — فتوقف المرحوم عبده وكان قد تزوج بها بعد أن منعها من ممارسة الغناء وأبى أن تخرج من بيته فعاوده الطلب بالتشديد، فاستمر على إبائه إلى أن وصل الأمر إلى استعمال القوة فأرسل مأمور الضابطة بعض أعوانه إلى منزله وأرادوا إخراجها منه بالقوة فوقف أمامهم وقفة الليث يحمي أشبال العرين وفضل الموت أو النفي عن أن تغني المرحومة لحنًا واحدًا لأحد وهي في عصمته — ولما لم يفده موقفه أمام القوة فائدة استمهلهم برهة ريثما يعود إليهم — فدخل البيت وألقى بنفسه إلى حائط الجار وخرج منها إلى الطريق لاجئًا إلى صديقه المرحوم. (الشيخ علي الليثي) فكاشفه بما هو فيه من هول الخطب، وكان هذا الشاعر المرحوم ممن جمع الله أيضًا كثيرًا من المزايا الفاضلة والأخلاق الكريمة وأخصها علو الهمة والسعي لخير الناس وكان ذا مكانة رفيعة عند المرحوم (إسماعيل باشا صديق) فقام إليه في الحال وتواقع الشيخ عليه يلتمس حسن الوساطة لدى ذلك الحاكم القاهر ليرجع في أمره، فقام الوزير من ساعته وقصد مولاه وتلطف له ما أمكن في الاعتذار وما زال به حتى رجع عن طلبه ورضي بعصيان عبده لطاعته، وخلص المرحوم عبده من هذه الحادثة معافى في نفسه مصابًا في جسمه، فقد تولد له من اضطراب أعصابه من شدة ما قاساه في هذه النازلة داء الصداع فلم يفارقه طول حياته وكانت إذا اعترته نوبته ألقته على الأرض صريعًا يتخبط في أشد الآلام لا يكاد من يراه على تلك الحال يصدق بنجاته منها، فإذا أفاق لزم الفراش من عظم وقعها مدة طويلة، ولم ينجع في ذلك الداء معالجة الأطباء. وكان المرحوم جلدًا صبورًا على تحمل الآلام في نفسه وبدنه فقد أصابه غير هذا الداء من الأمراض علل كثيرة بعضها في أثر بعض حتى كان يقول إنه قضى ثلثي أيام حياته في المرض والثلث في مراعاة خواطر الناس، وقد أصيب بخراج في الكبد استعصى على الأطباء أمره ويئسوا فيه من نجاته، حتى امتنعوا عن العملية الجراحية — وقرروا أن النجاح فيها كنسبة الواحد إلى المائة، فألحّ عليهم المرحوم بوجوب عملها على أي حال فعملوا له عملية البزل فلم يخرج من الأنبوبة شيء فتركوها في جوفه بمبزلها وأمروه أن يستمر راقدًا على ظهره لا ينقلب على أحد جنبيه طول ليله وأنذروه إن هو تحرك فانتقلت الأنبوبة فقد قضي عليه ثم وكلوا به من يحرسه واستمر في حالته التي تركوه عليها إلى أن غشيه النعاس في أُخريات الليل وغفل الحارس عنه برهة فانقلب على جنبه فأصاب سن المبزل رأس الخراج من طريق الأنفاق، فلم يشعر الحارس إلا وقد سال الصديد من حول الفراش ففزع وأيقن بالخطر وأسرع إلى الطبيب فلما حضر وفحص حالته قال له: إن يد القدرة قامت بما عجزت عنه يد الأطباء — وما كاد يشفى من هذه العملية حتى ظهر في الكبد خراج آخر فعملت له في الإسكندرية عملية ثانية — ثم أصيب بعد ذلك سنة ٨٨ إفرنجية بالتهاب في الرئة، فكان ينفث الدم وتآكل جزء من إحدى الرئتين ومن هنا ابتدأ الداء الذي مات به، فعالجه الأطباء وأشاروا عليه بسكنى حلوان فسكنها ووقف سير الداء فيه — وسافر المرحوم في سنة ٩٦ إلى الأستانة العليا وحظي هناك بالمثول في الحضور الشاهاني مرارًا وأعجب به أمير المؤمنين بمهارته في فنه وحسن تأديته له فأسنى عطيته وبلغه حسن رضائه — وكان الواسطة بينهما للتبليغ في ذلك المجلس سماحة السيد أبي الهدى ومما تلقاه عنه من أوامر أمير المؤمنين أن يلقن ما غناه في حضرته من الأصوات لبعض ضباط الموسيقى الشاهانية فلقن المرحوم منه ما أمكنه ولم يسع الوقت تمام القيام بالأمر فوعد أنه يشتغل عند عودته إلى مصر يربط تلك الأصوات برابطة النوتة ثم يعرضها على الأعتاب ليسهل أخذها على ضباط الموسيقى — وأهمل المرحوم مدة وجوده في الأستانة التردد على سماحة السيد واجتمع ببعض المتزاحمين معه على الأعتاب الشاهانية ورغب كل واحد منهم أن تكون الحظوة بتقديم تلك الأغاني والأصوات عند عودة المرحوم إلى مصر وإرسالها إلى الأستانة — فلما عاد أتمها عشرين صوتًا (دورًا) برابطة النوتة — ثم تردد في كيفية إرسالها وخشي أن يغضب أحدهم باختيار سواء عليه في تقديمها وامتنع عن إرسالها لهم جميعًا وأرسلها من طريق رسمي فأسرها له السيد في نفسه — ولما ذهب إلى الأستانة مزودًا بالآمال لم يشعر هناك وهو في مجلس أنس لبعض كبار المصريين من أصدقائه من جهة البوغاز إلا وقد أحاط به رجال الشرطة فسار معهم وصاروا ينقلون هذا الذي لم ينتقل عمره من مجلس أنس إلا إلى مجلس سرور طول ليلته من مخفر إلى مخفر ومن سجن إلى سجن حتى وصلوا به على مأمور الضابطة، فأمره بالخروج في الحال من دار الخلافة وعلم المرحوم مما سمعه من بعض الأعوان الحلبيين من ذكر السيد ووجوب السعي في دوام رضائه وأن الأمر مقصود على مجاراته على إهماله أمر سماحته، فلم يلتفت على غير المبادرة في إجابة الأمر بالرحيل عن الأستانة، وقد قاسى من غلظة الجند وسوء معاملة الشرطة شيئًا كثيرًا يطول شرحه مكان ما كان يرجوه من الحفاوة والكرامة له فأثرت هذه الأمور في صحته أسوأ أثر وعاد إلى مصر مصابًا بداء (البول السكري) فأنهك جسمه وأضعف من قواه وغادر حلوان إلى سكنى مصر وقد تراكمت عليه جملة من هموم الحياة فزادت في ضعف الجسم وظهر ذلك الداء الدفين في الرئة ودخل من داء السل في الدرجة التي لا يرجى معها شفاء، وأشار عليه الأطباء بسكنى الصعيد مدة الشتاء الماضي سنة ١٩٠٠ فأقام في سوهاج شهرين ونصفًا عادت له في أثنائها بعض قوته وتقوى أمله في شفائه — ولم يدر المرحوم كنه دائه إلا في اليوم الذي مات في غده. ثم عجل بالعودة إلى مصر ليشتغل غنائه في اسطوانات (الفوتوغراف) طلبًا للعيش ولما حضر وباشر ذلك فعلاً جاءه نعي أحد أصدقائه المخلصين بالمنيا فاغتم عليه غمًا شديدًا ولم يسمع لنصيحة أصحابه، بل خالفهم لقضاء ما توجبه عليه مروءته وسافر إلى تلك المدينة، وأقام هناك أيامًا ما مشاركًا لأهل الميت في أحزانهم، ولما عادَ، عاد باشتداد المرض عليه حتى أدركته منيته. وكان المرحوم كريمًا جوادًا محبًا لفعل الخير همامًا في قضاء الحوائج مدفوعًا إلى ذلك بمجرد حب الخير في ذاته وله فيه ما لا يكاد يحصى من الأعمال، وإنما نذكر هنا شيئًا منها على طريقة المثال: دُعِي المرحوم مع تخته إلى مدينة سوهاج للاحتفال بليلة خيرية لإعانة مدرستها واتفق مع أصحاب الاحتفال على (٨٠) ثمانين جنيهًا لإحياء تلك الليلة، فلما سافر إلى سوهاج وجاء وقت الغناء رأى كثيرًا من أعيان المديرية مجتمعين ليجمعوا من بعضهم ما يتبرع به كل واحد منهم بتبرع بخمسة جنيهات وذاك بستة فدخل في وسطهم فقال: وأنا قد تبرعت بأجرة الليلة وعاد من سوهاج، فنَقَد المغنين الذين معه أجرتهم من جيبه — واتفق مع بعضهم على إحياء ليلة في ملعب المنصورة بستين جنيهًا أخذ نصفها مقدمًا — ولما انتهت الليلة جاءه الرجل يتظلم من قلة الإيراد وإنه صاحب عيلة، فتجاوز له المرحوم في الحال عما بقي لَه له، وخرج ليلة من بعض الأفراح بعد انتهاء السهر فقصده في الطريق رجل قال له: إن ابني مطلوب في العسكرية، وليس عندي ما أفديه به — فأخرج المرحوم سرّة الدراهم التي أخذها وأعطاها له — وبلغه مرة أن أحد معارفه من تجار طنطا وقع في ضيق يخشى عليه من الفضيحة فجمع ما لديه من الدراهم وأعطاه ٥٠٠ جنيهًا ليستعين بها في عسرته ويحفظ صيته في تجارته — ومر في سيره إلى الأستانة ذات مرة على أزمير فوجد فيها أحد معارفه مع عياله لا يجد لهم ما يقوم بحاجتهم ولا من يردهم إلى وطنهم فأعطاه كفايته. ولما توجه إلى الأستانة كان أول عمل له أن سعى إلى بعض الرؤساء في المابين فأخذ منها كتاب توصية لوالي أزمير ليقضي حاجة الرجل — فلما وصل الكتاب إلى يد الوالي تعجب من تلك العناية العالية لهذا الرجل الذي لم يكن يعتني به ولا بحاجته من قبل وقضاها في الحال، وكان استغراب صاحب الحاجة إلى سرعة نهوها أكبر وأكبر — كان يجود مثل هذا الجود وحين هذا الإحسان وهو في حال ربما كانت أضيق عليه من حال سائله — وفي كثيرين من هؤلاء الكبراء والموظفين من سعى لهم المرحوم ولثم لأجلهم الأيدي حتى اتصلوا بهذه المراكز العالية. وأما مواساته للضعفاء خاصة، فنوادره فيها كثيرة فكان يساعد كل من قصده منهم بنفسه، جاءه رجل من عامة الناس يخبره بعزمه على زواج ابنته وكان جالسًا مع أحد رسلاه الكبراء ليتفق معه على ليلة معينة لعرس عندهم — فسأل الرجل عن ميعاد تزويج ابنته فقال له: إنها في ليلة كذا وكانت هي الليلة التي بدأ الاتفاق عليها مع الرسول فالتفت إليه وقال له لا يمكنني الآن إجابة الطلب ثم أرسل مع الرجل الضعيف من يهيئ له معدات الاحتفال وذهب في تلك الليلة المعينة إلى داره فغنى فيها إلى الصباح ووضع في يد الرجل عند انصرافه ٢٠ عشرين جنيهًا ليقضي بها حاجة العروسين. وأما بره بأهله ومن حوله فأمر مشهور وكان يدفع في كل شهر كثيرًا من المرتبات لعائلات المحتاجين ممن اشتغل معه من أهله فله وغيرهم — وقد وضع قاعدة يسير عليها تخته إلى اليوم: وهي انه إذا عجز أحدهم عن ممارسة صناعته أخرج له نصيبه الذي كان يأخذه في الشغل وهو مقيم في بيته ومنهم من أقام عاجزًا عشر سنوات — وبالجملة فقد أنفق المرحوم أكثر ما اكتسبه على وجوه الخيرات ولو كان ادخره عن الناس كما يدخر هؤلاء الأغنياء أموالهم، لكان قد ترك المائة أو المائتين ألف جنيهًا بعد موته. وكان كتومًا للسر طالما شهد الناس في مختلف طبقاتهم على ما لم يشاهدهم عليه؛ سواء في مجالس أنسهم ولهوهم فلم يسمع عنه أنه نقل بين الناس شيئًا مما سمع ورآه. وكان على ذلك عظيم التواضع يعامل كل إنسان مما تقتضيه ظواهر أمره. وقد جعل لنفسه بحسن سيرته وشرف أخلاقه جاهًا عظيمًا ومقامًا محترمًا في النفوس، فلم يدخل مجلسًا إلا وهو المقرب المعظم منهم — وكان واسع الخبرة في معاملة كل الطبقات يخاطب كل إنسان بما يألفه ويرتضيه وكان طلق الوجه طلق اللسان يصيب غرضه بحسن بيانه حتى لقد قيل عنه إنه لو كان سفيرًا لدولة من الدول لما تعقد عليه أمر في السياسية، وكان خفيف الروح لطيف المجالسة آخذًا من كل شيء بطرف يفهم كل ما يقال في المجالس سواء عليه في ذلك مجالس اللهو ومجالس الجد. وكان متوقد الذهن يكاد يبادر بغرضك قبل أن تشافهه به ويعينك على الفصاح بحكايتك بهيئة استماعه لك، وكان كثير الحذر في التعبير لشدة الاحتياط، وكان يضع في كلامه محلاً لقدح فكر المخاطب، وكان مع ذلك كله شديدًا في الحق لا يبالي بأرباب المناصب والمراتب إذا أغضبه منهم ما يخالف المروءة والفتوة وإن كانت أفعالهم لا تمس شخصه، بل كان يغضب للناس وله وقائع مشهورة مع بعض أرباب المناصب الحاضرة فضح فيها أخلاقهم في مواجهتهم وسط المجالس الكبيرة فخرجوا من أمامه بالذل والصغار. وقد مات المرحوم والناس إجماع على تفضيله والقلوب مرتبطة بمحبته، وكل الناس راضون عنه لا تسمع منهم إلا الثناء المحض والمدح الصريح؛ سواء في ذلك الخاصي والعامي والكبير والصغير والرفيع والوضيع. فما روضة غناء كأنها حسناء، قد افتن في تصويرها الجمال. وجعلها للناظرين كالمثال فالغصن قلدها. والورد خدها. والرمان نهدها. وعليل النسيم عهدها. والكريم شعرها. والأقاح ثغرها. انتبهت فيها غافية حمام فوق نمارق الأغصان والأكمام آخر الليل وقد عسعس. وأول الصبح وقد تنفس. فلما رفعت طرفها. وجدت بجانبها إلفها. بعد أن نأى عنها مكانًا، وفارقها زمانًا. فزال عنهما ألم الشوق. والتفّ الطوق بالطوق. وهتفا ينشدان فوق خرير الماء. قصيدة على روى الراء. أو دعاها ما أرادا من معاني العشاق. في وصف الوصل بعد الفراق. ومن حولهما بقية الأطيار. ترجع إنشادهما في ترجيع الأوتار. مهتزة على كل غصن مائس. كأنها القيان تزف العرائس. بأطرب من صوتك في الآذان. وألذ من ذكرك بين القلب واللسان. وما أخرى من سكان الأشجار. وذوات الأوكار غادرت أوكارها في وكرها. في ليلة موصوفة ببردها وصرّها تلتمس لهن شيئًا من القوت. وقد عز كالياقوت فوقعت من الأمطار في شبكة منعتها عن السعي والحركة. إلى أن غادرت العهاد. وأمكن لها الارتياد. فعثرت لهن على شيء من الحب. ودت لو زيد فيه حبة القلب. فراحت إليهن ولا الظافر بتاج المُلك. ولا الناجي مع نوح في الفلك. فوجدت السيل قد أتى على الشجرة فاقتلعها. وعلى الأفراخ فابتلعها وبينا هي بين تصعيد وتصويب. وحنين ونحيب؛ إذ انقض عليها صقر أنشب في طوقها أظفاره. وغمس في جوفها منقاره فاجتمعت عليه صنوف الآلام، آلام الأرواح وآلام الأجسام. بأوجع في قلوب رفقاك من يوم فراقك (مصباح الشرق). وقد قال حضرة محمد أفندي المصري هذا الموال: (تنبيه) اعلم أن جميع الأدوار منظومة على أصول (المصمودي) إلا ما نخصصه منها بأنه على غيره.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/18/
ترجمة (المرحوم محمد أفندي عثمان)
هو الملحن المصري المجيد والمتفنن المخترع الفريد — كان رحمه الله مؤلفًا بارعًا في ترتيب الألحان، بصيرًا بأخذ النغم من مواضعها، وجمعها على نسق مستحب كلفًا بصناعته، جادًا في إتقانها أراد أن يستعيض عن طلاوة الصوت بحسن الأسلوب ولطف السياق؛ ولهذا كان لا يغني منفردًا إلا على أجنحة الآلات فإذا لحن أغنية وأسمعها للناس لأول مرة خرجت متقنة الوضع رائقة للسمع، ولكن يبدو عليها أثر أعنات الفكر ويشتم منها ريح الشمع المذاب في السهر على تخريج أجزائها وتوجيه ضروبها والملاءمة بين رناتها ومعانيها — على أن هذا لا ينفي أن عثمان كان ضريب عبده، وأنه أثبت بنتيجة عمله أن لحسن التأليف مكانًا بجانب الابتكار وإن للاجتهاد منزلة قد تعادل منزلة الاختراع، بل وإن المجتهد قد يكون أفضل من المخترع بما يهيئه له من مواد الابتداع. وعلى الحقيقة فإن عثمان كان في أخريات عمره واضع معظم الألحان فيأخذها عبده عنه ويكسوها من الحلل والحلي ما تشاء بديهته الخاصة به — فبينا هي سوقة حسان؛ إذ هي ملكات بتيجان — وبينا هي أشخاص ترمقها عيون المعجبين؛ إذ هي أرواح تتنسمها قلوب المحبين. اشتغل صغيرًا في تخت محمد أفندي الرشيدي مع علي أفندي الرشيدي ابنه ثم افترق عنهما وصار رئيسًا على تخت المنسي وابتدأ اسمه يعلو من ذلك الوقت وكان مجدًا مجتهدًا في الفن تلقاه على أحسن الأساتذة في عصره كالشيخ (محمد الشلشلموني) و(الحاج رفاعي) و(حسن أفندي الجاهل) الكمنجاتي الشهير و(محمود أفندي الخضراوي) الذي كان مساعدًا لعثمان في التلحين رحمة الله عليهم أجمعين. وفي المدة التي شكل فيها تختًا بنفسه فقد حلاوة صوته — ولكنه لفرط ذكائه استعاض عنه باختراع طريقة مبتكرة، وهي الأخذ والرد في الغناء بأسلوب تألفه الأسماع وتستحبه النفوس وتبعه الجميع في ذلك للآن. وكثيرًا ما وقع الجدال واحتدم وطيسه بينه وبين آخرين على تطبيق قاعدة فنية فخرج بفوز القائد وقد افتتح مدينة عظيمة ولا يقل فرحه وجزله بهذا الفوز عن جزل الناس بألحانه الشجية — ومن صفاته أيضًا أنه كان بشوش الوجه شجاعًا مقدامًا لا يرهب المعارك التي تحدث أحيانًا في الأفراح المصرية — وشجاعته هذه مما أدت إلى وقوعه في كثير من المشاكل في أول عهده — وكثيرًا من الناس يفضلون صناعته على غيرها ويميلون إلى تقليد طريقته لسهولتها على أكثر الأصوات وخفتها على الأرواح. وقد كان — رحمه الله — مشهورًا في إرضاء الناس بحسن سياسته — له كثير من نوادر المروءة والكرم ما تشهد له بعلو الهمة ويعجز عن وصفها القلم — مات رحمه المنان وأنزل عليه شآبيب الغفران، وهو لم يبلغ الأربعين من العمر ولم يخلفه في شكل تلحين أدواره أحد — وقد مللنا من طول البحث والتنقيب على صورته الفوتوغرافية — وأجمع الكل على أنه لم يرسم نفسه أبدًا — ولما كنا لم نزل للآن في شك مما يقولون، فنرجو بلسان الإنسانية كل محب له أن يتحفنا بها إذا كانت عنده وهي خدمة جليلة يستحق فاعلها جزيل الشكر وعظيم الاحترام — وإذا أراد زيادة على ذلك مكافأة مالية، فنحن مستعدون أيضًا إلى ذلك بجملة المصاريف الباهظة والأتعاب الشاقة التي تحملناها في إيجاد الصور الأخرى.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/19/
الشيخ محمد عبد الرحيم الشهير — بالمسلوب
هو المنشد الشهير. والملحن المصري الكبير. راوية فن الموشحات القديمة العربية. وشيخ مشايخ منشدي الأذكار الصوفية. وهبه الله مزية الإتقان في إلقاء الموشحات والألحان، كما له الباع الطويل والذوق السليم في صياغة الأدوار العربية. على الطريقة الشجية المصرية. حفظه الله وأبقاه. وهذه عشرون دورًا انتخبناها من الأدوار القديمة وهي غاية في الطرب غير أننا بكل أسف لا ندري أسماء ملحنيها رحمهم الله. هؤلاء هم كبار المغنيين الملحنين الذين ازدهت وازدانت بهم مصر من أواسط القرن الماضي إلى آخره. أما المغنين الذين اشتهروا فقط بحسن الصوت وجودة أداء أدوار معاصريهم السابقين فهم حضرات: (محمد أفندي سالم) و(الشيخ يوسف المنيلاوي) والمرحوم (الشيخ محمد الشنتوري) و(الشيخ محمد الشبشيري) و(الشيخ خليل محرم) و(عبد الحي أفندي) — والمرحوم (أحمد أفندي حسنين) — و(أحمد أفندي فريد) — وسنكتب شيئًا عن البلبلين المتفردين الآن وهما حضرة (محمد أفندي سالم) و(الشيخ يوسف المنيلاوي).
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/20/
محمد أفندي سالم
هو المطرب الشهير شهي التغريد، والمبدع الكبير معبدي الأناشيد. ذو الصوت الشجي الجوهري، المتموج الجهوري، المخترع الناظم (محمد أفندي سالم). هو في درجة ومن طبقة المرحوم (عبده أفندي الحمولي) في الغناء، ومن نظرائه في إتقان الترتيب ووحدة الأداء. وقد اعترف له المرحوم فوق ذلك حيث قال: أحسن الأصوات في مصر صوتان: (سالم) في الرجال و(ألمز) في النساء. وقد علم الله أنه ما تكلم بغير الحق. وما نطق إلا بالصدق لأن صوت المترجم سليم رخيم أشهى إلى الآذان من رجوع العافية إلى جسم السقيم. وأصفى من ماء الغمام. وأضوأ من بدر التمام. إذا انكشفت عنه حجب الغمام في حندس الظلام. صوت إذا شدا به بين رجال حلبته كان لهم كعذر الذنوب. أو سله من صقاله كان كحسام صقيل يفرق به عن القلب صدأه ويفتح باب الفرح. أو بذور الحياة تنبت في القلب نور السرور بحسن ترجيع الأنغام. أو هزار مغرٍ يغرد فيغري الخلي بالوجد والغرام. فهو يمتاز عن غيره بصفائه وتهاديه في حلة من الحلاوة. وحلية مضيئة من الطلاوة. لو تجسم لكان حقه. أن يجمل الياقوت حقه. فما صوت الطيور على غصون الأشجار. ولا خرير ماء الغدران والأنهار. ولا البشرى رجع بها الرسول. بقرب بلوغ المحب غاية المحب — ولا صوت الحبيب يرن أذن المغرم الولهان. بعد طول الصد والهجران — بألذ وأطرب من صوت (سالم) وهو يشنف على عوده الأسماع بأطرب النقر، ويقرن معه غناء كالغنى بعد الفقر. *** ولكن لما كان أكثر العوام. كالأنعام. لا يفقهون للجمال الحقيقي معنى. ويدعون بأن المترجم قد كبر سنًا. وقد غاب عنهم بأن الشبان في مصر لا يمكنهم أن يأتوا بمثل ما يأتي به هذا المغني المجيد. من محاسن الإبداع وأحاسن الأناشيد. وإنه مهما كبر فصوته لا يزال في شبابه يستنزل به الأعصم من وكره ويسبي الليث في غابه — أما كفى على فضله دليلاً أنه يغني الأدوار بدون مساعد. ويأتي فيها بالطرف والفرائد. وتجده مع ذلك لا يتعالى. ولا يتكبر ولا يتعالى. بل يجاوب من يكرر الطلب عليه من السامعين بكلام ظريف كالوشي المنمق. والرحيق المروق، يسر المحزون. ويسهل الحزون. فيسكرون سكرين: سكر غنائه الرقيق، وسكر حديث العذب الأنيق. وعسى بتلك الشهادة الحقة التي لا أريد بها غير الخدمة العامة — أن يتنبه أصحاب الأعراس الكبيرة إلى هذا الفرد الباقي في تلك الأمة فيزينون أفراحهم بصوته المطرب. ويكملون أنسهم يتفننه المعجب. ولا يصغون إلى كلام الوشاة الذين في قلوبهم مرض. أو يكون لهم في الفساد غرض. عمه الله بالتأييد. وعمره العمر المديد. ولو كره المنافقون.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/21/
الشيخ يوسف المنيلاوي
هو البلبل الصياح. والمغني المبدع الصداح. نزهة النفس. وريحانة الأنس الطائر الصيت في رخامة الصوت بين جميع عشاق السماع والغناء. والحائز لرئاسة أكبر تخت في مصر عند دعوته لأعراس الوجهاء والكبراء. وفي أوائل هذا القرن أي بعد موت المرحومين عبده — وعثمان — وسكوت الأستاذ (المسلوب) عن التلحين ظهر في عالم تلحين الأدوار اثنان: هما حضرة (إبراهيم أفندي القباني) و(داود أفندي حسني)، أما الأول فإنه كان قديمًا لا يكتفي بما يأخذه عن الملحنين السابقين من الأدوار، بل كان مجدًا مجتهدًا لحن في زمانهم أدوارًا غناها في تخته وأعجب بها الناس، وغير بعض الأدوار التي للمرحوم (محمد أفندي عثمان) ووضعها على نغمات أخرى مع فضل عثمان ومركزه السامي الذي لا ينكره أحد — كمذهب القلب سلم — النوا راست — فقد لحنه (صبا) وقدك أمير الأغصان البياتي — فقد لحنه (بوسليك) — و — قل لي رأيت آية — البياتي — (راستا)، و أنا يا بدر — الراست — (حجازكارا). وقد ظهرت الآن نتيجة جدة في تلاحينه المشهورة التي سنذكر المختار منها — كذا فقد لحن جميع أدوار حضرة (داود أفندي حسني) أما من نفس مقاماتها بأسلوب آخر — أو من مقامات أخرى، وهذا ما يدل دلالة صريحة على اجتهاده وميله الغريزي إلى الوصول إلى درجة كبار الملحنين أبقاه الله وأمثاله لهذه الأمة اليتيمة سندًا وعضدًا. وأما الثاني — فإنه لحن ما ينوف عن العشرة أدوار فآثرنا وضعها جميعها تنشيطًا له؛ ولأنه لا يمكننا الاختيار لقلتها الآن جعله الله قدوة حسنة تقتدي بآدابه، وحسن أخلاقه أكثرُ المغنين — الذين يتكبرون بلا جاه ويغنون بلا علم.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/22/
المختار من ألحان إبراهيم أفندي القباني
null
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.
https://www.hindawi.org/books/46319638/
كِتاب المُوسيقى الشرقي
محمد كامل الخلعي
تعلم محمد كامل الخلعي الكثير حول علم النغم والتصوير والأوزان، وعزم على تدوين هذه الخبرة الفنية في هذا الكتاب الذي ضمنه الكثير من ألحانه وألحان أساتذته. وقد أضاف في كتابه هذا صورًا لمشاهير عصره، واختار البديع من ألحانهم وموسيقاهم.
https://www.hindawi.org/books/46319638/23/
أدوار داوود أفندي حسني
وقد كنت كتبت شيئًا عن (الموسيقى ومؤلفاتها في مصر) فآثرت أن أضعه هنا لتعلقه بما تقدم من الكلام. لا خلاف بين أهل الأدب والظرف. والكياسة واللطف. إن بلادنا الشرقية في احتياج عظيم إلى رقيها في الصناعة الموسيقية. ولا يحصل هذا الرقي إلا بنشر النافع من المؤلفات. وإنشاء مدرسة تتكفل الحكومة أو الأغنياء بما يلزم لها من النفقات. بيد أن نشر الكتب المفيدة من السهل الآن. ووجود المدرسة كذلك في الإمكان. متى جاد الموسرون لها بالأصفر الرنان. وما حدا بنا إلى هذا القول إلا كثرة المجموعات القليلة الفائدة. العديمة العائدة. التي شغلت المطابع وملأت المكاتب. حتى مجتها الأدق وعاقتها الرغائب. على إن كل من جمع بعض الأدوار والموشحات. والمبتذل من القصائد والمواليا والمقطعات. مع القصور في التعبير. وعدم الإجادة في التحبير. نسبة إلى هذا الفن الكثير الأدعياء. وعد نفسه من المؤلفين النجباء، حتى تشاكل على الناس العالم والجاهل. واختلط الحابل بالنابل. ولعمرك لا يرضى بهذا الغبن الفاحش إلا من حمل ظلماء أو يتعامى فيجترح في عدم إظهاره للحق إثمًا. وليس — وايم الله — فيما أدعيه من ذلك ليس. كيف وهو ما تجزى به نفس عن نفس. فإن شككت فيه فما عليك إلا أن تتحققه بنفسك. وتختبره عند الفراغ من عملك. فيتضح لك الصدق من المَيْن. ويظهر الصبح لكل ذي عينين. ولنضرب لك على ذلك مثلاً بمجموع طبعه صاحبه في هذا الباب. وزعم أنه أمثل كتاب، ملأه بأنواع الأغاليط والخلل. والأضاحيك والخطل. سالكًا مسلك سابقيه من جهلاء هذا الفن الذين اندفعوا في طريق التأليف على التخريف. تحت ستار التصنيف، فضرب معهم في الركاكة بسهمين وذهب مذهبهم ثم عاد بخفي حنين. وخيل لها جهلا أن مؤلفه يشتمل على الآيات والسور. بوضعه فيه بعض الصور. فجاء كتابه هذا دليلاً على غباوته وفهاهته. دون فصاحته، وأقرب برهان على ما نقول: إنه غير وبدل في النقول. ففهم وأفهم الحقائق بغير معناها. وأراد أن يؤديها فأزراها. وأغرب في ادعائها، فكان من ألد أعدائها. وترك الناس تارة يضحكون. وأخرى يتأففون ويسخرون، من أوضاعه المختلة الأوضاع. المرصوفة على طريقة تقذي الأعين، وتنبو عنها الأسماع. حيث ترك الجوهر وتمسك بالعرض، فكان أشبه بالهواء الفاسد كله مرض. يزيد علة العليل. وليس في كتابه من ضروب الفن إلا الثقيل. وكيف لا يضحكون إذا رأوا رسمًا حجازيًّا، وتحته أدوار الحمولي. والقباني وبجانبه ما لمحمد عثمان من الألحان. إلى غير ذلك من الخلط في الترتيب. والخبط في التبويب. ولم يكتفِ حضرة المؤلف الكبير. والمغني المصري الشهير. بما ارتكبه في كتابه الأول من آثام الغلط. وأوزار الشطط. حتى دفعه الغرور مرة أخرى إلى طرق هذا الباب. بما يبعد عن طريق الصواب. وسوّلت له نفسه فثناه بكتاب آخر وضع فيه صور الراقصات. ذاكرًا الأدوار السافلة التي يغني عادة بها في مثل تلك المجتمعات. واضعًا كلاً منهن حسبما يعهده في رباتها من الترتيب في قوة الرقص ودرجة الجمال. وإجادة الخلاعة في سلب عقول الرجال. فدون كل ذلك بيده الأثيمة. وارتكب أقبح جريمة. بما أدى إلى سخط أهل الصناعة من ذلك الصنيع. وتغيظ ذوي المجد الأثيل والشرف الرفيع. فحارب بذلك الفضيلة. لينصر الرذيلة. كأنه لم يقنع بما حلق في بلادنا من الفساد فحام حولها ليزيد ضرر العباد. وأقسم أن يجهز على البقية الباقية من الحياء والآداب، ويقطع بينها وبين طالبيها الأسباب. فأدى بذلك وظيفة الشيطان. في إفساد البنات والشبان. ومن يؤذي إخوانه. ويرضي شيطانه. فقد لؤم في القول والعمل. وخاب فيه الرجاء والأمل. أليس من المضحك المبكي إن ما يُرى ويسمع ليلاً في حاله السكر واللهو. يقرأ وينظر نهارًا في حالة العقل والصحو. فمثل هذا الكويتب الحقير، أجدر بالتفات الحكومة ورجال الأمن من كتاب المسامير، وحق لهم رد جماح هؤلاء الصبية الأغمار، الذين يبيعون على الناس مفاتيح الفساد السائق إلى وليه جيوش الدمار؛ ليرتدع من ينسج على منوالهم ويزدجر، ويجد العبرة في غيره فيعتبر، وعلى الأمة أن لا تتلقاه إلا بالتمزيق. وذره في عيني صاحبه بعد الحريق. فالامتناع عن مطالعته نعمة جزيلة. وعدم النظر إلى أولئك النسوة من الفضيلة. اللهم ألهمنا جميعًا لما فيه الصواب. ولا تزغ قلوبنا إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا. محمد كامل الخلعي: أحد أبرز أعلام الموسيقى في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، كان له أثر كبير في تطور الموسيقى العربية، حيث درس الموسيقى في إطار مقارن فاهتم بمعرفة أثر الموسيقى التركية في الموسيقى العربية، كما اهتم بدراسة فن الأوبريت الإيطالي والموسيقى الفرنسية. ولد في الإسكندرية عام ١٨٨٠م، وانتقل في بداية حياته مع أبيه إلى القاهرة، وهناك عمل بشارع محمد علي في كتابة اليُفط، مما فرض عليه التعامل مع الكثير من أعلام الموسيقى الذين كانوا يتوافدون بكثرة على المكان آنذاك، أظهر الخلعي ولعًا بالموسيقى منذ صغره، فأخذ الأوزان على الشيخ علي الموصلي، والفنان أحمد أبو خليل القباني، وتتلمذ على يد أستاذه سلامة حجازي، وعرف عنه التلحين المسرحي، كما حفظ الموشحات القديمة والحديثة. سافر الخلعي أقطارًا عدة كسوريا وتركيا والعراق، واستطاع من خلال أسفاره أن يجمع قدر الإمكان ما وجده جديدًا في عالم الموسيقى، وقد دوَّن الخلعي ما سمعه في تلك البلدان من ألحان وأغانٍ مختلفة في مجلدات نفيسة، حيث كتب ثلاثة كتب تعتبر من أعظم الكتب التي ظهرت في مصر في علم الموسيقى أوائل القرن العشرين وهي: «نيل الأماني في ضروب الأغاني»، و«الأغاني العصرية»، و«كتاب الموسيقى الشرقي». لحن الخلعي ما يزيد علي الأربعمائة من الموشحات والروايات التاريخية، كما لحن لفرقة منيرة المهدية، ولحن أيضًا لفرقة جورج أبيض، وقد توفي الخلعي عام ١٩٣٨م بعد إصابته بمرض الشلل، تاركًا وراءه تراثًا موسيقيًّا بديعًا.